الجريمة التي قصمت ظهر الحق والعدالة .. اسشهاد أميرالمؤمنين (ع)

485

18-7-2014-7-d

كثيرة هي الجرائم التي ارتكبت ولا زالت ترتكب بحق الإنسان على مر التاريخ، ابتداءً بالجريمة الأولى لابني آدم قابيل وهابيل، عندما أقدم قابيل على قتل أخيه هابيل في أبشع وأول جريمة سفك فيها الدم الحرام ،وتلاحقت وامتدت الجرائم البشعة شكلا ً ومضمونا ً ابتداءً من الجريمة الأولى ،ومروراً بجرائم قتل الأنبياء والمرسلين وأتباعهم واعتداء الإنسان على أخيه، وإزهاق روحه ،وسفك دمه، والاعتداء على حقه في الحياة ، وحق زوجته وأبنائه وأهله في حياة معيلهم، وتحمله لشئونهم والحصول على عطفه وحنانه وأبوته وهذا المسلسل من الجرائم المتوالية مستمر حتى اليوم وحتى قيام الساعة .

اختلاف حجم الجريمة : الجريمة هي الجريمة ،والنفس هي النفس ،سواء كان المجني عليه عربيا أو أعجميا، مسلماً أو معاهداً ، أبيض أو أسود، إنما يختلف حجم الجريمة وسوؤها من حيث مكانة المجني عليه، كأن يكون عالماً أو قائداً أو حاكما ً أو مصلحا ً اجتماعياً أو غير هذه المسميات من عقلاء وحكماء وحلماء كانوا يقومون بواجباتهم على أكمل وجه، ونظام الحياة ،وتسيير شئون الأمة، ومراعاة مصالحهم، يشرفون عليه إشرافاً تاماً .
هنا يختلف حجم الجريمة لأن العالم الرباني والزعيم العادل والقائد الملهم والحاكم الصادق والقاضي الحق والمصلح المخلص وغيرهم هؤلاء ليسوا ملكا ً لأنفسهم ،وإنما هم ملك مجتمعهم وشعوبهم وأمتهم، وبخسارتهم تخسر الأمة ركنا ركينا ، مثل ذلك الاختلاف الواضح من حيث الحجم عندما يقتل رجل لا يعيل إلا نفسه، ورجل يعيل أبا ً وأماً وزوجة وسبعة أطفال .
بهذا أردت الوصول بك عزيزي القارئ إلى حجم الجريمة التي قصمت ظهر الحق والعدالة في تاريخ الإسلام الأول لنشأته، وتحديداً بعد وفاة رسول الله ( ص ) .
فما هي هذه الجريمة ؟ وما الحجم الذي تمثله في شخص المجني عليه ؟ ذلك ما ستتضمنه الأسطر التالية .
فاجعة الحق والعدالة :
إنها جريمة الاعتداء على رمز العدالة، وقيمة الحق ،من ليس في مواليد حواء أعظم منه شأناً ولا أبعد أثراً ولا أخلد ذكراً سوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد ، إنها جريمة القتل والاستشهاد التي تعرَّض لها أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام . فمن هو علي هذا الذي شغل العالم ذكره حتى اليوم وإلى أن تقوم الساعة ؟
أمير المؤمنين في سطور : إن الحديث عن وليد الكعبة ،وأبي الحسن ذو شجون، ويفتح آفاقاً يصعب غلقها أو حتى الوصول إلى المنتهى .
الكثير منا يعرف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ولا ينكره إلا جاحد منافق بالنص النبوي الشريف : ( يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ).
نسبه ومولده وأمه وأبوه ونشأته وإسلامه وتضحيته وجهاده ودوره في تأريخ الإسلام، وبناء أساساته ومواقفه وزوجه الزهراء سيدة النساء وأزواجه الأخريات بعد وفاتها وابناه سبطا رسول الله وريحانتاه وأبناؤه من الزوجات الأخريات وعلمه وحلمه وتواضعه وشجاعته وخلافته واستشهاده وما كان يمثله من رمز وقيمة ومكانة للإسلام والمسلمين كل ذلك مدون في كتب التواريخ والتراجم والأحداث والسير ، بل دونت فيه كتب خاصة من مسلمين / سنة وشيعة ومسيحيين وحتى وثنيين، جعلوا منه رمزا ً ومثالاً، ومن هذه المؤلفات التي يصعب حصرها :
1.         علي إمام المتقين .
2.         علي وبنوه .
3.         علي وعصره.
4.         علي وسقراط .
5.         علي وحقوق الإنسان.
6.         علي والثورة الفرنسية.
7.         سلوني قبل أن تفقدوني.
8.         الخليفة الراشد علي بن أبي طالب.
9.         الخليفة الرابع علي ابن أبي طالب.
10.       ملحمة الغدير.
11.       علي سيد العرب والعجم.
12.       كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين.
13.       خصائص أمير المؤمنين علي عليه السلام .
14.       بيعة علي ابن أبي طالب.
