الكتاب: اقتصادنا
المؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الجزء:
الوفاة: ١٤٠٢
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: مكتب الإعلام الإسلامي - فرع خراسان
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤٢٥ - ١٣٨٢ش
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب قم ( مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي )
ردمك:
ملاحظات: دفتر مركزى: قم ، خ شهدا ( صفائيه ) مؤسسه بوستان كتاب قم ، ص پ ٩١٧ ، تلفن : ٧٧٤٢١٥٥ ، نمابر : ٧٧٤٢١٥٤ / فروشگاه مركزى : قم ، چهار راه شهدا ( محل عرضه ١٢٠٠٠ عنوان كتاب با همكارى بيش از ١٧٠ ناشر ) ، تلفن : ٧٧٤٣٤٢٦ / فروشگاه شماره ٢ : تهران ، خ انقلاب ، خ فلسطين جنوبي ، كوچه دوم ( پشن ) ، پلاك ٣ / ٢٢ ، تلفن : ٦٤٦٠٧٣٥ / فروشگاه شماره ٣ : مشهد ، خ آية الله شيرازي ، كوچه چهار باغ ، انتشارات دفتر تبليغات اسلامى شعبه خراسان ، تلفن : ٢٢٥١١٣٩ / فروشگاه شماره ٤ : اصفهان ، خ حافظ ، چهار راه كرمانى ، گلستان كتاب ( دفتر تبليغات اسلامي شعبه اصفهان ) ، تلفن : ٢٢٢٠٣٧٠ / پست الكترونيك : E-Mail:bustan@bustaneketab.com / جديدترين آثار مؤسسه و آشنائى با آن در وب سايت : www.bustaneketab.com

بسم الله الرحمن الرحيم
1

موضوع:
اقتصاد
گروه مخاطب:
تخصصي
شماره كتاب: 332
مسلسل انتشار: 2230
صدر، محمد باقر، 1931 - 1979 م.
اقتصادنا / تأليف السيد محمد باقر الصدر: تحقيق مكتب الإعلام الإسلامي - فرع خراسان. - قم: بوستان كتاب قم (انتشارات دفتر تبليغات اسلامي حوزه علمية قم) ق. = 1375.
924 ص. - (بوستان كتاب قم: 332. كتاب هاى دفتر تبليغات اسلامي شعبه خراسان: 2)
40000 ريال: ISBN 964 - 371 - 533 - 7
فهرست نويسى بر أساس اطلاعات فيپا.
پشت جلد به انگليسى:
sryyed mohammad Baqer sadr eqtesadona our Economy
عربي.
كتابنامه: ص {905} - 924: همچنين به صورت زير نويسى.
چاپ دوم: 1424 ق = 1382.
1. اسلام واقتصاد. 2. اقتصاد تطبيقي. الف. دفتر تبليغات اسلامي حوزه علمية قم - شعبه خراسان.
ب. دفتر تبليغات اسلامي حوزه علمية قم. بوستان كتاب قم. ج. عنوان
7 الف 4 ص 2 / 230 BP 4833 / 297
1382
2

كتاب هاى دفتر تبليغات اسلامي شعبة خراسان / 2
اقتصادنا
تأليف
الشهيد السعيد محمد باقر الصدر (ره)
تحقيق
مكتب الإعلام الإسلامي - فرع خراسان
بوستان كتاب قم 1382
3

بوستان كتاب قم
اقتصادنا
المؤلف: الشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر رحمه الله
تحقيق: مكتب الإعلام الإسلامي _ فرع خراسان
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب قم (مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي)
الطبعة: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الثانية / 1425 ق، 1382 ش
الكمية: 3000، السعر: 4000 تومان
تمام حقوق محفوظ است
printed in the islamik republic of iran
دفتر مركزي: قم، خ شهداء (صفائية) مؤسسة بوستان كتاب قم، ص پ 917، تلفن: 7742155، نمابر: 7742154.
فروشگاه مركزي: قم چهار راه شهداء (محل عرضه 12000 عنوان كتاب با همكارى بيش از 170 ناشر) تلفن: 7743426.
فروشگاه شماره 2: تهران خ انقلاب، خ فلسطين جنوبي، كوچه دوم (پشن)، پلاك 3 / 22، تلفن: 6460735.
فروشگاه شماره 3: مشهد خ آية الله شيرازي، كوچه چهار باغ، انتشارات دفتر تبليغات اسلامي شعبة خراسان، تلفن 2251139.
فروشگاه شماره 4: أصفهان، خ حافظ، چهار راه كرماني، گلستان كتاب (دفتر تبليغات اسلامي شعبه أصفهان)، تلفن: 222037.
پست الكترونيك: E - mailv: bustaneketab. com
جديد ترين آثار مؤسسة وآشنايى با آن در وب سايت:
http: / www. bustanektab. com
4

مع الماركسية
نظرية المادية التاريخية
1 - تمهيد
2 - النظرية على ضوء الأسس الفلسفية
- النظرية بما هي عامة
4 - النظرية بتفاصيلها
المذهب الماركسي
1 - الاشتراكية
2 - الشيوعية
51

نظرية المادية التأريخية
1 - تمهيد
حين نتناول الماركسية على الصعيد الاقتصادي، لا يمكننا أن نفصل بين وجهها المذهبي، المتمثل في الاشتراكية والشيوعية الماركسية. ووجهها العلمي المتمثل في المادية التاريخية، أو المفهم المادي للتاريخ، الذي زعمت الماركسية أنها حددت فيه القوانين العلمية العامة، المسيطرة على التاريخ البشري واكتشفت في تلك القوانين النظام المحتوم لكل مرحلة تاريخية من حياة الإنسان، وحقائقها الاقتصادية المتطورة على مر الزمن.
وهذا الترابط الوثيق بين المذهب الماركسي، والمادية التاريخية، سوف ينكشف خلال البحوث الآتية أكثر فأكثر إذ يبدو في ضوئها بكل وضوح، أن الماركسية المذهبية، ليست في الحقيقة إلا مرحلة تاريخية معينة، وتعبيرا محدودا نسبيا عن المفهوم المادي المطلق للتاريخ، فلا يمكن أن نصدر حكما في حق الماركسية المذهبية، بصفتها مذهبا له اتجاهاته خطوطه الخاصة، إلا إذا استوعبنا الأسس الفكرية التي ترتكز عليها، وحددنا موقفنا من المادية التاريخية، بوصفها القاعدة المباشرة للمذهب، والهيكل المنظم لقوانين الاقتصاد والتاريخ، التي تملي - في زعم الماركسية - على المجتمع مذهبه الاقتصادي، وتصنع له نظامه في الحياة طبقا، لمرحلته التاريخية وشروطه المادية الخاصة.
53

والمادية التاريخية إذا أدت امتحانها العلمي، ونجحت فيه، كانت هي المرجع الأعلى في تحديد المذهب الاقتصادي، والنظام الاجتماعي، لكل مرحلة تاريخية من حياة الإنسان. وأصبح من الضروري أن يدرس كل مذهب اقتصادي واجتماعي، من خلال قوانينها، وفي ضوئها. كما وجب أن يرفض تصديق أي مذهب اقتصادي واجتماعي، يزعم لنفسه القدرة على استيعاب عدة أدوار تاريخية مختلفة، كالإسلام، المؤمن بإمكانية إقامة المجتمع، وعلاقاته الاقتصادية والسياسة على أساسه، بقطع النظر عما طرأ على المجتمع من تغيير في شروطه المدنية والمادية، خلال أربعة عشر قرنا، ولأجل هذا يقرر أنجلز - على أساس المادية التاريخية - بوضوح:
((إن الظروف التي ينتج البشر تحت ظلها، تختلف بين قطر وآخر. وتختلف في القطر الواحد، جيل لآخر. لذا فليس من الممكن أن يكون للأقطار كافة، وللأدوار التاريخية جمعاء، اقتصاد سياسي واحد)) (1).
وأما إذا فشلت المادية التاريخية في أداء مهمتها العلمية المزعومة، وثبت لدى التحليل أنها لا تعبر عن القوانين الصارمة الأبدية، للمجتمعات البشرية، فمن الطبيعي عندئذ أن تنهار الماركسية المذهبين، المتركزة عليها. ويصبح من الممكن علميا عند ذلك، أن يتبنى الشخص المذهب الذي لا تقره قوانين المادية التاريخية، كالمذهب الإسلامي، ويدعو إليه، بل وأن يزعم له من العموم وقدرة الاستيعاب، ما لا يتفق مع منطق الماركسية في التاريخ.
ولهذا نجد لزوما على كل باحث مذهبي في الاقتصاد، أن يلقي نظرة شاملة على المادية التاريخية، لكي يبرر وجهة نظره المذهبية، ويستطيع أن يحكم في حق الماركسية المذهبية، حكما أساسيا شاملا.
وعلى هذا الأساس سوف نبدأ في بحثنا - مع الماركسية - بالمادية التاريخية، ثم نتناول المذهب الماركسي، الذي يرتكز عليها. وبمعنى آخر ندرس:
أولا: علم الاقتصاد والتاريخ الماركسي. وثانيا: مذهب الماركسية في الاقتصاد.

1 - ضد دوهرنك: ج 2 ص 5.
54

نظريات العامل الواحد
والمادية التاريخية طريقة خاصة في تفسير التاريخ، تتجه إلى تفسيره بعامل واحد وليس هذا الاتجاه في المادية التاريخية فريدا من نوعه، فقد جنح جمهور من الكتاب والمفكرين، إلى تفسير المجتمع والتاريخ بعامل واحد، من العوامل المؤثرة في دنيا الإنسان، إذ يعتبرونه المفتاح السحري الذي يفتح مغاليق الأسرار، ويمتلك الموقف الرئيسي في عمليات التاريخ. ويفسرون العوامل الأخرى على أنها مؤثرات ثانوية، تتبع العامل الرئيسي في وجودها وتطورها، وفي تقلباتها واستمرارها.
فمن ألوان هذا الاتجاه إلى توحيد القوة المحركة للتاريخ في عامل واحد، الرأي القائل: بالجنس كسبب في
المضمار الاجتماعي فهو يؤكد أن الحضارات البشرية، والمدنيات الاجتماعية، تختلف بمقدار الثروة المدحورة في صميم الجنس، ما ينطوي عليه من قوى الدفع والتحريك، وطاقات الإبداع والبناء. فالجنس القوي النقي المحض، هو مبعث كل مظاهر الحياة في المجتمعات الإنسانية، منذ الأزل إلى العصر الحديث، وقوام التركيب العضوي والنفسي في الإنسان وليس التأريخ إلا سلسلة مترابطة من ظواهر الكفاح بين الأجناس والدماء التي تخوض معركة الحياة في سبيل البقاء، فيكتب فيها النصر للدم النقي القوي، وتموت في خضم الشعوب الصغيرة، وتمحل وتذوب، بسبب ما تفقده من طاقات في جنسها، وما تخسره من قابلية المقاومة النابعة من نقاء الدم.
ومن تفسيرات التاريخ بالعامل الواحد: المفهوم الجغرافي في للتأريخ، الذي يعتبر العامل الجغرافي والطبيعي أساسا لتأريخ الأمم والشعوب، فيختلف تأريخ الناس، باختلاف ما يكتنفهم من العوامل الجغرافية والطبيعية، لأنها هي التي تشق لهم طريق الحضارة الراقية، وتوفر لهم أسباب المدنية، وتفجر في عقولهم الأفكار البناءة أحيانا، وتوصد في وجوههم الأبواب، وتفرض عليهم السير في مؤخر القافلة البشرية أحيانا أخرى، فالعامل الجغرافي هو الذي يكيف المجتمعات، بما يتفق مع طبيعته ومتطلباته.
55

وهناك تفسير ثالث بالعامل الواحد، نادى به بعض علماء النفس قائلا: إن الغريزة الجنسية، هي السر الحقيقي الكامن وراء مختلف النشاطات الإنسانية، التي يتألف منها التاريخ والمجتمع فليس حياة الإنسان إلا سلسلة من الاندفاعات الشعورية، أو اللا شعورية عن تلك الغريزة.
وآخر هذه المحاولات، التي جنحت إلى تفسير التأريخ والإنسان بعامل واحد، هي المادية التأريخية التي بشر بها كارل ماركس، مؤكدا فيها: ان العامل الاقتصادي، هو العامل الرئيسي، والرائد الأول للمجتمع في نشوئه وتطوره والطاقة الحلاقة لكل محتوياته الفكرية والمادية، وليس شتى العوامل الأخرى، إلا بنيات فوقية في الهيكل الاجتماعي للتأريخ، فهي تتكيف وفقا للعامل الرئيسي، وتتغير بموجب قوته الدافعة، التي يسير في ركبها التأريخ والمجتمع.
وكل هذه المحاولات لا تتفق مع الواقع ولا يقرها الإسلام، لأن كل واحد منها قد حاول أن يستوعب بعامل واحد، تفسير الحياة الإنسانية كلها، وأن يهب هذا العامل من أدوار التأريخ وفضول المجتمع، ما ليس جديرا به لدى الحساب الشامل الدقيق.
والهدف الأساسي من بحثنا هذا، هو: دراسة المادية التأريخية من تلك المحاولات وإنما استعرضناها جميعا لأنها تشترك في التعبير عن اتجاه فكري في تفسير الإنسان المجتمعي بعامل واحد.
العامل الاقتصادي أو المادية التاريخية
ولنكون الآن فكرة عامة عن المفهوم الماركسي للتأريخ، الذي يتبنى العامل الاقتصادي، بصفته المحرك الحقيقي لموكب البشرية في كل الميادين.
فالماركسية تعتقد أن الوضع الاقتصادي لكل مجتمع، هو الذي يحدد أوضاعه الاجتماعية، والسياسية، والدينية، والفكرية، وما إليها من ظواهر الوجود الاجتماعي.
56

والوضع الاقتصادي بدوره له سببه الخاص به، ككل شيء في هذه الدنيا. وهذا السبب - السبب الرئيسي لمجموع التطور الاجتماعي، وبالتالي لكل حركة تأريخية في حياة الإنسان - هو وضع القوة المنتجة ووسائل الإنتاج.
فوسائل الإنتاج هي القوة الكبرى، التي تصنع تأريخ الناس وتطورهم وتنظمهم.
وهكذا تضع الماركسية يدها على رأس الخيط، وتصل إلى تسلسلها الصاعد إلى السبب الأول، في الحركة التأريخية بمجموعها.
وهنا يبدو سؤالان: ما هي وسائل الإنتاج؟. وكيف تنشأ عنها الحركة التأريخية، والحياة الاجتماعية كلها؟.
وتجيب الماركسية على السؤال الأول: بأن وسائل الإنتاج هي الأدوات التي يستخدمها الناس في إنتاج حاجاتهم المادية ذلك أن الإنسان مضطر إلى الصراع مع الطبيعة في سبيل وجوده، وهذا الصراع يتطلب وجود قوى وأدوات معينة، يستعملها الإنسان في تذليل الطبيعة واستثمار خيراتها. وأول أداة استخدمها الإنسان في هذا المجال، هي: يده وذراعه. ثم أخذت الأداة تظهر في حياته شيئا فشيئا، فاستفاد من الحجر بصفته كتلة ذات ثقل خاص في، القطع، والطحن، والطرق. واستطاع بعد مرحلة طويلة من التاريخ، ان يثبت هذه الكتلة الحجرية على مقبض فنشأت المطرقة. وأصبحت اليد تستخدم في تكوين الأداة المنتجة، لا في الإنتاج المباشر، وصار الإنتاج يعتمد على أدوات منفصلة، وأخذت هذه الفؤوس، الحراب، والسكاكين الحجرية، ثم تمكن بعد ذلك أن يخترع القوس والسهم ويستعملها في الصيد. وهكذا تدرجت القوى المنتجة تدرجا بطيئا، خلال آلاف السنين، حتى وصلت إلى مرحلتها التاريخية الحاضرة، التي أصبح فيها البخار، والكهرباء، والذرة، هي الطاقات التي يعتمد عليها الإنتاج الحديث، فهذه هي القوى المنتجة التي تصنع للانسان حاجاته المادية.
57

وتجيب الماركسية على السؤال الثاني أيضا: بأن الوسائل المنتجة تولد الحركة التاريخية، طبقا لتطوراتها وتناقضاتها. وتشرح ذلك قائلة إن القوى والوسائل، لها شكل خاص من أشكال الإنتاج. فالإنتاج الذي يعتمد على الأدوات الحجرية البسيطة، يختلف عن الإنتاج القائم على السهم، والقوس، وغيرهما، من أدوات الصيد
، وإنتاج الصائد، يختلف عن إنتاج الراعي أو المزارع، وهكذا يصبح لكل مرحلة من تاريخ المجتمع البشري، أسلوبه الخاص في الإنتاج، وفقا لنوعية القوى المنتجة، ودرجة نموها وتطورها.
ولما كان الناس في نضالهم مع الطبيعة، لاستثمارها في إنتاج الحاجات المادية ليسوا منفردين، منعزلا بعضهم عن بعض، بل ينتجون في جماعات وبصفتهم أجزاء من مجتمع مترابط، فالإنتاج دائما ومهما تكن الظروف إنتاج اجتماعي. ومن الطبيعي حينئذ، أن يقيم الناس بينهم علاقات معينة، بصفتهم مجموعة مترابطة خلال عملية الإنتاج.
وهذه العلاقات - علاقات الإنتاج - التي تقوم بين الناس، بسبب خوضهم معركة موحدة ضد الطبيعة، هي في الحقيقة علاقات الملكية، التي تحدد الوضع الاقتصادي، وطريقة توزيع الثروة المنتجة في المجتمع وبمعنى آخر: تحدد شكل الملكية - المشاعية، أو العبودية، أو الاقطاعية، أو الرأسمالية، أو الاشتراكية - ونوعية المالك، وموقف كل فرد من الناتج الاجتماعي.
وتعتبر هذه العلاقات (علاقات الإنتاج، أو علاقات الملكية) - من وجهة رأي الماركسية - الأساس الواقعي، الذي يقوم عليه البناء العلوي للمجتمع كله فكل العلاقات السياسية، والحقوقية، والظواهر الفكرية، والدينية مرتكزة على أساس علاقات الإنتاج (علاقات الملكية). لأن علاقات الإنتاج، هي التي تحدد شكل الملكية السائد في المجتمع، والأسلوب الذي يتم بموجبه تقسيم الثروة على أفراده. وهذا بدوره، هو الذي يحدد الوضع السياسي، والحقوقي والفكري، والديني، بصورة عامة.
58

ولكن إذا كانت كل الأوضاع الاجتماعية، تنشأ وفقا للوضع الاقتصادي وبتعبير آخر: تنشأ وفقا لعلاقات الملكية (علاقات الإنتاج)، فمن الضروري أن نتساءل عن علاقات الإنتاج هذه كيف تنشأ؟ وما هو السبب الذي يكون ويكيف الوضع الاقتصادي للمجتمع؟.
وتجيب المادية التاريخية على ذلك: أن علاقات الإنتاج (علاقات الملكية)، تتكون في المجتمع بصورة ضرورية، وفقا لشكل الإنتاج، والدرجة المعينة التي تعيشها القوى المنتجة. فلكل درجة من نمو هذه القوى، علاقات ملكية ووضع اقتصادي، يطابق تلك الدرجة من نمو هذه القوى، علاقات ملكية ووضع اقتصادي، يطابق تلك الدرجة من تطورها. فالقوى المنتجة هي التي تنشئ الوضع الاقتصادي، الذي تتطلبه وتفرضه على المجتمع ويتولد عن الوضع الاقتصادي، وعلاقات الملكية عندئذ، جميع الأوضاع الاجتماعية، التي تطابق ذلك الوضع الاقتصادي وتتفق معه.
ويستمر الوجود الاجتماعي على هذه الحال، حتى تبلغ قوى المجتمع المنتجة درجة جديدة من النمو والتطور فتدخل في تناقض مع الوضع الاقتصادي القائم لأن هذا الوضع، إنما كان نتيجة للمرحلة أو الدرجة، التي تخطتها قوى الإنتاج إلى مرحلة جديدة، تتطلب وضعا اقتصاديا جديدا، وعلاقات ملكية من نمط آخر، بعد أن أصبح الوضع الاقتصادي السابق، معيقا لها عن النمو. وهكذا يبدأ الصراع بين القوى المنتجة لوسائل الإنتاج، في مرحلتها الجديدة من ناحية، وعلاقات الملكية والأوضاع الاقتصادية، التي خلفتها المرحلة السابقة لقوى الإنتاج من ناحية أخرى.
وهنا يأتي دور الطبقية في المادية التاريخية. فإن الصراع بين القوى المنتجة النامية، وعلاقات الملكية القائمة، ينعكس على الصعيد الاجتماعي دائما، في الصراع بين طبقتين: إحداهما: الطبقة الاجتماعية، التي تتفق مصالحها مع نمو القوى المنتجة، ومستلزماته الاجتماعية. والأخرى الطبقة الاجتماعية، التي تتفق مصالحها مع علاقات الملكية القائمة، وتتعارض منافعها مع متطلبات المد التطوري للقوى المنتجة. ففي المرحلة التاريخية الحاضرة - مثلا - يقوم التناقض بين نمو القوى المنتجة، والعلاقات الرأسمالية في المجتمع. ويشب الصراع تبعا لذلك، بين الطبقة العاملة، التي
59

تقف إلى صف القوى المنتجة في نموها، وترفض بإصرار ووعي طبقي علاقات الملكية الرأسمالية في الملكية، وتستميت في الدفاع عنها.
وهكذا يجد التناقض، بين قوى الإنتاج، وعلاقات الملكية - دائما - مدلوله الاجتماعي، في التناقض الطبقي.
ففي كيان المجتمع - إذن تناقضان: الأول: التناقض بين نمو القوى المنتجة، وعلاقات الملكية السائدة، حين تصبح معيقة لها عن التكامل.
والثاني: التناقض الطبقي، بين طبقة من المجتمع، تخوض المعركة لحساب القوى المنتجة، وطبقة أخرى، تخوضها لحساب العلاقات القائمة. وهذا التناقض الأخير، هو التعبير الاجتماعي والانعكاس المباشر، للتناقض الأول.
ولما كانت وسائل الإنتاج، هي القوى الرئيسية في دنيا التاريخ فمن الطبيعي أن تنتصر في صراعها، مع علاقات الملكية ومخلفات المرحلة القديمة. فتقضي على الأوضاع الاقتصادية، التي أصبحت في تناقض معها وتقيم علاقات وأوضاعا اقتصادية تواكبها في نموها وتنسجم مع مرحلتها.
ومعنى ذلك بالتعبير الاجتماعي: أن الطبقة الاجتماعية التي كانت تقف في المعركة إلى صف القوى المنتجة، هي التي يكتب لها النصر على الطبقة الأخرى التي كانت تناقضها، وتحاول الاحتفاظ بعلاقات الملكية كما هي.
وحين تنتصر قوى الإنتاج على علاقات الملكية، وبمعنى آخر: تفوز الطبقة الحليفة لوسائل الإنتاج، على نقيضتها حينئذ تتحطم علاقات الملكية القديمة، ويتغير الوجه الاقتصادي للمجتمع. من سياسة، وأفكار، بدوره، يزعزع كل البناء العلوي الهائل للمجتمع، من سياسة، وأفكار، وأديان، وأخلاق لأن هذه الجوانب كلها، كانت تقوم على أساس الوضع الاقتصادي. فإذا تبدل الأساس الاقتصادي، تغير وجه المجتمع كله.
والمسألة لا تنتهي عند هذا الحد فان التناقض بين قوى الإنتاج، وعلاقات الملكية،
60

أو التناقض بين الطبقتين الممثلتين لتلك القوى والعلاقات، إن هذا التناقض وإن وجد حله الآتي، في تغير اجتماع شامل، غير أنه حل موقوت. لأن القوى المنتجة، تواصل نموها وتطورها حتى تدخل مرة أخرى في تناقض، مع علاقات الملكية والأوضاع الاقتصادية الجديدة. ويتمخض هذا التناقض، عن ولادة طبقة اجتماعية جديدة تتفق مصالحها مع النمو الجديد في قوى الإنتاج، ومتطلباته الاجتماعية. بينما تصبح الطبقة، التي كانت حليفة لقوى الإنتاج، خصما لها منذ تلك اللحظة، التي بدأت الوسائل المنتجة تتناقض مع مصالحها، وما تحرص عليه من علاقات الملكية، فتشتبك الطبقتان في معركة جديدة، كمدلول اجتماعي للتناقض بين قوى الإنتاج، وعلاقات الملكية. وينتهي هذا الصراع إلى نفس النتيجة. التي أدى إليها الصراع السابق. فتنتصر قوى الإنتاج على علاقات الملكية.
وبالتالي تنتصر الطبقة الحليفة لها، ويتغير تبعا لذلك الوضع الاقتصادي وكل الأوضاع الاجتماعية.
وهكذا، فإن علاقات الملكية، والأوضاع الاقتصادية، تظل محتفظة بوجودها الاجتماعي، ما دامت القوى المنتجة تتحرك ضمنها وتنمو، فإذا أصبحت عقبة في هذا السبيل، أخذت التناقضات تتجمع، تجد حلها في انفجار ثوري، تخرج منه وسائل الإنتاج منتصرة، وقد حطمت العقبة من أمامها. وأنشأت وضعا اقتصاديا جديدا، لتعود بعد مدة من نموها، إلى مصارعته من جديد، طبقا لقوانين الديالكتيك، حتى يتحطم ويندفع التأريخ إلى مرحلة جديدة.
المادية التاريخية والصفة الواقعية
وقد دأب الماركسيون، على القول بأن المادية التأريخية، هي الطريقة العلمية الوحيدة لإدراك الواقع الموضوعي، التي قفزت بالتاريخ إلى مصاف العلوم البشرية الآخرة، كما حاول بعض الكتاب الماركسيين باصرار، اتهام المناوئين للمادية التاريخية، والمعارضين لطريقتها، في تفسير الإنسان المجتمعي: بأنهم أعداء علم التاريخ وأعداء الحقيقة الموضوعية، التي تدرسها المادية التأريخية وتفسرها. ويبرر هؤلاء
61

اتهامهم هذا. بأن المادية التاريخية تقوم على أمرين: أحدهما: الإيمان بوبجود الحقيقة الموضوعية، والآخر: أن الأحداث التاريخية لم تخلق صدفة، وإنما وجدت وفقا لقوانين عامة يمكن دراستها وتفهمها. معارضة للمادية التأريخية، مردها إلى المناقشة في هذين لأمرين.
وعلى هذا الأساس كتب بعض الماركسيين يقول:
((قد دأب أعداء المادية التاريخية، أعداء علم التاريخ على أن يفسروا الاختلافات في إدراك الأحداث التاريخية، على أنها دليل على عدم وجود حقيقة ثابتة، ويؤكدون أننا قد نختلف في وصف حادث وقع قبل يوم، فكيف بأحداث قد وقعت قبل قرون؟!.)) (1)
وقد شاء الكاتب بهذا، أن يفسر كل معارضة للمادية التاريخية، على أساس أنها محاولة للتشكيل في الجانب الموضوعي للتاريخ، وفي الحقائق الموضوعية للأحداث التاريخية. وهكذا يحتكر الكاتب، الإيمان بالواقع الموضوعي، لمفهومه التأريخي الخاص.
ولكن من حقنا أن نتساءل: هل أن عداء المادية التأريخية، يعني حقا التشكيك في وجود الحقيقة، خارج شعور الباحث وإدراكه أو انكارها؟.
والواقع أننا لا نجد في هذه المزاعم. شيئا جديدا على الصعيد التأريخي، فقد استمعنا إلى هذا اللون من المزاعم قبل ذلك في الحقل الفلسفي، حين تناولنا في (فلسفتنا) المفهوم الفلسفي للعالم. فان الماركسيين كانوا يصرون: أن المادية، أو المفهوم المادي للعالم، وهو وحده الاتجاه الواقعي، في مضمار البحث الفلسفي. لأنه اتجاه قائم على أساس الإيمان بالواقع الموضوعي للمادة، وليس للمسألة الفلسفية جواب إذ انحرف البحث عن الاتجاه المادي، إلا المثالية. التي تكفر بالواقع الموضوعي، وتنكر وجوده المادة. فالكون إما أن يفسر تفسيرا مثاليا لا مجال فيه لواقع موضوعي مستقل عن الوعي والشعور، وإما أن يفسر بطريقة علمية، على أساس

(1) الثقافة الجديدة العدد 11 السنة 7 ص 10.
62

المادية الديالكتيكية.. وقد مر بنا في (فلسفتنا) أن هذه الثنائية تزوير على البحث الفلسفي.
يستهدف، من ورائه اتهام كل خصوم المادية الجدلية، بأنهم تصوريون مثاليون، لا يؤمنون بالواقع الموضوعي للعالم، بالرغم من أن الإيمان بهذا الواقع، ليس وقفا على المادية الجدلية فحسب ولا يعني رفضها بحال من الأحوال، التشكيك في هذا الواقع أو إنكاره...
وكذلك القول في حلقنا الجديد، فإن الإيمان بالحقيقة الموضوعية لمجتمع، ولأحداث التاريخ، لا ينتج الأخذ بالمفهوم المادي، فهناك واقع ثابت لأحداث التاريخ، وكل حدث في الحاضر أو الماضي قد وقع فعلا وليس هو من مزايا المادية التأريخية فحسب، بل يؤمن به كل من يفسر أحداث التأريخ أو تطوراته، بالأفكار، أو بالعامل
الطبيعي، أو الجنسي، أو بأي شيء آخر من هذه الأسباب. كما تؤمن به الماركسية، التي تفسر التاريخ بتطور القوى المنتجة. فالإيمان بالحقيقة الموضوعية، هو نقطة الانطلاق لكل تلك المفاهيم عن التاريخ، والبديهة الأولى التي تقوم تلك التفسيرات المختلفة على أساسها.
وشئ آخر: أن أحداث التأريخ بصفتها جزءا من مجموعة أحداث الكون تخضع للقوانين العامة، التي تسيطر على العالم. ومن تلك القوانين.
شيء آخر لا يمكن أن يوجد صدفة وارتجالا، وإنما هو منبثق عن سبب. المبدأ - مبدأ العلية - على المجال التأريخي يكون البحث التأريخي غير ذي معنى.
فالإيمان بالحقيقة الموضوعية لأحداث التأريخ، والاعتقاد بأنها تسير وفقا لمبدأ العلية، هما الفكرتان الأساسيتان لكل بحث علمي، في تفسير التأريخ وإنما يدور النزاع بين التفاسير والاتجاهات المختلفة، في درس التأريخ، حول العلل الأساسية،
63

والقوى الرئيسية التي تعمل في المجتمع.
فهل هي القوى المنتجة؟، أو الأفكار؟، أو الدم؟ أو الأوضاع الطبيعية؟، أو كل هذه الأسباب مجتمعة؟. والجواب على هذا السؤال - أيا كان اتجاهه - لا يخرج عن كونه تفسيرا للتأريخ، قائما على أساس الإيمان بحقيقة الأحداث التأريخية وتتابعها وفقا لمبدأ العلية.
وفيما يلي سنتناول المادية التأريخية، بصفتها طريقة عامة في فهم التاريخ وتفسيره وندرسها:
أولا: على ضوء الأسس الفلسفية والمنطقية، التي يتكون منها مفهوم الماركسية العام عن الكون.
وثانيا: بما هي نظرية عامة تحاول استيعاب التأريخ الإنساني.
وثالثا: بتفاصيلها، التي تحدد مراحل التأريخ البشري، والقفزات الاجتماعية على رأس كل مرحلة.
64

النظرية على ضوء الأسس الفلسفية
في ضوء المادية الفلسفية
تؤمن الماركسية، بأن التفسير المادي للتأريخ، من أهم مزايا المادية الحديثة. إذ لا يمكن بدونه، اعطاء التأريخ تفسيرا صحيحا، يتجاوب مع المادي صادقا - في رأي الماركسية - على الوجود، بصورة عامة، فيجب أن يصدق بالنسبة إلى التاريخ، لأن التأريخ ليس إلا جانبا من جوانب الوجود العام.
وعلى هذا الأساس، تعيب الماركسية على مادية القرن الثامن العشر، موفقها من تفسير التأريخ، لأن مادية القرن الثامن عشر الميكانيكية، لم توفق إلى هذا الكشف المادي الجبار، في الحقل التاريخي، بل كانت مثالية في مفاهيمها عن التاريخ، بالرغم من اعتناقها المادية في المجال الكوني العام. ولماذا كانت في مفهومها التاريخي مثالية؟. كانت كذلك - في رأي الماركسية - لأنها آمنت بالأفكار والمحتويات الروحية للإنسان. ومنحتها دورا رئيسيا في التاريخ، ولم تستطع خلال العلاقات الاجتماعية، التي كانت تعيشها، أن تتخطى هذه العوامل المثالية. إلى السبب الأعمق، إلى القوى المادية، الكامنة في وسائل الإنتاج. فلم تصل لأجل هذا، إلى العلة المادية للتاريخ، ولم يحالفها التوفيق في وضع تصميم علمي، لمادية تاريخية، تتجاوب مع المادية الكونية. وإنما ظلت تتعلق بالتفسيرات المثالية السطحية، التي تدرس السطح التاريخي
65

ولا ينفذ إلى الأعماق. قال أنجلز:
((وبالنسبة الينا نجد في ميدان التاريخ، أن المادية القديمة، لا تصدق مع ذاتها، لأنها تعتبر القوى المثالية المحركة في التاريخ عللا نهائية، وذلك بدلا من البحث عما وراءها أي البحث عن القوى المحركة الفعلية، الكامنة وراء هذه القوى المثالية فحسب، بل في عدم مواصلة البحث وراء هذه القوى، حتى يمكن إزاحة الستار عن العلل المحركة)) (1).
وأنا لا أريد في مجال بحثي هذا أن أتناول المادية الفلسفية، لأن ذلك ما قمت به في الحلقة الأولى (فلسفتنا). وإنما أقصد أن أدرس هذا الربط، الذي تزعمه الماركسية، أو بعض كتابها، بين المادية الفلسفية، والمادية التأريخية، بطرح السؤال التالي: هل من الضروري، على أساس المادية الفلسفية، أن نفسر التاريخ كما تفسره الماركسية، ونشد عجلته منذ فجر الحياة إلى الأبد، بوسائل الإنتاج؟.
ولدى الجواب على هذا السؤال، يجب أن نميز بوضوح، المفهوم الفلسفي للمادية، عن مفهومها التاريخي عند الماركسية. فإن التباس أحد المفهومين بالآخر، هو الذي أدى إلى التأكيد الآنف الذكر: على الارتباط بينهما، وعلى أن كل فلسفة مادية لا تتبنى تفكير ماركس للتاريخ فهي لا تستطيع أن تقف على قدميها، في ميدان البحث التاريخي، ولا أن تتحرر من المثالية، في مفاهيمها التاريخية، تحررا نهائيا.
والحقيقة هي: أن المادية بمفهومها الفلسفي، تعني أن المادية بظواهرها المتنوعة، هي الواقع الوحيد، الذي يشمل كل ظواهر العالم، وألوان الوجود فيه. وليست الروحيات، وكل ما يدخل في نطاقها، من أفكار، ومشاعر، وتجريدات، إلا نتاجا ماديا، وحصيلة للمادة في درجات خاصة، من تطورها ونموها. فالفكر مهما بدا رفيعا وعاليا عن مستوى المادة فهو لا يبدو في منظار المادية الفلسفية، إلا نتاجا للنشاط الوظيفي للدماغ. ولا يوجد واقع خارج حدود المادة، ووجوهها المختلفة،

(1) التفسير الاشتراكي للتاريخ: ص 57.
66

وليست هي بحاجة إلى أي معنى لا مادي.
فأفكار الإنسان ومحتوياته الروحية، والطبيعية التي يمارسها على أساس هذا المفهوم الفلسفي، ليست كلها إلا أوجها مختلفة للمادة، وتطوراتها ونشاطاتها.
هذه هي المادية الفلسفية، ونظرتها العامة إلى الإنسان والكون. ولا يختلف في حساب هذه النظرة الفلسفية، أن يكون الإنسان نتاجا للشروط المادية، والقوى المنتجة، أو أن تكون شروط الإنتاج وقواه، نتاجا للإنسان. فما دام الإنسان، وأفكاره. والطبيعة، وقواها المنتجة، كلها ضمن حدود المادة - كما تزعم المادية الفلسفية - فلا يضيرها من ناحية فلسفية أن يبدأ التفسير التاريخي، بأي حلقة من الحلقات، فيعتبرها الحلقة الأولى في التسلسل الاجتماعي. فكما يصح أن نبدأ بالأداة المنتجة، فنسبغ عليها صفة الألوهية للتاريخ، ونعتبرها السبب الأعلى، لكل التيارات التاريخية. كذلك يمكن - من وجهة النظر المادية الفلسفية - أن نبدأ بالإنسانية، بصفتها نقطة الابتداء في تفسير التاريخ فكلاهما في حساب المادية الفلسفية سواء.
وبهذا يتضح أن الاتجاه المادي في الفلسفة، الذي يفسر الإنسان والطبيعة تفسيرا ماديا، لا يحتم مفهوم الماركسية عن التاريخ، ولا يفرض النزول بالإنسان، إلى درجة ثانوية في السلم التاريخي، واعتباره عجينة رخوة تكيفها أدوات الإنتاج كما تشاء.
فالمسألة التاريخية إذن، يجب أن تدرس بصورة مستقلة، عن المسألة الفلسفية للكون.
في ضوء قوانين الديالكتيك:
إن قوانين الديالكتيك، هي القوانين التي تفسر كل تطور وصيرورة، بالصراع بين الأضداد، في المحتوى الداخل للأشياء. فكل شيء يحمل في صميمه جرثومة نقيضة، ويخوض المعركة مع النقيض، ويتطور طبقا لظروف الصراع (1).
والماركسية تتجه في مفهومها الخاص، إلى تطبيق قوانين الديالكتيك هذه، على الصعيد الاجتماعي، واستعمال الطريقة الديالكتيكية، في تحليل الأحداث التاريخية،

(1) لاحظ (فلسفتنا): ص 174 - 242.
67

فهي ترى أن التناقض الطبقي في صميم المجتمع، تعبير عن قانون التناقضات في الديالكتيك، القائل: إن كل شيء يحتوي في أعماقه، على تناقضات وأضداد. وتنظر إلى التطور الاجتماعي، بوصفه حركة ديناميكية، منبثقة عن التناقضات الداخلية، طبقا لقانون الحركة الديالكتيكية العام، القائل: أن كل كائن يتطور، لا بحركة ميكانيكية وقوة خارجية تدفعه من ورائه. بل بسبب التناقضات التي تنمو في صميمه وتنفجر. وتؤمن بتراكم التناقضات الطبقية، شيئا فشيئا، حتى تحين اللحظة المناسبة للتتفجر عن تحول شامل، في بناء المجتمع ونظامه، وفقا للقانون الديالكتيكي، القائل: إن التغيرات الكمية التدريجية، تتحول إلى تغير كيفي ماديتها التاريخية - حقلا خصبا، لقوانين الديالكتيك العامة.
ولنقف لحظة لنتبين مدى التوفيق، الذي أحرزته الماركسية في ديالكتيكها التاريخي؟. إن الماركسية استطاعت، أن تجعل من طريقتها في التحليل التاريخي، طريقة ديالكتيكية إلى حد ما. ولكنها تناقضت في النتائج التي انتهت إليها، مع طبيعة الديالكتيك. وبهذا كانت ديالكتيكية في طريقتها، ولم تكن كذلك في مضمونها النهائي، ونتائجها الحاسمة، كما سنرى.
أ - ديالكتيكية الطريقة:
لم تقتصر الماركسية على الطريقة الديالكتيكية، في البحث التاريخي، بل اتخذتها شعارا لها في بحوثها التحليلية، لكل مناحي الكون والحياة، كما مر في (فلسفتنا). غير أنها لم تنج بصورة نهائية، من التذبذب بين تناقضات الديالكتيكية، وقانون العلية، فهي بوصفها ديالكتيكية، تؤكد: أن النمو والتطور ينشأ عن التناقضات الداخلية فالتناقض الداخلي، هو الكفيل بأن يفسر كل ظاهرة من ظواهر الكون، دون الحاجة إلى قوة أو علة خارجية، ومن ناحية أخرى تعترف: بعلاقة العلة والمعلول، وتفسير هذه الظاهرات أو تلك بأسباب خارجية،
68

وليس بالتناقضات المخزونة في أعماقها. وهذا التذبذب ينعكس في تحليلها التاريخي أيضا. فهي بينما تصر على وجود تناقضات جذرية، في صميم كل ظاهرة اجتماعية: كفيلة بتطويرها وحركتها، تقرر من ناحية أخرى. إن الصرح الاجتماعي الهائل، يقوم كله على قاعدة واحدة، وهي قوى الإنتاج، وطريقته الخاصة، وإن الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والفكرية، وغيرها.. ليست إلا بنى فوقية في ذلك الصرح، وانعكاسات بشكل آخر لطريقة الإنتاج، التي قام البناء عليها. فالعلاقة إذن بين هذه البنى المتنوعة الألوان، وبين طريقة الإنتاج، هي علاقة معلولة بعلة. ويعني هذا، أن الظاهرات الاجتماعية الفوقية، لم تنشأ بطريقة ديالكتيكية، وفقا للتناقضات الداخلية فيها، وإنما وجدت بأسباب خارجة عن محتواها الداخلي، وبتأثير القاعدة فيها. بل إنا نجد أكثر من هذا، فإن التناقض الذي يطور المجتمع - في رأي الماركسية - ليس هو التناقض الطبقي بين علاقات الملكية القديمة وقوى الإنتاج الجديد. فهناك إذن شيئان مستقلان، يقوم التناقض بينهما، لا شيء واحد يحمل في صميمه نقضيه.
وكأن الماركسية أدركت موقفها هذا المتأرجح، بين التناقضات الداخلية، وقانون العلية، وحاولت أن توفق بين الأمرين. فأعطت العلة والمعلول مفهوما ديالكتيكيا، ورفضت مفهومهما الميكانيكي، وسمحت لنفسها على هذا
الأساس، أن تستعمل في تحليلها طريقة العلة والمعلول، في إطارهما الديالكتيكي الخاص. فالماركسية ترفض السببية التي تسير على خط مستقيم، والتي تظل فيها العلة خارجية بالنسبة إلى معلولها، والمعلول سلبيا بالنسبة إلى علته. لأن هذه السببية تتعارض مع الديالكتيك، مع عملية النمو والتكامل الذاتي في الطبيعة. إذ ان المعلول طبقا لهذه السببية، لا يمكن أن يجيء حينئذ أثرى من علته. وأكثر نموا. لأن هذه الزيادة في الثراء والنمو، تبقى دون تعليل. وأما المعلول الذي يولد من نقيضه، فيتطور وينمو بحركة داخلية، طبقا لما يحتوي من تناقضات، ليعود إلى النقيض الذي أولده، فيتفاعل معه، ويحقق عن
69

طريقة الاندماج به، مركبا جديدا، أكثر اغتناء وثراء، من العلة والمعلول منفردين. فهذا هو ما تعنيه الماركسية بالعلة والمعلول، لأن يتفق مع الديالكتيك، ويعبر عن الثالوث الديالكتيكي: ((الأطروحة، والطباق، والتركيب)) (1). فالعلة هي الأطروحة، والمعلول هو الطباق، والمجموع المترابط منهما هو التركيب. والعلية هنا عملية نمو وتكامل، عن طريق ولادة المعلول من العلة، أي الطباق من الأطروحة. والمعلول في هذه العملية لا يولد سلبيا، بل يولد مزودا بتناقضاته الداخلية، التي تنميه وتجعله يحتضن علته إليه، في مركب أرقى وأكمل.
وقد استعملت الماركسية علاقات العلة والمعلول، بمفهومها الديالكتيكي هذا في المجال التاريخي. فلم تشذ بصورة عامة عن الطريقة الديالكتيكية التي تتبناها، وإنما فسرت المجتمع على أساس أن له قاعدة، تقوم عليها ظواهر فوقية، تنشأ عن تلك القاعدة، وتنمو وتتفاعل مع القاعدة وتنتج عن التأثير المتبادل، مراحل التطور الاجتماعي، طبقا لقصة الأطروحة والطباق والتركيب (الإثبات، والنفي، ونفي النفي).
وينطبق هذا الوصف على الماركسية، إذا استثنينا بعض الحالات، التي سجلت فيها الماركسية فشلها في تفسير الحدث التاريخي، بالطريقة الديالكتيكية فاضطرت إلى تفسير التطور الاجتماعي، والأحداث التاريخية، في تلك الحالات، تفسيرا ميكانيكيا، وإن لم تسمح لنفسها بالاعتراف بهذا الفشل. فلقد كتب أنجلز يقول:
((كان في إمكان المجتمعات البدائية القديمة، التي ذكرناها آنفا، أن تظل باقية في الوجود لعدة آلاف من السنين، كما هي الحال في الهند وبين السلفيين إلى يومنا هذا قبل أن يؤدي تعاملها مع العالم الخارجي، إلى أن تنشأ في أوساطها اللا مساواة في الملكية، التي ينجم عنها شروع هذه المجتمعات في التفكك)) (2).

(1) لاحظ (فلسفتنا) ص 176 و 177.
(2) ضد دوهرنك: ج 2 ص 8.
70

ب - تزييف الديالكتيك التاريخي:
ومن الضروري أن نشير بهذا الصدد، إلى رأينا في الطريقة الديالكتيكية والسببية بمعناها الديالكتيكي، وهو: أن هذه السببية القائمة على أساس التناقض (الأطروحة، والطباق، والتركيب) لا تستند إلى العلم، ولا إلى التحليل الفلسفي، ولا توجد تجربة واحدة في الحقل العلمي يمكن أن تبرهن على هذا اللون من السببية كما يرفضها البحث الفلسفي رفضا تاما. ولا نريد التوسع في درس هذه النقطة، لأننا قمنا بدراسة مفصلة لذلك، في نقدنا العام للديالكتيك. (راجع فلسفتنا). وإنما يعنينا ونحن في المجال التاريخي، أن نعرض نموذجا للديالكتيك التاريخي، إذ حاول أن يصطنع الديالكتيك، في تفسير تطور المجتمع إلى رأسمالي، ثم إلى الاشتراكية.
فكتب يقول - عن ملكية الصانع الخاصة لوسائل إنتاجه:
((إن الاستملاك الرأسمالي، المطابق لنمو الإنتاج الرأسمالي. يشكل النفي الأول لهذه الملكية الخاصة، التي ليست إلا تابعا للعمل المستقل الفردي. ولكن الإنتاج الرأسمالي ينسل هو ذاته، نفيه بالحتمية ذاتها. التي تخضع لها تطورات الطبيعة. إنه نفي النفي. وهو يعيد ليس ملكية الشغيل الخاصة، بل ملكيته الفردية، المؤسسة على مقتنيات ومكاسب العصر الرأسمالي، وعلى التعاون والملكية المشتركة، لجميع وسائل الإنتاج بما فيها الأرض)) (1).
هل رأيتم كيف ينمو المعلول، حتى يندمج مع علته في تركيب أغنى وأكمل؟. إن ملكية الصانع أو الحرفي الصغير، لوسائل إنتاجه، هي الأطروحة والعلة. وانتزاع الرأسمالي لتلك الوسائل منه، وتملكه لا، هو الطباق والمعلول. وحيث إن المعلول ينمو ويزدهر، ويؤلف مع العلة تركيبا أكمل، فإن الملكية الرأسمالية تتمخض عن

(1) (رأس المال) ج 3، ق 2، ص 138.
71

الملكية الاشتراكية، التي يعود فيها الحرفي مالكا لوسائل إنتاجه، بشكل أكثر كمالا.
ومن حسن الحظ، أنه لا يكفي أن يفترض الإنسان، أطروحة وطباقا وتركيبا، في أحداث التاريخ والكون، لكي يكون التاريخ والكون ديالكتيكيا. فإن هذا الديالكتيك، الذي افترضه ماركس، لا يعدو أن يكون لونا من الجدل التجريدي في ذهنه، وليس جدلا أو ديالكتيكا (2) للتاريخ. وإلا فمتى كانت ملكية الحرفي الخاصة، لوسائل إنتاجه، هي العلة لتملك الرأسمالي لها؟ ‍! ليقال: إن النقيض، ولد من نقيضة، وإن الأطروحة أنشأت طباقا.
إن ملكية الحرفين الخاصة، لوسائل إنتاجهم، لم تكن هي السبب في وجود الإنتاج الرأسمالي. وإنما وجد الإنتاج الرأسمالي، نتيجة لتحول طبقة التجار - ضمن شروط معينة، وبسبب تراكم ثرواتهم - إلى منتجين رأسماليين. وكانت ملكية الحرفيين، لوسائل إنتاجهم، بصورة مبعثرة ومتفرقة عقبة في وجه أولئك التجاريين، الذين أصبحوا يمارسون الإنتاج الرأسمالي، ويطمعون في السيطرة على مزيد من وسائل الإنتاج، فاستطاعوا بنفوذهم، أن يسحقوا في السيطرة على مزيد من وسائل الإنتاج، فاستطاعوا بنفوذهم، أن يسحقوا تلك العقبة،
وينتزعوا - بشكل أو آخر - وسائل الإنتاج، من أيدي الحرفيين، ليثبتوا بذلك أركان الإنتاج الرأسمالي، ويوسعوا من مداه. فالإنتاج الرأسمالي وإن احتل مكان الإنتاج الفردي، القائم على أساس ملكية الحرفي لوسائل إنتاجه، ولكنه لم ينشأ عن ملكية الحرفي لأدوات إنتاجه، كما ينشأ الطباق من الأطروحة، وإنما نشأ من ظروف الطبقة التجارية، وتراكم رأس المال عندها، بدرجة جعلها تمارس الإنتاج الرأسمالي، وبالتالي تسيطر على ممتلكات طبقة الحرفيين. وبكلمة واحدة: إن الشروط الخارجية - كالتجارة، واستغلال المستعمرات، واكتشاف المناجم - لو لم تمنح التجاريين ملكية ضخمة، وقدرة على الإنتاج الرأسمالي، وعلى تجريد الحرفيين أن تخلق نقيضها، وتوجد الإنتاج الرأسمالي، وتطور

(1) الجدل والديالكتيك بمعنى واحد. (من المؤلف)
72

نفسها بالتالي إلى ملكية اشتراكية.
وهكذا لا نجد في المجال التاريخي - كما سنرى بصورة أكثر وضوحا، لدى دراستنا للمادية التاريخية، في تفاصيلها ومراحلها - كما لم يوجد في المجال الكوني العام، مثال واحد تنطبق عليه قوانين الديالكتيك ومفاهيمه عن السببية.
ج - النتيجة تناقض الطريقة:
ومن أقسى ما منيت به الماركسية، في طريقتها الديالكتيكية، أنها استعملت هذه الطريقة، بشكل انتهى بها إلى نتائج غير ديالكتيكية، ولأجل هذا قلنا - منذ البدء -: إن طريقة الماركسية في التحليل التاريخي ديالكتيكية، ولكن مضمون الطريقة يناقض الديالكتيك. لأن الماركسية تقرر من ناحيتها، أن التناقض الطبقي الذي يعكس تناقضات وسائل الإنتاج، وعلاقات الملكية، هو الأساس الرئيسي الوحيد، للصراع في داخل المجتمع. وليست التناقضات الأخرى، إلا نابعة منه. وتقرر في نفس الوقت، أن القافلة البشرية سائرة - حتما - في طريق محو الطبقية، من المجتمع إلى الأبد. وذلك حين تدق أجراس النصر، للطبقة العاملة، ويولد المجتمع اللا طبقي، وتدخل الإنسانية في الاشتراكية والشيوعية. فإذا كانت الطبقة وتناقضاتها، ستزول في تلك المرحلة من حياة المجتمع، فسوف ينقطع عنه المد التطوري وتنطفئ شعلة الحركة الأبدية، وتحصل المعجزة التي تشل قوانين الديالكتيك عن العمل. وإلا فكيف تفسر الماركسية حركة الديالكتيك في المجتمع اللا طبقي، ما دام التناقض الطبقي قد لاقى مصيره المحتوم، وما دامت حركت الديالكتيك لا توجد إلا على أساس التناقض؟!.
ولا يزال في متناول يدنا، كلام ماركس الآنف الذكر، الذي جعل ملكية الحرفي الخاصة أطروحة واعتبر أن الرأسمالية هي النفي الأول (الطباق) والاشتراكية هي نفي النفي (التركيب)... فبإمكاننا أن نسأل ماركس: هل سوف تكف قصة الأطروحة، والطباق، والركيب، عن العمل، بعد ذلك، بالرغم من قوانين الديالكتيك العامة؟ أو أنها ستستأنف ثالوثا جديدا؟. وإذا كانت ستستمر، فسوف
73

تكون الملكية الاشتراكية هي الأطروحة. فما هو النقيض الذي ستلده وتنمو بالاندماج معه؟. يمكننا أن نفترض أن الملكية الشيوعية هي النقيض، أو النفي الأول للاشتراكية، ولكن ما هو نفي النفي (التركيب)؟. إن الديالكتيك سوف يبقى حائرا، بإزاء تأكيد الماركسية، على أن الشيوعية هي المرحلة العليا من التطور البشري.
في ضوء المادية التاريخية:
ولندرس الآن المادية التاريخية في ضوء جديد، في ضوء المادية التاريخية ذاتها. وقد يبدو غريبا لأول وهلة، أن تكون النظرية، أداة للحكم على نفسها. غير أننا سنجد فيما يلي، أن المادية التاريخية، تكفي بمفردها للحكم على نفسها، في مجال البحث العلمي.
إن المادية التاريخية لما كانت نظرية فلسفية عامة، لتركيب المجتمع وتطوره، فهي تعالج الأفكار والمعارف الإنسانية عامة، بوصفها جزءا من تركيب المجتمع الإنساني، فتعطي رأيها في كيفية تكون المعرفة الإنسانية وتطورها، كما تعطي رأيها في كيفية نشوء الأوضاع السياسة والدينية وغيرها... ولما كان الوضع الاقتصادي في رأي المادية التاريخية هو الأساس الواقعي للمجتمع بكل نواحيه، فمن الطبيعي لها أن تفسر الأفكار والمعارف على أساسه ولذلك نجد المادية التاريخية، تؤكد أن المعرفة الإنسانية، ليست وليدة النشاط الوظيفي للدماغ فحسب، وإنما يكمن سببها الأصيل، في الوضع الاقتصادي. ففكر الإنسان، انعكاس عقلي للأوضاع الاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية، التي يعيشها وهو ينمو ويتطور، طبقا لتطور تلك الأوضاع والعلاقات.
وعلى هذا الأساس، شيدت الماركسية نظريتها في المعرفة، وقالت بالنسبية التطورية، وإن المعرفة ما دامت وليدة ظروفها الاقتصادية والاجتماعية، فهي ذات قيمة نسبية، محدودة بتلك الظروف، ومتطورة تبعا لها. فلا توجد حقيقة مطلقة، وإنما تتكشف الحقائق بشكل نسبي، من خلال العلائق الاجتماعية، وبالمقدار الذي تسمح به هذه العلائق.
74

هذه هي النتيجة التي وصلت إليها المادية التاريخية في تحليل المجتمعات وهي النتيجة التي وصلت إليها المادية التاريخية في تحليل المجتمعات وهي النتيجة التي كان لابد لها أن تصل إليها، وفقا لطريقة فهمها للمجتمع والتاريخ.
وبالرغم من وصول الماركسية إلى هذه النتيجة، في تحليلها الاجتماعي، أبت أن تطبق هذه النتيجة على نظريتها التاريخية نفسها. فنادت بالمادية التاريخية التي لا تقبل التغيير والتعديل، ولا يصيبها شيء من عطل أو عجز،
في المجرى للمعرفة البشرية كلها، ولم تكلف الماركسية نفسها، أن تتساءل. من أين نشا هذا المفهوم الماركسي؟ أو أن تخضعه لنظريتها العامة في المعرفة. ولو كلفت الماركسية نفسها شيئا من ذلك - كما يحتمه عليها الحساب العلمي - لإضطرت إلى القول: بأن المادية التاريخية، بوصفها نظرية معينة، قد انبثقت من خلال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. فهي ككل نظرية أخرى، نابعة من الظروف الموضوعية التي تعيشها.
وهكذا نجد، كيف أن المادية التاريخية تحكم على نفسها، من ناحية أنها تعتبر كل نظرية انعكاسا محدودا للواقع الموضوعي الذي تعيشه. ولا تعدو هي بدورها أيضا للواقع الموضوعي الذي تعيشه. ولا تعدو هي بدورها أيضا، أن تكون نظرية قد تبلورت في ذهن إنساني، عاش ظروفا اجتماعية واقتصادية معينة. فيجب أن تكون انعكاسا محدودا لتلك الظروف ومتطورة تبعا لتطورها، ولا يمكن أن تكون هي الحقيقة الأبدية للتاريخ.
ونحن وإن كنا لا نؤمن بأن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، هي السبب الوحيد لولادة النظريات والأفكار. ولكننا لا ننكر تأثيرها في تكوين كثير من الأفكار والنظريات، ولنضرب لذلك مثلا على مفاهيم المادية التاريخية، وهو مفهوم ماركس الثوري للتاريخ فقد ظن ماركس، ان إزالة المجتمع الرأسمالي، أو أي مجتمع آخر، لا يتم إلا باتصال ثوري، بين طبقتيه الأساسيتين، وهما طبقة البورجوازية، وطبقة البروليتاريا. وعلى هذا الأساس اعتبر الثورة من أعم القوانين، التي تسيطر على التاريخ البشري كله، وجاء الماركسيون بعد ذلك. فبدلا عن محاولة استكشاف
75

الظروف الاجتماعية، التي أوحت إلى ماركس بحتمية الثورة وضرورتها التاريخية. آمنوا بأن الثورة من القوانين الأبدية للتاريخ. مع أنها لم تكن في الحقيقة، إلا فكرة استوحاها ماركس، من الظروف التي عاشها، ثم قفز بها إلى مصاف القوانين المطلقة للتاريخ.
فقد عاصر ماركس، رأسمالية القرن التاسع عشر، تلك الرأسمالية المطلقة، المتميزة بظروفها السياسة والاقتصادية الخاصة. فبدا له أن التلاحم الثوري، أقرب ما يكون إلى الوقوع، وأوضح ما يكون ضرورة. لأن البؤس والنعيم والفقر والغنى، في ظل الرأسمالية المطلقة، كانا يتزايدان باستمرار ودون عائق. وكانت الظروف السياسية مظلمة إلى حد كبير فتفتق ذهن ماركس، عن فكرة النضال الطبقي، الذي يستشري ويزداد تناقضا، يوما بعد يوم، حتى ينفر البركان ويحل التناقض بالثورة. فآمن بأن الانقلاب الثوري من قوانين التاريخ العامة. ومات ماركس واختلفت الأوضاع الاجتماعية في أوروبا الغربية، وأخذت الظروف السياسية والاقتصادية، ولم يتسع البؤس، بل أخذ بالانكماش نسبيا، وأثبتت التجارب السياسية، أن بالإمكان تحقيق مكاسب مهمة للجمهور البائس، بخوض المعترك السياسي دون ما ضرورة لتفجير البركان بالدماء.
وسار الماركسيون الاشتراكيون في اتجاهين مختلفين: أحدهما: الاتجاه الإصلاحي الديمقراطي والآخر: الاتجاه الانقلابي الثوري. فالاتجاه الأول، كان هو الاتجاه العام للاشتراكية، في عدة من الأقطار الأوروبية الغربية، التي بدا للاشتراكيين، في ضوء ما حصل لها من تقدم سياسي واقتصادي، ان الثورة أصبحت غير ضرورية. وأما الاتجاه الثاني، فقد سيطر على الحركة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، التي لم تشهد ظروفا فكرية وسياسية واقتصادي، مماثلة لظروف الغرب. وقام الصراع بين الاتجاهين الماركسيين، حول تفسير الماركسية، لحساب هذا الاتجاه أو ذاك. وقدر أخيرا للاتجاه الثوري، في أوروبا الشرقية أن ينجح. فهلل له الاشتراكيون الثوريون، واعتبروه الدليل الحاسم على: أن الاتجاه الثوري، هو الذي تتجسد فيه
76

الماركسية، بمطلقاتها وأبدياتها النهائية.
وفات هؤلاء جميعا كما فات ماركس قبلهم، أنهم ليسوا إزاء حقيقة مطلقة أبدية، وإنما هم إزاء فكرة استوحاها ماركس من ظروفه، والأجواء الفكرية والسياسية التي كان يعيشها، ثم وضع عليها المساحيق العلمية، وأعلنها قانونا مطلقا، لا تقبل التخصيص والاستثناء.
وليس من شاهد على ذلك أقوى، من تناقض الاشتراكية الماركسية - كما أشرنا سابقا - واتخاذها في الشرق طابعا ثوريا، وفي الغرب طابعا ديمقراطيا إصلاحيا. فإن هذا التناقض، لا يعبر في الحقيقة عن الاختلاف في فهم الماركسية، بمقدار ما يعبر عن مدى محدودية المفهوم الماركسي، لظروفه الاجتماعية الخاصة، حيث نستنتج منه أن الثورية الماركسية، لم تكن من حقائق التاريخ المطلقة، التي تكشفت لماركس في لحظه من الزمن، وإنما هي تعبير عن الظروف التي عاشها ماركس، وحين تطورت هذه الظروف في أوروبا الغربية، وتكشفت عن أشياء جديدة، أصبحت تلك الفكرة غير ذات معنى، بالرغم من احتفاظها بقيمتها في أوروبا الشرقية، التي لم تحدث فيها تلك الأشياء.
ولا نريد بهذا أننا نؤمن، بأن كل نظرية لابد أن تكون نابعة من الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وإنما هدفنا أن نقرر:
أولا: ان بعض الأفكار والنظريات، تتأثر بالظروف الموضوعية للمجتمع فتبدو وكأنها حقائق مطلقة مع انها لا تعبر إلا عن الحقيقة، في حدود تلك الظروف الخاصة. ومن تلك الأفكار والنظريات بعض مفاهيم ماركس عن التاريخ.
ثانيا: ان جميع مفاهيم ماركس عن التاريخ، يجب ان تكون - في حكم المادية التاريخية ووفقا لنظرية المعرفة
الماركسية - حقائق نسبية، نابعة عن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، التي عاصرتها، ومتطورة تبعا لتطورها. ولا يمكن أن أن تؤخذ المادية التاريخية: بوصفها حقيقة للتاريخ. ما دامت النظريات نتاجا للظروف النسبية المتطورة كما تؤكد ذلك الماركسية نفسها.
77

3 - النظرية بما هي عامة:
بعد أن درسنا المادية التاريخية، في ضوء القواعد الفكرية الماركسية، من المادية الفلسفية، والديالكتيك، والمادية التاريخية نفسها، أو بتعبير آخر طريقة المادية التاريخية في تفسير المعرفة. وحددنا صلتها بتلك القواعد. بعد أن درسنا ذلك كله، حان الوقت للانتقال إلى المرحلة الثانية من دراسة المادية التاريخية. وذلك ان نتناولها بما هي نظرية عامة، تستوعب بتفسيرها حياة الإنسان، وتاريخه الاجتماعي كله. وندرسها بصفتها العامة هذه. بقطع النظر عن تفاصيلها، وخصائص كل مرحلة من مراحلها.
وحين نتناولها بهذا الوصف، نجد بين يدي البحث عدة أسئلة، تنتظر الجواب عليها:
فأولا: ما هو نوع الدليل، الذي يمكن تقديمه لإثبات الفكرة الأساسية، في المادية التاريخية، وهي: أن الواقع الموضوعي لقوى الإنتاج، هو القوة الرئيسية للتاريخ، والعامل الأساسي في حياة الإنسان؟
وثانيا: هل يوجد مقياس أعلى، توزن به النظريات العلمية؟. وما هو موقف هذا المقياس من النظرية الماركسية عن التاريخ؟
وثالثا: هل استطاعت المادية التاريخية حقا أن تملأ بتفسيرها الافتراضي، كل الشواغر في التاريخ الإنساني، أو بقيت عدة جوانب عامة من الحياة الإنسانية، خارج حدود التفسير المادي للتاريخ؟
79

وسوف ندير البحث حول الجواب على هذه الأسئلة الثلاثة. حتى إذا انتهينا من ذلك، انتقلنا إلى المرحلة الثالثة، من درس المادية التاريخية، درس تفاصيلها ومراحلها المتعاقبة.
أولا: ما هو نوع الدليل على المادية التاريخية؟
ولكي تتاح لنا معرفة الأساليب، التي تستعملها الماركسية، للتدليل على مفهومها المادي للتاريخ، يجب استيعاب مجموعة ضخمة، من أفكار المادية التاريخية وكتبها لأن الأساليب معروضة بشكل متقطع، وموزع في مجموع كتابات الماركسية.
ويمكننا تلخيص الأدلة التي تستند إليها المادية التاريخية، في أمور ثلاثة:
(أ) الدليل الفلسفي.
(ب) الدليل السيكولوجي.
(ج -) الدليل العلمي.
أ - الدليل الفلسفي:
أما الدليل الفلسفي - ونعني به: الدليل الذي يعتمد على التحليل الفلسفي للمشكلة، وليس على التجارب والملاحظة المأخوذة عن مختلف عصور التاريخ - فهو: أن خضوع الأحداث التاريخية لمبدأ العلية الذي يحكم العالم بصورة عامة، يرغمنا على التساؤل عن سبب التطورات التاريخية، التي تعبر عنها أحداث التاريخ المتعاقبة، وتياراته الاجتماعية، والفكرية والسياسية المختلفة. فمن الملاحظ بكل سهولة، ان المجتمع الأوروبي الحديث مثلا يختلف في محتواه الاجتماعي، وظواهره المتنوعة، عن المجتمعات الأوربية قبل عشرة قرون. فيجب أن يكون لهذا الاختلاف الاجتماعي الشامل سببه، وأن نفسر كل تغير في الوجود الاجتماعي، في ضوء الأسباب الأصلية، التي تصنع هذا الوجود وتغيره، كما يدرس العالم الطبيعي، في الحقل الفيزيائي، كل ظاهرة طبيعية، في ضوء أسبابها، ويفسرها بعلتها لأن المجالات
80

الكونية كلها - الطبيعية والإنسانية - خاضعة لمبدأ العلية. فما هو السبب - إذن - لكل التغييرات الاجتماعية، التي تبدو على مسرح التاريخ؟. قد يجاب على هذا السؤال: بأن السبب هو الفكر أو الرأي السائد في المجتمع. فالمجتمع الأوروبي الحديث، يختلف عن المجتمع الأوروبي - القديم، تبعا لنوعية الأفكار والآراء الاجتماعية العامة، السائدة في كل من المجتمعين.
ولكن هل يمكن أن نقف عند هذا في تفسير التاريخ والمجتمع؟.
إننا إذا تقدمنا خطوة إلى الأمام، في تحليلنا التاريخي، نجد أنفسنا مرغمين على التساؤل: عما إذا كانت آراء البشر وأفكارهم خاضعة لمجرد المصادفة. ومن الطبيعي أن يكون الجواب على هذا السؤال - في ضوء مبدأ العلية - سلبيا. فليست آراء البشر وأفكارهم، خاضعة للمصادفة، كما أنها ليست فطرية، تولد مع الناس، وتموت بموتهم. وإنما هي آراء وأفكار مكتسبة، تحدث وتتغير وتخضع، في نشوئها وتطورها لأسباب خاصة فلا يمكن - إذن - اعتبارها السبب النهائي، للأحداث التاريخية والاجتماعية، ما دامت هي بدورها أحداثا خاضعة لأسباب وقوانين محددة. بل يجب أن نفتش عن العوامل المؤثرة، في نشوء الآراء والأفكار وتطورها. فلماذا - مثلا - ظهر القول بالحرية السياسية في العصر الحديث، ولم يوجد في قرون أوروبا الوسطى وكيف شاعت الآراء التي تعارض الملكية الخاصة، في المرحلة التاريخية الحاضرة، دون المراحل السابقة؟
وهنا قد نفسر، بل من الضروري أن نفسر نشوء الآراء وتطورها، عن طريق الأوضاع الاجتماعية. بصورة
عامة، أو بعض تلك الأوضاع - كالوضع الاقتصادي - بوجه خاص. ولكن هذا لا يعني أننا تقدمنا في حل المشكلة الفلسفية شيئا. لأننا لم نصنع أكثر من أننا فسرنا تكون الآراء وتطورها تبعا لتكون الأوضاع الاجتماعية وتطورها. وبذلك انتهينا إلى النقطة التي ابتدأنا بها، انتهينا إلى الأوضاع الاجتماعية، التي كنا نريد منذ البدء أن نفسرها، ونستكشف أسبابها، فإذا كانت الآراء وليدة الأوضاع الاجتماعية، فما هي الأسباب التي تنشأ عنها الأوضاع الاجتماعية،
81

وتتطور طبقا لها؟ وبكلمة أخرى ما هو السبب الأصيل للمجتمع والتاريخ؟
وليس أمامنا - في هذا الحال - لاستكشاف أسباب الوضع الاجتماعي وتفسيره إلا أحد سبيلين:
الأول: أن نرجع إلى الوراء خطوة، فنكرر الرأي السابق، القائل بتفسير الأوضاع الاجتماعية بمختلف ألوانها السياسية والاقتصادية وغيرها بالأفكار والآراء. ونكون حينئذ قد درنا في حلقة مفرغة. لأننا قلنا أولا: أن الآراء والأفكار وليدة الأوضاع الاجتماعية. فإذا عدنا لنقول: ان هذه الأوضاع نتيجة للأفكار والآراء، رسمنا بذلك خطا دائريا، ورجعنا من حيث أردنا أن نتقدم.
وهذا السبيل هو الذي سار فيه المفسرون المثاليون للتاريخ جميعا. قال بليخانوف:
((وجد هيجل نفسه، في ذات الحلقة المفرغة، التي وقع فيها علماء الاجتماع، والمؤرخون الفرنسيون. فهم يفسرون الوضع الاجتماعي، بحالة الأفكار وحالة الأفكار بالوضع الاجتماعي... وما دامت هذه المسألة بلا حل، كان العلم لا ينفك عن الدوران في حلقة مفرغة، بإعلانه: أن (ب) سبب (أ)، مع تعيينه (أ) كسبب ل - (ب) (1).
والسبيل الآخر - سبيل الماركسية -: أن نواصل تقدمنا في التفسير والتعليل، وفقا لمبدأ العلية. ونتخطى أفكار الانسان وآرائه، وعلاقاته الاجتماعية بمختلف أشكالها، نتخطاها لأنها كلها ظواهر اجتماعية، تحدث وتتطور، فهي بحاجة إلى تعليل وتفسير. ولا يبقى علينا في هذه اللحظة الحاسمة، من تسلسل البحث، إلا أن نفتش عن سر التاريخ، خارج نطاق الطبيعة التي يمارسها الإنسان منذ أقدم العصور. أن قوى الإنتاج هذه، هي وحدها التي يمكنها ان تجيب على السؤال، الذي كنا نعالجه: لماذا وكيف حدثت الأحداث لا تخضع للمصادفة، وإن لك حادثة سببها الخاص (مبدأ العلية)؟.

