هل حفظ البذور البرية ينقذنا إذا دُمرت المحاصيل الزراعية في العالم؟

317

161024173744_wild_seeds_to_face_food_apocalypse_640x360_istock_nocreditالحكمة – متابعة: يبذل علماء النبات حول العالم قصارى جهدهم للعثور على سلالات بذور برية نادرة قبل أن تنقرض، من أجل المساهمة في تأمين الإمدادات الغذائية الكافية التي لا تتأثر بالتغير المناخي.

واجه فريق روسي من علماء النبات خيارًا مريعًا عندما حاصرهم جنود هتلر الألمان في شتاء عامي 1941 و1942 القارص،. ولأكثر من عقد من الزمن، كان العاملون في “معهد فافيلوف لصناعة النباتات” يجمعون بذورًا من جميع أنحاء العالم ويحفظونها في قبو مغلق.

إذ كانوا يعتقدون أنهم يحتفظون بالمواد الخام التي ستسمح للعلماء بإنتاج نباتات المستقبل فائقة الجودة للحصول على محاصيل يمكنها تحمل جميع الظروف الجوية القاسية.

وقضى مؤسس المعهد، نيكولاي فافيلوف، سنوات عدة في جمع الأنواع النادرة والبرية وثيقة الصلة بالقمح والشيلم وغيرها من المحاصيل الأساسية، لكي يستخلص منتجو المحاصيل منها الجينات شديدة التحمل.

وبعد أن حاصر النازيون مدينة ليننغراد (التي تسمى الآن سانت بطسبرغ)، ومنعوا عمال المعهد من مغادرة المدينة، اعتصم علماء النباتات بالمعهد مع البذور التي أخفوا أمرها، واستعدوا لحمايتها من الفئران، والطقس المتجمد، والمواطنين الجياع.

ولو وضع أي عالم آخر في مكانهم لكان تناول هذه الأكياس الثمينة من الأرز والقمح والبازلاء والشوفان والبطاطس أثناء فترة الحصار الذي دام 28 شهرًا، لكن دميتري إس إيفانوف، رئيس مجموعة الأرز، آثر أن يتجشم آلام الجوع ليحتفظ بآلاف الأكياس من الأرز، حتى أصيب تدريجيًا بسوء التغذية.

كما مات ثمانية من زملائه من البرد والجوع أثناء حماية تلك العينات، وقد تمكنوا من تهريب بعض هذه البذور إلى الجبال لتبقى في أمان. وأنقذت الكثير من أنواع النباتات الثمينة، وأثمرت محاصيل وفرت الغذاء لملايين من الناس فيما بعد.

واليوم، خُلدت مهمة علماء النباتات الروس في شبكة عالمية شاسعة من مراكز لحفظ جينات النباتات. إذ يجوب جامعو البذور العالم شرقًا وغربًا في شاحنات وطائرات، ويتسابقون لجمع أكبر عدد ممكن من سلالات النباتات القديمة واختزانها قبل أن تنقرض.

وهذه المرة يبحثون عن نباتات يمكنها تحمل التغير المناخي. ولكن حتى في يومنا هذا، لا توفر مراكز حفظ جينات النباتات الحماية الكافية للنباتات.

وقد توجه مؤخرًا جامعا بذور نيوزيلنديان بشاحناتهما إلى أماكن قصية من جبال التاي الروسية، بالقرب من الحدود المنغولية. وبالتعاون مع عاملين من معهد فافيلوف، تمكنا من العثور على أنواع قديمة مختلفة من النباتات، وهي تمثل أصنافا ترتبط وراثيًا بالمحاصيل التي يستخدمها المزارعون اليوم لإطعام ملايين البشر وحيوانات المزارع، ولكنها لم تكن موجودة منذ وقت طويل.

وكان الفريق يسترشد بخريطة للوصول إلى الأماكن التي يكثر فيها التنوع الحيوي، وعندما يجدون عينة مبشرة، يقيّمونها ثم يقطفون بحرص حفنة من البذور ويضعونها في ظرف.

