“الدولة الإسلامية” بديلًا عن “داعش”.. لماذا؟

386
الإصرار على تداول تسمية "الدولة الاسلامية" لا يعدو أن يشكل إفصاحاً عن نزوع سافر لتوظيف إيديولوجية التوحش التي تنطلق منها ممارسات "داعش" وإسقاطها على متبنيات النظرية الاسلامية العامة
الإصرار على تداول تسمية “الدولة الاسلامية” لا يعدو أن يشكل إفصاحاً عن نزوع سافر لتوظيف إيديولوجية التوحش التي تنطلق منها ممارسات “داعش” وإسقاطها على متبنيات النظرية الإسلامية العامة

عباس البغدادي

لن يُعتبر ضرباً من الترف لو رصد المرء إصرار بعض وسائل الإعلام العربية والغربية على ليّ عنق الحقيقة في هذا المقطع الزماني الضاج بالأزمات والكوارث والحرائق، والتي مسرحها منطقتنا المنكوبة، حيث التعامل المغرض مع الخبر أو التحليل أو المصطلح أو الأرقام لن يكون بأقل خطورة من تعريض أرواح البشر للمخاطر، أو تعريض السلم الأهلي للتشظي، وذلك بأدوات وأساليب ظاهرها إعلامي، وباطنها خدمة أجندات سادرة في استثمار زخم الارهاب الذي يعصف بالمنطقة، أو ربما هي امتداد له أو متواطئة معه بشكلٍ أو بآخر!

ودرءاً للتشعب في الأمر، في الإمكان هنا تسليط بعض الضوء على إصرار حزمة من وسائل الإعلام، وبالذات البارزة منها(بتنوعها المرئي والمسموع والمطبوع) على تداول تسمية تنظيم “الدولة الاسلامية” بدلاً عن “داعش”، وذلك أثناء تناولها للمواضيع ذات الصلة بهذا التنظيم الإرهابي. وما يثير الاستغراب هو ان بعض تلك الوسائل الإعلامية تداولت مصطلح “داعش” قبل سقوط الموصل بقبضة التنظيم، وبعده بفترة وجيزة استعاضت عنه بمصطلح “الدولة الاسلامية” واستمرت عليه!

وفي رصد ذات صلة بالموضوع تبين ان إصرار تلك المؤسسات الإعلامية على تداول تسمية “الدولة الاسلامية” عوضاً عن “داعش” قد برز بعد إعلان التنظيم الإرهابي مباشرة عن “دولة الخلافة” في أواخر حزيران 2014، وبالذات حينما استبدل التنظيم التسمية رسمياً من تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” والذي يُطلق عليه اختصاراً “داعش”، الى تنظيم “الدولة الاسلامية” قبيل ذلك الإعلان المشؤوم عن الدولة المزعومة، وإثرها استمر تداول التسميتين للتنظيم في وسائل الإعلام والمحافل السياسية. وبموازاة ذلك كانت ذات المؤسسات ماضية (وبإدراك وتلذذ واضحين) في التمسك بتسمية “الدولة الاسلامية”، محمّلة بأوراق الأجندات الموجهة ضد العالم الاسلامي، أو تلك المنغمسة بالشحن الطائفي، وجلّها متساوقة مع مخططات “الفوضى الخلاقة” الجارية فصولها في المنطقة! ويمكن القول ان التمسك بتلك التسمية هو جزء من سياق عمل يوظف مصطلحات مفخخة ومحمّلة بالكثير من المتبنيات لتلك المؤسسات، لا زالت تستخدمها دون أدنى رعاية للضوابط “المهنية أو الموضوعية”، وهي الضوابط التي تتبجح بها حينما يتم إدانتها لدى الإصرار على استخدام تسمية “الدولة الاسلامية” بدلاً عن “داعش”!