(1) فلسفة التاريخ: ص 44.
82

وهكذا لا يمكن للتفسير التاريخي، ان ينجو من الحركة الدائرية العقيمة في مجال البحث، إلا إذا وضع يده على وسائل الإنتاج، كسبب أعلى للتاريخ والمجتمع:
هذا هو الدليل الفلسفي، وقد حرصنا على عرضه بأفضل صورة ممكنة، ويعد أهم كتاب استهدف بمجموعة بحوثه كلها، التركيز على هذا اللون من الاستدلال: (فلسفة التاريخ)، للكاتب الماركسي الكبير بليخانوف وقد لخصنا الدليل الآنف الذكر من مجموعة بحوثه.
والآن بعد أن أدركنا، الدليل الفلسفي للنظرية، بشكل جيد أصبح من الضروري تحليل هذا الدليل ودرسه، في حدود الضرورة الفلسفية، القائلة: ان الأحداث لا تنشأ صدفة (مبدأ العلية).
فهل هذا الدليل الفلسفي صحيح؟. هل صحيح أن التفسير الوحيد الذي تنحل به المشكلة الفلسفية للتاريخ هو تفسيره بوسائل الإنتاج؟.
ولكي نمهد للجواب على هذا السؤال، نتناول نقطة واحدة بالتحليل، تتصل بوسائل الإنتاج، التي اعتبرتها الماركسية السبب الأصيل للتاريخ. وهذه النقطة هي: أن وسائل الإنتاج ليست جامدة ثابتة، بل هي بدورها أيضا تتغير وتتطور على مر الزمن، كما تتغير أفكار الإنسان وأوضاعه الاجتماعية، فتموت وسيلة إنتاج، وتولد وسيلة أخرى. فمن حقنا أن نتساءل: عن السبب الأعمق الذي يطور القوى المنتجة، ويكمن وراء تاريخها الطويل، كما تساءلنا عن الأسباب والعوامل التي تصنع الأفكار، أو تصنع الأوضاع الاجتماعية.
ونحن حين نتقدم بهذا السؤال إلى بليخانوف - صاحب الدليل الفلسفي - وأضرابه. من كبار الماركسيين، لا ننتظر منهم الاعتراف بوجود سبب أعمق للتاريخ، وراء القوى المنتجة لأن ذلك يناقض الفكرة الأساسية، في المادية التاريخية، القائلة بأن وسائل الإنتاج هي المرجع الأعلى في دنيا التاريخ. ولهذا فإن هؤلاء حين يجيبون على سؤالنا، يحاولون أن يفسروا تاريخ القوى المنتجة وتطورها بالقوى المنتجة ذاتها، قائلين: إن قوى الإنتاج، هي التي تطور نفسها، فيتطور تبعا لها المجتمع
83

كله. ولكن كيف يتم ذلك؟. وما هو السبيل الذي تنهجه القوى المنتجة لتطوير نفسها؟. إن جواب الماركسية على هذا السؤال جاهز أيضا، فهي تقول في تفسير ذلك: إن القوى المنتجة - خلال ممارسة الإنسان لها - تولد وتنمي، في ذهنه باستمرار، الأفكار والمعارف التأملية (1). فالأفكار التأملية، والمعارف العلمية، تنتج كلها عن التجربة، خلال ممارسة الإنسان لقوى الطبيعة المنتجة، حين يكسب الإنسان تلك الأفكار والمعارف، عن طريق ممارسة القوى الطبيعية المنتجة، تصبح هذه الأفكار التأملية والمعارف العلمية، قوى يستعين بها الإنسان على إيجاد وسائل إنتاج، وتجديد القوى المنتجة، وتطويرها باستمرار.
ومعنى هذا: أن تاريخ تطور القوى المنتجة، تم وفقا للتطور العلمي والتأملي، ونشا عنه. والتطور العلمي بدوره، نشأ عن تلك القوى خلال تجربتها. وبهذا استطاعت الماركسية، أن تضمن لوسائل الإنتاج، موقعها
الرئيسي من التاريخ وتفسر تطورها عن طريق الأفكار التأملية، والمعارف العلمية المتزايدة، الناشئة بدورها عن قوى الإنتاج، دون أن تعترف بسبب أعلى من وسائل الإنتاج.
وقد أكد أنجلز على إمكان هذا اللون من التفسير - تفسير كل من قوى الإنتاج

(1) فان أفكار الانسان تنقسم إلى فئتين: إحداهما: الأفكار التأملية، ونعني بها معلومات الانسان عن الكون الذي يعيش فيه، وما يزخر به من ألوان الوجود، وما تسيره من قوانين نظير معرفتنا بكروية الأرض، أو أساليب تدجين الحيوان، أو بأساليب تحويل الحرارة إلى حركة، والمادة إلى طاقة، أو بأن كل حادثة خاضعة لسبب، وما إلى ذلك من آراء تدور حول تحديد طبيعة العالم، ونوعية القوانين التي تحكم عليه.
والفئة الأخرى من أفكار الانسان: الآراء العملية، وهي آراء الناس في السلوك، الذي ينبغي ان يتبعه الفرد والمجتمع، في المجالات السياسية، والاقتصادية، والشخصية. كرأي المجتمع الرأسمالي، في العلاقة التي ينبغي أن تقوم بين العامل وصاحب المال. ورأي المجتمع الاشتراكي في رفض هذه العلاقة. أو رأي هذا المجتمع أو ذاك، في السلوك الذي ينبغي أن يتبعه الزوجان. أو النهج السياسي الذي يجب على الحكومة اتباعه.
فالأفكار التأملية: هي ادراكات لما هو واقع وكائن والأفكار العملية: ادراكات لما ينبغي أن يكون، وما ينبغي أن لا يكون.
84

والأفكار التأملية في تطورهما بالآخر - ونوه: بأن الديالكتيك لا يقر تصور العلة والمعلول بوصفهما قطبين متعارضين، تعرضا حادا، كما اعتاد غير الديالكتيكيين إدراكهما كذلك، فهم يرون دائما العلة هنا، والمعلول هناك وإنما يفهم الديالكتيك العلة والمعلول، على شكل فعل ورد فعل للقوى.
هذه هي النقطة التي أوضحناها تمهيدا لتحليل الدليل الفلسفي ونقده كي نقول: إذا كان هذا ممكنا من الناحية الفلسفية، وحاز أن يسير التفسير في حلقة دائرة - كما صنعت الماركسية بالنسبة إلى القوى المنتجة وتطورها - فلماذا لا يمكن فلسفيا، أن نصطنع نفس الأسلوب، في تفسير الوضع الاجتماعي؟ ‍! فنقرر: أن الوضع الاجتماعي - في الحقيقة - عبارة عن التجربة الاجتماعية، التي يخوضها الإنسان خلال علاقاته بالأفراد الآخرين، كما يخوض تجربته الطبيعية، مع القوى المنتجة وتجديد وسائلها كذلك الأفكار العملية للمجتمع، تنمو وتتطور في ظل التجربة الاجتماعية وتؤثر في تطويرها وتجديدها.
فوعي الانسان العلمي للكون، ينمو باستمرار من خلال التجربة الطبيعية، وتنمو بسببه التجربة الطبيعية وقواها المنتجة نفسها. وكذلك وعي الإنسان العملي، للعلاقات الاجتماعية. ينمو باستمرار من خلال التجربة الاجتماعية، وتتطور بسببه التجربة الاجتماعية نفسها، وعلاقاتها السائدة.
وعلى هذا الأساس لا مانع من ناحية فلسفية يمنع الماركسية من أن تفسر الوضع الاجتماعي، عن طريق الآراء العملية. ثم تفسر تغير الآراء وتطورها، عن طريق التجربة الاجتماعية، المتمثلة في الأوضاع السياسية والاقتصادية وغيرها... لأن هذا التفسير المتبادل للوضع الاجتماعي والوعي العلمي، بالآخر.
والسؤال بعد هذا كله، لماذا يجب أن ندخل وسائل الإنتاج، في حساب التفسير
85

التاريخي والاجتماعي؟ ‍! ولماذا لا يمكن أن نكتفي بهذا التفسير المتبادل، للوضع الاجتماعي والأفكار، أحدهما بالآخر.
إن الضرورة الفلسفية، ومفاهيم العلة والمعلول، التي أكد عليها أنجلز، تسمح لنا بمثل هذا التفسير، فإن كانت توجد أسباب تمنع عن الأخذ به، فإنما هي الملاحظات والتجارب التاريخية. وذلك ما سوف نتناوله في الدليل العلمي.
ب - الدليل السيكولوجي:
نقطة البدء في هذا الدليل، هي: محاولة التدليل على أن نشوء الفكر في حياة الإنسانية، كان نتاجا لظواهر وأوضاع اجتماعية معينة. وينتج عن ذلك أن الكيان الاجتماعي، سبق وجوده التاريخي، وجود الفكر، فلا يمكن أن نفسر الظواهر الاجتماعية، في تكوينها الأول، ونشوئها، بعامل مثالي - كأفكار الإنسان - ما دامت هذه الأفكار لم تظهر في التاريخ، إلا بصورة متأخرة عن حدوث ظواهر اجتماعية معينة، في حياة الناس. وليس من اتجاه متأخرة عن حدوث ظواهر اجتماعية معينة، في حياة الناس. وليس من اتجاه علمي بعد ذلك، لتفسير المجتمع وتعليل ولادته، إلا الاتجاه المادي، الذي يطرح العوامل الفكرية جانبا ويفسر المجتمع بالعامل المادي، بوسائل الإنتاج.
فالنقطة الرئيسية في هذا الدليل - إذن - أن - نبرهن على أن الأفكار، لم تحدث في عالم الإنسانية، إلا كنتيجة ظاهرة اجتماعية سابقة. لكي يستنتج - من ذلك - أن المجتمع سابق تاريخيا على الفكر، وناشئ عن العوامل المادية، وليس ناشئا عن الأفكار والآراء.
أما كيف عالجت الماركسية هذه النقطة الرئيسية؟ وبرهنت عليها؟ فهذا ما يتضح في تأكيد الماركسية، على أن الأفكار وليدة اللغة، وليست اللغة إلا ظاهرة اجتماعية. قال ستالين:
((يقال ان الأفكار تأتي في روح الانسان، قبل أن تعبر عن نفسها في الحديث. وأنها تولد دون أدوات اللغة، أي دون إطار اللغة، أو بعبارة أخرى: تولد عارية.
86

إلا أن هذا خطأ مهما كانت الأفكار، التي تأتي في روح الإنسان، فلا يمكن أن تولد وتوجد إلا على أساس أدوات اللغة، أي على أساس الألفاظ والجمل اللغوية. فليس هناك أفكار عارية متحررة، من أدوات اللغة، أو متحررة من المادة الطبيعة التي هي اللغة. فاللغة هي الواقع المباشر للفكر، ولا يمكن أن يتحدث عن فكر، بدون لغة، إلا المثاليون وحدهم)) (1)
وهكذا ربط ستالين، بين الفكر واللغة. واعتبر اللغة أساسا لوجود الفكر. فلا يمكن الحديث عن أفكار عارية، دون أدوات اللغة.
وجاء بعد ذلك الكاتب الماركسي الكبير (جورج بولتزير)، ليبرهن على هذه الحقيقة المزعومة، في ضوء بعض الاكتشافات السيكولوجية، أو بالأحرى في ضوء الأساس الفسيولوجي لعلم النفس، الذي وضعه العالم الشهير (بافلوف) مستخلصا له من تجارب عديدة قام بها.
فقد كتب (بولتزير) معلقا على كلام (ستالين) الآنف الذكر:
((ولقد لاقت مبادئ المادية الجدلية هذه، تدعيما باهرا في العلوم الطبيعية، بفضل الأبحاث الفسيولجية، التي قام بها العالم العظيم (بافلوف). فقد اكتشف (بافلوف): ان العمليات الأساسية في النشاط المخي، هي الأفعال المنعكسة الشرطية، التي تكون في ظروف محدوده، والتي تطلقها الإحساسات، سواء الخارجية أو الداخلية وأثبت (بافلوف): أن هذه الإحساسات، تقوم بدور الإشارات الموجهة، بالنسبة لكل نشاط الكائن العضوي الحي. وقد اكتشف من ناحية أخرى: أن الكلمات - بمضمونها ومعناها - يمكن أن تحل محل الإحساسات - التي تحدثها الأشياء - التي تدل عليها. وهكذا تكون الكلمات إشارات للإشارات، أي نظاما ثانيا في العملية الإشارية، يتكون على أساس

(1) جوج بولتزير - المادية والمثالية في الفلسفية: ص 77. ونود أن نشير بهذه المناسبة: إلى أن هذا الكتاب ليس من نتاج جورج بولتزير، وإنما قام بتأليفه كاتبان ماركسيان هما: (جي ميس) و (موريس كافيج) ومنحا كتابهما اسم (بولتزير)، ولأجل هذا نضيف ما في هذا الكتاب اليه.
87

النظام الأول، ويكون خاصا بالانسان وهكذا تعتبر اللغة، هي شرط النشاط الراقي في الإنسان، وشرط نشاطه الوقتي، وركيزة النظر العقلي. فهي التي تتيح للإنسان أن يعكس الواقع، بأكبر درجة من الدقة. وبهذه الطريقة أثبت (بافلوف) أن ما يحدد - أساسا - شعور الإنسان ليس جهازه العضوي، وظروفه البيولوجية، بل يحدده - على عكس ذلك - المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان)) (2)
ولنأخذ بشيء من التوضيح محاولة (بولتزير) هذه، التي استدل فيها على رأي الماركسية، بأبحاث (بافلوف).
يرى (بولتزير)، أن من رأي (بافلوف) في العمليات الأساسية للمخ، أنها كلها إستجابات لمنبهات وإشارات معينة. وهذه المنبهات والإشارات، هي بالدرجة الأولى الإحساسات. ومن الواضح أن الاستجابة التي تحصل عن طريق الإحساسات، ليست فكرة عقلية مجردة عن الشيء، لأنها لا تحصل إلا لدى الاحساس بالشيء المعين. فهي لا تتيح للانسان أن يفكر في شيء غائب عنه. وبالدرجة الثانية يأتي دور اللغة، والأدوات اللفظية، لتقوم بدور المنبهات والإشارات الثانوية. فيشرط كل لفظ بإحساس معين، من تلك الإحساسات، فيصبح منبها شرطيا بالدرجة الثانية. ويتاح للانسان أن يفكر، عن طريق الإستجابات، التي تطلقها المنبهات اللغوية إلى ذهنه، فاللغة - إذن - هي أساس الفكر. وحيث ان الفكر. وحيث ان اللغة ليست إلا ظاهرة اجتماعية، فالفكر ليس - على هذا - إلا ظاهرة ثانوية للحياة الاجتماعية.
هذه هي الفكرة التي عرضها (بولتزير).
وبدورنا نتساءل: هل اللغة هي أساس الفكر حقا، (فليس هناك أفكار عارية متحررة من أدوات اللغة)، على حد تعبير ستالين؟. ولأجل التوضيح نطرح المسألة على الوجه التالي: هل أن اللغة هي التي خلقت من الانسان كائنا مفكرا، بصفتها ظاهرة اجتماعية معينة، كما يقرر بولتزير؟ أو أنها وجدت في حياة الانسان
(1) المادية والمثالية في الفلسفة) ص 78.
88

المفكر، نتيجة لأفكار كانت تريد الوسيلة للتعبير عنها، وعرضها على الآخرين؟. ونحن لا نستطيع أن نأخذ بالتقدير الأول، الذي حاول (بولتزير) التأكيد عليه، حتى حين ننطلق في البحث من تجارب (بافلوف)، والقاعدة التي وضعها عن المنبهات الطبيعية والشرطية.
ولكي نكون أكثر وضوحا، يجب اعطاء فكرة مبسطة عن آراء (بافلوف)، وطريقته في تفسير الفكر، تفكيرا فسيولوجيا: فإن هذا العالم الشهير، استطاع أن يدلل بالتجربة، على أن شيئا معينا إذا ارتبط بمنبه طبيعي، اكتسب نفس فعاليته، وأخذ يقوم بدوره، ويحدث نفس الاستجابة التي يحدثها المنبه الطبيعي. فتقديم الطعام إلى الكلب مثلا - منبه طبيعي، يحدث فيه استجابة معينة: إذ يسيل لعابه، أول ما يرى الاناء الذي يحتوي على الطعام. وقد لاحظ ذلك (بافلوف)، فأخذ يدق جرسا عند تقديم الطعام إلى الكلب. وكرر هذا عدة مرات. ثم أخذ يدق الجرس من دون تقديم الطعام. فوجد أن لعاب الكلب يسيل. واستنتج من هذه التجربة: أن دق الجرس أصبح يحدث نفس الاستجابة، التي كان المنبه الطبيعي (تقديم الطعام) يحدث، ويؤدي نفس دوره، بسبب اقترانه واشتراطه به عدة مرات ولهذا أطلق على دق الجرس أسم: (المنبه الشرطي) وسمي تحلب اللعاب وسيلانه، الذي يحدث بسبب دق الجرس: (استجابة شرطية).
وعلى هذا الأساس حاول جماعة، أن يفسروا الفكر الإنساني كله، تفسيرا فسيولوجيا، كما يفسر تحلب اللعاب عند الكلب تماما. فأفكار الإنسان كلها إستجابات لمختلف أنواع المنبهات. وكما أن تقديم الطعام إلى الكلب، منبه طبيعي، يستثير استجابة طبيعية وهي سيلان اللعاب، كذلك توجد بالنسبة إلى الإنسان منبهات طبيعية، تطلق إستجابات معينة، اعتدنا أن نعتبرها ألوانا من الإدراك. وتلك المنبهات، التي تطلق هذه الإستجابات، هي الإحساسات الداخلية والخارجية. وكما أن دق الجرس، اكتسب نفس الاستجابة، التي يحدثها تقديم الطعام إلى
89

الكلب، بالاقتران والاشتراط، كذلك توجد أشياء كثيرة، اقترنت بتلك المنبهات الطبيعية للانسان، فأصبحت منبهات شرطية له ومن تلك المنبهات الشرطية: كل أدوات اللغة. فلفظة الماء - مثلا - تطلق نفس الاستجابة، التي يطلقها في الاحساس بالماء. بسبب اقترانها واشتراطها به. فالإحساس بالماء، أو الماء المحسوس: منبه طبيعي، ولفظ. (الماء): منبه شرطي، وكلاهما يطلقان في الذهن، استجابة من نوع خاص.
وقد افترض بافلوف لأجل ذلك نظامين إشاريين.
أحدهما: النظام الإشاري، الذي يتكون من مجموعة المنبهات الطبيعية، والمنبهات الشرطية، التي لا تتدخل
فيها الألفاظ.
والآخر: النظام الإشاري المشتمل على الألفاظ والأدوات اللغوية، بصفتها منبهات شرطية ثانوية: فهي منبهات ثانوية، إشطرت بمنبهات النظام الإشاري الأول، واكتسبت بسبب ذلك، قدرتها على إثارة إستجابات شرطية معينة.
والنتيجة التي تنتهي إليها آراء (بافلوف) هي: أن الإنسان لا يمكنه أن يفكر بدون منبه، لأن الفكر ليس إلا استجابة من نوع خاص للمنبهات. كما أنه لا يتاح له الفكر العقلي المجرد، إلا إذا وجدت بالنسبة اليه منبهات شرطية، اكتسبت عن طريق اقترانها بالإحساسات، نفس الإستجابات التي تطلقها تلك الأحاسيس. وأما إذا بقي الانسان رهن إحساساته، فلا يستطيع أن يفكر تفكيرا مجردا، أي أن يفكر في شيء غائب عن حسه. فلكي يكون الانسان كائنا مفكرا، لا بد من أن توجد له منبهات، وراء نطاق الإحساسات نطاق المنبهات الطبيعية.
ولنفترض أن هذا كله صحيح. فهل يعين ذلك أن اللغة هي أساس وجود الفكر في الحياة الانسانية؟. كلا فإن إشراط شيء معين بالمنبه الطبيعي، لكي يكون منبها شرطيا، يحصل تارة، بصورة طبيعية. كما إذا اتفق أن اقترنت رؤية الماء بصوت معين، أو بحالة نفسية معينة، مرات عديدة، حتى أصبح ذلك الصوت أو هذه الحالة، منبها شرطيا، يطلق نفس الاستجابة التي كان يطلقها الاحساس بالماء.
90

فالاشراط في هذه الحالات إشراط طبيعي. ويحصل هذا الاشراط، تارة أخرى، نتيجة لقصد معين، كما في سلوكنا مع الطفل، إذ نقدم له شيئا كالحليب، ونكرر له أسمه، حتى يربط بين الكلمة والشيء. ويصبح الاسم منبها شرطيا للطفل، نتيجة للطريقة التي اتبعناها معه.
ولا شك في أن عدة من الأصوات والأحداث، قد اقترنت بمنبهات طبيعية، عبر حياة الإنسان، وإشطرت بها إشراطا طبيعيا. وأصبحت بذلك تطلق إستجابات معينة، في ذهن الانسان. وأما أدوات اللغة - على وجه العموم - وألفاظها، التي تم إشراطها خلال عملية اجتماعية، فهي إنما أشرطت نتيجة لحاجة الإنسان، إلى التعبير عن أفكاره ونقلها إلى الآخرين، أي أنها وجدت في حياة الإنسان، لأنه كائن مفكر، يريد التعبير عن أفكاره. إلا أن الانسان أصبح كائنا مفكرا، بسبب أن اللغة وجدت في حياته. وإلا فلماذا وجدت في حياته خاصة، ولم توجد في حياة سائر أنواع الحيوان؟!. فاللغة ليست أساس الفكر، وإنما هي أسلوب خاص للتعبير عنه، اتخذه الإنسان منذ أبعد العصور، حين وجد نفسه - وهو يخوض معركة الحياة، مع أفراد آخرين - بحاجة ملحة إلى التعبير عن أفكاره، وتفهم أفكار الآخرين، في سبي لتيسير العمليات التي يقومون بها، وتحديد الموقف المشترك أمام الطبيعة، وضد القوى المعادية.
وإنما تعلم الانسان أن يتخذ هذا الأسلوب - أسلوب اللغة - بالذات، للتعبير عن أفكاره في ضوء ما تم بفعل الطبيعة، أو المصادفة، من إشراط بعض الأصوات ببعض المنبهات الطبيعية، عن طريق اقترانها بها مرارا. فقد استطاع الانسان أن ينتفع بذلك، في نطاق أوسع، فوجدت اللغة في حياته.
وهكذا نعرف، أن اللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية، إنما نجمت عن إحساس الانسان، خلال العمل الاجتماعي المشترك، بالحاجة إلى ترجمة أفكاره، والإعلان عنها، وليست هي التي خلقت من الانسان كائنا مفكرا.
وعلى هذا الأساس، نستطيع أن نعرف: لماذا ظهرت اللغة في حياة الإنسان، دون غيره من أنواع الحيوان، كما ألمحنا سابقا؟. بل أن نعرف أكثر من ذلك: لماذا وجد
91

المجتمع الإنساني، ولم يوجد مجتمع كهذا، لأي كائن حي آخر؟. فإن الإنسان، لما كان قادرا على التفكير، فقد أتيح له وحده، أن يتخطى حدود الإحساس، فيغير من الواقع الذي يحسه، وبالتالي يغير من إحساساته نفسها، تبعا لتغيير الواقع المحسوس. ولم يتح هذا لأي حيوان آخر، لا يملك قدرة على التفكير، لأنه لا يستطيع ان يدرك ويفكر في شيء، سوى الواقع المحسوس، بأشكاله الخاصة، فلا يمكنه أن يغير الواقع إلى شيء آخر.
وهكذا كان التفكير، هو الذي خص الانسان بالقدرة، على تغيير الواقع المحسوس، تغييرا حاسما.
ولما كانت عملية تغيير الواقع هذه، تتطلب في كثير من الأحايين، جهودا متنوعة وكثيرة، فهي تتخذ لأجل ذلك طابعا اجتماعيا، إذ يقوم بها أفراد متعددون، وفقا لنوعية العملية ومدى الجهود التي تتطلبها، وبذلك توجد علاقة اجتماعية بينهم، لم يكن من الممكن أن توجد علاقة من لونها، بين أفراد نوع آخر من الحيوان. لأن الحيوانات الأخرى، حيث أنها ليست كائنات مفكرة، فهي عاجزة عن القيام بعمليات تغيير حاسم للواقع المحسوس، وبالتالي لا توجد فيما بينها علاقة اجتماعية، من ذلك اللون.
ومنذ يدخل الناس في عمليات مشتركة، لتغيير الواقع المحسوس، يصحون بحاجة إلى لغة. لأن الإشارات الحسية إنما تعبير عن الواقع المحسوس، ولا تستطيع أن تعبر عن فكرة تغييره، وعن الروابط الخاصة بين الأشياء المحسوسة التي يراد تعديلها أو تغييرها. فتوجد اللغة في حياة الانسان، إشباعا لهذه الحاجة، وإنما وجدت في حياته وحده، لأن الحيوان لم يشعر بمثل هذه الحاجة الانسانية التي كانت وليدة العمل الاجتماعي، القائم على أساس التفكير، لتغيير الواقع المحسوس، وإيجاد تعديلات حاسمة فيه.
ج - - الدليل العلمي:
يسير التفسير العلمي لظواهر الكون المتنوعة، في خط متدرج. فهو يبدأ بوصفه فرضية، أي تفسيرا افتراضيا
للواقع، الذي يعالجه العالم، وحاول استكشاف أسراره
92

وأسبابه. ولا يصل هذا التفسير الافتراضي، إلى الدرجة العلمية، إلا إذا استطاع الدليل العلمي، أن يبرهن، وينفي إمكان أي تفسير آخر، للظاهرة موضوعة البحث، عداه. فما لم يقم الدليل على ذلك، لا يصل التفسير المفترض إلى درجة اليقين العلمي، ولا يوجد مبرر لقبوله، دون سواه من الافتراضات والتفاسير. فمثلا قد نجد شخصا معينا، يلتزم في ساعة معينة، بالعبور من شارع خاص. وقد نفترض لتفسير هذه الظاهرة: أن هذا الشخص يسلك هذا الطريق بالذات، في كل يوم، لأن له عملا يوميا في معمل، يقع في منتهى الشارع. وهذا الافتراض وإن كان يصلح لتفسير الواقع، غير أن ذلك لا يعين قبوله، ما دام من الممكن أن نفسر سلوك هذا الشخص، في ضوء آخر: كما إذا افترضنا أنه يزور صديقا له، يسكن بيتا في ذلك الشارع. أو يراجع طبيبا يقطن في تلك المنطقة، ليستشيره في حالة مرضية. أو يقصد مدرسة معينة، تلقى فيها المحاضرات بصورة رتيبة.
وهكذا الأمر في التفسير الماركسي للتاريخ (المادية التاريخية)، فإنه لا يمكن - حتى إذا افترضنا كفاءته لتفسير الواقع التاريخي - إن يكتسب الدرجة العلمية أو الوثوق العلمي، ما لم يخرج عن كونه افتراضا، ويحصل على دليل علمي، يدحض كل افتراض عداه، في تفسير التاريخ.
ولنأخذ تفسير المادية التاريخية للدولة مثالا لذلك. فهي تفسير نشوء الدولة ووجودها في حياة الانسان، على أساس العامل الاقتصادي، والتناقض الطبقي، فالمجتمع المتناقض طبقيا، يلتهب فيه الصراع، بين الطبقة القوية المالكة لوسائل الإنتاج، والطبقة الضعيفة التي لا تملك شيئا، فتقوم الطبقة الغالبة، بإنشاء أداة سياسية لحماية مصالحها الاقتصادية، والحفاظ على مركزها الرئيسي. وهذه الأداة السياسية في الحكومة، بمختلف أشكالها التاريخية.
وهذا التفسير الماركسي للدولة أو الحكومة، لا يكتسب قيمة علمية مؤكدة، إلا إذا أفلست كل التفاسير، التي يمكن أن يبرر بها نشوء الدولة في المجتمع البشري، سوى كونها أداة سياسية للاستغلال الطبقي. وأما إذا استطعنا، أن نفسر هذه الظاهرة
93

الاجتماعية على أساس آخر، ولم يدحض الدليل العلمي ذلك، فليس التفسير الماركسي، تفسيرا علميا، إذا أمكن - مثلا - أن نفسر نشوء الدولة، على أساس تعقيد الحياة المدنية. ونبرر بذلك قيام الدولة في كثير من المجتمعات البشرية. ففي مصر القديمة - مثلا - لم تكن الحياة الاجتماعية فيها ممكنة، بدون جهود معقدة جسيمة، وعمل واسع شامل، لتنظيم جريان وفيضان الأنهر الكبيرة، وتنظيم شؤون الري. فظهرت الدولة لتسيير الحياة الاجتماعية، والإشراف على العمليات المعقدة، التي تتوقف الحياة العامة عليها. ولأجل هذا نجد أن طائفة الاكليروس المصريين، كانوا يتمتعون بمكانة عليا في جهاز الدولة المصرية القديمة، لا على أساس طبقي، وإنما على أساس الدور الخطير، الذي لعبته معارفهم العلمية، في نظام الزراعة المصرية. وكذلك أيضا نجد أن رجال الكنيسة، تمتعوا بمركز كبير في جهاز الدولة الرومانية، عندما دخل الجرمان في الدولة الرومانية، أفواجا متبرة تلو أفواج. إذ بدت الكنيسة - على إثر ما أدى إليه الغزو الجرماني، من انهيار التعليم والثقافة - صاحبة الصدارة الفكرية في البلاد، حيث صار الرجل من رجال الدين الكنيسي، هو الوحيد الذي يعرف القراءة والكتابة، والتكلم باللاتينية. وهو الذي يفهم دون غيره - حساب الشهور، ويستطيع أن يمارس العمل الرتيب، لتصريف شؤون الإدارة الحكومية، بينما انصرف ملوك الجرمان، والقادة العسكريون منهم، إلى صيد الخنازير والإبل والغزال، وخوض معارك الغزو والتخريب.
فكان من الطبيعي، أن يسيطر رجال الكنيسة على الإدارة الحكومية في البلاد، ويكون لهم أثر كبير في الجهاز السياسي الحاكم، الأمر الذي جلب لهم من المغانم والمكاسب، ما جعلهم - في رأي الماركسية - طبقة ذات مصالح اقتصادية معينة. فالنفوذ الاقتصادي أو المصالح الاقتصادية، إنما حصلت عن طريق الوجود السياسي. وأما وجودهم السياسي في جهاز الحكم، فلم يكن قائما على أساس ذلك النفوذ الاقتصادي، الذي اكتسبوه بعد ذلك، وإنما قام على أساس امتيازاته الفكرية والإدارية.
94

ولن يكون التفسير الماركسي للدولة، تفسيرا علميا، إذا أمكن أن نفترض: أن للعقيدة الدينية، تأثيرا في تكوين كثير من الدول والسلطات السياسية، التي كانت ترتكز على أساس ديني، وتتمثل في جماعات لا تشترك في مصلحة طبقية، وإنما تشترك في طابع ديني واحد.
وكذلك إذا أمكن أن نفترض: أن نشوء الدولة في المجتمع الانساني، كان إشباعا لنزعة أصيلة في النفس الانسانية، التي تملك استعدادا كامنا للميل إلى السيطرة والتفوق على الآخرين. فكانت الحكومة من وحي هذا الميل، وتعبيرا عمليا عنه.
ولا أريد أن أستقصي كل الفرضيات، التي يمكن تفسير الدولة على أساسها، وإنما أرمي من وراء هذا، إلى القول بأن تفسير الماركسية، للدولة، لا يمكن أن يكتسب طابعا عمليا، ما لم يستطع أن يدحض سائر تلك الافتراضات، ويقدم الدليل من الواقع على زيفها.
وقد سقنا تفسير الماركسية للدولة، كنموذج لسائر مفاهيمها وفرضياتها التاريخية، التي تفسر المجتمع الانسان
على أساسها. فإن جميع تلك الفرضيات تتطلب من الماركسية - لكي تصبح نظريات علمية جديرة بالقبول - أن تقدم الدليل على كذب كل فرضية سواها. ولا يكفي لقبولها أن تكون فرضيات ممكنة صالحة للانطباق على الواقع وتفسيره.
فلنرى - إذن - ماذا يمكن للماركسية أن تقدمه من دليل علمي بهذا الصدد؟. ان أول وأهم عقبة تواجه الماركسية في هذا المجال، هي العقبة التي تضعها في طريقها، طبيعة البحث التاريخي. ذلك أن البحث في المجال التاريخي، (نشوء المجتمع، وتطوره، والعوامل الأساسية فيه). يختلف عن البحوث العلمية في مجالات العلوم الطبيعية، التي يستخلصها العالم الفيزيائي - مثلا - من تجاربه العملية في المختبر.
فالباحث التاريخي، والعالم الفيزيائي، وإن كانا يلتقيان عند نقطة واحدة، وهي: أن كلا منهما يتناول مجموعة من الظواهر - ظواهر المجتمع البشري كالدولة والأفكار والملكية. أو ظواهر الطبيعة كالحرارة والصوت والنور - ويحاولان تنظيم تلك الظواهر، بصفتها موادا للبحث، واستكشاف أسبابها، والعوامل الأساسية فيها...
95

غير أنهما يختلفان في موقفهما العلمي، من تلك الظواهر موضوعة الدرس ومرد اختلافهما إلى سببين: فان الباحث التاريخي، الذي يريد أن يفسر المجتمع البشري، ونشوءه وتطوره ومراحله، في ضوء الظواهر التاريخية والاجتماعية، لا يستطيع أن يتبين هذه الظواهر بصورة مباشرة، كما يتبين العالم الفيزيائي ظواهر الطبيعة، التي يدرسها في مختبره الخاص، وإنما هو مضطر إلى تكوين فكرة عنها، ترتكز على النقل والرواية، وشتى المخلوقات العمرانية وغيرها من الآثار، ذات الدلالة الناقصة. فالفرق إذن كبير جدا، بين الظواهر الطبيعية، التي يرتكز عليها البحث العلمي، في العلوم الطبيعة، بصفتها المواد الرئيسية له، وبين الظواهر التاريخية، التي يقوم على أساسها البحث التاريخي، بصفتها موادا أولية له. فالمواد في العلوم الطبيعية، ظواهر معاصرة للعالم الطبيعي، موجودة في مختبره، يستطيع مشاهدتها، وتسليط الضوء العلمي عليها، وبالتالي وضع تفسير كامل لها.. وعلى العكس من ذلك تماما، المواد التي يملكها الباحث التاريخي. فإنه لدى محاولة استكشاف العوامل الأساسية في المجتمع، وكيفية نشوئه وتطوره، مضطر إلى الاعتماد في تكوين مواد البحث، وفي الاستنتاج والتفسير، على كثر من الظواهر التاريخية للمجتمع، التي لا يستطيع الباحث مشاهدتها، إلا من خلال النقل والرواية، أو من خلال بعض الآثار التاريخية الباقية ونذكر على سبيل المثال أنجلز، بوصفه باحثا تاريخيا، حاول في كتابه (أصل العائلة) تفسير الظواهر الاجتماعية علميا، فاضطر إلى الاعتماد - بصورة رئيسية - في استنتاجاته، على روايات ومزاعم مؤرخ أو رجالة معين، هو مورغان.
وهكذا يختلف البحث التاريخي، عن البحث الطبيعي من ناحية المادة (الظواهر)، التي يملكها الباحث، ويقيم عليها تفسيره واستنتاجه. ولا يقف اختلافهما عند هذا الحد. فإنهما كما يختلفان من ناحية المادة، كذلك يوجد سبب آخر لاختلافهما من ناحية الدليل الذي يمكن للباحث استخدامه، في سبيل تدعيم هذا التفسير العلمي أو ذاك.
96

فإن الباحث التاريخي حين يحصل على مجموعة من الظواهر والأحداث التأريخية، لا يملك تجاهها تلك الإمكانيات، التي يملكها الفيزيائي مثلا، تجاه الذرة وظواهرها، ونواتها وكهاربها وإشعاعاتها. لأن الباحث التاريخي، مضطر لأخذ الظواهر والأحداث التاريخية كما هي، ولا يمكنه أن يطور أو يغير شيئا منها، عن طريق التجربة. وأما العالم الفيزيائي، فهم يستطيع أن يجري تجاربه المختلفة على المادة التي يعالجها، ويستعبد منها ما يشاء، ويضم إليها ما يشاء. وحتى في المجال الذي لا تخضع المادة المدروسة فيه للتغيير، كعلم الفلك، يمكن للعالم الفلكي أن يغير من علاقاته بتلك المادة، بواسطة التلسكوب، ومن موقعه واتجاهاته.
وعجز الباحث التاريخي عن القيام بتجارب على الظواهر التاريخية والاجتماعية يعني عدم تمكنه من تقديم دليل تجريبي على نظرياته التي يفسر بها التاريخ، ويستكشف أسراره.
فلا يستطيع - مثلا لدى محاولة الكشف عن العامل الأساسي لظاهرة تاريخية معينة - أن يستعمل الأساليب العلمية الأساسية، التي يقررها المنطق التجريبي، ويستعملها العلماء الطبيعيون، كطريقتي: الاتفاق والاختلاف، الطريقتين الرئيسيتين في الاستدلال التجريبي. لأن هاتين الطريقتين تتوقفان كلاهما، على إضافة عامل بأسره، أو حذف عامل بأسره، لنرى مدى ارتباطه مع عامل آخر. وهذه هي طريقة الاتفاق. ثم يعزل (ب)، هي سبب (أ) يجمع بينهما في ظروف مختلفة. وهذه هي طريقة الاتفاق. ثم يعزل (ب)، ليرى هل يزول (أ) تبعا لذلك. وهذه هي طريقة الاختلاف. ومن الواضح أن الباحث التاريخي، لا يتمكن من تغيير الواقع التاريخي للانسانية، ولا يقدر على شيء من ذلك.
ولنأخذ - مثلا على ذلك الدولة بوصفها ظاهرة تاريخية، والحرارة بوصفها ظاهرة طبيعية. فان العامل الطبيعي إذا حاول أن يفسر الحرارة، تفسيرا علميا ويستكشف السبب الرئيسي لها، أمكنه أن يفترض: أن الحرارة هي سبب الحرارة، إذ أدرك اقترانهما في حالات عديدة. ولكي يتأكد من صحة هذا الافتراض، يستعمل
97

طريقة الاتفاق، فيقوم بعدة تجارب، يحاول في كل واحدة منها، إبعاد شيء من الأشياء، التي تقترن بالحركة والحرارة، ليتأكد من الحرارة، ليتبين ما إذا كان من الممكن أن توجد حرارة بدون حركة، فإذا كشفت التجربة
: ان الحرارة توجد متى ما وجدت الحركة، مهما كانت الظروف والأحداث الأخرى وأنها تختفي في الحالات التي لا توجد فيها حركة.. ثبت علميا أن الحركة هي سبب الحرارة.
وأما الباحث التاريخي، حين يتناول الدولة بصفتها ظاهرة تاريخية في حياة الانسان، فهو قد يفترض أنها نتاج مصلحة اقتصادية، لفئة معينة من المجتمع، ولكنه لا يستطيع أن يدحض الافتراضات الأخرى بالتجربة. فلا يمكنه - مثلا ان يبرهن تجريبيا، على أن الدولة ليست نتاجا لنزعة سياسية في نفس الإنسان أو لحالة تعقيد معينة في الحياة المدنية والاجتماعية.
لأن غاية ما يتاح للباحث التاريخي، أن يضع إصبعه على عدد من الحالات التاريخية، التي اقترن فيها ظهور الدولة بمصلحة اقتصادية معينة، ويحشد عددا من الأمثلة التي وجد فيها الدولة بمصلحة اقتصادية معينة، ويحشد عددا من الأمثلة التي وجد فيها الدولة والمصلحة الاقتصادية معا (وهذا ما يسمى في المنطق التجريبي أو العلمي بطريقة التعداد البسيط).
ومن الواضح أن طريقة التعداد البسيط هذه، لا تبرهن علميا على ان المصلحة الاقتصادية الطبقية هي السبب الأساسي الوحيد، لظهور الدولة إذ من الجائز أن يكون للعوامل الأخرى أثرها الخاص، في تكوين الدولة، وحيث أن الباحث لا يستطيع أن يغر الواقع التاريخي - كما يغير الفيزيائي الظواهر الطبيعية بتجاربه - فهو لا يتمكن من إفراز وعزل سائل العوامل الأخرى، عن واقع المجتمع ليدرس نتيجة هذا العزل. ويتبين: ما إذا كانت الدولة - كظاهرة اجتماعية - ستزول بعزل تلك العوامل، أولا
ويستخلص مما سبق أن البحث التاريخي يختلف عادة عن البحوث العلمية الطبيعية! من ناحية المادة التي يقوم على أساسها الاستنتاج، أولا. ومن ناحية الدليل الذي يدعم ذلك الاستنتاج، ثانيا.
98

وإذا استبعدنا الدليل التجريبي الدقيق، عن نطاق البحث التاريخي، لم يبق لدى مفسر التاريخ إلا الملاحظة المنظمة، التي تحاول أن تستوعب أكبر مقدار ممكن، من أحداث التاريخ وظواهره، حيث يأخذه الباحث التاريخي كما هي، ويحاول أن يفسرها، ويضع لها مفاهيمها العامة، على طريقة التعداد البسيط.
وعلى هذا الأساس نعرف: أن الماركسية لم تكن تملك - حين وضعت مفهومها الخاص عن التاريخ - سندا علميا لها، سوى الملاحظة، التي رأتها الماركسية كافية، للتدليل على وجهة نظرها المعينة إلى التاريخ. وأكثر من هذا، أنها زعمت: أن الملاحظة المحدودة في نطاق تاريخي ضيق، تكفي وحدها لإستكشاف قوانين التاريخ كلها، واليقين العلمي بها. فقد قال أنجلز:
((ولكن فيما كان البحث عن هذه الأسباب المحركة في التاريخ مستحيلا تقريبا، في سائر المراحل السابقة، بسبب تعثر علاقتها وتخفيها مع ردود الفعل، التي تؤثر بها، فإن عصرنا قد بسط هذه العلائق كثرا، بحيث أمكن حل اللغز. فمنذ انتصار الصناعة الكبرى، لم يعد خافيا على أحد في إنكلترا، بأن النضال السياسي كله يدور فيها حول طموح طبقتين إلى السلطة، ألا وهما: الأرستقراطية العقارية، البورجوازية)) (1).
ومعنى هذا: أن ملاحظة الوضع الاجتماعي، في فترة معينة من حياة أوروبا أو انكلترا خاصة، كانت كافية في رأي المفكر الماركسي الكبير أنجلز، لليقين العلمي، بأن العامل الاقتصادي، والتناقض الطبقي، هو العامل الأساسي في التاريخ الإنساني كله، بالرغم من أن فترات التاريخ الأخرى، لا تكشف عن ذلك لأنها غائمة معقدة، كما اعترف بذلك (أنجلز) نفسه، فمشهد واحد من مشاهد التاريخ في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، استطاع أن يقنع الماركسية بأن القوى المحركة للتاريخ، عبر عشرات الآلاف من السنين، هي قوى العامل الاقتصادي، يقنعها بذلك لا لشيء، إلا لأن هذا العامل، هو الذي بدا لها أنه مسيطر على ذلك المشهد التاريخي

(1) (لودفيج فيورباخ) ص 95.
99

الخاص، مشهد انكلترا في تلك الفترة المحدودة من تاريخها.
مع أن سيطرة عامل معين، على مجتمع في فترة خاصة، لا تكفي للتدليل على سيطرته الرئيسية، في كل أدوار التاريخ، وفي كل المجتمعات، إذ قد يكون لهذه السيطرة نفسها أسبابها وعواملها الخاصة. فيجب قبل إصدار الأحكام النهائية في حق التاريخ، أن يقارن المجتمع الذي بدا العامل الاقتصادي مسيطرا عليه، بالمجتمعات الأخرى، حتى يبحث عما إذا كان لهذه السيطرة، ظروفها وأسبابها الخاصة؟.
ومن الجدير بهذا الصدد أن نلاحظ كلاما آخر لأنجلز، ساقه في مناسبة أخرى، وهو يعتذر عن أخطاء وقع فيها، من جراء التطبيق الديالكتيك على غير المجتمع، من مجالات الكون والحياة، قائلا:
((وغني عن البيان، بأنني كنت قد عمدت إلى سرد المواضيع في الرياضيات والعلوم الطبيعية، سردا عاجلا وملخصا، بغية أن أطمئن تفصيلا إلى ما لم أكن في شك منه بصورة عامة، إلى أن نفس القوانين الديالكتيكية للحركة، التي تسيطر على العفوية الظاهرة للحوادث في التاريخ، تشق طريقها في الطبيعة...)) (1)
ونحن إذا قارنا هذا الكلام بالكلام السابق لأنجلز، استطعنا أن نعرف كيف أتيح لمفكر ماركسي مثل أنجلز، أن يكون مفهومه العام عن التاريخ، وبالتالي مفهومه الفلسفي عن الكون والحياة وكل ظواهره، من خلال الضوء الذي يلقيه مشهد تاريخي واحد لمجتمع خاص من المجتمعات البشرية. في فترة محدودة من الزمن بطريقة سهلة جدا. فما دام هذا المشهد التاريخي المعين، يكشف عن صراع بين جماعتين في المجتمع، فيجب أن يكون التاريخ كله صراعا بين المتناقضات. وإذا كان التناقض هو الذي يسود التاريخ، فيكفي هذا ليؤمن أنجلز بأن
نفس قوانين التناقض هذه، تشق طريقها في الطبيعة، على حد تعبيره، وأن الكون كله صراع بين مختلف التناقضات الداخلية.

(1) ضد دوهرنك: ج 2 ص 193.
100

ثانيا - هل يوجد مقياس أعلى؟
إن المقياس الأعلى في رأي الماركسية، لاختبار صحة كل نظرية، هو مدى نجاحها في مجال التطبيق. فالنظرية عند الماركسيين لا يمكن أن تنفصل عن التطبيق وهذا ما يسمى في الديالكتيك بوحدة النظرية والتطبيق. قال ماوتسي تونغ:
((إن نظرية المعرفة في المادية الديالكتيكية تضع التطبيق في المقام الأول. فهي ترى أن اكتساب الناس للمعرفة يجب أن لا ينفصل بأية درجة كانت عن التطبيق وتشن نضالا ضد كل النظريات الخاطئة التي تنكر أهمية التطبيق، أو تسمح بانفصال المعرفة عن التطبيق)) (1).
وقال جورج بولتزير:
((فمن المهم إذن أن نفهم معنى وحدة النظرية والتطبيق، ومعنى ذلك: أن من يهمل النظرية يقع في فلسفة الممارسة. فيسلك كما يسلك الأعمى ويتخبط في الظلام، أما ذلك الذي يهمك التطبيق فيقع في الجمود المذهبي)). (2)
على هذا الأساس نريد أن ندرس المادية التاريخية، وبكلمة أخرى: ندرس النظرية الماركسية العامة عن التاريخ، لنتعرف على نصيبها من النجاح، في مجال التطبيق الثوري الذي خاضه الماركسيون.
ومن الواضح، أن الماركسيين إنما أتيحت لهم محاولة تطبيق النظرية، بالنسبة إلى جزء خاص منها، وهو الجزء الذي يتصل بتطوير المجتمع الرأسمالي إلى مجتمع اشتراكي، وأما الجوانب الأخرى، النظرية، فهي تتعلق بقوانين لمجتمعات تاريخية، وجدت في حياة الإنسان وانصرمت، ولم تعاصرها الماركسية ولا ساهمت في إيجادها.
فلنأخذ الجزء الخاص من النظرية، الذي يتصل بتطوير المجتمع الرأسمالي ونشوء
101

الاشتراكية، والذي مارست الماركسية تطبيقه، لنتبين وحدة النظرية والتطبيق أو تناقضهما، وبالتالي لنحكم على النظرية، لنتبين وحدة النظرية والتطبيق أو تناقضهما، وبالتالي لنحكم على النظرية، وفقا لمقدار نجاحها أو فشلها في مجال التطبيق ما دام التطبيق في رأي الماركسية هو المعيار الأساسي لتقويم النظريات، والعنصر الضروري للنظرية العلمية الصحيحة.
وبهذا الصدد، يمكننا أن نقسم البلاد الاشتراكية، التي مارست تطبيق النظرية الماركسية جزئيا أو كليا، إلى قسمي، جاء التطبيق في كل منهما بعيدا عن النظرية ونبوءاتها العلمية وما حددته، قوانين لمجرى التاريخ وتياراته الاجتماعية.
فالقسم الأول هو: البلاد الاشتراكية، التي فرض عليها النظام الاشتراكي فرضا، بقوة الجيش الأحمر، كعدة من أقطار أوروبا الشرقية، مثل: بولونيا وتشيكو سلوفاكيا والمجر، ففي هذه الأقطار ونظائرها، لم يحصل التحول الاشتراكي بحكم ضرورة من الضرورات التي تحددها النظرية، وليم تنبثق الثورة عن تناقضات المجتمع الداخلية، وإنما فرضت من الخارج ومن الأعلى بواسطة الحرب الأجنبية والغزو العسكري المسلح وإلا فأي قانون من قوانين التاريخ شق ألمانيا نصفين وأدرج جزءها الشرقي ضمن العالم الاشتراكي، وجزئها الآخر ضمن العالم الرأسمالي؟ أهو قانون القوى المنتجة؟ أو حكم الجيش الفاتح، الذي فرض على البقعة التي ملكها نظامه وأفكاره؟!.
وأما القسم الثاني من البلاد الاشتراكية: فقد أقيمت فيها الأنظمة الاشتراكية بقوة الثورات الداخلية، ولكن هذه الثورات الداخلية لم تتجسد فيها قوانين الماركسية، ولم تجيء طبقا للنظرية التي حل بها الماركسيون كل ألغاز التاريخ.
فروسيا - وهي البلد الأول في العالم الذي سيطر عليه النظام الاشتراكي بفعل الثوارت الداخلية - قد كانت في مؤخرة الدول الأوربية، من الناحية الصناعية، ولم يكن نمو القوى المنتجة فيها، قد بلغ الدرجة التي تحددها النظرية لإمكانية التحول، واندلاع الثورة الاشتراكية. فلم يلعب تزايد القوى المنتجة دوره الرئيسي في تقرير شكل النظام، وتكوين جوهر المجتمع وفقا للنظرية، بل لعب دورا معكوسا، إذ نمت القوى المنتجة في بلاد كفرنسا وبريطانيا وألمانيا نموا هائلا، ودخلت تلك
102

البلاد في درجة عالية من التصنيع، وبمقدار ارتقائها في هذا المضمار، كان بعدها عن الثورة، ونجاتها من الانفجار الثوري الشيوعي المحتوم، في مفاهيم المادية التاريخية.
وأما روسيا فقد كانت الحركة التصنيعية فيها منخفضة جدا، وكان الرأسمال المحلي عاجزا تماما عن حل مشاكل التصنيع السريع، في ظل ظروفها السياسية والاجتماعية، ولم يكن هناك موضع للقياس: بين الرأسمالية الصناعية في تلك البلاد المتخلفة، وبين قوى الصناعة وضخامة الرأسمال الصناعي في الغرب الأوروبي، ومع ذلك أخصب الاتجاه الثوري فيها وتفجر، وجاءت الثورة الصناعية، كنتيجة للثورة السياسية، فكان الجهاز الانقلابي في الدولة، هو الأداة الفعالة لتصنيع البلاد، وتطوير قواها المنتجة، ولم يكن التصنيع وتطور قوى
البلاد المنتجة، هو السبب في خلق ذلك الجهاز وإنشاء تلك الأداة.
وإذا كان من الضروري، أن نربط بين الثورة من ناحية، وحركة التصنيع والقوى المنتجة من ناحية أخرى، فالشئ المعقول أن نعكس العلاقة الماركسية المفترضة بين الثورة والتصنيع ((فنعتبر أن انخفاض المستوى الصناعي والإنتاج، من العوامل المهمة، التي أدت إلى دق أجراس الثورة في بلد كروسيا، على العكس تماما من افتراض النظرية الماركسية، القائل: إن الثورة الاشتراكية، بموجب القوانين المادية للتاريخ، لا يتكون إلا نتاجا لنمو الرأسمالية الصناعية وبلوغها الذروة. فروسيا مثلا - لم يدفعها نمو قوى الإنتاج إلى الثورة، بمقدار ما دفعها انخفاض تلك القوى وتخلفها الخطر، عن ركب الدول الصناعية، التي قفزت بخطوات العمالقة في مضمار الصناعة والإنتاج، فكان لابد لكي تحتفظ روسيا بوجودها الحقيقي في الأسرة الدولية، أن تنشئ الجهاز السياسي والاجتماعي، الذي يحل مشاكل التصنيع حلا سريعا، ويدفع خلق الجهاز القادر على حل هذه المشاكل تقع روسيا حتما فريسة الاحتكارات، التي تقيمها الدول السباقة، وينتهي وجودها كدولة حرة على مسرح التاريخ.
103

وهكذا نجد - إذا نظرنا إلى روسيا، زاوية القوى المنتجة، والحالة الصناعية - كما تنظر الماركسية دائما - أن المشكلة الرئيسية هي: مشكلة إيجاد التصنيع، لا تناقض نمو التصنيع مع كيانات المجتمع السياسية والاقتصادية.
وقد تسلمت الثورة الاشتراكية الحكم واستطاعت بطبيعة كيانها السياسي (القائم على سلطة مطلقة لا حدود لها) وطبيعة كيانها الاقتصادي (القائم على تركيز كل عمليات الإنتاج في وجهة واحدة هي الدولة) أن تخطو خطوات جبارة في تصنيع البلاد. فكانت الحكومة الاشتراكية هي التي تخلق أسباب وجودها والمبررات الماركسية لنشوئها، وتنشئ الطبقة التي تزعم أنها تمثلها، وتنقل القوى المنتجة في البلد إلى المرحلة التي أعدها (ماركس) لاشتراكية العلمية.
ومن حقنا بعد هذا أن نتساءل عما إذا كانت تقوم حكومة ثورية في روسيا تحمل الطابع السياسي والاقتصادي للاشتراكية، لو أن روسيا لم تكن متأخرة صناعيا وسياسيا وفكريا، عن مستوى الدول الصناعية الكبرى؟!
والصين - وهي البلد الآخر الذي ساد فيه النظام الاشتراكي بالثورة - نجد فيها - كما وجدنا في روسيا - التناقض الواضح بين النظرية والتطبيق. فلم تكن الثورة الصناعية هي العامل الأساسي في تكوين الصين الجديدة، وقلب نظام الحكم فيها، ولم يكن لوسائل الإنتاج، وفائض القيمة، وتناقضات رأس المال، التي تقررها قوانين المادية التاريخية، أي دور رئيسي في المعترك السياسي.
وشئ آخر جدير بالملاحظة هو: أن الثورات الداخلية، التي مارست عملية تطبيق الاشتراكية الماركسية، لم تكن تعتمد في انتصارها على الصراع الطبقي، وانهيار الطبقة الحاكمة أمام الطبقة المحكومة، بسبب شدة التناقضات الطبقية بينهما، بمقدار ما اعتمدت على انهيار الجهاز الحاكم، انهيارا عسكريا، بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي مكن للقوى المعارضة - وعلى رأسها الحزب الشيوعي - من الإنتصار السياسي، بشكل ثوري، أدى إلى امتلاك الحزب الشيوعي لأزمة الحكم، بصفته أبرع
104

القوى المعارضة تنظيما وتكتلا، وأقواها وحدة من الناحية الفكرية القيادية، وكذلك الثورة الشيوعية في الصين، فإنها وإن بدأت قبل الغزو الياباني، ولكنها ظلت لمدة عقد كامل، تنتشر وتتوسع، لتخرج نهائيا منتصرة بانتهاء الحرب. فلم يستطع مرة واحدة حتى الآن أن يحقق النصر عن طريق التناقض الداخلي فحسب، أو أن يحطم جهاز الدولة ما لم تحطم الجهاز ظروف حربية وخارجية، تدعو إلى زعزعته وانهياره.
فملامح النظرية وسماتها العامة، لم تبد على التطبيق، وإنما كل ما بدا من خلال التطبيق، ان مجتمعا حدثت فيه ثورة قلبت نظامه، وعصفت بالجهاز الحاكم فيه، بعد تصدع هذا الجهاز لظروف عسكرية وخارجية واجتاح الناس شعور قوي بالحاجة إلى لون جديد من الحياة السياسية والاجتماعية
ونفس هذه العوامل التي أنجحت الثورة في روسيا، أو هيأت لها، كانت موجودة - كليا أو جزئيا - في عدة أقطار أخرى، شهدت نفس ما شاهدته روسيا من ظروف عسكرية، وتمخضت على أثر الحرب العالمية الأولى بثورات مماثلة، لعب فيها تصدع السلطات الحاكمة، والشعور الثوري بعدم كفاءتها، والاحساس بالحاجة المتزايدة إلى التقدم السريع، للالتحاق بالركب الامامي للعالم. دورا خطيرا، غير أن الثورة الوحيدة التي اتخذت الطابع الاشتراكي، هي الثورة الروسية. ولا يمكننا أن نجد سبب ذلك في اختلاف قوى الإنتاج، التي كانت متشابهة إلى حد ما في تلك الأقطار، وإنما نجده في الظروف الفكرية التي كانت تمر بها تلك الأقطار، والتيارات المتناقضة التي كانت تعمل في الحقل السياسي، والمجال الثوري هنا وهناك.
فإذا كان من الحق ما يزعمه المنطق الديالكتيكي للماركسية، من وحدة النظرية والتطبيق، وان التطبيق هو الأساس الوحيد لتدعيم النظرية، فمن الحق أيضا أن المادية التاريخية، لا تزال تفقد حتى الآن هذا الدليل، لأن التطبيق الذي حققته الماركسية، لم يحمل خصائص النظرية، ولم تنعكس عليه ملامحها. حتى أن لينين - وهو الثوري الروسي الأول، الذي كان يخوض معركة التطبيق ويقودها - لم يستطع
105

أن يتنبأ بموعد وبشكل اندلاع الثورة، إلا بعد أن أصبحت الثورة على قاب قوسين أو أدنى. وليس ذلك إلا لأن
دلائل المجتمع وأحداثه، لم تكن لتنطبق على الدلائل والأحداث، التي تحدد النظرية على أساسها، سمات المجتمع، المشرف على العمل الثوري الاشتراكي. فقد خطب لينين في اجتماع للشباب الاشتراكي السويسري، قبل شهر واحد من ثورة شباط وقبل عشرة أشهر من ثورة أكتوبر الشيوعية، فقال في خطابه:
((لعلنا نحن أبناء الجيل الذي يكبركم، لن نعيش لنرى المعارك الحاسمة للثورة الاشتراكية، الموشكة على الإندلاع، ولكن يبدو لي، أنني أستطيع أن أعرب بأقصى ثقة، عن الأمل بأن يتاح للشباب العاملين في الحركة الاشتراكية الرائعة في سويسرا، وبقية أنحاء العالم، الحظ الطيب، ليس فحسب بالمساهمة في القتال أثناء الثورة البروليتارية الوشيكة، بل كذلك في الخروج ظافرين منها)).
قال لينين هذا، وبعد عشرة أشهر فقط، تزعم الثورة الاشتراكية التي انفجرت في روسيا، وجاءت به إلى الحكم. وأما الشبان العاملون في الحركة الاشتراكية الرائعة في سويسرا، على حد تعبيره، فلا يزالون حتى اليوم، لم يتح لهم الحظ الطيب الذي تمناه لهم بالمساهمة في الثورة البروليتارية، والخروج منها ظافرين.
ثالثا - هل استطاعت الماركسية استيعاب التاريخ؟
المادية التاريخية (الماركسية) - كما سبق - مجموعة من الافتراضات العلمية يختص كل واحد منها بمرحلة محدودة من مراحل التاريخ، وتتكون من مجموعها الفرضية العامة في تفسير التاريخ، القائلة: بأن المجتمع دائما وليد الوضع الاقتصادي الذي تحدده وتفرضه قوى الإنتاج.
والواقع أن أروع ما في الماركسية، وأكثر قواها التحليلية إغراء وإستهواء إنما هو قوة هذا الشمول والاستيعاب، الذي تتميز به على أكثر التفاسير الأخرى، للعمليات الاجتماعية أو الاقتصادية، وتعبر من خلاله عن ترابط وثيق محدد، بين مختلف تلك
106

العمليات، في كل الميادين الإنسانية. فليست الماركسية فكرة نظرية محدودة، أو تحليلا اجتماعيا أو اقتصاديا فحسب، وإنما هي تعبير تحليلي شامل عن كل العمليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كما تجري منذ آلاف السنين في مجراها التاريخي الطويل، لتكون منها في كل لحظة تاريخية حاسمة، حالة معينة، تحديد بنفسها وبطريقة جدلية ما يعقبها من حالات متلاحقة على مدار الزمن، تتابع في لحظات تاريخية فاصلة.
ومن الطبيعي أن تستأثر مثل هذه النظرية بتقدير الناس، وتوحي إليهم بالإعجاب أكثر من أي نظرية أخرى ما دامت قد زعمت لهم أنها وضعت في أيديهم كل اسرار الإنسانية، وألغاز التاريخ، وما دامت قد تفوقت على كل النظريات العلمية، عن الاجتماع والاقتصاد، في نقطة ذات وزن جماهيري كبير، وهي: أنها استطاعت أن تمزج آمال الناس بالتحليل العلمي، وأن تقدم إليهم أمانيهم التقليدية في إطار تحليلي، قائم على أسس مادية ومنطقية، بالمقدار الذي أتيح لماركس أن يصل إليه، بينما لم تكن النظريات العلمية الأخرى في الاجتماع والاقتصاد، تظفر - على أفضل تقدير - إلا بعناية حفنة من العلماء والأخصائيين.
والمادية التاريخية، بوصفها فرضية عامة، تقرر - كما عرفنا سابقا -: أن جميع الأوضاع والظواهر الاجتماعية، نابعة من الوضع الاقتصادي، وهو بدوره نتيجة لوضع القوى المنتجة. فالوضع الاقتصادي هو همزة الوصل، بين قوى الإنتاج الرئيسية، وجميع الظواهر والأوضاع الاجتماعية، كما قال بليخانوف:
((إن الوضع الاقتصادي لشعب ما، هو الذي يحدد وضعه الاجتماعي، والوضع الاجتماعي لهذا الشعب، يحدد بدوره وضعه السياسي والديني، وهكذا دواليك. ولكنكم ستتساءلون عما إذا لم يكن للوضع الاقتصادي من سبب أيضا؟.. لا ريب ان لهذا الوضع سببه الخاص به، ككل شيء في هذه الدنيا، وهذا السبب... هو الصراع الذي يخوضه الانسان مع الطبيعة)) (1).

(1) (المفهوم المادي للتأريخ) ص 46.
107

((أن علاقات الإنتاج، تحدد جميع العلاقات الأخرى التي توحد بين الناس في حياتهم الاجتماعية. وأما علاقات الإنتاج فيحددها وضع القوى المنتجة)) (1).
فالقوى المنتجة هي التي تخلق الوضع الاقتصادي، وتطوره تبعا لتطورها، والوضع الاقتصادي هو الأساس العام لهيكل البناء الاجتماعي، وما فيه من ظواهر وأوضاع، هذه هي الوجهة العامة للمادية التاريخية.
وتتردد في أوساط الكتاب المناهضين للأفكار الماركسية مناقشتان للماركسية التاريخية، بوصفها نظرة عامة عن التاريخ:
الأولى: إن التاريخ إذا كان محكوما للعامل الاقتصادي، وللقوى المنتجة، وفقا لقوانين طبيعية تسير به من الإقطاع إلى الرأسمالية مثلا، ومنها إلى الاشتراكية، فلماذا تبذل هذه الجهود الجبارة من الماركسيين، في سبيل تكتيل أكبر عدد ممكن، لشن ثورة فاصلة على الرأسمالية؟ ‍ ولم لا يدع الماركسيون قوانين التاريخ تعمل، فتكفيهم هذه المهمة الشاقة؟!.
الثانية: أن كل إنسان يحس - بالضرورة - ان له دوافع أخرى، لا تمت إلى الطابع الاقتصادي بصلة، بل قد يضحي في سبيلها بمصالحة الاقتصادية وبحياته كلها في بعض الأحايين، فكيف يعتبر العامل الاقتصادي هو المحرك للتاريخ؟!.
ومن حق البحث العلمي الموضوعي، أن نسجل رأينا في هاتين المناقشتين بوضوح. فهما تعبران عن عدم استيعاب المفهوم الماركسي للتاريخ، أكثر مما تعبران عن خطأ المفهوم نفسه.
ففيما يتصل بالمناقشة الأولى، يجب أن نعرف موقف الماركسية من الثورة. فإنها لا تعتبر الثورة والجهود التمهيدية التي تبذل في سبيلها، شيئا منفصلا عن قوانين التاريخ، بل هي جزء من تلك القوانين، التي يجب - علميا - أن توجد كي ينتقل التاريخ من مرحلة إلى مرحلة أخرى. فالثوريون حين يتجمعون في سبيل الثورة، إنما

(1) نفس المصدر، ص 48.
108

يعبرون بذلك عن الحتمية التاريخية.
ونحن حين نقرر هذا، نعلم أن الماركسية - نفسها - لم تستطع أحيانا، أن تفهم - بوضوح - متطلبات مفهومها العلمي عن التاريخ ومستلزماته، حتى لقد كتب ستالين يقول:
((إن المجتمع غير عاجز أمام القوانين، وأن في وسعه عن طريق معرف القوانين الاقتصادية، وبالاسناد إليها، أن يحد من دائرة فعلها، وأن يستخدمها في مصلحة المجتمع، وأن يروضها، مثلما يجري حيال قوى الطبيعة وقوانينها)) (1)
وكتب بولتزير - نظير هذا - قائلا:
((إن المادية الجدلية، في تأكيدها للطابع الموضعي لقوانين المجتمع، تؤكد - في نفس الوقت - الدور الموضوعي الذي تلعبه الأفكار، يعني النشاطات العلمية الواعية، مما يتيح للناس أن يؤخروا أو يقدموا، وأن يشجعوا أو يعرقلوا، تأثير قوانين المجتمع)) (2).
ومن الواضح، أن هذا الاعتراف الماركسي: بسيطرة الإنسان عن طريق أفكاره ونشاطاته الواعية، على تأثير قوانين المجتمع، وعلى تقديمه وتأخيره لا يتفق مع الفكرة العلمية عن التاريخ لأن التاريخ إذا كان مسيرا وفق قوانين طبيعية عامة، فوعي الانسان وعلمه بقوانين التاريخ، إنما يعبر عن جزء من الحقل الذي تحكمه تلك القوانين. فكل ما يقوم به هذا الوعي والنشاط الانساني من أدوار، فهو تعبير حتمي عن تلك القوانين، وعن تأثيرها المحتوم، وليس تقديما لهذا التأثير أو تأخيرا له. فالماركسيون حينما يمعنون - مثلا - في خلق الفتن، لتعميق التناقضات ومضاعفاتها، ينفذون قوانين التاريخ. لأن نشاطهم الواعي جزء من الكل التاريخي، لا أنهم يستعجلون تلك القوانين. وليس موقف الفئات التي تعمل بوعي سياسي، من قوانين التاريخ، كموقف العالم الطبيعي من قوانين الطبيعة، التي يجرب عليها في مختبر،

(1) دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع، ص 22.
(1) المادية المثالية في الفلسفة، ص 152.
109

فإن العالم الطبيعي، يستطيع أن يقدم أو يؤخر من تأثير قوانين الطبيعة، بما يحدث من تغيرات في وضع الطبيعة التي يجربها. لأن قوانين الطبيعة التي يجربها، لا تتحكم في عمله، فهو يستطيع أن يسيطر على تأثيرها، بما يهئ للتجربة من شروط. وأما العاملون في الحقل السياسي، فلا يمكنهم أن يتحرروا من قوانين التاريخ، وأن يسيطروا على تأثيرها. لأنهم دائما يعبرون عن جزء من العملية التاريخية، التي تتحكم فيها تلك القوانين.
فمن الخطأ - إذن - ان تقول الماركسيون شيئا عن السيطرة على قوانين المجتمع، كما أن من الخطأ أيضا أن توجه إليها المناقشة السابقة، التي ترمي إلى اعتبار النشاط العملي لغوا لا مبرر له، ما دمنا عرفنا أن النشاط العملي بما فيه الثورة جزء من قوانين التاريخ.
ولنأخذ الآن المناقشة الثانية: إن هذه المناقشة تسرد - عادة - قائمة من الدوافع، التي لا تمت إلى الاقتصاد بصلة، لتنفيذ القول بالعامل الاقتصادي، كعامل رئيسي. وليست هذه المناقشة بأدنى إلى التوفيق من المناقشة الأولى. فإن الماركسية لا تعني: أن العامل الاقتصادي هو الدافع الشعوري، لكل أعمال الإنسان، على مر التاريخ، وإنما ترتكز على القول: بأنه هو القوة التي تعبر عن نفسها، في وعي الناس، بمختلف التعبيرات. فالسلوك الواعي للانسان، يصدر عن غايات ودوافع إيديولوجية مختلفة، قد لا تمت إلى الاقتصاد بصلة، إلا أنها في الحقيقة تعبيرات سطحية عن قوة أعمق لأنها ليست إلا أدوات يستخدمها العامل الاقتصادي، ويحرك بها الناس، في الاتجاه التاريخي المحتوم.
ويجب أن نتجاوز بهذا الصدد عن بعض النصوص الماركسية، التي لم تقتصر على هذا القول، بل جنحت إلى التأكيد على اعتبار الاقتصاد غاية عامة للنشاط الاجتماعي، وليس قوة محركة من الخلف فحسب. فقد كتب أنجلز يقول:
((إن القوة ليست سوى وسيلة، وأن الغاية هي المنفعة الاقصادية. ولما كانت الغاية أكثر جوهرية من الوسيلة، التي تستخدم لضمانها، فإن الجانب
110

الاقتصادي من المسألة، هو أكثر جوهرية في التاريخ، من الجانب السياسي. في جميع قضايا السيطرة والاخضاع، حتى يومنا الحاضر، كان الإخضاع دوما وكالة لاملاء المعدة، بأوسع ما في املاء المعدة من مدلول)) (1).
ولا شك عندنا في أن هذا النص، قد كتبه أنجلز على عجل وبقلة أناة فجاء يسابق الماركسية - نفسها - في غلوها بالعامل الاقتصادي، ويناقض الواقع الذي يمكننا أن نلمسه في كل حين. فكثيرا ما نجد أن المعدة قد تمتلئ بأوسع ما في إملاء المعدة من مدلول - على حد تعبير أنجلز - ولا يمنع ذلك هؤلاء الممتلئين، عن القيام بنشاطات مهمة في الحقل الاجتماعي، لأجل تحقيق مثل أعلى، أو إشباع نزعة نفسية.
ونترك هذا، إلى درس المشاكل الحقيقية، التي تثيرها المادية التاريخية، وتعترض سبيلها، ولا يمكن للماركسية
أن توفق في حلها. فهي لا تستطيع أن تفسر - في ضوء المادية التاريخية - عدة نقاط جوهرية في التاريخ، لابد من دراستها بشيء من التفصيل.
‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ 1 - تطور القوى المنتجة والماركسية
هناك - أولا - السؤال عن القوى المنتجة، التي يتطور التاريخ تبعا لتطورها كيف تتطور هذه القوى؟، وما هي العوامل التي تسيطر على تطورها وتكاملها؟، ولماذا لا تكون هذه العوامل هي القوة العليا التي تتحكم في التاريخ، بدلا عن القوى المنتجة الخاضعة لتلك العوامل، في نموها وتكاملها؟.
وقد اعتاد الماركسيون أن يجيبوا على هذا السؤال: بأن الأفكار التي يستفيدها الإنسان خلال ممارسة قوى الطبيعة، وتنشأ عنها، هي التي تطور بدورها هذه القوى، وتعمل في تنميتها. فالأسباب التي تطور قوى الإنتاج نابعة منها، وليست قوى تعمل بصورة مستقلة عنها، أو في درجة أعلى منها. وتعتقد الماركسية، أنها تقدم في هذا التأثير المتبادل، بين قوى الإنتاج، والأفكار المنبثقة

(1) ضد دوهرنك، ج 2 ص 37.
111

عنها خلال ممارستها: صورة ديالكتيكية لتطور الإنتاج، تعبر عن حركة تكامل ديالكتيكية للقوى المنتجة، بوصفها تولد دائما الأفكار الجديدة، ثم تعود لتنمو ضمنها وتتكامل.
وهذا الوصف الديالكتيكي، لتطور القوى المنتجة، يقوم على أساس مفهوم خاص للتجربة، يجعل منها الممون الأساسي الوحيد للانسان، بالأفكار والآراء. فتصبح العلاقة بين قوى الطبيعة المنتجة التي يجربها الإنسان، وبين أفكاره وآرائه عن الكون وحقائقه، علاقة علة بمعلول ينشأ عن علته، ثم يتفاعل معها، فيزيدها ثراء واغتناء. ولكننا يجب أن لا ننسى النتائج التي استخلصناها من دراستنا لنظرية المعرفة في (فلسفتنا) فقد برهنت تلك النتائج، على أن التجارب الطبيعية، لا تقدم إلى الإنسان إلا المواد الخام، ولا تتحفه إلا بالتصورات الحسية لمضمون التجربة. وهذه المواد والتصورات تبقى غير ذات معنى، لو لم تصادف في ذهن معين، الشروط الطبيعية والسيكولوجية الخاصة، وهو ذهن الانسان، الذي يملك - دون سائر الحيوانات التي تشترك معه في التصور والاحساس - قدرة عقلية على الاستنتاج والتحليل، ومعارف ضرورية لا تخضع للتجربة، يأخذ الانسان بتطبيقها على المواد الخام التي يستوردها عن طريق التجربة، فينتهي إلى نتائج جديدة. وكلما تكررت عمليات الاستنتاج وتكامل رصيدها، ازدادت خصبا وثراء. فلم تكن قوى الطبيعة المنتجة، هي التي تشق - بمفردها - طريق تكاملها ونموها، أو تولد عوامل تطورها واغتنائها، وإنما تولد الإحساسات والتصورات فحسب. فليس تطورها - إذن - ديالكتيكيا ذاتيا، وليست القوة الإيجابية التي تطورها منبثقة عنها. وهكذا تصبح قوى الإنتاج محكومة لعامل أعلى منها درجة في تسلسل التاريخ.
وقد كنا حتى الآن نتسائل، عن العوامل التي تطور الإنتاج وقواه على مر الزمن، الأمر الذي انتهينا فيه إلى نتيجة لا تسر الماركسية. غير أن من الممكن - بل يجب - أن نتخطى هذا السؤال إلى نقطة أعمق، وأكثر إحراجا للمادية التاريخية، فنطرح السؤال على الوجه التالي: كيف مارس الإنسان عملية الإنتاج، ونشأت
112

في حياته، ولم تنشأ في حياة أي كائن حي آخر؟.
نحن نعلم من عقيدة الماركسية، أنها تؤمن بالإنتاج قاعدة رئيسية للمجتمع يقوم على أساسها الوضع الاقتصادي، وتبتني على الوضع الاقتصادي كل الأوضاع الأخرى. ولكنها لم تكلف نفسها أن تقف قليلا عند الإنتاج نفسه، لتفسر: كيف وجد الإنتاج في حياة الانسان؟. فإذا كان الإنتاج يصلح لتفسير وجوده ونشوئه؟.
إن بالإمكان الجواب على ذلك، إذ عرفنا ما هو الإنتاج: إن الإنتاج - كما تعرفه لنا الماركسية - عملية كفاح ضد الطبيعة، يشترك فيها مجموعة من الناس، لإنتاج حاجاتهم المادية، وتقوم على أساسها كل العلاقات. فهي إذن عملية يقوم بها عدد من الناس، لتغيير الطبيعة، وجعلها بالشكل الذي يوافق حاجاتهم ويشبع رغباتهم.
وعملية تغيير كهذا، يقوم بها عدد من الناس، لا يمكن أن توجد تاريخيا، ما لم تسبقها شروط معينة، يمكن تلخيصيا في أمرين جوهريين.
إحداهما: (الفكر)، فإن الكائن الحي لا يستطيع أن يغير من شكل الطبيعة بقصد إشباع حاجاته، فيجعل الحنطة دقيقا، أو الدقيق خبزا.. ما لم يكن يملك فكرا عن الشكل الذي سوف يمنحه للطبيعة، فعملية التغيير لا يمكن أن تنفصل بحال، عن التفكير فيما ستتمخض عنه العملية من أشكال وأوضاع للطبيعة لا تزال في ابتداء العمل غيبية. ولأجل هذا لم يكن من الممكن للحيوان، أن يقوم بعملية إنتاج، عملية تغيير حاسم للطبيعة.
والأمر الآخر: هو، اللغة بوصفها المظهر للفكر، الذي يتيح للمشتركين في عملية الإنتاج أن يتفاهموا، ويتخذوا موقفا موحدا خلال العملية فما لم يملك كل منتج أداة التعبير عن فكره، وتفهم أفكار شركائه في العمل لا يستطيع أن ينتج.
113

وهكذا نجد - بوضوح - أن الفكر - بأي درجة كان - يجب أن يسبق عملية الإنتاج، وأن اللغة ليست نابعة من عملية الإنتاج، كما تنبع كل العلاقات والظواهر الاجتماعية، في زعم الماركسية.. وإنما تنبع من الحاجة إلى تبادل الأفكار، بوصفها المظهر المادي للفكر. فلم تنشأ اللغة - إن - من القاعدة الرئيسية المزعومة، من عملية الإنتاج، بالرغم من أنها أهم ظاهرة اجتماعية على الاطلاق.. وإنما كانت هي الشرط الضروري تاريخيا، في وجود هذه القاعدة المزعومة.
وأكبر دليل يمكننا أن نقدمه على ذلك هو استقلال اللغة في تطورها عن الإنتاج وقواه. فلو كانت اللغة وليدة الإنتاج، وليدة القاعدة المزعومة، لتطورت وتغيرت، تبعا لتطور أشكال الإنتاج وتغيرها، كما تتغير تبعا لذلك جميع الظواهر والعلاقات الاجتماعية. في رأي الماركسية، ولا يوجد ماركسي واحد - وحتى ستالين - يجرأ على القول: بأن اللغة الروسية - مثلا - تغيرت بعد الثورة الاشتراكية، وتبدلت إلى لغة جديدة، أو أن الآلة البخارية التي غيرت القاعدة الأساسية للمجتمع، وأحدثت ثورة كبرى في أسلوب الإنتاج قد جاءت بلغة جديدة للانكليز، غير اللغة التي كانوا يتكلمون بها قبل ذلك، فالتاريخ يؤكد - إذن - أن اللغة مستقلة عن الإنتاج، في استمراريتها وتطورها. وليس ذلك إلا لأنها لم تنبع من هذا الشكل أو ذاك، من أشكال الإنتاج، وإنما نبعت عن فكر وحاجة هما أعمق وأسبق من كل ممارسة للإنتاج الاجتماعي مهما كان شكلها.
2 - الفكر والماركسية
ويمكن أن نعتبر أخطر وأهم النقاط الجوهرية في المفهوم المادي للتاريخ عند الماركسية، هذا العلاقة، التي تؤكد عليها بين الحياة الفكرية للانسان، بشتى ألوانها ومناحيها، وبين الوضع الاقتصادي، وبالتالي وضع القوى المنتجة الذي يحدد كل المضمون التاريخي لكيان الانسان فالفكر مهما اتخذ من أشكال عليا، ومهما ابتعد في مجاله الاجتماعي عن القوى الأساسية، من اشكال عليا، ومهما ابتعد في مجال الاجتماعي عن القوة الأساسية، واتخذ سبيله في منعطفات تاريخية
114

معقدة، فلا يعدو عند التحليل أن يكون - بشكل أو آخر - نتاجا للعامل الاقتصادي. وعلى هذا الأساس تفسر الماركسية تاريخ الفكر، وما يزخر به من ثورات وتطورات عن طريق الظروف المادية، والتكوين الاقتصادي للمجتمع والقوى المنتجة.
وهذا الإطار الاقتصادي، الذي تضع الماركسية ضمنه كل أفكار الإنسان جدير بالبحث العلمي والفلسفي، أكثر من سائر الجوانب الأخرى في البناء الماركسي للتاريخ لما يؤدي اليه من نتائج خطيرة في (نظرية المعرفة) وتحديد قيمتها ومقاييسها المنطقية. ولهذا كان من الضروري دراسة هذا الرأي، خلال البحث الفلسفي في (نظرية المعرفة) وقد عرضنا في (فلسفتنا) لهذا الرأي في نظرة عابرة، ونحن الآن نتوفر على تطوير تلك النظرة، إلى دراسة مفصلة لهذا الرأي، في الطبعة الثانية من كتاب (فلسفتنا). ولأجل هذا، فسوف نترك اليه مهمة البحث المستوعب لرأي الماركسية في الفكر غير أن هذا لا يمنعنا عن دراسته ونقده، في الحدود التي يتسع لها البحث في هذا الكتاب.
وكي نشرح رأي الماركسية بشكل واضح، نركز الحديث على المظاهر الرئيسية في الحياة العقلية وهي: الأفكار الدينية، والفلسفية، والعلمية، والاجتماعية.
وقبل ان نتناول التفاصيل، نود أن نسجل نصا لأنجلز، كتبه بصدد عرض رأي الماركسية الذي ندرسه. فقد قال في رسالته إلى فرانز مهرنج:
((إن الإيديولوجيا عملية يقوم بها المفكر، عن وعي وشعور من جانبه، ولكنه شعور باطل حقا. فالبواعث الحقيقية التي تدفعه، تظل غير معروفة له، وإلا لما كانت عملية إيديولوجية مطلقا. ومن هنا تراه يتخيل دوافع باطلة أو ظاهرية... دون فالبواعث الحقيقية التي تدفعه، تظل غير معروفة له، وإلا لما كانت عملية إيديولوجية مطلقا. ومن هنا تراه يتخيل دوافع باطلة أو ظاهرية... دون تمحيص أو بحث عن عملية أخرى أبعد، مستقلة عن الفكر)) (1).
ويريد أنجلز بهذا، ان يبرر جهل المفكرين جميعا، بالأسباب الحقيقية التي خلقت لهم أفكارهم، ولم يتح اكتشافها إلا للمادية التاريخية. فلم يكن يعين جهلهم بالأسباب، التي تحددها المادية التاريخية لمجرى التفكير الإنساني، إنها لم تكن أسبابا حقا، وإن

(1) التفسير الاشتراكي للتاريخ: ص 122.
115

المادية التاريخية على خطأ في نظرتها، وإنما كان من الضروري أن لا تتكشف حقيقة تلك الأسباب، أمام أبصارهم، وإلا لما كانت هناك عملية أيديولوجية.
ومن حقنا أن نقول - بدورنا - لأنجلز: إذا كان من الضروري حقا، أن تظل الدوافع الحقيقية لكل إيديولوجية مجهولة عند أصحابها، لئلا تخرج عن صفتها علمية إيديولوجية.. فكيف جاز لأنجلز نفسه أن يحطم هذه الضرورة، ويصنع المعجزة، ويتقدم إلى البشرية بإيديولوجية جديدة، ظلت تتمتع بصفتها الفكرية والإيديولوجية، بالرغم من علمه بأسبابها وبواعثها الحقيقية؟!.
ونبدأ الآن بالتفاصيل:
أ - الدين:
فالدين يحتل جزءا بارزا على الصعيد الفكري، وقد لعب لأجل هذا أدوارا فعالة، في تكوين العقلية الإنسانية أو بلورتها، واتخذ على مر الزمن أشكالا مختلفة ومظاهر متنوعة. فلابد للماركسية - وقد استبعدت عن تصميمها المذهبي كل حقائق الدين الموضوعية، من الوحي والنبوة والصانع - أن تصطنع للدين وتطوراته تفسيرا ماديا. وكان من الشائع في أوساط المادية، أن الدين نشأ نتيجة لعجز الإنسان القديم وإحساسه بالضعف، بين يدي الطبيعة وقواها المرعبة، وجهله بأسرارها وقوانينها.. ولكن الماركسية لا ترتضي هذا التفسير، لأنه يشذ عن
قاعدتها المركزية، فلا يربط الدين بالوضع الاقتصادي، القائم على أساس الإنتاج الذي يجب أن يكون هو المفسر والسبب الوحيد، لكل ما يحتاج إلى تفسير وسبب. قال كونستانتيوف:
((ولكن الماركسية اللينينية، قد حاربت دائما مثل هذا المسخ للمادية التاريخية، وأثبتت أنه ينبغي البحث عن منبع الأفكار: الاجتماعية والسياسية والحقوقية والدينية، في الإقتصاد، قبل كل شيء)) (1).

