نستذكر واقعة (النهروان) في 9 صفر.. جباه سود فاقدة للإيمان ولّدت (الخوارج) للأجيال

437

19

*ضياء العيداني

في التاسع من شهر صفر من كل عام تمر علينا ذكرى معركة (النهروان) التي خاضها الإمام علي (عليه السلام) ضد فئة الخوارج الذين مرقوا على الدين القويم المتمثل في شخصه الكريم، وقد جرت المعركة سنة 37 هـ وقيل سنة 38 هـ، والنهروان، هي منطقة تقع بين بغداد وحلوان.

هذا المروق والانحراف أخذ طابعاً خاصاً وفريداً لاسيما وأنه الحالة الأولى من نوعها في تاريخ الاسلام، حيث جسدت المشكلة الثقافية والفكرية لأول مرة لدى المسلمين، وأخذت أطراً تنظيمية وسياقات عسكرية، أسست لتوجه يصطبغ بلون الدين، لكنه يسير في الطريق نحو الهاوية التي سنلاحظها من خلال قراءتنا السريعة لهذه الظاهرة واستذكار تاريخ المعركة التي كلفت المسلمين كثيراً من الدماء والأخطر منه حصول نوع من المرض الروحي المزمن الذي لازم الأجيال، ولعلنا نشهد أعقاب أصحاب النهروان في الوقت الحاضر وإلى أمد غير معلوم.

بدأت قصة الخوارج مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، عندما تفاجأ عدد من أصحاب الإمام بشيء أشبه بالمصاحف مرفوعة على أسنة الرماح، وسمعوا نداءً يقول ما مفاده: (لنحتكم الى كتاب الله)! هم سمعوا النداء، لكنهم جهلوا مصدره الذي يعود إلى عمرو بن العاص، الذي أنقذ صاحبه معاوية من اندحار محتوم بعد أن أعيته الحيل وشارف على الهزيمة أمام جيش الإمام علي، فما كان من هؤلاء الذين كانوا يسمون بـ(أصحاب الجباه السود) لكثرة صلاتهم وعبادتهم، إلا أن طالبوا الإمام بوقف القتال والنزول عند رغبة أصحاب معاوية، إذ (لا يصح قتال قومٍ يرفعون القرآن) كما يقولون؛ علماً أن مصادر تاريخية أكدت أن معاوية لم يكن معه ذلك العدد من المصاحف الشريفة ليرفعها على أسنة الرماح، فكانت من ضمن الخديعة، رفع عدد من خراج الدواب لتبدو من بعيد وكأنها مصحف مكون من دفتين!

في كل الأحوال ما توصل اليه هؤلاء من رؤية إزاء الفخ الذي نصبه لهم ابن العاص، كان الأول والأخير لهم، ولم يكن ثمة مجال للتأني والتدبر في الأمر، ولم تجد معهم نصائح الإمام (عليه السلام) والحجج البالغة لإنقاذهم من شفير الهاوية، حيث قال: (أنا القرآن الناطق، وهذا قرآن صامت)، كما ذكرهم بإشادات النبي الأكرم بحقه وعلاقته الوطيدة بالقرآن الكريم، الذين أنكروا التحكيم الذي وقع بعد معركة صفيّن وقالوا: لا حكم إلاّ لله، مع العلم أنهم هم الذين أصّروا على التحكيم بادئ الأمر مع أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لهم إنها حيلة، فلم يقبلوا وأجبروه على التحكيم، ثم أنكروه، وخرجوا على الإمام علي (عليه السلام) وسمّوا بالخوارج، وجرت مشادات كلامية يذكرها المؤرخون، وفي نهاية المطاف أجبر الإمام علي (عليه السلام)، على قبول التحكيم، علماً أنه على بعد خطوات من خيمة معاوية ليحسم الحرب لصالحه وصالح الإسلام، لكن مكر ابن العاص وجهل بعض المسلمين أنقذ ابن أبي سفيان من موت محقق واندثار كامل، حتى ليروى أن مالك بن الأشتر، ذلك المغوار الصنديد، كان في مقدمة خط النار، وكان قاب قوسين أو أدنى من خيمة معاوية يحصد الرؤوس ويبدد الجمع، فأتاه النداء من الخلف أن: إمامك يقول لك إرجع! فصاح مذعوراً: كيف وإني على مقربة من تحقيق النصر، فجاء التأكيد ثانية من الإمام بنسيان كل شيء والانسحاب ، وكان ذلك بضغط وتهديد من (أصحاب الجباه السود)، كما يذكر التاريخ.

