الغرق يهدد مجتمعات أسسها الأفارقة جنوبي الولايات المتحدة

611

الحكمة – متابعة: بامتداد سواحل وجزر الجنوب الأمريكي، ما بين ولايات كارولينا الجنوبية، وجورجيا، وفلوريدا، توجد مجتمعات أسسها أفارقة تحرروا من الرق، ولها إرث ثري، وإن بات مهددا بالغرق جراء التغير المناخي. إنها مجتمعات الـ “غولا غيتشي”.

على أحد دروب جزيرة سانت هيلينا بولاية كارولينا الجنوبية، قطعت سيارة السيد إلتينغ باستر سمولز الطريق بين الحقول الخضراء بصحبة أولاده في صيف عام 1974، حين تكاثرت غلة المزرعة بامتداد عشرين فدانا، وقد توارثتها الأسرة أحفادا عن أجداد منذ أواخر القرن التاسع عشر.

وكان الأجداد من العبيد المحررين وآخرين هربوا من الرق بعد جلبهم من موطنهم الأصلي في غرب أفريقيا. يومها حمل أفراد أسرة سمولز سلال المن والفول وقصب السكر والسمك الذي جاد به النهر إلى أعتاب من طال بهم العمر من سكان المنطقة، وباتوا غير قادرين على تكبد عناء العمل بالحقول.

واليوم وبعد مرور نحو نصف قرن منذ ذلك اليوم، الذي علم فيه إلتينغ صغيرته فيكتوريا سمولز تقاليد مجتمعهم، لم يعد كثيرون من أبناء هذا المجتمع، المعروفون باسم الـ”غولا غيتشي”، يعملون بالزراعة، فالأرض، كما نمط حياة من على ظهرها، باتت مهددة جراء التغير المناخي.

تربت فكتوريا، وهي الثالثة عشرة في ترتيب الأبناء الأربعة عشر لإلتينغ وزوجته لورا، في مجتمع “الغولا” وهي الكلمة التي لم تدركها حتى سن الجامعة في أوائل التسعينيات.

وبالنسبة لفيكتوريا لم تكن ثقافة مجتمعها ثقافة غامضة منعزلة كما رآها من بالخارج، بل كانت بيئة ألفتها منذ نعومة أظافرها. وفي القرن الحادي والعشرين، أصبحت ثقافة الغولا غيتشي، ذات السمات الأفريقية بالجنوب الأمريكي، مثار اهتمام الأكاديميين والسائحين، فضلا عن الطامعين في الاستفادة من الأرض.

ولاحقا، انتقلت فيكتوريا من سانت هيلينا إلى تشارلستون في كارولينا الجنوبية للعمل في مشروع المتحف العالمي للأفارقة الأمريكيين والذي سيسلط الضوء عند افتتاحه عام 2020 على الأهمية التاريخية العالمية لكارولينا الجنوبية، ويبرز الدور الذي لعبه الأفارقة المستعبدون والأحرار من السود في تشكيل الولايات المتحدة.

وتعود أصول الغولا غيتشي إلى الأفارقة الذين استجلبوا كرقيق من وسط وغرب أفريقيا إلى الأراضي المنخفضة المتاخمة للمحيط بالجنوب الأمريكي للعمل في حقول الأرز لمعرفتهم بهذا النوع من الزراعات وسبل ريها.

وبعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية عام 1865، أصدر الجنرال الاتحادي ويليام تي شيرمان أوامر بتخصيص 400 ألف فدان من الأراضي بمحاذاة سواحل الجنوب الأمريكي من كارولينا الجنوبية وحتى فلوريدا لأسر العبيد الذين حرروا لتوهم بواقع 40 فدانا لكل أسرة.

وبامتداد 12 ألف ميل مربع فيما عرف بـ”قطاع غولا غيتشي”، نشأت مجتمعات منعزلة ذات إرث خاص بالسواحل والجزر، أغلب سكانها من السود بنسب لا تقل عن 90 في المئة.

وفي بيئة الغولا غيتشي يدين السكان بمزيج من المسيحية والمعتقدات الأفريقية، ما انعكس على ما تعلمته فيكتوريا منذ صغرها، كاحترام الطبيعة والكبار، والمجتمع لحد التقديس.