(1) دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع ص 4.
116

ولهذا أخذت الماركسية تفتش عن السبب الأصيل لنشوء الدين، من خلال الوضع الاقتصادي للمجتمع، حتى وجدت هذا السبب المزعوم في التركيب الطبقي للمجتمع. فالواقع السيء الذي تعيشه الطبقة المضطهدة في المجتمع الطبقي، تفجر في ذهنيتها البائسة الأفكار الدينية، لتستمد منها السلوة والعزاء.
قال ماركس:
((إن البؤس الديني، لهو التعبير عن البؤس الواقعي، والاحتجاج على هذا البؤس الواقعي في وقت معا. الدين زفرة الكائن المثقل بالألم، وروح عالم لم تبق فيه روح، وفكر عالم لم يبق فيه فكر، إنه أفيون الشعب. إذن فنقد الدين هو الخطوة الأولى، لنقد هذا الوادي الغارق في الدموع)) (1).
وتتفق محاولات الماركسية بهذا الصدد، على نقطة واحدة هي: أن الدين حصيلة التناقض الطبقي في المجتمع، ولكنها تختلف في الطريقة التي نشأ بها الدين عن هذا التناقض. فتجنح الماركسية أحيانا إلى القول: بأن الدين هو الأفيون الذي تسقيه الطبقة الحاكمة المستغلة، للطبقة المحكومة المضطهدة، كي تنسى مطالبها ودورها السياسي، وتستسلم إلى واقعها السيء. فهو على هذا أحبولة تنسجها الطبقة الحاكمة للصيد، وإغراء الكادحين والبائسين.
تقول الماركسية هذا، وهي تتغافل عن الواقع التاريخي الصارخ، الذي يدلل - بكل وضوح - على أن الدين كان ينشأ دائما في أحضان الفقراء والبائسين، ويشع في نفوسهم قبل أن يغمر بنوره المجتمع كله. فهذه هي المسيحية، لم يحمل لواءها في أرجاء العالم، وفي الإمبراطورية الرومانية على وجه خاص، إلا أولئك الرسل الفقراء، الذين لم يكونوا يملكون شيئا سوى الجذوة الروحية، التي تشتعل في نفوسهم. وكذلك لم يكن التكتل الأول، الذي احتضن الدعوة الإسلامية، وكان النواة للأمة الإسلامية، ليضم - على الأكثر - إلا الفقراء وأشباه الفقراء، من المجتمع المكي. فكيف يمكن أن يفسر الدين على أنه نتاج للطبقة الحاكمة، خلقته لتخدير
(1) كارل ماركس ص 16 - 17.
117

المضطهدين وحماية مصالحها؟!.
وإذا كان يحلو للماركسية، أن تؤمن بأن الطبقة المالكة المسيطرة، هي التي تصنع الدين لحماية مصالحها، فمن حقنا أن نتساءل: هل كان من مصلحة هذه الطبقة، أن تجعل من هذا الدين أداة فعالة في القضاء على الرأسمال الربوي، الذي كان يدر عليها أرباحا طائلة في المجتمع المكي، قبل أن يحرمه الإسلام تحريما باتا؟!. أو هل كان من مصلحتها، أن تتنازل عن كل مزاعمها الأرستقراطية، فتسخر الدين للدعوة إلى المساواة بين الناس، في الكرامة الإنسانية، بل إلى الاستهانة بالأغنياء، والتنديد بتعاظمهم دون حق، حتى قال المسيح: (من أراد أن يكون فيكم عظيما، فيكن لكم خادما، وأنه أيسر أن يدخل الجمل في ثقب إبرة، من أن يدخل غني إلى ملكوت الله).
ونجد الماركسية أحيانا أخرى تشرح تفسيرها الطبقي للدين بطريقة أخرى، فتزعم أن الدين نابع من أعماق اليأس والبؤس، اللذين يملآن نفوس الطبقة المضطهدة. فالمضطهدون هم الذين ينسجون لأنفسهم الدين، الذي يجدون فيه السلوة، ويستشعرون في ظله الأمل. فالدين إيديولوجية البائسين والمضطهدين، وليس من صنع الحاكمين.
ومن حسن الحظ. أن نعمل من تاريخ المجتمعات البدائية، أن الدين ليس من الظواهر التي تحسبها الماركسية، تعيش في حالة شيوعية لا طبقية، قد مارست هذا اللون من التفكير، وظهرت فيها العقيدة الدينية بأشكال شتى. فلا يمكن أن يفسر الدين تفسيرا طبقيا، أو أن يعتبر إنعكاسا عقليا لظروف الاضطهاد، التي تحيط بالطبقة المستغلة، ما دام قد وجد في حياة الانسان العقلية، قبل أن يوجد التركيب الطبقي، وقبل أن يغرق الوادي بدموع البائسين والمستغلين. فكيف تستطيع الماركسية بعدها أن تجعل من الوضع الاقتصادي أساسا لتفسير الدين؟!.
وهناك شيء آخر، فالدين إذا كان إيديولوجية المضطهدين، النابعة من
118

واقعهم السيء، وظروفهم الاقتصادية، كما تزعم الماركسية في طريقتها الثانية في التفسير.. فكيف يمكن أن نفسر وجود العقيدة الدينية، منفصلة عن الواقع السيء، وظروف الاضطهاد الاقتصادي؟!. وكيف أمكن لغير المضطهدة، إيديولوجيتها التي نبعت من واقعها الاقتصادي، ودينها الذي تبشر به؟!.
إن الماركسية لا يمكنها أن تنكر وجود العقيدة الدينية، عند أشخاص لا يمتون إلى ظروف الاضطهاد الاقتصادي بصلة، وصلابة العقيدة في نفوس بعضهم، إلى درجة تدفعهم إلى التضحية الاقتصادي بصلة، وصلابة العقيدة في نفوس بعضهم، إلى درجة تدفعهم إلى التضحية بنفوسهم في سبيلها. وهذا من واقعه الاقتصادي، لأن الفكرة الدينية عند أولئك الأشخاص، لم تكن تعبيرا عن بؤسهم، وتنفيسا عن شقائهم، وبالتالي لم تكن انعكاسا لظروفهم الاقتصادية، وإنما كانت عقيدة تجاوبت مع شروطهم النفسية والعقلية، فآمنوا بها على أساس فكري.
ولا تكتفي الماركسية بتفسير الدين تفسيرا طبقيا اقتصاديا، بل تذهب إلى أكثر من هذا، فتحاول ان تفسر تطوره
على أساس اقتصادي أيضا. فكل شعب حين تطورت ظروفه الاقتصادية، وأتاحت له إقامة مجتمع قومي مستقل، كانت الآلهة التي يعبدها قومه آلهة قومية، لا تتجاوز سلطتها حدود الأراضي القومية المدعوة إلى حمايتها. وبعد أن تلاشت قوميات هذه الشعوب، بالاندماج في إمبراطورية عالمية، هي الإمبراطورية الرومانية، ظهرت الحاجة إلى دين عالمي أيضا. وكان هذا الدين العالمي، هو المسيحية، التي أصبحت دينا رسميا للدولة، بعد مرور (250) عاما على نشأتها. وتكيفت المسيحية بعد ذلك بالظروف الاقطاعية، وحين بدأت تتعارض بشكلها الكاثوليكي، مع القوى البورجوازية المتنامية، ظهرت حركة الاصلاح الديني البروتستانتية (1).
ونلاحظ في هذا المجال، أن المسيحية أو البروتستانتية، لو كانت تعبيرا عن الحاجات الموضوعية المادية، التي تشير إليها الماركسية، لكان من الطبيعي أن تولد
(1) راجع (لودفيج فيورباخ) ص 103 - 105.
119

المسيحية وتنمو في قلب الإمبراطورية الرومانية، الآخذة بزمام القيادة العالمية، وأن تنشأ حركة الاصلاح الديني، في أكثر المجتمعات الأوروبية، تطورا ونموا من الناحية البورجوازية. مع أن الواقع التاريخي، يختلف عن ذلك تماما.
فالمسيحية لم تنشأ في نقاط التمركز السياسي، ولم تولد في أحضان الرومان الذين بنوا الدولة العالمية، وكانوا يعبرون في نشاطاتهم عنها، وإنما نشأت بعيدة عن ذلك كله، في إقليم من الأقاليم الشرقية المستعمرة للرومان، ونمت بين شعب يهودي مضطهد، لم يكن - منذ استعمرته الإمبراطورية على يد القائد الروماني (بمبي) قبل الميلاد بستة عقود - يحلم إلا بالاستقلال القومي، وتحطيم الأغلال التي تربطه بالمستعمرين، الأمر الذي كلفه كثيرا من الثورات، وعشرات الألوف من الضحايا، خلال تلك العقود الستة فهل كانت ظروف هذا الشعب المادية والسياسية والاقتصادية جديرة بأن تتمخض عن الدين العالمي، الذي يلبي حاجات الإمبراطورية المستعمرة؟!.
وحركة الإصلاح الديني، التي نشأت عن طلائع التحرر الفكري في أوروبا، هي الأخرى لم تكن وليدة القوى البورجوازية على مكاسب، غير أن هذا لا يعني أنها بوصفها إيديولوجية معينة قد نشأت عن مجرد التطور الاقتصادي البورجوازي. وإلا لكانت انكلترا أجدر بها من البلاد، التي إنبثقت عنها حركة الاصلاح، لأن البورجوازية في إنكلترا، كانت أقوى منها في أي بلد أوروبي آخر، والتطور الاقتصادي والسياسي، الذي أحرزته خلال ثورات، منذ عام (1215)، جعلها في موضع لا تصل إلى مستواه البلدان الأخرى، وبالرغم من ذلك لم يظهر ((لوثر)) في انكلترا استجابة للوعي البورجوازي فيها، وإنما ظهر بعيدا عنها، ومارس نشاطه ودعوته في ألمانيا، كما ظهر في فرنسا الزعيم الثاني للحركة في شخص (كالفن) البروتستانتي العنيد، الذي جرت في فرنسا على عهده عدة مذابح واشتباكات مروعة، بين الكاثوليك والبرتستانت، ووقف الأمير الألماني (وليم أورانج) يدافع عن الحركة الجديدة بجيش جرار.
120

صحيح أن انكلترة - بعد ذلك - تبنت الروتستانتية رسميا، ولكنها لم تكن - بحال - من نسيج وعيها البورجوازي، وإنما كانت نتيجة وعي عاش في بلاد إقطاعية.
وإذا أخذنا فكرة الماركسية، عن التطور التاريخي للأديان، لنطبقها على الإسلام، الدين العالمي الآخر، أوجدنا مدى التناقض الفاضح، بين الفكرة والواقع. فلئن كانت أوروبا دولة عالمية، تتطلب دينا عالميا، فلم تكن في جزيرة العرب دولة عالمية كذلك، بل لم تكن توجد دولة قومية، تضم الشعب العربي، وإنما كان العرب موزعين فئات متعددة، وكان لكل قبيلة إلهها الذي تؤمن به، وتتذلل اليه وتصنعه من الحجر، ثم تدين له بالطاعة والعبودية، فهل كانت هذه الظروف المادية والسياسية، تدعو إلى انبثاق دين عالمي واحد، من قلب تلك الجزيرة المبضعة، وهي بعد لم تعرف كيف تدرك وجودها كقوم وشعب، فضلا عن أن تعي وحدة من نمط أرقى، تتمثل في دين يوجد العالم برمته؟!. وإذا كانت الآلهة الدينية تتطور، من آله قومية إلى إله عالمي، تبعا للحاجات المادية والأوضاع السياسية فكيف طفر العرب من آلهة قبلية يصنعونها بأيديهم، إلى إله عالمي دانوا له بأعلى درجات التجريد؟!.
ب - الفلسفة:
والفلسفة في رأي الماركسية - هي الأخرى أيضا - مظهر عقلي للحياة المادية والشروط الاقتصادية، التي يعيشها المجتمع، ونتاج حتمي لها. قال كونستانتيوف:
((من القوانين المشتركة بين جميع التكوينات الاجتماعية، والصالحة - على الخصوص - للمجتمع الاشتراكي، يمكن أن نذكر القائل: أن الوجود الاجتماعي يحدد الإدراك الاجتماعي. إن الأفكار انعكاس للشروط المادية في الحياة الاجتماعية)) (1).

(دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع) ص 8.
121

وموقفنا تجاه هذا يتلخص في كلمات، فنحن لا ننكر بالمرة الصلة بين الفكر والشروط المادية والاقتصادية، التي يعيشها المفكرون، كما أننا لا ننكر ما للفكر من نظام وقوانين، لأنه بوصفه ظاهرة من ظواهر الكون، فلكل عملية إيديولوجية أسبابها وشروطها، التي ترتبط بها كما ترتبط كل ظاهرة بأسبابها وشروطها. ولكن الأمر الذي نختلف فيه مع الماركسية، هو تحديد هذه الأسباب والشروط. فالماركسية ترى أن السبب الحقيقي، لكل عملية
إيديولوجية، إنما يكمن في الشروط الاقتصادية والمادية، فلا يمكن - في رأيها - أن نفسر الفكرة، في ضوء علاقاته بالأفكار الأخرى تفسيرها - فقط - عن طريق العامل الاقتصادي. فليس للفكر تاريخ مستقل أو تطور خاص به، وإنما هو تاريخ للإنعكاسات الحتمية، التي تثيرها في العقل الإنساني ظروف المجتمع الاقتصادية والمادية والطريقة العلمية التي يمكن ان نختبر بها هذه الحتمية، ان نقارب بين النظرية ومجرى الأحداث ففي مجرى الحياة العقلية والاجتماعية للانسان.
وللماركسية نصوص عديدة في شرح هذه النظرية، وتطبيقها على الحقل الفلسفي، فهي تارة تفسر الفلسفة بحالة القوى المنتجة، وأخرى تفسرها بمستوى العلوم الطبيعية، وثالثة تعتبرها ظاهرة طبقية، تحددها ظروف التركيب الطبقي في المجتمع، كما سنرى في النصوص الآتية!
قال الفيلسوف الشيوعي البريطاني (موريس كونفورث):
((شيء آخر تجدر بنا ملاحظته، ذلك هو تأثير المخترعات التكنيكية والاكتشافات العلمية، على ظهور الأفكار الفلسفية)) (1).
ويريد بهذا، أن يربط بين التفكير الفلسفي، وتطور وسائل الإنتاج ويوضح هذه الرابطة في مجال آخر بتقديم نموذج لها من مفهوم التطور، الذي ساد العقلية الفلسفية، بسبب التطور الثوري في قوى الإنتاج، فهو يقول:
(1) (المادية الديالكتيكية) ص 40.
122

((إن التقدم نحو المفاهيم التطورية في العلم، والذي أعرب عن اكتشاف التطور الحقيقي في الطبيعة والمجتمع، كان يطابق تطور الرأسمالية الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر، بيد أن هذا الطابق، لم يكن مجرد تطابق فحسب، بل كان يعبر عن علاقة سببية... لا تعيش البورجوازية، إلا إذا أدخلت تغييرات ثورية مستمرة على أدوات الإنتاج... كانت هذه هي الشروط. التي أدت إلى ظهور مفهوم التطور العام في الطبيعة والمجتمع، ولذلك فإن مهمة الفلسفة، في تعميم قوانين التغير والتطور لا تنتج من مكتشفات العلوم فحسب، بل ومن الكل المعقد لحركة المجتمع الحديث بكليته)) (1). ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌
وهكذا فإن أدوات الإنتاج، كانت تتطور وتتجدد، فتقذف إلى عقل الفلاسفة مفاهيم التطور، التي قضت على النظرة الفلسفية الجامدة إلى الكون، وحولتها إلى نظرة ثورية، تطابق التطورات المتواصلة في أدوات الإنتاج، بدأت في أواخر القرن الثامن عشر، كما أشار إلى ذلك (كونفورث) نفسه، أي بعد اختراع الآلة البخارية سنة 1764، التي تعتبر أول ثورة حقيقية في وسائل الإنتاج، ومفهوم التطور - على أساس مادي - سبق هذا التاريخ، على يد إمام من كبار أئمة الفلسفة المادية، الذي تشيد الماركسية بمجدهم وآرائهم وهو ديدرو (2). الذي طلع على دنيا الفلسفة في النصف الأول من القرن الثامن عشر، بمادية صبها في إطار من التطور الذاتي، فقال: بأن المادة تتطور بنفسها، وفسر الحياة على أساس التطور، فالاحياء عنده تتطور، من الانقلابات الثورية في الأدوات المنتجة، التي لم تكن قد تعاقبت بعد على مسرح الإنتاج؟!.

(1) ملخصات عن المصدر السابق. ص 8 - 9.
(2) ولد سنة 1713، ونشر خواطره الفلسفية سنة 1745 واستمر في التأليف والنشر حتى مات سنة 1784
123

صحيح أن التغييرات الجذرية على الصعيد الإنتاجي، كانت تهئ الأذهان - إلى حد ما - لقبول فكرة التطور الفلسفي، وتطبقها على كل مرافق الكون ولكن هذا لا يعني السببية الضرورية، وربط التطور الفلسفي بتطور إنتاج، ربطا حتميا لا يأذن له بالتقدم أو التأخر، وإلا فكيف سمحت هذه الحتمية المزعومة (لديدرو)، ان يسبق تطور الإنتاج؟! بل كيف سمحت لفلاسفة عاشوا قبل ذلك بأكثر من ألفي سنة، أن يجعلوا من التطور قاعدة فلسفية لهم؟!.
فهذا هو الفيلسوف اليوناني (انكسمندر) (1)، عاش في القرن السادس قبل الميلاد، جاء بمفهوم فلسفي عن التطور، لا يختلف في جوهره عن مفاهيم التطور في عصر الإنتاج الرأسمالي. فقد قال: إن الكائنات كانت أول أمرها منحطة، ثم صارت في طريق التطور، درجات أعلى فأعلى، بما فطر فيها من دافع غريزي، يدفعها إلى الملائمة بين أنفسها والبيئة الخارجية: فالإنسان - مثلا - كان حيوانا يعيش في الماء، فلما انحسر الماء اضطر هذا الحيوان المائي إلى ملاءمة البيئة، فاكتسب على مر الزمن أعضاء صالحة للحركة على الأرض اليابسة. وهكذا حتى أصبح إنسانا.
وفيلسوف آخر، كانت له مساهمة كبيرة في مفاهيم التطور الفلسفي، حتى اعتبرته الماركسية، شارحا رائعا لجوهر الديالكتيك ورأيه في التطور، وهو (هرقليطس) (2)، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. وجاء في دنيا الفلسفة بمفهوم للتطور، يقوم على أساس التناقض والديالكتيك. في دنيا الفلسفة بمفهوم للتطور، يقوم على التناقض والديالكتيك. فهو يؤكد أن الكون ليس على صورة واحدة، فهو متغير متحول دائما، وهذه الصيرورة والحركة من صورة إلى صورة، هي حقيقة الكون، فلا تفتأ الأشياء تتقلب من حال لحال إلى آخر الأبد، ويفسر هذه الحركة بأنها تناقض، لأن الشيء المتحرك يكون موجودا ومتغيرا في نفس الوقت، أي موجودا وغير موجود في آن واحد، وهذا الاتحاد الآني بين الوجود واللاوجود، هو معنى الحركة، التي هي جوهر الكون وحقيقته.

(1) ولد سنة 611 ق. م. وتوفي سنة 547 ق. م. تقريبا.
(2) ولد سن 535 ق. م. وتوفي سنة 475 ق. م.
124

إن فلسفة (هرقليطس) هذه، لئن برهنت على شيء، فإنما تبرهن بوجودها التاريخي، على خطأ الماركسية في تفسيرها، وتأكيدها بوجودها التاريخي، على خطأ الماركسية في تفسيرها للفلسفة، وت - كيدها على مسايرتها
حتما لوسائل الإنتاج والمكتشفات التكنيكية، لا سيما إذا عرفنا أن (هرقليطس)، كان متأخرا تأخرا فاضحا عن موكب العلم، ومكتشفاته الطبيعية والفلكية، في عصره. فضلا عن مواكبه الحديثة، حتى كان يعتقد أن قطر الشمس قدم واحد، كما يبدو للبصر، ويفسر غروبها بانطفائها في الماء.
ولماذا نذهب بعيدا، وبين أيدينا الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي، الذي أحدث ثورة جبارة في الفلسفة الإسلامية، إذ أتحف الفكر الإسلامي في مطلع القرن السابع عشر، بأعمق فلسفة شهدها تاريخ هذا الفكر، وأثبت في فلسفته هذه، الحركة الجوهرية في الطبيعة، والتطور المستمر في جوهر الكون، على أسس فلسفية تجريدية وقد أثبت ذلك، يوم كانت وسائل الإنتاج ثابتة، بشكلها التقليدي على مر الزمن، وكان كل شيء في الحياة الاجتماعية ساكنا ثابتا، غير ان الدليل الفلسفي، دفع فيلسوفنا الشيرازي، إلى التأكيد على قانون التطور في الطبيعة، بالرغم من ذلك كله.
فلا علاقة حتمية - إذن - بين المفاهيم الفلسفية، والوضع الاقتصادي للقوى المنتجة.
وهناك شيء آخر له مغزاه الخاص بهذا الصدد، وهو أن الوضع الاقتصادي لقوى الإنتاج وعلاقاته، لو كان هو الأساس الحقيقي الوحيد، لتفسر الحياة العقلية للمجتمع، بما فيها الأفكار الفلسفية، لكانت النتيجة الطبيعية لذلك، أن التطورات الفلسفية تواكب في حركتها التقدمية، تطور الوضع الاقتصادي، وتجري وفقا لحركة التكامل في علاقات الإنتاج وقواه ويصبح من الضروري بموجب ذلك، أن تنبع الاتجاهات التقدمية في الفلسفة، وأن تتولد الثورات الفلسفية الكبرى، في أرقى المجتمعات من الناحية الاقتصادية فيكون نصيب كل مجتمع من التفكير التقدمي، والفلسفة الثورية، بمقدار حظه من التطور الاقتصادي والسبق في ظروف الإنتاج وعلاقاته. فهل تنسجم هذه النتيجة مع الواقع التاريخي للفلسفة؟ هذا ما نريد معرفته الآن.
125

ولنأخذ حالة أوروبا، عندما لاحت في الأفق الأوروبي، تباشير الثورة الفكرية الجديدة. فقد كانت انكلترة تتمتع بدرجة عالية نسبيا من التطور الاقتصادي، لم تظفر بنظيرها فرنسا ولا ألمانيا، وكان الشعب الإنكليزي، قد ظفر بمكاسب سياسية خطيرة، لم يكن قد حصل على شيء منها الشعب الفرنسي والألماني، وكانت القوى الاقتصادية الفنية في انكلترة (قوى البورجوازية) في نمو مستمر، لا يشبهه وضعها في البلدان الأخرى. وبكلمة مختصرة: إن الوضع الاجتماعي لإنكلترة، بشروطه الاقتصادية والسياسية، كان أعلى درجة - في سلم التطور التاريخي، الذي تؤمن به الماركسية - من فرنسا وألمانيا، بدليل أن انكلترة بدأت ثورتها التحررية، سنة (1215)، وخاضت في منتصف القرن السابع عشر (1648)، ثورتها الكبرى بقيادة (كرومويل)، بينما لم تتهيأ في فرنسا ظروف الثورة الحاسمة، إلا سنة (1789)، ولا في ألمانيا، إلا عام (1848)، وهذه الثورات، بوصفها ثورة بورجوازية، منبثقة عن درجة التطور الاقتصادي في رأي الماركسية، تبرهن بما تشير إليه من تفاوت زمني بينها إلى سبق انكلترة في المجال الاقتصادي.
وإذا كانت انكلترة هي الدولة المتطورة اقتصاديا، أكثر من غيرها، فمن الطبيعي - على أساس النظرية الماركسية - أن تسبق غيرها من البلدان في المضمار الفلسفي، وتصبح أكثر تقدمية منها في اتجاهها الفلسفي. والاتجاه التقدمي، في الفلسفة - عند الماركسية - هو الاتجاه المادي، وأكثر ما يكون الاتجاه المادي تقدميا، حين يقوم على أساس التطور والحركة. وهنا نتساءل: أين ولدت المادية وشبت؟ وفي أي مجتمع ظهرت تباشيرها، ثم اندلعت عاصفتها؟ وتبدو لنا الماركسية هنا في موقف حرج، لأن نظريتها في تفسير انكلترة الاقتصادي، كان يفرض عليها أن تظهر على المسرح الفلسفي، بالاتجاه التقدمي، أو الاتجاه المادي بتعبير آخر. ولهذا حاول ماركس القول: بأن المادية ولدت في إنكلترة، على يد (فرنسيس بيكون)، وعلى يد (الاسميين) (1).
(1) (التفسير الاشتراكي للتأريخ) ص 76.
126

ولكنا نعلم جميعا، أن (بيكون) لم يكن فيلسوفا ماديا، بل كان غارقا في المثالية، وإنما دعا إلى التجربة فقط وشجع الطريقة التجريبية في البحث. وأما (الاسميون) الإنجليز، فلئن كانت (الاسمية) لونا فكريا من الإعداد للمادية، فقد سبق إلى هذا اللون من التفكير الفلسفي، اثنان من الفلاسفة الفرنسيين، في مطلع القرن الرابع عشر: أحدهما (دوران دي سان بورسان)، والآخر: (بيير أوريول) وإذا أردنا أن نفتش بصورة أعمق عن المقدمات الفكرية، التي مهدت للاتجاه المادي. فسوف نجد قبل (الاسمية) الحركة (الراشدية اللاتينية) في الفلسفة، التي ظهرت في القرن الثالث عشر في فرنسا، وتشيع لها معظم أساتذة كلية الفنون بباريس. وعلى يدهم فصلت الفلسفة عن الدين، وبدأت تتجه إلى إنكار المسلمات الدينية.
وأما الاتجاه المادي في شكله الصريح، فهو وإن كشف عن نفسه في شخص أو أشخاص معدودين في إنكلترة، نظير (هوبز). ولكن هذا الاتجاه لم يستطع أن يسيطر على الموقف الفلسفي في إنكلترة، أو يستلم الزمام من الفلسفة المثالية، بينما آثار أكبر عاصفة مادية على المسرح الفلسفي في فرنسا، حتى غرقت فرنسا في الاتجاهات المادية. وبينما كانت فرنسا الفكرية، تحتفل ب - (فولتير) و (ديدرو) وأمثالهما من أئمة المادية في القرن الثامن عشر.. نجد انكلترة زاخرة بأعمق وأفظع مثالية فلسفية. على يد ((جورج باركلي)) و ((ديفيد هيوم)) المبشرين الأساسيين بالمثالية في تاريخ الفلسفة الحديثة..
وهكذا تجيء النتائج، على عكس ما ترتقبه الماركسية في التاريخ. إذ تزدهر الفلسفة المثالية، وبتعبير آخر: أشد الفلسفات رجعية عند الماركسية، في أرقى المجتمعات، وأكثرها تطورا من الناحية الاقتصادية والتكنيكية. بينما تختار العاصفة المادية لها مكانا، في مجتمعات متأخرة اقتصاديا واجتماعيا، كفرنسا، بل إن المادية التطورية والديالكتيك نفسهما، لم يظهرا إلا في ألمانيا، يوم كانت متأخرة في شروطها المادية على انكلترا، بعدة درجات. ومع هذا تريدنا الماركسية، أن نصدق تفسيرها للتفكير الفلسفي وتطوراته، على أساس الوضع الاقتصادي ونموه. ‌‌
127

وإذا حاولت الماركسية، أن تجد لها المفارقات مبررا لتعبيرها استثناء عن القانون. فماذا يبقى عندها من دليل على صحة القانون نفسه. لتكون هذه المفارقات استثنائية؟؟ ولماذا لا تكون دليلا على خطأ القانون نفسه، بدلا من أن نلتمس المعاذير لها من هنا وهناك؟ ‍!!.
وهكذا نستنتج - مما سبق - أن لا علاقة حتمية بين المفاهيم الفلسفية للمجتمع والوضع الاقتصادي للقوى المنتجة فيه.
وأما العلاقة بين الفلسفة والعلوم الطبيعية، فتتوقف دراستها - بصورة مفصلة - على تحديد مفهوم الفلسفة، ومفهوم العلم، والأسس التي يرتكز عليها التفكير الفلسفي والتفكير العلمي، لنستطيع أن نعرف ما يمكن من تفاعل وارتباط بين الحلقتين. وهذا ما سنتركه إلى ((فلسفتنا)) ولكننا لا نترك هذا المناسبة دون أن نشير بإجمال، إلى شكنا في التبعية المفروضة على الفلسفة للعلوم الطبيعية فإن الفلسفة قد تسبق العلم أحيانا، إلى بعض الاتجاهات في تفسير الكون، ثم يجري العلم بعد ذلك في اتجاهها، بطريقته الخاصة. وأوضح مثل على ذلك التفسير الذري للكون، الذي قال به الفيلسوف اليوناني ديمقراطيس، وقامت على أساسه عدة مدارس فلسفية، على مر التاريخ، قبل أن تصل العلو الطبيعية إلى مستوى تتمكن فيه من التدليل على هذا التفسير. واستمر التفسير يحمل الطابع الفلسفي الخالص، حتى حاول أن يدخل الحقل العلمي - لأول مرة - على يد (دالتن) عام (1805)، حيث استخدم الفرضية الذرية، لتفسير انسب الثابتة في الكيمياء.
ولم يبقى علينا بعد هذا، إلا أن نفحص الطابع الطبقي للفلسفة، فإن الماركسية تؤكد أن الفلسفة لا يمكن أن تتجرد عن إطارها الطبقي، بل هي دائما تعبير عقلي رفيع، عن مصالح طبقة معينة. قال موريس كونفورت:
((كانت الفلسفة دوما تعبير، ولا تستطيع أن تعبر، عن وجهة نظر طبقية. فكل
128

فلسفة عبارة عن وجهة نظر طبقة ما، عن العالم. طريقة تدرك بها الطبقة، مركزها وأهدافها التاريخية. فكانت المدارس الفلسفية، تعبر عن نظرة الطبقة، ذات الامتيازات، إلى العالم، أو عن وجهة نظر الطبقة التي كانت تكافح، لتصبح طبقة ذات امتيازات)) (1).
ولا تكتفي الماركسية بمجمل من القول كهذا، بل تضع النقاط على الحروف فتؤكد أن الفلسفة المثالية (وتعني بها كل فلسفة ترفض التفسير المادي البحث للعالم) هي فلسفة الطبقات الحاكمة، والأقليات المستغلة التي تتبنى المثالية على مر التاريخ - بوصفها فلسفة محافظة - لتستعين بها على إبقاء القديم على قدمه. وأما المادية فهي على نقيض ذلك، لأنها كانت تعبر دائما عن المفهوم الفلسفي للطبقات المضطهدة، وتقف إلى جانبها في كفاحها، وتسند الحكم الديمقراطي والقيم الشعبية (2).
وتشرح الماركسية هذين الموقفين المتناقضين. من المثالية والمادية، على أساس اختلاف الفلسفتين في نظريتهما عن المعرفة. وفي هذا تقع الماركسية في خلط، بين نظرية المعرفة في المجال الكوني، وبينها في المجال الأخلاقي فتعتبر أن تأكيد المثالية على حقائق مطلقة الوجود، يتضمن إيمانهم بقيم مطلقة للوضع الاجتماعي أيضا. فما دامت المثالية، أو الميتافيرية تؤمن بأن الحقيقة العليا ((الله)) في الوجود مطلقة وثابتة، فهي تؤمن - أيضا - بأن الظواهر العليا في المجتمع، من حكومة وأوضاع سياسية أيضا - بأن الظواهر العليا في المجتمع، من حكومة وأوضاع سياسية واقتصادية، حقائق ثابتة مطلقة أيضا. لا يجوز تغييرها واستبدالها بغيرها.
والحقيقة هي: أن وجود حقائق مطلقة وفقا لنظرية المعرفة الفلسفية عند الميتافيزية، ولمفهومها عن الوجود، لا يعني الاعتراف بنظير هذا الإطلاق والشمول، على الصعيد الاجتماعي والسياسي ولذلك نجد أرسطو زعيم الميتافزية، الفلسفية، يؤمن بالنسبية، على الصعيد السياسي، ويقرر: أن الحكومة الصاحلة تختلف

(1) (المادية الديالكتيكية) ص 32.
(2) راجع (دراسات في الاجتماع) ص 81.
129

باختلاف الأحوال والظروف، ولم يمنعه القول بالصلاح النسبي - هذا - في المجال الاجتماعي، من الاعتقاد بالحقائق المطلقة في الفلسفة الميتافيزيقية.
وسنترك درس هذه الناحية دراسة دقيقة، إلى (فلسفتنا)، ونقف هنا لحظة لنرى: هل يصدق التاريخ هذه المزاعم، التي تقررها الماركسية عن الاتجاه التاريخي الطبقي للمثالية والمادية؟؟.
ويمكننا أن نأخذ مثالين من التاريخ. من تاريخ المادية على الخصوص: أحدهما: (هرقليطس) أكبر فيلسوف للمادية في العالم القديم. والآخر: (هوبز) الذي يعتبر من أقطاب المادية في الفلسفة الحديثة.
أما (هرقليطس) فهو أبعد إنسان عن الروح الشعبية، التي تسلكها الماركسية في جوهر الفلسفة المادية. فقد كان سليل أسرة أرستقراطية نبيلة، لها المنزلة الأولى بين أهل المدينة وقد شاء الحظ أن يندرج في مناصبها الكبيرة، حتى أصبح حاكم المدينة المسيطر. وقد كان يعبر دائما، وفي كل تصرفاته عن نزعته الأرستقراطية،
وترفعه على الشعب، واستهانته به، حتى كان يصفه تارة بقوله: (أنعام تؤثر الكلأ على الذهب). وأخرى بقوله: (كلاب تنبح كل من لا تعرفه).
هكذا تجسدت - في العالم القديم - المادية الديالكتيكية في شخص، يمكن أن يوصف بكل شيء، إلا بالروح الديمقراطية ومساندة الحكم الشعبي. بينما كان إمام المثالية في دنيا اليونان، (أفلاطون)، يدعو إلى فكرة ثورية؟ تتجسد في نظام شيوعي مطلق، ويشجب الملكية الخاصة بكل ألوانها. فأي الفيلسوفين كان أقرب للثورية، والقيم التحررية في رأي الماركسية؟!
و (هوبز) الذي حمل في مطلع عهد النهضة، لواء فلسفة مادية خالصة، معارضا بها ميتافيزيقية (ديكارت)... لم يكن أحسن حالا من الذي اعتلى عرش إنجلترا بعد ذلك باسم: شارل الثاني عام 1660)، وبحكم علاقته هذه، ناهض الثورة الشعبية الكبرى، التي فجرها الشعب الإنجليزي، بقيادة (كرومويل) حتى إذا دكت الثورة عرش الملكية،
130

وأقامت مكانها جمهورية يرأسها (كرومويل)، اضطر فيلسوفنا المادي، إلى الفرار والالتجاء إلى فرنسا، التي كانت معقلا قويا للملكيين. وهناك استمر في مناصرته الفكرية للملكية المطلقة، ووضع كتابه (التنين)، الذي ضمنه فلسفته السياسية، وأكد فيه على ضرورة سلب أفراد الشعب خيراتهم، وإقامة الملكية على أساس من الاستبداد المطلق. وفي الوقت الذي كانت تركد فيه الفلسفة المادية، هذا الاتجاه السياسي، على يد (هوبز) كانت الفلسفة (الميتافيزيقية) تقف موقفا معاكسا، يتمثل في عدة من أبطالها المفكرين، الذين عاصروا (هوبز) كالفيلسوف الصوفي الكبير (باروخ سبينوزا) الذي آمن بحق الشعب في انتقاد السلطة، بل وفي الثورة عليها. ودعا إلى الحكم الديمقراطي قائلا: (كلما اتسعت مشاركة الشعب في الحكم، قوي التحاب والاتحاد)
فأي الفلسفتين كانت تسير في ركاب الأرستقراطية والاستبداد؟!.
فلسفة (هرقليط) الأرستقراطي، أم فلسفة أفلاطون واضع كتاب الجمهورية. فلسفة هوبز) الاستبدادي، أم فلسفة (سبينوزا)، القائل بحق الشعب في الحكم.
بقي علينا أن نلاحظ شيئا آخر، وهو: أن التفكير الفلسفي لما كان طبقيا في رأي الماركسية، فهو تفكير حزبي دائما. فلا يمكن لأي باحث فلسفي، أن يدرس مسائل الفكر الإنساني، دراسة موضوعية نزيهة، فبل الدراسات الفكرية كلها ذات لون حزبي صارخ، ولأجل هذا لا تتحاشى الماركسية عن إبراز الطابع الحزبي لفلسفتنا وتفكيرها الخاص، والاعتراف باستحالة النزعة الموضوعية في البحث بالنسبة إليها، وإلى كل المفكرين، وتكرر دائما: أن النزعة الموضوعية والنزاهة التامة في البحث، ليست إلا أسطورة بورجوازية يجب القضاء عليها قال الكاتب الماركسي الكبير (تشاغين):
((لقد ناضل لينين بثبات وإصرار... ضد النزعة الموضعية في النظرية، وضد اللا تحيز واللا حزبية البورجوازيين. ومنذ عام 1890 سدد لينين طعنة نجلاء، إلى النزعة الموضوعية البورجوازية، التي كان ينادي بها الماركسيون الشرعيون، أولئك الذين كانوا ينتقدون بالموقف الحزبي في النظرية، ويطالبون
131

بالحرية في ميدان النظرية... لقد بين في نضاله ضد الماركسية الشرعية، وضد نزعه المراجعين: ان النظرية الماركسية الشرعية، وضد نزعة المراجعين: ان النظرية الماركسية من واجبها أن تعلن بصراحة، وحتى النهاية، مبدأ الروح الحزبية البروليتارية... ولكي نقدر حق قدره هذا الحدث أو ذاك، من أحداث التطور الاجتماعي، فينبغي النظر إليه من زاوية مصالح الطبقة العاملة، والتطور التاريخي لهذه الطبقة... فالروح الحزبية هي التي تمكن الطبقة العاملة، من أن تبرر علميا، الضرورة التاريخية لإقامة ((دكتاتورية البروليتاريا)) (1).
وقال لينين نفسه:
((إن المادية تفرض الموقف الحزبي، لأنها في تقدير كل حادث تجبر على الانحياز صراحة، ودون مواربة، إلى وجهة نظر فئة اجتماعية معينة)) (2).
وعلى هذا الأساس، وجه جدانوف نقدا قاسيا كتاب (الكسندروف) في تاريخ الفلسفة الغربية، إذ دعا فيه مؤلفه إلى التساهل والنزعة الموضوعية في البحث فنقده جدانوف بحرارة وكتب يقول:
((إن المهم في نظري، هو أن المؤلف يستشهد ب - (تشرينشفسكي)، لكي يبين: أنه يجب على مؤسسي الأنظمة الفلسفية المختلفة، وحتى المتناقضة فيما بينها، أن يكونوا أكثر تساهلا واحدهم تجاه الآخر ولما كان المؤلف قد استشهد بهذه الفقرة (أي بفقرة من كلام تشرينشفسكي في تحبيذ التساهل والموضوعية دون تعليق، فمن الواضح أنها تمثل وجهة نظره الخاصة. فإذا كان الأمر كذلك، كان من الجلي أنه يسير في طريق، إنكار مبدأ الموقف الحزبي في الفلسفة، ذلك لمبدأ الجوهري في الماركسية اللينينية)) (3).
ونحن بدورنا نتساءل، في ضوء هذه النصوص: ماذا تقصد الماركسية من

(1) الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم، ص 79 - 72.
(2) حول تاريخ تطور الفلسفة، ص 21.
(3) حول تاريخ تطور الفلسفة ص 18.
132

التشديد على الموقف الحزبي في الفلسفة، والتحيز في كل مجال فكري إلى وجهة نظر الطبقة التي تدافع عن مصالحها فإن كانت تعين بذلك أن من الضروري للفلاسفة الماركسيين أن يجعلوا مصلحة الطبقة العاملة، هي المعيار فيما يقبلون ويرفضون من آراء، فلا يسمحون لأنفسهم بتبني أي فكرة، تتعارض مع تلك المصلحة، وإن
توفرت عليها الأدلة والبراهين.. فمعنى هذا أنها تنتزع من نفوسنا الثقة بأقوالها، وتجعلنا نشك في إيمانها بأي رأي تبديه، أو أخطائه، التي كان يكافح في سبيلها، ويعرضها بوصفها معاجز التفكير الحديث.
وأما إذا كانت تعني الماركسية من الموقف الحزبي، أن كل فرد ينتمي إلى طبقة ويدافع عن مصالحها، ينساق دون قصد إلى ما يتفق مع مصالح تلك الطبقة من مفاهيم وآراء، ولا يمكن أن يتجرد عن وصفه الطبقي خلال البحث، مهما حاول اصطناع النزعة الموضوعية وتكلفها، إذا كانت الماركسية تعني هذا، فإنه يؤدي بها إلى النسبة الذاتية التي تحاربها دائما.
ولعل القارئ يتذكر النسبية الذاتية، من بين المذاهب التي استعرضناها في نظرية المعرفة من (فلسفتنا) وهو المذهب القائل: بأن الحقيقة ليست مطابقة الفكرة للشروط الخاصة، التي توجد في تركيب الفرد العضوي والنفسي فالحقيقة بالنسبة إلى كل شخص، ما تتفق مع تركيبه الخاص، لا يطابق الواقع الخارجي، وهي لأجل ذلك نسبية ذاتية، بمعنى أنها تختلف من فرد لأخر.
والماركسية تشن حملة عنيفة ضد النسبية الذاتية، وتعتبر الحقيقة هي مطابقة الفكرة للواقع الموضوعي، غير أن الواقع الموضوعي لما كان متطورا، فالحقيقة التي تعكسه متطورة أيضا، فهي حقيقة نسبية، ولكن النسبية هنا موضوعية، تابعة لتطور الواقع الموضوعي، وليست ذاتية تابعة للتركيب العضوي والنفسي للفرد المفكر. هذا
133

ما تقوله الماركسية في نظرية المعرفة، ولكنها بتأكيدها على الطابع الطبقي والحزبي للتفكير، وعلى استحالة التجرد من مصالح الطبقة، التي ينتمي إليها المفكر، تسير في طريق الطبقية للمفكر لأن كل مفكر لا يستطيع أن يدرك الواقع إلا في حدود هذه المصالح. فلا يمكن للماركسية حين تقدم لنا مفهومها عن الكون والمجتمع، أن تزعم لهذا المفهوم القدرة على تصوير الواقع، وإنما كل ما تستطيع أن تقره هو: أنه يعكس وما يتفق مع مصالح الطبقة العاملة من جوانب الواقع. فمعيار الحقيقة عند كل مدرسة فكرية، هو مدى اتفاق الفكرة مع المصالح الطبقية، التي تدافع عنها. وبهذا تصبح الحقيقة نسبية، تختلف من مفكر إلى آخر، ولكن لا بحسب التركيب العضوي والنفسي للافراد، بل بحسب التركيب الطبقي والمصالح الطبقية التي ينتمون إليها. فالحقيقة نسبية طبقية، تختلف باختلاف الطبقات ومصالحها، وليست نسبية موضوعية، ولا يمكن التأكد من احتواء الحقيقة على جانب موضوعي من الواقع، أو تحديد هذا الجانب فيها، ما دامت الماركسية لا تأذن للتفكير - مهما كان لونه - أن يتجاوز حدود المصالح الطبقية وما دامت المصالح الطبقية توحي دائما بما يشايعها من أفكار، بقطع النظر عن خطئها وصوابها وينتج من ذلك شك مطلق مرير، في كل الحقائق الفلسفية.
ج - - العلم:
ولا أريد أن أقف عند الأفكار العلمية طويلا، خوفا من الإسهاب. ولكننا لن نستمع - مهما وقفنا - إلا نفس النغمة، التي كانت ترددها الماركسية في الحقل الفلسفي، وفي كل مرفق من مرافق الوجود الإنساني. فالعلوم الطبيعية - في رأيها - تتدرج وتنمو طبقا للحاجات المادية، التي يتفتح عنها الوضع الاقتصادي، وتستنجد شيئا فشيئا تبعا لتطور الظروف الاقتصادية وتكاملها. ولما كانت هذه الظروف، نتاجا تاريخيا لوضع القوى المنتجة، وأساليب الإنتاج، فلا غرو أن تصل الماركسية
134

في تفسيرها للحياة العلمية إلى الإنتاج أيضا، كما تصل اليه عند نهاية كل شوط، في تحليل حركة التاريخ وعلميته المتعددة الجوانب. فكل مرحلة تاريخية تتكيف اقتصاديا وفقا لأساليب ها في الإنتاج، وتساهم في الحركة العلمية في المدى الذي يفرضه واقعها الاقتصادي، وحاجاتها المادية النابعة من هذا الواقع. فاكتشاف العلم للقوة البخارية المحركة، في أواخر القرن الثامن عشر مثلا، كان وليد الظروف الاقتصادية، ونتيجة لحاجة الإنتاج الرأسمالي إلى قوة ضخمة، لتحريك الآلات التي يعتمد عليها هذا الإنتاج. وكذلك سائر الكشوف والتطورات، التي يحفل بها تاريخ العلم.
وقد ذكر (روجيه غارودي)، لإيضاح تبعية العلوم للوضع الاقتصادي والتكنيكي، للقوى المنتجة: أن المستوى التكنيكي، الذي تبلغه القوى المنتجة، هو الذي يضع أمام العلم قضايا، ويحتم عليه بحثها وحلها، فيتقدم ويتكامل وفقا لما يعالجه من هذه القضايا، النابعة من تطور القوى المنتجة، ووضعها الفني والتكنيكي. وعلى هذا الأساس يفسر لنا (غارودي)، كيف أن اكتشافا واحدا قد يتوصل اليه عدة علماء في آن واحد، كاكتشاف التعادل بين الحرارة والعمل، الذي حققه علماء ثلاثة، في وقت واحد، وهم: (كارنو) في فرنسا، و (جول) في انكلترا، و (ماير) في ألمانيا، وكما يقدم تطور القوى المنتجة بين يدي العلم القضايا، التي يجب عليه حلها، كذلك يعبر لنا (غارودي) عن وجه آخر،، تبعية العلوم لوضع القوى المنتجة، وهو أن تطورها يهئ للعلم أدوات البحث التي يستخدمها، ويؤمن له مجموعة الأدوات الضرورية للمراقبة والاخبار (1).
وفيما يلي نلخص ملاحظاتنا، على هذا الموقف الماركسي في تفسير العلم:
أ - إذا استثنينا العصر الحديث، نجد أن المجتمعات التي سبقته إلى الوجود، كانت متقاربة إلى حد كبير في وسائل الإنتاج وأساليبه، ولم يكن بينها أي فرق جوهري من هذه الناحية. فالزراعة البسيطة، والصناعة اليدوية، هما الشكلان الرئيسيان

(1) راجع الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم ص 11 - 12.
135

للإنتاج، في مختلف تلك المجتمعات. ومعنى ذلك في العرف الماركسي، ان القاعدة التي تقوم عليها المجتمعات
كلها واحدة. وبالرغم من ذلك فإنها تختلف اختلافا كبيرا، في مستوياتها العلمية. فلو كانت أشكال الإنتاج وأدواته، هي العامل الأساسي، الذي يحدد لكل مجتمع محتواه العمي، ويطور الحركة العلمية وفقا لدرجة التاريخية.. لما وجدنا تفسيرا لهذا الاختلاف، ولا مبررا لازدهار العلم في مجتمع دون مجتمع، ما دامت القوة الرئيسية التي تصنع التاريخ، واحدة في الجميع.
فلماذا اختلف المجتمع الأوروبي في القرون الوسطى مثلا، عن المجتمعات الإسلامية في الأندلس والعراق ومصر، مع اشتراكها في نوعية القاعدة!. وكيف ازدهرت في المجتمعات الإسلامية، الحركة العلمية في مختلف الحقول بدرجة عالية نسبيا، ولم يوجد لها أي تباشير في أوروبا الغربية، التي هالها ما رأته في حروبها الصليبية، من علوم المسلمين ومدنيتهم؟.
ولماذا استطاعت الصين القديمة وحدها، أن تخترع الطباعة، ولم تتوصل إليها سائر المجتمعات إلا عن طريقها!.. فقد أخذ المسلمون هذه الصناعة، عن الصينيين في القرن الثامن الميلادي، ثم أخذتها أوروبا عن المسلمين في القرن الثالث عشر. فهل كانت القاعدة الاقتصادية التي قامت عليها الصين القديمة، تختلف في جوهرها عن قاعدة المجتمعات الأخرى؟!.
ب - إن الجهود العلمية، وإن كانت تعبر في كثير من الأحايين عن حاجة مادية اجتماعية تتطلب الإبداع، ولكن هذه الحاجة لا يمكن أن تكون هي التفسير الأساسي الوحيد، لتاريخ العلم وتطوراته. فإن كثيرا من الحاجات، بقيت تنتظر آلاف السنين كلمة العلم بشأنها، ولم يستطع بمجرد وجودها في حياة الناس المادية، أن تظفر من العلم بمكسب، حتى آن للعلم أن يصل إلى الدرجة التي تتيح له قضاء هذه الحاجة. ولنأخذ المثال على ذلك من كشف علمي، قد يبدو الآن تافها ولكنه عبر في حينه عن تطور علمي جديد، وهو أخترع النظارات. فحاجة الناس
136

إلى النظارات مثلا قديمة، قدم الانسان، ولكن هذه الحاجة المادية، بقيت تنتظر دورها، حتى جاء القرن الثالث عشر، فاستطاعت أوروبا أن تأخذ عن المسلمين معلوماتهم عن انعكاس الضوء وانكساره، وبالتالي تمكن العلماء على أساس هذه المعلومات، أن يصنعوا النظارات فهل كان هذا الحدث العلمي وليد حاجة جديدة، نبعت عن الواقع الاقتصادي والمادي للمجتمع؟! أو كان نتيجة لعوامل فكرية، استطاعت أن تؤدي إلى اختراع النظارات عند وصولها إلى درجة معينة من تطورها وتكاملها؟!
ولو كان بإمكان الحاجة المنبثقة من الظروف الاقتصادية، أن تفسر العلم والكشوف العلمية، فكيف يمكن أن نفهم اكتشاف أوروبا لقدرة المغناطيس على تعين الاتجاه، في القرن الثالث عشر، حين استعملت الإبرة المغناطيسية في إرشاد السفن؟!. مع أن الطريق البحري كان هو الطريق الرئيسي للتجارة في قرون خلت، وكان الرومان يعتمدون في التجارة على طريق البحر بصورة رئيسية، ولم يتح لهم - بالرغم من ذلك - أن يكتشفوا للمغناطيس قدرته على توجيه السفن. ولم تشفع لهم حاجاتهم النابعة من واقعهم الاقتصادي بذلك، بينما تؤكد بعض الروايات التاريخية، أن الصين قد ظفرت بهذا الكشف قبل عشرين قرنا تقريبا.
وقد يتفق للعلم أن يسبق بفتوحه الحاجة الاجتماعية إذا استكمل الشروط الفكرية للفتح الجديد. فالقوة المحركة للبخار هي من حاجات المجتمع الرأسمالي في رأي الماركسية، ولكن العلم قد اكتشفها - بالرغم من ذلك - في القرن الثالث الميلادي (1) قبل أن تظهر طلائع الرأسمالية الصناعية، على مسرح التاريخ، بأكثر من عشرة قرون. صحيح أن المجتمعات القديمة المستثمر هذه القوة البخارية، ولكننا لا نتحدث عن مدى قدرة المجتمع على الاستفادة من العلوم، وإنما نبحت الحركة العلمية نفسها، وندرس ما إذا كانت تعبيرا عقليا عن الحاجة الاجتماعية المتجددة بدورها، أو حركة أصيلة لها شروطها السيكولوجية وتاريخا الخاص.

(1) راج الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم ص 12.
137

ج - - والماركسية حين تحاول أن تقصر نطاق العلم، على القضايا والمشاكل التي تضعها وسائل الإنتاج، وأوضاعها التكنيكية أمامها، تقع في خلط بين العلوم الطبيعية النظرية من ناحية، والفنون العلمية من ناحية أخرى. فالفنون العلمية الصناعية، التي نبعت من خلال التجارب والخبرات الاعتيادية، التي حصل عليها رجال الأعمال، وتوارثوها، كانت تسخر دائما لحساب القوى المنتجة، وتنمو تبعا لما تقدمه هذه القوى من مسائل ومشاكل، تتطلب منهم الجواب عنها، أو التغلب عليها. وأما العلوم النظرية التجريبية، فلم تكن وقفا على تلك المسائل والمشاكل، بل إننا نجد أن التطور العلمي النظري، والتطور الفني العملي، سار لفترة كبيرة من الزمن، في خطين منفصلين، وذلك منذ القرن السادس عشر، إلى القرن الثامن عشر. فقد مضى على الفنون العملية - بعد ميلاد العلم في القرن السادس عشر - قرنان، قبل أن تتهيأ لها الاستفادة من العلم، وبقي الحال على هذا تقريبا، حتى بدأت صناعة الكهرباء سنة (1870).
ومن المفيد بهذا الصدد أن نعلم، أن الثورة العلمية في الكيمياء، التي قام به (لافوازيه)، لم يقبلها الناس عامة، إلا في نهاية القرن الثامن عشر. وقد استطاعت الفنون العلمية خلال ذلك، إجراء تحسينات في صناعة الحديد، وصناعة الفولاذ، قبل أن يعرف هؤلاء الفنانون الفروق الكيمياوية الأصلية، بين الحديد الصلب، والحديد المطاوع، والفولاذ، تبعا لاختلاف نسبة الكربون فيها.
وهذا الانفصال بين خط التفكير العلمي، والخبرة البحتة في الفنون العلمية، ردحا من الزمن، يعني أن للعلم
تاريخه الفكري، وليس نتاجا لحاجات الإنتاج المتجددة، واستجابة لمستلزماتها الفنية فحسب.
وأما ما لاحظه (غارودي)، من أن كشفا علميا واحدا، قد يصل إليه عدة علماء في وقت واحد... فهو لا يبرهن على أن الكشوف العلمية دائما وليدة الظروف التكنيكية. لوسائل الإنتاج، كما شاءت الماركسية أن تستنتجه من هذه الظاهرة، زاعمة: أن الظروف الاقتصادي والمادية، حين تسمح لقوى الإنتاج، بطرح قضية جديدة إلى العلماء، وتدفعهم إلى التفكير في حلها، يصل هؤلاء العلماء إلى الكشف
138

المطلوب، في أوقات متقاربة، لأن القوة الدافعة لهم قد وجدت في وقت واحد، من خلال تطور الإنتاج.
ولكن هذا ليس هو التفسير الوحيد الممكن لهذه الظاهرة. بل من الممكن تفسيرها عن طريق تشابه أولئك العلماء، في الخبرة والشروط الفكرية والسيكولوجية، والمستوى العلمي العام.
والدليل على إمكان هذا التفسير، وجود هذه الظاهرة التي ندرسها، في الحقول العلمية النظرية، البعيدة عن مشاكل الإنتاج وتطوراته. فقد توصل مثلا ثلاثة من علماء الاقتصاد السياسي، في وقت واحد إلى (النظرية الحدية) في تفسير القيمة، وهم (جيفونز) الإنجليزي سنة (1871) و (فالرأس) السويسري سنة (1874)، و (كارل منجر) النمساوي سنة (1871). ومن الواضح الحدية، ليست إلا تفسيرا نظريا معينا لظاهرة اقتصادية قديمة، في حياة المجتمع الإنساني، وهي القيمة التبادلية. فلا علاقة للمحتوى العلمي للنظرية، بمشاكل الإنتاج أو تطور القوى الطبيعية المنتجة، ولم تستمد دليلها من هذا التطور.
فما هو تفسير وصول ثلاثة من أقطاب الاقتصاد، في وقت واحد تقريبا إلى وجهة نظر معينة، في تفسير القيمة، سوى أنهم كانوا متقاربين في شروطهم الفكرية، وقدرتهم التحليلية؟!.
د - وأما تبعية العلوم الطبيعية لتطور القوى المنتجة، بوصفه المصدر الذي يمون العلم بأدوات البحث الضرورية له، فهي في الواقع علاقة مقلوبة، ذلك أن العلوم الطبيعية، وإن كانت تنمو وتتكامل طبقا لما تظفر به، أدوات التجربة والاختبار، من مراقب ومجاهر وآلات تسجيل، وما إليها.. ولكن هذه الأدوات نفسها، ليست إلا نتاجا للعلم، يقدمه العلم بين يدي العلماء، ليتيح لهم استخدامه في الوصول إلى مزيد من النظريات، واستكشاف الأسرار المجهولة. فاختراع المجهر في القرن السابع عشر، كان ثورة في وسائل الإنتاج، لأنه استطاع أن يزيح الستار عن دنيا مجهولة، لم يكن قد اطلع عليها الإنسان قط، ولكن ما هو المجهر؟. إنه نفسه ليس إلا نتاجا للعلم،
139

ولاكتشاف قوانين الضوء، وكيفية انعكاسه على العدسات. ‌‌‌‌
ويجب أن نعرف بهذا الصدد، أن قصة العلم لا تتمثل كلها في الأدوات فما أكثر الحقائق التي كانت أدوات اكتشافها جاهزة، ولكنها ظلت مستورة عن عين الانسان، حتى بلغ التفاعل والتكامل في الفكر العلمي إلى درجة سمحت له باكتشاف الحقيقة، وصوغها في مفهوم علمي خاص. ويمكننا أن نقدم مثلا بسيطا على ذلك، من فكرة الضغط الجوي، هذه الفكرة التي تعتبر من الفتوحات الكبرى للعلم، في القرن السابع عشر. فهل تدري كيف سجل العلم هذا الفتح العظيم؟. إنه سجله في فكرة طرأت على ذهن (تورتشيلي)، إذ لاحظ أن المضخة لا تستطيع أن ترفع الماء إلى أكثر من (34) قدما. وقد سبقه إلى هذه الملاحظة آلاف من رجال الأعمال، خلال قرون، كما سبقه إليها بوجه خاص العالم الكبير (جاليلو)، ولكن الشيء العظيم الذي قدر (لتروتشيلي)، أن يقدمه إلى العلم، هو تفسير الظاهرة، التي كانت معروفة منذ قرون. فقد قال ان الحد الذي ترفع المضخة إليه الماء، فلا تزيد عنه (34 قدما)، قد يكون هو مقياس ما للجو من ضغط، وإذا كان الضغط الجوي قادرا على حمل عمود من الماء طوله (34 قدما). فهو لابد حامل عمودا من الزئبق أقصر من العمود المائي لأن الزئبق أثقل من الماء، وسرعان ما تأكد من صحة هذه النتيجة، وأقام عن طريقها الدليل العلمي على وجود الضغط الجوي، الأمر الذي قام على أساسه عدد عظيم من الكشوف والاختراعات.
فمن حقنا أن نقف عند هذا الكشف العلمي، بوصفه حادثا تاريخيا، لنتساءل: لماذا وجد هذا الحدث العلمي في فترة معينة، من القرن السابع عشر، ولم يتحقق قبل ذلك؟!، أو لم تكن الظاهرة التي وضع (تورتشيلي) نظريته في ضوئها، معروفة خلال قرون، منذ بدء استعمال المضخات المائية؟!، أو لم تكن التجربة التي قام بها لإثبات النظرية علميا، ميسورة لغيرة ممن التفت إلى الظاهرة، ولم يحاول أن يفسرها؟!.
140

ونحن إذا لم نؤمن للحركة العلمية بأصالتها وتطورها، وفقا لتراكم الأفكار وتفاعلها، وشروطها السيكولوجية والفكرية الخاصة فسوف لن يجد هذا الكشف العلمي، ولا العلم بوجه عام، تفسيره الكامل في قوى الإنتاج والأوضاع الاقتصادية. ‌‌
ولن نتكلم الآن عن الأفكار الاجتماعية، وعلاقتها بالعامل الاقتصادي لأن لمعالجة هذه النقطة موضعها في بحث مقبل من هذا الكتاب.
3 - الطبقية الماركسية
ومن النقاط الجوهرية في الماركسية مفهومها الخاص عن الطبقية الذي كونته، وفقا لطريقتها العامة في دمج الدراسة الاجتماعية الاقتصادية، والنظر دائما إلى المدلولات الاجتماعية ضمن الإطار الاقتصادي، فهي ترى أن الطبقات بوصفها ظاهرة اجتماعية، ليست إلا تعبيرا ذا طابع اجتماعي عن القيم الاقتصادية السائدة في المجتمع،
من الربح والفائدة والأجر وألوان الاستثمار، وتؤكد لأجل هذا، أن الأساس الواقعي للتركيب الطبقي، ولظهور أي طبقة في المجتمع، هو العامل الاقتصادي، لأن انقسام الناس إلى فئة تملك كل وسائل الإنتاج، وفئة لا تملك منها شيئا، هو السبب التاريخي لوجود الطبقات في المجتمع، بأشكالها المتنوعة تبعا لنوعية الاستغلال الذي تفرضه الطبقة الحاكمة على الطبقة المحكومة، من عبودية أو قنانة أو استخدام بالأجرة.
والحقيقة أن الماركسية حين أعطت الطبقة مفهوما اقتصاديا يتمثل في ملكية وسائل الإنتاج أو انعدام هذه الملكية، كان من الطبيعي لها أن تؤمن بقيام التركيب الطبقي في المجتمع، على أساس اقتصادي، ما دامت قد أدرجت ذلك في مفهومها عن الطبقية بالذات.
ولعل هذه النقطة هي أوضح مثال من بين النقاط التحليلية في الماركسية، لما حرضت عليه الماركسية، وأدته ببراعة من تفسير المدلولات الاجتماعية كلها،
141

تفسيرا اقتصاديا وتطعيمها بقيمها الاقتصادية الخاصة.
غير أن هذه البراعة في التحليل، من الناحية النظرية، كلفت الماركسية الابتعاد عن المنطق الواقعي للتاريخ، وعن طبيعة الأشياء - لا كما تبدو وتتعاقب في ذهن العلماء الماركسيين - بل كما تبدو في الواقع، لأن التحليل الماركسي يفترض أن الواقع الاقتصادي - ملكية وسائل الإنتاج، وعدم ملكيتها - هو الأساس الواقعي والتاريخي للتركيب الطبقي، وانقسام المجتمع إلى طبقة حاكمة - لأنها تملك - وطبقة محكومة - لأنها لا تملك مع أن الواقع التاريخي ومنطق الأحداث يبرهن في أكثر الأحايين على العكس، ويوضح أن أوضاع الطبقات، هي السبب في الأوضاع الاقتصادية التي تتميز بها تلك الطبقات، فالوضع الاقتصادي للطبقة يتحدد وفقا لكيانها الطبقي، وليس كيانها الطبقي نتيجة لوضعها الاقتصادي.
وأكبر الظن، أن الماركسية حين قررت أن التركيب الطبقي قائم على أساس اقتصادي، وأكدت على أن الطبقة نتيجة للملكية لم تدرك النتيجة التي تترتب على ذلك منطقيا، وهي أن النشاط في ميادين الأعمال، هو الأسلوب الوحيد إلى كسب المقام الاجتماعي، وتكوين طبقة رفيعة في المجتمع، لأن التكوين الطبقي للطبقة الرفيعة الحاكمة، في المجتمع إذا كان نتاجا للملكية - الوضع الاقتصادي - فلابد لها من إيجاد هذه الملكية، لكي تصبح طبقة رفيعة حاكمة، ولا سبيل إلى حصولها على تلك الملكية، إلا النشاط في ميادين العمل. وقد تكون أغرب نتيجة، يتمخض عنها التحليل الماركسي لبعدها عن الواقع، وإلا فمتى كان النشاط في ميادين التحليل الماركسي لبعدها عن الواقع، وإلا فمتى كان النشاط في ميادين الأعمال، هو الطريق الأساسي لتكوين الطبقة الرأسمالية، قد بنت كيانها وتكامله، إذ يمكن لأحد أن يقول ان الطبقة الرأسمالية، قد بنت كيانها الطبقي عن طريق الملكية التي حصلت عليها بالنشاط الدائب في ميادين العمل والإنتاج وأما في الظروف التاريخية الأخرى، فلم يكن النشاط العملي، هو الأساس لتكون الطبقات، ولا الدعامة الرئيسية
142

للطبقة الحاكمة في كل العصور، بل على العكس كانت حالة الملكية تظهر على الأكثر بوصفها نتيجة للوضع الطبقي، وليست أساسا له.
وإلا فكيف نفسر الحدود الفاصلة التي كانت توضع في المجتمع الروماني بين طبقة الأشراف بالرغم من التفاوت الكبير بين مقامهما الاجتماعي، ومن السلطات السياسية الخاصة التي كان الأشراف يمتازون بها على رجال الأعمال وغيرهم من الفئات.
وكيف نفسر وجود طبقات (السامورايي) ذات النفوذ الكبير في المجتمع الياباني القديم التي كانت تأتي في السلم الاجتماعي بعد أمراء الاقطاع مباشرة، وترتكز في تكوينها الطبقي على خبرتها الخاصة بحمل السيف، وفنون الفروسية وأساليبها، وليس على الملكية وقيمها الاقتصادية.
وكيف نفسر قيام التنظيم الطبقي في المجتمع الهندي، قبل التاريخ الحديث بألفي سنة على يد الفاتحين، من الآريين الفيديين الذين غزوا الهند، وسيطروا عليها، وأقاموا فيها تنظيما طبقيا على أساس اللون والدم، ثم تطور التكوين الطبقي، فانقسمت الطبقة الفاتحة الحاكمة إلى طبقة (الكشاترية) المتميزة بكفاءتها العسكرية وبراعتها في القتال وطبقة (البراهمة)، القائمة على أساس ديني، وظلت الفئات الأخرى كلها محكومة لهاتين الطبقتين، بما فيها التجار والصناع الذين كانوا يملكون وسائل الإنتاج. واحتلت القبائل الوطنية التي ظلت متمسكة بدينها أدنى الدرجات في السلم الاجتماعي، وتكونت منها طبقة المنبوذين. فلم يكن للملكية أثر في هذا التكوين الطبقي، الذي ظل يمارس وظيفته الاجتماعية مئات السنين في القارة الهندية قائما على أسس عسكرية ودينية وعنصرية، ولم يشفع للتجار والصناع ملكيتهم، لوسائل الإنتاج كي يرتقوا إلى مصاف الطبقات الحاكمة، أو ينافسوها في سلطانها السياسي والديني.
وأخيرا كيف نفسر قيام الطبقة الاقطاعية في أوروبا الغربية نتيجة للفتح
143