ثم عاد النيوزيلنديان إلى مركز مارغوت فورد لجمع الخلايا الجرثومية في بالمرستون نورث، حيث أنتجا سلالات جديدة من أنواع البذور المختلفة التي جمعاها في حديقة آمنة محاطة بشبكة، حتى أصبح لديهما 100 بذرة على الأقل من كل نوع، وهو ما يكفي للحفاظ على تنوع وراثي صحي.

وتتطلب مراقبة العملية برمتها مهارة وإمكانيات متواضعة، فحين يحتاج المحصول حشرات لتلقيحه، يلتقط خبير فني نحلة برية، ويحاول جاهدًا أن يغسلها بأعواد ملفوفة بقطن مبلل لإزالة كل ما علق بها من حبوب لقاح من الخارج، قبل أن يطلقها داخل الأرض المحاطة بالشبكة.

ثم ينظف جامعو البذور ما جمعوه من بذور بالفرشاة ويجففونها ويختزنوها في مبرّد آمن منخفض الرطوبة. ومن هذا المبرّد ترسل عينات إلى أي باحث يرغب في دراستها، أو إلى أي بنك للجينات النباتية في العالم.

فإذا انقرض أي نوع من أنواع النباتات في موطنه فيما بعد، يعيد جامعو البذور مجموعة من تلك البذور المنقرضة لزراعتها في موطنها.

ويهتم الباحثون عن البذور أيضًا بالبحث عن سلالات تعيش في الأماكن القاحلة أو القاسية، أو التي غمرتها المياه، لأنها ربما ستتمكن من أن تمد المحاصيل بمورثات قد تساعدها على تحمل الظروف الجوية في المستقبل. ولهذا زار المستكشفون أجزاء من الصين، والمغرب، وتونس، وكراخستان، وأي مكان آخر يسمح لهم بزيارته ويحوي تنوعًا حيويًا.

لكن الكثير من البذور التي وجدوها كانت مخيبة لآمال عالم النبات الذي مات جوعًا من أجلها، فبعض أنواع النباتات التي كانوا أشد حرصًا على الحصول عليها لم تكن صالحة للأكل، إذ لم تكن إلا نسخة برية مرّة من المحاصيل الأساسية، مثل القمح والذرة.

وظلت هذه النسخ البرية المرة وثيقة الصلة ببعضها بعضًا مما مكنّها من تبادل المورثات مع أنواع أخرى أطيب مذاقًا.

يقول كيومارس غامكار، عالم جينات نبانية إيراني المولد، ويرأس بنك جينات مارغوت فورد، إن الأساليب الزراعية قد أدت إلى إضعاف قيمة الكثير من المحاصيل السائدة. فعلى مدار قرون، دأب المزارعون على اختيار المحاصيل الأكثر إثمارًا أو ذات المذاق الطيب أو سهلة التقشير، ليقضوا بذلك على سمات أخرى هامة للنباتات.

وأضاف أن الطعام الذي نأكله هو النسل المحسن لأجيال متعاقبة من النباتات، وكل نوع من هذه النباتات قد أُغدق عليه الماء الوفير والمواد المغذية ومبيدات الحشرات. وتابع: “وكأن النباتات الآن تعيش في فندق من فئة خمسة نجوم”.

ولهذا يفتش الباحثون عن البذور في ما قبل التاريخ لاستعادة الجينات “القاسية” التي فقدتها النباتات.

ويقول غامكار: “نحن نذهب ونجمع البذور، اقتداءً بعملية التطور. ففي جبال أذربيجان مثلًا، اعتادت النباتات على الحياة في البيئة القاسية، وفي حالة تهجين هذه الأنواع من النباتات مع أنواع أخرى مختلفة، ستستعيد هذه الأنواع جينات المقاومة والبقاء، وهذا ما ستحتاجه عندما يبدأ الطقس في التغير”.

