التحولات البنيوية في المجتمع العراقي بعد 2003 .. مقاربة أولية تشخيصية

432
19-8-2014-12-d
د. محمد سعيد الأمجد

     مر المجتمع العراقي بعد 2003 بمرحلة من التحولات الكبيرة هي الأقسى منذ أن تشكلت دولة العراق عام (1921) ، بسبب ما خلفته من ردود الفعل الاجتماعية حينما تم اختبار إدخال المكونات العراقية في نوع من القبول بالاخر ، لكن هذا المستوى من العيش المشترك لم يرق إلى التعاقد الاجتماعي الذي يحقق نقلة نوعية في العلاقات الاجتماعية لا بسبب التعددية التكوينية في الوسط العراقي بل بسبب كوابح وموجهات سياسية مختلفة.

وعلى الصعيد الاجتماعي فقد لا نجانب الصواب كثيرًا حينما نذهب أو يذهب أي باحث آخر إلى أنه حتى المتغيرات السياسية غدت خاضعة لظروف وعوامل أخرى أغلبها اقتصادية- اجتماعية، فالتعامل مع أية ظاهرة عبر زاوية واحدة هي الزاوية السياسية ينطوي على تبسيط مبالغ فيه جدا نظرا لما يجري من تفاعلات وتناقضات وتصادمات فوق سطح المجتمع- أي مجتمع- وتشكل ملامحه المتغيرة.

شهد العراق منذ العام (1921) الكثير من الانقلابات وإسقاط أنظمة وحكومات،لكن تغييراً سياسياً كبيراً حصل بعد التغيير السياسي عام  2003 ، كما رافق ذلك حصول تخلخل وتشظٍّ في بنية المجتمع العراقي.

إن هذا الموضوع على اشد ما يكون من التعقيد والتشابك ليس بسبب تعقيدات البنية الاجتماعية العراقية بحد ذاتها حسب، بل لأسباب متعددة منها أننا نتحدث عن أقدم المجتمعات في العالم وعن مجتمع لا يقتصر على عمقه الزمني، بل على مركزيته الجغرافية في كل من العالم القديم وعالم اليوم أيضا.. أما البعد الآخر، فان مجتمع العراق مزيج من بقايا ثقافات وحضارات متنوعة وعديدة، فضلا عن كونه فسيفساء من السلوكيات التي افرزت هذا (التنوع) في الالوان وهذا التعدد في الأطياف. وبدءًا لا بد من القول إن هنالك جملة من العوامل التكوينية التي شكلت هذه التعددية في المجتمع العراقي خلقتها العديد من التبدلات في الأقوام التي وفدت أو عبرت أو حاربت أو هاجرت إلى ارض ما بين النهرين والتي اختارت العراق سكنا لها بالإضافة إلى غلبة العشائرية التي تتنقل بين العراق والدول المحيطة به ثم تحولت هذه العشائر من البدوية إلى النهرية، فامتهن العديد منها الزراعة في الوقت الذي استمرت فيها هجرة قبائل يدوية من الصحراوات المجاورة في الجنوب والوسط والشرق.

كما أن هنالك قوى رئيسية فاعلة في تشكيل هذه المراحل الأربع هي : الحكومة ، والشعب العراقي عموما والحوزة العلمية ،والنخب العراقية المختلفة.  ولكل رؤيته وآلياته للتعامل مع المجتمع.

بقى المجتمع العراقي منقسما إلى ريف وحضر لرفد الزراعة وبناء الدخل الوطني، ثم توسع السوق وتم انفتاح السوق العالمية على السوق العراقية، وبدأ الثراء يدخل ميزانية الدول الملكية، فتوسع الإنفاق الحكومي وتركز ذلك في المدن وبغداد بالذات لوجود الدولة ودوائرها فيها كما انها ضمت الملاكات المثقفة والمدربة الأقدر على أن ما وصلها من واردات النفط إلى إنجازات بلغت أوج تفوقها في تأسيس مجامع الإعمار في الخميسينيات من القرن الماضي.

ولقد كان للتجنيد رغم أن الغرض منه الولاء للدولة بعلمها ورموزها إلا انه لعب دورًا في تمكين العديد من مجنديه -وهم ريفيون- بناء سلوكيات انضباطية مما حوله إلى شبه مدرسة للتدريب على الحياة المقبلة في الأوساط الحضرية-المدن.

والخطأ الذي وقعت فيه الوسطى العراقية مع كل ما أحدثته في هز الركود العراقي الذي وصل إلى حد التسليم وتوقع المكروه إذ أخذت الوسطى العراقية تبشر بان الفقر ليس قدرا وان المرض ليس ابتلاء وان الاحتلال ليس عقابا وفاقا على البطر والقناعة وعدم الألفاظ عن هم أكثر سوءًا منا، فان الوسطى العراقية مالت إلى دعم الدولة وذلك للتسريع بعملية التحول والإعمار بالذات وبذلك وقعت فريسة للدولة.

لكن سياسيا فالعراق طيلة هذه الفترة الزمنية السابقة على 2003 كانت سياسته قائمة على أساس العنف والإقصاء وتهميش الأكثرية طبقية كانت أو طائفية ، الأمر الذي صنع منه وبسبب هذه التراكمات غير الصحيحة عنصرا تمييزيا (طبقيا) أعان عليه الاعتقاد الذي ساد بعد التغيير هو أن من كان يحكم سابقا وهو مضطهد أولى بالحكم الآن ، تلك النظرة التي أصبحت عاملا مجهضا لديمومة العراق في شكله الإنساني المرتبط بخيارات المواطنة والمجتمع المتعدد المشاركة والهويات مادامت هناك جميع هذه القوى المتصارعة فيما بينها بشكل عنفي وإقصائي.