تقنياً، جاء مصطلح “داعش” اختصاراً لتسمية التنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” قبل تغيير التسمية كما سلف، واللافت ان المصطلح أحرز على وقع سلبي وازدراء (ربما عفوي) في الوسط العربي، لقرب اللفظة من “داعِس” التي هي اسم فاعل للفعل “دَعس”، كما استمدت بُعدها السلبي وعمقها لارتباطها بالفجائع والفضائع الهمجية للتنظيم، ولسهولة تداول المصطلح، إضافة الى انغرازه في الوجدان الشعبي (المنكوب بإرهاب هذا التنظيم المتوحش) بأنه اختصار يسير و”وصمة” يمكن أن يوصف بها التنظيم، خصوصاً وأن الدواعش يستشيطون غيظاً من هذه التسمية، بل ويبلغ هذا الغيظ الى حدّ قتلهم البعض بسبب تداولهم لهذه التسمية! وهذا ما عزّز تطبيع هذه التسمية/ المصطلح ولفترة طويلة عبر التداول المكثف في وسائل الإعلام العربية والمحافل السياسية (ما عدا وسائل الإعلام الموالية للإرهاب أو متواطئة معه)، دون أن يؤشر ذلك على “المساس بالمهنية والموضوعية الإعلامية” أو يمثل خروجاً عن القواعد الإعلامية المتبعة!

وتحت سقف الإصرار على التمسك بتداول تسمية “الدولة الاسلامية” بدلاً عن “داعش”، يمكن أن يلتقي -مثلاً- الفلسطيني “عبد الباري” عطوان” مع المتطرف الصهيوني الأميركي “توماس فريدمان” واللبناني “جهاد الخازن” ورئيس الوزراء التركي “داوود أوغلو”، وجميعهم يلتقون مع الإعلام الإسرائيلي وقناة “الجزيرة” مع “العربية”، إضافة الى “بي بي سي العربية” و”سي ان ان العربية” وقناة “24 ساعة” الفرنسية باللغة العربية، وقناة “الحرة” الأميركية أو قناة “دويتشه فيله” الألمانية بنسختها العربية، ولفيف آخر من وسائل الإعلام والإعلاميين! وحينما يواجه هؤلاء بالسؤال عن السبب الكامن وراء تمسكهم بتداول تسمية “الدولة الإسلامية” عوضاً عن داعش، يتشدقون بأن “الالتزام بالقواعد المهنية والتناول الموضوعي” يفرض مثل هذا التداول! وهذا الزعم يتهافت تلقائياً لو علمنا ان أغلب هؤلاء لم يكونوا يلتزمون بتلك “القواعد المهنية والتناول الموضوعي” لأنهم استخدموا من قَبل تسمية “داعش”، وأيضا هم يدوسون على تلك “القواعد المهنية” حينما يتم تداول مسميات أخرى لا تطابق التسمية الأصل، بل “تطابق” مناورة هؤلاء ودوافعهم في توظيف ما يشاؤون من المصطلحات والتسميات والأوصاف كبديل موازٍ، والأمثلة على تلك المصطلحات او التسميات المفخخة أكثر من أن تحصى، فمنها استخدام مصطلح “جيش المالكي” عوضاً عن “الجيش العراقي” إبان ولاية نوري المالكي وبعدها، أو الميلشيات الشيعية” بدلاً عن “هيئة الحشد الشعبي”، أو “ميليشيات الحوثيين” بدلاً عن “حركة أنصار الله”، و”جيش بشار الأسد” عوضاً عن “الجيش السوري”، كما يتم الإصرار من قبل أغلب من شملتهم العيّنة السالف ذكرها، ومعهم الكثير من وسائل الإعلام (التي تطرقنا اليها) على تسمية “جيش الدفاع الإسرائيلي” عوضاً عن “الجيش الاسرائيلي”! ومثل هذه الالتواءات القسرية يعج الإعلام بالكثير منها مما لا طاقة لهذه السطور بحصرها!

أما المفارقة في الأمر، فهي في الوقت التي يتشبث من تم التطرق اليهم من الإعلاميين ووسائل الإعلام بذريعة “القواعد المهنية والموضوعية” حين يصرّون على تداول تسمية “الدولة الاسلامية” على التنظيم الإرهابي، فهم يقرّون ان هذا التنظيم يستهدف بكل علنية ووحشية وسائل الإعلام والإعلاميين الذين لا يتبنون أهدافه ومقولاته، وقد مارس ذلك عملياً حين استهدف الصحفيين قتلاً وذبحاً منذ اشتداد سطوته بعد نشوب الحريق السوري وسقوط الموصل!

