الإمام عَليّ .. ثَوّرَةٌ تَتَجَلّى للأَجْيَال

369
علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار
علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار

محمد جواد سنبه ..

لا شك أن شخصية الإمام علي عليه السلام تعتبر مرتكزاً أساسياً في التاريخ الجهادي للرسالة الإسلامية المباركة. وهذه الشخصية المباركة احتوت على جميع الكمالات الإنسانية من فضائل كالإباء والكرم والأخلاق الرفيعة والشجاعة والصلابة والإيمان والحكمة والزهد وغيرها من الخصال السامية. لذا أصبحت شخصية الإمام (ع) شخصية مبهرة للعقول وساحرة للألباب، إضافة لكونها شخصية صالحة تماماً، لأنْ تكون مثالاً يقتدى به على مرّ الأجيال ومسار التاريخ، بالرغم من اختلاف الظروف وتباين المتغيرات. (سُئل عنه الخليل بن أحمد فقال: (ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حسداً ، وأخفاها محبوه خوفاً ، وظهر من بين ذين وذين ما ملأ الخافقين). وستبقى هذه الشخصية الرسالية الفريدة محطّ دراسة الباحثين والدارسين لاستنباط الدروس والتجارب والعبر المفيدة لحياة الانسان، الراغب في استسقاء الدروس الناضجة لتطوير حياته على ضوء مبادئ الإسلام الصحيحة.

إنّ لقضيتي الحق والعدل مساحة مركزية في فكر الإمام علي (ع) وممارسته كإنسان مؤمن واعٍ، وكداعية صالح، وكحاكم مسؤول. فالرسول الأكرم (ص) يخبر الناس بقوله: (علي مع الحق و الحق مع علي يدور حيثما دار). في ثنايا التاريخ ثمة مواقف تحكي لنا عظمة علي(ع)، لقد حاول أبو سفيان أن يغري علياً (ع) من خلال عرض السلطة عليه، وإغرائه بالاستحواذ عليها بالقوّة. ولأنّ الموضوع عند الإمام أكبر من سلطة ومركز دنيوي، فقيادة المجتمع مسؤولية شرعية، والسلطة أداة حكم لتقويم وتطوير المجتمع نحو الأفضل، فقال أبو سفيان للإمام (ع): (أ ما و الله لئن شئت لأملأنها على أبي فصيل (كنية لابي بكر) خيلًا و رجلًا فقال علي (ع): (طالما غششت الإسلام وأهله فما ضررتهم شيئًا لا حاجة لنا إلى خيلك ورجلك). لم يجامل الإمام على حساب الحق ومصلحة الإسلام والأمّة، وعلى أساس هذه المواقف الرسالية الصلبة أصبح للإمام (ع) شريحة من الناس ناصبوه العداء لتضرر مصالحهم الخاصة.

إن المشروع السياسي لأمير المؤمنين(ع) ليس مشروعاً سلطوياً، وإنما مشروعاً إصلاحياً في كل مجالات الحياة، وقد أعلن الإمام (ع) عن أهداف مشروعه علناً، وأنه عازم على تحقيقه. فالهدف عند علي بن أبي طالب إنصاف المستضعفين والمحرومين، الذين انهكتهم التفاوتات الطبقية وسلبت حقوقهم المحسوبية والمنسوبية، وفساد المتسلطين على رقاب الناس، وتفشي مظاهر الفساد والتبذير في المال العام، فأعلن (ع):

(اَللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ اَلَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَ لاَ اِلْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ اَلْحُطَامِ وَ لَكِنْ لِنَرِدَ اَلْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَ نُظْهِرَ اَلْإِصْلاَحَ فِي بِلاَدِكَ فَيَأْمَنَ اَلْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَ تُقَامَ اَلْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ). لقد أدرك الإمام علي (ع) أن مشروعه الاصلاحي، لا يمكن أن يتحقق بشموليته ومشروعيته، مالم يقض على التفاوتات الطبقية بين شرائح المجتمع الاسلامي. فهناك الطبقات المرفهة على حساب قوت الجياع والمحرمين من الناس.

يعرف تماماً الداء القاتل للمجتمع، فهو الذي شخّص بدقة ان السبب وراء تدهور اوضاع المجتمع هو الفقر فخاطب (ع) الناس كما جاء في خطبته المشهورة بالفاتحة العلوية، بالشعارات الثورية التغييرية الناضجة. لقد كانت خطة أمير المؤمنين في محاربة الفساد المالي، ليست شعارات من اجل خداع الناس كما هو شأن طلاب الدنيا، وإنّما كانت ثورة إصلاحية هادرة تردف القول بالفعل، وكان من هذه الشعارات:

  • {أوَ أقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم (يعني الناس) مكاره الدهر}.

