زخرفة المصاحف..من فواصل الآيات إلى فنّ رفيع

622
مخطوط قرآني من القرن 16م (Getty)
مخطوط قرآني من القرن 16م (Getty)

محمد عبد القادر الفقّي

الحكمة – متابعة: لا تتوافر لدينا معلومات دقيقة لتحديد تاريخ ظهور العناصر الزخرفية في المصاحف، لكننا نعلم أن من أوائل هذه العناصر وضعُ نقاط سود ثلاث لتكون فواصل بين الآيات، ثم بدأ المزخرفون يضعون بين كلّ 5 آيات دائرة، يكتبون فيها رأس حرف الخاء. ثم جعلوا بعد كلّ 10 آيات دائرة، كتبوا فيها رأس حرف العين، وسمّيت هذه الزخرفة بالتعشيرات. وأخذت تلك الفواصل تتنوّع فأصبحت تمثّل خطوطاً رفيعة، أو نقاطاً تزيد عن سابقها، أو على شكل زهور صغيرة.

في مرحلة لاحقة، أدخلت زيادات زخرفية ملوّنة، على شكل إطارات في الفواصل الموجودة بين السور القرآنية، أو على حواشي الصفحات، أو حاويات أرقام الآيات والأحزاب والسجدات. ومع الوقت تطوّرت فواصل السور، فبدأ نسّاخ المصاحف يتركون فراغاً واسعاً بين السور، مما سهّل على الفنّانين الآخرين ملء الفراغات بنماذج زخرفية.

وفي أوّل الأمر، كانت زخرفة تلك الفواصل على شكل خطوط مستقيمة، أو منكسرة، أو بصورة حلقات مكرّرة غير منتظمة. ومن أقدم المصاحف التي تتضمن زخرفة في الفواصل بين السور: مصحف جامع الحسين في القاهرة، الذي يرجّح أنه يرجع إلى النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري، إذ يشغل الفراغَ الواقع بين كلّ سورتين شريطٌ مزخرف، تظهر في آخره وريقات مزهّرة، ولا يكاد شريط يتطابق زخرفياً مع شريط آخر، فكلّ واحد منها يمثّل لوحة فنية بديعة.

كما تحتفظ مكتبة متحف “طوب كابي” في اسطنبول بنسخة من مصحف آخر مكتوب بالخطّ الكوفي القديم، ويرجّح أنه يرجع إلى أواخر القرن الهجري الأول. وقد تنوّعت فواتح السور في هذا المصحف تنوّعاً كبيراً من حيث شكل الزخرفة التي تشغل الفراغ الكائن بين السورتين، فلكل شريط زخرفته.

عصر الزخرفة الذهبي

في العصر العباسي (132 – 656 هجرية)، أبدعت قريحة الخطّاطين المسلمين، فابتكروا أساليب جديدة في الزخرفة مستوحاة من الأشكال النباتية والهندسية. وبدأ الفنانون في تزيين الصفحات الأولى والأخيرة للمصاحف بزخارف جميلة، كما ظهرت العلامات الهامشية. وثمة نصف مصحف في دار الكتب المصرية مكتوب بخط كوفي، يعود إلى القرن الثالث الهجري، وقد فُصِل فيه بين كل سورتين بإطار مزخرف كتب فيه اسم السورة وعدد آياتها.

علماً أنّ دار الكتب المصرية في القاهرة، تحتوي إحدى أهمّ قاعات التاريخ والفنون الإسلامية في العالم الإسلامي، وهي “قاعة القرآن الكريم”، التي تضمّ مجموعةً من أندر وأجمل المصاحف الشريفة.

وتحتفظ مكتبة جستربتي بمدينة دبلن الإيرلندية بمصحف كتبه الخطاط الشهير “ابن البواب”، في أواخر القرن الرابع الهجري. وفي هذا المصحف ألحق بجانب اسم السورة دائرة مزهرة مزخرفة بالألوان.

وفي القرن الخامس الهجري، اتخذت الزخارف القرآنية شكل إطارات زخرفية تحيط بالمساحة المكتوبة من الصفحة. ثم أصبحت الفواصل بين السور على شكل مستطيلات مذهبة وملونة تمتد بطول الأسطر المكتوبة بالآيات القرآنية، وتنتشر بداخلها زخارف دقيقة وأشكال هندسية ثابتة ملونة ومذهبة.

وكان تلوين وتذهيب المصاحف يتمّ بشكل محدود، للأشرطة ولعلامات الأجزاء والسور، التي زيّنت بالجدائل والأشكال المتشابكة، أو رسوم هندسية من دوائر أو أجزاء من دوائر أو مربعات صغيرة متداخلة، أما فواصل الآيات القرآنية فكانت في معظمها عبارة عن دوائر، وعلامات الأجزاء دوائر في داخلها مربعات، تكوّن أشكالاً نجمية.