الجرماني، إذا لم نفسره تفسيرا عسكريا وسياسيا، فإننا جميعا نعلم - وحتى أنجلز نفسه فقد كان يعترف أيضا - بأن القواد الفاتحين الذين تكونت منهم تلك الطبقة لم يكن مقامهم الاجتماعي ناتجا عن الملكية الاقطاعية وإنما تكونت ملكيتهم الاقطاعية هذه تبعا لدرجتهم الاجتماعية، وامتيازاتهم العسكرية والسياسية الخاصة، بوصفهم غزاة فاتحين دخلوا أرضا واسعة، وتقاسموها فكانت الملكية أثرا، ولم تكن هي العامل المؤثر.
وهكذا نجد عناصر غير ماركسية، وتنتهي إلى نتائج غير ماركسية لدى تحليل كثير من التركيبات الطبقية في المجتمعات البشرية المختلفة.
وقد تحاول الماركسية بهذا الصدد الدفاع عن مفهومها في الطبقية عن طريق القول بالعلاقة المتبادلة بين العامل الاقتصادي وشتى العوامل الاجتماعية الأخرى، الأمر الذي يجعله يتأثر بها، ويتكيف وفقا لها، كما يؤثر فيها ويساهم في تكوينها.
غير أن هذه المحاولة وحدها تكفي لنسف المادية التاريخية، والقضاء على مجدها العلمي الشامخ في دنيا الماركسية، لأنها لا تختلف عندئذ عن التفاسير الأخرى للتاريخ، إلا في التأكيد على أهمية العامل الاقتصادي نسبيا مع الاعتراف بالعوامل الأخرى الأصيلة التي تساهم في صنع التاريخ.
وإذا كانت الماركسية على خطأ في تعليل الطبقية بالوضع الاقتصادي وحده عرفنا من ذلك خطأها أيضا في إعطاء الطبقة مفهوما اقتصاديا خالصا، لأن الطبقة إذا لم تكن قائمة دائما على أساس اقتصادي في تركيبها الاجتماعي فليس من الصحيح إذن أن نعتبر الطبقية مجرد تعبير عن قيمة اقتصادية معينة كما زعمت الماركسية ذلك، الأمر الذي جعلها تصل إلى نتائج غريبة مشابهة لما أدت إليه نظرتها في تعليل الطبقية وتبريرها من نتائج، فقد رأينا أن الماركسية حين آمنت بأن الطبقة إنما تتكون وفقا للشروط، الاقتصادية، والحالة الملكية، كلفها ذلك القول بأن النشاط في ميادين العمل هو الطريق الوحيد إلى السمو الاجتماعي، وكذلك يمكننا أن نلاحظ الآن أننا إذا أعطينا الطبقة مفهومها الماركسي،
144

وبالأخرى مفهومها الاقتصادي البحت القائل بأن الجماعة التي تعيش على عملها طبقة واحدة، والجماعة التي تعيش على استثمار وسائل الإنتاج التي تملكها طبقة أخرى، ولم ندخل في مفهوم الطبقة أي اعتبار آخر سوى هذه القيم الاقتصادية كما تصر الماركسية على ذلك، لكان معنى هذا أننا أدرجنا كبار الأطباء والمهندسين، ومدراء المؤسسات التجارية والشركات الكبرى، وفي نفس الطبقة التي تضم عمال المناجم وأجراء الزراعة والصناعة، لأنهم جميعا يعيشون على الأجور، بينما يلزمنا أن نضع حدا طبقيا فاصلا بين هؤلاء الأجراء وبين مالكي وسائل الإنتاج مهما كانت أجور أولئك ومهما كانت نوعية الوسائل المنتجة المتوفرة عند هؤلاء. وحيث ان الصراع بين الطبقات ضريبة ماركسية لا محيد للطبقات عن القيام بها فسوف ينتهي بنا ذلك إلى تصور أن صغار مالكي الوسائل المنتجة سوف يقفون كبار الأجراء من المهندسين والأطباء الأخصائيين إلى صف الكادحين المستثمرين وهكذا ينقلب مدير المؤسسة التجارية الكبرى عاملا كادحا يخوض المعركة ضد المالكين المستثمرين نتيجة لدمج الحقائق الاجتماعية بالقيم الاقتصادية واتخاذ الجهاز الاقتصادي في توزيع الدخل أساسا للطبقات الاجتماعية.
ونستنتج من دراستنا هذه للتحليل الماركسي للطبقة نتيجتين خطيرتين: إحداهما: أن من الممكن قيام الطبقات في المجتمع حتى ولو انعدمت فيه الملكية الخاصة بصورة قانونية لأن حالة الملكية - كما عرفنا - ليست هي الأساس الوحيد للتكوين الطبقي، وهذه هي النتيجة التي كانت الماركسية تخشاها حين أكدت على حالة الملكية، بوصفها السبب الوحيد لوجود الطبقات كي تبرهن عن هذا الطريق على ضرورة زوال الطبقية واستحالة وجودها في المجتمع الاشتراكي الذي تلغى فيه الملكية الخاصة بصيغتها القانونية ليست هي العامل الوحيد في وجود المجتمع الطبقي فمن الطبيعي أن ينهار هذا البرهان، ويصبح من الممكن أن توجد الطبقية. بشكل من الأشكال في المجتمع الاشتراكي بالذات،
145

كما وجدت في غيره من المجتمعات. وهذا ما سندرسه إن شاء الله باستيعاب أكثر عند نقد المرحلة الاشتراكية من مراحل المادية التاريخية.
والنتيجة الأخرى هي: ان الصراع في المجتمع - حيث يوجد - لا يجب أن يعكس القيم الاقتصادية التي قررها جهاز التوزيع في المجتمع فليست نوعية الدخل الناحية الاقتصادية - ككون الدخل أجرا أو ربحا - هي التي تفرض الصراع ولا جبهات الصراع مقسمة على أساس تلك الدخول والقيم الاقتصادية.
4 - العوامل الطبيعية والماركسية
ومن مظاهر النقصان البارزة في الفرضية الماركسية، تناسي العوامل الفيزيولوجية والسيكولوجية والفيزيائية، وإهمال دورها في التاريخ، مع أنها قد تكون في بعض الأحايين ذات تأثير كبير في حياة المجتمع وكيانه العام، لأنها هي التي تحدد للفرد اتجاهاته العملية، وعواطفه وكفاءاته الخاصة، تبعا لما تتحفه به من تركيب عضوي خاص، وهذه الاتجاهات والعواطف والكفاءات، التي تختلف في الأفراد وفقا لتلك العوامل، وتساهم في صنع التاريخ، وتقوم بأدوار إيجابية متفاوتة في حياة المجتمع.
فكلنا نعلم بالدور التاريخي، الذي لعبته مواهب نابليون العسكرية، وشجاعته الفريدة، في حياة أوروبا.
وكلنا نعلم بميوعة لويس الخامس عشر، وآثارها التاريخية خلال حرب السنوات السبع، التي خاضتها فرنسا إلى جانب النمسا، فقد استطاعت امرأة واحدة، كمدام (بومبادور) أن تملك إرادة الملك، وبالتالي أن تدفع فرنسا للاشتراك مع النمسا في حربها، وتحمل العواقب الوخيمة التي أسفرت عنها.
وكلنا نعلم بالدور التاريخي، الذي نجم عن حادثة غرام خاصة، في حياة ملك إنجليزي كهنري، إذ أدت تلك
الحادثة إلى انفصال العائلة المالكة، وبالتالي انكلترا كلها، عن المذهب الكاثوليكي.
وكلنا نعلم ما فعلته عاطفة الأبوة، التي دفعت بمعاوية بن أبي سفيان، إلى اتخاذ
146

كل الأساليب الممكنة، لأخذ البيعة لابنه يزيد، الأمر الذي عب‍ر في وقته عن تحول حاسم، في المجرى السياسي العام.
فهل كان التاريخ سيتم بنفس الصورة التي وجدت فعلا، لو لم يكن نابليون رجلا عسكريا حديديا، ولم يكن لويس ذائبا مستسلما لمحظياته، ولم يعشق هنري (آن بولين)، ولم تسيطر عاطفة خاصة على معاوية بن أبي سفيان.
وليس أحد يدري ماذا كان يحدث؟ لو لم تسمح الشروط الطبيعية للوباء باكتساح أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وامتصاص مئات الآلاف من سكانها مما ساعد على انهيارها وتغير الوجه التاريخي العام.
ولا يدري أحد أيضا أي اتجاه كان يتجه التاريخ القديم، لو أن جنديا مقدونيا لم ينقذ حياة الإسكندر، في اللحظة المناسبة، فيقطع اليد التي أهوت عليه بالسيف من خلفه، وهو في طريقه إلى فتح عسكري خطير، امتدت آثاره عبر الأجيال والقرون.
وإذا كانت تلك الصفات من الصلابة، والميوعة، والغرام، والعاطفة، ذات تأثير في التاريخ، ومجرى الحوادث الاجتماعية، فهل من الممكن أن نفسر هذه الصفات، على أساس القوى المنتجة والأوضاع الاقتصادية، لننتهي مرة أخرى إلى العامل الاقتصادي، الذي تؤمن به الماركسية؟!.
الحقيقة ان أحدا لا يشك، في أن هذه الصفات لا يمكن تفسيرها على أساس العامل الاقتصادي، وقوى الإنتاج، فإن الوسائل المنتجة والظروف الاقتصادية ليست هي التي كونت المزاج الخاص، للملك لويس الخامس عشر مثلا، بل كان من الممكن - لو ساعدت الشروط الطبيعية والسيكولوجية - أن يكون لويس الخامس عشر، شخصا صلبا قوي الإرادة، نظير الخصائص الفيزيائية والفيزيولوجية والنفسية، التي يتكون منها وجوده الخاص، وشخصيته المتميزة.
وقد تبتدر الماركسية هنا، قائلة: أليست العلاقات الاجتماعية، التي أنشأها العامل الاقتصادي في المجتمع الفرنسي، هي التي سمحت للملك لويس أن يؤثر على
147

التاريخ، ويعكس ميوعته على الأحداث العسكرية والسياسية، بما أقرته تلك العلاقات من النظام الملكي الوراثي؟ فالدور التاريخي الذي أداه هذا الملك ليس في الحقيقة إلا نتاجا لهذا النظام، الذي هو بدوره وليد الوضع الاقتصادي وقوى الإنتاج، وإلا فمن يستطيع أن ان يقول: أن لويس كان يمكنه أن يؤثر في التاريخ، لو لم يكن ملكا، ولم تكن فرنسا تعترف بنظام الملكية الوراثية في الحكم (1)؟!.
وهذا صحيح، فإن لويس لو لم يكن ملكا لكان كمية مهملة، في حساب التاريخ. ولكنا نقول من ناحية أخرى: أنه لو كان ملكا، يتمتع بشخصية صلبة وقوة تصميم، لاختلف دوره التاريخي، ولاختلفت بالتالي أحداث فرنسا السياسية والعسكرية، فما الذي سلب منه صلابة الشخصية، وحرمه من قوة التصميم؟، أهو النظام الملكي أو العوامل الطبيعية التي ساهمت في تركيبة العضوي وتكوينه الخاص؟!.
وبكلمة أخرى: إن ثلاث تقادير كان من الممكن أن يوجد أي واجد منها في فرنسا: السلطة السياسية الجمهورية، والسلطة الملكية المتمثلة في شخص مائع، والسلطة الملكية المتمثلة في ملك قوي حديدي.
ولكل من هذه التقادير الثلاثة أثره الخاص، في مجرى الحوادث السياسية والعسكرية، وبالتالي في تكوين فرنسا لفترة من الزمن. فلنتبين فحوى قوانين التاريخ التي استكشفتها الماركسية، وفسرت على أساسها التاريخ بالعامل الاقتصادي.
إن هذه القوانين تشير، إلى أن الوضع الاقتصادي لم يكن يسمح بقيام سلطة جمهورية في البلاد، بل كان يفرض النظام الملكي في الحكم. ولنفترض أن هذا صحيح، فليس هو إلا جانبا واحدا من المسألة، لأننا نستطيع بذلك أن نستبعد التقدير الأول، ويبقى التقديران الآخران، فهل هناك لقانون علمي يحتم وجود ملك مائع أو قوي، في تلك الفترة من تاريخ فرنسا، سوى القوانين العملية: في الفيزياء والفيزيولوجيا والسيكولوجيا، التي تفسر شخصية لويس ومزاجه الخاص؟؟

(1) راجع دور الفرد في التأريخ ص 68.
148

وهكذا نعرف، أن للأفراد أدوارهم في التاريخ، التي تحددها لهم العوامل الطبيعة والنفسية، لأقوى الإنتاج السائدة في المجتمع.
وليست هذه الأدوار التاريخية، التي يقوم بها الأفراد وفقا لتكوينهم الخاص أدوارا ثانوية في عملية التاريخ دائما، كما زعم (بليخانوف) الكاتب الماركسي الكبير إذ أكد على:
((ان الخصائص الفردية، التي يتصف بها الرجال العظام، تحدد السمة الخاصة للحوادث التاريخية، وتحدد عامل المصادفة... وتلعب دورا جزئيا في مجرى هذه الحوادث، التي تحدد اتجاهها في النهاية، الأسباب الموصوفة بالعامة، أي بتطور القوى المنتجة، وبالعلاقات التي تحددها هذه القوى بين الناس)). (1)
ولا نريد أن نعلق على تأكيد (بليخانوف) هذا، إلا بمثال واحد، نستطيع أن ندرك في ضوئه: كيف يمكن أن يكون دور الفرد، سببا لتحول الاتجاه التاريخي بشكل حاسم؟ فماذا كان يقدر لوجهة التاريخ العالمي، لو أن
عالما ذريا في ألمانيا النازية، قد سبق إلى اكتشاف سر الذرة بعدة شهور فقط. ألم يكن امتلاك هتلر لهذا السر، كفيلا بتغيير وجهة التاريخ، وتقويض الديمقراطية الرأسمالية، والاشتراكية الماركسية من أوروبا؟ فلماذا لم يستطع هتلر أن يملك هذا السر؟ ليس ذلك طبعا بسبب من الوضع الاقتصادي، ونوعية القوى المنتجة، وإنما هو لأن الفكر العلمي، لم يستطع في تلك اللحظة أن يستكشف السر الذي اكتشفه بعد ذلك بعدة شهور فقط، تبعا لظروفه الفسيولوجية والسيكولوجية.
بل ماذا كان يمكن أن يقع، لو أن العلماء الروس لم يصلوا إلى سر الذرة؟ ألم يكن من الممكن أن يستغل المعسكر الرأسمالي، في تلك اللحظة قوى الذرة، في القضاء على الحكومات الاشتراكية؟! فبم نستطيع أن نفسر اكتشاف العلماء الروس للسر، الأمر الذي أنقذ العالم الاشتراكي من الدمار؟ لا يمكننا أن نقول أن قوى الإنتاج، هي التي أزاحت الستار عن هذا السر، وإلا فلماذا لم يدركه نفر خاص، من العدد

(1) دور الفرد في التأريخ ص 93.
149

الكبير من العلماء الذريين الذين كانوا يمارسون التجارب الذرية؟! فإن هذا يوضح، أن الاكتشاف مدين - بصورة خاصة - للتركيب العضوي الخاص، وشروطه الذهنية. ولو لم تتهيأ هذه الشروط، في شخص أو أشخاص، معدودين من علماء الروس، ولم يوحد النبوغ العلمي الخاص، المرتهن بذلك التركيب وتلك الشروط، لمنيت الاشتراكية بالدمار والهزيمة الكبرى، وبالرغم من قوانين المادية التاريخية كلها. وإذا كان من الممكن أن توجد لحظات في حياة الإنسان، تقرر مصير التاريخ أو نوعية الأحداث الاجتماعية، فكيف يمكن أن تكون قوانين الوسائل المنتجة، هي القوانين الحتمية للتاريخ؟!.
الهوامش:
- - - - - - - -
1 - راجع دور الفرد في التاريخ: ص 68.
2 - دور الفرد في التاريخ. ص 93.
5 - الذوق الفني والماركسية
والذوق الفني في الإنسان - بوصفه ظاهرة اجتماعية، اشتركت فيها كل المجتمعات، على اختلافها في النظم والعلاقات ووسائل الإنتاج - لون آخر من الحقائق الاجتماعية، التي تضيق بها المادية التاريخية كما سنرى.
والحديث عن الذوق الفني له جوانب عديدة. فالرسام حين يبدع صورة رائعة، لزعيم سياسي، أو لمعركة حربية. قد نسأل مرة عن الطريقة التي ابتعها هذا الفنان، في إبداع الصورة، ونوعية الأدوات التي استعملها، وقد نسأل مرة أخرى عن الهدف الذي كان يرمي إليه، من وراء هذه الصورة، وقد نسأل ثالثة لماذا نعجب بها، ونمتلئ إحساسا بروعتها، والتذاذا بمنظرها؟
ويكن للماركسية التي تجيب على السؤال الأول قائلة: إن الطريقة التي ابتعها الرسام خلال العملية، هي الطريقة التي تفرضها درجة التطور في الأدوات وقوى الإنتاج. فالوسائل الطبيعة هي التي تقرر طريقة الرسم.
وكذا لم يمكن للماركسية أن تجيب على السؤال الثاني، زاعمة: أن الفن استخدام دائما لخدمة الطبقة الحاكمة. فالهدف الذي يدعو الفنان إلى التفنن والإبداع، هو تعزيز هذه الطبقة ومصلحتها، ولما كانت هذه الطبقة وليدة القوى المنتجة، فوسائل
150

الإنتاج هي الجواب الأخير على هذا السؤال.
ولكن ماذا تصنع الماركسية بالسؤال الثالث: لماذا نعجب بالصورة ونستذوقها؟ فهل قوى الإنتاج أو المصلحة الطبقية هي التي تخلق في نفوسنا هذا الإعجاب، وهذا الذوق الفني، أو هو شعور وجداني، وذوق ينبع من صميم النفس، وليس مستوردا من وسائل الإنتاج وظروفها الطبقية؟
إن المادية التاريخية تفرض على الماركسية أن تفسر الذوق الفني بقوى الإنتاج، والمصلحة الطبقي، لأن العامل الاقتصادي هو الذي يفسر كل الظواهر الاجتماعية، في المادية التاريخية، ولكنها لا تستطيع ذلك، وإن حاولته، إذ لو كانت القوى المنتجة، أو المصلحة الطبقية، هي التي تخلق هذا الذوق الفني، لزال بزوالها، ولتطور الذوق الفني تبعا لتطور وسائل الإنتاج، كما تتطور سائر الظواهر والعلاقات الاجتماعية، مع أن الفن القديم بآياته الرائعة، لا يزال في نظر الإنسانية حتى اليوم، منبعا من منابع اللذة الجمالية، ولا يزال يتحف الإنسان وهو في عصر الذرة، بما كان يتحفه به قبل آلاف السنين، من انشراح وسحر فكيف ظلت هذه المتعة، النفسية، حتى أخذ الإنسان الاشتراكي والرأسمالي، يتمتع بفن مجتمعات الرق، كما كان الأسياد، والعبيد يتمتعون بها؟! وبقدرة أي قادر استطاع الذوق الفني أن يتحرر من قيود المادية التاريخية، ويخلد في وعي الإنسان؟! أليس العنصر الإنساني الأصيل، هو التفسير الوحيد، الذي يجيب على هذه الأسئلة؟!.
ويقوم ماركس هنا بمحاولة، للتوفيق بين قوانين المادية التاريخية واعجابنا بالفن الإنساني القديم، زاعما: أن الإنسان الحديث، يلتذ بروعة الفن القديم بوصفه ممثلا لطفولة النوع البشري، كما يلذ لكل إنسان أن يستعرض أحوال طفولته البريئة، الخالية من التعقيد (1).
ولكن ماركس لا يقول لنا شيئا عن سرور الإنسان بأحوال الطفولة، فهل هو نزعة أصيلة في الانسان، أو ظاهرة خاضعة للعامل الاقتصادي ومتغيرة تبعا له؟!

(1) كارل ماركس ص 243.
151

ثم لماذا يجد الإنسان الحديث، المتعة والسحر في روائع اليونان الفنية مثلا، ولا يجد هذه المتعة والسحر في استعراض بقية ظواهر حياتهم، من أفكار وعادات ومفاهيم بدائية، مع أنها جميعا تمثل طفولة النوع البشري؟!
وماذا يقول لنا ماركس، عن المناظر الطبيعة الخالصة، التي كانت منذ أبعد آماد التاريخ ولا تزال، قادرة على ارضاء الحس الجمالي في الإنسان، وبعث المتعة إلى نفسه؟! فكيف نجد المتعة في هذه المناظر، كما كان يجدها شيئا من طفولة النوع البشري، التي يفسر ماركس على أساسها إعجابنا بالفن القديم!..
أفلسنا نعرف من هذا، أن المسألة ليست مسألة الإعجاب بصورة الطفولة، وإنما هي مسألة الذوق الفني الأصيل العام، الذي يجعل انسان عصر الرق، وإنسان عصر الحرية، يشعران بشعور واحد!!
وفي ختام دراستنا هذه، للنظرية بما هي عامة، ألا نجد من الطبيعي أن يندم أنجلز، المؤسس الثاني للمادية التاريخية، على المبالغة بدور العامل ‌‌الإقتصادي في التاريخ، ويعترف بأنه مع صديقه ماركس، قد اندفعا بروح مذهبية في مفهومهما المادي عن التاريخ، اندفاعا خاطئا؟ فقد كتب أنجلز إلى يوسف بلوغ عام (1890) يقول:
((إن توجيه الكتاب الناشئين، الاهتمام إلى الجانب الاقتصادي، بأكثر مما يستحق، أمر يقع اللوم فيه على عاتقي وعاتق ماركس. لقد كان عليا أن نؤكد هذا المبدأ الرئيسي، لنعارض خصومنا الذين كانوا ينكرونه، ولم يكن لدينا الوقت أو المكان أو الفرصة، لنضع العناصر الأخرى التي تتضمنها العلاقة المتداخلة، في مواضعها الحقيقية)) (1).

(1) التفسير الاشتراكي للتاريخ ص 116.
152

النظرية بتفاصيلها
حين نأخذ تفاصيل النظرية بالدرس والتمحيص، يجب أن نبدأ بالمرحلة الأولى من مراحل التاريخ، في رأي الماركسية، وهي الشيوعية البدائية. فلقد مرت الإنسانية في عقيدة الماركسيين بدور الشيوعية البدائية، في مطلع حياتها الاجتماعية، وكان هذا الدور يحمل في طياته نقيضه، وفقا لقوانين الديالكتيك وبعد صراع طويل، نما النقيض، واشتد، حتى حطم الكيان الشيوعي للمجتمع، وبرز النقيض منتصرا في ثوب جديد، وهو النظام العبودي مجتمع الرق بدلا عن نظام الإشاعة ومجتمع المساواة.
هل وجد المجتمع الشيوعي؟
وقبل أن نستوعب تفاصيل هذه المرحلة، يعترض البحث سؤال أساسي: ما هو الدليل العلمي، على أن البشرية مرت بدور الشيوعية البدائية حقا! بل كيف يمكن الحصول على هذا الدليل العلمي، ما دمنا نتكلم عن الإنسانية قبل عصور التاريخ المأثور! وقد حاولت الماركسية تذليل هذه الصعوبة، وتقديم الدليل العلمي على صحة فهمها لتلك المرحلة المغمورة، من حياة المجتمع البشري. بالاستناد إلى ملاحظة
153

عدة مجتمعات معاصرة، حكمت عليها الماركسية بالبدائية، واعتبرتها مادة عملية للبحث. عما قبل عصر التاريخ، بوصفها ممثلة للطفولة الاجتماعية، ومعبرة عن نفس الحالة البدائية، التي مرت بها المجتمعات البشرية بصورة عامة. ولما كانت معلوما الماركسية عن هذه المجتمعات البدائية المعاصرة، تؤكد أن الشيوعية البدائية هي الحالة السائدة فيها، فيجب إذن أن تكون هي المرحلة الأولى، لكل المجتمعات البدائية في ظلمات التاريخ. وبذلك خيل للماركسية، أنها وضعت يدها الدليل المادي المحسوس.
ولكن يجب أن نعلم - قبل كل شيء - أن الماركسية، لم تتلق معلوماتها عن تلك المجتمعات البدائية المعاصرة، بصورة مباشرة، وإنما حصلت عليها عن طريق الأفراد الذين اتفق لهم الذهاب إلى تلك المجتمعات والتعرف على خصائصها. وليس هذا فقط، بل إنها لم تأخذ بعين الاعتبار، إلا المعلومات التي تتفق مع نظريتها العامة واتهمت كل المعلومات التي تتعارض معها، بالتحريف والتزوير، وبهذا كانت البحوث الماركسية، تتجه إلى انتقاء المعلومات النافعة للنظرية، وتحكيم النظرية نفسها في تقدير قيمة المعلومات والأخبار، التي تقدم عن تلك المجتمعات، بدلا عن تحكيم المعلومات في النظرية، وامتحان النظرية في ضوئها. ونستمع بهذه المناسبة إلى كاتب ماركسي كبير يقول:
((وبالقدر الذي نستطيع أن نتوغل في الماضي، نجد أن الإنسان كان يعيش في مجتمعات. ومما يسهل دراسة المجتمعات البدائية القديمة، انه ما زالت تسود ظروف اجتماعية بدائية، حتى عصرنا هذا، بين كثير من الشعوب، كما هو الحال بالنسبة لبعض السكان الملونين، في أفريقيا وبولونيزيا وماليزيا وأستراليا، وهنود أمريكا قبل اكتشافها، والأسكيمو واللاجون... الخ وأغلب المعلومات الكثيرة التي وصلتنا من هذه المجتمعات البدائية، قدمها رجال البعثات التبشيرية الذين حرفوا الحقائق عن قصد أو غير قصد)) (‍ 1).

(1) القوانين الأساسية للاقتصاد الرأسمالي ص 10.
154

ولنسلم أن المعلومات التي اعتمدت عليها الماركسية، عن تلك المجتمعات المعاصرة، هي وحدها المعلومات الصحيحة فمن حقنا بعد ذلك أن نتساءل عن هذه المجتمعات: هل هي مجتمعات بدائية، يمكن الاعتماد عليها في تصوير البدائية الاجتماعية؟ وبالنسبة إلى هذا السؤال الجديد، لا تملك الماركسية دليلا واحدا على بدائية هذه المجتمعات المعاصرة، بالمعنى العلمي للفظ. بل إن قوانين التطور الحتمي للتاريخ، التي تؤمن بها الماركسية، تقضي بأن تلك المجتمعات قد شملتها عملية التطور الاجتماعي حتما فالماركسية حين تزعم، أن الحالة الحاضرة لتلك المجتمعات، هي حالتها البدائية، تبطل قوانين التطور، وتقرر الجمود عبر آلاف السنين.
كيف نفسر الشيوعية البدائية؟
ولنترك هذا لنرى الماركسية كيف تفسر هذه المرحلة الشيوعية المزعومة، وفقا لقوانين المادية التاريخية؟
إن الماركسية تفسر علاقات الملكية الشيوعية، في المجتمع البدائي للبشرية، بالدرجة البدائية، التي كانت عليها قوى الإنتاج حينئذ، وظروف الإنتاج السائدة. فإن الناس كانوا مضطرين إلى ممارسة الإنتاج، بشكل اجتماعي مشترك، والتكتل في وجه الطبيعة، نظرا إلى ما كان عليه الإنسان من ضعف وقلة حيلة. والاشتراك في الإنتاج، يحتم قيام علاقات الملكية الاشتراكية، ولا يسمح بفكرة الملكية الخاصة. فالملكية إنما كانت اشتراكية لأن الإنتاج اشتراكي. ويقوم التوزيع بين أفراد المجتمع، على أساس المساواة، بسبب من ظروف الإنتاج أيضا لأن المستوى الشديد الانخفاض للقوى المنتجة، فرض تقسم الغذاء الضئيل والسلع البسيطة المنتجة إلى أجزاء متساوية، وكان من المستحيل قيام أي طريقة أخرى للتقسيم، لأن حصول أحد الأفراد على نصيب يزيد على نصيب الآخرين، يعين أن يموت شخص آخر جوعا (1).

(1) راجع تطور الملكية الفردية ص 14.
155

بهذه الطريقة تفسر الماركسية شيوعية المجتمع البدائي، وتشرح أسباب المساواة السائدة فيه، التي تحدث عنها (مورجان) بصدد وصف القبائل البدائية. التي شاهدها تعيش في سهول أمريكا الشمالية، ورآها تقسم لحوم الحيوانات إلى أجزاء متساوية، توزع على أفراد القبيلة كلها.
تقول الماركسية هذا، في نفس الوقت الذي تناقض ذلك، عندما تحدث عن أخلاق المجتمع الشيوعي، وتمجد بفضائله فتنقل عن (جيمس آديررز) الذي درس هنود أمريكا في القرن الماضي: أن تلك الجماعات البدائية، كانت تعتبر عدم تقديم المعونة لمن يحتاجها، جريمة كبرى يحتقر مرتكبها، وتنقل عن الباحث (كاتلين): أن كل فرد في القرية الهندية، رجلا كان أو امرأة أو طفلا، كان له الحق في أن يدخل إلى أي مسكن من المساكن ويأكل إن كان جائعا بل إن أولئك الذين كانوا يعجزون عن العمل، أو يقعد بهم مجرد الكسل عن الصيد، كانوا يستطيعون رغم ذلك أن يدخلوا إلى أي منزل يشاؤون، ويقتسمون الطعام مع من فيه. وبذلك كان الفرد في تلك المجتمعات، يحصل على الطعام، مهما تهرب من التزاماته في إنتاج هذا الطعام، ودون أن يترتب على تهربه إلا إحساسه بفقدان ملحوظ لهيبته (1).
وهذه المعلومات التي تتحفنا بها الماركسية، عن أخلاق المجتمعات الشيوعية البدائية، وتقاليدها المتبعة اجتماعيا، وتوضح أن مستوى القوى المنتجة، لم يكن منخفضا إلى الدرجة، التي تعني أن زيادة نصيب أحد الأفراد من الإنتاج يؤدي إلى موت شخص آخر جوعا. بل كانت توجد وفرة، يحصل على شيء منها الضعيف والعاجز وغيرهما، فلماذا إذن لم كانت المساواة في التوزيع، هي الطريقة الوحيدة الممكنة؟ ‍! وكيف لم يخطر على ذهن أحد فكرة الاستغلال والتلاعب في التوزيع، ما دام في الإنتاج وفرة يمكن استغلاها؟ وإذا كان قوى الإنتاج، تسمح بقيام الاستغلال في تلك المجتمعات فيجب أن نجد سبب عدم ظهوره فيها، مائلا في درجة وعي الإنسان البدائي وفكره العملي. فقد جاءت فكرة الاستغلال عنده كظاهرة

(1) راجع تطور الملكية الفردية ص 18.
156

متأخرة لهذا الوعي والفكر العملي، وكنتيجة لنموه وزيادة الخبرة الإنسانية بالحياة. ‌‌‌
وإذا أمكن للماركسية أن تقول - أو أمكن لنا أن نقول من وجهة نظرنا: أن طريقة المساواة في التوزيع أتت في بادئ الأمر تبعا لقلة الإنتاج، ثم تأصلت وأصبحت عادة. فهل نجد في ذلك تفسيرا معقولا، لموقف المجتمع البدائي من الأفراد الكسالى، الذين يتركون العمل عن قصد واختيار، فيجدون كفايتهم في إنتاج الآخرين، دون أن يتهددهم خطر الجوع، والحرمان؟! فهل الاشتراك الاجتماعي في عمليات الإنتاج يفرض توزيع الإنتاج على غير المشتركين في الإنتاج أيضا!! وإذا كان البدائيون، قد حرصوا أول الأمر على طريقة المساواة، لئلا يموت أحدهم جوعا، فيخسرون بذلك عونا في عمليات الإنتاج الجماعي، فلماذا حرصوا على إعالة الكسالى، الذين لا يخسرون بفقدهم شيئا!!
ما هو نقيض المجتمع الشيوعي؟
إن المجتمع الشيوعي البدائي، منذ ولد كان في رأي الماركسية يخفى في أحشائه تناقضا، أخذ ينمو ويشتد حتى قضي عليه. وليس هذا التناقض طبقيا، لأن المجتمع الشيوعي طبقة واحدة، وليس فيه طبقتان متناقضتان، وإنما هو التناقض: بين العلاقات الشيوعية في الملكية، وقوى الإنتاج حين تأخذ بالنمو، حتى تصبح العلاقات الشيوعية معيقة لها عن نموها، ويكون الإنتاج عندئذ بحاجة إلى علاقات جديدة، يستطيع أن يواصل نموه ضمنها.
أما كيف، ولماذا تصبح العلاقات الشيوعية، معيقة لقوى الإنتاج عن نموها! فهذا ما تشرحه الماركسية قائلة: إن ارتقاء القوى المنتجة، جعل في إمكان الفرد أن ينال من عمله في تربية الماشية والزراعة، من وسائل المعيشة ما يزيد عما يلزمه للمحافظة على حياته وبذلك أصبح الفرد قادرا على الاكتفاء بالعمل في جزء محدود من الوقت لإعاشة نفسه، دون أن يبذل كل طاقاته العلمية. فكان لابد - لكي تجند كل الطاقات العملية لصالح الإنتاج، كما تتطلبه القوى المنتجة في ارتقائها
157

ونموها - أن تخلق قوة اجتماعية جديدة، تضطر المنتجين إلى بذل كل طاقاتهم، وحيث ان العلاقات الشيوعية، لا يوجد فيها هذه القوة، أصبح من الضروري استبدال تلك العلاقات بالنظام العبودي الذي يتيح للأسياد أن
يرغموا العبيد، على العمل المتواصل. وهكذا نشأ النظام العبودي.
وقد بدأ النظام العبودي أول ما بدأ، باستعباد الأسرى، الذين كانت القبيلة تربحهم في غاراتها، وقد اعتادت قبلا أن تقضي عليهم، لأنها لم تكن تجد مصلحة في إبقائهم وإعالتهم. وبعد تطور الإنتاج، أصبح من المصلحة الاقتصادية للقبيلة، استبقاؤهم واسترقاقهم، لأنهم ينتجون أكثر مما يأكلون وهكذا تحول أسرى الحرب إلى عبيد. ونتيجة لإثراء الذين استخدموا العبيد. أخذ هؤلاء الأثرياء، يستعبدون أعضاء قبيلتهم، وانقسم المجتمع إلى سادة وعبيد، واستطاع الإنتاج أن يواصل ارتقاءه، خلال هذا الانقسام وبفضل النظام العبودي الجديد..
ونحن إذا دققنا في هذا، استطعنا أن نتبين من خلال التفسير الماركسي نفسه، أن المسألة هي مسألة الإنسان، قبل أن تكون مسألة وسائل الإنتاج. لأن، نمو القوى المنتجة لم يكن يتطلب إلا مزيدا من العمل البشري، وأما الطابع الاجتماعي للعمل فليس له علاقة بنموها، فكما أن العمل الكثير قرروا جميعا، مضاعفة جهودهم في الإنتاج، وتقسم الإنتاج بعد ذلك بالتساوي، لضمنوا بذلك القوى المنتجة نموها، الذي حققه المجتمع العبودي. بل لنا الإنتاج كيفيا ونوعيا، أكثر مما نما بممارسة العبيد، لأن العبد يعمل بيأس، ولا يحاول أن يفكر أو يكسب خبرة في سبيل تحسين الإنتاج، على العكس من الأحرار، المتضامنين في العمل.
فنمو القوى المنتجة إذن لم يكن يتوقف على الطابع العبودي للعمل، وإنما كان يتوقف على مضاعفة العمل. فلماذا إذن ضاعف الإنسان الاجتماعي العمل، عن طريق تحويل نصف المجتمع إلى عبيد، ولم يحقق ذلك عن طريق الاتفاق الحر - بين الجميع - على مضاعفة العمل! إن الجواب على هذا السؤال لا نجده، إلا في
158

الإنسان نفسه، وفي ميوله الطبيعية. فهو ميال بطبيعته إلى الاقتصاد في العمل، وسلوك أوفر الطرق راحة إلى غايته. فلا يواجه سبيلين أمامه إلى غاية واحدة، إلا اختار أقلهما جهدا. وليس هذا الميل الأصيل نتاجا لوسائل الإنتاج، وإنما هو نتاج تركيبه الخاص. ولذلك ظل هذا الميل بالرغم من تطور الإنتاج خلال آلاف السنين. كما أنه ليس نتاجا للمجتمع، بل إن تكون المجتمع إنما كان بسبب هذا الميل الطبيعي. في الانسان، إذ رأى أن التكتل أقل الأساليب جهدا، لمقاومة الطبيعة واستثمارها.
وهذا الميل الطبيعي، هو الذي أوحى إلى الانسان بفكرة استبعاد الآخرين بصفته أضمن الطرق لراحته، وأقلها تكليفا له.
وعلى هذا فليست قوى الإنتاج، هي التي صنعت للإنسان الاجتماعي، النظام العبودي، أو دفعته في هذا السبيل، وإنما هي التي هيأت له الظروف الملائمة، للسير وفقا لميله الطبيعي. فمثلها في ذلك، نظير من يعطي شخصا سيفا، فينفس هذا الشخص عن حقده، ويقتل به عدوه. فلا يمكننا أن نفسر حادثة القتل هذه، على أساس السيف فحسب، وإنما نفسرها - قبل ذلك - في ضوء المشاعر الخاصة، التي كانت تختلج في نفس القاتل، إذ لم يكن تسليم السيف اليه يدفعه إليه ارتكاب الجريمة، لو لا تلك المشاعر التي ينطوي عليها.
ونلاحظ في هذا المجال، أن الماركسية تلتزم الصمت إزاء سبب آخر، كان من الطبيعي أن يكون له أثره الكبير، في القضاء على الشيوعية، وتطوير المجتمع إلى سادة وعبيد، وهو ما أدت إليه الشيوعية، من ركون الكثرة الكاثرة من أفراد المجتمع، إلى الدعة والكسل والانصراف عن مواصلة الإنتاج وتنميته، حتى كتب (لوسكيل) عن بعض القبائل الهندية يقول:
(إنهم من الكسل بحيث لا يزرعون شيئا بأنفسهم، بل يعتمدون كل الاعتماد على احتمال: أن غيرهم لن يرفض أن يقاسموه في إنتاجه. ولما كان النشيط لا يتمتع من ثمار الأرض بأكثر مما يتمتع الخامل، فإن إنتاجهم يقل عاما بعد عام).
159

فالماركسية لا تشير إلى هذه المضاعفات للشيوعية البدائية، بصفتها عاملا في فشلها واختفائها عن مسرح التاريخ، وقيام الأفراد النشيطين باستعباد الكسالى واستخدامهم في مجالات الإنتاج، بالقوة.
وهذا موقف مفهوم من الماركسية تماما، فإنها لا تعترف بما نجم عن الشيوعية من كسل وخمول شامل، لأن ذلك يضع يدنا على الداء الأصيل في الشيوعية، الذي جد في إطاره منذ فجر الحياة، ويبرهن على أنها لا تصلح للطبيعة الانسانية، ويقدم الدليل على أن ما حصل من مضاعفات مشابهة لذلك، خلال محاولة الثورة الحديثة في روسيا، لتطبيق الشيوعية تطبيقا كاملا لم يكن نتيجة للأفكار الماركسيون، وإنما كانت تعبيرا عن واقع الإنسان ودوافعه ومشاعره الذاتية، التي خلقت معه قبل أن تولد الطبقية، وتناقضاتها وأفكارها.
المجتمع العبودي:
وبتحول المجتمع من الشيوعية البدائية، إلى مجتمع عبودي، تبدأ المرحلة الثانية في المادية التاريخية. وببدئها تولد الطبقية في المجتمع، وينشأ التناقض الطبقي بين طبقة السادة وطبقة العبيد، الأمر الذي قذف المجتمع في أتون الصراع الطبقي لأول مرة في التاريخ، ولم يزل هذا الصراع قائما حتى اليوم بأشكال مختلفة، تبعا لنوعية القوى المنتجة ومتطلباتها.
ومن الضروري ان نثير هنا سؤالا - في وجه الماركسية - عن هذه الانقسامة الفاصلة في حياة البشرية، التي قسمت المجتمع إلى طبقتين: سادة وعبيد: كيف أعطيت فيها السيادة لأولئك، وكتب على هؤلاء الرق والعبودية؟ ولماذا لم يقم السادة بدور العبيد، والعبيد بدور السادة؟
وللماركسية جوابها الجاهز على هذا السؤال، فهي تقول: إن كلا من السادة
160

والعبيد قد مثل الدور المحتوم، الذي يفرضه العامل الاقتصادي ومنطق الإنتاج. لأن الجماعة التي مثلت دور السيادة في المجتمع، كانت على مستوى عال من الثروة نسبيا، وكانت تملك بسبب ذلك القدرة على ربط الآخرين بها، برباط الرق والعبودية. ولكن اللغز يبقى - بالرغم من هذا الجواب - كما هو، لم يتغير، لأننا نعلم أن هذه الثروات الضخمة نسبيا، لم تهبط على الأسياد من السماء. فكيف حصل عليها هؤلاء دون غيرهم، واستطاعوا أن يفرضوا سيادتهم على الآخرين، مع أن الجميع كانوا يعيشون في مجتمع شيوعي واحد؟!
وتجيب الماركسية على هذا السؤال من جديد بأمرين:
أحدهما: ان الأفراد الذين كانوا يزاولون مهام الرؤساء، والقادة الحربيين، ورجال الدين، في المجتمع الشيوعي البدائي، أخذوا يستغلون مركزهم، لكي يحصلوا على الثروة، فامتلكوا جزءا من الملكية الشائعة، وبدأوا ينفصلون شيئا فشيئا تحت تبعيتهم الاقتصادية (1).
والآخر: إن مما ساعد على إيجاد التفاوت والتناقض، في مستويات الإنتاج والثروة بين أفراد المجتمع. ان جماعة حولت أسرى الحرب إلى عبيد، وصارت تربح بسبب ذلك النتاج الفائض عن حاجتهم الضرورية حتى أثرت، واستطاعت نتيجة لثروتها أن تستعبد أعضاء القبيلة، الذين تجردوا من أموالهم وأصبحوا مدينين (2).
وكلا هذين الأمرين لا يتفقان مع وجهة نظر المادية التاريخية، أما الأول: فلأنه يؤدي إلى اعتبار العامل السياسي، عاملا أساسيا، والعامل الاقتصادي عاملا ثانويا منبثقا عنه، لأنه يفترض أن المكانة السياسية، التي كان القواد ورجال الدين والرؤساء يتمتعون بها في المجتمع الشيوعي اللا طبقي، هي التي شقت لهم الطريق إلى الإثراء، وإيجاد ملكيات خاصة، فالظاهرة الطبقية إذن وليدة الكيان السياسي، وليس العكس، كما تقرر المادية التأريخية.

(1) تطور الملكية الفردية، ص 32.
(2) المصدر السابق ص 33.
161

وأما السبب الثاني، الذي فسرت به الماركسية تفاوت الثروات: فهو لا يتقدم في حل المشكلة إلا خطوة واحدة، إذ يعتبر أن استرقاق السادة للعبيد من أبناء القبيلة، قد سبقه تاريخيا استرقاق أولئك السادة لأسرى الحرب، وإثرائهم على حساب هؤلاء الأسرى وأما لماذا هيأت الفرص لأولئك السادة بالذات، دون غيرهم من أعضاء القبيلة، استرقاق الأسرى؟ فهذا ما لا تحاول الماركسية تفسره، لأنها لا تجد تفسيره في القوى المنتجة، وإنما يمكن تفسره تفسيرا انسانيا، على أساس الفوارق والكفاءات المتفاوتة: البدنية والفكرية والعسكرية، التي يولد الناس وهم يختلفون في حظوظهم منها، طبقا لظروفهم وشروطهم النفسية والفسيولوجية والطبيعية...
المجتمع الإقطاعي
ونشا المجتمع الإقطاعي بعد ذلك، نتيجة للتناقضات التي كانت تعمل في المجتمع العبودي، وأساس هذه التناقضات، التناقض بين علاقات النظام العبودي، ونمو القوى المنتجة، إذ أصبحت تلك العلاقات بعد فترة طويلة، من حياة المجتمع العبودي، عائقة عن نمو الإنتاج، وعقبة في سبيله من ناحيتين:
إحداهما: أنها فسحت المجال أمام الأسياد، لاستغلال العبيد - بوصفهم القوة المنتجة - استغلالا وحشيا، فتهاوى آلاف العبيد في ميدان العمل، بسبب ذلك، الأمر الذي كلف الإنتاج نقصا كبيرا في القوة المنتجة، المتمثلة في أولئك العبيد.
والأخرى: أن تلك العلاقات، حولت بالتدريج أكثر الأحرار من الفلاحين والحرفيين، إلى عبيد، ففقد المجتمع - بسبب ذلك - جيشه وجنوده الأحرار، الذين كان المجتمع يحصل عن طريق غزواتهم المتلاحقة، على سيل مستمر من العبيد المنتجين، وهكذا أدى النظام العبودي، إلى التبذير بالقوى المنتجة الداخلية، والعجز عن استيراد قوى منتجة جديدة، إلى التبذير بالقوى المنتجة الداخلية، والعجز عن استيراد قوى منتجة جديدة، عن طريق الغزو والأسر، وقام لأجل هذا التناقض الشديد بينه وبين قوى الإنتاج، فتقوض المجتمع العبودي، وخلفه النظام الإقطاعي...
162

وتغفل الماركسية في هذا العرض عدة نقاط جوهرية في الموضوع.
فأولا: ان تحول المجتمع الروماني مثلا، من النظام العبودي إلى الإقطاع، لم يكن تحولا ثوريا، منبثقا عن صراع الطبقة المحكومة، كما يفرضه المنطق الديالكتيكي للمادية التاريخية.
وثانيا: ان هذا التحول الاجتماعي والاقتصادي، لم يسبقه أي تطور في القوى المنتجة. كما تتطلبه الفرضية الماركسية القائمة على أساس: ان وسائل الإنتاج هي القوة العليا المحركة للتاريخ.
وثالثا: إن الوضع الاقتصادي، الذي هو أساس الأوضاع الاجتماعية في رأي الماركسية، لم يكن في تغيره التاريخي معبرا، عن مرحلة تكاملية من تاريخه، بل مني بنكسة، خلافا لمفاهيم المادية التاريخية، التي تؤكد أن التاريخ يزحف في حركته إلى الأمام دائما، وأن الوضع الاقتصادي هو طليعة هذا الزحف الدائم، ونعالج هذه النقاط الثلاث بتفصيل.
أ - لم يكن التحول ثوريا:
إن تحول المجتمع الروماني مثلا من نظام الرق إلى نظام الإقطاع، لم يكن نتيجة لثورة طبقية، في لحظة فاصلة من لحظات التاريخ، بالرغم من أن الثورة قانون حتمي في المادية التاريخية لكل التحولات الاجتماعية، وفقا
للقانون الديالكتيكي (قانون قفزات التطور) القائل: بأن التغييرات الكمية التدريجية، تتحمل إلى تغير كيفي دفعي، وهكذا عطل هذا القانون الديالكتيكي عن العمل، ولم يؤثر في تحولي المجتمع العبودي إلى إقطاعي، بشكل ثوري آني، وإنما تحول المجتمع - حسب إيضاحات الماركسية نفسها - عن طريق السادة أنفسهم، إذ اخذوا يعتقون كثيرا من عبيدهم، ويقسمون الأملاك الكثيرة إلى أجزاء صغيرة، ويعطونها إليهم، بعد أن أحسوا بأن نظام الرق لا يضمن لهم مصالحهم (1).

(1) راجع تطور الملكية الفردية ص 53.
163

فالطبقة المالكة - إذن - قد حولت المجتمع بالتدريج إلى النظام الإقطاعي، دون حاجة إلى قانون الثورة الطبقية، أو قفزات التطور... وكان غزو الجرمان من الخارج، عاملا آخر في تكوين الإقطاع - حسب اعتراف الماركسية نفسها - وهو بدوره أيضا بعيد عن تلك القوانين.
ومن الطريف، أن الثورات التي كان يجب - وفقا للمادية التاريخية - أن تنفجر في لحظة التحول الفاصلة، نجد أنها قد شبت قبل انهيار المجتمع العبودي بقرون، كحركة الأرقاء في (أسبرطة) قبل الميلاد بأربعة قرون، التي تجمعت فيها الألوف من الأرقاء، قريبا من المدينة، وحاولت اقتحامها، والجأت قادة (أسبرطة) إلى طلب المساعدة العسكرية من جيرانهم، ولم يتمكنوا من صد الأرقاء الثائرين إلا بعد سنين عديدة. وكذلك حركة العبيد في الدولة الرومانية التي تزعمها (سبرتاكوس) قبل الميلاد بسبعين سنة تقريبا، واحتشد فيها عشرات الألوف من العبيد، وكادت أن تقضي على كيان الإمبراطورية. وقد سبقت هذه الثورة نشوء المجتمع الإقطاعي بعدة قرون، ولم تنتظر إلى أن توجد التناقضات وتشتد بين العلاقات وقوى الإنتاج، وإنما كانت تستمد وقودها من وعي متزايد بالاضطهاد، وقدرة تكتلية وعسكرية وقيادية، تفجر ذلك الوعي، بالرغم من وسائل الإنتاج، التي كانت حينئذ على وئام مع النظام العبودي. فمن الخطأ إذن أن نفسر كل ثورة على أساس تطور معين في الإنتاج أو بوصفها تعبيرا اجتماعيا عن حاجة من حاجات القوى المنتجة.
ولنقارن - بعد هذا - بين تلك الثورات الهائلة، التي شنها العبيد على نظام الإنتاج العبودي - قبل أن يتخلى عن الميدان إلى النظام الإقطاعي بقرون عديدة، وبين ما كتبه أنجلز قائلا:
(ما دام أسلوب إنتاجي ما، لا يزال يرسم مدرجا متصاعدا في سلم التطور، فإنه لا يفتأ يقابل بحماس وترحاب، حتى من لدن أولئك الذين ازدادت حالتهم سوءا، جراء أسلوب التوزيع المتماثل وإياه). (1) ‌‌‌

ضد دوهرنگ ج 2 ص 9.
164

فكيف نفسر تلك الثورات من العبيد، التي سبقت تطور العبودية إلى الاقطاع بستة قرون، في إطار هذه النظرية الضيقة إلى الثورات، وإذا كان تبرم المضطهدين ينشأ دائما، كتعبير عن تعثر أسلوب الإنتاج، لا عن حالتهم النفسية والواقعية، فلماذا تبرمت تلك الجماهير من العبيد، وعبر عن تبرمها تعبيرا ثوريا، كاد أن يعصف بالإمبراطورية، قبل أن يتعثر أسلوب الإنتاج، القائم على النظام العبودي، وقبل أن توجد الضرورة التاريخية لتطويره بعدة قرون.
ب - لم يسبق التحول الاجتماعي أي تجدد في قوى الإنتاج:
من الواضح عن الماركسية أنها تؤمن: بأن أشكال العلاقات الاجتماعية تابعة لأشكال الإنتاج. فكل شكل من الإنتاج، يتطلب شكلا خاصا من علاقات الملكية الاجتماعية، ولا تتطور هذه العلاقات إلا تبعا لتغير شكل الإنتاج، وتطور القوى المنتجة.
((إن أي تكوين اجتماعي، لا يموت أبدا، قبل أن تتطور القوى المنتجة، التي تستطيع أن يفسح لها المجال ماركس)) (1).
وبينما تؤكد الماركسية هذا، نجد أن شكل الإنتاج كان واحدا في المجتمع العبودي والإقطاعي معا، ولم تتغير العلاقات العبودية إلى إقطاعية نتيجة لأي تطور أو تجديد في القوى المنتجة السائدة، التي كانت لا تعدو مجالات الزراعة والخدمة اليدوية. ومعنى ذلك أن التكوين الاجتماعي والعبودي، قد مات قبل أن تتطور القوى المنتجة، خلافا لتأكيد ماركس الآنف الذكر.
وفي مقابل ذلك نجد: أن أشكالا متعددة من الإنتاج ودرجات مختلفة، تخطتها القوى المنتجة خلال آلاف السنين، دون أن يحصل أي تحول في الكيان الاجتماعي باعتراف الماركسية نفسها. فالانسان البدائي كان يستعين في إنتاجه بالأحجار الطبيعية، ثم استعان بأدوات حجرية، وبعد ذلك استطاع أن يكتشف النار، وأن يصنع الفؤوس والحراب، ثم تطورت قوى الإنتاج، فظهرت الأدوات المعدنية والسهام

(1) فلسفة التأريخ ص 47.
165

والأقواس، ثم ظهر الإنتاج الزراعي في حياة الإنسان وبعده الإنتاج الحيواني. وقد تمت هذه التحولات الكبرى في أشكال الإنتاج، وتتابعت تطوراته في المجتمع البدائي، بالتسلسل الذي ذكرناه أو بتسلسل آخر دون أن تواكبها تحولات اجتماعية وتطورات في العلاقات العامة، باعتراف الماركسية نفسها، إذ أنها تؤمن بأن النظام السائد في المجتمع البدائي، الذي حدثت خلاله كل تلك التطورات، كان هو الشيوعية البدائية.
فإذا كان من الممكن أن تتطور أشكال الإنتاج، والشكل الاجتماعي ثابت كما في المجتمع البدائي مثلا، وكان من الممكن أن تتطور الأشكال الاجتماعية، وشكل الإنتاج ثابت، كما رأينا في المجتمع العبودي والإقطاعي. فما هي الضرورة التي تدعو إلى التأكيد على: أن كل تكوين اجتماعي يرتبط بشكل معين ودرجة خاصة من الإنتاج؟! ولماذا لا تقول الماركسية: إن النظام الاجتماعي إنما هو حصيلة الأفكار العملية، التي يحصل عليها الإنسان
خلال تجربته الاجتماعية، للعلاقات التي يشترك فيها مع الآخرين، كما أن أشكال الإنتاج حصيلة الأفكار التأملية والعلمية، التي يحصل عليها الإنسان خلال تجربته الطبيعية، لقوى الإنتاج وسائر قوى الكون. وحيث ان التجارب الطبيعة قصيرة الأمد، فمن الممكن أن تتوفر وتتجمع بسرعة نسبيا، فتتطور أشكال الإنتاج بصورة سريعة، على العكس من التجربة الاجتماعية، فإنها تعني تاريخ مجتمع برمته، فلا تنمو الأفكار العلمية خلال هذه التجربة البطيئة، بنفس السرعة التي تنمو بها الأفكار التأملية والعملية خلال التجربة الطبيعية، ومن الطبيعي عندئذ أن لا تتطور في البدء أشكال النظام، بنفس السرعة التي تتطور بها أشكال الإنتاج.
ج - - الوضع الاقتصادي لم يتكامل:
سبق أن مر بنا: أن الماركسية تفسر زوال النظام العبودي، بأنه أصبح معيقا للإنتاج عن النمو ومناقضا له، فكان من الضروري أن تزيحه القوى المنتجة عن طريقها،
166

وتصنع وضعا اقتصاديا يواكبها في نموها ولا يناقضها. فهل ينطبق هذا على الواقع التاريخي حقا؟.
هل إن ظروف المجتمع وشروطه الاقطاعية، كانت أكثر مواكبة لنمو الإنتاج من شروطه وظروفه قبل ذلك؟. وهل سار الوضع الاقتصادي - ومن خلفه القافلة البشرية كلها - في خط صاعد، كما تتطلبه طبيعة الحركة التاريخية عند الماركسيين، الذين يفهمونها على أنها عملية تكامل مستمر للمحتوى التاريخي كله، تبعا لتكامل الوضع الاقتصادي ونموه؟.
إن شيئا من ذلك لم يحدث، على الوجه الماركسي المفروض. ويكفي لمعرفة ذلك أن نلقي نظرة على الحياة الاقتصادية، التي كانت الإمبراطورية الرومانية تعيشها. فلقد بلغت - وعلى الأخص في اجزاء معينة منها - مستوى اقتصاديا رفيعا، ونمت فيها الرأسمالية التجارية نموا كبيرا. ومن الواضح أن الرأسمالية التجارية من الأشكال الاقتصادية الراقية، وإذا كانت الإمبراطورية الرومانية قد جربت هذا الشكل - كما يدل عليه تاريخها - فقد وصلت إذن إلى درجة عالية نسبيا في تركيبها الاقتصادي، وابتعدت شوطا كبيرا عن ألوان الاقتصاد البدائي المغلق (اقتصاديات البيت)، وكان من أثر ذلك أن التجارة راجت في مختلف الدول التي عاصرتها الإمبراطورية الرومانية، بفضل تعبيد الطرق وتأمينها وحماية الملاحة، فضلا عن التجارة الداخلية التي ازدهرت داخل أرجاء الإمبراطورية، بين إيطاليا والولايات وبين الولايات بعضها مع بعض حتى أن الأواني الفخارية لإيطاليا، كانت تكتسح السوق العالمية، من بريطانيا شمالا إلى شواطئ البحر الأسود شرقا. ودبابيس الأمن التي تميزت بها (أوكيسا) انتشرت عن طريق التجارة في جميع الولايات، ووصلت إلى شواطئ البحر الأسود. والمصابيح التي كانت المصانع الإيطالية تنتجها بكميات هائلة، عثر عليها في كل جزء من أجزاء الإمبراطورية.
والسؤال الذي يواجهنا على ضوء هذه الحقائق هو: لماذا لم تواصل الأوضاع الاقتصادية والرأسمالية التجارية نموها وتكاملها، ما دامت الحركة التكاملية
167

قانونا حتميا للأوضاع الاقتصادية والإنتاجية!! ولماذا لم تتطور الرأسمالية التجارية إلى رأسمالية صناعية، كما حدث في منتصف القرن الثامن عشر، ما دامت رؤوس الأموال الكبيرة متوفرة عند التجار، وجماهير الأحرار التي كانت تزداد بؤسا وحاجة، حاضرة لتلبية طلبات الرأسمالية الصناعية، والاستجابة لمتطلباتها!! إن هذا يعني أن الشروط المادية للشكل الاجتماعي الأغلى كانت موجودة، فلو كانت الشروط المادية كافية وحدها لتطوير الواقع الاجتماعي، وكانت قوى الإنتاج في تطورها تخلق دائما الأوضاع، التي تنطلق في ضمنها وتنمو.. لوجب أن تنمو الرأسمالية في التاريخ القديم، وأن تستجيب لمتطلبات الإنتاج، ولكان من المنطقي أن تظهر الرأسمالية الصناعية، ونتائجها التي تمخضت عنها، في نهاية عهد الاقطاع، كتقسيم العمل الذي أدى إلى ظهور الآلات في الحياة الصناعية.
ولا يبرهن الواقع التاريخي على عدم ظهورها، وعلى عدم مواصلة الرأسمالية لنموها فحسب، بل هو يكشف بوضوح أن قيام النظام الإقطاعي قضى على الرأسمالية التجارية، وخنقها في مهدها نهائيا، إذ جعل لكل إقطاعية حدودها الخاصة، اقتصادها المغلق القائم على أساس اكتفائها بحاصلاتها الزراعية ومنتوجاتها البسيطة، فكان من الطبيعي أن يتلاشى النشاط التجاري، وتزول الرأسمالية التجارية، ويعد المجتمع إلى اقتصاد شبه بدائي من اقتصاديات البيت.
فهل كان هذا الوضع الاقتصادي، الذي مني به المجتمع الروماني بعد دخول الجرمان إليه، تعبيرا عن نمو تاريخي، ومواكبة لمتطلبات الإنتاج، أو كان نكسة خارجة على قوانين المادية التاريخية، وعقبة في سبيل النمو المادي وازدهار الحياة الاقتصادية؟؟!
وأخيرا وجد المجتمع الرأسمالي
وأخيرا بدأ النظام الإقطاعي يحتضر، بعد أن أصبح مشكلة تاريخية وعقبة في وجه الإنتاج، تتطلب حلا حاسما. وكانت الشروط التاريخية قد خلقت هذا الحل
168

مائلا في الرأسمالية، التي برزت على المسرح الاجتماعي لتواجه النظام الإقطاعي، بوصفها النقيض التاريخي له الذي نما في ظله، حتى إذا اكتمل نموه قضى عليه وكسب المعركة... وهكذا يصف لنا ماركس نشوء
المجتمع الرأسمالي بقوله:
((لقد خرج النظام الاقتصادي الرأسمالي، من أحشاء النظام الإقطاعي، وانحلال أحدهما أدى إلى انبثاق العناصر التكوينية للثاني)) (1).
ومنذ يبدأ ماركس بتحليل الرأسمالية تاريخيا، يعلق أهمية كبيرة من تحليل ما يطلق عليه اسم: التراكم الأولي لرأس المال. وهذه النقطة هي بحق أول النقاط الجوهرية، التي تعتبر ضرورية لتحليل الوجود التاريخي للرأسمالية. فإذا كانت قد وجدت طبقة جديدة في المجتمع، على أنقاض الاقطاع المتداعي، تملك رؤوس أموال، وتتمكن في سبيل تنميتها من استثمار جهود الاجراء. فلابد من أن نفترض مسبقا عوامل ومؤثرات خاصة، أدت إلى تراكم مالي كبير، في ثروات طبقة معينة، وتجمع قوى عمالية ضخمة أتاح لتلك الطبقة، تحويل ثرواتها إلى رؤوس أموال، وتحويل تلك القوى العمالية إلى أجراء، يمارسون عمليات الإنتاج الرأسمالي بأجرة. فما هي تلك العوامل والمؤثرات التي أتاحت هذا الظرف السعيد لتلك الطبقة؟ وبالأحرى ما هو سر التراكم الرأسمالي الأول، الذي قامت على أساسه الطبقة الرأسمالية، تقابلها من الناحية الأخرى طبقة الأجراء؟
وحين حاول ماركس تحليل هذه النقطة، بدأ أولا باستعراض وجهة النظر التقليدية للاقتصاد السياسي القائلة: أن السبب الذي مكن لطبقة معينة من المجتمع دون غيرها، أن تحصل على الشروط الاقتصادية للإنتاج الرأسمالي، والثروات اللازمة لذلك، هو ما تمتاز به تلك الطبقة من ذكاء واقتصاد وحسن تدبير، جعلها توفر شيئا من دخلها بالتدريج وتدخره، حتى استطاعت أن تحصل على رأس مال.
وقد عرض ماركس لهذه النظرية الكلاسيكية، بطريقته المألوفة في عرض الأفكار المناهضة له، بسخرية لاذعة، واستخفاف بالغ، وانتهى من سخريته إلى أن الادخار

(1) رأس المال ج 3، ق 2، ص 1053.
169

لا يكفي وحده تعليلا لوجود الطبقة الرأسمالية، وإنما يجب لكي نصل إلى سر التراكم الرأسمالي الأول، الذي قامت على أساسه الطبقة الجديدة أن نفحص مضمون النظام الرأسمالي نفسه، ونفتش في أعماقه عن ذلك السر المعقد.
ويستعين ماركس هنا بموهبته الفذة في التعبير، وسيطرته على التصرف بالألفاظ كيف شاء، للتدليل على وجهة نظره فيقرر: أن النظام الرأسمالي يبرز لنا علاقة من نوع خاص، بين الرأسمالي الذي يملك وسائل الإنتاج، وبين الأجير الذي يتخلى بحكم تلك العلاقة عن كل حق من حقوق الملكية، على منتوجه، لا لشيء إلا لأنه لا يملك سوى طاقة عملية محدودة، بينما يملك الرأسمالي جميع الشروط الخارجية اللازمة: المادة والأدوات ونفقات المعيشة - لتجسيد تلك الطاقة. فموقف الأجير في النظام الرأسمالي، إنما هو نتيجة لفقده وسائل الإنتاج التي يتمتع بها الرأسمالي، وانفصاله عنها، ومعنى هذا: أن أساس العلاقة الرأسمالية يقوم، على الانفصال الجذري بين وسائل الإنتاج والأجير، وبالرغم من أنه هو المنتج الذي يباشر تلك الوسائل، فهذا الانفصال هو الشرط الضروري تاريخيا لتكون العلاقات الرأسمالية. فلكي يولد النظام الرأسمالي، يجب إذن أن يكون قد جرى بالفعل انتزاع وسائل الإنتاج من المنتجين، دون أخذ ولا رد، أولئك المنتجين الذين كانوا يستخدمونها لتحقيق عملهم الخاص، ويجب أن تصبح هذه الوسائل المنتجة محصورة في أيدي التجاريين الرأسماليين. فالحركة التاريخية التي تحقق الانفصال بين المنتج ووسائل الإنتاج، وتحصر هذه الوسائل في أدي التجاريين، هي إذن مفتاح السر للتراكم الرأسمالي الأول. وقد تمت هذه الحركة التاريخية بأساليب: من الاستعباد، والاغتصاب المسلح، والنهب، وألوان العنق، دون أن يساهم في إنجازها التدبير والاقتصاد، والكياسة، والذكاء، كما تتخيل مراجع الاقتصاد السياسي التقليدي (1).
ومن حقنا أن نتساءل: هل نجح ماركس في تفسيره هذا للتراكم الأولي، الذي كان أساسا للنظام الرأسمالي؟ وقبل أن نجيب على هذا السؤال، يجب أن نعرف أن

(1) راجع رأس المال ج 3، ق 3، ص 1055.
170

ماركس، حين قدم هذا التفسير، لم يكن يهدف من وراءه إلى إدانة الرأسمالية أخلاقيا، بصفتها قائمة على أساس النهب والاغتصاب، وإن بدا في بعض الأحايين وكأنه يحاول شيئا من ذلك... لأن ماركس يعتبر الرأسمالية - في ظرف تكونها - حركة زحف إلى الأمام، ساعدت على السير بالإنسان في المنحنى التاريخي، نحو المرحلة العليا لحركة التطور البشري. فهي تتفق في ذلك الظرف - من وجهة رأيه - مع القيم الخلقية، إذ ليست القيم الخلقية عنده إلا وليدة الظروف الاقتصادية، التي تتطلبها وسائل الإنتاج، فإذا كانت القوى المنتجة تتطلب قيام النظام الرأسمالي، فمن الطبيعي أن تتكيف القيم الخلقية في تلك المرحلة التاريخية طبقا لمتطلباتها (1).
فليس من هدف ماركس إذن - ولا من حقه أن يستهدف على أساس مفاهيمه الخاصة - الحكم على الرأسمالية، من وجهة نظر أخلاقية، وإنما يهدف في دراسته للرأسمالية إلى تطبق المادية التاريخية على مجرى التطور التاريخي، وتحليل الأحداث وفقا لها. فما هو نصيبه من التوفيق في هذه الناحية؟
يمكننا قبل كل شيء أن نلاحظ بهذا الصدد، ما أصابه ماركس من التوفيق وما أتقنه بذكاء وبراعة من التصرف البارع بالألفاظ. ذلك أنه لاحظ لدى تحليل النظام الرأسمالي، أن هذا النظام يتضمن في أعماقه علاقة معينة، بين رأسمالي يملك وسائل الإنتاج وأجير لا يملك شيئا منها، وهو لذلك يتنازل عن منتوجه إلى الرأسمالي، أن
هذا النظام الرأسمالي يتوقف على عدم وجود القوى المنتجة عند الفئات العاملة القادرة على ممارسة الإنتاج، وانحصارها لدى التجاريين، لتضطر تلك الفئات إلى العمل لأجرة عند هؤلاء. وهذه الحقيقة تعتبر واضحة دون مراء، غير أن ماركس كان بحاجة إلى لعبة لفظية ليصل عن طريق هذه الحقيقة إلى ما يعنيه، ولذلك غير من تعبيره، وانتقل من قوله ذاك إلى التأكيد على: أن سر التراكم الأول

(1) قال أنجلز: ((فإذا كان ماركس يقوم بابراز الجوانب السيئة من الإنتاج الرأسمالي، فهو يثبت بوضوح مماثل أن هذا الشكل الاجتماعي كان ضرورة، لكي ترفع بالتدريج المجتمع القوى الإنتاجية، إلى مستوى يستطيع فيه جميع أعضاء المجتمع أن ينمو بالتساوي قيمهم الإنسانية. رأس المال ملاحق ص 1168)).
171

يمكن في فصال وسائل الإنتاج عن المنتجين، وتجريدهم منها بالقوة، واختصاص التجاريين بها. وهكذا بدأ هذا المفكر الكبير، وكأنه لم يدرك الفرق المعنوي بين المقدمات التي ساقها، والنتيجة التي انتهى إلى التأكيد عليها. فإن تلك المقدمات التي ساقها، والنتيجة التي انتهى إلى التأكيد عليها. فإن تلك المقدمات كانت تعني: أن عدم وجود الوسائل المنتجة عند جماعات من القادرين على العمل، ووجودها عند التجاريين، هو الشرط الأساسي لوجود الرأسمالية، وهذا يختلف عن النتيجة التي انتهى إليها أخيرا، والتي فسرت عدم وجود الوسائل لدى الأجراء: بتجريدهم منها وانتزاعها منهم بالقوة. فهذا التجريد والتنازع إذن إضافة جديدة تماما لا تتضمنها المقدمات التحليلية التي ساقها، ولا يمكن أن يستنتج منطقيا من تحليل جوهر النظام الرأسمالي، والعلاقات المحددة فيه بين المالك والأجير.
وقد تقول الماركسية تعليقا على ما قلناه: صحيح إن النظام الرأسمالي إنما يتوقف فقط على عدم وجود الوسائل المنتجة عند العمال، وتوفرها عند التجاريين. ولكن كيف نفسر ذلك؟ ولماذا لم توجد الوسائل المنتجة عند العمال ووجدت عند التجاريين، لو لم تقم حركة تجريد العمال من وسائلهم المنتجة، واغتصابها لحساب التجاريين؟!
وردنا على هذا القول يتلخص في وجوه:
فأولا: إن هذا الوصف لا ينطبق على المجتمعات، التي قامت فيها الرأسمالية على أكتاف الطبقة الاقطاعية، كما اتفق في ألمانيا مثلا، إذ قام عدد كبير من الإقطاعيين بتشييد المصانع ومباشرة إدارتها، وتمويلها بما كانوا يحصلون عليه من ريع إقطاعي. فليس من الضروري أن يحدث التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية، على إثر حركة اغتصاب جديد، ما دام يمكن للاقطاعيين أنفسهم أن يباشروا الإنتاج الرأسمالي، على أساس ما يملكون من ثروات إقطاعية، تم لهم استملاكها في مطلع التاريخ الإقطاعي.
وكما لا ينطبق الوصف الماركسي على الرأسمالية الصناعية، التي نشأت على أكتاف الطبقة الاقطاعية، كذلك لا ينطبق على الرأسمالية الصناعية، التي تكونت
172

من الأرباح التجارية، كما وقع في الجمهوريات التجارية الإيطالية (كالبندقية) و (جنوا) و (فلورنسة) وغيرها. فإن طبقة من التجاريين وجدت في هذه المدن قبل أن يخلق اجزاء الصناعة، أي قبل أن يوجد النظام الرأسمالي بمعناه الصناعي، الذي يفتش ماركس عن جذوره فكان الصناع يعملون لحسابهم الخاص، وكان أولئك التجار يشترون منهم منتوجاتهم للاتجار بها، فيجنون الأرباح الطائلة عن طريق التجارة مع الشرق، التي ازدهرت في أعقاب الحروب الصليبية. وازداد مركزهم التجاري نجاحا بتمكنهم من احتكار التجارة مع الشرق، عن طريق التفاهم مع سلاطين المماليك، أصحاب السيادة على مصر والشام، فتضاعفت أرباحهم، واستطاعوا عن هذا الطريق أن يتخلصوا من سلطة الاقطاع، وبالتالي أن يشيدوا المصانع الكبيرة التي اكتسحت - بالمنافسة - الصناعات اليدوية الصغيرة. فقام على هذا الأساس الإنتاج الرأسمالي، أو الرأسمالية الصناعية.
وثانيا: أن وجهة النظر الماركسية لا تكفي لحل المشكلة، لأنها لا تزيد على القول: بأن الحركة التاريخية التي جردت العمال المنتجين من وسائلهم، وحصرتها في أيدي التجاريين، هي التي خلقت التراكم الرأسمالي الأول، ولكنها لا تفسر لنا: كيف أن فئة معينة استطاعت أن تكتسب سلطة الإخضاع والعنف، وتجرد المنتجين من وسائل إنتاجهم بالقوة؟
وثالثا: هب أن سلطة الإخضاع والعنف هذه ليست بحاجة إلى تفسير، ولكنها لا تصلح أداة ماركسية لتفسير التراكم الرأسمالي الأول، وبالتالي للنظام الرأسمالي كله، لأنها ليست تفسيرا اقتصاديا، فهي لا تنسجم مع جوهر المادية التاريخية، أن يعلل التراكم الرأسمالي الأول، ووجود الطبقة الرأسمالية تاريخيا، بسلطة الاغتصاب والإخضاع، وهي علة ليست اقتصادية بطبيعتها؟! والحقيقة ان ماركس بهذا التحليل يهدم منطقه التاريخي بنفسه، ويعترف ضمنا بأن التكوين الطبقي لا يقوم على أساس اقتصادي بحت.
173

وقد كان جديرا به - وفقا لأسس المادية التاريخية - أن يأخذ بوجهة النظر التقليدية، في تفسير ظهور الطبقة الرأسمالية، تلك النظرة التي سخر منها بالرغم من أنها تقدم تفسيرا أقرب إلى الطبيعة الاقتصادية من التفسير الماركسي.
وأخيرا: فإن كل ما يعرضه لنا ماركس بعد ذلك في فصول كتابه، من شواهد تاريخية على حركة الاغتصاب والتجريد التي فسر فيها التراكم الأول، قد استخرجها من تاريخ انكلترا فحسب، وهي تعرض الاغتصابات التي قام بها الإقطاعيون في انكلترا. إذ جردوا الفلاحين من أراضيهم وحولوها إلى مراع، وألقوا بأولئك المطرودين في أسواق البورجوازية الفتية. فهي عمليات تجريد الفلاح من أرضه لحساب الإقطاعي، وليست حركة تجريد للصانع من وسائل الإنتاج لحساب التجاريين.
وقبل ان نتجاوز عن هذه النقطة، نود أن نلقي نظرة عابرة على عشرات الصفحات التي ملأها ماركس من كتاب رأس المال، بوصف تلك العمليات العنيفة، التي جرد فيها الإقطاعيون الفلاحين، أراضيهم، ومهدوا بذلك لقيام النظام الرأسمالي.
إن ماركس في وصفه المثري، يقتصر على الأحداث التي وقعت في انكلترا خاصة، ويوضح لدى استعراضه لتلك الأحداث: ان السبب الحقيقي الذي دعا الإقطاعيين إلى استعمال ألوان العنف، في طرد الفلاحين من أراضيهم، هو أنهم أرادوا تحويل مزارعهم إلى مراع للحيوانات، فلم يعد لهم حاجة بهذا الجيش الكبير من الفلاحين. ولكن لماذا وجد - هكذا وفجأة - هذا الاتجاه العام، إلى تحويل المزارع إلى مراع؟. إن ماركس يجيب على ذلك قائلا:
((إن الذي فسح المجال بصورة خاصة في إنجلترا لأعمال العنف، هذا هو ازدهار مصانع الصوف في (الفلاندر)، وما نتج عنه من ارتفاع أسعار الصوف)) (1).
ولهذا الجواب مغزاه التاريخي الخاص، وإن لم يعره ماركس اهتماما، لأنه يقرر

(1) رأس المال ج 3، ق 2، ص 1059.
174

أن ازدهار الإنتاج الصناعي في المدن (الفلمنكية) الصناعية، وفي الجزء الجنوبي من بلجيكا خاصة (الفلاندرز)، ورواج التجارة الرأسمالية بالصوف وسائر المنتجات على وجه العموم، وظهور أسواق كبيرة لتلك البضائع التجارية، هو الذي دعا الإقطاعيين الإنجليز إلى الاستفادة من هذه الفرصة، وتحويل مزارعهم إلى مراع، ليتمكنوا من تصدير الصوف إلى المدن الصناعية، واحتلال السوق التجارية للصوف، باعتبار ما يتمتع به الصوف الإنجليزي من ميزات جعلته أساسيا في نسج الأقمشة الصوفية الرفيعة (1).
وواضح من سياق هذه الأحداث وتتابعها، أن السبب الذي اعتبره ماركس الدعامة التاريخية لتكون المجتمع الرأسمالي في إنجلترا (طرد الفلاحين).. لم ينبع من النظام الإقطاعي نفسه. كما يفرضه المنطق الجدلي للمادي التاريخية فليس النظام الإقطاعي هو الذي ولد التناقض الذي قضى عليه، ولا العلاقات الاقطاعية هي التي أوجدت ذلك السبب الذي عني به ماركس، وإنما وجد بسبب ازدهار مصانع الصوف من الخارج، ورواج التجارة الرأسمالية بالأصواف. فالرأسمالية التجارية هي التي دفعت الإقطاعيين إلى الالقاء بجماهير الفلاحين في أسواق المدينة، لا العلاقات الاقطاعية... وهكذا نرى - حتى في الصورة التي قدمها لنا ماركس بالذات - ان النقيض للعلاقات الاجتماعية، قد تكونت أسبابه وشروطه، خارج حدود تلك العلاقات، ولم تنبع من نفس تلك العلاقات، التي لم تكن لتحقق تلك الشروط، لو عزلت من العوامل والمؤثرات الخارجية.
اعتراف ماركس:
وقد أدرك ماركس بعد ذلك أن عمليات اغتصاب الطبقة الإقطاعية، لا يمكن أن يفسر على أساسها التراكم الأولي لرأس المال الصناعي، وإنما تفسر تلك العمليات فقط: كيف وجد السوق الرأسمالي، العمال القادرين على العمل بأجرة،

(1) التأريخ الإنجليزي ص 56.
175

في أشخاص أولئك الفلاحين الذي لفظهم الريف، فنزحوا إلى المدينة؟. ولهذا حاول أن يعالج المشكلة من جديد، في الفصل الحادي والثلاثين من رأس المال. فلم يكتف في تفسير التراكم بظروف الرأسمالية أو التجارية أو الربوية، التي أدت إلى تجمع ثروات ضخمة لدى التجار والربويين، لأنه لا يزال مصرا على أساس التراكم هو اغتصاب وسائل الإنتاج، والشروط المادية من المنتجين ولأجل هذا اتجه في تفسير التراكم الرأسمالي إلى القول:
((أن اكتشاف مناطق الذهب والفضة في أميركة، وتحويل سكان البلاد الأصليين إلى حياة الرق، ودفنهم في المناجم أو إبادتهم وبدايات الفتح والنهب لجزر الهند الشرقية، وتحويل إفريقيا إلى نوع من الجحور التجارية لاصطياد الزنوج، هذه هي الطرائق ((الغزلية البريئة)) للتراكم الأولي، التي تبشر بالعهد الرأسمالي بعامل القوة، ومرة أخرى نجد ماركس يفسر ظهور المجتمع الرأسمالي بعامل القوة، بالغزو والنهب والاستعمار، بالرغم من أنها عناصر ليست ماركسية بطبيعتها، لأنها لا تعبر عن قيم اقتصادية، وإنما تعبر عن القوة السياسية والعسكرية.
ومن الطريف أن تناقض الماركسية في هذه النقطة، تبعا لما يتفتق ذهنها عنه من أسلوب للتخلص من المأزق فنجد رجل الماركسية الأول بعد أن اضطر إلى تفسير نشوء الكيان الرأسمالي في المجتمع بعامل القوة يقول:
((فالقوة هي المولد لكل مجتمع قديم آخذ في العمل، إن القوة هي عامل اقتصادي)) (2).
وهو يريد بهذا التمديد في مفاهيم الأوضاع والتوسع فيها، إعطاء العامل الاقتصادي مدلولا لا يضيق عن استيعاب كل العوامل، التي يضطر إلى الاستناد إليها في تحليله.