لقد بات واضحاً ان الإصرار على تداول تسمية “الدولة الاسلامية” لا يعدو أن يشكل إفصاحاً عن نزوع سافر لتوظيف إيديولوجية التوحش التي تنطلق منها ممارسات “داعش” وإسقاطها على متبنيات النظرية الاسلامية العامة، والتي تشمل في بعض أوجه الإجتهادات إقامة “الدولة الاسلامية” المنفتحة على معطيات الراهن المعاصر، والتي لا تمت بتاتاً بصلة لطبيعة التسمية (المنتهكة) التي تَسمّى بها التنظيم الإرهابي التكفيري واستباحها عبر مسخها كليّاً!

كما ان ذلك الإصرار يُعد محاولة مفضوحة لحشر الاسلام في قفص الاتهام، باعتباره أصلاً لمصطلح “الدولة الاسلامية”، وتصويره (وهو الدين السماوي، والمنهج المتكامل للحياة) على انه يرفد الارهاب التكفيري بمسوغات العنف وإبادة الآخر من منظور عقائدي متزمت، وبذريعة ان التطبيق العملي الحديث لمخرجات نظرية “الدولة الاسلامية” هو قائم الآن من خلال “دولة الخلافة” الداعشية! ووفق هذا الزعم يسعى البعض على التمسك بتسمية التنظيم الإرهابي بـ”الدولة الاسلامية” لجعل المقاربة قائمة دوماً بين إيقاع هذه التسمية (المستندة الى ذريعة المهنية والموضوعية طبعاً)، والمفهوم المشوَّه لنظرية “الدولة الاسلامية” كنظرية؛ بل والإسلام عموماً! وعلى رغم تعسف وعدوانية هذه المقاربة (المستترة)، فإنها تجافي الحقائق ومنطق الأمور، وكذلك ثوابت الاسلام ومقاصد الشريعة السمحاء.

لقد فطن جمهور كبير من الإعلاميين والمثقفين والسياسيين ورجال الفكر مؤخراً الى خطورة تداول تسمية “الدولة الاسلامية”، وسخّفوا ذريعة “المهنية والموضوعية” التي يتشدق بها الطرف الآخر (الملتزم بالتسمية)، لأن لكل قاعدة استثناء، خصوصاً وان استخدام الاختصارات شائع إعلامياً.. وفي وضع مشابه تم -الى حدّ ما- إبطال مفخخة مصطلح “الارهاب الاسلامي” الذي أُريد له أن يكون مصطلحاً يفضي (كبوابة) الى تأكيد واقعيته في الواقع الدولي المضطرب، حيث كانت الذريعة التي تقف وراء المصطلح بأن من يمارس الارهاب (غير الرسمي) اليوم هم تنظيمات ومجاميع ترفع شعار الاسلام، وكانت النية من وراء تعميمه محاولة وصم مليار ونصف المليار مسلم بأنهم إرهابيون! وفي هذا الإطار علت أصوات كثيرة تطالب بعدم تداول تسمية “الدولة الاسلامية” حينما يتم التطرق الى التنظيم الإرهابي “داعش”، بما تشكل هذه التسمية من تجني وعدوان عظيمين على الاسلام والمسلمين، وفي بُعد آخر يمكن اعتبارها إقراراً بأن التنظيم الإرهابي هو بالفعل يقيم “الدولة الاسلامية” ويطبق تعاليم الاسلام، كما يمثل جميع المسلمين!! ومن يعاديه فكأنما يعادي الاسلام وقيمه وتعاليمه!

فهل نضم صوتنا مع هذه الأصوات ونصّر بأن “داعش” تنظيم يدير التوحش بأقصى درجاته، ويشكل عدواناً على الاسلام والمسلمين والبشرية، ولا يمثل إطلاقاً “الدولة الاسلامية” التي تَسمّى بها زوراً وعدواناً ؟

ض ح

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*