وقد أصبح الطعام الذي يتغذى عليه الناس حول العالم أكثر تشابهًا من ذي قبل، ويحصل الناس على أغلب سعراتهم الحرارية من نفس المحاصيل القليلة، مثل الذرة، والقمح، والأرز، والبطاطس، وفول الصويا، الذي زاد الإقبال عليه مؤخرًا.

وفي الوقت نفسه، في ظل التغير المناخي الوشيك، سيصبح من الصعب زراعة محاصيل في أماكن كثيرة.

وقد أدرك فافيلوف أن المحاصيل الضعيفة أو المشابهة وراثيًا لن تصمد أمام أول كارثة تحل بالمنطقة، مثل موجة الجفاف التي أدت إلى وقوع مجاعة في روسيا في عشرينيات القرن الماضي، أو المجاعة التي حدثت في أيرلندا بعدما أتلفت آفة زراعية محصول البطاطس في أربعينيات القرن التاسع عشر.

والآن يُجمع العلماء والحكومات حول العالم على أن الناس في حاجة إلى مجموعة كبيرة من الجينات النباتية لحماية أنفسهم من الجوع.

وقد طور أحد أنواع البطاطس في أمريكا الجنوبية مورثًا يبدو أنه يساعد البطاطس على مقاومة الآفات الزراعية.

وثمة سلالات برية من النباتات ذات جذور أكثر غورًا من غيرها، أو نباتات تحتاج إلى كميات أقل من الماء من أجل البقاء.

ويقول شيكيلو إمبا، رئيس فريق البذور والموارد الوراثية النباتية بمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، إنه بينما توجد طرق عديدة لانقراض النباتات الصالحة للأكل، فإنه لا توجد سوى طرق معدودة للحفاظ عليها. وأفضل الطرق هي ترك النباتات في الخارج، لأنها خلقت لتكون في الهواء الطلق.

فإن النباتات ستظل تغير المحتوى الوراثي لديها، أو ما يعرف بالجينوم، ليواكب الظروف المتغيرة. ولكن يقول جامعو البذور إن التغير المناخي والتطور العمراني سيمحوان البيئات الطبيعية لبعض الأنواع البرية، وقد يحدث هذا قبل أن تصل إليها أيادي المنقذين.

ولن يتمكن الناس من إنقاذ أنواع النباتات التي يفضلونها في كل الحالات، حتى لو كانوا يرعون هذه النباتات لقرون. ويقول مايك بورك، المتخصص في الزراعة في منطقة المحيط الهادئ بالجامعة الوطنية الاسترالية، إن في مرتفعات بابوا غينيا الجديدة يتميز كل واد بطبيعته الخاصة.

ويحافظ المزارعون على زراعة أنواع نادرة من النباتات، بدافع الولاء لأسلافهم، حتى لو كانت هذه الأنواع تحتاج إلى الكثير من المضغ، أو صعبة التقشير.

ولكن في كل مرة تحدث موجة جفاف أو كارثة طبيعية، تحل المحاصيل التجارية الأسرع نموًا والأسهل في الرعاية محل المجموعة المتنوعة من الأنواع القديمة. ويقول بورك: “ستبدو الأمور أفضل عندما يصبح لديك أنواع أكثر إثمارًا، ولكن إذا وقع ضرر سيكون واسع النطاق”.

ويقول إمبا إن المزارعين التجاريين يجدون أنه من الأسهل زراعة محاصيل متماثلة، لأن زراعة الأنواع المتنوعة أو التي تتوراثها الأجيال “تعقد النظام. فلن يكتمل نمو النباتات كلها في نفس الوقت، كما أن الآلات المستخدمة ستكون أكثر تعقيدًا، وستتطلب كميات متفاوتة من السماد، وقد تنتج ثمارًا أقل”.

سيأتي وقت تظل فيه بعض الأنواع الهامة من النباتات قابعة في بنوك الجينات، ولكن حتى في هذه البنوك لن يكون بقاؤها مأمونًا.