(1) رأس المال: ص 1116.
(2) رأس المال، ق 2 ج 3 ص 1119.
176

ونقرأ للماركسية من ناحية أخرى، نصا آخر عن عامل القوة، على النقيض من ذلك في كتب أنجلز علمها الفكري الثاني. فقد كتب يقول عن التطورات الرأسمالية:
((يمكن تفسير هذه العملية بأجمعها، بعوامل اقتصادية بحتة، وما من حاجة قط في هذا التفسير إلى اللصوصية (القوة) (التدخل) الحكومي أو السياسي بأي نوع كان. لا يبرهن تعبير: (الملكية المؤسسة على القوة) في هذا الصدد كذلك، إلا على أنه عبارة يجترها مغرور، ليغطي على حرمانه من فهم مجرى الأمور الواقعي))
(1).
ونحن حين نقرأ لماركس وصفه التحليل المثير، لظروف الرأسمالية الإنجليزية وواقعها التاريخي، لا نجد أي مبرر لرفضه أو الاعتراض عليه، لأننا لا نفكر بطبيعة الحال في الدفاع عن التاريخ الأسود الذي سجلته أوروبا، في مطلع نهضتها المادية الطاغية، التي نشأت الرأسمالية في ظلالها. ولكن الأمر يختلف حين نأخذ تحليله للرأسمالية ونشوئها، بوصفه معبرا عن الضرورة التاريخية التي لا يمكن علميا للإنتاج الرأسمالي في الصناعة. أن يشيد صرحه بدونها، فماركس حين ينطلق من الواقع الرأسمالي الذي عاشته انكلترا مثلا، له كل الحق في أن يفسر ثروتها الرأسمالية المتنامية، في فجر تاريخها الحديث، بالنشاطات الاستعمارية المسعورة، التي ارتكبت فيها ألوان الجرائم في مختلف بقاع الأرض، وبعمليات تجريد الصناعة من وسائل إنتاجهم بالقوة.. غير أن هذا لا يبرهن علميا على أن الرأسمالية يمكن أن توجد دون تلك النشاطات والعمليات، وأنها تحمل في أعماقها الضرورية التاريخية لهذه النشاطات، الأمر الذي يعني أن انكلترا كان من الضروري أن تشهد تلك النشاطات والعمليات في مطلع الرأسمالية، ولو كانت تعيش في اطار فكر آخر، بل إن التاريخ يبرهن على عكس ذلك. فقد قام الإنتاج الرأسمالي في (فلاندرز) وإيطاليا في القرن الثالث عشر، ونشأت فيها مؤسسات رأسمالية، ينتج فيها آلاف من الاجراء سلعا

(1) ضد دو هرنك، ج 2 ص 32.
177

تغزو الأسواق العالمية، لحساب الملاك الرأسماليين، ولم تظهر خلال ذلك الأعراض التي ظهرت في انكلترا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، التي درسها ماركس في تحليله التاريخي للرأسمالية.
ولنأخذ مثلا آخر: الإنتاج الرأسمالي في اليابان، التي بدأت في القرن التاسع عشر تتحول من الأوضاع الاقطاعية إلى الرأسمالية الصناعية. ونختار هذا المثال بالذات، لأن ماركس أشار في كلامه إشارة عابرة إلى:
(ان اليابان بتنظيمها الإقطاعي البحت للملكية العقارية وللزراعة الصغيرة فيها، تقم لنا من وجهات عديدة، صورة أكثر أمانة عن العصور الوسطى الأوربية، من تلك التي تقدمها كتب التاريخ عندنا، المشبعة بأفكار بورجوازية مستبقة) (1).
فلنفحص هذه الصورة الأمينة للإقطاع: كيف تحولت إلى الرأسمالية الصناعية؟، وهل يتفق تحولها مع مفاهيم المادية التاريخية وتفاسير ماركس لنشوء الرأسمالية الصناعية؟.
إن اليابان كانت غارقة في العلاقات الاقطاعية، حين استيقظت مذعورة على أجراس الخطر التي كانت تنذر اليابان بخطر خارجي محقق، وذلك سنة 1853 لما اقتحم الأسطول الأمريكي خليج (أوراجا)، وبدأ يفاوض الحاكم العسكري الذي كان يتولى السلطة بدلا عن الإمبراطور حول عقد معاهدات، فقد بدا لليابان بوضوح أنها بداية غزو اقتصادي يجر إلى دمار البلاد وإستعمارها، وآمن المفكرون فيها أن السبيل الوحيد لإنقاذ اليابان هو تصنيعها، وجعلها تسير في طريق الإنتاج الرأسمالي الذي سارت فيه أوروبا من قبلها، واستطاعوا أن يستخدموا سادة الاقطاع أنفسهم في تحقيق هذه الفكرة، فقام الإقطاعيون بإقصاء الحاكم العسكري عن السلطة وإعادتها إلى الإمبراطور سنة 1868، وجندت السلطة الإمبراطورية كل إمكاناتها لإيجاد ثورة صناعية في البلاد، ترتفع بها إلى مصاف الدول

(1) رأس المال، ق 2 ج 3 ص 1058.
178

الرأسمالية الكبرى، وبذلك الطبقة الأستقراطية من رجال الاقطاع خدماتها إلى بلاد صناعية، ونمت بسرعة خلال ذلك طبقة من التجار والصناع، الذين كانوا يوضعون سابقا في أسفل درجات السلم الاجتماعي، فأخذوا يستخدمون - في هدوء - ما أتيح لهم من مال وقوة نفوذ، في تحطيم النظام الإقطاعي تحطيما سلميا. حتى نزل أشراف الاقطاع سنة 1871 عن امتيازاتهم القديمة. وعوضتهم الحكومة عن أراضيهم بسندات أصدرتها لذلك وتم كل شيء بسلام، ووجدت اليابان الصناعية وأخذت مركزها في التاريخ.
فهل ينطبق هذا الوصف على مفاهيم المادية التاريخية، وتفاسير ماركس؟ إن الماركسية تؤكد أن الانقلاب من مرحلة تاريخية إلى أخرى، لا يتم إلا بشكل ثوري، لأن التغيرات الكمية التدريجية تؤدي إلى تحول دفعي آني. مع أن تحول اليابان من الاقطاع إلى الرأسمالية تم بشكل سلمي، وتنازل سادة الاقطاع عن حقوقهم، فلم يضطروا اليابان - وهي في طريقها الرأسمالي - إلى ثورة كالثورة الفرنسية عام (1789).
كما أن الماركسية تعتبر أن كل تطور لا يتم إلا من خلال الصراع الطبقي: بين طبقة تقف إلى صف التطور، وأخرى تحاول الوقوف في وجهه. بينما نرى أن المجتمع الياباني قد وقف بمجموعه إلى جانب حركة التطور الصناعي والرأسمالي، ولم يشذ عن ذلك حتى سادت الاقطاع أنفسهم. فقد آمنوا جميعا بأن حياة البلاد رهن هذه الحركة وتنميتها.
والماركسية ترى - كما قرأنا في نصوص رأس المال السابقة - أن التراكم الرأسمالي الذي تقوم الرأسمالية الصناعية على أساسه، لا يمكن أن يفسر بطرائق (الغزل البريء) - على حد تعبير ماركس - وإنما يفسر بأعمال العنف والغزو وعمليات التجريد والاغتصاب، مع أن الواقع التاريخي لليابان يدلل على العكس. فلم يحدث التراكم الرأسمالي ولم تنشأ الرأسمالية الصناعية في اليابان، نتيجة للغزو والاستعمار
179

أو عمليات تجريد المنتجين من وسائل إنتاجهم، وإنما وجدت هذه الحركة بفضل نشاط ساهمت فيه اليابان كلها، واستخدمت في تنمية السلطة الحاكمة بفضل نشاط ساهمت في اليابان كلها، واستخدمت في تنمية السلطة الحاكمة
كل نفوذها الساسي، فظهرت البورجوازية على المسرح الاجتماعي، كنتيجة لتلك النشاطات السياسية والفكرية وغيرها، وليس كقوة خالقة للجو السياسي والفكري الذي يلائمها.
قوانين المجتمع الرأسمالي
حين نعرض لقوانين المجتمع الرأسمالي من وجهة نظر المادية التاريخية، نكون بحاجة إلى إبراز الوجه الاقتصادي للماركسية، الذي لا يتجلى بملامحه الاقتصادية الكاملة عند تحليل الماركسية لأي مرحلة من مراحل التاريخ، كما يتجلى عند دراستها للمرحلة الرأسمالية. فقد قامت الماركسية بتحليل المجتمع الرأسمالي وشروطه الاقتصادية، ودرست قوانينه العامة على أسس المادية التاريخية، وانتهت من ذلك إلى التأكيد على ما يكمن في أعماق الرأسمالية من تناقضات، تتراكم وفقا لقوانين المادية التاريخية، حتى تدفع بالنظام الرأسمالي في النهاية إلى قبره المحتوم في لحظه حاسمة من لحظات التاريخ.
القيمة أساس العمل:
وقد بدأ (ماركس) دراسته لجوهر المجتمع الرأسمالي، وقوانين الاقتصاد السياسي البورجوازي، بتحليل القيمة التبادلية، بوصفها عصب الحياة في المجتمع الرأسمالي - كما بدأ غيره من الاقتصاديين الذين عاصروه وسبقوه - وجعل من نظريته التحليلية في القيمة، حجر الزاوية في بنائه النظري العام.
ولم يصنع ماركس شيئا أساسيا في مجال تحليل القيمة التبادلية، وإنما أخذ بالنظرية التقليدية، التي شادها قبله (ريكاردو) وهي النظرية القائلة: إن العمل البشري هو جوهر القيمة التبادلية. فالقيمة التبادلية لكل منتوج انساني، تقدر على أساس
180

كمية العمل المتجسد فيه، وتتفاوت قيم الأشياء بتفاوت العمل المهراق فيها. فقيمة السلعة التي يتفق عليها في العادة ساعتان من العمل.
وتعتبر هذه النظرية نقطة البدء عند (ريكاردو) وماركس معا في دراستهما التحليلية لهيكل الاقتصاد الرأسمالي. فقد جعل لكل منهما القاعدة التي قوم عليها بناؤه العلمي. ولئن كان (ريكاردو) قد سبق (ماركس) إلى وضع هذه النظرية في صيغة علمية مجددة، فقد سبقهما معا عدة مفكرين اقتصاديين وفلسفيين إلى التنويه بها، كالفيلسوف الإنجليزي (جون لوك)، الذي أشار إلى هذه النظرية في بحوثه، ثم أخذ بها (آدم سميث) الاقتصادي الكلاسيكي المعروف في حدود ضيقة، فاعتبر العمل أساسا للقيمة التبادلية بين الجماعات البدائية.. غير أن (ريكاردو) كان بحق هو الذي أعطى النظرية معنى الشمول والاستيعاب، وآمن بأن العمل هو المصدر العام للقيمة التبادلية، ثم جاء ماركس يسير في طريقه بأسلوبه الخاص.
وهذا لا يعني - بطبيعة الحال أن ماركس لم يصنع شيئا، في حقل هذه النظرية، سوى ترديد الصدى الذي تركه (ريكاردو)، بل أنه - حين أخذ النظرية منه - صاغها في إطاره الفكري الخاص، فأدخل على بعض جوانبها إيضاحات جديدة، وضمنها عناصر ماركسية، وقبل بعض جوانبها الأخرى كما تركها سلفه.
ف - (ريكاردو) حين آمن بهذه النظرية: (العمل أساس القيمة)، أدرك أن العمل لا يجدد القيمة في حالات الاحتكار التي تنعدم فيها المنافسة، إذ ان من الممكن في هذه الحالات أن تتضاعف قيمة السلعة المحتكرة، وفقا لقوانين العرض والطلب، دون أن تزيد كميات العمل المنفقة عليها، ولأجل هذا اعتبر المنافسة الكاملة شرطا أساسيا، لتشكل القيمة التبادلية على أساس العمل. وهذا ما قاله ماركس أيضا، معترفا بأن النظرية لا تنطبق على حالات الإحتكار.
ولاحظ (ريكاردو) أيضا أن العمل البشري يتفاوت في كفايته فساعة من عمل
181

الصانع الذكي النشيط، لا يمكن أن تساوي ساعة من عمل الصانع البليد البطئ. وقد عالج ذلك بافتراض مقياس عام للكفاية الإنتاجية في كل مجتمع. فكل كمية من العمل إنما تخلق القيمة التي تتناسب معها، إذا كانت تتوافق مع ذلك المقياس العام. وهذا المقياس نفسه هو الذي عبر عنه ماركس: بكمية العمل الضرورية اجتماعيا، إذ قال: إن كل عمل إنتاجي يخلق قيمة تناسبه، إذا انفق بالطريقة المتعارفة اجتماعيا.
ووجد (ريكاردو) نفسه - بعد وضع النظرية - مضطرا إلى إبعاد غير العمل من عناصر الإنتاج - كالأرض ورأس المال - عن عملية تكوين القيمة، ما دام هو الأساس الوحيد لها. فجاء لأجل ذلك بنظريته الجديدة، في تفسير الريع العقاري، التي قلب بها المفهوم الاقتصادي السائد عن الريع، كي يبرهن على أن الأرض لا تساهم في تكوين القيمة التبادلية. في حالة المنافسة الكاملة. فقد كان من عادة الاقتصاديين قبل (ريكاردو)، أن يفسروا ريع الأرض بأنه هبة من الطبيعة تنشأ، من اشتراك الأرض مع الجهود الإنسانية، في الإنتاج الزراعي وبالتالي في تكوين القيمة التبادلية المنتجة وهذا يعني ضمنا: أن العمل ليس هو الأساس الوحيد للقيمة. فكان من الضروري لريكاردو أن يرفض هذا التفسير للريع، وفقا لنظريته عن القيمة، ويأتي بالتفسير الذي ينسجم مع النظرية وهذا ما قام به فعلا، فقرر أن الريع نتيجة للاحتكار، ولا يمكن أن يظهر في حالة المنافسة الكاملة. فالأشخاص الذين سيطروا على الجزء الأكثر خصبا من الأرض يحصلون على ريع نتيجة لإحتكارهم، واضطرار الآخرين إلى استثمار الأراضي الأقل خصبا.
وأما فيما يتصل برأس المال، فقد ذكر (ريكاردو) أن رأس المال ليس إلا عملا متجمعا، قد ادخر مجسدا في
أداة أو مادة، لينفق من جديد في سبيل الإنتاج، فلا مبرر لاعتباره عاملا مستقلا في تكوين القيمة التبادلية. فالمادة التي بذلت في إنتاجها ساعة من العمل، ثم استهلكت في عملية إنتاج جديدة، تعبر عن عمل ساعة يضاف إلى الكمية الجديدة من العمل، التي يتطلبها الإنتاج الجديد وهكذا ينتهي ريكاردو
182

إلى أن العمل هو الأساس الوحيد للقيمة.
وكان من المنتظر أن يشجب (ريكاردو) الربح الرأسمالي، ما دام رأس المال لا يخلق قيمة تبادلية جديدة، وما دامت السلعة مدينة في قيمتها التبادلية لعمل العامل فحسب. غير أن ريكاردو لم يفعل شيئا من هذا، واعتبر من المنطقي أن تباع السلعة بسعر يعود بعائد صاف لمن يملك رأس المال، وفسر ذلك بفترة الوقت التي تمضي بين الاستثمار وظهور المنتجات للبيع. وبهذا اعترف بالزمن بوصفه عاملا آخر، لتكون القيمة التبادلية. ومن الواضح أن هذا يعتبر من ريكاردو تراجعا عن نظريته القائلة: بأن العمل هو الأساس الوحيد للقيمة، وعجزا عن الاحتفاظ بالنظرية حتى النهاية.
وأما ماركس فهو حين عالج عناصر الإنتاج، التي تشترك مع العمل في العملية الإنتاجية، والتي عالجها ريكاردو من قبله.. أدخل على أفكار سلفه من ناحية شيئا من التعديل، وجاء من ناحية أخرى بأفكار جوهرية لها خطرها. فمن الناحية الأولى: درس الريع العقاري، فأقر تفسير (ريكاردو) له، واستطاع أن يميز بين الريع التفاضلي الذي تحدث عنه ريكاردو، والريع المطلق الذي أثبت عن طريقه: أن للأراضي بمجموعها ريعا قائما على أساس الاحتكار الطبيعي، ومحدودية مساحة الأرض (1).
ومن الناحية الثانية: هاجم اعتراف ريكاردو بمنطقية الربح الرأسمالي، وشن حملة عنيفة ضده، على أساس نظرية القيمة الفائضة، التي تعتبر بحث الجزء الماركسي الصميم في البناء النظري الذي شاده ماركس.
كيف وضع ماركس القاعدة الأساسية لاقتصاده؟
يبدأ ماركس في استدلاله على جوهر القيمة، بالتفرقة بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية. فالسرير والملعقة ورغيف الخبز مجموعة من السلع، تتضمن كل

(1) رأس المال ص 1186.
183

واحدة منها قيمة استعمالية معينة، بسبب المنفعة التي تؤديها السلعة، وتختلف قيمها الاستعمالية تبعا لاختلافها في نوعية المنفعة التي يجنيها الإنسان منها. ولكل واحدة من تلك السلع قيمة من نوع آخر، فإن السرير الخشبي الذي ينتجه الصانع، كما يمكن أن ينام عليه - وهذا ما يحدد قيمته الاستعمالية - كذلك يمكنه أن يستبدله بثوب يلبسه. وهذا يعبر عن القيمة التبادلية. فالثوب والسرير، بينما كانا متناقضين في منافعهما وقيمهما الاستعمالية، نجد أنهما يشتركان في قيمة تبادلية واحدة، أي ان كلا منهما يمكن استبداله بالآخر في السوق، لأن سريرا خشبيا واحدا يساوي ثوبا حريريا من نوع معين.
وهذه المعادلة تعين أنه يوجد ثمة في شيئين مختلفين: السرير والثوب، شيء مشترك، بالرغم من اختلاف منافعهما وموادهما. فالشيئان هما إذن مساويان لشيء ثالث، ليس في ذاته سريرا ولا ثوبا. وهذا الشيء الثالث لا يمكن أن يكون خاصة طبيعية أو هندسية للبضائع، لأن خصائصهما الطبيعية لا تدخل في الحساب، إلا بقدر ما تمنحها من منفعة استعمالية، ولما كانت القيم والمنافع الاستعمالية في الثوب والسرير مختلفة، فيجب أن يكون الشيء الثالث المشترك بينهما، أمرا غير القيم الاستعمالية ومقوماتها الطبيعة فإذا أسقطنا من الحساب هذه القيم وطرحنا جميع الخصائص الطبيعية للثوب والسرير، لا يبقى بين أيدينا إلا الصفة الوحيدة، التي تشترك فيها السلعتان، وهي: العمل البشري، فكل منهما تجسيد لكمية خاصة من العمل، ولما كانت الكميتان المنفقتان على السرير والثوب متساويتين، نتج عن ذلك تساويهما في القيمة التبادلية أيضا...
وهكذا ينتهي تحليل عملية التبادل إلى: أن العمل هو جوهر القيمة التبادلية (1).
ويتحدد ثمن السلعة في السوق بصورة أساسية، طبقا لقانون القيمة التبادلية هذا، أي لكمية العمل البشري المتجسد فيها. غير أن الثمن السوقي لا يطابق مع القيمة التبادلية الطبيعية، التي يحددها القانون الآنف الذكر، إلا في حالة معادلة العرض

(1) لاحظ رأس المال ج 1، ق 1، ف 1، ص 44 - 49.
184

للطلب. ومن هنا يمكن لثمن السلعة أن يرتفع عن قيمتها الطبيعية، وفقا لنسبة العرض إلى الطلب. فقوانين العرض والطلب تستطيع أن ترفع الثمن أو تخفضه، أي أن تجعله مناقضا للقيمة الطبيعة، ولكن القيم الطبيعة للسلع تحدد بدورها من فعل قوانين العرض والطلب. وزيادة الطلب مثلا ولكنها لا تسمح لهذا الارتفاع أن يتزايد بشكل غير محدود، ولذلك نجد أن المنديل - مثلا - مهما تحكمت فيه قوانين العرض والطلب، فهي لا تتمكن من رفع ثمنه إلى ثمن السيارة. وهذه القوة الكامنة في المنديل التي تجذب الثمن إليها، ولا تسمح له بالانطلاق غير المحدود، هي القيمة التبادلية.
فالقيمة الطبيعية حقيقة ثابتة من وراء الثمن، تخلقها كميات العمل المتجسدة في السلع. والثمن تعبير سوقي عنها تحدده القيمة الطبيعة، وتلعب قوانين العرض والطلب دورا ثانويا في خفضة ورفعه، وفقا لحالة المنافسة ونسبة العرض إلى الطلب ومدى وجود الإحتكار في السوق.
وقد لاحظ ماركس - و (ريكاردو) من قبله: أن قانون القيمة هذا لا ينطق على حالات الاحتكار، لأن القيمة في هذه الحالات تحدد وفقا لقوانين العرض والطلب، التي يتحكم فيها المحتكرون، وكذلك لا ينطبق أيضا على
بعض ألوان الإنتاج الفني والأثري، كاللوحة التي تنتجها ريشة فنان مبدع، أو الرسالة الخطية التي يمتد تاريخها إلى مئات السنين، فيكون لها ثمن مرتفع جدا نظرا إلى طابعها الفني أو التاريخي، رغم الضآلة النسبية لكمية العمل الممثلة فيها.
ولأجل هذا أعلنت الماركسية أن قانون القيمة القائم على أساس العمل، يتوقف أولا: على توفر المنافسة التامة، فلا يسري إلى حالات الاحتكار. وثانيا: على كون السلعة نتاجا اجتماعيا يمكن إيجاده عن طريق العمل الاجتماعي دائما، فلا يسري القانون على الإنتاج الفردي الخاص، كاللوحة الفنية والرسالة الخطية.
ونود أن نشير قبل كل شيء إلى ظاهرة خطيرة، في التحليل الماركسي لجوهر القيمة، وهي أن ماركس اتبع في تحليله واستكشافه لقانون القيمة، طريقة تجريدية
185

خالصة، بعيدا عن الواقع الخارجي، وتجاربه الاقتصادية. وهكذا بدا فجأة وقد تقمص شخصية (أرسطو) الميتافيزيقية في الاستدلال والتحليل. ولهذه الظاهرة سببها الذي اضطر ماركس إلى هذا الموقف، لأن الحقائق الواضحة عن الحياة الاقتصادية، تعبر دائما عن ظواهر تناقض تماما النتائج التي تؤدي إليها النظرية الماركسية. فإن من نتيجة هذه النظرية أن الأرباح المكتسبة تختلف من مشروع إلى آخر، تبعا لاختلاف كمية العمل المأجور المنفق خلال الإنتاج، دون أن يكون لكمية الآلات والأدوات أثر في ذلك، لأنها لا تضفي على النتائج أية قيمة أكثر مما تفقده، مع أن الربح في الحياة الاقتصادية السائدة، يزداد كلما ازدادت الآلات والأدوات التي يتطلبها المشروع. فلم يتمكن ماركس لأجل هذا من التدليل على نظريته بشواهد من واقع الحياة الاقتصادية، فحاول أن يبرهن عليها بصورة تجريدية، حتى إذا أكمل مهمته هذه، جاء إلى النتائج المقلوبة في واقع الحياة الاقتصادية. ليؤكد أنها لم توجد مقلوبة نتيجة لخطأ النظرية التي يؤمن بها، وإنما هي مظهر من مظاهر المجتمع الرأسمالي، الذي يضطر المجتمع إلى الانحراف عن قانون القيمة الطبيعي، والتكيف وفقا لقوانين العرض والطلب (1).
نقد القاعدة الأساسية للاقتصاد الماركسي
والآن فلنفحص قانون القيمة عند ماركس، في ضوء الدليل الذي قدمه عليه.
يبدأ ماركس في دليله - كما رأينا - من تحليل عملية التبادل (تبادل السرير الخشبي بثوب من حرير مثلا)، فيرى أن هذه العملية تعبر عن مساواة السرير للثوب في القيمة التبادلية، ثم يتساءل: لماذا كان السرير والثوب متساويين في القيمة التبادلية؟. ويجيب أن السبب في ذلك اشتراكهما في أمر واحد، موجود فيهما بدرجة واحدة، وليس هذا الأمر المشترك بين الثوب والسرير إلا العمل المتجسد فيهما، دون المنافع والخصائص الطبيعية التي يختلف فيها السرير عن الثوب فالعمل

(1) راجع الرأس المال ص 1185.
186

هو إذن جوهر القيمة. ولكن ماذا تقول الماركسية لو اصطنعنا نفس هذه الطريقة التحليلية، في عملية تبادل بين إنتاج اجتماعي وإنتاج فردي؟!، أفليس للخط الأثري - وهو ما تسميه الماركسية بالإنتاج الفردي - قيمة تبادلية؟!، أو ليس من الممكن استبداله في السوق بنقد أو كتاب أو بأي مال آخر؟!، فإذا استبدلناه بنتاج اجتماعي، كنسخة مطبوعة من تاريخ الكامل مثلا، كان معنى ذلك أن صفحة الخط الأثري مثلا، تساوي قيمتها التبادلية نسخة من تاريخ الكامل. فلنفتش هنا عن الأمر المشترك الذي أملى على السلعتين قيمة تبادلية واحدة. كما فتشت الماركسية عن الأمر المشترك بين السرير والثوب، فكما كان يجب أن تكون القيمة التبادلية الواحدة للسرير والثوب تعبيرا عن صفحة مشتركة بينهما (وهي في رأي الماركسية كمية العمل المنفقة فيهما) كذلك أيضا بعد القيمة التبادلية الواحدة للخط الأثري ونسخة من تاريخ الكامل، عن الأمر المشترك، فهل يمكن أن يكون هذا الأمر المشترك هو كمية العمل المنفقة عليهما؟!. كلا طبعا، فإننا نعلم أن العمل المتجسد هو في الخط الأثري، أقل كثيرا من العمل المتجسد في نسخة مطبوعة من تاريخ الكامل، بورقه وجلده وحبره وطباعته. ولأجل هذا استثنيت السلع الفنية والأثرية، من قانون القيمة.
ولسنا نؤاخذ الماركسية على هذا الاستثناء، لأن لكل قانون من قوانين الطبيعة شروطه واسثناءاته الخاصة، ولكننا نطالبها - على هذا الأساس - بتفسير الأمر المشترك بين الخط الأثري، ونسخة من تاريخ الكامل، اللذين تم التبادل بينهما في السوق، كما يتم التبادل بين السرير والثوب. فإن كل من الضروري أن يوجد من وراء المساواة في عملية التبادل، أمر مشترك بين السلعتين المتساويتين في قيمتهما، فما هو هذا الأمر المشترك بين الخط الأثري ونسخة من تاريخ الكامل، هاتين السلعتين المختلفتين في كمية العمل المكتنز فيهما، وفي نوعية المنفعة وشتى الخصائص؟ ‍!. أفلا يبرهن هذا على أن هناك أمرا مشتركا بين السلع، التي يجري بينها التبادل في السوق، غير العمل المتجمد فيها، وأن هذا الأمر المشترك موجود في السلع المنتجة
187

إنتاجا فرديا، كما يوجد في السلع التي تحمل طابع الإنتاج الاجتماعي؟!. وإذا كان يوجد أمر مشترك بين جميع السلع، بالرغم من اختلافها في كميات العلم المنفقة عليها، وفي طابع العمل من ناحية كونه فرديا أو اجتماعيا، واختلافهما أيضا في المنافع والخصائص الطبيعية والهندسية، إذا كان يوجد مثل هذا الأمر المشترك العام حقا، فلماذا لا يكون هو المصدر الأساسي للقيمة التبادلية وجوهرها الداخلي؟!.
وهكذا نجد أن الطريقة التحليلية التي اتخذها ماركس، تتوقف به في منتصف الطريقة، ولا تسمح له بمواصلة
استنتاجاته، ما دامت كميات العمل المتجسد في السلع قد تختلف إختلافا كبيرا، مع مساواة بعضها لبعض في القيمة التبادلية. فليست كميات العمل المتساوية هي السر الكامن وراء المساواة في عمليات التبادل.
فما هو هذا السر الكامن إذن؟؟،
ما هو هذا الأمر المشترك بين الثوب والسرير. والخط الأثري والنسخة المطبوعة من تاريخ الكامل، الذي يحدد لكل واحدة من هذا السلع قيمتها التبادلية تبعا لنصيبها منه؟؟.
وفي رأينا أن هناك مشكلة أخرى تواجه قانون القيمة عند ماركس لا يمكن للقانون أن يتغلب عليها لأنها تعبر عن تناقض هذا القانون مع الواقع الطبيعي الذي يعشه الناس مهما كان الطابع المذهبي والسياسي لهذا الواقع، فلا يمكن أن يكون هذا القانون تفسيرا علميا للواقع الذي يناقضه.
ولنأخذ الأرض مثلا لهذا التناقض، بين القانون والواقع. فالأرض تصلح - دون شك - لإنتاج عدد كبير من الحاصلات الزراعية، أي لعدد كبير من الاستعمالات البديلة فيمكن أن تستعمل الأرض في زراعة الحنطة كما يمكن أن تستخدم - بدلا عن الحنطة - في إنتاج القطن والرز وهكذا. ومن الواضح ان الأراضي ليست متشابهة في كفاءتها الطبيعية، فهناك من الأراضي ما يكون أكثر كفاءة في فرع معين من فروع الإنتاج الزراعي، كإنتاج الرز مثلا. وهناك ما هو أكثر كفاءة لزراعة
188

الحنطة أو القطن. وهكذا تتمتع كل أرض باستعداد طبيعي، يرشحها لفرع معين من فروع الإنتاج. ويعين هذا أن كمية معينة من العمل إذا أنفقت على زراعة الأرض، في حالة تقسيمها على فروع الإنتاج الزراعي تقسيما صحيحا، واستخدام كل أرض فيما هي أصلح له.. تنتج مقادير مهمة من الحنة والقطن، بينما لو صرفت نفس تلك الكمية المعينة من العمل الاجتماعي، في حالة توزيع شيء للأرض على فروع الإنتاج، واستخدام كل أرض في غير ما هي أجدر به.. لما أمكن الحصول إلا على جزء من الحنطة مثلا، يساوي - من الناحية التبادلية - ذلك المقدار المضاعف، الذي ينتج في حالة توزيع الأرض - على فروع الإنتاج - توزيعا صحيحا.. لا لشيء إلا لأنه يساويه في كمية العمل الاجتماعي المتجسد فيه؟ ‌‍!. وهل يسمح الاتحاد السوفياتي - القائم على أساس ماركس - لنفسه أن يساوي في التبادل بين هاتين الكميتين المختلفتين، بوصفهما تعبيرا عن كمية واحدة من العمل الاجتماعي.
إن الاتحاد السوفياتي، وأي دولة أخرى في العالم، تدرك عمليا - دون شك - مدى الخسارة التي تحيق بها من جراء: عدم استخدام كل أرض فيما هي أكثر صلاحية له.
وهكذا نعرف أن الكمية الواحدة من العمل الزراعي قد تنتج قيمتين مختلفتين، تبعا للطريقة المتبعة في تقسيمها على الأراضي المتنوعة.
ومن الواضح - في ضوء ذلك - أن القيمة المضاعفة، التي تحصل من استخدام كل أرض فيما هي أكثر صلاحية له.. ليست نتيجة للطاقة التي أنفقت في الإنتاج، لأن الطاقة هي الطاقة، لا تتغير، سواء زرعت كل أرض بما هي أصلح له أم زرعت بغيره، وإنما هي - القيمة المضاعفة - مدينة للدور الإيجابي الذي تلعبه الأرض نفسها في تنمية الإنتاج وتحسينه (1).

(1) ويمكن للماركسية أن تقرر - بصدد الدفاع عن وجهة نظرها - أن الكيلو من القطن مثلا إذا كان يتطلب إنتاجه ساعة من العمل في بعض الأراضي، وساعتين من العمل في البعض الآخر. فلابد من أخذ المعدل، لمعرفة العمل المتوسط اللازم اجتماعيا لإنتاج كيلو من القطن، وهو - في مثالنا - ساعة ونصف، فيصبح الكيلو من القطن تعبيرا عن ساعة ونصف من العمل الاجتماعي المتوسط، وتحدد قيمته وفقا لذلك. وتكون عمل ساعة في الأرض الأكثر كفاية منتجا لقيمة أضخم من القيمة التي ينتجها عمل ساعة في الأرض الأخرى، لأن العملين وإن كانا متساويين من ناحية شخصية، ولكن كمية العمل الاجتماعي المتوسط، المتضمنة في أحدهما أكبر منها في الآخر، لأن عمل ساعة في الأرض الخصبة، يساوي ساعة ونصف من العمل الاجتماعي المتوسط، وأما عمل ساعة في الأرض الأخرى، فهو يعادل ثلاثة أرباع ساعة من العمل المتوسط اجتماعيا. فمرد الفرق بين النتاجين في القيمة التبادلية هو: اختلاف العملين نفسهما في كمية العمل الاجتماعي المتوسط المتضمن في كل منهما.
ولكننا بدورنا نتساءل: إن عمل ساعة في الأرض الأكثر كفاءة لزراعة القطن، كيف أصبح أكبر من نفسه؟ وبقدرة أي قادر أضيفت إليه - نصف ساعة من العمل، فأصبح يساوي عمل ساعة ونصف؟! إن هذه النصف ساعة من العمل، التي دست نفسها بطريقة سحرية في عمل ساعة واحدة فصيرته أكبر من نفسه. ليست إنتاجا انسانيا، ولا تعبيرا عن طاقة منفقة في سبيلها - لأن الانسان لم يصرف في استخدام الأرض الأكثر كفاءة، ذرة من طاقة أكثر مما يصرفه في استخدام الأرض الأقل كفاءة - وإنما هو نتاج الأرض الخصبة نفسها. فخصب الأرض هو الذي قام بالعمل السحري، فمنح مجانا نصف ساعة، العمل الاجتماعي للعامل.
فإذا كانت نصف الساعة هذه تدخل في حسبا القيمة التبادلية للإنتاج، كان معنى ذلك أن الأرض - بقدرتها على تمديد ساعة من العمل ومنحها قوة ساعة ونصف - ذات دور ايجابي في تكوين القيمة التبادلية، وليس العمل الإنتاجي من المنتج هو وحده جوهر القيمة ومصدرها.
وأما إذا لم تدخل نصف الساعة السحرية في حساب القيمة، وتحددت القيمة وفقا للعمل الذي قدمه الانسان فحسب، كان معنى ذلك أن التقطن الناتج عن عمل ساعة في الأرض الأكثر كفاءة له، يساوي القطن الناتج عن عمل ساعة في الأرض الأقل كفاءة وبمعنى آخر، أن كيلو من القطن يساوي نصف كيلو منه.
189

وهكذا نواجه السؤال السابق نفسه مرة أخرى: ما هو المحتوى الحقيقي للقيمة التبادلية الذي تلعب الطبيعة دورا في تكوينه، كما يلعب العمل الإنتاجي دوره الخطير في ذلك؟.
190

وظاهرة أخرى لا تستطيع الماركسية أن تفسرها، على ضوء قانونها الخاص في القيمة، بالرغم من وجودها في كل مجتمع، وهي: انخفاض القيمة التبادلية للسلعة، تبعا لانخفاض الرغبة الاجتماعية فيها: فكل سلعة إذا تضاءلت الرغبة فيها، ولم يعد المجتمع يؤمن بمنفعة مهمة لها، تفقد - بسبب ذلك - جزءا من قيمتها التبادلية، سواء كان هذا التحول - في رغبات المجتمع - نتيجة عامل سياسي أو ديني أو فكري، أو أي عامل آخر، وهكذا تتضاءل قيمة السلعة، بالرغم من احتفاظها بنفس الكمية من العمل الاجتماعي، وبقاء ظروف إنتاجها كما هي دون تغيير. وهذا يبرهن بوضوح إلى أن للدرجة التي تتيحها السلعة من الانتفاع واشباع الحاجات، أثرا في تكوين القيمة التبادلية. فمن الخطأ أن تعتبر نوعية القيمة الاستعمالية، ودرجة الانتفاع بالسلعة كمية مهملة كما تقرر الماركسية.
والماركسية حين تتغاضى عن هذه الظاهرة، وتحاول تفسيرها في ضوء قوانين العرض والطلب: تؤكد على ظاهرة أخرى، بوصفها تعبيرا واقعيا عن قانونها في القيمة، وهي: أن القيمة التبادلية تتناسب طرديا مع كمية العمل المتجسد في السلعة. فإذا ساءت ظروف الإنتاج، وتطلب عملا مضاعفا في سبيل إنتاج السلعة تضاعفت قيمتها التبادلية تبعا لذلك. وإذا اتفق عكس هذا، فتحسنت ظروف الإنتاج، وأصبح من الممكن الاكتفاء بنصف الكمية السابقة من العمل الاجتماعي، في إنتاج السلعة، انخفضت قيمة السلعة بدورها إلى النصف أيضا.
وهذه الظاهرة وإن كان حقيقة واضحة في مجرى الحياة الاقتصادية، ولكنها لا تبرهن على صحة قانون القيمة عند الماركسية، إذ كما يمكن لهذا القانون أن يفسر هذا التناسب بين القيمة وكمية العمل، كلك يمكن تفسره في ضوء آخر أيضا. فإن ظروف إنتاج الورق مثلا، إذا ساءت وتطلب إنتاجه كمية مضاعفة من العمل، انخفضت كمية الورق المنتجة اجتماعيا إلى النصف - في حالة بقاء مجموع العمل الاجتماعي المنفق على إنتاج الورق
المنتج إلى النصف، يصبح أكثر ندرة، وتزداد الرغبة فيه، وترتفع منفعته الحدية.
191

وإذا حدث العكس، فانخفضت كمية العمل التي يتطلبها إنتاج الورق إلى النصف فسوف تتضاعف كمية الورق التي ينتجها المجتمع - في حالة بقاء مجموع العمل الاجتماعي المنفق على إنتاج الورق، بنفس الكمية السابقة وتهبط منفعته الجدية، وتقل ندرته نسبيا، وبالتالي تنخفض قيمته التبادلية.
وما دام من الممكن تفسر الظاهرة في ضوء عامل الندرة، أو المنفعة الحدية، كما يمكن أن تعتبر دليلا علميا من واقع الحياة، على صحة هذا القانون دون سواه من الفرضيات.
والعمل - بعد هذا كله - عنصر غير متجانس، يضم وحدات من الجهود مختلفة في أهميتها، ومتفاوتة في درجتها وقمتها. فهناك العمل الفني الذي يتوقف على خبرة خاصة، والعمل البسيط الذي لا يحتاج إلى الخبرة العلمية والفنية. فساعة من عمل الحمال تختلف عن ساعة من عمل المهندس المعماري، ونهار من عمل الصانع الفني الذي يبذله لإنتاج محركات كهربائية، يختلف - تمام الاختلاف - عن عمل العامل الذي يحفر السواقي الصغيرة في الحديقة.
وهناك أيضا العوامل الذاتية الكثيرة - التي تؤثر على العمل - باعتباره صفة إنسانية - فتحدد أهميته ودرجة كفايته، كما تحدد الجهد النفسي والعضوي الذي يتطلبه. فالاستعداد الطبيعي العضوي والذهني للعامل، ومدى رغبته في النبوغ والتفوق على الآخرين، ونوعية ما يختلج في نفسه من عاطفة بالنسبة إلى العمل، يجعله يقبل عليه مهما بلغت مشقته، أو يعرض عنه مهما خف عبؤه، وما يشعر به من حيف وحرمان، أو ما ينعم به من حوافز تدفعه إلى التفنن والإبداع، وما تحيط به من ظروف تدعه فريسة لعوامل السأم والضجر، أو تبعث في نفسه شيئا من قوة الأمل والرجاء... كل هذه الأمور تعتبر من العوامل التي تؤثر على نوعية العمل وتحدد قيمته.
فمن الخطأ أن تقاس الأعمال قياسا كميا عدديا فحسب، وإنما هي بحاجة إلى قياس نوعي وصفي أيضا، يحدد نوعية العمل المقاس ومدى تأثره بتلك العوامل.
192

فساعة من العمل في ظل شروط نفسية ملائمة، أكثر كفاية في إنتاجها من ساعة عمل في ظل شروط معاكسة. فكما يجب أن نقيس كمية العمل - وهذا هو العنصر الموضوعي في المقياس - كذلك يجب أن نقيس أيضا نوعية العمل وأوصافه، في ضوء العوامل النفسية المختلفة التي تؤثر فيه، وهذا هو العنصر الذاتي في المقياس.
ومن الواضح أنا إذا كنا نملك دقائق الساعة، بوصفه مقياسا للعنصر الموضوعي ضبط كمية العمل، فلا نملك مقياسا نقيس به العنصر الذاتي للعمل، ونوعيته وأوصافه التي تحدد طبقا له.
فبم تتخلص الماركسية من هاتين المشكلتين: مشكلة قياس عام للكميات الفنية وغير الفنية من العمل، ومشكل قياس نوعي لكفاية العمل، وفقا للمؤثرات النفسية والعضوية والذهنية، التي تختلف بين عامل وآخر.
أما المشكلة الأولى، فقد حاولت الماركسية حلها عن طريق تقسيم العمل إلى: بسيط ومركب فالعمل البسيط هو الجهد الذي يعبر عن طريق القوة الطبيعية التي يملكها كل إنسان سوي، بدون تنمية خاصة لجهازه العضوي والذهني، كعمل الحمال. والعمل المركب هو: العمل الذي تستخدم فيه الامكانات والخبرة، التي اكتسبت عن طريق عمل سابق، كأعمال المهندس والطبيب. فالمقياس العام للقيمة التبادلية هو العمل البسيط. ولما كان العمل المركب عملا بسيطا مضاعفا، فهو يخلق قيمة تبادلية أكبر مما يخلقه العمل البسيط المجرد. فالعمل في أسبوع الذي ينفقه المهندس الكهربائي، على صنع جهاز كهربائي خاص، أضخم من عمل أسبوع ينفقه الحمال، على حمل الأثقال، نظرا إلى ما يتضمنه عمل المهندس من جهد وعمل سباق، بذل في سبيل اكتساب الخبرة الهندسية الخاصة.
ولكن هل يمكن أن نفسر الفرق بين العمل الفني وغيره على هذا الأساس؟ إن هذا التفسير الماركسي للتفاوت، بين عمل المهندس الكهربائي وعمل العامل البسيط يعين: أن المهندس الكهربائي إذا أنفق عشرين سنة مثلا، في سبيل الظفر بدرجة علمية وخبرة فنية في الهندسة الكهربائية، ومارس العمل بعد ذلك عشرين
193

سنة أخرى.. يحصل على قيمة لمجموع نتاجه الذي أنجزه خلال العقدين، تساوي القيمة التي يخلقها الحمال عن طريق مشاركته في الإنتاج، بحمل الأثقال خلال أربعة عقود وبمعنى آخر: أن يومين من عمل المهندس الكهربائي، لما يتضمنه هذا اليوم من عمل دراسي سابق. فهل هذا هو الواقع الذي نشاهده في مجرى الحياة الاقتصادية؟ أو هل يمكن لأي سوق أو دولة، الموافقة على مبادلة إنتاج يومين من عمل العامل البسيط، بنتاج يوم واحد من عمل المهندس الكهربائي؟ ‍!.
ولا شك أن من حسن حط الاتحاد السوفياتي، أنه لا يفكر في الأخذ بالنظرية الماركسية عن العمل البسيط والمركب، وإلا لمني بالدمار إذا أعلن: استعداده لإعطاء مهندس، في مقابل كل عاملين بسيطين. ولذلك نجد أن العامل الفني في روسيا، قد يزيد راتبه على راتب العامل البسيط، بعشرة أضعاف أو أكثر، بالرغم من أنه لم يقض تسعة أضعاف عمر العامل البسيط في الدراسة، وبالرغم من توفر الكفاءات الفنية في روسيا بالكمية المطلوبة، كتوفر القوى العاملة البسيطة كذلك. فمرد الفرق إذن إلى قانون القيمة، وليس إلى ظروف العرض والطلب، وهو فرق كبير لا يكفي لتفسيره إدخال العمل السابق في تكوين القيمة.
وأما المشكلة الثانية (مشكلة قياس نوعي لكفاية العمل، وفقا لمؤثرات النفسية والعضوية والذهنية، التي تختلف بين عامل وآخر) فقد تخلصت عنها الماركسية بأخذ المعدل الاجتماعي للعمل، مقياسا للقيمة. فقد كتب ماركس يقول:
((إن الوقت الضروري اجتماعيا لإنتاج البضائع، هو الوقت الذي يقتضيه كل عمل يجري إنتاجه بدرجة وسطية، من المهارة والقوة وفي شروط اعتيادية طبيعية، بالنسبة إلى البيئة الاجتماعية المعينة... إذن فكمية العمل وحدها، أو وقت العمل الضروري، في مجتمع معين لإنتاج صنف ما، هي التي تحدد كمية القيمة. وكل بضاعة خاصة، تعتبر - بصورة عامة - بمثابة نسخة وسطية عن نوعها)) (1).

رأس المال ج 1، ص 49 - 50.
194

وعلى هذا الأساس، إذا كان العامل المنتج يتمتع بشروط ترفعه عن الدرجة الوسيطة اجتماعيا، يصبح بإمكانه أن يخلق لبضاعته خلال عمل ساعة، قيمة أرقة من القيمة التي يخلقها العامل الوسطى خلال تلك الساعة، لأن ساعة من عمله تفوق ساعة من معدل العمل الاجتماعي للعمل. فالمعدل الاجتماعي للعمل، ولمختلف العوامل المؤثرة فيه، هو المقياس العام للقيمة.
والخطأ الذي ترتكبه الماركسية بهذا الصدد، هو أنها تدرس المسألة دائما بوصفها مسألة كمية. فالشروط العالية التي تتهيأ للعامل، ليست - في نظر الماركسية - إلا عوامل تساعد العامل، على إنتاج كمية أكبر في وقت اقصر، فتصبح الكمية التي ينتجها في ساعة، أوفر من الكمية المنتجة في ساعة من معدل العمل الاجتماعي، وبالتالي أكثر قيمة منها. بينما ينتج هذا العامل مترين من النسيج في ساعة واحدة، ينتج العامل الوسطى خلال تلك الساعة مترا واحدا فقط. فيكون للمترين ضعفا قيمة هذا المتر الواحد، لأنهما يعبران عن ساعتين من العمل الاجتماعي العام، وإن تم إنتاجهما في الواقع بساعة واحدة من العمل الممتاز.
ولكن الشيء الجدير بالملاحظة، هو أن الشروط الذهنية والعضوية والنفسية، التي لا يتمتع بها العامل الوسطي... لا تعني دائما زيادة كمية في منتوج العامل الذي يحظى بتلك الشروط. بل قد تعني أحيانا امتيازا كيفيا في السلعة المنتجة. كما إذا كان هناك رسامان، تستغرق عملية التصوير عند كل منهما ساعة، ولكن الاستعداد الطبيعي عند أحدهما يجعل الصورة التي يرسمها أروع من الصورة الأخرى. فالمسألة هنا ليست مسألة إنتاج كمية أضخم في وقت أقصر، بل الذي لا يملك تلك الموهبة الطبيعية لا يستطيع ان يأتي بنظير تلك الصورة، ولو ضاعف الوقت الذي ينفقه على عملية التصوير. فلا تستطيع إذن القول: بأن الصورة الأكثر روعة تعبر عن ساعتين من العمل الاجتماعي العام، فإن ساعتين من العمل الاجتماعي العام لا تكفي أيضا لإنتاج هذه الصورة، التي أبدعها الرسام الموهوب بفضل استعداده الطبيعي.
195

وهنا نصل إلى النقطة الأساسية في شأن هاتين الصورتين، وهي أنهما تختلفان في قيمتهما دون شك في كل سوق، مهما كانت طبيعته السياسية، ومهما كانت نسبة العرض فيه إلى الطلب، فإن أحدا لا يقبل أن يستبدل الصورة الرائعة بالصورة الأخرى، ولو كان الطلب والعرض متعادلين، وهذا يعني: أن الصورة الرائعة تستمد قيمتها من عنصر لا يوجد في الصورة الأخرى، وليس هذا العنصر هو كمية العمل، لأن روعة الصورة - كما عرفنا - لا تعبر عن عمل كمي زائد، وإنما تعبر عن نوعية العمل المنفق على إنتاجها - فلا يكفي إذن المقياس الكمي للعمل - أو دقائق الساعة بتعبير آخر - لضبط قيمة السلع، التي تتجسد فيها تلك الكميات المختلفة من العمل. فليس من الممكن أن نجد دائما، في كمية العمل الفردي أو الاجتماعي.. تفسيرا لتفاوت السلع في قيمتها التبادلية، لأن مرد هذا التفاوت أحيانا إلى الكيف لا إلى الكم، الكم، إلى الصفة والنوعية لا إلى عدد ساعات العمل.
هذه بعض الصعوبات العلمية التي تعترض طريق ماركس، وتبرهن على عدم كفاية القانون الماركسي لتفسير القيمة التبادلية. ولكن ماركس - بالرغم من كل هذه الصعاب - وجد نفسه مضطرا إلى قانونه هذا، كما يبدو - بكل وضوح - من تحليله النظري للقيمة، الذي استعرضناه في مستهل هذا البحث، لأنه حين حاول أن يستكشف الامر المشترك بين السلعتين المختلفتين، كالسرير والثوب... أسقط من الحساب. المنفعة الاستعمالية، وجميع الخصائص الطبيعة والرياضية، لأن السرير يختلف عن الثوب في منفعته، وخصائصه الفيزيائية والهندسة. وبدا له - عندئذ - أن الشيء الوحيد الذي ظل مشترك بين السلعتين، هو العمل البشري المنفق خلال إنتاجهما، وهنا يكمن الخطأ الأساسي في التحليل، فإن السلعتين المعروضتين في السوق بثمن واحد، وإن كانتا مختلفتين في منفعتهما، وفي خصائصهما الفيزيائية والكيميائية والهندسية، ولكنهما بالغرم من ذلك مشتركتان في صفة سيكولوجية موجودة بدرجة واحدة فيهما معا، وهي الرغبة الانسانية في الحصول على هذه السلعة وتلك. فهناك رغبة اجتماعية في السرير، ورغبة اجتماعية في الثوب، ومرد
196

هاتين الرغبتين إلى المنفعة الاستعمالية، التي يتمتع بها السرير والثوب. فهما وإن كانا مختلفين في نوعية المنفعة التي يؤديها كل منهما، ولكنهما يشتركان في نتيجة واحدة، أن يعتبر العمل أساسا للقيمة، بوصفه الأمر المشترك الوحيد بين السلع المتبادلة، كما زعمت الماركسية.. ما دمنا قد وجدنا أمرا مشتركا بين السلعتين، غير العمل المنفق على إنتاجهما.
وبذلك ينهار الاستدلال الرئيسي الذي قدمه لنا ماركس على قانونه، ويصبح من الممكن أن تحل الصفة
السيكولوجية المشتركة موضع العمل، وتتخذ مقياسا للقيمة ومصدرا لها. وعندئذ فقط يمكننا أن نتخلص من الصعوبات السابقة التي اعترضت ماركس، وان نفسر - في ضوء هذا العنصر الجديد المشترك - الظواهر التي عجز قانون القيمة الماركسي عن تفسيرها. فالخط الأثري، والنسخة المطبوعة من تاريخ الكامل، اللذان كنا نفتش عن الأمر المشترك بينهما، فلم نجده في العمل، لاختلاف كمية التبادلية في هذا المقياس السيكولوجي الجديد. فالخط الأثري والنسخة المطبوعة من تاريخ الكامل، إنما يتمتعان بقيمة تبادلية واحدة، لأن الرغبة الاجتماعية موجودة فيهما بدرجة متساوية.
وكذلك تذوب سائر المشاكل الأخرى في ضوء هذا المقياس الجديد.
ولما كانت الرغبة في السلعة ناتجة عن منفعتها الاستعمالية، فلا يمكن إذن أن نسقط المنافع الاستعمالية من حساب القيمة. ولذلك نجد أن السلعة التي ليس لها منفعة، لا تملك قيمة تبادلية إطلاقا، مهما انفق على إنتاجها من عمل. وقد اعترف ماركس نفسه بهذه الحقيقة، ولكنه لم يوضح لنا - ولم يكن من الممكن له أن يوضح - سر هذا الترابط، بين المنفعة الاستعمالية والقيمة التبادلية، وكيف دخلت المنفعة الاستعمالية في عملية تكوين القيمة التبادلية، مع أنه أسقطها منذ البدء، لأنها تختلف من سلعة لأخرى؟! وأما في ضوء المقياس السيكولوجي، فالترابط بين المنفعة والقيمة واضح تماما، ما دامت المنفعة هي أساس الرغبة، والرغبة هي مقياس القيمة ومصدرها العام.
197

والمنفعة الاستعمالية، وإن كانت الأساس الرئيسي للرغبة، ولكنها لا تنفرد بتحديد الرغبة في الشيء فإن درجة الرغبة - في أي سلعة كانت - تتناسب طردا مع أهمية المنفعة التي تؤديها السلعة. فكلما كانت السلعة أعظم منفعة، كانت الرغبة فيها أكثر. وتتناسب درجة الرغبة عكسيا مع مدى إمكانية الحصول على السلعة أكثر، تنخفض درجة الرغبة في السلعة، وبالتالي تهبط قيمتها. ومن الواضح أن إمكانية الحصول على السلعة تتبع الندرة والكثرة، فقد يكون الشيء كثيرا ومتوفرا - بصورة طبيعية - إلى الدرجة، التي تجعل من الممكن الحصول عليه من الطبيعة دون جهد، كالهواء. وفي هذه الحالة تبلغ القيمة التبادلية درجة الصفر، لانعدام الرغبة، ومهما قلت إمكانية الحصول على الشيء، تبعا لقلة وجوده، أو صعوبة إنتاجه. ازددت الرغبة فيه وتضخمت قيمته (1).
نقد الماركسية للمجتمع الرأسمالي
قد يتبادر إلى بعض الأذهان، أننا حين ندرس الملاحظات الماركسية حول

(1) وهذا العرض أكثر انطباقا على الواقع، من نظرية المنفعة الحدية القائمة على قانون تناقض المنفعة. وهي النظرية التي تقدر قيمة السلعة، على أساس ما للوحدة الأخيرة من وحدات السلع، من قدرة على اشباع الرغبة. والوحدة الأخيرة هي: أقل الوحدات اشباعا للرغبة، نظرا إلى تناقص الرغبة بالاشباع التدريجي، فتحدد قيمة كل الوحدات طبقا لما تتيحه الوحدة الأخيرة من اشباع. ولهذا كانت كثرة السلعة سببا في تناقض المنفعة الحدية. وانخفاض قيمتها بوجه عام.
وهذه النظرية لا تفسر الواقع تماما، لأنها لا تنطبق على بعض الحالات التي قد يكون استهلاك الوحدة الأولى من السلعة، أو الوحدات الأولى سببا لزيادة الرغبة وشدة الحاجة إلى استهلاك وحدات جديدة، كما يتفق ذلك في المواد التي يسرع الاعتياد عليها. فلو صحت نظرية المنفعة الحدية، لكان من نتيجتها ان تزداد القيمة التبادلية في مثل هذه الحالة، بزيادة الوحدات المعروضة من السلعة لان الرغبة أو الحاجة حال استهلاك الوحدة الثانية، أشد، من الرغبة أو الحاجة حال استهلاك الوحدة الأولى. مع ان الواقع العام يدل على العكس وهذا يدل على ان المقياس العام للقيمة، ليس هو الدرجة التي يحسها الانسان من الحاجة إلى الاشباع عند استهلاك الوحدة الأخيرة، بل ان درجة امكانية الحصول هي التي تحدد - مع نوعية المنفعة وأهميتها - قيمة السلعة.
198

المجتمع الرأسمالي، إنما نستهدف من وراء ذلك إلى تزييف هذه الملاحظات، وتبرير الرأسمالية، نظرا إلى كونه واقعا معترفا به في المجتمع الإسلامي، الذي يؤمن بالملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج، ويرفض الأخذ بمبدأ الملكية الاشتراكية، فما دام الإسلام يحتضن الرأسمالية، فيجب إذن على المذهبيين الإسلاميين أن يفندوا مزاعم الماركسية، حول الواقع الرأسمالي المعاش في تاريخنا الحديث، ويقدموا الدليل على خطأ التحليل الماركسي، فيما يبرزه من مضاعفات هذا الواقع وتناقضاته، ونتائجه الفظيعة التي تشتد وتتفاقم حتى تقضي عليه..
قد يتبادر إلى الأذهان شيء من هذا، ولكن الواقع أن الموقف الإسلامي للباحث، لا يفرض عليه أن ينصب نفسه مدافعا عن الواقع الرأسمالي المعاش، وأنظمته الاجتماعية، وإنما يجب إبراز الجزء المشترك بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الرأسمالي، ودرس التحليل الماركسي، ليتبين مدى علاقته بهذا الجزء المشترك.
فمن الخطأ إذن ما يتجه اليه بعض المذهبيين الإسلاميين، من الدفاع عن واقع الرأسمالية الغربية، وإنكار ما يضج به من أخطاء وشرور، ظنا منهم بأن هذا هو السبيل الوحيد لتبرير الاقتصاد الإسلامي، الذي يعرف بالملكية الخاصة.
كما أن من الخطأ أيضا - وقد عرفنا أن العامل الاقتصادي ليس هو العامل الأساسي في المجتمع - الطريقة التي اتخذها ماركس في تحليل المجتمع الرأسمالي، والكشف عن عوامل الدمار فيه، إذ اعتبر جميع النتائج التي تكشف عنها المجتمع الرأسمالي على مسرج التاريخ، وليدة مبدأ أساسي لهذا المجتمع، وهو مبدأ الملكية الخاصة فكل مجتمع يؤمن بالملكية الخاصة، يسير حتما في الاتجاه التاريخي الذي سار فيه المجتمع الرأسمالي، ويمنى بنفس النتائج والتناقضات.
وهكذا أرى من الضروري، لتصفية الحساب مع موقف الماركسية من المجتمع الرأسمالي، أن نؤكد دائما على هاتين الحقيقتين:
أولا: إن الهدف المذهبي للباحثين المسلمين في الاقتصاد، لا يفرض عليهم أن يصححوا أوضاع المجتمع الرأسمالي، ويتنكروا للحقائق المرة التي تعصف به.
199

وثانيا: إن الواقع التاريخي للمجتمع الرأسمالي الحديث، لا يمكن أن يعتبر صورة صادقة لكل مجتمع يسمح بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. ولا أن تعمم النتائج التي ينتهي إليها الباحث من درسه المجتمع الرأسمالي الحديث، على كل مجتمع آخر يتفق معه في القول بالملكية الخاصة، وإن اختلفت معه في الإطارات والحدود.
وإنما أدانت الماركسية مبدأ الملكية الخاصة، بكل النتائج التي تمخض عنها المجتمع الرأسمالي.. تجاوبا مع
فكرتها الأساسية في تفسير التاريخ، القائلة: بأن العامل الاقتصادي، الذي تعبر عنه نوعية الملكية السائدة في المجتمع، هو حجر الزاوية في الكيان الاجتماعي كله. فكل ما يحدث في المجتمع الرأسمالي، تنبع جذوره الواقعية من القاعدة الاقتصادية، من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فتزايد البؤس وشبكات الاحتكار وفظائع الاستعمار وجيوش العاطلين من العمل، واستفحال التناقض في صميم المجتمع، كل تلك الأمور نتائج حتمية وحلقات من التسلسل التاريخي، المفروض على كل مجتمع يؤمن بالملكية الخاصة.
وتتلخص وجهة نظرنا حول آراء الماركسية هذه، عن المجتمع الرأسمالي في نقطتين:
إحداهما: أنها تخلط بين الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وواقعها الرأسمالي المتميزة بطبيعة اقتصادية وسياسية وفكرية معينة فتعتبر مضاعفات هذا الواقع الفاسد، نتائج حتمية لكل مجتمع يسمح بالملكية الخاصة.
والأخرى: أنها على خطأ في الأسس العملية الاقتصادية المزعومة، التي تستمد منها الماركسية طابعها العلمي، في تحليلها لتناقضات المجتمع الرأسمالي وتطوراته التاريخية.
تناقضات الرأسمالية
ولنبدأ الآن بأهم تناقضات المجتمع الرأسمالي في رأي الماركسية أو المحور الرئيسي للتناقض بتعبير آخر، وهو الربح الذي يدره الإنتاج بالأجرة، على الرأسماليين
200

من مالكي وسائل الإنتاج. ففي الربح يكمن سر التناقض المزعوم، ولغز الرأسمالية كلها، الذي حاول ماركس الكشف عنه في القيمة الفائضة. فهو يؤمن بأن البضاعة مدينة بقيمتها للعمل المأجور الذي أنفق عليها. فإذا اشترى الرأسمالي كمية من الخشب بدينار، ثم استأجر العامل ليصنع من ذلك الخشب سريرا يبيعه بدينارين، فقد حصل الخشب على قيمة جديدة، وهي الدينار الثاني، الذي انضم إلى قيمة الخشب الخام. ومصدر هذه القيمة الجديدة هو العمل، وفقا للقانون الماركسي في القيمة. فيجب لكي يربح مالك الخشب والأدوات شيئا، أن لا يدفع إلى العامل إلا جزءا من القيمة الجديدة - التي خلقها العامل - بوصفه أجرا على عمله، ويحتفظ لنفسه بالجزء الآخر من القيمة، باعتباره ربحا خاصا به. وعلى هذا لأساس يصبح من الضروري دائما، أن ينتج العامل قيمة تزيد على أجرته. وهذه الزيادة هي التي يسميها ماركس بالقيمة الفائضة، ويعتبرها المصدر العام لأرباح الطبقة الرأسمالية كلها.
ويزعم ماركس - وهو يفسر لنا الربح في هذا الضوء: أن هذا هو التفسير الوحيد للمسألة الرأسمالية كلها. فإننا إذا حللنا عملية الإنتاج الرأسمالي، نجد أن المالك اشترى من التاجر كل ما يحتاج اليه الإنتاج، من مواد وأدوات، واشترى من العامل كل ما يحتاجه إلإنتاج، من طاقة بشرية. وهاتان مبادلتان إذا فحصنا التبادل فيهما، وجدنا أنه من ناحية المنفعة الاستعمالية، يمكن أن ينتفع كلا الشخصين المتبادلين، لأن كلا منهما يستبدل بضاعة - ذات منفعة استعمالية - لا يحتاجها، ببضاعة يحتاج إلى منفعتها. ولكن هذا لا ينطبق على القيمة التبادلية، فإن تبادل البضائع في شكله الطبيعي هو تبادل متعادلان، وحيث يوجد التعادل لا يمكن أن يوجد الربح، لأن كل فرد يعطي بضاعة ويتسلم بدلا عنها بضاعة ذات قيمة تبادلية مساوية، فمن أين يحصل على قيمة فائضة أو على ربح؟ ‍!
ويستمر ماركس في تحليله مؤكدا: ان من المستحيل فرض حصول البائع أو المشتري على الربح اعتباطا، لتمتعه بامتياز بيعه للبضاعة بأعلى من ثمن اشترائها، أو
201

اشترائه لها بأرخص من قيمتها، لأنه في النتيجة سوف يخسر ما ربحه، حينما يبدل دوره فينقلب مشتريا بعد أن كان بائعا، أو بائعا بعد، كان مشتريا. فلا يمكن إذن أن تتشكل قيمة فائضة، لا عن كون البائعين يبيعون البضائع بأكثر من قيمتها، ولا عن كون الشارين يشترونها بأقل من قيمتها.
وليس من الممكن أيضا القول بأن المنتجين يحصلون على قيمة فائضة، لأن المستهلكين يدفعون ثمن البضائع أغلى من قيمتها، فيكون لأصحاب البضائع - بصفتهم منتجين - امتياز البيع بسعر أغلى. فإن هذا الامتياز لا يفسر اللغز، لأن كل منتج يعتبر من ناحية أخرى مستهلكا فيخسر بصفته مستهلكا ما يربحه بوصفه منتجا.
وهكذا ينتهي ماركس من هذا التحليل إلى: أن القيمة الفائضة التي يربحها الرأسمالي، ليست إلا جزءا من القيمة التي أسبغها عمل العامل على المادة، وقد ظفر المالك بهذا الجزء لسبب بسيط، وهو أنه لم يشتر من العامل - الذي استخدمه عشر ساعات - عمله في هذه المدة، ليكون ملزما بالتعويض عن عمله بما يساويه، أو بكل القيمة التي خلقها بتعبير آخر. فإن العمل لا يمكن أن يكون سلعة يشتريها الرأسمالي بقيمة تبادلية معينة - لأن العمل هو جوهر القيمة عند ماركس، فكل أشياء تكتسب قيمتها من العمل، وأما العمل فلا يكتسب قيمته من شيء، فليس هو سلعة إذن - وإنما السلعة التي اشتراها المالك من العامل هي قوة العمل، هذه السلعة التي تحدد قيمتها بكمية العمل اللازم للحفاظ على تلك القوة وتجديدها، أي بكمية العمل الضروري لإعاشة العامل والمحافظة على قواه. فالمالك اشترى من العامل إذن قوة عمل عشر ساعات، لا العمل نفسه. وقد اشترى تلك القوة بالقيمة التي تضمن ساعات، أكثر من العمل الذي يتوقف عليه تجديد قوى العمل التي سلمها إلى العامل، والقيمة التي خلقها العمل نفسه التي تسلمها من العامل. وهذا الفارق هو فائض القيمة الذي يربحه الرأسمالي.
وفي هذا الضوء يعتقد ماركس بأنه كشف عن التناقض الرئيسي في جهاز
202

الرأسمالية، الذي يتمثل: في أن المالك يشتري من العامل قوة عمله، ولكنه يتسلم منه العمل نفسه وإن العامل هو الذي يخلق القيمة التبادلية كلها، ولكن المالك يضطره إلى التنازل والاكتفاء بجزء من القيمة التي خلقها، ويسرق الجزء الآخر بوصفه فائضا، وعلى هذا الأساس يقوم الصراع الطبقي بين الطبقة المالكة والطبقة العاملة.
وهذه النظرية (نظرية القيمة الفائضة) تعتبر قبل كل شيء: أن المنبع الوحيد لقيمة السلع هو العمل الذي أهرق فيها. فإذا تسلم العامل كل القيمة التي خلقها في السلعة، لم يبق لغيره شيء يربحه. فيجب لكي يوجد ربح للمالك، أن يقتطع نصيبا لنفسه من القيمة التي أوجدها العام في. فنظرية القيمة الفائضة - إذن - ترتكز بصورة أساسية، على قانون القيمة عند الماركسية. وهذا الارتباط بين النظرية والقانون يوحد مصيرهما، ويجعل من فشل القانون علميا سببا لسقوط النظرية، وسقوط كل النظريات في الاقتصاد الماركسي، التي تقوم على أساس ذلك القانون.
وقد استطعنا أن نعرف في دراستنا لقانون القيمة عند ماركس، بوصفه العمود الفقري للاقتصاد الماركسي كله: ان العمل ليس هو الجوهر الأساسي للقيمة التبادلية، وإنما تقاس القيمة بمقياس ذاتي سيكولوجي، وهو الرغبة الاجتماعية، وإذا كانت الرغبة هي جوهر القيمة التبادلية ومصدرها فلن نضطر إلى تفسير الربح - دائما - بكونه جزءا من القيمة التي يخلقها العمل، كما صنع ماركس. بل لا يمكن أن نغفل حينئذ - عن عملية تكون القيمة للسلع - نصيب المواد الطبيعية الخام - ذات الندرة النسبية - من قيمة تلك السلع. فالمادة الخشبية مثلا، بوصفها مادة طبيعية نادرة نسبيا - وليست كالهواء - تتمتع بقوة تبادلية، وتساهم في تكوين القيمة التبادلية للسرير الخشبي، في ضوء المقياس السيكولوجي للقيمة، بالرغم من عدم انفاق عمل بشري في سبيل إنتاجها. وهكذا كل المواد الطبيعية التي تتجسد في مختلف السلع المنتجة، والتي أهملتها الماركسية تماما، ولم تؤمن بأي دور لها في تكون القيم
203

التبادلية للسلع، زاعمة: أنها ليست ذات قيمة تبادلية، ما دامت لا تعبر عن عمل منفق على إيجادها.
صحيح أن المادة الخام، وهي في باطن الأرض مثلا، وبصورة مجردة عن العمل البشري. تبدو تافهة، ولا تكتسب أهمية خاصة إلا عند امتزاجها بالعمل البشري. ولكن هذا لا يعني أن المادة ليس لها قيمة تبادلية، وأن القيمة كلها ناتجة عن العمل وحده، كما ترى الماركسية، إذ كما ينطبق هذا الوصف على المادة المعدنية في الأرض، كذلك ينطبق أيضا على العمل المنفق على استخراج المادة وتعديلها. فإن هذا العمل إذا عزل عن تلك المادة المعدنية، لم تكن له قيمة إطلاقا. فمن السهل أن نتصور تفاهة هذه الكمية من العمل البشري، التي أنفقت على استخراج معدن كالذهب، لو أنها كانت منفقة في مجالات العبث والمجون، أو على استخراج صخور لا تجدي نفعا. فالعنصران إذن (المادة والعمل) متفاعلان متضامنان، في تكون القيمة التبادلية للكمية المستخرجة، من المعدن مثلا، ولكل منهما دور إيجاب في تكوين بضاعة الذهب التي تتمتع بقيمة تبادلية خاصة، وفقا للمقياس السيكولوجي لها.
وكما يصبح للمواد نصيبها من قيمة السلع في ضوء المقياس السيكولوجي للقيمة، كذلك يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار مختلف عناصر الإنتاج. فالناتج الزراعي لا يستمد قيمته التبادلية، من كمية العمل المنفقة على إنتاجه فحسب، بل ان للأرض أثرا في هذه القيمة، بدليل أن تلك الكمية من العمل نفسها، قد تنفق في زراعة الأرض بما هي أقل صلاحية له، فتحصل على ناتج لا يتمتع بنفس تلك القيمة التبادلية التي يملكها الناتج الأول. وإذا كان للمواد الخام وعناصر الإنتاج المختلفة، أثر في تكوين قيمة السلعة، فليست القيمة كلها - إذن - نابعة من العمل، وليس صاحب العمل هو المصدر الوحيد لقيمة السلعة، وبالتالي ليس من الواجب أن تكون القيمة الفائضة (الربح) جزءا من القيمة التي يخلقها العامل، ما دام يمكن أن تكون تعبيرا، عما لمواد الإنتاج الطبيعة من نصيب في قيمة السلعة المنتجة.
204

ويبقى بعد ذلك سؤال واحد، يتصل بهذه القيمة التي تستمدها السلعة من الطبيعة: فلمن تكون هذه القيمة؟، ومن الذي يملكها؟، وهل يملكها العامل أو شخص سواه؟. وهذه نقطة أخرى خارجة عن نطاق البحث، وإنما النقطة التي كنا ندرسها هي علاقة القيمة الفائضة بالعمل، وهل يجب أن تكون جزءا من القيمة التي يخلقها العمل، أو يمكن أن تكون نابعة من مصدر آخر؟. فماركس حين اعتبر العمل أساسا وحيدا للقيمة، لم يستطع أن يفسر القيمة الفائضة (الربح)، إلا على اقتطاع جزء من القيمة التي يخلقها العامل. وأما في ضوء مقياس آخر للقيمة، كالمقياس السيكولوجي، فمن الممكن تفسير القيمة الفائضة، دون أن نضطر إلى اعتبارها جزءا من القيمة التي يخلقها العامل. فبالمجتمع تزداد - دائما القيم التبادلية التي يملكها - كما تزداد ثروته باستمرار - عن طريق اندماج كميات جديدة من العمل بالمواد الطبيعية، وتكوين سلع جاهزة عن هذا الطريق، تحمل قيمة تبادلية مستمدة من العنصرين المندمجين فيها، من العمل والمادة الطبيعة، الأمرين اللذين استطاعا - بالاندماج والاشتراك: أن يولدا قيمة جديدة، لم يكن توجد في كل منهما حالة وجودة بصورة مستقلة عن الآخر.
وهناك شيء آخر أقصته الماركسية من حسابها، لدى محاولة استكشاف سر الربح، دون أن نجحد مبررا لإقصائه، حتى إذا أخذنا بقانون القيمة عند ماركس، وهو: القدر الذي يخلقه المالك نفسه من قيمة، بسبب
مواهبه التنظيمية والإدارية، التي يستعملها في تسيير المشروع الصناعي أو الزراعي.
وقد أثبتت التجارب بكل وضوح: أن مشاريع متساوية في رؤوس أموالها، والأيدي العاملة التي تشتغل فيها.. قد تختلف اختلافا هائلا في الأرباح التي يجنيها، طبقا لكفاءات التنظيم. فالإدارة عنصر عملي ضروري في عملية الإنتاج ونجاحها، ولا يكفي لتحقيق عملية الإنتاج ونجاحها أن تتوفر القوى العاملة وأدوات الإنتاج والمواد اللازمة فحسب، بل تحتاج عجلة الإنتاج إلى قائد، يعين المقدار اللازم وجوده من القوى العاملة والمواد والأدوات، ويحدد النسب التي تمتزج بها جميعا، ويوزع
205

الواجبات على مختلف أنواع العمال والموظفين، ويشرف إشرافا تاما على سير العملية الإنتاجية، ثم يبحث - بعد ذلك - عن منافذ لتوزيعها وإيصالها إلى المستهلكين. فإذا كان العمل هو جوهر القيمة، فيجب أن يكون للعمل القيادي والتنظيمي، نصيب من القيمة التي يخلقها العمل في السلعة. ولا يمكن لماركس أن يفسر الربح، على ضوء نظرية القيمة الفائضة، إلا بالنسبة إلى القيمة التي يربحها الرأسمالي الربوي، أو المشاريع الرأسمالية التي لا يساهم فيها المالك بإدارة وتنظيم.
وإذا انهارت نظرية القيمة الفائضة، تبعا لانهيار أساسها العلمي المتمثل في قانون القيمة عند الماركسية... فمن الطبيعي أن نرفض حينئذ التناقضات الطبقية، التي تستنتجها الماركسية من هذه النظرية، كالتناقض بين العامل والمالك بوصفه سارقا يقتطع من العامل الجزء الفائض من القيمة التي يخلقها والتناقض بين ما يشتريه المالك من العامل وما يتسلمه منه، إذ يشتري منه - في زعم الماركسية - طاقة العمل، ويستلم منه العمل نفسه.
فالتناقض الأول يتوقف على تفسير الربح، في ضوء نظرية القيمة الفائضة، وأما في ضوء آخر فليس من الضروري أن يكون الربح جزءا من القيمة التي يخلقها العامل لنفسه، ما دام للقيمة مصدر غير العمل، وبالتالي ليس من الضروري في نظام العمل بالأجرة، أن يسرق المالك من العامل شيئا من القيمة التي يخلقها، ليكون الصراع الطبقي بين المالك والعامل قضاءا محتوما في هذا النظام. صحيح أن من مصلحة المستأجرين تخفيض الأجور، ومن مصلحة الأجراء رفعها، فهم مختلفون في مصالحهم كما قد تختلف مصالح الأجزاء أو المستأجرين أنفسهم.. وصحيح أن أي ارتفاع أو هبوط في الأجرة يعني إضرارا بالجانب الآخر في الوقت الذي يستفيد منه أجد الجانبين... ولكن هذا يختلف عن المفهوم الماركسي للتناقض الطبقي، الذي يجعل التناقض والابتزاز داخلا في صميم العلاقة، بين المستأجر مهما كان لونها وشكلها. فالتناقض الطبقي في طابعه العملي الموضوعي الصارم القائم على أسس الاقتصاد الماركس، هو الذي ينهار بانهيار تلك الأسس. وأما التناقض
206

بمعنى اختلاف المصالح، الذي يجعل أحد الفريقين يكافح في سبيل رفع الأجور، والفريق الآخر يحاول الاحتفاظ بمستواها.. فهو تناقض ثابت، ولا يرتبط بالأسس العلمية المزعومة للاقتصاد الماركسي، بل هو نظير اختلاف مصالح البائعين والمشترين، الذي يدفع بالبائعين إلى محاولة رفع الأثمان، بينما يعمل المشترون لمقابلة ذلك. وكذلك اختلاف مصالح العمال الفنيين وغيرهم إذ أن من مصلحة الفني أن يحتفظ لعمله بمستوى عال من الأجر، بينما يكون من مصلحة سائر العمال أن يطالبوا بمساواة كاملة في الأجور.
وأما التناقض الثاني، بين ما يشتريه المالك من العامل وما يسلمه إليه.. فهو يتوقف على الرأي الماركسي السابق، القائل بأن السعلة التي يشتريها الملك من العامل - في مجتمع يسمح بالعمال المأجور - هي قوة العمل، لا العمل نفسه، كما يردد ذلك الاقتصاد الرأسمالي المبتذل، على حد تعبير الماركسية. لأن العمل في رأي ماركس هو جوهر القيمة مقياسها، فلا يمكن أن تكون له قيمة قابلة للقياس والتقدير، حتى يباع بتلك القيمة، وعلى العكس من ذلك قوة العمل، فإنها تعبر عن كمية من العمل المنفق عليها - أو على إعاشة العامل بتعبير آخر - فتقاس قيمة قوة العمل، بالعمل المنفق في سبيلها، وتصبح بذلك سلعة ذات قيمة، يمكن أن يشتريا المالك من العامل بتلك القيمة.
ولكن الحقيقة التي يقررها الاقتصاد الإسلامي بهذا الصدد، هي أن المالك لا يتملك ولا يشتري من العامل عمله، كما يرى الاقتصاد الرأسمالي المبتذل، على حد تعبير الماركسية، ولا يشتري أيضا قوة العمل، كما يقرر الاقتصاد الماركسي. فلا العمل ولا قوة العمل هو السلعة أو المال الذي يشتريه المالك من العامل، ويدفع الأجرة ثمنا له.. وإنما يشتري المالك من العامل منفعة عمله، أي الأثر المادي الذي ينتجه العمل في المادة الطبيعة. فإذا استأجر مالك الخشب والأدوات عاملا ليصنع من ذلك الخشب سريرا، فهو يدفع له الأجرة ثمنا للهيئة أو التعديل، الذي سوف يطرأ على الخشب فيجعله سريرا، نتيجة لعمل العامل. فهذا التعديل الذي
207

يصبح الخشب به سريرا، هو الأثر المادي للعمل، وهو بالتالي منفعة العمل التي يشتريها المستأجر من العامل بالأجرة. فمنفعة العمل شيء مغاير للعمل ولطاقة العمل، وهي كذلك ليست جزءا من كيان الانسان، وإنما هي بضاعة لها قيمة، بمقدار ما لتلك المنفعة ضمن الخشب الذي أصبح بالتعديل سريرا في مثالنا السابق، دون أي تناقض بين ما يشتريه وما يتسلمه (1).
ولا يفوتنا أن نلاحظ الفرق بين منفعة العمل، والمواد الطبيعية الخام النادرة نسبيا، كالخشب والمادة المعدنية. فإنها وإن كانت جميعا ذات قيم تبادلية، وفقا للمقياس العام في القيمة، غير أن منفعة العمل - وهي حالة التعديل
التي تحصل في المادة الطبيعية، نتيجة للعمل - كالخشب الذي يصبح سريرا - بوصفها ذات بضاعة ناتجة عن عمل إنساني، تتمتع بعنصر الإرادة والاختيار. فمن الممكن للإرادة الانسانية، أن تتدخل في جعل هذه البضاعة نادرة، وبالتالي في رفع ثمنها، كما تقوم به نقابات العمال في البلدان الرأسمالية. ولهذا يبدو - لأول وهلة - كأن هذه البضاعة تحدد أثمانها اعتباطا، ووفقا لمدى القوى السياسية لتلك النقابات، ولكن الواقع أنها تخضع لنفس المقياس العام للقيمة، غير أن الإرادة الإنسانية بإمكانها أن تتدخل أحيانا، فتجعل المقياس يرتفع، وتزداد بذلك الأجور.
ولنواصل الآن - بعد أن درسنا نظرية القيمة الفائضة - استعراض المراحل الأخرى من تحليل الماركسية للمجتمع الرأسمالي. فقد عرفنا - حتى الآن: أن ماركس وضع نظرية القيمة الفائضة، على أساس قانونه الخاص في القيمة، وفسر في ضوئها طبيعة الربح الرأسمالي، وانتهى من ذلك إلى أن التناقض الأساسي في الرأسمالية، يكمن في الربح الرأسمالي، بوصفه سرقة يقتطعها المالك من القيمة التي يخلقها العامل المأجور.