15.       علي في القرآن.
16.       سيرة الإمام علي ابن أبي طالب .
17.       علي منتهى الكمال البشري.
18.       علي نور على نور.
19.       التحفة العلوية وشرحها الروضة الندية.
20.       العلويات العشرون.
21.       علي من المهد إلى اللحد.
النموذج البشري الأكمل:
إنه من ذكره المسلمون فيقولون : عليه السلام ،ورضي الله عنه ،وكرم الله وجهه .
وهو أيضا ً من يذكره النصارى في مجالسهم ،فيتمثلون بحكمه ويخشعون لتقواه، ويتمثل به الزهاد في الصوامع فيزدادون زهداً، وينظر إليه المفكر فيستضيء بقطبه الوضاء، ويتطلع إليه الكاتب الأديب الألمعي فيأتم ببيانه، ويعتمده العالم المدرك فيسترشد بأحكامه ويقف الخطيب المفوه على سفح طوده منتهلاً من بلاغته وفصاحته ،وأما الجبان فلا يقرأ إلا سيرته لتهدر في صدره أمواج النخوة وتستهويه معالم البطولة والتضحية .
لله ثم للتاريخ :بحق لا مراء ، بصدق لا ادعاء، شهادة حق يعلمها القاصي والداني ، الموالف والمخالف، وحتى أعداؤه شهدوا له وهذه الشهادات وما قرأناه وعرفناه وسمعناه في كتب التواريخ والتراجم والسير يدفعنا إلى القول :  لم تشهد الغبراء، ولم تظل السماء، أشجع ولا أبلغ ولا أزهد ولا أعلم من أمير المؤتين علي ابن أبي طالب عليه السلام، باستثناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
علي كما عرفه أصحابه :
دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية فقال له معاوية : صف لي عليا ً فقال ضرار : إذا كان لا بد فإنه والله كان بعيد المدى ، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً ، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، وكان والله غزير الدمعة ،طويل الفكرة ، يقلب كفيه، ويحاسب نفسه ، يعجبه من اللباس ماقصر، ومن الطعام ماخشن .
كان والله كأحدنا، يدنينا إذا آذناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع قربنا منه لا نكلمه هيبة منه، وإن تبسم فمثل اللؤلؤ المنظوم . يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله .
فأشهد بالله؛ لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وهو جالس في محرابه قابض على لحيته ، يتململ تململ السقيم، ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه الآن وهو يقول :
يا ربنا يا ربنا يتضرع إليه . ثم يقول للدنيا . يا دنيا إليك عني، إليك عني ،أبي تعرضت أم إلي تشوفت، هيهات هيهات غري غيري، لاحان حينك، قد طلقتك ثلاثً لا رجعة فيها، فعمرك قصير وخطرك كبير، آهٍ آهٍ من قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق .
(…) فقال معاوية : (…) فكيف وجدك عليه يا ضرار ؟
فقال ضرار : وجد من ذُبح واحدُها في حجرها، لا ترقأ دمعتها، ولا يسكن حزنها، ثم قام فخرج ( 1) .
ورحم الله الشريف الرضي الذي جسد هذه الرواية في هذه الثلاثة الأبيات :
عتبت على الدنيا فقلت إلى متى
أكابد هماً ليله غير منجل
أكل شريف من علي جدوده
حرام عليه الوسع وهو محلل
فقالت : نعم يا ابن الحسين فإنني
حقدت عليكم منذ طلقني علي
أشقى الآخرين بالنص النبوي :
قال العلامة المحدث محمد بن إسماعيل الأمير في منظومته الشهيرة : التحفة العلوية :
لازم المحراب والحرب إلى
أن أتى أشقى الورى الأمر الغريا
ومضى نحو جوار المصطفى
حبذا دار وجار قد تهيا
قائلات حورها حين أتى
مرحباً أهلاً بذا الروح وحيا
ومضى الأشقى إلى قعر لظى
يتصلاها غدوا وعشيا
عاقر الناقة فيها جاره
ليس جار الأشقيا إلا شقيا
وقد ثبت تسمية قائله (أشقى الآخرين ) بالرواية التي أخرجها أحمد بن حنبل في المناقب : عن علي ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( ص ) : « يا علي أتدري من أشقى الأولين ؟ « قلت : الله ورسوله أعلم . قال : « عاقر الناقة ، أتدري من أشقى الآخرين ؟ « قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : « قاتلك (2)
وروى الحاكم عن عبد الله بن سبع قال : خطبنا علي ( عليه السلام ) وقال : فيما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « لتخضبن هذه ـ أي اللحية ـ من دم هذا ـ أي الرأس ـ فقالوا : ألا تخبرنا به فنبيد عترته . فقال أنشد الله رجلا ً قتل غير قاتلي «
دوافع الجريمة : ابتلي الإمام علي ( عليه السلام ) بأنصار جلهم من المخاذيل، فهم إما باعوا الدين بالدنيا سيوفهم مع عدوه وقلوبهم معه، أو مخاذيل لا يفهمون الدين برغم عبادتهم وتنسكهم وحفظهم القرآن ( الخوارج ) الذين كانوا يلقبون بأصحاب الجباه السود، لكنهم لا يفقهون من الدين شيئاً، يؤولون النصوص ،وينجرفون خلف الشبهات حماقة .
