أثر القرينة اللفظية في معاني الألفاظ في القرآن الكريم

788

3453

المهندس/ عادل عباس النصراوي

 جامعة الكوفة

إن لبعض الألفاظ في النص القرآني العظيم أثراً كبيراً في بيان معاني ألفاظ أخرى ترد فيه وتمنحها دلالة إيحائية تبرز فيه، فقيمة اللفظ تتأثر بهذه الإيحائية ونوعيتها قوةً وضعفاً، فكلما كانت إيحائية الكلمة عالية، كانت قيمة تلك الكلمة فنياً عالية أو العكس بالعكس(1).

لقد وردت في القرآن الكريم ألفاظ، مثل (جاء، أتى، حضر) ومشتقاتها، وتعني كلها  المجيء والحضور، لكن القرائن الملازمة لهذه الألفاظ جعلت فارقاً زمنياً حدّد مفهوم هذه الألفاظ، وأوحى للسامع بمعاني مختلفة لها وكما يأتي:

أولاً: لفظة (جاء)

زمنياً لا تحتمل التأخير والتباطؤ وفق القرائن المردفة معها:

1ـ لفظة (يوم) في قوله تعالى: (حتى إذا جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من اللذين كفروا)(2). فاقتران لفظ (اليوم) مع (جاء) يدل على وقوع الحدث حضورياً بدون تأخير، ويوحي للسامع بأن أمر الله تعالى قد وقع في اليوم المعين بدلالة (ال) التعريف لليوم، والله أعلم.

2ـ لفظ (الصبح) في قوله تعالى: (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها)(3). إذ أن الصبح قريب لا محال وأن مجيء العذاب واقع حتماً ولا يحتمل التأخير.

3ـ لفظة (لا يؤخر) في قوله تعالى: (ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها)(4) وقوله تعالى: (إن أجل الله قريب إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون)(5) فهنا توحي هاتان الكلمتان بعدم التأخير أيضاً.

4ـ لفظة (يسعى) في قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى)(6) فإن دلالة السعي توحي بوقوع الحدث في الآن.

ثانياً: لفظة (أتى)

هذا الفعل يحتمل التأخير لفترة محددة خلافاً للفظ (جاء) اعتماداً على القرائن الآتية:

1ـ جملة (فلا تستعجلوه) جاءت في قوله تعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه)(7). حيث فيها دلالة توحي بتباطيء إتيان أمر الله.

2ـ الكلمتان (ليلاً، نهاراً) في قوله تعالى: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً)(8) فهاتان الكلمتان توحيان بوقوع الأمر الإلهي بزمن محدد غير معروف أهو في الليل أم في النهار وذلك من خلال عدم تعريف الكلمتين، فنجد أن عنصر الترقب ملازم لهما.

3ـ الكلمة (ارتقب) في قوله تعالى: (فارتقب يوم يأتي السماء بدخان مبين)(9)، فعملية الترقب توحي بالانتظار لحين وقوع الحدث مشفوعاً بالانتباه.

4ـ الكلمات (سبع سنين، عام) في قوله تعالى: (قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون، ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون)(10). فالسنوات السبع والعام كلها إيحاءات بطول المدة لحفظ الحبوب في سنبله والانتظار لحين مرور الأزمة.

ثالثا: لفظة (حضر)

وهذا الفعل غير معلوم زمن وقوعه مستقبلاً، خلافاً للفعلين السابقين (جاء، أتى) وإليك القرائن:

1ـ لفظ (الموت) في قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين)(11)، وقوله تعالى: (حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن)(12)، وغيرها من الآيات القرآنية التي نجد فيها اقتران كلمة الموت مع الحضور، وإن الموت غير معلوم الوقوع وإن علمه عند ربي، لذا سيكون الحضور هو الآخر لا يعلم وقوعه ولا يحدد زمنه.

2ـ لفظ (القسمة) في قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه)(13). فإن وقوع القسمة مقترن بوقوع الموت الذي علمه عند الله تعالى، فهنا يقع الإبهام أيضاً بدلالة إبهام وقوع الموت.

من خلال هذه القرائن اللفظية تستبين معاني الألفاظ (جاء، أتى، حضر) على النحو التالي:

1ـ لفظ (جاء) لا يحتمل التأخير في وقوع الفعل زمنياً.

2ـ لفظ (أتى) تحتمل التأخير في وقوع الفعل زمنياً.

3ـ أما لفظ (حضر) يحتمل التأخير في وقوع الفعل زمنياً مع الإبهام.

فضلاً عن ذلك نجد ألفاظاً أخرى قد تميّز فيها النص القرآني من اختلاف المعنى ونعرفه بالقرائن التي أوحت لنا بالمعنى المناسب، فمن ذلك:

1ـ لفظة (الخشية) في قوله تعالى: (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء)(14) فهنا الخشية تعني وقوع المكروه على وجه القطع واليقين بقرينة العباد العلماء الذين يعرفون الله حق معرفته، فهم لا يؤمنون مكره إذا زاغوا أو انحرفوا عن الطريق السوي.

وكذلك قوله تعالى: (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة)(15) فالذي يخشون ربهم هم المؤمنون به عن يقين ومعرفة، فلا يجازفون بالمعصية لأنهم يعلمون بأن جزاءهم العذاب على وجه القطع واليقين.

2ـ لفظة (الخوف) في قوله تعالى: (فأصبح في المدينة خائفاً يترقب)(16) فهنا الخوف يعني وقوع المكروه على سبيل الظن، وذلك من خلال وجود القرينة (يترقب) والتي توحي بالحذر والريبة وعدم الأمان وذلك إن احتمال وقوع الأذى وارد.

وقوله تعالى: (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم ؟؟؟ بألسنة حداد أشحة على الخير)(17). والقرينة في هذا لفظة (ذهب) التي توحي بانزياح الأذى عنهم ووقوع الأمان في ساحتهم والرجوع إلى وضعهم الطبيعي وهذا ما أوحى لنا إن وقوع الأذى المكروه لم يكن على سبيل القطع وإنما على سبيل الظن. والله أعلم.

الهوامش:

(1) الصورة الفنية في المثل القرآني/ 253.

(2) سورة الحديد، الآية/ 14، 15.

(3) سورة هود، الآية/ 83.

(4) سورة المنافقون، الآية/ 11.

(5) سورة يس، الآية/ 20.

(6) سورة نوح، الآية/ 4.

(7) سورة النحل، الآية/ 1.

(8) سورة يونس، الآية/ 24.

(9) سورة الدخان، الآية/ 10.

(10) سورة يوسف، الآيات/ 47، 48، 49.

(11) سورة البقرة، الآية/ 18.

(12) سورة النساء، الآية/ 18.

(13) سورة النساء، الآية/ 8.

(14) سورة فاطر، الآية 28.

(15) سورة فاطر، الآية 18.

(16) سورة القصص، الآية/ 18.

(17) سورة الأحزاب، الآية/ 19.

المصدر: مجلة ينابيع – العدد 9

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*