(1) راجع منية الطالب في حاشية المكاسب ص 16.
208

وحين فرغ ماركس من فكرتيه الاساسيتين المتشابكتين: (قانون القيمة، نظرية القيمة الفائضة)، واطمأن إلى كشفهما عن التناقض الأساسي في الرأسمالية بدأ يستنتج في ضوئهما قوانين هذا التناقض التي تسوق الرأسمالية إلى حتفها المحتوم.
فأول هذه القوانين: قانون الصراع والكفاح الطبقي الذي يخوضه الأجراء ضد الطبقة الرأسمالية. والفكرة في هذا القانون ترتكز على التناقض الأساسي، الذي كشفت عنه نظرية القيمة الفائضة: بين ما يدفعه الرأسمالي إلى العامل من أجور، وما يتسلمه من نتاج. فحيث ان الرأسمالي يقتطع من العامل جزءا من القيمة التي يخلقها، ولا يدفع إليه إلا جزءا منها.. فهو يقف من العامل موقف السارق، وهذا يؤدي - بطبيعة الحال: إلى قيام صراع عنيف بين الطبقة المسروقة والطبقة السارقة.
ويجيء بعد ذلك دور قانون أخر، ليعمل في تشديد هذا الصراع ومضاعفته، وهو قانون: انخفاض الربح، أو بكلمة أخرى: اتجاه معدل الأرباح دائما إلى الهبوط.
وترتكز الفكرة في هذا القانون، على الاعتقاد بأن التنافس بين مشاريع الإنتاج، الذي يسود المراحل الأولى من الرأسمالية، يؤدي إلى المزاحمة والسباق بين المنتجين الرأسماليين أنفسهم ومن طبيعة هذا السباق أن يدفع الإنتاج الرأسمالي إلى الأمام، ويجعل كل رأسمالي حريصا على إنماء مشروعه وتحسينه سعيا وراء المزيد من الربح، ولا يجد كل فرد من الطبقة المالكة - لأجل هذا - مناصا عن تحويل جزء من أرباحه إلى رأس مال، والاستفادة بصورة مستمرة من التقدم العلمي والتكنيكي، في تحسين الأدوات والآلات، أو استبدالها بما هي أكثر كفائة وأضخم إنتاجا، ليستطيع أن يواكب حركة الإنتاج الرأسمالي مع منافسه الآخرين، ويعصم نفسه من السقوط في منتصف الطرق. فهناك إذن في وضع المجتمع الرأسمالي قوة ترغم الرأسمالي على تراكم رأس المال، وتحسين الأدوات وتنميتها، وهي قوة المزاحمة بين الرأسماليين أنفسهم.
وينبثق عن هذه الضرورة لتراكم رأس المال، قانون اتجاه معدل الأرباح دائما إلى
209

الهبوط. لأن الإنتاج الرأسمالي - في نموه - يتزايد اعتماده على الآلات والمعدات، تبعا لتقدم العلمي في هذا المضمار، وتقل الكمية التي يحتاجها من العمل بصورة متناسبة مع تقدم الآلات وتكاملها. وهذا يعني انخفاض القيمة الجديدة التي يخلقها الإنتاج، تبعا لانخفاض كمية العمل المنفق في هذا السبيل، فينخفض الربح الذي يعبر عن جزء من تلك القيمة الجديدة.
ولا يملك الرأسماليون إزاء هذه الضرورة (ضرورة انخفاض الربح) من علاج، إلا مطالبة العمال بكميات أكبر من العمل بنفس الأجرة السابقة، أو تخفيض نصيبهم، القيمة الجديدة التي يخلقونها، بالتقليل من أجورهم. وبذلك يشتد الصراع بين الطبقتين. ويصبح تزايد البؤس والحاجة في أوساط العمال، قانونا حتميا في المجتمع الرأسمالي.
ومن الطبيعي أن تنجم بعد ذلك أزمات شديدة، لعدم تمكن الرأسماليين من تصريف بضائعهم، نتيجة لانخفاض مستوى القدرة الشرائية عند الجماهير ويصبح من الضروري التفتيش عن أسواق خارج الحدود، فتبدأ الرأسمالية مرحلتها الاستعمارية والاحتكارية، في سبيل ضمان أرباح الطبقة الحاكمة. ويتهاوى تحت نير الاحتكار الضعفاء نسبيا يتسع نطاق الطبقة الكادحة إذ تتلقى بكل حرارة أولئك البورجوازيين الضعفاء، الذين يخرون صرعى في معركة الاحتكار الرأسمالي. ومن ناحية أخرى: تبدأ الطبقة البورجوازية تفقد مستعمراتها، بفضل الحركات التحررية في تلك المستعمرات، وتتفاقم الأزمات شيئا بعد شيء، حتى يصل المنحنى التاريخي إلى النقطة الفاصلة، ويتحطم الكيان الرأسمالي كله، في لحظة ثورية يشعل نارها الكادحون والعمال.
هذه صورة ملخصة عن مراحل التحليل الماركسي للرأسمالية، يمكننا الآن تحليلها في ضوء دراستنا السابقة.
210

فمن الملاحظ بوضوح أن قانون الصراع الطبقي، القائم على أساس التناقض الكامن في الربح، يتوقف مصيره على نظرية القيمة الفائضة. فإذا انهارت هذه النظرية - كما رأينا - تلاشى التناقض العملي المزعوم وبطلت فكرة الصراع الطبقي المستوحاة من ذلك التناقض.
وأما قانون انخفاض الربح، فهو نتيجة للقاعدة المركزية في الاقتصاد الماركسي وهي قانون القيمة. فإن ماركس
يرى في إن انخفاض كمية العمل المنفقة خلال الإنتاج، بسبب تحسين الآلات وكثرتها، سببا لانخفاض قيمة السلعة وضآلة الربح، لأن القمة ليست إلا وليدة العمل، فإذا قلت كمية العمل بسبب تزايد الآلات، انخفضت القيمة وتقلص الربح، الذي يعبر عن جزء من القيمة المنتجة. وإذا كان قانون انخفاض الربح، الذي يعبر عن جزء من القيمة المنتجة. وإذا كان قانون انخفاض الربح مرتكزا على تلك القاعدة، في دراستنا السابقة، ويصبح من الممكن علميا أن يتناقض معدل الربح بزيادة الآلات والمواد الخام، وانخفاض كمية العمل، ما دام العمل ليس هو الجوهر الوحيد للقيمة.
ولنأخذ - بعد ذلك - قانون البؤس المتزايد. إن هذا القانون يقوم على أساس التعطل، الناتج عن إحلال الآلات والوسائل الحديثة محل العمال، في عملية الإنتاج، فكل جهاز أو تحسين جديد في الجهاز، يقذف بعدد من العمال إلى الشارع. ولما كانت حركة الإنتاج في تقدم مستمر، فسوف ينمو جيش العاطلين الذي يطلق عليه ماركس اسم: الجيش الاحتياطي للرأسماليين، وينمو تبعا له البؤس والفاقة، والموت جوعا هنا وهناك.
وفي الحقيقة أن هذا القانون استمده ماركس من تحليل (ريكاردو) للآلات، وأثرها على حياة العمال فقد سبق (ريكاردو) إلى نظرية التعطل، بسبب تضاءل الحاجة إلى الأيدي العاملة، بعد صنع المقدار المطلوب من الآلات الأكثر كفاية. وقد أضاف ماركس إلى ذلك ظاهرة أخرى، تنجم عن إحلال الآلات محل العمل، وهي إمكان إشغال أي إنسان سوي في عملية الإنتاج الآلي، حتى النساء
211

والأطفال، دون حاجة إلى خبرة سابقة. وبهذا يستبدل العمال الماهرون بغيرهم، بأجور أرخص، وتهبط قدرة العمل المساومة في الأجور، وبالتالي يزداد البؤس ويتفاقم يوما بعد يوم.
وحينما وجد الماركسيون - بعد ماركس: ان البؤس في المجتمعات الرأسمالية والأوروبية والأمريكية، لا ينمو ولا يشتد وفقا لقانون ماركس، اضطروا إلى تأويل القانون، فزعموا: أن البؤس النسبي في تزايد، وإن كانت حالة العمال إذا أخذت بصورة منعزلة عن حالة الرأسماليين... تتحسن على مر الزمن، بسبب شتى المؤثرات والعوامل، وفي هذا نجد مثالا من عدة أمثلة، بيناها خلال دراستنا لخلط الماركسية، بين قوانين الإقتصاد والحقائق الاجتماعية، والدمج بينما بطريقة تؤدي إلى نتائج خاطئة، بسبب إصرار الماركسية على تفسر المجتمع كله في ضوء الظواهر الاقتصادية. ولنفترض مثلا: أن الحالة النسبية للعمال تتردى على مر الزمن - أي حالتهم بالنسبة إلى الرأسماليين - ولكنها من ناحية أخرى - بما هي حالية منظورا إليها بصورة مستقلة - تتحسن وتزداد رخاء وسعة.. فمن حق الماركسية - إذ صح هذا - أن تعبر عن هذا الظاهرة تعبيرا اقتصاديا محددا، ولكن ليس من حقها أن تعبر عنها تعبيرا اجتماعيا فتعلن عن ضرورة تزايد البؤس في المجتمع. فإن تردي الحالة النسبة لا يعني بؤسا، ما دامت تتحسن بصورة مستقلة. وإنما اضطرت الماركسية إلى هذا التعبير بالذات، لتصل عن طريق ذلك إلى استكشاف القوة الحتمية الدافعة إلى الثورة، وهي البؤس المتعاظم باستمرار. ولم تكن الماركسية لتصل إلى هذا الكشف، لو لم تستعر للظواهر الاقتصادية أسماء اجتماعية، ولو لم تطلق على حالة التردي النسبي اسم: البؤس:
وأخيرا، فما هي أسباب الحاجة والفاقة، التي كان يجدها ماركس مخيمة على المجتمع الرأسمالي.
إن الحاجة والفاقة وألوان الفقر والتسكع، لم تنشأ عن السماح بالملكية الخاصة لوسيلة الإنتاج، وإنما نشأت عن الإطار الرأسمالي لهذه الملكية، عن اكتساح هذه
212

الملكية الخاصة لكل وسائل الإنتاج، وعدم الاعتراف بمبدأ الملكية العامة إلى جانبه، ولا بحقوق ثابتة في الأموال الخاصة للضمان الاجتماعي، ولا بحدود خاصة لتصرفات المالكين في أموالهم. وأما إذا سمح المجتمع بالملكية الخاصة لوسيلة الإنتاج، ووضع إلى جانب ذلك مبادئ الملكية العامة لقسم كبير من وسائل الإنتاج، والضمان الاجتماعي، والحرية الاقتصادية المحدودة بحدود من المصلحة العامة، تحول دون تمركز الأموال في أيدي فئة قليلة.. أما إذا قام المجتمع بذلك كله، فلن يوجد في المجتمع الذي يوفق بين هذه المبادئ، ظل للبؤس أو ظاهرة من ظواهر الحاجة والشقاء التي نبعت من طبيعة النظام الرأسمالي في المجتمعات الأوربية.
وأما الاستعمار، فقد رأينا أن الماركسية تفسره تفسيرا اقتصاديا خالصا أيضا فتعتبره نتيجة حتمية للمرحلة العليا من الرأسمالية، حين تعود الأسواق والخيرات الداخلية، غير كافية لتمشية مصالح الطبقة الرأسمالية، فتضطر إلى امتلاك أسواق وخيرات البلاد الخارجية عن طريق الاستعمار.
ولكن الواقع: أن الاستعمار ليس تعبيرا اقتصاديا عن المرحلة المتأخرة من الرأسمالية، وإنما هو التعبير العملي بصورة أعمق عن العقلية المادية بمقاييسها الخلقية، ومفاهيمها عن الحياة، وأهدافها وغاياتها، فإن هذه العقلية هي التي جعلت الحصول على أكبر ربح مادي ممكن، هو الهدف الأعلى، بقطع النظر عن نوعية الوسائل، وطابعها الخلقي، ونتائجها في المدى البعيد.
والدليل على هذا من الواقع، أن الاستعمار بدأ منذ بدأت الرأسمالية وجودها التاريخي في المجتمعات الأوربية، بعقليتها ومقاييسها، ولم ينتظر حتى تصل الرأسمالية إلى مرحلتها العليا، ليكون تعبيرا عن ضرورة اقتصادية خالصة. فقد اقتسمت الدول الأوروبية البلاد الضعيفة، في مطلع الرأسمالية بكل وقاحة واستهتار. فكان لبريطانيا الهند وبورما وجنوب أفريقيا ومصر والسودان وغيرها.. ولفرنسا الهند الصينية والجزائر ومراكش
وتونس ومدغشكر وغيرها من المستعمرات، وكان لألمانيا
213

قطاعات في غربي أفريقيا وجزر الباسفيك، ولإيطاليا طرابلس الغرب والصومال، ولبلجيكا بلاد الكونغو، ولروسيا قطاعات في آسيا، ولهولندا جزائر الهند.
فالسبب الأصيل والأسبق للاستعمار، يكمن في الواقع الروحي والمزاج الخلقي للمجتمع، لا في مجرد السماح بالملكية الخاصة لوسيلة الإنتاج. فإذا سمح بهذه الملكية في مجتمع يتمتع بواقع روحي وخلقي وسياسي، يختلف عن الواقع الرأسمالي.. فليس الاستعمار بمفهومه الرأسمالي قانونا حتميا له.
وأما الاحتكار، فهو الآخر ليس - أيضا - نتيجة حتمية للسماح بالملكية الخاصة لأداة الإنتاج، وإنما هو نتيجة للحريات الرأسمالية بشكلها المطلق، وللمبدأ القائل: بعدم جواز التدخل في مجرى الحياة الاقتصادية للناس. أما حين توضع للملكية الخاصة قيودها وحدودها، ويجعل النشاط الاقتصادي تحت مراقبة دقيقة، تستهدف الحيلولة دون الإحتكار وتحكم فئة قليلة في الأسواق التجارية. فسوف لا يجد الاحتكار طريقه الرأسمالي المعبد، إلى التحكيم والتدمير.
214

المذهب الماركسي
تمهيد
قلنا في مستهل هذا الكتاب: إن المذهب الاقتصادي عبارة عن نهج خاص للحياة، يطالب أنصاره بتطبيقه لتنظيم الوجود الاجتماعي على أساسه، بوصفه المخطط الأفضل، الذي يحقق للانسانية ما تصبو اليه من رخاء وسعادة، على الصعيد الاقتصادي، وأما العلوم الاقتصادية، فهي دراسات منظمة للقوانين الموضوعية، التي تتحكم في المجتمع كما تجري في حياته الاقتصادية. فالمذهب: تصميم عمل ودعوة. والعلم: كشف أو محاولة كشف عن حقيقة وقانون لهذا السبب كان المذهب عنصرا فعالا وعاملا من عوامل الخلق والتجديد. وأما العلم فهو يسجل ما يقع في مجرى الحوادث الاقتصادية كما هو دون تصرف أو تلاعب.
وعلى هذا الأساس فصلنا بين المادية التاريخية والمذهب الماركسي في بحثنا هذا (مع الماركسية) فالمادية التاريخية التي تناولناها في القسم الأول من البحث، هي: علم قوانين الإنتاج في تطوره ونموه، ونتائجه الاجتماعية في مختلف الحقول الاقتصادية والسياسية والفكرية، وبكلمة أخرى: هي علم الاقتصاد الماركسي، الذي يفسر التاريخ كله تفسيرا اقتصاديا، في ضوء القوى المنتجة، والمذهب الماركسي: هو
215

النظام الاجتماعي الذي تتزعم الماركسية الدعوة اليه، وقيادة الإنسانية إلى تحقيقه. فالماركسية تقف في المادية التاريخية، موقف العالم الطبيعي من قوانين الطبيعة. وتقف بصفتها المذهبية، موقف الدعوة والتبشير.
وبالرغم من هذين الوجهين المختلفين للعلم والمذهب، فإن الصلة وثيقة جدا بين المادية التاريخية والماركسية المذهبية. لأن المذهب - الذي تتبنى الماركسية الدعوة إليه - ليس في الحقيقة إلا تعبيرا قانونيا، وشكلا تشريعيا لمرحلة معينة من مراحل المادية التاريخية، وجزءا محدودا من المنحنى التاريخي العام، الذي تفرضه حركة الإنتاج الصاعدة، وقوانين تطوره وتناقضاته. فالماركسية حين تتقمص ثوب الداعية المذهبي، إنما تعبر بذلك عن الحقيقة التاريخية لتلك القوانين. فهي لا تنظر الدعوة إلا بوصفها تنفيذا لإرادة التاريخ وتحقيقا لمقتضيات العامل الاقتصادي، الذي يقود القافلة البشرية اليوم نحو مرحلة جديدة هي المرحلة التي تتجسد فيها مخططات المذهب الماركسي.
ولهذا السبب كان يطلق ماركس على مذهبه اسم: (الاشتراكية العلمية)، تمييزا لها عن سائر الإشتراكيات، التي عبر أصحابها فيها عن اقتراحاتهم ومشاعرهم النفسية، وليس عن الضرورة التاريخية وقوانينها، فصاغوا مذاهبهم بعيدين عن الحساب العلمي ودراسة القوى المنتجة ونموها.
وفي المذهب الماركسي مرحلتان تطالب الماركسية - من ناحية مذهبية - بتطبيقهما تباعا، وتؤكد - من ناحية المادية التاريخية - على ضرورتهما التاريخية كذلك، وهما المرحلة الاشتراكية، ثم الشيوعية. فالشيوعية تعتبر - من وجهة رأي المادية التاريخي - أعلى مرحلة من مراحل التطور البشري. لأنها المرحلة التي يحقق فيها التاريخ معجزته الكبرى، وتقول فيها وسائل الإنتاج كلمتها الفاصلة. وأما المرحلة الاشتراكية التي تقوم على أنقاض المجتمع الرأسمالي، وتحتل موقع الرأسمالية مباشرة، فهي: من ناحية تعبر عن الثورة التاريخية المحتومة على الرأسمالية حين تأخذ بالاحتضار، ومن ناحية أخرى تعتبر شرطا ضروريا لإيجاد المجتمع الشيوعي، وقيادة السفينة إلى شاطئ التاريخ.
216

ما هي الاشتراكية والشيوعية؟
ولكل من المرحلتين - الاشتراكية والشيوعية - معالمها الرئيسية، التي تميزها عن المرحلة الأخرى. فإن المرحلة الاشتراكية تتلخص معالمها الرئيسية وأركانها الأساسية فيما يلي:
أولا: محو الطبقية وتصفية حسابها نهائيا بخلق المجتمع اللا طبقي.
وثانيا: استلام البروليتاريا للأداة السياسية، بإنشاء حكومة دكتاتورية قادرة على تحقيق الرسالة التاريخية للمجتمع الاشتراكي.
وثالثا: تأميم مصادر الثروة ووسائل الإنتاج الرأسمالية في البلاد - وهي الوسائل التي يستثمرها مالكها عن
طريق العمل المأجور - واعتبارها ملكا للمجموع.
ورابعا: قيام التوزيع على قاعدة: (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله).
وعندما تصل القافلة البشرية إلى قمة الهرم التاريخي، أو إلى الشيوعي الحقيقية... يحدث التطور والتغير في أكثر تلك المعالم والأركان. فالشيوعية تحتفظ بالركن الأول من أركان الاشتراكية، وهو محو الطبقية، وتتصرف في سائر مقوماتها وأركانها الأخرى. فبالنسبة إلى الركن الثاني، تضع الشيوعية حدا نهائيا لقصة الحكومة والسياسية على مسرح التاريخ، حيث تقضي على حكومة البروليتاريا، وتحرر المجتمع من نير الحكومة وقيودها. كما أنها لا تكتفي بتأميم وسائل الإنتاج الرأسمالية فحسب، كما تقرر الاشتراكية في الركن الثالث، بل تذهب إلى أكثر من هذا، فتلغي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الفردية أيضا (وهي التي يستثمرها المالك بنفسه لا عن طريق الأجراء). وكذلك تحرم الملكية الخاصة إلغاء تاما في الحقلين الإنتاجي والاستهلاكي معا، وكذلك تجري تعديلا حاسما في القاعدة التي يقوم على أساسها التوزيع في الركن الرابع، إذ تركز التوزيع على قاعدة (من كل حسب طاقته ولكل على حسب حاجته).
217

هذا هو المذهب الماركسي بكلتا مرحلتيه، الاشتراكية والشيوعية ومن الواضح أن لدراسة المذهب - أي مذهب - أساليب ثلاثة:
الأول: نقد المبادئ والأسس الفكرية، التي يرتكز عليها المذهب.
والثاني: دراسة مدى انطباق تلك المبادئ والأسس على المذهب، الذي أقيم عليها.
والثالث: بحث الفكرة الجوهرية في المذهب من ناحية إمكان تطبقها، ومدى ما تتمتع به الفكرة من واقعية وإمكان آخر استحالة وخيال.
وسوف نأخذ في دراستنا للمذهب الماركسي، بهذه الأساليب الثلاثة مجتمعة.
نقد المذهب بصورة عامة
ونواجه منذ البدء في دارسة الماركسية المذهبية - على ضوء الأساليب السابقة - أهم وأخطر سؤال، على صعيد البحث المذهبي، وهو السؤال عن الدليل الأساسي الذي يرتكز عليه المذهب، ويبرز بصورة منطقية الدعوة إليه وتبنيه، وبالتالي تطبيقه وبناء الحياة على أساسه.
إن ماركس لا يستند في تبرير الاشتراكية والشيوعية، إلى قيم ومفاهيم حلقية معينة في المساواة، كما يتجه إلى ذلك غيره من الاشتراكيين، الذين يصفهم ماركس بأنهم خياليون. وذلك لأن القيم والمفاهيم الخلقية، ليست في أي الماركسية إلا وليدة العامل الاقتصادي، والوضع الاجتماعي للقوى المنتجة. فلا معنى للدعوة إلى وضع اجتماعي على أساس خلقي بحت.
وإنما يستند ماركس إلى قوانين المادية التاريخية، التي تفسر حركة التاريخ في ضوء تطورات القوى المنتجة وأشكالها المختلفة. فهو يعتبر تلك القوانين الأساس العلمي للتاريخ، والقوة التي تصنع له مراحله المتعاقبة في نقاط زمنية محددة، وفقا لوضع القوى المنتجة وشكلها الاجتماعي السائد.
ويرى في هذا الضوء: أن الاشتراكية نتيجة محتومة لتلك القوانين، التي تعمل عملها الصارم في سبيل تحويل المرحلة الأخيرة للطبقة، وهي المرحلة الرأسمالية، إلى
218

مجتمع اشتراكي لا طبقي. أما كيف تعمل قوانين المادية التاريخية الماركسية على أنقاض الرأسمالية؟ ‍!، فهذا ما يشرحه ماركس - كما مر بنا سابقا - في بحوثه التحليلية للاقتصاد الرأسمالية - وفقا لقوانين المادية التاريخية - إلى حتفها، وتصل بالركب البشري إلى المرحلة الاشتراكي وبكلمات قلائل: أن قوانين المادية التاريخية هي القاعدة العامة لكل مراحل التاريخ، في رأي ماركس، والأسس التحليلية في الاقتصاد الماركسية - كقانون القيمة ونظرية القيمة الفائضة - عن محاولة تطبق تلك القوانين على المرحلة الرأسمالية، والاشتراكية المذهبية هي النتيجة الضرورية لهذا التطبيق، والتعبير المذهبي عن المجرى التاريخي المحتوم للرأسمالية، كما تفرضه القوانين العامة للتاريخ.
ونحن في بحثنا الموسع عن المادية التاريخية - بقوانينها ومراحلها - قد انتهينا إلى نتائج غير ماركسية. فقد عرفنا بوضوح أن الواقع التاريخي للانسانية لا يسير في موكب المادية التاريخية، ولا يستند محتواه الاجتماعي من وضع القوى المنتجة وتناقضاتها وقوانينها. كما تبينا - من خلال دراستنا لقوانين الإقتصاد الماركسي - خطأ الماركسية - في الأسس التحليلية. التي فسرت في ضوئها تناقض الرأسمالية من جهات شتى، وزحفها المستمر نحو نهايتها المحتومة. فان تلك التناقضات كانت ترتكز كلها على القانون الماركسي للقيمة، ونظرية القيمة الفائضة. فإذا انهارت هاتان الركيزتان، تداعى البناء كله.
وحتى إذا افترضنا أن الماركسية كانت على صواب في دراستها التحليلية للاقتصاد الرأسمالي، فإن تلك الأسس إنما تكشف عن القوة أو التناقضات، التي تحكم على الرأسمالية بالموت البطئ، حتى تلفظ آخر أنفاسها، ولكنها لا تبرهن على أن الاشتراكية الماركسية هي البديل الوحيد الذي يحل محل الرأسمالية، في المجرى التاريخي للتطور. بل هي تفسح المجال لأشكال اقتصادية متعددة أن تحتل مركز الرأسمالية من المجتمع، سواء الاشتراكية الماركسية، كاشتراكية الدولة بلون من
219

ألوانها، أو الاقتصاد المزدوج من أشكال متعددة للملكية، أو إعادة توزيع الثروة من جديد على المواطنين في إطار الملكية الخاصة، وما إلى ذلك من أشكال تعالج أزمة الرأسمالية، دون الاضطرار إلى الاشتراكية الماركسية.
وبذلك تخسر الماركسية المذهبية برهانها العلمي، وتفقد طابع الضرورة التاريخية الذي كانت تستمده من قوانين المادية التاريخية، والأسس الماركسية في التاريخ والاقتصاد. وبعد أن تنزع الفكرة المذهبية عنها الثوب العلمي. تبقى في مستوى سائر الاقتراحات المذهبية.
220

1 - الاشتراكية:
ولنأخذ الآن بدراسة الأركان والمعالم الرئيسية للاشتراكية، بشيء من التفصيل.
فالركن الأول: هو محو الطبقية، الذي يضع حدا فاصلا لما زخر به تاريخ البشرية - على مر الزمن - من ألوان الصراع. لأن مرد تلك الألوان إلى التناقض الطبقي، الذي نتج عن انقسام المجتمع إلى مالكين ومعدمين فإذا قامت الاشتراكية وحولت المجتمع إلى طبقة واحدة، زال التناقض الطبقي، واختفت كل ألوان الصراع، وساد الوئام والسلام إلى الأبد.
وتقوم الفكرة في هذا على أساس رأي المادية التاريخية القائل: إن العامل الاقتصادي هو العامل الأساسي الوحيد في حياة المجتمع. فقد أدى هذا الرأي مالكين ومعدمين، هي الأساس الواقعي للتركيب الطبقي في المجتمع. ولكن ما يتمخض عنه هذا التركيب من تناقض وصراع. وما دام المجتمع الاشتراكي يلغي الملكية الخاصة، ويؤمم وسائل الإنتاج، فهو ينسف الأساس التاريخي للطبقية، ويصبح من المستحيل أن يواصل التركيب الطبقي وجوده، بعد زوال الشروط الاقتصادية التي كان يرتكز عليها.
وقد عرفنا في دراستنا للمادية التاريخية: ان العامل الاقتصادي، ووضع الملكية الخاصة، ليس هو الأساس الوحيد لكل التركيبات الطبقية على مسرح التاريخ. فكم من تركيب طبقي كان يقوم على أسس عسكرية أو سياسية أو دينية؟! كما رأينا فيما
221

سبق. فليس من الضروري تاريخيا أن تختفي الطبقية بإزالة الملكية الخاصة، بل من الممكن أن يحدث للمجتمع الاشتراكي تركيب طبقي على أساس آخر.
ونحن إذا حللنا المرحلة الاشتراكية، وجدنا أنها تؤدي - بطبيعتها الاقتصادية والسياسية - إلى خلق لون جديد من التناقض الطبقي، بعد القضاء على الأشكال الطبقية السابقة.
أما الطبيعة الاقتصادية للمرحلة الاشتراكية، فتمثل في مبدأ التوزيع القائل (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله) وسوف نرى عند دراسة هذا المبدأ: كيف أنه يؤدي إلى خلق التفاوت من جديد؟ فلنأخذ الآن الطبيعة السياسية للمرحلة الاشتراكية بالبحث والتمحيص.
إن الشرط الأساسي للتجربة الثورية الاشتراكية، أن تتحقق على أيدي ثوريين محترفين يتسلمون قيادتها. إذ ليس من المعقول أن تباشر البروليتاريا، بجميع عناصرها، قيادة الثورة وتوجيه التجربة، وإنما يجب أن تمارس نشاطها الثوري في ظل القيادة والتوجيه. ولذلك أكد لينين، بعد فشل ثورة (1905) على: أن الثوريين المحترفين، هم وحدهم الذين يستطيعون أن يؤلفوا حزبا جديدا بلشفي الطراز... وهكذا نجد أن القيادة الثورية للطبقة العاملة، كانت ملكا طبيعيا لمن يدعون أنفسهم بالثوريين المحترفين، كما كانت القيادة الثورية للفلاحين والعمال في ثورات سابقة، ملكا لأشخاص ليسوا من الفلاحين والعمال، مع فارق واحد بين الحالين، وهو أن الامتياز القيادي للأشخاص في المرحلة الاشتراكية لا يعبر عن نفوذ اقتصادي، وإنما ينشأ عن خصائص فكرية وثورية وحزبية خاصة. وقد كان هذا اللون الثوري والحزبي ستارا على واقع التجربة الاشتراكية التي مرت بها أوروبا الشرقية، حجب الحقيقة عن الناس، فلم يستطيعوا أن يتبينوا - بادئ الأمر - في تلك القيادة الثورة للتجربة الاشتراكية، بذرة لأفظع ما تصف الماركسية من ألوان الطبقية في التاريخ. لأن هذه القيادة يجب أن تستلم السلطة بشكل مطلق لطبيعة المرحلة الاشتراكية في رأي الماركسية القائل: بضرورة قيام دكتاتورية وسلطة مركزية مطلقة، لتصفية
222

حسابات الرأسمالية نهائيا. فقد وصف لينين طبيعة السلطة في جهاز الحزب، التي تمتلك السلطة الحقيقية في البلاد خلال الثورة قائلا:
(في المرحلة الراهنة من الحرب الأهلية الحادة، لا يمكن لحزب شيوعي أن يقدر على أداء واجبه، إلا إذا كان منظما بأقصى نمط مركزي وإلا إذا سيطر جهازه المركزي جهازا قويا متسلطا يتمتع بصلاحيات واسعة وبثقة أعضاء الحزب الكلية).
وأضاف ستالين إلى ما تقدم:
(هذا هو الوضع فيما يتعلق بالنظام في الحزب، أثناء فترة الكفاح التي تسبق تحقيق الديكتاتورية، ويجب - بل حتى إلى درجة أعظم - أن يقال الشيء ذاته عن النظام في الحزب بعد أن يكون قد تم تحقيق الدكتاتورية).
فالتجربة الاشتراكية إذن تتميز بصورة خاصة عن سائر التجارب الثورية، بأنها مضطرة كما يرى أقطابها - إلى الاستمرار في النهج الثوري. والأسلوب المطلق في الحكم، داخل نطاق الحزب وخارجه، من أجل خلق
الإنسان الاشتراكي الجديد، البريء من أمراض المجتمعات الطبقية وميولها الاستغلالية التي عاشتها الإنسانية آلاف السنين.
وهكذا يصبح من الضروري أن يباشر الثوريون القادة، ومن يدور في فلكهم الحزبي، السلطة بشكل غير محدود، ليتأتى لهم تحقيق المعجزة وصنع الإنسان الجديد.
وحين نصل إلى هذه المرحلة من تسلسل التجربة الاشتراكية، نجد أن هؤلاء القادة في الجهاز الحزبي والسياسي وأنصارهم، يتمتعون بإمكانات لم تتمتع بها أكثر الطبقات على مر التاريخ، ولا يفقدون من خصائص الطبقة شيئا، فهم قد كسبوا سلطة مطلقة على جميع الممتلكات، ووسائل الإنتاج المؤممة في البلاد، ومركزا سياسيا يتيح لهم الانتفاع بتلك الممتلكات، والتصرف بها طبقا لمصالحهم الخاصة، وإيمانا راسخا بأن سيطرتهم المطلقة تكفل السعادة والرخاء لجميع الناس كما كانت تؤمن بذلك الفئات السابقة. التي مارست الحكم في العهود الاقطاعية والرأسمالية.
223

والفرق الوحيد بين طبقة هؤلاء الثوريين الحاكمين، وسائر الطبقات التي حدثتنا الماركسية عنها: أن تلك الطبقات كانت توجد وتنمو - في رأي الماركسيين - تبعا لعلاقات الملكية القائمة بين الناس. وطبيعة هذه العلاقات هي التي كانت تحدد اندراج هذا الشخص ضمن هذه الطبقة أو تلك. وأما هؤلاء المالكون الجدد في المرحلة الاشتراكية، فليست طبيعة الملكية هي التي تحدد اندراجهم في الطبقة الحاكمة. فلا يندرج هذا الشخص أو ذاك في الطبقة الحاكمة لأن له ملكية خاصة بدرجة معينة في المجتمع، كما كانت تفترض الماركسية بالنسبة إلى المجتمعات الطبقية السابقة، بل العكس هو الذي يصدق على المجتمع الاشتراكي الماركسي. فإن هذا أو ذلك يتمتع بامتيازات خاصة، أو المحتوى الحقيقي للملكية لأنه مندرج في الطبقة الحاكمة.
وتفسير هذا الفرق بين الطبقة في المجتمع الاشتراكي، وغيرها من الطبقات.. واضح. فإن هذا الطبقة لم تولد على الصعيد الاقتصادي، الذي ولدت عليه سائر الطبقات في زعم الماركسية، وإنما نشأت ونمت على الصعيد السياسي، ضمن تنظيم ذي طراز معين، قائم على أسس فلسفية وعقائدية وفكرية خاصة، أي ضمن الحزب الثوري الذي يتزعم التجربة. فالحزب بنظامه وحدوده الخاصة هو مصنع هذه الطبقة الحاكمة.
وتنحصر مظاهر هذه الطبقة الحزبية، فما يتمتع به أفراد هذه الطبقة من امتيازات الإدارة غير المحدودة، التي تمتد من إدارة الدولة وإدارة المؤسسات الصناعية ومشاريع الإنتاج.. إلى كل مناحي الحياة كما تنعكس أيضا في التناقضات الشديدة. بين أجور العمال ورواتب موظفي الحزب.
وفي ضوء الظروف الطبقية، التي تؤدي إليها المرحلة الاشتراكية الماركسية، يمكن أن نفسر ألوان التناقض والصراع على الصعيد السياسي، في العالم الاشتراكي، التي تتمثل أحيانا في عمليات تطهير هائلة. فإن الطبقة الممتازة في ظل التجربة الاشتراكية، وإن نشأت في داخل الحزب كما رأينا، إلا أنها من ناحية لا تشمل الحزب كله ومن ناحية أخرى يمكن أن تمتد إلى خارج نطاق الحزب، طبقا للظروف التي تكتنف القيادة ومتطلباتها.
224

ولذلك كان من الطبيعي أن تواجه الطبقة المتفردة بالامتياز، معارضة شديدة في داخل الحزب، من الأشخاص الذين لم تستوعبهم تلك الطبقة بالرغم من حزبيتهم، أو طردتهم من حضيرتها فأخذوا يعتبرون هذا التركيب الطبقي الجديد، خيانة للمبادئ التي ينادون بها.
وكذلك تواجه الطبقة الممتازة معارضة هائلة في خارج الحزب، ممن أتاح الواقع السياسي للفئة الممتازة أن تستثمرهم، على شكل امتيازات خاصة وحقوق معينة، وإحتكارات للأجهزة الإدارية والمرافق الحيوية في البلاد.
ويبدو من المنطقي - بعد ذلك - ان تحدث عمليات تطهير واسعة النطاق - كما يسمها الشيوعيون - بوصفها انعكاسا لتلك الظروف والتناقضات الطبقة. ومن الطبيعي أيضا أن تكون تلك العمليات هائلة في صرامتها وشمولها، تبعا لقوة المركز الطبقي الذي تتمتع به الفئة الحاكمة في الحزب والدولة.
ويكفينا لكي نتبين مدى الصرامة وقوة الشمول، التي تتسم بها تلك العمليات، أن نعلم أنها كانت تجري في الذروة العليا في كيان الحزب كما تجري في القاعدة، باستمرار وعنف قد يفوق كثيرا العنف الذي تعرضه الماركسية كطابع عام لأشكال التناقض الطبقي المختلفة في التاريخ. فقد شملت عمليات التطهير في مرة تسعة وزراء من أعضاء الوزارة الأحد عشر، الذين كانوا يديرون دفة الحكومة السوفياتية عام (1936)، وشملت أيضا خمسة رؤساء من الرؤساء السبعة للجنة السوفيات التنفيذية المركزية، التي وضعت دستور 1936، واكتسحت ثلاثة وأربعين أمينا من أمناء سر منظمة الحزب المركزية، الذين كان يبلغ مجموعهم ثلاثة وخمسين أمينا، وكذلك سبعين عضوا من أعضاء المجلس الحزب الثمانين، وثلاثة من مارشالات الجيش السوفياتي الخمسة، و 60 % تقريبا من مجموع جنرالات السوفيات، وجميع أعضاء المكتب السياسي الأول الذي أنشأه لينين بعد الثورة، باستثناء ستالين. كما أدت عمليات التطهير إلى طرد ما يزيد على مليونين من أعضاء الحزب، وما حل عام (1939) حتى كان عدد أعضاء الحزب الرسمي مليونين ونصف المليون عضو،
225

وعدد المطرودين مليونين عضو، وبذلك كاد الحزب الشيوعي المطرود أن يوازي الحزب الشيوعي نفسه.
ولا نرمي من وراء هذا إلى التشهير بالجهاز الحاكم في المجتمع الاشتراكي - وليس التشهير من شأن هذا الكتاب - وإنما نرمى إلى تحليل المرحلة الاشتراكية تحليلا علميا، لنجد: كيف تؤدي بطبيعتها المادية الدكتاتورية، إلى ظروف طبقية تتمخض عن ألوان رهيبة من الصراع؟ ‍! وإذا بالتجربة التي جاءت لتمحو الطبقية، قد أنشأتها من جديد.
والسلطة الدكتاتورية - التي هي الركن الثاني في المرحلة الاشتراكية - ليست ضرورية لأجل تصفية حساب الرأسمالية فحسب، كما تزعم الماركسية، إذ تعتبرها ضرورة مؤقتة، تستمر حتى يقضى على كل خصائص الرأسمالية الروحية والفكرية والاجتماعية.. وإنما تعبر عن ضرورة أعمق في طبيعة الاشتراكية الماركسية، المؤمنة بضرورة التخطيط الاقتصادي الموجه، لكل شعب النشاط الاقتصادي في الحياة. فإن وضع مثل هذا التخطيط وتنفيذه يتطلب سلطة قوية لا تخضع للمراقبة، وتتمتع بإمكانات هائلة، ليتاح لها أن تقبض بيد حديدية على كل مرافق البلاد، وتقسمها وفقا لمخطط دقيق شامل. فالتخطيط الاقتصادي المركزي يفرض على السلطة السياسية طبيعة دكتاتورية إلى حد بعيد وليست مهمة تصفية الجو من التراث الرأسمالي، وهي وحدها التي تفرض هذا اللون السياسي من الحكم.
ونصل بعد هذا إلى التأميم، بوصفه الركن الثالث للمرحلة الاشتراكية. والفكرة العلمية في التأميم تقوم على: أساس تناقضات القيمة الفائضة، التي تتكشف عنها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، في رأي ماركس. فإن هذه التناقضات تتراكم، حتى يصبح تأميم كل وسائل الإنتاج ضرورة تاريخية لا محيد عنها.
وقد مر بنا الحديث عن هذه التناقضات المزعومة، وكيف أنها تقوم على أسس
226

تحليلية خاطئة؟! ومن الطبيعي أن تمنى النتائج بالخطأ إذا كانت الأسس التي يقوم عليها التحليل مضللة وغير صحيحة.
وأما الفكر المذهبية في التأميم فتتلخص: في محو الملكية الخاصة وتتويج المجموع بملكية وسائل الإنتاج في البلاد كلها كما يملكها الآخرون.
غير أن هذه الفكرة تصطدم بواقع هو الواقع السياسي للمرحلة الاشتراكية الذي يتجسم في طبقة تتمتع بحكم دكتاتوري مطلق في أجهزة الحزب والدولة. فلا يكفي في هذه الحال أن تلغى المكية الخاصة قانونيا، ويتم الإعلان عن ملكية المجموع للثروة.. ليتمتع هذا المجموع بملكيتها حقا، ويجد محتواها الحقيقي في حياته التي يعيشها. بل ان طبيعة الموقف السياسي سوف تجعل حظ المجموع في تملكه حظا قانونيا فحسب، وتسمح للطبقة الحاكمة أن تتمتع بالمحتوى الحقيقي للملكية، الذي يتمثل في سيطرتها المطلقة على مقدرات البلاد وثرواتها. وهكذا تحصل هذه الطبقة على نفس الفرص، التي كان الرأسماليون الاحتكاريون يتمتعون بها في المجتمع الرأسمالي، إذ تقف - فوق الأنظمة - وراء كل عمل من أعمال الدولة، وتحتكر لنفسها حق تمثيل المجتمع اللا طبقي والتصرف في ممتلكاته، وتصبح - في هذه اللحظة - أقدر من أي رأسمالي آخر على سرقة القيمة الفائضة، فما هي الضمانات العلمية في هذا المجال؟!
وإذا أردنا أن نستعير من الماركسية لغتها، أمكننا القول: بأن التأميم في المجتمع الاشتراكي الماركسي، يبرز تناقضا بين الملكية الاشتراكية للمجموع والجوهر الحقيقي للملكية الذي تتمتع به الطبقة الحاكمة. فإن الملكية - بجوهرها الواقعي - ليست إلا السلطة على الثروة والقدرة على التمتع بها بمختلف الأساليب. وهذا الجوهر هو الذي تتمتع به القوة السياسية، المهيمنة على كل كيانات المجتمع وينعكس على الصعيد القانوني بكل امتيازات وحقوق ليست في الحقيقة إلا ستارا مزيفا، وترجمة قانونية لجوهر الملكية الحقيقي، غير أن هذا المالك الجديد في المجتمع
227

الاشتراكي الماركسي، يختلف عن أي مالك سابق في نقطة، وهي أنه لا يستطيع ان يعترف بملكيته قانونيا، لأن ذلك يناقض طبيعة موقفه السياسي. فالاشتراكية - بحكم طبيعتها السياسية - تحمل بذرة هذا المالك الجديد وتخلقه عبر تجربتها، وان كانت تفرض عليه في نفس الوقت أن ينكر دوره الحقيقي في الحياة الاقتصادية وتجعله أكثر حياء وخجلا من الرأسمالي، الذي كان يعلن بكل وقاحة عن ملكيته الخاصة.
وليس التأميم في الاشتراكية الماركسية حدثا فريدا في التاريخ، فقد وقعت تجارب سابقة لفكرة التأميم عبر التاريخ، إذ قامت بعض الدول القديمة بتأميم كل وسائل الإنتاج، وحصلت بسبب ذلك على مكاسب تشابه تماما المكاسب، التي حصلت عليها الاشتراكية الماركسية في تجربتها. ففي بعض الممالك الهيلينستية وفي مصر خاصة اتبعت الدولة مبدأ التأميم، وأخضعت الإنتاج والمبادلة لإشرافها، وتولت بنفسها إدارة معظم فروع، الإنتاج، فجلب هذا النظام للدولة فوائد كبيرة، ولكنه حيث كان ينفذ في إطار سلطة فرعونية مطلقة، لم يستطع بعد ذلك أن يخفي جوهره. فإن التأميم في ظل سلطة مطلقة تنشئ الملكية الجماعية لتوسعة الإنتاج، لا يمكن أن يؤدي واقعيا إلا إلى تملك السلطة نفسها، وتحكمها في الممتلكات المؤممة.. ولهذا ظهرت في التجربة القديمة خيانة الموظفين، واستبداد السلطة التي كانت تتجسد في شخص الملك، حتى قفز الملك إلى درجة (إله) وأصبحت القوى الهائلة تنفق كلها لحساب هذا الإله الحاكم، وتحقيق رغباته من بناء المعابد والقصور والقبور.
ولم يكن من الصدفة أن تقترن تجربة التأميم في اقدم العهود الفرعونية... بنفس الظواهر التي اقترنت بها
تجربة التأميم الماركسية في العصر الحديث، من التقدم السريع في حركة الإنتاج. وتمتع السلطة بقوة تشتد وتنمو بشكل هائل، وانحرافها وإستبدادها بعد ذلك بالثروة المؤممة. فقد تقدمت حركة الإنتاج في ظل التجربة الحديثة للتأميم، كما تقدمت في ظل التأميم الفرعوني، لأن التسخير غير الحر، في الإنتاج، يثمر دائما التقدم السريع الموقوت في حركة الإنتاج. ونشأ التأميم في كل من التجربتين في ظل سلطة عليا، لا تعترف لنفسها بحدود لأن التأميم حينما يقصد منه
228

تنمية الإنتاج فحسب، يتطلب مثل هذه السلطة الحديدية.
ونتج عن ذلك في كل من التجربتين أيضا، استفحال أمر السلطة وتمتعها بالجوهر للملكية، لأن التأميم لم يقم على أساس روحي، أو قناعة بقيم خلقية للانسان، وإنما قام على أساس مادي، لتحقيق أكبر نصيب من الإنتاج فمن الطبيعي أن لا تجد السلطة تعارضا بين هذا الهدف المادي، وبين ما تحيط به نفسها من امتيازات ومتعة. ومن الطبيعي أيضا ان لا يقر الجهاز الحاكم الملكية العامة عمليا، إلا في حدود الدافع المادي الذي يدفعه إلى مضاعفة الإنتاج وتنميته.
ولا يبدو غريبا بعد ذلك، أن نجد جهاز الدولة في التجربة القديمة، وهو يضج بخيانات الموظفين وإثرائهم على حساب الممتلكات العامة، ونجد ستالين في التجربة الحديثة، وهو يضطر إلى الاعتراف بأن كبار رجال الدولة والحزب قد استغلوا فرصة انشغال دولتهم بالحرب الأخيرة، فجمعوا الأموال والثروات حتى أنه أذاع ذلك في منشور عممه على جميع أبناء الشعب.
فالتشابه بين التجربتين الاشتراكيتين واضح كل الوضوح، في الظواهر والنتائج، بالرغم من اختلاف ظروفهما المدنية وأشكال الإنتاج فيهما.
وهذا يشير إلى ان الجوهر في كلتا التجربتين واحد، مهما اختلفت الألوان والإطارات.
وهكذا نعرف أن كل تجربة للتأميم، تمنى بنفس النتائج إذا كانت في نفس الإطار السياسي للتجربة الماركسية، إطار السلطة المطلقة، وكان قادة الماركسية تجربتهم على أساسه، وهو تنمية الإنتاج التي هي القوة الدافعة للتاريخ على مر الزمن في مفاهيم المادية التاريخية.
وأما الركن الأخير من المرحلة الاشتراكية، فهو - كما سبق - مبدأ التوزيع القائل: من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله.
ويرتكز هذا المبدأ - من الناحية العلمية - على القوانين المادية التاريخية. فإن المجتمع
229

بعد أن يصبح طبقة واحدة، بموجب قانون الاشتراكية الحديثة، ولا تبقى طبقة عاملة وأخرى مالكة.. يكون من الضروري لكل فرد أن يعمل ليعيش. كما أن القانون الماركسي للقيمة القائل: أن العمل هو أساس القيمة. يجعل لكل عامل نصيبا من الإنتاج، بالقدر الذي يتفق مع كمية عمله. وهكذا يسير التوزيع على أن (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله).
وهذا المبدأ يأخذ بالتناقض مع الطبيعة اللا طبقية للمرحلة الاشتراكية. منذ أن يوضع موضع التنفيذ. فإن الأفراد يختلفون في أعمالهم تبعا لاختلاف كفاءاتهم، ولنوعية العمل ودرجة تعقيده. فهذا عامل لا يطيق من العمل ست ساعات، وذلك عامل أقوى منه بنية، يستطيع أن يعمل عشر ساعات في كل يم، وهذا عامل موهوب يملك من القريحة والنباهة ما يجعله يدخل تحسينات على طريقة الإنتاج، وينتج ضعف ما ينتجه الآخرون، وذلك عامل لم يؤاته الحظ، قد خلق للتقليد لا للابتكار، وهذا عامل فني مدرب يمارس إنتاج الأجهزة الكهربائية الدقيقة، وذاك عامل بسيط لا يمكن أن يستخدم إلا في حمل الأثقال، وثالث يعمل في الحقل السياسي ويتوقف على عمله مصير البلاد كلها.
واختلاف هذه الأعمال يؤدي إلى تفاوت القيمة التي تخلقها تلك الأعمال.
وليست هذه الألوان الصارخة من التفاوت بين نفس الأعمال، أو القيم الناتجة عنها، مستمدة من واقع اجتماعي معين، بل إن الماركسية نفسها تعترف بذلك، إذ تقسم العمل إلى: بسيط ومركب، وترى أن قيمة ساعة عمل مركب شديد التعقيد، قد تفوق بأضعاف قيمة ساعة من العمل البسيط.
والمجتمع الاشتراكي إذ يواجه هذه المشكلة، لا يوجد أمامه إلا سبيلان للحل.
أحدهما: أن يحتفظ بمبدأ التوزيع القائل: (لكل حسب علمه). فيوزع الناتج على الأفراد بدرجات مختلفة، وبذلك ينشئ الفروق الطبقية مرة أخرى، فيمنى المجتمع الاشتراكي بالتركيب من الرأسمالي طريقته في اقتطاع القيمة
230

الفائضة، على رأي ماركس، فيساوي بين جميع الأفراد في الأجور.
فالتطبيق - أو واقع المجتمع الاشتراكي القائم اليوم - يتجه إلى حل المشكلة بسلوك السبيل الأول، الذي يدفع المجتمع إلى التناقضات الطبقية من جديد ولذلك نجد أن النسبة بين الدخل المنخفض، والدخل الراقي في روسيا تبلغ على ما قيل 5 % و 1, 5 %، تبعا لاختلاف التقديرات، فقد وجد القادة الاشتراكيون: أن من المستحيل عمليا تنفيذ المساواة المطلقة، والنزول بأعمال العلماء والسياسيين والعسكريين إلى مستوى العمل البسيط، لأن ذلك يجمد النمو الفكري، ويعطل الحياة الفنية والعقيلة، ويجعل أكثر العمل وتعقد. ولهذا السبب نشأت الفوارق
والتناقضات في ظل التجربة الاشتراكية وقامت بعد ذلك السلطة الحاكمة بتعميق هذا الفوارق والتناقضات وفقا لطبيعتها السياسية، فأنشأت طبقة البوليس السري، وميزت عملها الجاسوسي بامتيازات ضخمة، وسخرتها لتدعيم كيانها الدكاتوري، ولم يستيقظ المجتمع بعد أن أسفر الصبح إلا عن نفس الواقع، الذي كانت تمنيه الاشتراكية بالخلاص منه.
وأما اتجاه النظرية في حل المشكلة: فقد جاءت إشارة إلى تجديد هذا الاتجاه في كتاب (ضد دوهرنك)، إذ عرض أنجلز المشكلة، وكتب في الجوانب عليها.
((كيف سنحل إذن مسألة دفع أعلى الأجور عن العمل المركب، وهي مسألة هامة برمتها؟. يدفع الأفراد أو عائلاتهم في مجتمع المنتجين الخاصين تكاليف تدريب العامل الكفؤ، لذا فإن الثمن العالي الذي يدفع عن القوة العاملة الكفوءة، لذا فإن الثمن العالي الذي يدفع عن القوة العاملة الكفوءة ناجم عن الأفراد أنفسهم. فالرقيق الماهر يباع بثمن عال، وكاسب الأجر والماهر تدفع له أجور عالية. إن المجتمع إذ يكون منظما تنظيما اشتراكيا فإنه هو الذي يتحمل هذه التكاليف. فإليه إذن تعود ثمراتها وهي القيم العالية التي ينتجها العمل المركب، ولا تكون زيادة الأجور مطلبا، من مطالب العامل)) (1).

(1) ضد دوهرنگ ج 2، ص 96.
231

وهذا الحل النظري لمشكلة الذي يقدمه أنجلز، يفترض أن القيم العالية التي يمتاز بها العمل المركب عن العمل البسيط، تعادل تكاليف تدريب العامل الكفؤ على العمل المركب. ونظرا إلى أن الفرد في المجتمع الرأسمالي يتحمل بنفسه تكاليف تدريبه، فيستحق تلك القيم التي نجمت عن تدريبه. وأما في المجتمع الاشتراكي فالدولة هي التي تنفق على تدريبه، فتكون وحدها صاحبة الحق في القيم العالية للعمل المركب، وليس للعامل الفني حينئذ أن يطالب بأجرة يزيد على أجر العامل البسيط.
ولكن هذا الافتراض يناقض الواقع، فإن القيم العالية التي يحصل عليها العامل السياسي العسكري، في مجتمع المنتجين الخاصين - في المجتمع الرأسمالي - تزيد كثيرا عن تكاليف دراسته للعلوم السياسية والعسكري، كما مر سابقا.
أضف إلى ذلك أن أنجلز لم يضع معالجته للمشكلة في صيغة دقيقة، تتفق مع الأسس العلمية المزعومة في الاقتصاد الماركسي، فقد غاب عن ذهن أنجلز أن السلعة التي ينتجها العامل الفني المدرب، لا يدخل في قيمتها - التي يخلقها العامل - ثمن تدريبه وأجور دراسته، وإنما الذي يحدد قيمتها كمية لعمل المنفقة على إنتاجها فعلا، مع كمية العمل التي أنفقها العامل خلال الدراسة والتدريب. فمن الممكن أن ينفق العامل عشر سنوات من العمل في التدريب، ويكلفه، ذلك ألف دينار، ويكون ثمن التدريب هذا - هو ألف دينار - معبرا عن كمية من العمل المختزن فيه، تقل عن عمل عشر سنوات. فأجرة التدريب - في هذا الفرض - تصبح أقل من القيمة التي ساهم عمل العامل خلال تدريبه في إيجادها، نظير تكاليف تجديد قوة العمل، التي تقل عن القيمة التي يخلقها العمل نفسه، كما تزعم نظرية القيمة الفائضة.
فما يصنع أنجلز إذا أصبحت كميه العمل، الماثلة في تكاليف تدريب العامل.. أقل من كمية العمل التي ينفقها العامل خلال التدريب؟! إن الدولة ليس من حقها في هذا الحال - على أساس الاقتصاد الماركسي - أن تقتطف ثمرات التدريب، وتسلب من العامل القيمة التي خلقها بعمله. في السلعة خلال التدريب، بوصفها قد دفعت
232

أجرة التدريب، لأن القيمة الزائدة التي يتمتع بها منتوج العامل الفني، لا تعبير عن تكاليف تدريبه وأجرة دراسته، بل عن العمل الذي قضاه العامل خلال الدراسة. فإذا زاد هذا العمل على كمية العمل المتمثلة في نفقات التدريب، كان للعامل الحق في زيادة الأجر على إنتاجه الفني.
وشي آخر فات أنجلز أيضا وهو: أن تعقيد العمل لا ينشأ دائما من التدريب، بل قد يحصل بسبب مواهب طبيعية في العامل، تجعله ينتج في ساعة من العمل ما لا ينتج اجتماعيا إلا خلال ساعتين. فهو يخلق في الساعة القيمة التي يخلقها غيره في ساعتين، بسبب من كفاءته الطبيعية، لا من تدريس سابق. فهل يأخذ هذا العامل ضعف ما يأخذه غيره فيمنى المجتمع الاشتراكي بالفوارق والتناقضات، أو يساوى بينه وبين غيره ولا يعطى إلا نصف ما يخلقه من القيمة. فيرتكب المجتمع الاشتراكي بذلك سرقة القيمة الفائضة؟!
وهكذا يتلخص: أن الحكومة في المرحلة الاشتراكية الماركسية، لا محيد لها عن أحد أمرين: فأما أن تطبق النظرية، كما يفرضه القانون الماركسي للقيمة، فتوزع على كل فرد حسب عمله. فتخلق بذرة التناقض الطبقي من جديد. وإما أن تنحرف عن النظرية في مجال التطبيق، وتساوي بين العمل البسيط والمركب، والعامل الاعتيادي والموهوب. فتكون قد اقتطعت من العامل الموهوب القيمة الفائضة، التي يتفوق بها عن العامل البسيط، كما كان يصنع الرأسمالي تماما في حساب المادية التاريخية.
233

الشيوعية:
وننتهي من دراسة المرحلة الاشتراكية، إلى المرحلة النهائية التي يولد فيها المجتمع الشيوعي، ويحشر البشر إلى الفردوس الأرضي الموعود في نبوءات المادية التاريخية.
وللشيوعية ركنان رئيسيان:
الأول: محو الملكية الخاصة، لا في مجال الإنتاج الرأسمالي فحسب، بل في مجال الإنتاج بصورة عامة،
وفي مجال الاستهلاك أيضا، فتؤمم كل وسائل الإنتاج وكل البضائع الاستهلاكية.
والثاني: محو السلطة السياسية وتحرير المجتمع من الحكومة بصورة نهائية.
أما محو الملكية الخاصة في كل المجالات، فهو لا يستمد وجوده في المذهب من قانون علمي للقيمة، ما كان تأميم وسائل الإنتاج الرأسمالي يقوم على أساس نظرية القيمة الفائضة، والقانون الماركسي للقيمة.. وإنما تقوم الفكرة في تعميم التأميم: على افتراض أن المجتمع يبلغ بفضل النظام الاشتراكي درجة عالية من الثروة، كما تنمو القوى المنتجة نموا هائلا، فلا يبقى موقع للملكية الخاصة لبضائع الاستهلاك، فضلا عن ملكية وسائل الإنتاج لأن كل فرد سوف سيحصل في المجتمع الشيوعي على ما يحتاج إليه، ويتوق إلى استهلاكه في أي وقت شاء. فأي حاجة له في الملكية الخاصة؟!.
وعلى هذا الأساس يقوم مبدأ التوزيع في المجتمع الشيوعي، على قاعدة: إن لكل
235

حسب حاجته لا حسب عمله، أي ان كل فرد يعطى قدر ما يشبع رغبته ويحقق سائر طلباته، لأن الثروة التي يملكها المجتمع قادرة على إشباع كل الرغبات.
ونحن لا نعرف فرضية أكثر إمعانا في الخيال وتجنيحا في آفاقه البعيدة، من هذه الفرضية التي تعتبر: ان كل إنسان في المجتمع الشيوعي قادر على إشباع جميع رغباته وحاجته إشباعا كليا، كما يشبع حاجاته من الهواء والماء، فلا تبقى ندرة ولا تزاحم على السلع، ولا حاجة إلى الاختصاص بشيء.
ويبدو من هذا، أن الشيوعية كما تصنع المعجزات في لشخصية الإنسانية، فتحول الناس إلى عمالقة في الإنتاج، بالرغم من انطفاء الدوافع الذاتية والأنانية في ظل التأميم.. كذلك تصنع المعجزة مع الطبيعة نفسها، فتجردها عن الشح والتقتير، وتمنحها روحا كريمة تسخو دائما بكل ما يتطلبه الإنتاج الهائل، من موارد ومعادن وأنهار.
ومن سوء الحظ أن قادة التجربة الماركسية، حاولوا، يخلقوا الجنة الموعودة على الأرض ففشلوا، وظلت التجربة تتأرجح بين الاشتراكية والشيوعية، حتى أعلنت بصراحة عجزها عن تحقيق الشيوعية بالفعل، كما تعجز كل تجربة تحاول اتجاها خياليا يتناقض مع طبيعة الانسان. فقد اتجهت الثورة الاشتراكية في بادئ الأمر اتجاها شيوعيا خالصا، إذ حاول لينين أن يكون كل شيء شائعا بين المجموع. فانتزع الأرض من أصحابها وجرد الفلاحين من وسائل إنتاجهم الفردية فتمرد الفلاحون وأعلنوا إضرابهم عن العمل والإنتاج، فنشأت المجاعة الهائلة التي زعزعت كيان البلاد، وأرغمت السلطة على العدول عن تصميمها، فردت للفلاح حق التملك، واستعادت البلاد حالتها الطبيعية، إلى أن جاءت سنة (28 - 30) فحدث انقلاب آخر أريد به تحريم الملكية من جديد، فاستأنف الفلاحون ثورتهم واضرابهم، وأمعنت الحكومة في الناس قتلا وتشريدا وغصت السجون بالمعتقلين، وبلغت الضحايا - على ما قيل - مائة ألف قتيل، باعتراف التقارير الشيوعية، واضعاف هذا العدد في تقدير أعدائها. وراح ضحية المجاعة الناجمة عن الاضراب والقلق سنة (1932)، ستة ملايين نسمة
236

باعتراف الحكومة نفسها، فاضطرت السلطة إلى التراجع، وقررت منح الفلاح شيئا من الأرض وكوخا وبعض الحيوانات للاستفادة منها، على أن تبقى الملكية الأساسية للدولة، وينضم الفلاح إلى جمعية (الكلخوز الزراعية الاشتراكية) التي تتعهدها الدولة، وتستطيع أن تطرد أي عضو منها متى شاءت.
وأما الركن الثاني للشيوعية (زوال الحكومة)، فهو أطرف ما في الشيوعي من طرائف. وتقول الفكرة فيه على أساس رأي المادية التاريخية في تفسير الحكومة وليدة التناقض الطبقي، لأنها الهيئة التي تخلقها الطبقة المالكة لاخضاع الطبقة العاملة لها. ففي ضوء هذا التفسير لا يبقى للحكومة أي مبرر في مجتمع لا طبقي، بعد أن يتخلص من كل آثار الطبقية وبقاياها، ويصبح من الطبيعي أن تتلاشى الحكومة تبعا لزوال الأساس التاريخي لها.
ومن حقنا أن نتساءل عن هذا التحول، الذي ينقل التاريخ من مجتمع الدولة إلى مجتمع متحرر منها، من المرحلة الاشتراكية إلى المرحلة الشيوعية: كيف يتم هذا التحول الاجتماعي؟ ‍!. وهل يحصل بطريقة ثورية وانقلابية فينتقل المجتمع من الاشتراكية إلى الشيوعية في لحظة حاسمة، كما انتقل من الرأسمالية إلى الاشتراكية؟!. أو أن التحول يحصل بطريقة تدريجية، فتذبل الدولة وتقلص حتى تضمحل وتتلاشى؟!.
فإذا كان المتحول ثوريا آنيا، وكان القضاء على حكومة البروليتاريا سيتم عن طريق الثورة، فمن هي الطبقة الثائرة التي سيتم على يدها هذا التحول؟!. وقد علمتنا الماركسية أن الثورة الاجتماعية على حكومة، إنما تنبثق دائما من الطبقة التي لا تمثلها تلك الحكومة. فلابد إذن في هذا الضوء أن يتم التحول الثوري إلى الشيوعية، على أيدي غير الطبقة التي تمثلها الحكومة الاشتراكية وهي طبقة البروليتاريا. فهل تريد الماركسية أن تقول لنا أن الثورة الشيوعية تحصل على أيدي رأسماليين مثلا؟!.
وإذا كان التحول من الاشتراكية وزاول الحكومة تدريجيا.. فهذا يناقض - قبل
237