  • {امنع من الاحتكار. إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة (سوية)}.

  • (ألا و إني أقاتل رجلين: رجلاً ادّعى ما ليس له، و آخر منع الذي عليه).

  • (ما جاع فقير إلا بما متّع به غنيّ).

  • (ما رأيت نعمة موفورة إلّا و إلى جانبها حقّ مضيّع).

  • (و إنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها).

كما أنّ دولة أمير المؤمنين(ع) أولت عناية خاصة بعملية الإعمار، لأنّ في عملية البناء نماء لمدخولات المحرومين، وتوفير فرص عمل للضعفاء من الناس، وان عملية الاعمار يجب ان تعمّ كل البلاد الاسلامية، وأنْ لا تقتصر على مصر دون آخر، فقال(ع) موصياً عماله: (و ليكن نظرك في عمارة الأرض، أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، ليس بلد أحق بك من بلد).

لذا كان إصلاح الجانب الاقتصادي في عموم الدولة الاسلامية، من اولويات المشروع السياسي الذي تبناه الإمام(ع)، والذي كان السبب في محنة اغتياله. فقد ظل الإمام (ع) يتابع المفسدين وسراق قوت الجياع ويحاسبهم عما اكتسبوه من مال وثروات، بعريكة لا تلين وشدّة بعدل، حتى اقسم بأنّه سيتابع أصل رأس المال المأخوذ من المال العام ويردّه الى اصحابه فقال(ع):

(وَ اَللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ(اي المال) قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ اَلنِّسَاءُ وَ مُلِكَ [تَمَلَّكَ] بِهِ اَلْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ، فَإِنَّ فِي اَلْعَدْلِ سَعَةً وَ مَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ اَلْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ). وعملياً فقد انبرت شريحة المتضررين من حكم علي (ع) تخطط لاسقاط حكومته، منذ اول يوم استلم فيه الخلافة وأعلن (ع) معالم مشروعه السياسي وبرنامجه الحكومي، دون مواربة او مجاملة حيث كاشف المبايعين له بكل صراحة قائلا: (أَمَا وَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ لَوْ لاَ حُضُورُ اَلْحَاضِرِ وَ قِيَامُ اَلْحُجَّةِ بِوُجُودِ اَلنَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اَللَّهُ عَلَى اَلْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ(شبع الظالم) وَ لاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ (جوع المظلوم) لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ).

فالإمام علي (ع) يعلن على رؤوس الاشهاد انه غير مستعد اطلاقاً عن الحيود قيد شعرة عن قيم الحقّ والعدل، فواجبه الرسالي يقتضي اقامة الحق بين الناس، فالمجتمع الاسلامي عانى من انقسامات شديدة وظهور طبقات برجوازية على مدى سنين طويلة من التغاضي والمجاملة، وتفضيل ذوي القربى على غيرهم من سواد الناس، حتى ان البؤس والحرمان والفقر اصبح مظهراً واضحاً في المجتمع الاسلامي.

(واَللَّهِ لوْ أُعْطِيتُ اَلْأَقَالِيمَ اَلسَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اَللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ وَ إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيٍّ وَ لِنَعِيمٍ يَفْنَى وَ لَذَّةٍ لاَ تَبْقَى)…. (واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبتُ بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب). أي لا مساومة على مبدأ مقابل رضا او غضب جهة او شخص، فالقضية في نظر الإمام(ع) قضية تطبيق مبدأ رسالي لا يمكن الحيود عنه فمن يريد ان يبايع على هذا الاساس فله ذلك، ومن لم يبايع فله ذلك أيضاً.

هكذا طبّق الإمام علي(ع) نظريته في الحكم معتمداً على صواب المبدأ، والتفاف الجماهير حوله، وطبّق تجربته الرائدة ليعطي للعالم نموذجاً إنسانياً حيّاً يعلّم عشاق الحقّ والعدل والحرية، دروس الإباء والفداء، من أجل رسالة آمن بها وذهب من أجلها شهيداً، فلم يخسر ابو الحسن(ع) لكن خسرته الإنسانية جمعاء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*