كما تناقل السكان الحرف الأفريقية اللازمة، ومنها الصيد التقليدي بالشباك وبناء القوارب المسطحة التي تقول فيكتوريا إنها استمدت من النماذج الموجودة بغرب أفريقيا وأدخلت عليها تعديلات حتى يسهل التنقل بها عبر السواحل وفي الممرات المائية الضحلة.

بالإضافة إلى حياكة القماش في أشكال ملونة بهية تأثرت بصناعة الأغطية الأوروبية في جلسات أمضت فيها نساء الغولا غيتشي الوقت الكثير يتجاذبن الحديث أثناء الخياطة.

ينحدر "الغولا غيتشي" من العبيد الأفارقة المحررين الذين استوطنوا مناطق بساحل جنوب الولايات المتحدةينحدر “الغولا غيتشي” من العبيد الأفارقة المحررين الذين استوطنوا مناطق بساحل جنوب الولايات المتحدة

تقول فيكتوريا: “لم يكن هناك جسر يربط الجزيرة (سانت هيلينا) بالبر حتى عام 1939، وكانت الجزيرة أشبه بحاضنة لثقافتنا ولغتنا، والتي لا تكاد تسمعها الآن، ولكن حين كنت صغيرة كانت لهجتي مختلفة تماما عن الحديث خارج الجزيرة”.

وتوصَف لغة الغولا غيتشي بأنها لهجة هجينة نتجت عن تأثيرات من تجار الرقيق الأوروبيين وملاك العبيد، فضلا عن مجموعات أفريقية شتى.

تقول فيكتوريا: “كانت ناحية بوفورت لا تبعد أكثر من سبعة أميال عنا، وحينما كنت في الرابعة والخامسة وحتى العاشرة من عمري كان الناس هناك يضحكون على حديثي، ومنهم السود من الغولا غيتشي أيضا. نشأتي في جزيرة سانت هيلينا كانت من الروعة والتميز سواء في اللغة أو أسلوب الحياة في الجزيرة، والزراعة، والاستفادة بالمياه، والترابط المجتمعي، وهو ما يختلف تماما على بعد سبعة أميال في الجهة المقابلة”.

واليوم تغيرت الصورة لمجتمع الغولا غيتشي، فبدلا من اعتباره مجتمعا متخلفا بات يحتَفى بهويته، سواء من جانب الأكاديميين أو من أبناء الثقافة نفسها. ومع ذلك أصبح مجتمع الغولا غيتشي مهددا بالزوال.

يقول ألبرت جورج الثاني، مدير قسم الحفاظ على التراث بالمعهد المائي لكارولينا الجنوبية، وقد تربى هو نفسه في مجتمع الغولا غيتشي، إن الأفراد الذين يقطنون المناطق الأكثر انعزالا مثل جزيرة سانت هيلينا مازالوا يعتمدون على الزراعة المحدودة، ويقتاتون من غلتها، ومن صيد الأسماك بالمياه القريبة، أكثر من اعتمادهم على المحال التجارية.

ولكن بسبب التغيرات البيئية، كارتفاع مياه البحر والنحر الناجم عن المياه المالحة، أصبح هذا الاتصال المباشر بالأرض أكثر صعوبة”.

فالقريدس مثلا والذي يعد مكونا أساسيا في الكثير من المأكولات الشائعة بين الغولا غيتشي بمختلف أنحاء الجنوب الأمريكي، أصبح أقل توافرا، إذ يحتاج “إلى مستوى معين من الملوحة في الماء، وكذلك المحار لم يعد قادرا على التكاثر بنفس الدرجة”، حسبما يقول جورج الثاني.

ويلخص جورج الثاني الأمر بأن مجتمع الغولا غيتشي “يشهد تغيرات تمس بيئته الطبيعية والمائية حتى كاد التغير المناخي يأتي على قرون من الثقافة بما فيها ثقافة الغذاء”.

بفعل الجغرافيا نشأت بيئات منعزلة بالسواحل والجزر في ما يعرف بـ"قطاع الغولا غيتشي"بفعل الجغرافيا نشأت بيئات منعزلة بالسواحل والجزر في ما يعرف بـ”قطاع الغولا غيتشي”

ويضيف: “في بعض المناطق بطول القطاع بدأت التربة تنخفض بسبب التغير المناخي ومشروعات التطوير العمراني كما هو الحال في شبه جزيرة تشارلستون، حتى إن الأرض بدأت تغرق في تلك المناطق”.