وقد استخدمت الألوان الذهبية والزرقاء والخضراء، وأحياناً الحمراء أما الرسوم فقد حدّدت باللون الأسود.

واعتباراً من القرن السابع الهجري فما بعده، صارت الزخرفة والتذهيب هي الصفات الرئيسية لتحلية مقدمات المصحف ووسطه وآخره. وتحتفظ مكتبة جامعة برنستون الأميركية بمصحف كتبه شمس الدين عبد الله، عليه وقفية مؤرخة بسنة 1175 هـ. ولعل أبرز ما في هذا المصحف هو أن الإطار المزخرف فيه قد اتخذ شكلاً موحّداً تقريباً.

وفي إيران بلغ فن تزيين جلود المصاحف بالزخارف المفرغة أوج عظمته في القرن التاسع الهجري، وذلك على أيدي مجلِّدين من مدرسة هراة، التي أنتجت أفخر المخطوطات ذات الزخارف المذهبة، وكل ذلك بفضل مدارس الفنون التي أنشأها خلفاء تيمورلنك من بعده، لا سيما ابنه شاه رخ وحفيده بايسنقر.

وتطورت أيضا طريقة تنفيذ الزخارف على أغلفة المصاحف باستخدام طريقة القالب، وهو صفحة من المعدن تزخرف بالزخارف المطلوبة، وتسخن بالحرارة ثم تكبس على الجلدة فتحدث زخارف بارزة. وتعتبر جلود المصاحف الإيرانية، التي صنعت في العصر التيموري من أبدع ما أنتج في هذا الفن. ويمتاز ما صنع منها في مدرسة هراة بدقة صناعته وجمال رسومه وقمة إتقانه. وبحلول القرن 16 م، استمرّ الإبداع الفني في إنتاج جلود المصاحف في العصر الصفوي، وتفوقت الزخرفة في هذا العهد باستخدام الذهب، وكانت الزخارف تغطي سطح المصحف كله في بعض الأحيان.

وتُعَدُّ أغلفة المصاحف التي تحتفظ بها مكتبة رئاسة الجمهورية بطهران من أجمل وأقدم أغلفة المصاحف، وهي تمثل قمة الإبداع والفن في غلاف المصحف الشريف. وتحتفظ خزائن المخطوطات في جامعة طهران بأغلفة مصاحف نادرة موشاة بالألوان النباتية ومطلية بمادة اللك، وتعود إلى قرون مختلفة من القرن الرابع الهجري وحتى القرن الحادي عشر الهجري. واللك (اللاكيه) هو طلاء (ورنيش) يطلى به غلاف المصحف المراد للنقش عليه بمختلف الزخارف والرسوم، ويصقل الغلاف بعدة طبقات من هذا الطلاء حتى يصبح من اللمعان إلى شكل الزجاج، وقد برع فيه الصفويون.

ولم يترتّب على طباعة المصاحف تغيير واضح في الأطر المزخرفة لفواتح السور سوى أنّها أصبحت على نمط واحد، بعد أن كان كل إطار منها يمثل لوحة فنية مستقلّة.

اعتباراً من القرن الثالث الهجري كانت كتابة المصحف الشريف وزخرفته وتذهيبه وتجليده تستغرق أكثر من سنة كاملة. وللقيام بكل ذلك كان الأمر يتطلب العمل بروح الفريق الواحد، فيشترك أكثر من فنان في إنجاز مخطوطة المصحف.

وكان الخطاط بعد كتابة المخطوطة يترك في بعض صفحاتها فراغا ليقوم متخصّص في فن الزخرفة برسم الأشكال النباتية والهندسية، التي تزين مختلف صفحات القرآن بالزخارف.

ثم تدفع المخطوطة فور الانتهاء من زخرفتها إلى فنان آخر، يُعرف بالمذهِّب، ليقوم بتذهيب هوامش المخطوطة وصفحاتها الأولى والأخيرة وبدايات السور وعناوينها. ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي التجليد. وقد أبدع الفنانون المسلمون في تجليد المصاحف، وعادة ما كان يشترك المزخرف والمذهب مع المجلد في تزيين جلدتي المصحف، فكانوا يتفننون في جماليات الزخرفة والتلوين والتذهيب عليها.

وفي القرن الرابع الهجري زخرفت أغلفة المصحف من الخارج والداخل.

وقد وصلت أغلفة المصاحف أوجها في العصر المملوكي، وعرف المجلدون في هذا العصر طرقا مبتكرة في الرسم على الجلد، وزخرفته، إذ يمتاز تجليد المصاحف التي ترجع إلى ذلك العصر بتغطية جلدتي المصحف بزخارف هندسية متشابكة تزيد رونقها نقاط ذهبية مضغوطة.

واتسمت صناعة جلود المصاحف في بلاد المغرب بإضافة أشكال الأزهار المختلفة، كما أضيفت إليها زخارف هندسية متشابكة مضغوطة بالذهب.

(العربي الجديد)

س ف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*