كل شيء - قواني الديالكتيك التي ترتكز عليها الماركسية. ليست تدريجية، بل تحصل بصورة فجائية، وتحدث بقفزة من حالة إلى أخرى. وعلى أساس هذا القانون آمنت الماركسية بضرورة الثورة في مطلع كل مرحلة تاريخية، بوصفها تحولا آنيا. فكيف بطل هذا القانون عند تحول المجتمع من الاشتراكية إلى الشيوعية.
والتحول التدريجي السلمي من المرحلة الاشتراكية إلى الشيوعية، كما يناقض قوانين الديالكتيك، كذلك يناقض
طبيعة الأشياء. إذ كيف يمكن أن نتصور أن الحكومة في المجتمع الاشتراكي، تتنازل في التدريج عن السلطة وتقلص ظلها، حتى تقضي بنفسها على نفسها، بينما كانت كل حكومة أخرى على وجه الأرض تتمسك بمركزها، وتدافع عن وجودها السياسي إلى آخر لحظة من حياتها؟!، فهل هناك أغرب من هذا التقليص التدريجي الذي تتبرع بتحقيقه الحكومة نفسها، فتسخو بحياتها في سبيل تطوير المجتمع؟!، بل هل هناك ما هو أبعد من هذا عن طبيعة المرحلة الاشتراكية، والتجربة الواقعية التي تجسدها اليوم في العالم؟! فقد عرفنا أن من ضرورات المرحلة الاشتراكية قيام حكومة دكتاتورية مطلقة السلطان، فكيف تصبح هذه الدكتاتورية المطلقة مقدمة لتلاشي الحكومة واضمحلالها نهائيا؟!، وكيف يمهد استفحال السلطة واستبدادها إلى زوالها واختفائها؟!!.
وأخيرا: فلنجنح مع الماركسية في أخيلتها، ولنقترض أن المعجزة قد تحققت، وان المجتمع الشيوعي قد وجد، وأصبح كل شخص يعمل حسب طاقته ويأخذ حسب حاجته، أفلا يحتاج المجتمع إلى سلطة تحدد هذه الحاجة، وتوفق بين الحاجات المتناقضة فما إذا تزاحمت على سلعة واحدة، وتنظم العمل وتوزعه على فروع الإنتاج.
238

مع الرأسمالية:
1 - الرأسمالية المذهبية في خطوطها الرئيسية
2 - الرأسمالية المذهبية ليست نتاجا للقوانين العلمية
3 - القوانين العملية في الاقتصاد الرأسمالي ذات اطار مذهبي
4 - دارسة الرأسمالية المذهبية في أفكارها وقيمها الأساسية
239

كما يقسم الإقتصاد الماركسي إلى علم ومذهب، كذلك ينقسم الإقتصاد الرأسمالي إلى هذين القسمين. ففيه الجانب العلمي، الذي تحاول الرأسمالية فيه أن تفسر مجرى الحياة الاقتصادية وأحداثها تفسيرا موضوعيا، قائما على أساس الاستقراء والتحليل. وفيه أيضا الجانب المذهبي، الذي تدعو الرأسمالية إلى تطبقه وتتبنى الدعوة إليه.
وقد اختلط هذان الجانبان أو الوجهان للاقتصاد الرأسمالي، في كثير من البحوث والأفكار، مع أنهما وجهان مختلفان، ولكل منهما طبيعته الخاصة وأسسه ومقاييسه. فإذا حاولنا أن نسبغ على أحد الوجهين الطابع المميز للآخر، فنعتبر القوانين العلمية مذهبا خالصا، أو نضفي الطابع العلمي على المذهب، فسوف نقع في خطأ كبير كما سنرى.
والرأسمالية وإن اتفقت مع الماركسية، في تشعبها إلى جانب علمي وجانب مذهبي ولكن العلاقة بين علم الاقتصاد الرأسمالي، والمذهب الرأسمالي في الاقتصاد، تختلف اختلافا جوهريا عن العلاقة بين الجانب العلمي من الماركسية، والجانب المذهبي منها، أي بين المادية التاريخية من ناحية، والاشتراكية والشيوعية من ناحية أخرى وهذا الاختلاف هو الذي سيجعل طريقة بحثنا مع الرأسمالية، تختلف عن طرقة دراستنا للماركسية، كما يتضح خلال هذا الفصل (مع الرأسمالية).
وسوف نستعرض فيما يلي: الاقتصاد الرأسمالي في خطوطه الرئيسية، نعالج بعد ذلك علاقة المذهب الرأسمالي بالجانب العلمي من الرأسمالية، وندرس أخيرا الرأسمالية في ضوء أفكارها المذهبية التي ترتكز عليها.
241

الرأسمالية المذهبية في خطوطها الرئيسية:
يتركز المذهب الرأسمالي على أركان رئيسية ثلاثة، يتألف منها كيانه العضوي الخاص، الذي يميزه عن الكيانات المذهبية الأخرى. وهذه الأركان هي:
أولا: الأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود. فبينما كانت القاعدة العامة في المذهب الماركسي، هي: الملكية الاشتراكية التي لا يجوز الخروج عنها إلا بصورة استثنائية.. تنعكس المسألة في المذهب الرأسمالي تماما. فالملكية الخاصة في هذا المذهب، هي القاعدة العامة التي تمتد إلى كل المجالات وميادين الثروة المتنوعة ولا يمكن الخروج عنها إلا بحكم ظروف استثنائية، تضطر أحيانا إلى تأميم هذا المشروع أو ذاك، وجعله ملكا للدولة. فما لم تبرهن التجربة الاجتماعية على ضرورة تأميم أي مشروع، تبقى الملكية الخاصة هي القاعدة النافذة المفعول.
وعلى هذا الأساس تؤمن الرأسمالية بحرية التملك، وتسمح للملكية الخاصة بغزو جميع عناصر الإنتاج من الأرض والآلات والمباني والمعادن وغير ذلك من ألوان الثروة. ويتكفل القانون في المجتمع الرأسمالي بحماية الملكية الخاصة. وتمكين المالك من الاحتفاظ بها.
ثانيا: فسح المجال أمام كل فرد لاستغلال ملكيته وإمكاناته على الوجه الذي يروق له، والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل والأساليب التي يتمكن منها. فإن كان يمتلك أرضا زراعية مثلا، فله أن يستغلها بنفسه في أي وجه من وجوه
243

الاستغلال، وله أن يؤجرها للغير، وأن يفرض على الغير شروطه التي تهمه، كما له أن يترك الأرض دون استغلال.
وتستهدف هذه الحرية الرأسمالية التي يمنحها المذهب الرأسمالية للمالك: أن تجعل الفرد هو العامل الوحيد في
الحركة الاقتصادية، إذا ما من أحد أعرف منه بمنافعه الحقيقية، ولا أقدر منه على اكتسابها. ولا يتأتى للفرد أن يصبح كذلك ما لم يزود بالحرية في مجال استغلال المال وتهيئته ويستبعد من طريقه التدخل الخارجي من جانب الدولة وغيرها. فبذلك يصبح لكل فرد الفرصة الكافية، لاختيار نوع الاستغلال الذي يستغل به ماله، والمهنة التي يتخذها، والأساليب التي يتبعها لتحقيق أكبر مقدار ممكن من الثروة.
وثالثا: ضمان حرية الاستهلاك، كما تضمن حرية الاستغلال. فلكل شخص الحرية في الإنفاق من ماله كما يشاء على حاجاته ورغباته، وهو بتحريم استهلاك بعض السلع لاعتبارات تتعلق بالمصلحة العامة، كاستهلاك المخدرات.
فهذه هي المعالم الرئيسية في المذهب الرأسمالي التي يمكن تلخيصها في حريات ثلاث: حرية التملك، والاستغلال، والاستهلاك.
ويظهر منذ النظرة الأولى: التناقض الصارخ بين المذهب الرأسمالي والمذهب الماركسي، الذي يضع الملكية الاشتراكية مبدءا بدلا عن الملكية الفردية، ويقضي على الحريات الرأسمالية التي ترتكز على أساس الملكية الخاصة، ويستبدلها بسيطرة الدولة على جميع مرافق الحياة الاقتصادية.
ومن القول الشائع: أن اختلاف المذهبين الرأسمالي والماركسي في معالمهما، يعكس اختلافهما في طبيعة نظريتهما إلى الفرد والمجتمع لأن المذهب الرأسمالي مذهب فردي، يقدس الدوافع الذاتية، ويعتبر الفرد هو المحور الذي يجب على المذهب أن يعمل لحسابه، ويضمن مصالحه الخاصة. وأما المذهب الماركسي فهو مذهب جماعي، يرفض الدوافع الذاتية والأنانية، ويفني الفرد في المجتمع، ويتخذ المجتمع
244

محورا له. وهو لأجل هذا لا يعترف بالحريات الفردية، بل يهدرها في سبيل القضية الأساسية، قضية المجتمع بكامله.
والواقع: أن كلا المذهبين يرتكز على نظرة فريدة، ويعتمد على الدوافع الذاتية والأنانية. فالرأسمالية تحترم في الفرد السعيد الحظ أنانيته، فتضمن له حرية الاستغلال والنشاط في مختلف الميادين، مستهترة بما سوف يصيب الآخرين من حيف وظلم نتيجة لتلك الحرية التي أطلقتها لذلك الفرد ما دام الآخرون يتمتعون بالحرية مبدئيا، كما يتمتع بها الفرد المستغل. وبينما توفر الرأسمالية للمحظوظين إشباع دوافعهم الذاتية، وتنمي نزعتهم الفردية.. تتجه الماركسية إلى غيرهم من الأفراد الذين لم تتهيأ لهم تلك الفرض، فتركز دعوتها المذهبية على أساس إثارة الدوافع الذاتية والأنانية فيهم. والتأكيد على ضرورة إشباعها. وتسعى بمختلف الأساليب إلى تنمية تتمكن من تفجيرها تفجيرا ثوريا. وتشرح لأولئك الذين تتصل بهم: أن الآخرين يسرقون جهودهم وثروتهم، فلا يمكن لهم أن يقروا هذا السرقة بحال، لأنها اعتداء صارخ على كيانهم الخاص.
وهكذا نجد أن الوقود الذي يعتمد عليه المذهب الماركسي، هو نفس الدوافع الذاتية والفردية التي تتبناها الرأسمالية. فكل من المذهبين يتبنى إشباع الدوافع الذاتية وينميها، وإنما يختلفان في نوع الأفراد، الذين تتجاوب دوافعهم الذاتية والأنانية مع هذا المذهب أو ذاك.
وأما المذهب الجديد بصفة المذهب الجماعي، فهو المذهب الذي يعتمد على وقود من نوع آخر، على قوى غير الأنانية والدوافع الذاتية.
إن المذهب الجماعي هو: المذهب الذي يربي في كل فرد شعورا عميقا بالمسؤولية تجاه المجتمع ومصالحه، ويفرض عليه لذلك أن يتنازل عن شيء من ثمار أعماله وجهوده وأمواله الخاصة، في سبيل المجتمع وفي سبيل الآخرين، لا لأنه سرق الآخرين وقد ثاروا عليه لاسترداد حقوقهم الخاصة، بل لأنه يحس بأن ذلك جزء من واجبه،
245

وتعبير عن القيم التي يؤمن بها.
إن المذهب الجماعي هو: المذهب الذي يحفظ حقوق الآخرين وسعادتهم لا بإثارة دوافعهم الذاتية، بل بإثارة الدوافع الجماعية في الجميع، وتفجير منابع الخير في نفوسهم. وسوف نرى في بحوث مقبلة ما هو هذا المذهب؟.
246

الرأسمالية المذهبية ليست نتاجا للقوانين العلمية
في فجر التاريخ العلمي للاقتصاد، حين كان يضع أقطاب الاقتصاد الطبيعي الكلاسيكي بذور هذا العلم وبنياته الأولية، سادت الفكر الاقتصادي يومذاك فكرتان.
إحداهما: أن الحياة الاقتصادية تسير وفقا لقوى طبيعية محددة، تتحكم في كل الكيان الاقتصادي للمجتمع، كما تسير شتى مناحي الكون طبقا لقوى الطبيعة المتنوعة. والواجب العلمي تجاه تلك القوى التي تسيطر على الحياة الاقتصادية، هو استكشاف قوانينها العامة وقواعدها الأساسية، التي تصلح لتفسير مختلف الظواهر والأحداث الاقتصادية.
والفكرة الأخرى: هي أن تلك القوانين الطبيعية، التي يجب على علم الاقتصاد استكشافها، كفيلة بضمان السعادة البشرية إذا علمت في جوهر، وأتيح لجميع أفراد المجتمع التمتع بالحريات الرأسمالية، حريات: التملك. والاستغلال، والاستهلاك.
وقد وضعت الفكرة الأولى البذرة العلمية للاقتصاد الرأسمالي، ووضعت الفكرة الثانية بذرته المذهبية، غير أن الفكرتين أو البذرتين ارتبطتا في بادئ الأمر ارتباطا وثيقا، حتى خيل للمفكرين الاقتصاديين يومئذ: أن تقييد حرية الأفراد والتدخل في الشؤون الاقتصادية من الدولة، يعني الوقوف في وجه الطبيعة وقوانينها التي كفلت للانسانية رخاءها وحل جميع مشاكلها... فكل محاولة لإهدار شيء من الحريات
247

الرأسمالية، تعتبر بأن تلك القوانين الخيرة تفرض بنفسها المذهب الرأسمالي، وتحتم على المجتمع ضمان الحريات الرأسمالية.
غير أن هذا اللون من التفكير يبدو الآن مضحكا وطفوليا إلى حد كبير، لأن الخروج على قانون طبيعي علمي لا يعني أن هناك جريمة ارتكبت في حق هذا القانون، وإنما يبرهن على خطأ القانون نفسه، وينزع عنه وصفه العلمي الموضوعي. لأن القوانين الطبيعية لا تتخلق في ظل الشروط والظروف الرأسمالية، تعبيرا عن قوانين طبيعية، وتعتبر مخالفتها جريمة في حق تلك الأحول ومهما اختلفت درجة الحرية التي يتمتع بها الأفراد في حقول التملك والاستغلال والاستهلاك.. وإنما قد يحدث أن يختلف مفعول تلك القوانين. تبعا لاختلاف الشروط والظروف التي تعمل في ظلها، كما تختلف قوانين الفيزياء في آثارها ونتائجها، طبقا لاختلاف شروطها وظروفها.
فيجب إذن أن تدرس الحريات الرأسمالية، لا بوصفها ضرورة علمية تحتمها القوانين الطبيعية من وجهة رأي الرأسماليين، حتى تكتسب بذلك الطابع العلمي.. وإنما تدرس على أساس مدى ما تتيح للانسان من سعادة علماء الاقتصاد الرأسمالي، في دراسة الرأسمالية المذهبية.
وفي ضوء ذلك نستطيع أن نفهم الفرق الجوهري - الذي ألمعنا إليه في مستهل هذا الفصل - بين الماركسية والرأسمالية، إذ تختلف العلاقة بين الجانب العلمي والجانب المذهبي من الماركسية اختلافا أساسيا، عن العلاقة بين الاقتصاد العلمي والاقتصاد المذهبي للرأسمالية. فإن الماركسية المذهبية التي تمثل في الاشتراكية والشيوعية، تعتبر نتيجة حتمية لقوانين المادية التاريخية التي تعبر عن القوانين الطبيعية للتاريخ، من وجهة رأي الماركسية. فإذا كانت المادية التاريخية على صواب في تفسير
248

التاريخ. فهي تبرهن على الجانب المذهبي من الماركسية. ولذلك يعتبر درس الجانب العلمي من الماركسية، أساسا لدرس الجانب المذهبي منها، وشرطا ضروريا للحكم في صالح المذهب الماركسي أو ضده. ولا يمكن لباحث مذهبي أن ينقذ الاشتراكية والشيوعية، بصورة مستقلة عن أساسها العلمي، عن المادية التاريخية.
أما الرأسمالية المذهبية، فليست هي نتيجة لعلم الاقتصاد الذي شاده الرأسماليون، ولا يرتبط مصيرها بمدى نجاح الجانب العلمي للرأسمالية في تفسير الواقع الموضوع.. وإنما ترتكز الرأسمالية المذهبية، على قيم وأفكار خلقية وعملية معينة، يجب أن تعتبر هي المقياس للحكم في حق المذهب الرأسمالي.
وهكذا يتضح أن موقفنا - بوصفنا نؤمن بمذهب اقتصادي يتميز عن الرأسمالية والماركسية - تجاه الماركسية، يختلف عن موقفنا من الرأسمالية. فنحن تجاه الماركسية أمام مذهب اقتصادي، يزعم: أنه يرتكز على قوانين علم التاريخ (المادية التاريخية). فمن الضروري لنقد هذا المذهب، أن نتناول تلك القوانين العلمية المزعومة، بالدرس والتمحيص. ولأجل ذلك عرضنا المادية التاريخية بمفاهيمها، ومراحلها، تمهيدا إلى اصدار الحكم في حق المذهب الماركسي نفسه. وأما بالنسبة إلى موقفنا تجاه الرأسمالية المذهبية، أي الحريات الرأسمالية.. فنحن نواجه مذهبا لا يستمد كيانه من القوانين العلمية، ليكون المنهج الضروري لدراسته هو بحث تلك القوانين وتدقيقها.. وإنما نواجه مذهبا يستمد كيانه من تقديرات خلقية وعملية معينة. ولهذا فسوف لن نتحدث عن الجانب العلمي من الرأسمالية، إلا بالقدر الذي يوضح: أن الجانب المذهبي ليس نتيجة حتمية له، ولا يحمل طابعه العلمي، ثم ندرس المذهب الرأسمالي في ضوء الأفكار العملية والقيم الخلقية التي يرتكز عليها. لأن بحوث هذا الكتاب تحمل كلها الطابع المذهبي، ولا تتسع للجوانب العلمية إلا بمقدار ما يتطلبه الموقف المذهبي.
ودراسة المذهب الرأسمالي على هذا الأساس، وإن كانت تتوقف أيضا على شيء من البحث العلمي، غير أن دور البحث العلمي في هذا الدراسة، يختلف كل
249

الاختلاف عن دوره في دراسة المذهب الماركسي. فإن البحث العلمي في قوانين المادية التاريخية، كان وحده هو الذي يستطيع أن يصدر الحكم النهائي في حق الماركسية المذهبية، كما سبق. وأما البحث العلمي في مجال نقد الرأسمالية المذهبية، فليس هو المرجع الأعلى للحكم في حقها، لأنها لا تدعي لنفسها طابعا علميا.
وإنما يستعان بالبحث العلمي، لتكوين فكرة كاملة عن النتائج الواقعية (الموضوعية)، التي تتمخض عنها الرأسمالية على الصعيد الاجتماعي، ونوعية الاتجاهات التي تتجهها قوانين الحركة الاقتصادية في ظل الرأسمالية، لكي تقاس تلك النتائج والاتجاهات التي يسفر عنها تطبيق المذهب بالمقاييس دراسة المذهب الرأسمالي، إعطاء صورة كاملة عن واقع المجتمع الرأسمالي لنقيس تلك الصورة بالمقاييس العملية الخاصة. وليست وظيفته تقديم البرهان على حتمية المذهب الرأسمالي أو خطأه.
فكم يخطئ الباحث - على هذا الأساس الذي قدمناه - إذا تلقى المذهب الرأسمالي من العلماء الرأسماليين، بوصفه حقيقة علمية، أو جزءا من علم الاقتصاد السياسي، ولم يميز بين الصفة العلمية والصفة المذهبية لأولئك
الاقتصاديين، فيخيل له مثلا، حين يحكم هؤلاء بأن توفير الحريات الرأسمالية خير وسعادة للجميع: إن هذا رأي علمي أو قائم على أساس علمي كالقانون الاقتصادي القائل مثلا: (إذا زاد العرض انخفض الثمن). مع أن هذا القانون تفسر علمي لحركة الثمن كما توجد في السوق. وأما الحكم السابق بشأن الحريات الرأسمالية، فهو حكم مذهبي يصدره أنصاره بوصفهم المذهبي. ويستمدونه من القيم والأفكار الخلقية والعملية التي يؤمنون بها فلا تعني صحة ذلك القانون العملي أو غيره من القوانين العلمية: أن يكون هذا الحكم المذهبي صحيحا وإنما يتوقف هذا الحكم على صحة القيم والأفكار التي أقيم على أساسها.
250

القوانين العلمية في الإقتصاد الرأسمالي ذات إطار مذهبي:
عرفنا فيما سبق: أن المذهب الرأسمالي ليس له طابع علمي، ولا يستمد مبرراته ووجوده من القوانين العلمية في الاقتصاد. ونريد هنا أن نصل إلى نقطة أعمق في تحليل العلاقة، بين الجانب المذهبي والجانب العلمي من الرأسمالية لنرى: كيف أن المذهب الرأسمالي يحدد إطار القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي، ويؤثر عليها في اتجاهها ومجراها؟. ومعنى هذا أن القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي، قوانين علمية في إطار مذهبي خاص، وليست قوانين مطلق تنطبق على كل مجتمع وفي كل زمان ومكان، كالقوانين الطبيعية في الفيزياء والكيمياء.. وإنما يعتبر كثير من تلك القوانين حقائق موضوعية، في الظروف الاجتماعية التي تسيطر عليها الرأسمالية، بجوانبها الاقتصادية وأفكارها ومفاهيمها، فلا تنطبق على مجتمع لا تسيطر عليه الرأسمالية ولا تسوده أفكارها.
ولكي يتضح هذا، يجب أن نلقي ضوءا على طبيعة القوانين الاقتصادية التي يدرسها الاقتصاد الرأسمالي، لكي نعرف: كيف وإلى أي درجة يمكن الاعتراف لها بصفة القانون العلمي؟. إن القوانين العلمية للاقتصاد تنقسم إلى فئتين:
إحداهما: القوانين الطبيعية التي تنبثق ضرورتها من الطبيعة نفسها - لا من
251

الإرادة الإنسانية - كقانون التحديد الكلي القائل: إن كل إنتاج كان يتوقف على الأرض وما تشتمل عليه من مواد أولية، محدود طبقا للكمية المحدودة للأرض وموادها الأولية. أو قانون الغلة المتزايدة، القائل: إن كل زيادة في الإنتاج تعوض على المنتج تعويضا أكبر نسبيا مما زاده في الإنفاق، حتى تبلغ الزيادة إلى درجة خاصة، فتخضع عندئذ لقانون معاكس، وهو قانون الغلة المتناقصة، الذي ينص على أن زيادة الغلة تبدأ بالتناقص النسبي عند درجة معينة.
وهذه القوانين لا تختلف في طبيعتها وجانبها الموضوعي عن سائر القوانين الكونية التي تكشف عنها العلوم الطبيعية، ولذلك فهي لا تحمل شيئا من الطابع المذهبي، ولا تتوقف على ظروف اجتماعية أو فكرية معينة، بل لا تختلف في شأنها أبعاد الزمان والمكان، ما دامت الطبيعة التي يتعلق بها الإنتاج هي الطبيعة في كل زمان ومكان.
والفئة الأخرى: من القوانين العلمية للاقتصاد السياسي، تحتوي على قوانين للحياة الاقتصادية ذات صلة بإرادة الإنسان نفسه، نظرا إلى أن الحياة الاقتصادية ليست إلا مظهرا من مظاهر الحياة الانسانية العامة، التي تلعب فيها الإرادة دورا إيجابيا فعالا، في مختلف شعبها ومناحيها. فقانون العرض والطلب مثلا - القائل: إن الطلب على سلعة إذا زاد، ولم يكن في المقدور زيادة الكميات المعروضة استجابة للزيادة في الطلب، فإن ثمن السلعة لابد وأن يرتفع - ليس قانونا موضوعيا، يعمل بصورة منفصلة عن وعي الانسان كما تعمل قوانين الفيزياء والفلك، وكما تعمل القوانين الطبيعية في الإنتاج التي عرضناها في الفئة الأولى.. وإنما يمثل قانون العرض والطلب ظواهر الحياة الواعية للانسان. فهو يوضح أن المشتري سيقدم - في الحالة التي ينص عليها القانون الآنف الذكر - على شراء السلعة بثمن أكبر من ثمنها في حالة مساواة الطلب للعرض. وإن البائع سيمتنع في تلك الحالة عن البيع إلا بذلك الثمن.
وتدخل الإرادة الإنسانية في مجرى الحياة الاقتصادية، لا يعني إبعاد الحياة الاقتصادية عن مجال القوانين العلمية، واستحالة البحث العلمي فيها، إذ اعتقدوا: أن طابع الحتمية
252

والضرورية للقوانين العلمية، يتنافى مع طبيعة الحرية التي تعكسها الإرادة الإنسانية. فإذا أخضعت الحياة الإنسانية لقوانين علمية صارمة، كان ذلك مناقضا لما يتمتع به الإنسان في حياته من حرية وانطلاق، إذ يصبح لدى خضوعه لتلك القوانين آلة جامدة، تسير وتتكيف ميكانيكيا، طبقا للقوانين الطبيعية التي تتحكم في مجرى حياته الاقتصادية.
وهذا الوهم يرتكز على مفهوم خاطئ عن الحرية الإنسانية، وإدراك معكوس للعلاقة بين الحرية والإرادة، وبين تلك القوانين. فإن وجود قوانين طبيعية لحياة الإنسان الاقتصادية، لا يعني ان الإنسان يفقد حريته وإرادته، وإنما هي قوانين للإرادة البشرية تفسر: كيف يستعمل الانسان حريته في المجال الاقتصادي، فلا يمكن أن تعتبر إلغاء لإرادة الإنسان وحريته.
ولكن هذه القوانين الاقتصادية، تختلف عن القوانين العلمية في مناحي الكون الأخرى في نقطة، وهي: أن هذه القوانين نظرا إلى علاقتها بإرادة الإنسان تتأثر بكل المؤثرات التي تطرأ على الوعي الإنساني، وبكل العوامل
التي تتدخل في إرادة الإنسان وميوله. وبدهي أن إرادة الإنسان التي تعالجها تلك القوانين تتحدد وتتكيف وفقا لأفكار الإنسان ومفاهيمه، ولنوعية المذهب السائد في المجتمع. ولون التشريعات التي تقيد سلوك الأفراد. فهذه العوامل هي التي تملى على الإنسان إرادته وموقفه العملي، وحين تتغير تلك العوامل يختلف اتجاه الإنسان وإرادته، وبالتالي تختلف القوانين العلمية العامة التي تفسر مجرى الحياة الاقتصادية، فلا يمكن في كثير من الأحيان، اعطاء قانون عام للانسانية في الحياة الاقتصادية، بمختلف إطاراتها الفكرية والمذهبية والروحية وليس من الصحيح علميا أن نترقب من الإرادة الإنسانية في مجرى الحياة الاقتصادية أن تسير وتنشط - دائما وفي كل مجتمع - كما تسير وتنشط في المجتمع الرأسمالي، الذي درسه الاقتصاديون الرأسماليون، ووضعوا قوانين الاقتصاد السياسي في ضوئه. ما دامت أن تؤخذ هذه الإطارات كمدلولات ثابتة في مجال البحث العلمي. ومن الطبيعي أن
253

تتكشف نتائج البحث حينئذ عن القوانين الجارية ضمن تلك الإطارات خاصة.
وعلى سبيل المثال نذكر القاعدة الرئيسية، التي وضع في ضوئها كثير من قوانين الاقتصاد الكلاسيكي، وهي: القاعدة التي تجرد من الإنسان الاجتماعي المحسوس: إنسانا اقتصاديا، يؤمن بالمصلحة الشخصية كهدف أعلى له في كل ميادين النشاط الاقتصادي. فقد افترض الاقتصاديون - منذ البدء - أن كل فرد في المجتمع يستوحي اتجاهه العملي في نشاطه الاقتصادي، من مصلحته المادية الخاصة دائما، وأخذوا يستكشفون القوانين العلمية التي تتحكم في مثل هذا المجتمع. وقد كان افتراضهم هذا على نصيب كبير من الواقع، بالنسبة إلى المجتمع الرأسمالي الأوروبي، وطابعه الفكري والروحي ومقاييسه الخلقية والعملية. غير أن من الممكن أن يحدث تحول أساسي في القوانين الاقتصادية لحياة المجتمع، بمجرد تغيير هذا الأساس، ومواجهة مجتمع يختلف عن المجتمع الرأسمالي، في القاعدة العامة لسلوك أفراده، وفي الأفكار والقيم التي يؤمنون بها، وليس هذا افتراضا نفترضه، وإنما هو واقع نتحدث عنه. فإن المجتمعات تختلف في العوامل التي تحدد لها دوافع السلوك، والقيم العملية في الحياة.
ولنأخذ مثلا لذلك، المجتمع الرأسمالي، والمجتمع الذي دعا اليه الإسلام، وتمكن من إخراجه إلى حيز الوجود. فقد عاش في ظل الإسلام مجتمع بشري من لحم ودم، تختلف القاعدة العامة لسلوكه ومقاييسه العملية، ومحتوياته الروحية والفكرية.. عن المجتمع الرأسمالي كل الاختلاف. فإن الإسلام - بوصفه دينا ومذهبا خاصا في الحياة - وإن كان لا يعالج أحداث الاقتصاد معالجة علمية، ولكنه يؤثر على هذه الأحداث ومجراها الاجتماعي عن الحياة ودوافعه وغاياته، فيصهره في قالبه الخاص، ويصوغه في إطاره الروحي والفكري، وبالرغم من أن التجربة التي خاضها الإسلام في سبيل إيجاد هذا المجتمع كانت قصيرة، قد أسفرت عن أروع النتائج التي شهدتها حياة الإنسان، وبرهنت على إمكان التحليق بالإنسان إلى آفاق، لم يستطع أن يتطلع إليها أفراد المجتمع الرأسمالي، الغارقون في ضرورات المادة ومفاهيمها إلى رؤوسهم.
254

وفي النزر اليسير مما يحدثنا به التاريخ عن نتائج التجربة الإسلامية وروائعها، ما يلقي ضوءا على إمكانات الخير المكتنزة في نفس الانسان، ويكشف عن الطاقة الرسالية في الإسلام، التي استطاع بها أن يجند تلك الإمكانات، ويستثمرها لصالح القضية الإنسانية الكبرى. فقد ورد في تاريخ تلك التجربة الذهبية: إن جماعة من غير ذوي اليسار والثروة جاءوا إلى رسول الله (ص) قائلين: (يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. فأجاب النبي قائلا: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة). فهؤلاء المسلمون الذين احتجوا بين يدي الرسول (ص) على واقعهم، لم يكونوا يردون الثروة، بوصفها أداة من أدوات المنعة والقوة أو ضمانا لإشباع الرغبات الشخصية، وإنما عز عليهم أن يسبقهم الأغنياء في المقاييس المعنوية، بألوان البر والإحسان وبالمساهمة في المصالح العامة على الصعيد الاجتماعي. وهذا يعكس مفهوم الثروة وطبيعة الإنسان المسلم، في ظل تجربة إسلامية كاملة للحياة.
وجاء في وصف الإجارات والتجارات في المجتمع الإسلامي، ما حدث به الشاطبي، إذ كتب يقول:
((نجدهم في الإجارات والتجارات لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسبا لغيره لا له. ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم، كأنهم وكلاء للناس لا لأنفسهم بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم - وإن جازت - كالغش لغيرهم)).
وتحدث محمد بن زياد عن شيء من مظاهر التعاون والتكافل في المجتمع الإسلامي فقال: (ربما نزل على بعضهم الضيف، وقدر أحدهم على النار، فيأخذ صاحب الضيف لضيفه، فيفقد القدر صاحبها، فيقول: من أخذ القدر، فيقول صاحب الضيف: نحن أخذناها لضيفنا، فيقول صاحب القدر: بارك الله لكم فيها).
255

وهكذا، ندرك الدور الإيجابي الفعال للإسلام، في تغيير مجرى الحياة الاقتصادية وقوانينها الطبيعية، بتغيير الإنسان نفسه وخلق شروط روحية وفكرية جديدة له. وكذلك نعرف مدى الخطأ في إخضاع مجتمع، يتمتع بهذه الخصائص والمقومات، لنفس القوانين التي يخضع لها مجتمع رأسمالي، زاخر بالأنانية والمفاهيم المادية.
ويمكننا أن نأخذ على سبيل المثال أيضا، قوانين توزيع وقوانين العرض والطلب. فقوانين توزيع الدخل في
الاقتصاد الرأسمالي كما يشرحها (ريكاردو) وغيره من الأقطاب الكلاسيكيين تقضي: بتخصيص جزء منه أجرا للعامل، يحدد وفقا لقيمة المواد الغذائية، القادرة على إعاشة العامل الاقتصاد الرأسمالي من ذلك: أن للأجور قانونا حديديا، لا يمكن بموجبه أن تزيد وتنقض وإن زادت أو انخفضت كمية النقد التي يتسلم بها العامل أجره، تبعا لارتفاع قيمة المواد الغذائية وهبوطها. ويتلخص هذا القانون الحديدي: في أن العمال إذا ازدادت أجورهم لسبب ما، فسوف تتحسن العاملة، ويتضاعف العرض، وتنخفض الأجور إلى الحد الطبيعي. وإذا حدث العكس، فهبط الأجر عن مستواه الطبيعي، أدى ذلك إلى انتشار البؤس والمرض في صفوف العمال، فيقل عددهم وتنخفض كمية العرض، فترتفع الأجور.
يتقدم الينا بهذا الاقتصادية الكلاسيكيون، بوصفه تفسيرا علميا للواقع، وقانونا طبيعيا للحياة الاقتصادية، وهو في الحقيقة لا ينطبق إلا ضمن حدود خاصة، وفي مجتمعات رأسمالية لا يوجد فيها ضمان اجتماعي عام، ويعتمد التسعير فيها على جهاز السوق، ويجرد عن وظيفته في تحديد الأسعار تبعا لنسبة العرض إلى الطلب، كالمجتمع الاشتراكي.. فلا تتحكم فيه تلك القوانين، بالشكل الذي تعمل به في المجتمع الرأسمالي.
وهكذا يتضح أن الهيكل العلمي العام للاقتصاد الرأسمالي، ذو إطار مذهبي، خاص، وليس له قدسية القوانين العلمية المطلقة.
256

4 - دراسة الرأسمالية المذهبية في أفكارها وقيمها الأساسية
إن المقومات الأساسية للمذهب الرأسمالية - التي استعرضناها سابقا - تدل على أن حجر الزاوية في المذهب، هو: حرية الإنسان في الحقل الاقتصادي بمختلف مجالاته، من تملك واستغلال واستهلاك. فالحرية - بأشكالها المتنوعة - هي الأساس الذي تنبثق منه كل الحقوق والقيم المذهبية، التي تنادي بها الرأسمالية، بل إن القوانين العلمية للاقتصاد الرأسمالي نفسها، ليست إلا تفسيرا للواقع الموضوعي المتجمد في إطار هذه الحرية كما مر بنا.
وإذا كانت فكرة الحرية هي الجوهر والمحتوى الأساسي للرأسمالية المذهبية فيجب عند دراسة المذهب للرأسمالي، نقد هذه الفكرة وتحليلها، ودرس بذورها الفكرية، وما ترتكز عليه من أفكار وقيم.
أول سؤال يقفز إلى مجال البحث: لماذا يجب أن يقام المجتمع على أساس الحرية الاقتصادية؟. وكيف نشأ حق الإنسان فيها، الأمر الذي تؤكد عليه الرأسمالية المذهبية، وترفض الاعتراف بأي تحديد أساسي له؟.
ويجب أن نعرف في سبيل الإجابة على هذا السؤال: أن الحرية في التفكير الرأسمالي ترتبط عادة بعدة أفكار وقيم، تستمد منها وجودها المركزي في المذهب وصفتها كضرورة اجتماعية أو إنسانية للكيان البشري.
فهي تارة: ترتبط بالفكرة القائلة: بالتوافق بين مصالح الفرد التي يندفع إلى
257

تحقيقها بدوافعه الذاتية، ومصالح المجتمع التي يتوقف عليها كيانه العام. فإن مصالح الفرد والمجتمع إذا كانت متوافقة، فليس على المذهب الاجتماعي الذي يستهدف ضمان الصالح الاجتماعي، إلا أن يطلق الحرية للفرد، ويفسح المجال لدوافعه الذاتية أن تقوده إلى تحقيق مصالحه الخاصة، التي تؤدي بصورة آلية إلى توفير المصالح العامة. فالحرية على أساس هذه الفكرة، ليست إلا أداة لتوفير تلك المصالح العامة وضمان ما يتطلبه المجتمع من خير ورفاه، وبصفتها أداة لذلك تكون جديرة بمركزها القاعدي في المذهب.
وهي تارة أخرى: ترتبط بفكرة تنمية الإنتاج، وترتكز على الرأي القائل: أن الحرية الاقتصادية هي أفضل قوة دافعة للقوة المنتجة، وأكفأ وسيلة لتفجير كل الطاقات والإمكانات وتجنيدها للإنتاج العام، وبالتالي الأولى، لأنه يعبر عن جانب من جوانب الصالح العام، وهو توفير الإنتاج الاجتماعي الذي يمكن تحقيقه عن طريق الحرية.
وهناك فكرة ثالثة: يرتبط بها ومفهوم الحرية الرأسمالية، وهي فكرة ذات طابع خلقي خالص، يستعمل الرأسماليون عادة في التعبير عنها عبارات غائمة، أو غير واضحة كل الوضوح، فيكررون القول: بأن الحرية بوجه عام حق إنساني أصيل، وتعبير عملي عن الكرامة البشرية، وعن شعور الإنسان بها. فليست هي مجرد أداة للرفاه الاجتماعي أو لتنمية الإنتاج، وإنما هي تحقيق لإنسانية الإنسان، ووجوده الطبيعي الصحيح.
ومن الواضح أن القيمة المذهبية للحرية الاقتصادية، على أساس الفكرتين الأوليتين، قيمة موضوعية، مردها إلى النتائج والآثار التي تؤدي إليها في واقع الحياة. وأما على أساس الفكرة الثالثة، فللحرية بوجه عام - التي تعتبر الحرية الاقتصادية جانبا منها - قيمة ذاتية يميلها شعور الانسان بكرامته وإنسانيته.
هذه هي الأفكار التي تبرر الرأسمالية عادة عن طرقها مفهومها عن الحرية، وضرورة اعتبارها قاعدة في التصميم الاجتماعي الذي يدعو اليه المذهبيون.
258

فهي: وسيلة لتحقيق المصالح العامة.
وهي: سبب لتنمية الإنتاج والثروة العامة.
وهي: تعبير أصيل عن الكرامة الانسانية وحق الانسان في الحياة.
والآن وبعد أن استعرضنا الأسس الفكرية لفكرة الحرية الاقتصادية، يجب أن نتناولها بالدرس والتمحيص.
أ - الحرية وسيلة لتحقيق المصالح العامة
ترتكز هذه الفكرة: على أساس الايمان بأن الدوافع الذاتية تلتقي دائما بالمصالح العامة والرفاه الاجتماعي، إذا
توفرت الحرية في المجال العملي لجميع الأفراد، فإن الإنسان في المجتمع الحر يسعى إلى تحقيق مصالحه الخاصة، والتي تؤدي في النهاية إلى توفير المصالح العامة.
وعلى هذا الأساس خيل للاقتصاديين الرأسماليين في بادئ الأمر: أن ضمان سعادة المجتمع ومصالحه ليس بحاجة إلى القيم الخلقية والروحية، وتغذية الناس بها، لأن كل إنسان - وحتى من لا يعرف شيئا من تلك القيم - يسير طبقا لمصلحته الخاصة، إذا كفلت له الحرية في المجال العملي. وهذه المصلحة نفسها تواكب مصلحة المجتمع، وتتفق معها في نتائجها، وإن كان الفرد مدفوعا نحوها بدافع خاص. وهكذا يمكن للمجتمع أن يستغني عن الخدمات التي تقدمها القيم الخلقية والروحية، ويصل إلى مصالحه بالطريقة الرأسمالية، التي توفر لكل فرد حريته، وتمنحه القدرة على تقدير موقفه في ضوء مصالحه الخاصة، التي تلتقي في آخر الشوط بالمصالح العامة.
ولهذا السبب كانت الحرية التي تنادي بها الرأسمالية، مجردة من كل الإطارات والقيم الخلقية والروحية، لأنها (حرية) حتى في تقدير هذه القيم. ولا يعني هذا أن تلك القيم لا وجود لها في مجتمع رأسمالي، وإنما يعني أن الرأسمالية لا تعترف بضرورة هذه القيم لضمان مصلحة المجتمع، وتزعم إمكان الاستغناء عنها عن طريق
259

توفير الحريات للأفراد، وإن كان الناس أحرارا في التقيد بتلك القيم ورفضها.
ويذكر أنصار الرأسمالية في سياق الاستدلال على ذلك: أن الحرية الاقتصادية تفتح مجال التنافس الحر بين مختلف مشاريع الإنتاج. وصاحب المشروع - في ظل هذا التنافس الحر الذي يسود الحياة الاقتصادية - يخاف دائما من تفوق مشروع آخر على مشروعه واكتساحه له، فيعمل بدافع من مصلحته الخاصة على تحسين مشروعه والاستزادة من كفاءاته، حتى يستطيع ان يخوض معركة السباق مع المشاريع الأخرى، ويصمد في أتون هذا النضال الأبدي. ومن أهم الوسائل التي تتخذ في هذا السبيل، إدخال تحسينات فنية على المشروع. وهذا يعني: أن صاحب المشروع في المجتمع الرأسمالي الحر يظل دائما يتلقف كل فكرة أو تحسين جديد على الإنتاج، أو أي شيء آخر من شأنه أن يمكنه من الإنتاج بنفقة أقل. فإذا أدخل هذه التحسينات، فإنه لا يلبث أن يرى باقي المشروعات قد لحقت به، فيبدأ مرة ثانية في البحث عن فكرة أخرى جديدة، حتى يحتفظ بأسبقيته على سائر المشروعات. وجزاء من يتخلف في هذا السباق هو إفلاس مشروعه، فالمنافسة الحرة في النظام الرأسمالي سيف مسلط على رقاب المنظمين، يطيح بالضعيف والمهمل والمتكاسل، ويضمن البقاء للأصلح. وواضح أن هذه المنافسة تؤدي إلى مصلحة المجتمع، لأنها تدفع إلى الاستفادة الدائمة بنتاج العقل العلمي والفني، وإشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة ممكنة.
فلا ضرورة - بعد هذا - إلى إرهاق صاحب المشروع بتربية خلقية معينة، وترويضه على القيم الروحية، أو ملء أذنيه بالمواعظ والنصائح، ليجعل إشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة ممكنة، ويزيد من اتقان السلع وجودتها. فإن مصلحته الخاصة كفيلة بدفعه إلى تحقيق ذلك، ما دام يعيش في مجتمع حر يسوده التنافس.
كما لا حاجة له إلى مواعظ تحثه على المساهمة في أعمال البر والإحسان، والاهتمام بمصالح المجتمع، لأنه يندفع إلى ذلك بدافع من مصلحته الخاصة بوصفه جزءا من المجتمع.
260

وقد أصبح اليوم حديث التوافق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية، في ظل الحرية الرأسمالية.. أدعى إلى السخرية منه إلى القبول، بعد أن ضج تاريخ الرأسمالية بفجائع وكوارث يقل نظيرها في التاريخ، وتناقضات صارخة بين المصالح الخاصة والمصالح العامة، وفراغ هائل أحدثه الاستغناء عن الكيان الخلقي والروحي للمجتمع، فامتلأ بدلا عن القيم الخلقية والروحية، بألوان من الظلم والاستهتار والطمع والجشع.
ونستطيع بكل سهولة أن نتبين من خلال التاريخ التطبيقي للرأسمالية، جنايات هذه الحرية الرأسمالية، التي رفضت كل التحديات الخلقية والروحية، وآثارها الخطيرة: في مجرى الحياة الاقتصادية أولا، وفي المحتوى الروحي للمجتمع ثانيا، وفي علاقات المجتمع الرأسمالي بغيره من المجتمعات ثالثا حتى عاد الرأسماليون أنفسهم يؤمنون بحاجة الرأسمالية إلى التعديل والتحديد، ويحاولون شيئا من الترقيع والترميم، للتخلص من تلك الآثار أو إخفائها عن الأبصار، وأصبحت الرأسمالية في صيغها المذهبية الكاملة مذهبا تاريخيا، أكثر من كونه مذهبا يعيش في واقع الحياة.
أما في مجرى الحياة الاقتصادية للمجتمع الرأسمالية: فليست الحرية الرأسمالية المطلقة إلا سلاحا جاهزا بيد الأقوياء يشق لهم الطريق، ويعبد أمامهم سبيل المجد والثروة على جماجم الآخرين. لأن الناس ما داموا متفاوتين في حظوظهم من المواهب الفكرية والجسدية والفرض الطبيعية... فمن الضروري أن يختلفوا في أسلوب الاستفادة من الحرية الاقتصادية الكاملة التي يوفرها المذهب الرأسمالي لهم، وفي درجات هذه الاستفادة. ويؤدي هذا الاختلاف المحتوم بين القوي والضعيف، إلى أن تصبح الحرية التعبير القانوني عن حق القوي في كل شيء، بينما لا تعني بالنسبة إلى غيره شيئا. ولما كانت الحرية الرأسمالية لا تقر بالرقابة مهما كان لونها - فسوف يفقد الثانويون في معركة الحياة كل ضمان لوجودهم وكرامتهم، ويظلون في رحمة منافسين أقوياء لا يعرفون لحرياتهم حدودا من القيم الروحية والخلقية، ولا يدخلون في حسابهم إلا مصالحهم الخاصة.
وقد بلغ من هدر الكرامة الإنسانية، نتيجة لهذه الحرية الرأسمالية أن بات
261

الإنسان نفسه سلعة خاضعة لقوانين العرض والطلب، وأصبحت الحياة الإنسانية رهن هذه القوانين، وبالتالي رهن القانون الحديدي للأجور. فإذا زادت القوى البشرية العاملة، وزاد المعروض منها على مسرح الإنتاج الرأسمالي، انخفض سعرها لأن الرأسمالي سوف يعتبر ذلك، فرصة حسنة لامتصاص سعادته من شقاء الآخرين، فيهبط بأجورهم إلى مستوى قد لا يحفظ لهم حياتهم، ولا يمكنهم حتى من إشباع بعض ضروراتهم، كما قد يقذف بعدد هائل منهم إلى الشارع يقاسون آلام الموت جوعا، لا لشيء جوعا، ما دام الاقتصاد الرأسمالية يقدم لهم بصيصا من الأمل، وكون من نور، ولكن ما هو هذا الأمل الذي يبعثه في نفوسهم؟! إنه هو الأمل في انخفاض عددهم، بسبب تراكم البؤس والمرض. أي والله إن هذا هو الأمل الذي يقدمه القانون الحديدي للأجور إلى العمال، قائلا لهم: اصبروا قليلا، حتى يصرع الجوع، والبؤس قسما كبيرا منكم، فيقل عددكم ويصبح العرض مساويا للطلب، فترتفع أجوركم وتتحسن حالتكم.
هذا هو التوافق الأسطوري المزعوم، بين الدوافع الذاتية في ظل الحرية الرأسمالية والمصالح العامة. هذا التوافق الذي اضطر الرأسماليون أنفسهم إلى التنازل عن الإيمان به، والاتجاه إلى فكرة تحديد الحرية بالقيم والضمانات.
وإذا كان هذا هو حظ الحياة الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي من الحرية الرأسمالية وآثارها، فإن ما يصيب المحتوى الروحي للأمة من شرارة تلك الحرية المجردة، أقسى وأمر، حيث تتلاشى بصورة عامة مشاعر البر والخير والإحسان، وتطغى مفاهيم الأنانية والجشع، وتسود في المجتمع روح الصراع في سبيل البقاء، بدلا عن روح التعاون والتكافل. ما ظنك بفرد يتجاوب مع المفهوم المطلق للحرية الرأسمالية؟! إذا تطلبت منه القيم الخلقية والموقف الاجتماعي شيئا من المفاداة والتضحية بمصالحه الخاصة. وحتى إذا دفعته مصلحته الخاصة أحيانا إلى تحقيق المصالح العامة، بوصفها في صالحه أيضا. فإن هذا وإن كان قد يؤدي إلى نفس
262

النتيجة، التي تستهدفها القيم الروحية والخلقة من ناحية موضوعية، ولكنها لا تحقق الجانب الذاتي من تلك القيم، ولا يتصنع من الإنسان إنسانا في عواطفه ومشاعره ودوافعه وبواعثه. فإن الأخلاق ليست ذات قيمة موضوعية فحسب، بل هي ذات قيمة ذاتية أيضا، لا تقل عن قيمتها الموضوعية في تكميل الحياة الإنسانية، وإشاعة روح السعادة والهناء النفسي فيها. وسوف نبحث في الفصل المقبل مسألة الدوافع الذاتية، وعلاقتها بالمصالح العامة بصورة أوسع.
ولندع الآن آثار الحرية الرأسمالية في المحتوى الداخلي للمجتمع الرأسمالي، ولنفترض - مع الأسطورة الرأسمالية: أن الدوافع الذاتية تضمن بنفسها تحقيق المصالح العامة. فهل يمكن لهذا الخيال المجنح، أن يقول مثل ذلك عن مصالح مختلف المجتمعات، وأن يزعم التوافق بين المصالح الخاصة للمجتمع الرأسمالي، وغيره من المجتمعات البشرية؟! وماذا يمنع المجتمع الرأسمالي، إذا كان يؤمن بالحرية الرأسمالية مجردة لحسابه، ويستبعدها لقضاء مآربه؟!.
والواقع التاريخي للرأسمالية، هو الذي يحب على هذا السؤال. فقد قاست الإنسانية أهوالا مروعة، على يد المجتمعات الرأسمالية، نتيجة لخوائها الخلقي وفراغها الروحي، وطريقتها الخاصة في الحياة. وسوف تبقى تلك الأهوال وصمة في تاريخ الحضارة المادية الحديثة، وبرهانا على: أن الحرية الاقتصادية التي لا تحدها حدود معنوية، من أفتك أسلحة الإنسان بالإنسان، وأفظعها إمعانا في التدمير والخراب. فقد كان من نتاج هذه الحرية مثلا، تسابق الدول الأوروبية بشكل جنوني على استعباد البشر الآمنين، وتسخيرهم في خدمة الإنتاج الرأسمالي. وتاريخ أفريقيا وحدها صفحة من صفحات ذلك السباق المحموم، تعرضت فيه القارة الإفريقية لطوفان من الشقاء، إذ قامت دول عديدة كبريطانيا وفرنسا وهولندة وغيرها باستيراد كميات هائلة من سكان أفريقيا الآمنين، وبيعهم في سوق الرقيق، وتقديمهم قرابين للعملاق الرأسمالي. وكان تجار تلك البلاد يحرقون القرى الإفريقية، ليضطر سكانها إلى الفرار
263

مذعورين، فيقوم التجار بكسبهم وسوقهم إلى السفن التجارية، التي تنقلهم إلى بلاد الأسياد. وبقيت هذه الفظائع ترتكب إلى القرن التاسع عشر، حيث قامت بريطانيا خلاله بحملة واسعة النطاق ضدها حتى استطاعت ابرام معاهدات دولية تستنكر الاتجار في الرقيق، ولكن هذه المحاولة نفسها كانت تحمل الطابع الرأسمالي، ولم تصدر عن إيمان روحي بالقيم الخلقية والمعنوية، بدليل أن بريطانيا التي أقامت الدنيا في سبيل وضع حد لأعمال القرصنة، استبدلتها بأسلوب آخر من الاستعباد المبطن، إذ أرسلت أسطولها الضخم إلى سواحل أفريقية، لمراقبة التجارة المحرمة من أجل القضاء عليها. أي والله هكذا زعمت، من أجل القضاء عليها. ولكنها مهدت بذلك إلى احتلال مساحات كبيرة على الشواطئ الغربية، وبدأت عملية الاستعباد تجري في القارة نفسا، تحت شعار الاستعمار، بدلا عن أسواق أوروبا التجارية!!
ب - الحرية سبب لتنمية الإنتاج
هذه هي الفكرة الثانية التي ترتكز عليها الحرية الرأسمالية، كما مر بنا سابقا وهي تقوم على خطأ في فهم نتائج الحرية الرأسمالية، وخطأ آخر في تقدير قيمة الإنتاج.
فمشاريع الإنتاج في المجتمع الرأسمالي، ليست وحدات ذرية تخوض معترك السباق والتنافس، في درجة واحدة
من التكافؤ والإمكانات... ليكون كل مشروع كفؤا لمنافسة المشاريع الأخرى، الأمر الذي يحافظ على بقاء التنافس الحر، ويجعله أداة لتنمية الإنتاج وتحسينه. بل إن مشاريع الإنتاج في المجتمع الرأسمالي، تختلف في حجمها وكفاءتها وقدرتها على الاندماج بعضها مع البعض. والحرية الرأسمالية في
264

هذه الحالة تفسح المجال للتنافس، الذي سرعان ما يؤدي إلى صراع عنيف، تحطيم فيه المشاريع القوية غيرها، وتبدأ باحتكار الإنتاج تدريجيا، حتى تختفي كل ألوان التنافس وثمرات مضمار الإنتاج. فالتنافس الحر بالمعنى الذي ينمي الإنتاج لا يواكب الحرية الرأسمالية إلا شوطا محدودا، ثم يخلي الميدان بعد ذلك للاحتكار، ما دامت الحرية الرأسمالية هي التي تمتلك الموقف الاقتصادي.
أما الخطأ الآخر الأساسي في الفكرة، فهو في تقدير قيمة الإنتاج كما ذكرنا. فهب أن الحرية الرأسمالية تؤدي إلى وفرة الإنتاج، وتنميته نوعيا وكميا، وإن التنافس الحر سيستمر في ظل الرأسمالية، ويحقق إنتاج السلعة بأقل نفقة ممكنة فإن هذا لا يبرهن على قدرة الرأسمالية على توفير سعادة المجتمع، وإنما يشير إلى قدرة المجتمع في ظلها على تحسين الإنتاج وتحقيق أكبر كمية ممكنة من السلع والخدمات. وليست هذه القدرة هي كل شيء في حساب الرفاه الاجتماعي، الذي يعتبر المذهب مسؤولا عن ضمانه، وإنما هي قدرة أو طاقة قد تنفق بالشكل الذي يكفل الرفاه والسعادة للمجتمع، كما قد تنفق بشكل معاكس. والشيء الذي يحدد الشكل الذي تنفق به الطاقة الاجتماعية للإنتاج، هو الأسلوب المتبع في توزيع الناتج العام على أفراد المجتمع. فالرفاه العام إذن لا يتعلق بكمية الناتج العام، بمقدار ما يتعلق بكيفية تقسيم هذا الناتج على الأفراد.
والمذهب الرأسمالي أعجز ما يكون عن امتلاك الكفاءة التوزيعية، التي تضمن رفاه المجتمع وسعادة الجميع، لأن الرأسمالية المذهبية تعتمد في التوزيع على جهاز الثمن، وهو يعني: أن من لا يملك ثمن السلعة ليس له حق في العيش والحياة. وبذلك يقضى بالموت أو الحرمان على من كان عاجزا عن اكتساب هذا الثمن لعدم قدرته على المساهمة في إنتاج السلع والخدمات، أو لعدم تهئ فرصة للمساهمة، أو لوقوعه فريسة بيد منافسين في المجتمعات الرأسمالية، من أفجع الكوارث الإنسانية، لأن العامل حين يستغني الرأسمالي عن خدماته، لأي سبب من الأسباب، لا يجد الثمن
265

الذي يحصل به على ضروراته وحاجاته، ويصبح مرغما على حياة البؤس والجوع، لأن الثمن هو جهاز التوزيع، وما دام لم يحصل منه على شيء في السوق فلا نصيب له من الثروة المنتجة مهما كانت فاحشة.
فليست المبالغة في كفاءة المذهب الرأسمالي، وقدرته على تنمية الإنتاج، إلا تضليلا وسترا للجانب المظلم منه، الذي يحكم في مجال التوزيع بالحرمان والإعدام دون مبالاة على من لم يعرف كلمة السر، ولم يحصل على القطع السحرية، على النقود.
وفي هذا الضوء، لا يمكننا أن نعتبر مجرد الإنتاج مبررا من الناحية الخلقية والعملية، لمختلف الوسائل التي تتيح لحركة الإنتاج انطلاقا أوسع، وحقلا أخصب لأن وفرة الإنتاج - كما عرفنا - ليست هي التعبير الكامل عن الرفاه الاجتماعي العام.
ج - الحرية تعبير أصيل عن الكرامة الانسانية:
ولم يبق بعد هذا إلا الفكرة الثالثة عن الحرية، التي تقدر الحرية بمعيار ذاتي وتضفي عليها قيمة معنوية وخلقية أصيلة، بوصفها المظهر الجوهري للكرامة وتحقيق الذات، اللذين لا يعود للحياة بدونهما أي معنى.
ويجب أن نشير - قبل كل شيء - إلى أن هناك لونين من الحرية، وهما: الحرية الطبيعية، والحرية الاجتماعية. فالحرية الطبيعية هي: الحرية الممنوحة من قبل الطبيعة نفسها. والحرية الاجتماعية هي: الحرية التي يمنحها النظام الاجتماعي، ويكفلها المجتمع لأفراده، ولكل من هاتين الحريتين طباعها الخاص. فلابد لنا - ونحن ندرس مفاهيم الرأسمالية عن الحرية - أن نميز إحدى هاتين الحريتين عن الأخرى. لئلا نمنح إحداهما صفات الأخرى وخصائصها.
فالحرية الطبيعية عنصر جوهري في كيان الانسان، وظاهرة أساسية تشترك فيها الكائنات الحية بدرجات مختلفة، تبعا لمدى حيويتها. ولذلك كان نصيب الإنسان من هذه الحرية أوفر من نصيب أي كائن حي آخر، وهكذا كلما ازداد حظ الكائن
266

من الحياة، عظم نصيبه من الحرية الطبيعية.
ولكي نعرف جوهر هذه الحرية الطبيعية، نبدأ بملاحظة الكائنات غير الحية في سلوكها. فإن الطبيعة ترسم لهذه الكائنات اتجاهات محددة، وتفرض لكل كائن السلوك الذي لا يمكن أن يحيد عنه، فالحجر مثلا فرضت عليه الطبيعة سلوكا محددا، وفقا لقوانين كونية عامة. فلا نترقب منه مثلا أن يتحرك ما لم نحركه، ولا نترقب منه إذا حركناه أن يتحرك في غير الاتجاه الذي نحركه فيه، كما لا نتصور من الحجر أن يتراجع تفاديا للاصطدام بجدار يعترض طريقه. فهو يفقد كل لون من القوة الإيجابية، والقدرة على تكيفات جديدة، ولهذا لم يكن له نصيب من الحرية الطبيعية. وأما الكائن الحي فليس موقفه تجاه البيئة والظروف سلبيا، أو مضغوطا في اتجاه محدد لا محيد عنه، بل يمتلك قدرة وطاقة إيجابية على تكييف نفسه، وابتداع أسلوب جديد إذا لم يكن الأسلوب الاعتيادي، ملائما لظروفه. وهذه الطاقة الإيجابية هي التي توحي الينا بمفهوم الحرية الطبيعية، نظرا إلى أن
الطبيعة وضعت بين يدي الكائن الحي بدائل متعددة، ليأخذ في كل حال بأكثرها ملائمة لظروفه الخاصة. فالنبات الذي يعتبر في الدرجة الدنيا من سلم الكائنات الحية، نجد لديه تلك الطاقة أو الحرية في مستوى منخفض وبدائي، فإن بعض النباتات تغير من اتجاهها ولمجرد اقترابها من حاجز يصلح لمنعها عن الامتداد في ذلك الاتجاه المعين، وتسارع إلى تكييف نفسها واتجاهها تكييفا جديدا. وإذا أخذنا الحيوان - بوصفه درجة ثانية في سلم الحياة - وجدنا عنده تلك الحرية والطاقة، في نطاق أوسع، وعلى مستوى أعلى. إذ وضعت الطبيعة بين يديه بدائل كثيرة، ينتخب منها في كل حين ما هو أكثر ملائمة لشهواته وميوله.. فبينما كان نجد الحجر لا يحيد عن اتجاهه المعين حين نرمي به، والنبات لا يحيد عن اتجاهه، إلا في حدود معينة.. نرى الحيوان قادرا على اتخاذ مختلف الاتجاهات في كل حين. فالحقل الذي سمحت له الطبيعة بممارسة نشاطه الحيوي فيه، أوسع وأغنى بالبدائل من الحقل الذي ظفر به النبات.
267

وتبلغ الحرية الطبيعية ذروتها في الإنسان، لأن الحقل العملي الذي منحته الطبيعة له أوسع الحقول جميعا. فبينما كانت الميول والشهوات الغريزية في الحيوان حدودا نهائية للحقل الذي يعمل فيه يستعمل الحيوان حريته إلا في حدود تلك الميول والشهوات.. لم يعد لها في حقل النشاط الحيوي للانسان تلك المنزلة، لأن الإنسان ركب تركيبا نفسيا، وعضويا خاصا، يمكنه من قهر تلك الشهوات، أو التحديد من مفعولها. فهو حر حتى في الانسياق مع تلك الشهوات أو معاكستها.
وهذه الحرية الطبيعية التي يتمتع بها الإنسان، هي التي تعتبر بحق إحدى المقومات الجوهرية للانسانية، لأنها تعبير عن الطاقة الحيوية فيها. فالانسانية بدون هذه الحرية لفظ بدون معنى.
ومن الواضح أن الحرية بهذا المعنى خارجة عن نطاق البحث المذهبي، وليس لها أي طابع مذهبي، لأنها منحة الله للانسان، وليست منحة مذهب معين دون مذهب، لتدرس على أساس مذهبي.
وأما الحرية التي تحمل الطابع المذهبي، وتميز المذهب الرأسمالي، وتحلت القاعدة الرئيسية في كيانه.. فهي الحرية الاجتماعية، أي الحرية، التي يكسبها الفرد من المجتمع لا من الطبيعة. فإن هذه الحرية هي التي تتصل بالوجود الاجتماعي للانسان وتدخل ضمن نطاق الدراسات المذهبية والاجتماعية.
وإذا استطعنا أن نميز بوضوح، بين الحرية الطبيعية والحرية الاجتماعية أمكننا أن ندرك مدى الخطأ في منح الحرية الاجتماعية خصائص الحرية الطبيعية وفي القول: بأن الحرية التي يوفرها المذهب الرأسمالي، مقوم أساس: عدم التمييز بين الحرية الطبيعية بوصفها مقوما جوهريا للوجود الانساني، والحرية الاجتماعية بوصفها مسألة اجتماعية، يجب أن يدرس مدى كفاءتها لبناء مجتمع سعيد، وانسجامها مع القيم الخلقية التي نؤمن بها.
268

ولنأخذ الآن الحرية الاجتماعية بهذا الوصف لندرس موقف المذهب الرأسمالي منها، بعد أن استبعدنا من نطاق البحث المذهبي الحرية الطبيعية، وتعرفنا على الطابع المميز لكل من الحريتين.
ولدى تحليل هذا المفهوم، مفهوم: الحرية الاجتماعية.. نجد للحرية الاجتماعية محتوى حقيقي، وشكلا ظاهريا. فهي ذات جانبين: أحدهما: المحتوى الحقيقي للحرية أو - كما سنعبر عنه فيما بعد: الحرية الجوهرية. والآخر: الشكل الظاهري للحرية، ولنطلق عليه اسم: الحرية الشكلية. فهناك إذن الحرية الاجتماعية الجوهرية، والحرية الاجتماعية الشكلية.
أما الحرية الاجتماعية الجوهرية: فهي القدرة التي يكسبها الانسان من المجتمع على القيام بفعل شيء معين، وتعني هذه القدرة: أن المجتمع يوفر للفرد كل الوسائل والشروط التي يتطلبها القيام بذلك الفعل. فإذا كفل لك المجتمع أن تملك ثمن سلعة معينة، ووفر هذه السلعة في السوق، ولم يسمح لأي شخص آخر بالحصول على حق احتكاري في شراء السلعة... فأنت عندئذ حر في شراء السلعة، لأنك تتمتع اجتماعيا بكل الشروط التي يتوقف عليها شراء تلك السلعة. وأما إذا كان المجتمع لا يوفر لك ملكية الثمن، أو عرض السلعة في السوق، أو يمنح لغيرك وحده الحق في شرائها.. فليس لديك في الواقع حرية جوهرية، أو قدرة حقيقة على الشراء.
وأما الحرية الشكلية: فهي لا تتطلب كل ذلك، بل قد يكون الفعل مستحيلا بالنسبة إلى الفرد، كشراء السلعة بالنسبة إلى من لا يملك ثمنها.. ولكنه بالرغم من ذلك يعتبر حرا اجتماعيا من الناحية الشكلية، وإن لم يكن لهذه الحرية الشكلية أي محتوى حقيقي، لأن الحرية الشكلية في الشراء، لا تعني القدرة على الشراء فعلا، وإنما تعني بمدلولها الاجتماعي: سماح المجتمع للمرء - ضمن نطاق امكاناته وفرصته، التي يحددها موقفه في حلبة التنافس مع الآخرين - باتخاذ أي أسلوب يتيح له شراء تلك السلعة. فالإنسان الاعتيادي حر شكليا في شراء قلم، كما هو حر في شراء شركة رأسمالية، بقدر رأسمالها بمئات الملايين.. ما دام النظام الاجتماعي يسمح له بالقيام بأي علم، واتخاذ أي أسلوب في سبيل شراء تلك الشركة الضخمة. أو ذلك
269

القلم المتواضع. وأما قلة الفرض أو الشروط التي تتيح له شراء الشركة، أو انعدام تلك الفرص في حلبة التنافس نهائيا، وعدم توفير المجتمع لها.. فلا يتناقض مع الحرية الشكلية في إطارها الظاهري العام.
غير أن الحرية الشكلية ليست خاوية هكذا تماما، بل إنها تعني أحيانا معنى إيجابيا. فرجل الأعمال الذي بدأ وجوده التجاري بشكل ناجح، وإن لم يكن قادرا بالفعل على شراء شركة ضخمة، ولكنه ما دام يتمتع بالحرية الشكلية اجتماعيا فهو قادر على القيام بمختلف الأعمال، في سبيل الظفر بالقدرة على شراء تلك الشركة، في
المدى القريب أو البعيد. وعلى هذا الأساس تكون الحرية الشكلية في شراء الشركة وامتلاكها، ذات معنى إيجابي، لأنها وإن لم تسلم اليه الشركة فعلا، ولكنها تسمح له بامتحان مواهبه، والقيام بمختلف النشاطات في سبيل الظفر بملكية تلك الشركة. والشيء الذي يفقده في ظل هذه الحرية الشكلية، هو ضمان المجتمع له الحصول على الشركة، أو الحصول على ثمنها. فإن هذا الضمان الذي هو معنى الحرية الاجتماعية الجوهرية، لا تكلفه الحرية الشكلية للأفراد.
فالحرية الشكلية اجتماعيا ليست إذن خاوية دائما، بل هي أداة لاستثارة القوى والطاقات في الأفراد، وتعبئتها في سبيل الوصول إلى مستويات أعلى، وإن لم تقدم شيئا من ضمانات الفوز والنجاح.
وفي هذا الضوء نعرف أن الحرية الشكلية، وإن لم تكن تعني القدرة فعلا، ولكنها شرط ضروري لتوفر هذه القدرة. فرجل الأعمال الناجح الذي تحدثنا عنه لم يكن ليتاح له أن يحلم بامتلاك الشركة الرأسمالية الكبيرة، وبالتالي لم يكن ليمتلكها بالفعل بعد جهد متواصل.. لو لم يكن يتمتع بالحرية الشكلية، ولو لم يكن يسمح له المجتمع بتجربة حظه وإمكاناته في حلبة التنافس، وهكذا تكون الحرية الشكلية بالنسبة اليه أداة فعالة وشروطا ضروريا، لاكتساب الحرية الجوهرية، والقدرة الحقيقية على شراء الشركة بينما تبقى حرية الأفراد والفاشلين شكليا في تملك الشركة، حرية اسمية فحسب، لا تشع بذرة من الحقيقة.
270

والمذهب الرأسمالي يتبنى الحرية الاجتماعية الشكلية، مؤمنا بأن الحرية الشكلية هي التجسيد الكامل لمفهوم الحرية. و (أما الحرية الجوهرية) - على حد تعبيرنا فيما سبق - فهي تعني في رأيه القدرة على الاستفادة من الحرية، وليست هي الحرية نفسها. ولذلك فهو لا يعني بتوفير القدرة لدى المرء ومنحه الحرية الجوهرية، وإنما يترك ذلك إلى ما تسنح له من فرص ويظفر به من إمكانات، مكتفيا بتوفير الحرية الشكلية، بالسماح له بممارسة مختلف ألوان النشاط الاقتصادي في سبيل الغابات التي يسعى إلى تحقيقها، ورفض أي سلطة اجتماعية تمارس الضغط والإكراه، في حقل من حقول الحياة.
فللرأسمالية موقف سلبي تجاه الحرية الجوهرية، وموقف إيجابي تجاه الحرية الشكلية، أي أنها لا تعنى بتوفير الحرية الأولى، وإنما تكفل للأفراد الحرية الشكلية فقط.
وتوجد في رأي الرأسمالية مبررات لذلك الموقف السلبي تجاه الحرية الجوهرية تتلخص في أمرين:
أحدهما: أن طاقة المذهب الاجتماعي - أي مذهب كان - قاصرة عن توفير الحرية الجوهرية لكل شخص، وضمان القدرة على تحقيق كل ما يسعى نحوه ويهدف اليه. لأن كثيرا من الأفراد يفقدون المواهب والكفاءات الخاصة، التي تعتبر ضرورة لتحقيق أهدافهم، وليس في إمكان المذهب أن يجعل من المغمور نابغا، أو من البليد عبقريا، كما أن كثيرا من الأهداف لا يمكن أن يضمن لكل الأفراد الفوز بها، فليس من المعقول - مثلا - أن يصبح كل فرد رئيسا للدولة، وأن يضمن للأفراد جميعا القدرة على استلام منصب الرئاسة فعلا، وإنما الشيء المعقول: أن يفسح المجال أمام كل فرد ليخوض المعترك السياسي أو الاقتصادي، ويجرب مواهبه. فإما أن ينجح ويصل إلى الذروة، وإما أن يقف في منتصف الطريق، وإما أن يعود من المعركة خاسرا، وعلى أي حال فهو المسؤول الأخير عن مصيره في المعترك، ومدى نجاحه أو فشله.
والأمر الآخر: الذي تبرر به الرأسمالية تخليها عن الحرية الجوهرية: هو أن منح الفرد هذه الحرية، بتقديم الضمانات الكافية لنجاحه في أي سبيل يسلكه، يضعف
271

إلى مدى بعيد شعور الفرد بالمسؤولية، ويخمد الجذوة الحرارية فيه، التي تدفعه إلى النشاط، وتفرض عليه مزيدا من اليقظة والانتباه. لأنه ما دام قد ضمن المذهب له نجاحه، فلا حاجة به إلى الاعتماد على شخصه، واستثمار قدرته ومواهبه، كما كان حريا به أن يفعل لو لم يوفر المذهب له الحرية الجوهرية، والضمانات اللازمة.
وكلا هذين المبررين صحيح إلى حد ما، ولكن لا بالشكل الذي تقرره الرأسمالية، وترفض على أساسه فكرة الحرية الجوهرية والضمان رفضا تاما. فإن ضمان الحصول على أي شيء، يسعى اليه الفرد في مجال نشاطه الاقتصادي وإن كان حلما خياليا غير ممكن التحقيق، ومن الشطط أن يكلف المذهب الاجتماعي بتحقيقه.. غير أن توفير حد أدنى من الحرية الجوهرية في المجال الاقتصادي، وإعطاء ضمانات كافية لمستوى معين من المعيشة، مهما كانت فرص الانسان وشروطه.. ليس شيئا مثاليا متعذر التحقيق، ولا سببا في تجميد المواهب وطاقات النمو والتكامل في الإنسان، ما دامت المستويات الأكثر رقيا قيد التنافس الحر، فهي تتطلب من الأفراد جهدا ونشاطا، وتنمي فيهم الاعتماد على أنفسهم.
فالرأسمالية إذن لا تستطيع أن تستند في موقفها السلبي من الحرية الجوهرية والضمان، إلى استحالة اعطاء مثل هذا الضمان، أو القول: بأن هذا الضمان يشل الطاقة الحرارية في النشاط الانساني.. ما دام يمكن للمذهب أن يوفر درجة معقولة من الضمان، ويفتح خارج حدود هذه الدرجة مجالات للتنافس، الذي يذكي القابليات وينميها.
والحقيقة: أن موقف الرأسمالية السلبي من فكرة الضمان والحرية الجوهرية كان نتيجة حتمية لموقفها الإيجابي من الحرية الشكلية. لأنها حين تبنت الحرية الشكلية، وأقامت كيانها المذهبي عليها - كان من الضروري لها أن
ترفض فكرة الضمان، وتقف موقفها السلبي من الحرية الجوهرية، لأن الحرية الجوهرية والحرية الشكلية متعارضتان. فلا يمكن توفير الحرية الجوهرية في مجتمع يؤمن بمبدأ الحرية الشكلية، ويحرص على توفيرها لجميع الأفراد في مختلف المجالات، فإن حرية رجال الأعمال في استخدام العامل ورفضه، وحرية أصحاب الثروات في التصرف في أموالهم طبقا
272

لمصالحهم الخاصة، كما يقرره مبدأ الحرية الشكلية. يعني عدم إمكان وضع مبدأ ضمان العمل للعامل، أو ضمان المعيشة لغير العامل من العاجزين، لأن وضع مثل هذه الضمانات لا يمكن أن يتم بدون تحديد تلك الحريات، التي يتمتع بها أصحاب العمل وأرباب الثروة. فإما أن يسمح لأصحاب العمل أو المال بالتصرف وفقا لإرادتهم، فتوفر بذلك لهم الحرية الشكلية، ويصبح من غير الممكن إعطاء ضمانات للعمل أو المعيشة. وإما أن تعطى هذه الضمانات فلا يسمح لأصحاب العمل والمال أن يتصرفوا كما يحلو لهم، وفي ذلك خروج على مبدأ الحرية الشكلية، القائل: بضرورة السماح لكل أحد بالتصرف في المجال الاقتصادي كما يريد. ولما كانت الرأسمالية تؤمن بهذا المبدأ، فقد وجدت نفسها مضطرة إلى رفض فكرة الضمان، فكرة الحرية الجوهرية، حفاظا على توفير الحرية الشكلية لجميع الأفراد على السواء.
وبينما أخذ المجتمع الرأسمالي بالحرية الشكلية، وطرح الحرية الجوهرية وفكرة الضمان جانبا، وقف المجتمع الاشتراكي موقفا معاكسا، إذ قضت الاشتراكية الماركسية فيه على الحرية الشكلية، بإقامة جهاز دكتاتوري يتولى السلطة المطلقة في البلاد. وزعمت أنها عوضت عن تلك الحرية الشكلية بحرية جوهرية، أي بما تقدمه للمواطنين من ضمانات للعمل والحياة.
وهكذا أخذ كل من المذهبين بجانب من الحرية، وطرح الجانب الآخر ولم يحل هذا التناقض المستقطب بين الحرية الشكلية والحرية الجوهرية، أو بين الشكل والجوهر.. إلا في الإسلام، الذي آمن بحاجة المجتمع إلى كلا اللونين من الحرية، فوفر للمجتمع الحرية الجوهرية بوضع درجة معقولة من الضمان تسمح لجميع أفراد المجتمع الإسلامي بالحياة الكريمة، وممارسة متطلباتها الضرورية ولم يعترف في حدود هذا الضمان بالحرية. وفي نفس الوقت لم يجعل من هذا الضمان مبررا للقضاء على الحرية الشكلية، وهدر قيمتها الذاتية والموضوعية، بل فتح السبيل أمام كل فرد خارج حدود الضمان، ومنحه من الحريات ما ينسجم مع مفاهيمه عن الكون والحياة فالمرء مضمون بدرجة وفي حدود خاصة، وحر خارج هذه الحدود.
273