الفريق الأول ( الذين يبيعون الدين بالدنيا ) ،ترك الإمام علي كل شيء بسببهم وتخلى عن إصلاحات لأنهم معه في الظاهر وفي الباطن مع خصمه .
أما الفريق الثاني ( الخوارج ) فقد انبثقوا على الإمام وكفروه وعاثوا فساداً، فخرج إليهم في موقعة النهروان التي قضت عليهم جميعاً، ولم ينج منهم سوى عشرة أحدهم كان ابن ملجم قاتله .
ومن هنا يتبين أن الدوافع للقتل تتمثل في الآتي :
• الجهل وانعدام الدين والورع .
• الانتقام وأخذ الثأر لأصحابهم قتلى النهروان .
• العشق والغرام بقطام الخارجية التي اشترطت مهراً لها قتل علي وفيه يقول ابن مياس الغزاري :
ولم ار مهراً ساقه ذو سماحة
كمهر قطام من فصيح وأعجم
ثلاثة آلاف وعبد وقينة
وقتل علي بالحسام المصمم
فلامهر أغلى من علي وإن غلا ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم (3)
كريم حتى مع قاتله
وبعد أن تعرض عليه السلام للضربة القاتلة من أشقى الآخرين وحتى وهو يعلم أنها النهاية إلا أن دينه وأخلاقه وتقواه وورعه وزهده وإيمانه ومروءته وشهامته ورجولته وإخلاصه أبت كلها عليه أن يكون منتقما ، تجلى ذلك في موقفه يخاطب أولاده وخلص أصحابه والدماء تسيل على شيبته يوصيهم في قاتله : أطعموه واسقوه وأحسنوا إساره فإن عشت فالحق حقي فإن شئت استقدت ، كفوا عنه وأوثقوه فإن أعش فالحق حقي أرى فيه رأيي وإن أمت فرأيكم في حقكم .
وفي وصيته للحسن والحسين ( عليه السلام ) : عزمت عليكما لما حبستما الرجل فإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به .
الشقاء مستمر :
مما يروى عن الإمام علي ( عليه السلام ) قوله في الخوارج : “إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء حتى قيام الساعة”
عمران بن حطان أحد الخوارج الأشقياء امتدح فعل صاحبه ابن ملجم وأثنى عليه قائلاً :
يا ضربة من تقي ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه
أوفى البرية عند الها ميزانا
أخلق بقوم بطون الطير أقبرهم لم يخلطوا دينهم كفراً وعدوانا،  فرد عليه القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الفقيه الشافعي قائلا ً :
إني لأبرأ مما أنت قائله             عن ابن ملجم الملعون بهتانا
يا ضربة من شقي ما أراد بها           إلا ليهدم للإسلام أركانا
إني لأذكره يوما ً فألعنه             ديناً وألعن عمران بن حطانا
عليك ثم عليه الدهر متصلاً              لعائن الله إسراراً وإعلانا
فأنتما من كلاب النار جاء به          نص الشريعة برهاناً وتبياناً
وداعاً أمير المؤمنين : ـ
أختتم هذه العجالة بكلمتين من كلمات الإمام علي (ع) الأولى قوله عليه السلام : « والله ما عبدت الله خوفا من ناره ولا طمعا ً في جنته ولكني وجدته أهلاً للعبادة فعبدته”.
فماذا بعد هذا اليقين ؟!
الثانية قوله عليه السلام : ” إلهي : كفى بي عزاً أن تكون لي رباً وكفى بي فخراً أن أكون لك عبداً أنت كما أحب فاجعلني كما تحب”
فماذا بعد هذا الكمال العبودي ؟
جعلت من هاتين الكلمتين العظيمتين الخالدتين خاتمة الحديث عن الجريمة التي قصمت ظهر الحق والعدالة (استشهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام )
فسلام على أمير المؤمنين في المبدأ والمختم .
هوامش:
(1)الاستيعاب لابن عبد البر وذخائر العقبي للمحب الطبري وأمالي المرشد بالله ونهج البلاغة ومناقب آل أبي طالب وحلية الأولياء .
(2)أخرج الحديث أحمد في المناقب والسيوطي  في الجامع الكبير والنسائي في الخصائص والطبراني في الكبير وابن المغازلي في مناقبه وابن كثير في البداية والنهاية والحاكم في المستدرك والبيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر في ترجمة الإمام علي والأصفهاني في معرفة الصحابة وابن عبد البر في الاستيعاب وأبو نعيم في دلائل النبوة وغيرهم .
(3)رواها ابن أبي الحديد وابن عبد البر في الاستيعاب والأصبهاني في مقاتل الطالبيين والطبري في تاريخه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*