ومع ذلك يحرص جورج على ألا تذهب ثقافة الغولا غيتشي هباء منثورا، لقد كان والده متمسكا بشدة بتلك الثقافة ويوما قال له: “دون الأرز لا يوجد طعام” باعتبار هذا المحصول أساسيا على المائدة هناك، وهو المحصول الذي انتهت زراعته في أغلب مناطق القطاع. وقد أسس جورج مبادرة سماها مبادرة التوعية بالمناطق الساحلية.

وتهدف تلك المبادرة لتعزيز التواصل بين الغولا غيتشي والجهات المحلية والبلدية والمسؤولين بالمقاطعة وإدارة الولاية ومجتمع الأعمال، ويأمل مؤسسها في أن يمهد ذلك لخطة طويلة الأجل للحفاظ على أرض وثقافة الغولا غيتشي في مواجهة التغير المناخي الذي ربما كان أخطر ما يتهدد العالم حاليا.

تقول فيكتوريا إنه منذ ضرب إعصار ماثيو جزيرتها في أكتوبر/تشرين الأول عام 2016 أصبحت الفيضانات مشكلة كبيرة ويتجاوز خطرها فترة الأعاصير، بل يصبح الجسر الذي يربط الجزيرة بالناحية المقابلة مغمورا خلال المد، ومع هطول الأمطار الغزيرة، حتى يتعذر الاتصال بالبر وتتلف محاصيل كثيرة.

ويقول موريس بايلي أحد سكان جزيرة سابيلو وهي آخر ما تبقى من مجتمعات الغولا غيتشي في ولاية جورجيا “لم يبق لنا إلا الاسم”.

والآن ليس بمقدور السكان في سابيلو الاعتماد على الزراعة وحدها، وكثيرون تركوا الجزيرة للعمل خارجها أو للزواج، فأغلب من تبقى بالجزيرة تربطهم صلات قرابة وثيقة.

أحد المزارعين من الغولا غيتشيلم يعد بمقدور الغولا غيتشي الاعتماد على الزراعة كما كان الحال قبلا جراء التغيرات التي لحقت ببيئتهم

ويتزعم بايلي جهدا يرمي لغرس عشرة فدادين من المزروعات، والعمل بالمناحل حتى يتمكن سكان سابيلو من كسب الرزق وبيع منتجاتهم بأسواق الجهة المقابلة.

وحتى الآن زرع السكان نوعا من قصب السكر والبقوليات التي تشبه البازلاء وتصغرها حجما، وقد جاءت بذورها من أفريقيا وتدخل في إحدى الأكلات التقليدية للغولا غيتشي.

وحين كان بايلي صبيا كان عدد السكان بجزيرة سابيلو يقارب 300، واليوم يقول إنه لم يبق إلا 29 شخصا من الغولا غيتشي.

ومازالت بعض التقاليد باقية كتناول الطعام التقليدي عشية العام الجديد، والاشتراك في الزراعة والتحلق حول النار ليلا، ولكن هناك أيضا تقاليد أخرى عزيزة اندثرت مثل ترك سلال الطعام على عتبة الجار.

تقول فيكتوريا إنه قبل أن يموت ابنها قبل أربع سنوات عن عمر السادسة عشرة، وأثناء مرضه “ترك أحدهم كيسا من الخضر الجميلة على عتبة بيتي دون أن أعرف من الفاعل”.

كانت فيكتوريا ما تزال تعيش بجزيرة سانت هيلينا وجاءت تلك الهدية لتذكرها بماضيها وبجذورها وبوالدها إلتينغ الذي توفي عام 1992 بعد أن ترك لأنجاله إرثا من الحب والترابط.

لكن مع التغير المناخي بات ينضب هذا الإرث، ولكن أفرادا مثل فيكتوريا وجورج وبايلي يبذلون ما بوسعهم للحفاظ على إرثهم.

تقول فيكتوريا: “يوما ما سنرحل جميعا، وسنفقد إرثنا. ولكننا شعب صلب، لقد حافظنا على الكثير من جذورنا الأفريقية وقد ننجح في الحفاظ على بعض من جوانب ثقافتنا بين راحتينا، كما حمل بعضهم بذورا من غرب أفريقيا على متن سفن أخذتهم بعيدا”.

يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*