لكن هل انتهت الفتنة عند هذا الحد؟

اكتشف (أصحاب الجباه السود) حقيقة نوايا معاوية وصاحبه ابن العاص، بعد مهزلة التحكيم، وكيف تم استغفال أبي موسى الأشعري الذي خلع أمير المؤمنين من خلافة المسلمين بكل سهولة وغباء، فيما ثبت ابن العاص صاحبه ليكون معاوية هو (الخليفة)! فثارت ثائرة هؤلاء، فجاءوا إلى الإمام فوراً وطلبوا منه نقض الاتفاق وهو ما رفضه الإمام بشدة، لأسباب أهمها وأبرزها الإرادة التي صدرت منهم للتحكيم، فكيف ينقض الإمام أمراً جاء إليه طوعاً إلى الطرف المقابل؟ هنا امتشق القوم (أصحاب الجباه ا لسود) سيوفهم بوجه الإمام ، ورفعوا شعار (لا حكم إلا لله)! فهم لم يجدوا أو تصل مداركهم وبصائرهم إلى أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، هو الإمام الحق والصراط المستقيم.

هذا المنهج والرؤية جعلتهم يبيحون لأنفسهم قتل أي شخص يجدونه لا يتوافق مع رؤاهم، بل ويكفرونه بكل سهولة، وعسكروا في منطقة (النهروان)، وقد تعاظم خطرهم بعد انضمام أعداد جديدة لمعسكرهم، وراحوا يعلنون القول بشرك المنتمين إلى معسكر الإمام (عليه السلام)، فضلاً عن الإمام (عليه السلام) ورأوا استباحة دمهم.

كان أمير المؤمنين (عليه السلام) عازماً على عدم التعرّض لهم ابتداء ليمنحهم فرصة التفكير ملياً بما أقدموا عليه عسى أن يعودوا إلى الرأي السديد، غير أنّهم بدأوا يشكلوّن خطراً حقيقياً على الإسلام ، وبدأ خطرهم يتعاظم فقتلوا بعض الأبرياء، وهددوا الآمنين، فلما بلغ أمرهم أمير المؤمنين (عليه السلام) أرسل إليهم عدداً من أصحابه تباعاً ليحاوروهم ويعيدوهم إلى جادة الصواب، غير أن ذلك لم يجدِ نفعاً، بل على العكس فإنهم قتلوا بعض أولئك الصحابة المرسلين اليهم!

بعد ذلك بدأ جماعة من الخوارج بالهجوم على جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) فأمر أصحابه بالكف عنهم حتى يبدأوا القتال، فلما بدأ الخوارج القتال طوقتهم قوات الإمام وتحقق الظفر لراية الحق بعد حرب ضروس، وهكذا قضى أمير المؤمنين (عليه السلام)في حرب النهروان على الذين سبق لرسول الله (ص) أن سمّاهم بالمارقين وحذّر منهم.

*أسباب الانحراف*

واذا ما وضعنا الخوارج على بساط البحث، نجدهم يمثلون ظاهرة تتكرر في كل عصر لمجاميع لا يدخلون الدين عن علم ومعرفة بالله وخلفائه في الارض، وإنما بإيمان سطحي ناتج عن جهل بالله ورسله وأئمته ومن ثم عدم التسليم لهم وعدم التصديق والوفاء التي تعد أهم شروط كمال الإيمان الذي سار عليه الأولياء والمخلصون لذا ورد في زيارة أئمة الهدى (عليهم السلام) (أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل…) أما الخوارج ومن سار على نهجهم فإنهم حكموا أهواءهم وجهلهم وتركوا التسليم مع أنه أساس الإيمان، قال تعالى ” فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً”

ولم تنته هذه الظاهرة بعد استشهاد أمير المؤمنين، فقد أبتلي الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) بهؤلاء، عندما ظهرت مجموعة لم تُسلم لأمره (عليه السلام) في الهدنة التي أجبر عليها – كما حصل لأبيه من قبل- مع معاوية، مع ان الإمام هو أعرف وأعلم منهم وهو خليفة الله ولكنهم حكّموا أهواءهم وجهلهم فعارضوا الإمام بعد أن كانوا اتباعاً له.