ومن الصعب معرفة رأي علماء النبات إبان الحرب العالمية الثانية في بنوك الجينات اليوم، حيث وفرت كل الإمكانيات اللازمة لحفظ الأنواع الهامة بالتجميد، بينما لا يتوفر للأنواع الأخرى ما يكفي من المال لتشغيل مكيفات الهواء.

وتتعاون بنوك الجينات فيما بينها لتبادل أنواع النباتات عبر الحدود، وترسل المراكز الأصغر حجمًا في الغالب أنواعًا مطابقة لتُحفظ في معاهد أفضل تمويلًا. وأفضل مستودع لتخزين البذور يقع في سفالبارد في الدائرة القطبية الشمالية، في قبو حصين في المنطقة دائمة التجمد على جزيرة بعيدة عن سواحل النرويج.

وقد صمم هذا القبو خصيصًا للصمود أمام الكوارث التي قد تؤدي إلى نهاية العالم، من قبيل الشتاء النووي، لكي يتمكن الناجون من إعادة بناء المنظومة الزراعية.

ولكن بعض الأنواع من النباتات لا توجد لا في قبو سفالبارد ولا في غيره من بنوك الجينات حول العالم، التي بلغ عددها 11 بنكًا، ممولًا من اتحاد من الحكومات والشركات الثرية والجمعيات الخيرية.

يقول إمبا، إنه على عكس قبو سفالبارد، الذي تختزن فيه البذور فحسب، فإن مراكز الأبحاث الزراعية الدولية أُنيط بها إخراج الأنواع العديدة من صناديقها ودراستها. وكل مركز منها يولي اهتمامًا بنوع معين، مثل الفاصوليا، أو الكسافا (المَنِيْهُوت)، أو الأرز، أو البطاطا الحلوة.

ولا تدرس المراكز إلا أنواع المحاصيل التي مولت من أجلها، ولهذا تقع مسؤولية حفظ الكثير من الأنواع النادرة على كاهل مئات المراكز القومية الصغيرة.

وأضاف إمبا: “إذا فكرت مثلًا في نيجيريا، مسقط رأسي، ثمة أنواع معينة من الطعام، مثل فول اليام الأفريقي، لا يهتم أي مركز دولي بدراستها، ولذا، لو لم تُحفظ في نيجيريا، لاندثرت تمامًا”.

كما أن الكثير من المراكز الأصغر حجمًا، لا تحصل في الغالب على تمويل كاف ولا يوجد بها عدد كاف من الموظفين. ويقول إمبا: “من المتوقع أن تكون بعض العينات التي تنتجها هذه المراكز غير صالحة”.

ويقول إمبا إن الحروب ما زالت تهدد بنوك الجينات والقائمين عليها. إذ دمرت المعارك الدائرة في جمهورية الكنغر الديموقراطية والصومال مجموعتين لا تعوضان. وأردف قائلًا: “لقد فقدوا كل ما لديهم من بذور، وبعض الأنواع لا يوجد مثيل لها في أي مكان في العالم”.

وقد توقف العمل في مركز دولي هام في سوريا دون سابق إنذار إبان الحرب على حلب. وقد اختزن القائمون على رعاية المجموعة النباتية في ذلك المركز أنواعًا مطابقة من البذور في قبو سفالبارد، حيث سُمح لهم للمرة الأولى أن يسحبوا بعض البذور منه.

ويعد فافيلوف الذي مات في معسكر اعتقال في الاتحاد السوفييتي سنة 1943، على خلفية اتهامه بالإضرار بالزراعة في البلاد بسبب أرائه عن علم الوراثة عند النباتات، الأن شخصًا ذا تصورات وأراء صائبة عن المستقبل.

ولا أحد يعرف حتى الآن أي نوع غامض من القمح البري أو البطاطا الحلوة يحوي موروثا هامًا سيساعد المزارعين على توفير الطعام للبشر قاطبة عندما يتغير المناخ. ويسعى الباحثون عن البذور جاهدين لكي يضمنوا التوصل إلى هذا الجين قبل أن نفقده إلى الأبد.

(بي بي سي)

س ف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*