وامتازت العلاقة السياسية بمعادلة غريبة مفادها هيمنة الأقلية على الأكثرية على طول تاريخ الإسلام في هذا البلد وأن هذه الهيمنة رافقتها عمليات عنف وتحجيم لدور كثير من الطوائف والإثنيات ، ومحاصرة للنتاج الثقافي والديني، وأحياناً الاعتداء على المقدسات الإسلامية.

وهكذا مرت سنوات عصيبة استمرت منذ (1968) حتى انهيار النظام في 2003 ثم بدأت الحركة التغييرية بسقوط النظام الدكتاتوري وتحديثات بول بريمر التي تركزت على تنشيط فعاليات المجتمع المدني للحد من محاولة إعادة إنتاج العهد التسلطي ومحاولة توزيع الديمقراطية على جميع مكونات المجتمع العراقي.

وبعد أن تم تشخيص ما أصاب النسيج الاجتماعي في العراق من تقطع لبعض جوانب انشداداته رغم أخطاء حكوماته التي قصرت في إيجاد حلول لمشكلات علاقاته وانصب اهتمامها على تمكين بنية الدولة بعد التغيير السياسي (2003) ، فإن المشكلات الأساسية يمكن تلخيصها بأنها ذات طبيعة ميدانية اجتماعية سياسية تطرح ثنائية الثورة/ الدكتاتورية. والتغيير إذا لم يستطع أن يتحول إلى البناء فإنه يلجأ إلى الشعارات والعنف وبذلك يصاب المجتمع بما يدفع به للتحول نحو الديكتاتورية قد ينزل بالتغيير إلى مجرد انقلاب وانقطاع للاستمرارية وتراجع في التجربة ما يجعلنا نكرر البدء في الصفر دون تراكم وبناء مؤسسات.

وقد شخص المفكر الاجتماعي علي الوردي سبب النكوص الحضاري إلى غلبة الوعظ والوعاظين في أوساطنا وزاد بان قرن بين ماسماه وعظ المعممين ووعظ المتمدنين فالممارسة نفسها لذا فقد مال المتمدن إلى التعليل دون التحليل إذن لابد من كسر دائرة الوعظ والواعظين كي ينطلق الفرد العراقي رغم تأكيد الوردي بان السوء طبع إنساني علمًا أن السلوك ومهما كان فانه متعلم لذا فان علينا ألا نخاف السلطان ولا نخشى الشيطان كما أورد ذلك جمال الدين الافغاني مع إضافة ونعمل لمصلحة الإنسان والإنسان العراقي.

وطرح حنا بطاطو إشكالية ملخصها أن الطبقات والتقليدية بالذات رغم أنها مقبولة إلا أنها بعيدة عن العصر ما يدفع بالأجيال الشابة إلى الانتظام بحركات ثورية لتفكيك هذه الطبقات وبعد أن يتم ذلك فإنهم يبدؤون بالشعور بالذنب لفقدهم جذورهم التقليدية ما يجدد حضور الطبقات التقليدية.

والخلاصة أن ما تعرض له المجتمع العراقي من قلق وعنف وآلام هو ناتج لمخاضات غير مثمرة وتراكم سلبياتها لذا يتوجب إعادة بناء الطبقة الاجتماعية بشكل عادل وفق معايير الكفاءة وان يوكل إليها إعادة هيكلة المجتمع المدني وحقوق الإنسان عندها يكون مثل هذا المجتمع مؤهلاً لدعم دولة المؤسسات.

لقد أساءت قطاعات من الشعب/المجتمع في العراق قراءة المشروع الأميركي فنسجت على منواله وبذلك توقفت جهود هذه المكونات عند ردود الأفعال وان أخذت تدرك ضرورة التشكل المجتمعي المتماسك بعد أن دفع الشعب/المجتمع العراقي ثمنا فادحا من أمنه وخدماته وبناه التحتية بفعل عوامل الإرهاب والتخريب والتطرف والطائفية ، والذي تمثل في تهجير العديد من ابنائه واغتيال كفاءاته إلى غيرها من الأفعال الغريبة على السلوك العراقي والذي طبع على مر تاريخه الاجتماعي بالغيرة والتسامح والتعايش.

وعلى الرغم من محاولات الاحتواء ظهر الرد المتوقع الأمر الذي سهل ظهور عمليات (القتل على الهوية) و(التهجير) الحدثان الأبرز على الساحة العراقية بعد التغيير بفترة قصيرة ، ( فالفعل العنفي هو نتاج لحالات من التوتر الفارد أو الجامع، وفي كل فعل يتلازم الخير والشر، اللاعنف والعنف، إذا أخذنا بالاعتبار وضع الفاعل والقابل، ونسبة الفعل وتفسيره. وحتى لا نخفض السلوك العنفي إلى مجرد مقولة أو مصادرة فلسفية، نقول: إنه ظاهرة اجتماعية واقعة، تجد تفسيرها في التاريخ الإنساني ذاته، وفي تواجه الطاقات النفسانية والاجتماعية والاقتصادية، أي طاقات القوة نحو تنازع الوجود وتغالب الإرادات ومما لا ريب فيه أن الفرد أو الجماعة يكتسبان السلوك العنفي/ اللاعنفي من خلال الثقافة التي توجه المجتمع، وتحكمه أو لا تحكمه من خلال أدوات الضبط العنفي ومعايير السلوك وقيم السياسة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*