*الصفات*

إذا أردنا أن نستعرض صفات وحالاتهم الخوارج وفق النصوص التاريخية، سنجد أن منها؛ ألسنتهم الذليقة بالقرآن الكريم، وأنهم يحسنون القول ويسيئون الفعل وأنهم يسألون كتاب الله وهم أعداؤه ويدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء وأن جباههم سود من كثرة العبادة وأن شعارهم هو: لا حكم إلا لله إلى غير ذلك مما يجده المتتبع لسيرتهم وأحوالهم وهناك صفات اخرى تميزوا بها هم ومن كان على نهجهم والتي منها:

1-إلغاء حرية الرأي.. حينما كانوا يقتلون من يخالفهم في الرأي، بعد أن يكفروه، إنما كانوا يسعون لفرض آرائهم على الناس بالقوة. وكان هذا النهج هو السبب في انقساماتهم السريعة، وتمزقهم المستمر، وتفرق كلمتهم باطراد، واللافت أيضاً: أننا نجد منهم إصراراً لا مبرر له على آرائهم ومعتقداتهم الباطلة حتى بعد ظهور زيفها، ولا يثنيهم ظهور بطلانها عن محاولة فرضها على الناس بالقوة، كما يظهر لمن قرأ تاريخهم، وأصبح الناس معهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يؤمنوا بالباطل ويتخذوه ديناً، وإما أن يواجهوا الموت والهلاك بأبشع صوره، وأشدها هولاً، وهذا ما جعل الناس يدركون خطرهم بسرعة، فنفر العقلاء منهم، وجعلهم يندفعون إلى العمل على صيانة حرية العقيدة، ودفع شرهم عن الناس الأبرياء، وإفساح المجال أمام دعوة الخوارج، إنما يعني القبول بسقوط النظام الاجتماعي العام، وجعل كل شيء في خطر دائم ومستمر. وهذا مما لا مجال لقبوله، ولا طريق للسكوت عنه.

2-العناد واللجاج.. لقد تحدثت النصوص التاريخية عن احتجاجات كثيرة جرت بين الخوارج وبين الإمام علي (عليه السلام) وأصحابه قبل اشتباك السيوف والرماح، ولربما ذكروا: أن هذه الاحتجاجات قد استمرت عدة أشهر، ولا شك في أن هذه الظاهرة كانت من القوة والظهور بحيث لم تغب عن ذاكرة أي مؤلف أورد روايات خروجهم على الإمام (عليه السلام)، وكان منهم البراء بن عازب رسول أمير المؤمنين (عليه السلام) إليهم، وقد بقي يدعوهم ثلاثة أيام.

*بين الواقع والشعار*

وإذا راجعنا الأحاديث الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصف الخوارج، وبيان علاماتهم وصفاتهم، فإنها تفيدنا: أن على الإنسان المؤمن والواعي أن لا ينخدع بالمظاهر، وان لا يعدها الميزان والمعيار في الحق والباطل، وفي الصلاح والفساد، وأن عليه أن لا ينساق وراء الشعارات البراقة. ما لم يتأكد من محتوى الشعار وخلفياته، أي أن عليه أن يرصد حركة الواقع بدقة ووعي ليتعرف على دوافع إطلاق الشعار، وعلى العوامل التي أفرزت تلك المظاهر.

وقد كان أصحاب الطموحات، وطلاب اللبانات وما زالوا، يحاولون الاستفادة من شعارات مغرية، وأساليب ذات طابع إنساني أو ديني في سبيل الوصول إلى مآربهم ، وتحقيق أهداف لا تنسجم ولا تتلاءم معهم، إن لم تكن أقرب إلى الانحراف والخيانة واللصوصية منها إلى الإنسانية والشرف والدين.

 *الامتداد*

بعد الاطلاع على اسباب ظهور الخوارج، والظروف والملابسات التي أدت الى انحرافهم، يمكننا اليوم ملاحظة امتدادات هؤلاء من الذين يسيرون ضمن المناخات الأموية المريضة، وبعد الاطلاع على صفاتهم يمكن التعرف على خوارج هذا العصر الذين يحسبون أنفسهم على الدين وتركوا التسليم للائمة المعصومين (عليه السلام) وخرجوا عن طاعتهم بل وصل بهم الأمر ان يحاربوهم وهم في مراقدهم ويكفرون من اتبعهم من الشيعة، بهدف فرض آرائهم بالقوة والعنف، وخنق حرية الرأي مع انهم يتكلمون باسم الدين ويفعلون فعل الكافرين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*