وهكذا امتزجت الحرية الجوهرية والحرية الشكلية معا، في التصميم الإسلامي هذا الامتزاج الرائع الذي لم تنتجه الانسانية - في غير ظل الإسلام - إلى التفكير فيه وتحقيقه، إلا في غضون هذا القرن الأخير، إذ بدأت المحاولات إلى إقرار مبدأ الضمان، والتوفيق بينه وبين الحرية، بعد أن فشلت تجربة الحرية الرأسمالية فشلا مريرا.
وعلى أي حال فقد ضحت الرأسمالية بفكرة الضمان والحرية الجوهرية في سبيل الحرية الشكلية.
وهنا نصل إلى النقطة الأساسية في دراستنا، لنتساءل: ما هي تلك القيم التي ترتكز عليها الحرية الشكلية في المذهب الرأسمالي، والتي سمحت للرأسمالية أن تهدر جوهر الحرية وضماناتها في سبيل؟؟!
ويجب أن نستبعد هنا كل المحاولات الرامية، إلى تبرير الحرية الشكلية بمبررات موضوعية اجتماعية، كوصفها بأنها أداة لتوفير الإنتاج العام، أو لتحقيق الرفاه الاجتماعي. فقد مرت بنا هذه المبررات ودرسناها، ولم تصمد للدرس والامتحان، وإنما نعني الآن بمحاولة الرأسمالية، لتفسير قيمة الحرية تفسيرا ذاتيا.
فقد يقال بهذا الصدد: أن الحرية جزء من كيان الإنسان، وإذا سلب الإنسان حريته فقد بذلك كرامته، ومعناه الانساني الذي يتميز به عن سائر الكائنات. وهذا التعبير المهلهل لا ينطوي على تحليل علمي للقيمة الذاتية للحرية، ولا يمكن أن يجذب سوى من يستهويه التلاعب بالألفاظ، لأن الإنسان إنما يتميز كيانه الانساني الخاص عن سائر الكائنات، بالحرية الطبيعية، بوصفه كائنا طبيعيا، لا بالحرية الاجتماعية باعتباره كائنا اجتماعيا لا فالحرية التي تعتبر شيئا من كيان الانسان: هي الحرية الطبيعية، لا الاجتماعية التي تمنح وتسلب تبعا للمذهب الاجتماعي السائد.
وقد يقال: ان الحرية بمدلولها الاجتماعي تعبر عن نزعة أصيلة في نفس الإنسان، وحاجة من حاجاته الجوهرية. فالانسان بوصفه يتمتع بالحرية الطبيعية. يميل ذاتيا إلى أن يكون حرا، من ناحية المجتمع الذي يعيش ضمنه، في سلوكه وعلاقاته
274

مع الآخرين، كما كان حرا من الناحية الطبيعية. ومن وظيفة المذهب الاجتماعي أن يتعارف بالنزعات والميول الأصيلة في الانسان، ويضمن إشباعها، لكي يصبح مذهبا واقعيا ينسجم مع الطبيعة الانسانية التي يعالجها ويشرع لها فلا يمكن لمذهب إذن أن يكبت في الانسان نزعته الأصيلة إلى الحرية.
وهذا صحيح إلى حد ما. ولكننا نقول من الناحية الأخرى: أن من وظيفة المذهب الاجتماعي، الذي يريد أن يرسي بنيانه على قواعد مكينة من النفس البشرية: أن يعترف بمختلف النزعات الأصيلة في الانسان، وبحاجاته الجوهرية المتنوعة، ويسعى إلى التوفيق والملائمة بينها. وليس من المستساغ لكي يكون المذهب واقعيا وإنسانيا، أن يعترف بإحدى تلك النزعات الأصيلة، ويضمن إشباعها إلى أقصى حد، على حساب النزعات الأخرى.
فالحرية مثلا وإن كانت نزعة أصيلة في الانسان، لأنه يرفض بطبعه القسر والضغط والاكراه، ولكن لهذا الإنسان حاجات جوهرية، وميولا أصيلة أخرى. فهو بحاجة ماسة - مثلا - إلى شيء من السكينة والاطمئنان في حياته، لأن القلق يرعبه كما ينغصه الضغط والاكراه. فإذا فقد كل الضمانات التي يمكن للمجتمع أن يؤديها له في حياته ومعيشته، خسر بذلك حاجة من حاجاته الجوهرية، وحرم من إشباع ميله الأصيل إلى الاستقرار والثقة، كما أنه إذا خسر حريته تماما، وقام جهاز اجتماعي يملي عليه ارادته بالضغط والاكراه. فكان قد فقد حاجة جوهرية أخرى، وهي حاجته إلى الحرية التي تعبر عن نزعة أصيلة في نفسه. فالتوفيق الدقيق الحكيم بين حاجة الانسان الأصيلة إلى الحرية، وحاجته الأصيلة إلى شيء من الاستقرار والثقة، وسائر حاجاته الأصيلة الأخرى. هو العلمية التي يجب أن يؤديها المذهب للانسانية، إذا حاول أن يكون واقعيا، قائما على أسس راسخة من الواقع الانساني. وإما أن تطرح الميول والحاجات الأخرى جانبا، ويضحي بها لحساب حاجة أصيلة واحدة، كي يتوفر إشباعها إلى ابعد الحدود كما فعل المذهب الرأسمالي. فهذا يتعارض مع أبسط الواجبات المذهبية.
275

وأخيرا فإن موقف الرأسمالية من الحرية والضمان، لئن كان خطأ فهو مع هذا ينسجم مع الإطار العام للتفكير الرأسمالي كل الانسجام. لأن الضمان ينطوي على فكرة تحديد حريات الأفراد والضغط عليها، ولا تستطيع الرأسمالية أن تجد لهذا الضغط والتحديد مسوغا، على أساس مفاهيمها العامة عن الكون والانسان.
وذلك أن الضغط والتحديد، قد يستمد مبرره من الضرورة التاريخية، كما تعتقد الماركسية في ضوء المادية التاريخية، إذ ترى أن دكتاتورية البروليتاريا، التي تمارس سياسية الضغط والتحديد من الحريات في المجتمع
ولكن الرأسمالية لا تؤمن بالمادية التاريخية، بتسلسلها الماركسي الخاص.
وقد يستمد الضغط والتحديد مبرره من الإيمان بسلطة عليا، تمتلك حق تنظيم الإنسانية وتوجيهها في حياتها، ووضع الضمانات المحددة لحريات الأفراد، كما يعتقد الدين، إذ يرى أن للإنسان خالقا حكيما من حقه أن يصنع له وجوده الاجتماعي، ويجد طريقته في الحياة.
وهذا ما لا يمكن للرأسمالية أن تقره، في ضوء مفهومها الأساسي القائل: بفصل الدين عن واقع الحياة، وسحبه من كل الحقول الاجتماعية العامة.
وقد يبرر الضغط والتحديد، بوصفه قوة نابعة من داخل الإنسان، ومفروضة عليه من ضميره الذي يفرض عليه قيما خلقية، وحدودا معينة لسلوكه مع الآخرين وموقفه من المجتمع.. ولكن الضمير ليس بمفهومه في فلسفة الأخلاق عند الرأسمالية، إلا انعكاسا داخليا للعرف أو العادات، أو أي تحديد آخر يفرض على الفرد من الخارج. فالضمير في نهاية التحليل ضغط خارجي، وليس نابعا من الأعماق الداخلية.
وهكذا تنتهي الرأسمالية إلى العجز عن تفسير الضغط على الحرية، عن طريق الضرورة التاريخية، أو الدين، أو الضمير.
وهكذا تنتهي الرأسمالية إلى العجز عن تفسير الضغط على الحرية، عن طريق الضرورة التاريخية، أو الدين، أو الضمير.
وهكذا يرتبط موقفها من الحرية بجذورها الفكرية، ومفاهيمها الرئيسية عن
276

الكون والإنسان، عن التاريخ والدين والأخلاق.
وعلى هذا الأساس وضعت الرأسمالية مفهومها السياسي عن الحكومة، ومختلف السلطات الاجتماعية. فهي لا ترى مبررا لتدخل هذه السلطات في حريات الأفراد، إلا بالقدر الذي يسمح به الأفراد أنفسهم. وأما التدخل خارج هذه الحدود، فلا مسوغ له من حتمية تاريخية، أو دين، أو قيم وأخلاق. ومن الطبيعي عندئذ أن تنتهي الرأسمالية من تسلسلها الفكري إلى: التأكيد على الحرية في المجال الاقتصادي، ورفض فكرة قيام السلطة بوضع أي ضمانات أو تحديدات.
هذه هي مفاهيم الرأسمالية في ترابطها العام، الذي ينتهي إلى الأسس الفكرية العامة.
وهذه هي وجهة النظر التي يجب تمحيص تلك المفاهيم، وبالتالي تفنيدها على أساس تلك النظرة. ‌‌‌
277

اقتصادنا في معالمه الرئيسية
1 - الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي
2 - الاقتصاد الإسلامي جزء من كل
3 - الإطار العام للاقتصاد الإسلامي
4 - الاقتصاد الإسلامي ليس علما
5 - علاقات التوزيع منفصلة عن شكل الإنتاج
6 - المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام، وحلولها
279

1 - الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي
يتألف الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي من أركان رئيسية ثلاثة يتحدد وفقا لها محتواه المذهبي، ويتميز بذلك عن سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى في خطوطها العريضة. وهذه الأركان هي كما يلي:
1 - مبدأ الملكية المزدوجة.
2 - مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود.
3 - مبدأ العدالة الاجتماعية.
وسوف نتناول هذه الأركان الرئيسية بالشرح والتفسير، فنكون فكرة عامة عن الاقتصاد الإسلامي، كي يتاح لنا مجال البحث بصورة أوسع، في تفاصيله وخصائصه المذهبية.
1 - مبدأ الملكية المزدوجة
يختلف الإسلام عن الرأسمالية والاشتراكية، في نوعية الملكية التي يقررها اختلافا جوهريا.
فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاص الفردي للملكية، أي بالملكية الخاصة، كقاعدة عامة. فهو يسمح للأفراد بالملكية الخاصة لمختلف أنواع الثروة في البلاد تبعا لنشاطاتهم وظروفهم. ولا يعترف بالملكية العامة إلا حين تفرض الضرورة
281

الاجتماعية، وتبرهن التجربة على وجوب تأميم هذا المرفق أو ذاك. فتكون هذه الضرورة حالة استثنائية، يضطر المجتمع الرأسمالي - على أساسها - إلى الخروج عن مبدأ الملكية الخاصة، واستثناء مرفق أو ثروة معينة من مجالها.
والمجتمع الاشتراكي على العكس تماما من ذلك. فإن الملكية الاشتراكية فيه هي المبدأ العام، الذي يطبق على كل أنواع الثروة في البلاد. وليست الملكية الخاصة لبعض الثروات في نظره إلا شذوذا واستثناءا، قد يعترف به أحيانا بحكم ضرورة اجتماعية قارة.
وعلى أساس هاتين النظرتين المتعاكستين، للرأسمالية والاشتراكية، يطلق اسم: (المجتمع الرأسمالي)، على كل مجتمع يؤمن بالملكية الخاصة بوصفها المبدأ الوحيد، وبالتأميم باعتباره استثناءا ومعالجة لضرورة اجتماعية كما يطلق اسم: (المجتمع الاشتراكي) على كل مجتمع يرى أن الملكية الاشتراكية هي المبدأ، ولا يعترف بالملكية الخاصة إلا في حالات استثنائية.
وأما المجتمع الإسلام فلا تنطبق عليه الصفة الأساسية لكل المجتمعين. لأن المذهب الإسلامي لا يتفق مع الرأسمالية في القول: بأن الملكية الخاصة هي المبدأ، ولا مع الاشتراكية في اعتبارها للملكية الاشتراكية مبدأ عاما، بل إنه يقرر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فيضع بذلك مبدأ الملكية المزدوجة (الملكية ذات الأشكال المتنوعة) بدلا عن مبدأ الشكل الواحد للملكية، الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية. فهو يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة. يخصص لكل واحد من هذه الأشكال الثلاثة للملكية حقلا خاصا تعمل به، ولا يعتبر شيئا منها شذوذا واستثناء، أو علاجا موقتا اقتضته الظروف.
ولهذا كان من الخطأ أن يسمى المجتمع الإسلامي: مجتمعا رأسماليا وإن سمح بالملكية الخاصة، لعدة من رؤوس الأموال ووسائل الإنتاج، لأن الملكية الخاصة عنده ليست هي القاعدة العامة. كما أن من الخطأ أن نطلق على المجتمع الإسلامي اسم المجتمع الاشتراكي، وإن أخذ بمبدأ الملكية العامة، وملكية الدولة في بعض الثروات
282

ورؤوس الأموال، لأن الشكل الاشتراكي للملكية ليس هو القاعدة العامة في رأيه. وكذلك من الخطأ أيضا أن يعتبر مزاجا مركبا من هذا وذاك، لأن تنوع الأشكال الرئيسية للملكية في المجتمع الإسلامي، لا يعني أن الإسلام مزج بين المذهبين: الرأسمالي والاشتراكي، وأخذ من كل منهما جانبا.. وإنما يعبر ذلك التنوع في أشكال الملكية عن: تصميم مذهبي أصيل قائم على أسس وقواعد فكرية معينة، وموضوع ضمن إطار خاص من القيم والمفاهيم، تناقض الأسس والقواعد والقيم والمفاهيم التي قامت عليها الرأسمالية الحرة، والاشتراكية الماركسية.
وليس هناك أدل على صحة الموقف الإسلامي من الملكية، القائم على أساس مبدأ الملكية المزدوجة. من واقع التجربتين الرأسمالية والاشتراكية. فإن كلتا التجربتين اضطرنا إلى الاعتراف بالشكل الآخر للملكية، الذي يتعارض مع القاعدة العامة فيهما، لأن الواقع برهن على خطأ الفكرة القائلة بالشكل الواحد للملكية. فقد بدأ المجتمع الرأسمالي منذ أمد طويل يأخذ بفكرة التأميم، وينزع عن بعض المرافق إطار الملكية الخاصة. وليست حركة التأميم هذه إلا اعترافا ضمنيا من المجتمعات الرأسمالية: بعدم جدارة المبدأ الرأسمالي في الملكية، ومحاولة لمعالجة ما نجم عن ذلك المبدأ من مضاعفات وتناقضات.
كما أن المجتمع الاشتراكي من الناحية الأخرى، وجد نفسه - بالرغم من حداثته - مضطرا أيضا إلى الاعتراف بالملكية الخاصة، قانونيا حينا وبشكل غير قانوني أحيانا أخرى. فمن اعترافه القانوني بذلك، ما تضمنته المادة السابعة في الدستور السوفياتي، من النص على أن لكل عائلة من عوائل المزرعة التعاونية، بالإضافة إلى دخلها الأساسي الذي يأتيها من اقتصاد المزرعة التعاونية المشترك قطعة من الأرض خاصة بها، وملحقة بمحل السكن، ولها في الأرض اقتصاد إضافي ومنزل للسكنى وماشية منتجة وطيور وأدوات زراعية بسيطة.. كملكية الخاصة. وكذلك سمحت المادة التاسعة بتملك الفلاحين الفرديين والحرفيين، لمشاريع اقتصادية صغيرة، وقيام هذه الملكيات الصغيرة إلى جانب النظام الاشتراكي السائد.
283

2 - مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود
والثاني من أركان الاقتصاد الإسلامي، السماح للأفراد على الصعيد الاقتصادي بحرية محدودة، بحدود من القيم المعنوية والخلقية التي يؤمن بها الإسلام.
وفي هذا الركن نجد أيضا الاختلاف البارزين بين الاقتصاد الإسلامي، والاقتصادي، الرأسمالي والاشتراكي. فبينما يمارس الأفراد حريات غير محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي حريات الجميع.. يقف الإسلام موقفه الذي يتفق مع طبيعته العامة، فيسمح للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل، التي تهذب الحرية وتصقلها، وتجعل منها أداة خير للانسانية كلها.
والتحديد الإسلامي للحرية الاجتماعية في الحقل الاقتصادي على قسمين:
أحدهما: التحديد الذاتي الذي ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية.
والآخر: التحديد الموضوعي الذي يعبر عن قوة خارجية، تحدد السلوك الاجتماعي وتضبطه.
أما التحديد الذاتي: فهو يتكون طبيعيا في ظل التربية الخاصة، التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكم الإسلام في كل مرافق حياته (المجتمع الإسلامي). فإن للإطارات الفكرية والروحية التي يصوغ الإسلام الشخصية الإسلامية ضمنها، حين يعطي فرصة مباشرة واقع الحياة وصنع التاريخ على أساسه.. إن لتلك الإطارات قوتها المعنوية الهائلة، وتأثيرها الكبير في التحديد ذاتيا وطبيعيا من الحرية، الممنوحة لأفراد المجتمع الإسلامي، وتوجيهها توجيها مهذبا صالحا، دون أن يشعر الأفراد بسلب شيء من حريتهم، لأن التحديد نبع من واقعهم الروحي والفكري، فلا يجدون فيه حدا لحرياتهم. ولذلك لم يكن التحديد الذاتي تحديدا للحرية في الحقيقة، وإنما هو عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للانسان الحر، إنشاءا معنويا صالحا، حيث تؤدي الحرية في ظله رسالتها الصحيحة.
284

وقد كان لهذا التحديد الذاتي نتائجه الرائعة، وآثاره الكبيرة في تكوين طبيعة المجتمع الإسلامي ومزاجه العام، وبالرغم من أن التجربة الإسلامية الكاملة كانت قصيرة الأمد، فقد آتت ثمارها، وفجرت في النفس البشرية امكاناتها المثالية العالية، ومنحتها رصيدا روحيا زاخرا بمشاعر العدل والخير والاحسان ولو قدر لتلك التجربة أن تستمر وتمتد في عمر الانسانية، أكثر مما امتدت في شوطها التاريخي القصير، لإستطاعت أن تبرهن على كفاءة الإنسانية لخلافة الأرض، ولصنعت عالما جديدا زاخرا بمشاعر العدل والرحمة، واجتثت من النفس البشرية أكثر ما يمكن استئصاله من عناصر الشر، ودوافع الظلم والفاسد.
وناهيك من نتائج التحديد الذاتي، أنه ظل وحده هو الضامن الأساسي لأعمال البر والخير في مجتمع المسلمين، منذ خسر الإسلام تجربته للحياة. ‌‌وفقد قيادته السياسية وإمامته الاجتماعية، وبالرغم من ابتعاد المسلمين عن روح تلك التجربة والقيادة بعدا زمنيا امتد قرونا عديدة، وبعدا روحيا يقدر بانخفاض مستوياتهم الفكرية والنفسية، واعتيادهم على ألوان أخرى للحياة الاجتماعية والسياسية.. بالرغم من ذلك كله فقد كان للتحديد الذاتي، الذي وضع الإسلام نواته في تجربته الكاملة للحياة، دوره الإيجابي الفعال، في ضمان أعمال البر والخير، التي تتمثل في إقدام الملايين من المسلمين بملء حريتهم، المتبلورة في إطار ذلك التحديد، على دفع الزكاة وغيرها من حقوق الله، والمساهمة في تحقيق مفاهيم الإسلام عن العدل الاجتماعي، فماذا تقدر من نتائج في ضوء هذا الواقع، لو كان هؤلاء المسلمون يعيشون التجربة الإسلامية الكاملة، وكان مجتمعهم تجسيدا كاملا للإسلام، في أفكاره وقيمه وسياسته، وتعبيرا عمليا عن مفاهيمه ومثله.
وأما التحديد الموضوعي للحرية، فنعني به: التحديد الذي يفرض على الفرد في المجتمع الإسلامي من خارج، بقوة الشرع. ويقوم هذا التحديد الموضوعي للحرية في الإسلام، على المبدأ القائل: إنه لا حرية للشخص فيما نصت عليه الشريعة
285

المقدسة، من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها (1).
وقد تم تنفيذ هذا المبدأ في الإسلام بالطريقة التالية:
أولا: كفلت الشريعة في مصادرها العامة، النص على المنع عن مجموعة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، المعيقة - في نظر الإسلام - عن تحقيق المثل والقيم التي يتبناها الإسلام، كالربا والاحتكار وغير ذلك (2).
وثانيا: وضعت الشريعة مبدأ إشراف ولي الأمر على النشاط العام، وتدخل الدولة لحماية المصالح العامة وحراستها، بالتحديد من حريات الأفراد فيما يمارسون من أعمال (3). وقد كان وضع الإسلام لهذا المبدأ ضروريا لكي يضمن تحقيق مثله ومفاهيمه في العدالة الاجتماعية على مر الزمن. فإن متطلبات العدالة الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام، تختلف باختلاف الظروف الاقتصادية للمجتمع، والأوضاع المادية التي تكتنفه فقد يكون القيام بعمل مضرا بالمجتمع وكيانه الضروري، في زمان دون زمان، فلا يمكن تفصيل ذلك في صيغ دستورية ثابتة وإنما السبيل الوحيد هو فسح المجال لولي الأمر، ليمارس وظيفته بصفته سلطة مراقبة وموجهة، ومحددة لحريات الأفراد فيما يفعلون أو يتركون من الأمور المباحة في الشرع، وفقا للمثل الإسلام
في المجتمع.
والأصل التشريعي لمبدأ الإشراف والتدخل هو القرآن الكريم، في قوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (4). فإن هذا النص دل بوضوح على وجوب إطاعة أولي الأمر. ولا خلاف بين المسلمين، في أن أولي الأمر هم أصحاب السلطة الشرعية في المجتمع الإسلامي، وإن اختلفوا في تعيينهم وتحديد شروطهم وصفاتهم.

(1) لاحظ علل الشرائع ج 1، ص 253، وجواهر الكلام ج 22، ص 10، والميزان ج 1، ص 253.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 22، ص 9 - 195، وإيصال الطالب ج 10، ص 395.
(3) لاحظ علل الشرائع ج 1، ص 253، وإيصال الطالب ج 7، ص 171 - 179.
(4) النساء، 59.
286

فللسلطة الإسلامية العليا إذن حق الطاعة والتدخل، لحماية المجتمع وتحقيق التوازن الإسلامي فيه، على أن يكون هذا التدخل، لحماية المجتمع وتحقيق التوازن الإسلامي فيه، على أن يكون هذا التدخل ضمن دائرة الشريعة المقدسة. فلا يجوز للدولة أو لولي الأمر أن يحلل الربا، أو يجيز الغش، أو يعطل قانون الإرث، أو يلغي ملكية ثابتة في المجتمع على أساس إسلامي.. وإنما يسمح لولي الأمر في الإسلام، بالنسبة إلى التصرفات والأعمال المباحة في الشريعة أن يتدخل فيها، فيمنع عنها أو يأمر بها وفقا للمثل الإسلامي للمجتمع (1). فإحياء الأرض، واستخراج المعادن، وشق الأنهار، وغير ذلك من ألوان النشاط والاتجار.. أعمال مباحة سمحت بها الشريعة سماحا عاما ووضعت لكل عمل نتائجه الشرعية التي تترتب عليه، فإذا رأى ولي الأمر أن يمنع عن القيام بشيء من تلك التصرفات أو يأمر به، في حدود صلاحياته.. كان له ذلك، وفقا للمبدأ الآنف الذكر.
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وآله - يطبق مبدأ التدخل هذا حين تقضي الحاجة ويتطلب الموقف شيئا من التدخل والتوجيه. ومن أمثلة ذلك ما جاء في الحديث الصحيح - عنه صلى الله عليه وآله - من أنه قضى بين أهل المدينة في مشارب النخل: إنه لا يمنع نفع الشيء. وقضى بين أهل البادية: إنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، وقال لا ضرر ولا ضرار (2). فإن من الواضح لدى الفقهاء: أن منع نفع الشيء أو فضل الماء، ليس محرما بصورة عامة في الشريعة المقدسة. وفي هذا الضوء نعرف: أن النبي لم يحرم على أهل المدينة منع نفع الشيء، أو منع فضل الماء بصفته رسولا عن تنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع وتوجيهها توجيها لا يتعارض مع المصلحة العامة التي قدرها. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل الرواية تعبر عن تحريم النبي (ص): بالقضاء لا بالنهي، نظرا إلى أن القضاء لون من الحكم (3).

(1) لاحظ تحف العقول ص 347، وإيصال الطالب ج 7، ص 187 - 195.
(2) الوسائل ج 17، ص 333، الحديث 3241.
(3) وقد اعتقد بعض الفقهاء، في قضاء النبي بأن لا يمنع فضل الماء أو نفع الشيء: أنه نهي تحريم. وأنما اضطروا إلى هذا اللون من التأويل وانتزاع طابع الحتم والوجوب عن قضاء النبي، اعتقادا منهم بأن الحديث لا يتحمل إلا أحد معنيين: فإما أن يكون نهي النبي تحريما، فيصبح منع فضل الماء والكلاء محرما في الشريعة، كتحريم الخمر وغيره من المحرمات العامة. وإما أن يكون النهي ترجيحا واستحسانا، لسخاء المالك بفضل ماله. ولما كان المعنى الأول غريبا عن الذهنية الفقهية، فيجب الأخذ بالتفسير الثاني. ولكن هذا في الواقع لا يبرر تأويل قضاء النبي وتفسيره بالترجيح والاستحسان، ما دام من الممكن أن نحتفظ لقضاء النبي يتابع الحتم والوجوب، كما يشع به اللفظ، ونفهمه بوصفه حكما صدر من النبي بما هو ولي الأمر، نظرا إلى الظروف الخاصة التي كان المسلمون يعيشونها وليس حكما شرعيا عاما كتحريم الخمر أو الميسر.
287

وسوف نتناول هذا المبدأ (مبدأ الاشراف والتدخل)، بشكل أوسع وبصورة أكثر وضوحا أكثر وضوحا وتحديدا في بحث مقبل (1).
والركن الثالث في الاقتصاد الإسلامي. هو مبدأ العدالة الاجتماعية التي جسدها الإسلام، فيما زود به نظام توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي من عناصر وضمانات، تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق العدالة الإسلامية، وانسجامه مع القيم التي يرتكز عليها. فإن الإسلام حين أدرج العدالة الاجتماعية ضمن المبادئ الأساسية، التي يتكون منها مذهبة الاقتصادي لم يتبن العدالة الاجتماعية بمفهومها التجريدي العام، ولم يناد بها بشكل مفتوح لكل تفسير، ولا أوكله إلى المجتمعات الإنسانية التي تختلف في نظرتها للعدالة الاجتماعية، باختلاف أفكارها الحضارية ومفاهيمها عن الحياة.. وإنما حدد الإسلام هذا المفهوم وبلوره، في مخطط اجتماعي معين، واستطاع - بعد ذلك - أن يجسد هذا التصميم في واقع اجتماعي حي، تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الإسلامي للعدالة.
فلا يكفي أن نعرف من الإسلام مناداته بالعدالة الاجتماعية، وإنما يجب أن نعرف أيضا تصوراته التفصيلية للعدالة، ومدلولها الإسلامي الخاص.

(1) راجع مبدأ تدخل الدولة، ص 685 من الكتاب.
288

والصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية تحتوي على مبدئين عامين، كل منهما خطوطه وتفصيلاته: أحدهما: مبدأ التكافل العام، والآخر: مبدأ التوازن الاجتماعي. وفي التكافل والتوازن بمفهومهما الإسلامي، تحقق القيم الاجتماعية العادلة، ويوجد المثل الإسلامي للعدالة الاجتماعية، كما سنرى في فصل قادم (1).
وخطوات الإسلام التي خطاها في سبيل إيجاد المجتمع الإنساني الأفضل، عبر تجربته التاريخية المشعة، كانت واضحة وصريحة في اهتمامه بهذا الركن الرئيسي من اقتصاده.
وقد انعكس هذا الاهتمام - بوضوح - في الخطاب الأول الذي ألقاه النبي (ص)، وفي أول عمل سياسي باشره في دولته الجديدة.
فإن الرسول الأعظم دشن بياناته التوجيهية - كما في الرواية - بخطابه هذا:
((أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالا وأفضلت عليك؟ ‍! فما قدمت لنفسك؟! فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار - ولو بشق تمرة - فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنها تجزي الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)) (2).
وبدأ عمله السياسي بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وتطبيق مبدأ التكافل بينهم، بغية تحقيق العدالة الاجتماعية التي يتوخاها الإسلام.
فهذه هي الأركان الأساسية في الاقتصاد الإسلامي:
أولا: ملكية ذات أشكال متنوعة، يتحدد التوزيع في ضوئها (3).

(1) راجع الضمان الاجتماعي ص 661، والتوازن الاجتماعي ص 671 من الكتاب.
(2) كنز العمال ج 6، ص 367، الحديث 16101، مع اختلاف.
(3) لاحظ شرائع ج 3 ص 736، ومفتاح الكرامة ج 7، ص 3 و 9.
289

ثانيا: حرية محدودة بالقيم الإسلامية، في مجالات: الإنتاج، والتبادل، والاستهلاك (1).
ثالثا: عدالة اجتماعية تكفل للمجتمع سعادته، قوامها التكافل والتوازن.
وللمذهب الاقتصادي في الإسلام صفتان أساسيتان، تشعان في مختلف خطوطه وتفاصيله، وهما: الواقعية، والأخلاقية. فالاقتصاد الإسلامي اقتصاد واقعي وأخلاقي معا، في غاياته التي يرمي إلى تحقيقها، وفي الطريقة التي يتخذها لذلك.
فهو اقتصاد واقعي في غايته، لأنه يستهدف في أنظمته وقوانينه الغايات التي تنسجم مع واقع الإنسانية، بطبيعتها ونوازعها وخصائصها العامة. ويحاول دائما أن لا يرهق الانسانية في حسابه التشريعي، ولا يحلق بها في أجواء خيالية عالية فوق طاقاته وإمكاناتها.. وإنما يقيم مخططه الاقتصادي دائما على أساس النظرة الواقعية للانسان، ويتوخى الغايات الواقعية التي تتفق مع تلك النظرة. فقد يلذ لإقتصاد خيالي كالشيوعية مثلا، أن يتبنى غاية غير واقعية، ويرمي إلى تحقيق إنسانية جديدة طاهرة من كل نوازع الأنانية، قادرة على توزيع الأعمال والأموال بينها، دون حاجة إلى أداة حكومية تباشر التوزيع، سليمة من كل ألوان الاختلاف أو الصراع.. غير أن هذا لا يتفق مع طبيعة التشريع الإسلامي، وما اتصف به من واقعية في غاياته وأهدافه.
وهو - إلى هذا - واقعي في طريقته أيضا. فكما يستهدف غايات واقعية ممكنة التحقيق، كذلك يضمن تحقيق هذه الغايات ضمانا واقعيا ماديا، ولا يكتفي بضمانات النصح والتوجيه، التي يقدمها الوعاظ والمرشدون، لأنه يريد أن يخرج تلك الأهداف إلى حيز التنفيذ، فلا يقنع بإيكالها إلى رحمة الصدف والتقادير. فحين يستهدف مثلا إيجاد التكافل العام في المجتمع، لا يتوسل اليه بأساليب التوجيه

(1) لاحظ تحف العقول ص 204 و 282، وجواهر الكلام ج 22، ص 9، والميزان ج 4، ص 116
290

واستثارة العواطف فحسب، وإنما يسنده بضمان تشريعي، يجعله ضروري التحقيق على كل حال.
والصفة الثانية للاقتصاد الإسلامي، وهي الصفة الأخلاقية، تعني - من ناحية الغاية: أن الإسلام لا يستمد غاياته التي يسعى إلى تحقيقها في حياة المجتمع الاقتصادية، من ظروف مادية وشروط طبيعية مستقلة عن الإنسان نفسه، كما تستوحي الماركسية غايتها من وضع القوى المنتجة وظروفها.. وإنما ينظر إلى تلك الغايات، بوصفها معبرة عن قيم عملية ضرورية التحقيق من ناحية خلقية. فحين يقرر ضمان حياة العامل مثلا، لا يؤمن بأن هذا الضمان الاجتماعي الذي وضعه، نابع من الظروف المادية للإنتاج مثلا، وإنما يعتبره ممثلا لقيمة عملية يجب تحقيقها، كما سندرس ذلك بصورة مفصلة خلال بحوث هذا الفصل.
وتعني الصفة الخلقية - من ناحية الطريقة: أن الإسلام يهتم بالعامل النفسي، خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق أهدافه وغاياته. فهو في الطريقة التي يضعها لذلك، لا يهتم بالجانب الموضوعي فحسب - وهو أن تحقق تلك الغايات - وإنما يعنى بوجه خاص بمزج العامل النفسي والذاتي بالطريقة التي تحقق تلك الغايات. فقد يؤخذ من الغنى مال لإشباع الفقير مثلا، ويتأتى بذلك للفقير أن يشبع حاجاته، وتوجد بذلك الغاية الموضوعية التي يتوخاها الاقتصاد الإسلامي، من وراء مبدأ التكافل. ولكن هذا ليس هو كل المسألة في حساب الإسلام، بل هناك الطريقة التي تم بها تحقيق ضريبة من الأغنياء لكفالة الفقراء. وهذا وإن كفى في - تحقيق الجانب الموضوعي من المسألة، أي إشباع الفقير... ولكن الإسلام لا يقر ذلك، ما دامت طريقة تحقيق التكافل مجردة عن الدافع الخلقي، والعامل الخير في نفس الغني. ولأجل ذلك تدخل الإسلام، وجعل من الفرائض المالية - التي استهدف منها إيجاد التكافل - عبادات شرعية، يجب أن تنبع عن دافع نفسي نير، يدفع الانسان إلى المساهمة في تحقيق غايات الاقتصاد الإسلامي، بشكل واع مقصود، طلبا بذلك رضا الله تعلى والقرب منه.
291

ولا غرو أن يكون للإسلام هذا الاهتمام بالعامل النفسي، وهذا الحرص على تكوينه روحيا وفكريا، طبقا لغاياته ومفاهيمه، فإن لطبيعة العوامل الذاتية التي تعتلج في نفس الانسان، أثرها الكبير في تكوين شخصية الانسان، وتحديد محتواه الروحي، كما أن للعامل الذاتي أثره الكبير على الحياة الاجتماعية ومشاكلها وحلولها. وقد بات من الواضح لدى الجميع اليوم: أن العامل النفسي يلعب دورا رئيسيا في المجال الاقتصادي، فهو يؤثر في حدوث الأزمات الدورية، التي يضج من ويلاتها الاقتصاد الأوروبي. ويؤثر أيضا على منحني العرض والطلب، وفي الكفاية الإنتاجية للعامل إلى غير ذلك من عناصر الاقتصاد.
فالإسلام إذن لا يقتصر - في مذهبه وتعاليمه - على تنظيم الوجه الخارجي للمجتمع، وإنما ينفذ إلى أعماقه الروحية والفكرية، ليوفق بين المحتوى الداخلي، وما يرسمه من مخطط اقتصادي واجتماعي. ولا يكتفي في طريقته أن يتخذ أي أسلوب يكفل تحقيق غاياته، وإنما يمزج هذا الأسلوب بالعامل النفسي والدافع الذاتي الذي ينسجم مع تلك الغايات ومفاهيمها.
292

الإقتصاد الإسلامي جزء من كل
إننا في وعينا للاقتصاد الإسلامي، لا يجوز أن ندرسه مجزءا بعضه عن بعض. نظير أن ندرس حكم الإسلام بحرمة الربا، أو سماحه بالملكية الخاصة، بصورة منفصلة عن سائر أجزاء المخطط العام. كما لا يجوز أيضا
أن ندرس مجموع الاقتصاد الإسلامي، بوصفه شيئا منفصلا وكيانا مذهبيا مستقلا، عن سائر كيانات المذهب: الاجتماعية والسياسية، الأخرى، وعن طبيعة العلاقات القائمة بين تلك الكيانات... وإنما يجب أن نعي الاقتصاد الإسلامي ضمن الصيغة الإسلامية العامة، التي تنظم شتى نواحي الحياة في المجتمع. فكما ندرك الشيء المحسوس ضمن صيغة عامة تتألف من مجموعة أشياء، وتختلف النظرة إلى الشيء ضمن الصيغة العامة عن النظرة اليه خارج تلك الصيغة، أو ضمن صيغة أخرى، حتى لقد يبدو الخط قصيرا ضمن تركيب معين من الخطوط، ويبدو أطول من ذلك إذا تغير تركيب الخطوط.. كذلك أيضا تلعب الصيغ العامة للمذاهب الاجتماعية، دورا مهما في تقدير مخططاتها الاقتصادية. فمن الخطأ أن لا نعير الصيغة الإسلامية العامة أهميتها، وأن لا ندخل في الحساب طبيعة العلاقة بين الاقتصاد وسائر أجزاء المذهب، والتأثير المتبادل بينها في كيانه العضوي العام.
293

كما يجب أيضا أن لا نفصل بين المذهب الإسلامي بصيغته العامة، وبين أرضيته الخاصة التي أعدت له، وهيأ فيها كل عناصر البقاء والقوة للمذهب. فكما ندرك الصيغ المحسوسة على أرضيات مختلفة، وينسجم كل شكل مع أرضية معينة، فقد لا تصلح أرضية لشكل آخر، ولا يصلح ذلك الشكل لأرضية أخرى. كذلك الصيغة العامة للمذهب - أي مذهب كان - تحتاج إلى أرضية وتربة، تتفق مع طبيعتها، وتمدها بالعقيدة والمفاهيم والعواطف التي تلائمها فلابد لدى تقدير الصيغة العامة للمذهب أن ندرسها على أساس التربة والأرضية المعدة لها، أي ضمن إطارها العام.
وهكذا يتضح أن الاقتصاد الإسلامي مترابط في خطوطه وتفاصيله، وهو بدوره جزء من صيغة عامة للحياة (1) وهذه الصيغة لها أرضية خاصة بها، ويوجد المجتمع الإسلامي الكامل حين يكتسب الصيغة والأرضية معا، حين يحصل على النبتة والتربة كليهما. ويستقيم منهج البحث في الاقتصاد الإسلامي، حين يدرس الاقتصاد الإسلامي بما هو مخطط مترابط، ويوصفه جزءا من الصيغة الإسلامية العامة للحياة، التي ترتكز بدورها على التربة والأرضية التي أعدها الإسلام للمجتمع الإسلامي الصحيح.
وتتكون التربة أو الأرضية للمجتمع الإسلامي، ومذهبه الاجتماعي، من العناصر التالية:
أولا: العقيدة، وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصورة عامة.
وثانيا: المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء، على ضوء النظرة التي تبلورها العقيدة.
وثالثا: العواطف والأحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها، إلى صف تلك المفاهيم، لأن المفهوم - بصفته فكرة إسلامية عن واقع معين - يفجر في نفس المسلم

(1) لاحظ الميزان ج 4، ص 109.
294

شعورا خاصا تجاه ذلك الواقع، ويحدد اتجاهه العاطفي نحوه. فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية، والمفاهيم الإسلامية بدورها موضوعية في ضوء العقيدة الإسلامية الأساسية، ولنأخذ لذلك مثلا من التقوى. ففي ظل عقيدة التوحيد ينشأ المفهوم الإسلامي عن التقوى، القائل: إن التقوى هي ميزان الكرمة والتفاضل بين أفراد الإنسان، وتتولد عن هذا المفهوم عاطفة إسلامية بالنسبة إلى التقوى والمتقين، وهي عاطفة الإجلال والاحترام.
فهذه هي العناصر الثلاثة: العقيدة، والمفاهيم، والعواطف، التي تشترك في تكوين التربة الصالحة للمجتمع (1).
ثم يأتي - بعد التربة - دور الصيغة الإسلامية العامة للحياة، كلا لا يتجزأ، يمتد إلى مختلف شعب الحياة. وعندما يستكمل المجتمع الإسلامي ربته وصيغته العامة، عندئذ فقط نستطيع أن نترقب من الاقتصاد الإسلامي أن يقوم برسالته الفذة في الحياة الاقتصادية، وأن يضمن للمجتمع أسباب السعادة والرفاه، وأن نقطف منه أعظم الثمار. وأما أن ننتظر من الرسالة الإسلامية الكبرى، أن تحقق كل أهدافها من جانب معين من جوانب الحياة، إذا طبقت في ذلك الجانب بصورة منفصلة عن سائر شعب الحياة الأخرى.. فهذا خطأ. لأن الارتباط القائم في التصميم الإسلامي الجبار للمجتمع، بين كل جانب منه وجوانبه الأخرى، يجعل شأنه شأن خريطة يضعها أبرع المهندسين لإنشاء عمارة رائعة، فليس في إمكان هذه الخريطة أن تعكس الجمال والروعة - كما أراد المهندس - إلا إذا طبقت بكاملها، وأما إذا أخذنا بها في بناء جزء من العمارة فقط، فليس من حقنا أن نترقب من هذا الجزء أن يكون كما أراد المهندس، في تصميمه للخريطة كلها. وكذلك التصميم الإسلامي، فإن الإسلام إشترع نهجه الخاص به، وجعل منه الأداة الكاملة لاسعاد البشرية، على أن يطبق هذا النهج الإسلامي العظيم في بيئة إسلامية، قد صبغت على أساس الإسلام في وجودها وأفكارها وكيانها كله وان

(1) لاحظ البحار ج 68، ص 191 وج 74، ص 232 و 234، والوسائل ج 8، ص 399.
295

يطبق كاملا غير منقوص يشد بعضه بعضا، فعزل كل جزء من النهج الإسلامي عن بيئته - وعن سائر الأجزاء - معناه عزله عن شروطه التي يتاح له في ظلها تحقيق هدفه الأسمى، ولا يعتبر هذا طعنا في التوجيهات الإسلامية، أو تقليلا من كفاءتها وجدارتها بقيادة المجتمع فإنها في هذا بمثابة القوانين العلمية، التي تؤتي ثمارها متى توافرت الشروط التي تقضيها هذه القوانين.
ونحن لا نستطيع في عر ضنا هذا، أن نبرز جميع أوجه الارتباط في الاقتصاد الإسلامي، وأوجه الارتباط
والتفاعل بينه وبين سائر ما يتصل به من خصائص وعناصر إسلامية أخرى، وإنما نقتصر على نماذج من ذلك كما يلي:
1 - ارتباط الاقتصاد الإسلامي بالعقيدة، التي هي مصدر التموين الروحي للمذهب. فإن العقيدة تدفع المسلم إلى التكيف وفقا للمذهب، بوصفه نابعا من تلك العقيدة، وتضفي على المذهب طابعا إيمانيا وقيمة ذاتية، بقطع النظر عن نوعية النتائج الموضوعية التي يسجلها في مجال التطبيق العملي، وتخلق في نفس المسلم شعورا بالاطمئنان النفسي في ظل المذهب، باعتباره منبثقا عن تلك العقيدة التي يدين بها. فقوة ضمان التنفيذ، والطابع الإيماني والروحي، والاطمئنان النفسي.. كل تلك الخصائص يتميز بها الاقتصاد الإسلامي، عن طريق العقيدة الأساسية التي يرتكز عليها، ويتكون ضمن إطارها العام. وهي لذلك لا تظهر لدى البحث، إلا إذا درس الاقتصاد الإسلامي على ضوء العقيدة ومدى تفاعله بها.
2 - ارتباط الاقتصاد الإسلامي بمفاهيم الإسلام عن الكون والحياة، وطريقته الخاصة في تفسير الأشياء، كالمفهوم الإسلامي عن الملكية الخاصة وعن الربح. فالإسلام يرى أن الملكية حق رعاية يتضمن المسؤولية، وليس سلطانا مطلقا. كما يعطي للربح مفهوما أرحب وأوسع مما يعنيه في الحساب المادي الخالص، فيدخل في نطاق الربح - بمدلوله الإسلامي - كثير من النشاطات التي تعتبر خسارة بمنظار آخر غير إسلامي.
296

ومن الطبيعي أن يكون لمفهوم الإسلام ذاك عن الملكية أثره في كيفية الاستفادة من حق الملكية الخاصة وتحديدها، وفقا لإطارها الإسلامي. كما أن من الطبيعي أيضا أن يتأثر الحقل الاقتصادي بمفهوم الإسلام عن الربح أيضا. بالدرجة التي يحددها مدى عمق المفهوم وتركزه، وبالتالي يؤثر المفهوم على مجرى الاقتصاد الإسلامي خلال تطبيقه. فلابد أن يدرس من خلال ذلك، ولا يجوز أن يعزل عن تأثير المفاهيم الإسلامية المختلفة خلال التطبيق.
3 - ارتباط الاقتصاد الإسلامي بما يبثه الإسلام في البيئة الإسلامية من عواطف وأحاسيس، قائمة على أساس مفاهيمه الخاصة، كعاطفة الأخوة العامة، التي تفجر في قلب كل مسلم ينبوعا من الحب للآخرين، والمشاركة لهم في آلامهم وأفراحهم. ويثري هذا الينبوع ويتدفق، تبعا لدرجة الشعور العاطفي بالأخوة، وانصهار الكيان الروحي للانسان بالعواطف الإسلامية، والتربية المفروضة في المجتمع الإسلامي. وهذه العواطف والمشاعر تلعب دورا خطيرا في تكييف الحياة الاقتصادية، وتساند المذهب فيما يستهدفه من غايات.
4 - الارتباط بين المذهب الاقتصادي والسياسة المالية للدولة، إلى درجة تسمح باعتبار السياسية المالية جزءا من برنامج المذهب الاقتصادي للإسلام. لأنها وضعت بصورة تلتقي مع السياسية الاقتصادية العامة، وتعمل لتحقيق أهداف الاقتصاد الإسلامي. فالسياسة المالية في الإسلام لا تكتفي بتموين الدولة بنفقاتها اللازمة، وإنما تستهدف المساهمة في إقرار التوازن الاجتماعي والتكافل العام. ولهذا كان من الضروري اعتبار السياسية المالية جزءا من السياسية الاقتصادية العامة، وإدراج الأحكام المتعلقة بالتنظيم المالي للدولة ضمن هيكل التشريع العام للحياة الاقتصادية، كما سنرى في البحوث الآتية (1).
5 - الارتباط بين الاقتصاد الإسلامي والنظام السياسي في الإسلام، لما تؤدي عملية الفصل بينهما في البحث إلى خطأ في الدراسة. فللسلطة الحاكمة صلاحيات

(1) راجع مسؤولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي ص 659 - 692 من الكتاب.
297

اقتصادية واسعة، وملكيات كبيرة تتصف فيها طبقا لاجتهادها. وهذه الصلاحيات والملكيات يجب أن تقرن في الدرس دائما، بواقع السلطة في الإسلام، والضمانات التي وضعها الإسلام لنزاهة ولي الأمر واستقامته: من العصمة أو الشورى والعدالة، على اختلاف المذاهب الإسلامية. في ضوء هذه الضمانات نستطيع أن ندرس مكانة الدولة في المذهب الاقتصادي، ونؤمن بصحة إعطائها الصلاحيات والحقوق المفروضة لها في الإسلام.
6 - الارتباط بين إلغاء رأس المال الربوي، وأحكام الإسلام الأخرى في المضاربة والتكافل العام والتوازن الاجتماعي. فإنه إذا درس تحريم الربا بصورة منفردة، كان مثارا لمشاكل خطيرة في الحياة الاقتصادية. وأما إذا أخذناه بوصفه جزءا من عملية واحدة مترابطة، فسوف نجد أن الإسلام وضع لتلك المشاكل حلولها الواضحة، التي تنسجم مع طبيعة التشريع الإسلامي وأهدافه وغاياته، وذلك خلال أحكام المضاربة والتوازن والتكافل والنقد، كما سنرى في موضع قادم (1).
7 - الارتباط بين بعض أحكام الملكية الخاصة في الاقتصاد الإسلامي، وأحكام الجهاد التي تنظم علاقات المسلمين بغيرهم في حالات الحرب. فقد سمح الإسلام لولي الأمر باسترقاق الأسرى بوصفهم جزءا من الغنيمة، وتوزيعهم على المجاهدين كما توزع سائر عناصر الغنيمة (2). وقد اعتاد أعداء الإسلام الصليبيون أن يعرضوا هذا الحكم من الشريعة الإسلامية منفصلا عن شروطه وملابساته، ليبرهنوا على أن الإسلام شريعة من شراع الرق والاستعباد، التي مني بها الإنسان منذ ظلمات التاريخ، ولم ينقذه منها سوى الحضارات الأوروبية الحديثة، التي حررت الانسانية لأول مرة، ومسحت عنها الوحل والهوان.
ولكننا في دراسة مخلصة للإسلام وحكمه في الغنيمة، يجب أن نعرف - قبل كل شيء - متى يعتبر الشيء غنيمة في نظر الإسلام؟. ونعرف بعد ذلك كيف وفي

(1) راجع ص 584 - 594 من الكتاب.
(2) لاحظ قواعد الأحكام ج 1، ص 106.
298

أي حدود سمح الإسلام لولي الأمر باسترقاق الأسير بهذا الوصف؟ فإذا استوعبنا هذه النواحي كلها، استطعنا أن
ننظر إلى حكم الإسلام في الغنيمة نظرة صحيحة.
فالشرط الأساسي لمفهوم الغنيمة في نظر الإسلام، الحصول عليها في حرب جهادية مشروعة، ومعركة عقائدية. فما لم تكتسب الحرب طابع الجهاد لا يكون المال غنيمة. وهذا الطابع يتوقف على أمرين:
أحدهما: أن تكون الحرب بإذن من ولي الأمر في سبيل حمل الدعوة الإسلامية. فليس من الجهاد بشيء حروب السلب والنهب كالمعارك الجاهلية، أو القتال في سبيل الظفر بثروات البلاد وأسواقها كالحروب الرأسمالية.
والأمر الآخر: أن يبدأ الدعاة الإسلاميون قبل كل شيء بالاعلان عن رسالتهم الإسلامية، وإيضاح معالمها الرئيسية معززة بالحجج والبراهين، حتى إذا تمت للإسلام حجته. ولم يبق للآخرين مجال للنقاش المنطقي السليم، وظلوا بالرغم من ذلك مصرين على رفض النور.. عند ذاك لا يوجد أمام الدعوة الإسلامية - بصفتها دعوة فكرية عالمية تتبنى المصالح الحقيقية للانسانية - إلا أن تشق طريقها بالقوى المادية، بالجهاد المسلح (1). وفي هذا الظرف فقط تعتبر مكاسب الحرب غنية في نظر الإسلام.
وأما حكم الأسير في الغنيمة، فهو تطبق أحد أمور ثلاثة عليه. فإما أن يعفى عنه، وإما أن يطلق بفدية، وإما أن يسترق. فالاسترقاق هو أحد الأمور الثلاثة التي يجب على ولي الأمر معاملة الأسير على أساسها.
وإذا عرفنا بهذا الصدد أن ولي الأمر مسؤول عن تطبق أصلح الحالات الثلاث على الأسير، وأوفقها بالمصلحة العامة، كما صرح بذلك الفاضل والشهيد الثاني وغيرهما من فقهاء الإسلام (2)، وأضفنا إلى ذلك حقيقة إسلامية أخرى، وهي: أن الحرب في سبيل حمل الدعوة إلى بلاد الكفر لم يسمح بها الإسلام سماحا عاما،

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 21، ص 11 و 51.
(2) لاحظ قواعد الأحكام ج 1، ص 104، والتحرير ج 1، ص 140، والروضة في شرح اللمعة ج 2، ص 401، وجواهر الكلام ج 21، ص 126.
299

وإنما سمح بها في ظرف وجود قائد معصوم، (1) يتولى قيادة الغزو وتوجيه الزحف الإسلامي في معاركه الجهادية، إذا جمعنا بين هاتين الحقيقتين، نتج عنها أن الإسلام لم يأذن باسترقاق الأسير إلا حين يكون أصلح من العفو والفداء معا، ولم يسمح بذلك إلا لولي الأمر المعصوم الذي لا يخطئ في معرفة الأصلح وتمييزه عن غيره (2).
وليس في هذا الحكم شيء يؤاخذ الإسلام عليه، بل هو حكم لا تختلف فيه المذاهب الاجتماعية مهما كانت مفاهيمها فإن الاسترقاق قد يكون أحيانا أصلح من العفو والفداء معا، وذلك فيما إذا كان العدو يتبع مع أسراه طريقة الاسترقاق، ففي مثل هذه الحالة يصبح من الضروري أن يعامل العدو بالمثل، وتتبع معه نفس الطريقة. فإذا كانت توجد حالات يصبح فيها الاسترقاق أصلح من العفو والفداء، فلماذا لا يسمح به الإسلام حين يكون أصلح الحالات الثلاث؟ صحيح أن الإسلام لم يبين تلك الحالات التي يكون الاسترقاق فيها أصلح من غيره، ولكنه استغنى عن ذلك بإيكال الأمر إلى الحاكم المعصوم من الخطأ والهوى، الذي يقود معركة الجهاد سياسيا، فهو المسؤول عن تمييز تلك الحالات والعمل وفقا لرأيه.
ونحن إذا لاحظنا حكم الإسلام بشأن الأسير، خلال التطبيق في الحياة السياسية للدولة الإسلامية، وجدنا أن الاسترقاق لم يحدث إلا في تلك الحالات، التي كان الاسترقاق فيها أصلح الحالات الثلاث، لأن العدو الذي اشتبكت معه الدولة الإسلامية في معاركها كان يتبع نفس الطريقة مع أسراه.
فلا موضع لنقد أو اعتراض. لا موضع للنقد أو الاعتراض على الحكم العام بجواز الاسترقاق، لأن الإسلام سمح باسترقاق الأسير حين يكون ذلك أوفق بالمصلحة العامة في رأي الحاكم المعصوم. ولا موضع للنقد أو الاعتراض على تطبيقه، لأن تطبقه كان دائما في تلك الحدود التي كون الاسترقاق فيها أصلح الاجراءات الثلاثة.

(1) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 2، ص 381.
(2) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 2، ص 400 و 401، وجواهر الكلام ج 21، ص 126
300

8 - الارتباط بين الاقتصاد والتشريع الجنائي في الإسلام. فالتكافل العام والضمان الاجتماعي في الاقتصاد الإسلامي، يلقيان ضوءا على طبيعة العقوبة التي فرضت في بعض الجنايات. فقد تكون عقوبة السارق بقطع يده قاسية إلى حد ما في بيئة رأسمالية، تركت فيها الكثرة الهائلة من أفراد المجتمع لرحمة القدر ورحمة الصراع، وأما حيث تكون البيئة إسلامية، وتوجد التربة الصالحة للاقتصاد الإسلامي، ويعش المجتمع في كنف الإسلام، فليس من القسوة في شيء أن يعامل السارق بصرامة، بعد أن وفر له الاقتصاد الإسلامي أسباب الحياة الحرة الكريمة، ومحا من حياته كل الدوافع التي تضطره إلى السرقة.
301

3 - الإطار العام للاقتصاد الإسلامي:
يمتاز المذهب الاقتصادي في الإسلام عن بقية المذاهب الاقتصادية التي درسناها، بإطاره الديني العام. فإن الدين هو الإطار الشامل لكل أنظمة الحياة في الإسلام. فكل شعبة من شعب الحياة حين يعالجها الإسلام يمزج بينها وبين الدين، ويصوغها في إطار من الصلة الدينية للانسان بخالقه وآخرته.
وهذا الإطار هو الذي يجعل النظام الإسلامي قادرا على النجاح، وضمان تحقيق المصالح الاجتماعية العامة للإنسان لأن هذه المصالح الاجتماعية لا يمكن أن يضمن تحقيقها إلا عن طريق الدين.
ولكي يتضح ذلك يجب أن ندرس مصالح الانسان في حياته المعيشية، ومدى إمكان توفيها وضمان تحقيقها. لننتهي من ذلك إلى الحقيقة الآنفة الذكر، وهي: أن المصالح الاجتماعية للإنسان لا يمكن أن توفر ويضمن تحقيقها إلا عن طريق نظام يتمتع بإطار ديني صحيح.
وحين ندرس مصالح الانسان في حياته المعيشية، يمكننا تقسيمها إلى فئتين:
إحداهما: مصالح الانسان التي تقدمها الطبيعة له بوصفه كائنا خاصا كالعقاقير الطبية مثلا فإن من مصلحة الانسان الظفر بها من الطبيعة، وليست لهذه المصلحة صلة بعلاقاته الاجتماعية مع الآخرين، بل الانسان بوصفه كائنا معرضا للجراثيم الضارة، بحاجة إلى تلك العقاقير، سواء كان يعيش منفردا أم ضمن مجتمع مترابط.
303

والفئة الأخرى: مصالح الانسان التي يكفلها له النظام الاجتماعي، بوصفه كائنا اجتماعيا يرتبط بعلاقات مع الآخرين، كالمصلحة التي يجنيها الانسان مع النظام الاجتماعي حين يسمح له بمبادلة منتوجاته بمنتوجات الآخرين، أو حين يوفر له ضمان معيشته في حالات العجز والتعطل عن العمل.
وسوف نطلق على الفئة الأولى اسم: المصالح الطبيعية، وعلى الفئة الثانية اسم المصالح الاجتماعية.
ولكي يتمكن الانسان من توفير مصالحه الطبيعية والاجتماعية، يجب أن يجهز بالقدرة على معرفة تلك المصالح وأساليب إيجادها، وبالدافع الذي يدفعه إلى السعي في سبيلها. فالعقاقير التي تستحضر للعلاج من السل مثلا، توجد لدى الانسان حين يعرف أن للسل دواءا، ويكتشف كيفية استحضاره، كما أن ضمان المعيشة في حالات العجز - بوصفه مصلحة اجتماعية - يتوقف على معرفة الانسان بفائدة هذا الضمان، وكيفية تشريعه، وعلى الدافع الذي يدفع إلى وضع هذا التشريع وتنفيذه.
فهناك إذن شرطان أساسيان، لا يمكن بدونهما للنوع الانساني أن يظفر بحياة كاملة تتوفر فيها مصالحه الطبيعية والاجتماعية: أحدهما: أن يعرف تلك المصالح، وكيف تحقق، والآخر: أن يملك دافعا يدفعه بعد معرفتها إلى تحقيقها.
ونحن إذا لاحظنا المصالح الطبيعية للانسان - كاستحضار عقاقير للعلاج من السل - وجدنا أن الانسانية قد زودت بإمكانات الحصول على تلك المصالح، فهي تملك قدرة فكرية تستطيع أن تدرك بها ظواهر الطبيعة، والمصالح التي تكمن فيها. وهذه القدرة وإن كانت تنمو على مر الزمن نموا بطيئا، ولكنها تسير على أي حال في خط متكامل على ضوء الخبرة والتجارب المستجدة، وكلما نمت هذه القدرة كان الانسان أقدر على إدراك مصالحه ومعرفة المنافع التي يمكن أن يجنيها من الطبيعة.
304

وإلى جانب هذه القدرة الفكرية تملك الانسانية دافعا ذاتيا، يضمن اندفاعها في سبيل مصالحها الطبيعية، فإن المصالح الطبيعية للانسان تلتقي بالدافع الذاتي لكل فرد. فليس الحصول على العقاقير الطبية مثلا مصلحة لفرد دون فرد. أو منفعة لجماعة دون آخرين. فالمجتمع الانساني دائما يندفع في سبيل توفير المصالح الطبيعية بقوة من الدوافع الذاتية للأفراد، التي تتفق كلها على الاهتمام بتلك المصالح وضرورتها، بوصفها ذات نفع شخصي للأفراد جميعا.
وهكذا نعرف أن الإنسان ركب تركيبا نفسيا وفكريا خاصا، يجعله قادرا على توفير المصالح الطبيعية، وتكميل هذه الناحية من حياته عبر تجربته للحياة والطبيعية..
وأما المصالح الاجتماعية فهي بدورها تتوقف أيضا - كما عرفنا - على إدراك الانسان للتنظيم الاجتماعي الذي يصلحه، وعلى الدافع النفسي نحو إيجاد ذلك التنظيم وتنفيذه. فما هو نصيب الانسان من هذين الشرطين بالنسبة إلى المصالح الاجتماعية؟ وهل جهز الانسان بالقدرة الفكرية على إدراك مصالحه الاجتماعية، وبالدافع الذي يدفعه إلى تحقيقها، كما جهز بذلك بالنسبة إلى مصالحه الطبيعية؟؟
ولنأخذ الآن الشرط الأول، فمن القول الشائع: أن الانسان لا يستطيع أن يدرك التنظيم الاجتماعي الذي يكفل له كل مصالحه الاجتماعية، وينسجم مع طبيعته وتركيبه العام، لأنه أعجز ما يكون عن استيعاب الموقف الاجتماعي بكل خصائصه، والطبيعة الانسانية بكل محتواها ويخص أصحاب هذا القول إلى نتيجة هي: أن النظام الاجتماعي يجب أن يوضع للانسانية، ولا يمكن أن تترك الإنسانية لتضع بنفسها النظام، ما دامت معرفتها محدودة، وشروطها الفكرية عاجزة عن استكناه أسرار المسألة الاجتماعية كلها.
وعلى هذا الأساس يقدمون الدليل على ضرورة الدين في حياة الانسان، وحاجة الإنسان إلى الرسل والأنبياء، بوصفهم قادرين عن طريق الوحي على تحديد المصالح الحقيقية للانسان في حياته الاجتماعية وكشفها للناس.
305

غير أن المشكلة في رأينا تبدو بصورة أكثر وضوحا حين ندرس الشروط الثاني.
فإن النقطة الأساسية في المشكلة ليست هي: كيف يدرك الإنسان المصالح الاجتماعية (1)؟ بلى المشكلة الأساسية هي: كيف يندفع هذا الإنسان إلى تحقيقها وتنظيم المجتمع بالشكل الذي يضمنها؟ ومثار المشكلة هو أن المصلحة الاجتماعية لا تقف في أكثر الأحايين مع الدافع الذاتي، لتناقضها مع المصالح الخاصة للافراد. فإن الدافع الذاتي، لتناقضها مع المصالح الخاصة للافراد. فإن الدافع الذاتي الذي كان يضمن اندفاع الإنسان نحو المصالح الطبيعية للانسان، لا يقف الموقف نفسه من مصالحها الاجتماعية، فبينما كان الدافع الذاتي يجعل الإنسان يحاول إيجاد دواء للسل، لأن إيجاد هذا الدواء من مصلحة الأفراد جميعا.. نجد أن هذا الدافع الذاتي نفسه يحول دون تحقيق كثير من المصالح الاجتماعية، ويمنع عن إيجاد التنظيم الذي يكفل تلك المصالح أو عن تنفيذه. فضمان معيشة العامل حال التعطل يتعارض مع مصلحة الأغنياء، الذي سيكلفون بتسديد نفقات هذا الضمان. وتأميم الأرض يتناقض مع مصلحة أولئك الذين يمكنهم احتكار الأرض لأنفسهم. وهكذا كل مصلحة اجتماعية، فإنها تمنى بمعارضة الدوافع الذاتية من الأفراد، الذين تختلف مصلحتهم عن تلك المصلحة الاجتماعية
العامة.
وفي هذا الضوء نعرف الفارق الأساسي بين المصالح الطبيعية والمصالح الاجتماعية. فإن الدوافع الذاتية للأفراد لا تصطدم بالمصالح الطبيعية للانسانية، بل تدفع الأفراد إلى إيجادها واستثمار الوعي التأملي في هذا السبيل، وبذلك كان النوع الإنساني بكل الإمكانات التي تكفل له مصالحه الطبيعية، بصورة تدريجية وفقا لدرجة تلك الإمكانات التي تنمو عبر التجربة. وعلى العكس من ذلك المصالح الاجتماعية، فإن الدوافع الذاتية التي تنبع من حب الانسان لنفسه، وتدفعه إلى تقديم صالحه على صالح الآخرين، إن تلك الدوافع تحول دون استثمار الوعي العملي عند

(1) قمنا بدراسة واسعة لتقييم امكانات الانسان للوصول فكريا إلى التنظيم الاجتماعي الأصلح وإدراك المصالح الاجتماعية الحقيقية في كتابنا (الانسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية) وشرحت هناك دور التجارب الاجتماعية والعلمية ومدى عطائها في هذا المجال.
306

الإنسان استثمارا مخلصا، في سبيل توفير المصالح الاجتماعية، وإيجاد التنظيم الاجتماعي الذي يكفل تلك المصالح وتنفيذ هذا التنظيم.
وهكذا يتضح أن المشكلة الاجتماعية التي تحول بين الانسانية وتكاملها الاجتماعي، هي التناقض القائم بين المصالح الاجتماعية والدوافع الذاتية وما لم تكن الإنسانية مجهزة بإمكانات للتوفيق بين المصالح الاجتماعية والدوافع الأساسية التي تتحكم في الأفراد، لا يمكن للمجتمع الإنساني أن يظفر بكماله الاجتماعي. فما هي تلك الإمكانات؟؟
إن الإنسانية بحاجة إلى دافع يتفق مع المصالح الاجتماعية العامة، كما وجدت المصالح الطبيعية الدافع الذاتي حليفا لها.
هل يمكن للعلم أن يحل المشكلة
ويتردد على بعض الشفاه أن العلم الذي تطور بشكل هائل، كفيل بحل المشكلة الاجتماعية، لأن الانسان هذا المارد الجبار الذي استطاع أن يخطو خطوات العمالقة، في ميادين الفكر والحياة والطبيعة، وينفذ إلى أعمق أسرارها، ويحل أروع ألغازها، حتى أتيح له أن يفجر الذرة ويطلق طاقتها الهائلة، وأن يكشف الأفلاك ويرسل إليها قذائفه، ويركب الطائرة الصاروخية، ويسخر قوى الطبيعة لنقل ما يحدث على بعد مئات الألوف من الأميال على شكل أصوات تسمع وصور ترى.. إن هذا الانسان الذي سجل في تاريخ قصير كل هذا الفتوحات العلمية، وانتصر في جميع معاركه مع الطبيعة، لقادر بما أوتي من علم وبصيرة أن يبني المجتمع المتماسك السعيد، ويضع التنظيم الاجتماعي الذي يكفل المصالح الاجتماعية للانسانية، فلم يعد الانسان بحاجة إلى مصدر يستوحي منه موقفه الاجتماعي سوى العلم الذي قاده من نصر إلى نصر في كل الميادين.
وهذا الزعم في الواقع لا يعني إلا الجهل بوظيفة العلم في الحياة الإنسانية، فإن العلم مهما نما وتطور ليس إلا أداة لكشف الحقائق الموضوعية في مختلف الحقول،
307

وتفسير الواقع تفسيرا محايدا يعكسه بأعلى درجة ممكنة من الدقة والعمق. فهو يعلمنا مثلا في المجال الاجتماعي: أن الرأسمالية تؤدي إلى تحكم القانون الحديدي بالأجور، وخفضها إلى المستوى الضروري للمعيشة، كما يعلمنا في المجال الطبيعي أن استعمال مادة كيماوية معينة يؤدي إلى تحكم مرض خطير بحياة الشخص. والعلم حين يبرز لنا هذه الحقيقة أو تلك، يكون قد قام بوظيفته وأتحف الانسانية بمعرفة جديدة، ولكن سبح هذا المرض الخطير أو ذلك القانون الرهيب (قانون الأجور الحديدي)، لا يتلاشى لمجرد أن العلم اكتشف العلاقة بين تلك المادة المعينة والمرض، أو بين الرأسمالية والقانون الحديدي، بل إن الانسان يتخلص من المرض بالتجنب عما يؤدي اليه، ويتخلص من القانون الحديدي للأجور بمحو الإطار الرأسمالي للمجتمع. وهنا نتساءل ما الذي يضمن أن يتخلص الانسان من ذلك المرض؟ ومن هذا الإطار؟ والجواب فيما يتصل بالمرض واضح كل الوضوح، فإن الدافع الذاتي عند الانسان يكفي وحده لإبعاده عن تلك المادة الخاصة التي كشف العلم عن نتائجها الخطيرة لأنه يناقض المصلحة الخاصة للفرد. وأما فيما يتصل بالقانون الحديدي للأجور وإزالة الإطار الرأسمالي، فإن الحقيقة العلمية التي كشفت عن الصلة بين هذا الإطار وذلك القانون مثلا، ليست قوة دافعة إلى العمل وتغيير الإطار، وإنما يحتاج العمل إلى دافع، والدوافع الذاتية للافراد لا تلتقي دائما، بل تختلف تبعا لاختلاف المصالح الخاصة.
وهكذا يجب أن نفرق بين اكتشاف الحقيقة العلمية، والعمل في ضوئها على إسعاد المجتمع. فالعلم إنما يكشف الحقيقة بدرجة ما، وليس هو الذي يطورها.
المادية التاريخية والمشكلة
وتقول الماركسية بهذا الصدد - على أساس المادية التاريخية - دعوا المشكلة نفسها، فإن قوانين التاريخ كفيلة بحلها في يوم من الأيام، أفليست المشكلة هي أن
308

الدوافع الذاتية لا تستطيع أن تضمن مصالح المجتمع وسعادته، لأنها تنبع من المصالح الخاصة التي تختلف في أكثر الأحايين مع المصالح الاجتماعية العامة؟ إن هذا ليست مشكلة وإنما هي حقيقة المجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ، فقد كان كل شيء يسير طبقا للدافع الذاتي الذي ينعكس في المجتمع بشكل طبقي، فيثور الصراع بين الدوافع الذاتية للطبقات المختلفة، والغلبة دائما تكون من حظ الدافع الذاتي للطبقة التي تسيطر على وسائل الإنتاج، وهكذا يتحكم الدافع الذاتي بشكل محتوم، حتى تضع قوانين التاريخ حلها الجذري للمشكلة بإنشاء المجتمع اللا
طبقي، تزول فيه الدوافع الذاتية، وتنشأ بدلا عنها الدوافع الجماعية، وفقا للملكية الجماعية.
وقد عرفنا في دراستنا للمادية التاريخية، أن أمثال هذه النبوءات التي تتنبأ بها المادية التاريخية لا تقوم على أساس علمي، ولا يمكن انتظار حل حاسم للمشكلة من ورائها.
وهكذا تبقى المشكلة كما هي مشكلة مجتمع يتحكم فيه الدافع الذاتي، وما دامت الكلمة العليا للدافع الذاتي تمليه على كل فرد مصلحته الخاصة، فسوف تكون السيطرة للمصلحة التي تملك قوة التنفيذ فمن يكفل لمصلحة المجتمع في زحمة الأنانيات المتناقضة أن يصاغ قانونه وفقا للمصالح الاجتماعية للانسانية. ما دام هذا القانون تعبيرا عن القوة السائدة في المجتمع؟!
ولا يمكننا أن ننتظر من جهاز اجتماعي كالجهاز الحكومي أن يحل المشكلة بالقوة ويوقف الدوافع الذاتية عند حدها، لأن هذا الجهاز منبثق عن المجتمع نفسه، فالمشكلة فيه هي المشكلة في المجتمع بأسره، لأن الدافع الذاتي هو الذي يتحكم فيه.
ونخلص من ذلك كله إلى أن الدافع الذاتي هو مثار المشكلة الاجتماعية، وأن هذا الدافع أصيل في الانسان لأنه ينبع من حبة لذاته.
فهل كتب على الانسانية أن تعيش دائما في هذا المشكلة الاجتماعية النابعة من دوافعها الذاتية، وفطرتها وأن تشقى بهذه الفطرة؟!
309

وهل استثنيت الانسانية من نظام الكون الذي زود كل كائن فيه بإمكانات التكامل، وأودعت فيه الفطرة التي تسوقه إلى كماله الخاص، كما دلت على ذلك التجارب العلمية إلى جانب البرهان الفلسفي؟!.
الدين هو الحل الوحيد للمشكلة:
وهنا يجيء دور الدين بوصفه الحل الوحيد للمشكلة، فإن الدين هو الإطار الوحيد الذي يمكن للمسألة الاجتماعية أن تجد ضمنه حلها الصحيح. ذلك أن الحق يتوقف على التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية العامة، وهذا التوفيق هو الذي يستطيع أن يقدمه الدين للانسانية، لأن الدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوض الانسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في حياته الأرضية أملا في النعيم الدائم، وتستطيع أن تدفعه إلى التضحية بوجوده عن إيمان بأن هذا الوجود المحدود الذي يضحي بعه ليس غلا تمهيدا لوجود خالد وحياة دائمة، وتستطيع أن تخلق في تفكيره نظرة جديدة تجاه مصالحه، ومفهوما عن الربح والخسارة ارفع من مفاهيمهما التجارية المادية. فالغناء طرق اللذة، والخسارة لحساب المجتمع سبيل الربح، وحماية مصالح الآخرين تعني ضمنا حماية مصالح الفرد في حياة أسمى وأرفع.. وهكذا ترتبط المصالح الاجتماعية العامة بالدوافع الذاتية، بوصفها مصالح للفرد في حسابه الديني.
وفي القرآن الكريم نجد التأكيد الرائعة على هذا المعنى منتشرة في كل مكان، وهي تستهدف جميعا تكوين تلك النظرة الجديدة عند الفرد عن مصالحه وأرباحه فالقرآن يقول:
{و من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} (1)
{من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها} (2).

(1) المؤمن / 40.
(2) فصلت / 46، والجاثية / 15.
310

{يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (1)
{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} (2)
{ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} (3).
هذه صور رائعة يقدمها الدين في نصوص القرآن ليربط بين الدوافع الذاتية وسبل الخير في الحياة ويطور من مصلحة الفرد تطويرا يجعله يؤمن بأن مصالحه الخاصة والمصالح الحقيقية العامة للانسانية التي يحددها الإسلام مترابطتان.
فالدين إذن هو صاحب الدور الأساسي في حل المشكلة الاجتماعية، عن طريق تجنيد الدافع الذاتي لحساب المصلحة العامة.
وبهذا نعرف أن الدين حاجة فطرية للانسانية، لأن الفطرة ما دامت هي أساس الدوافع الذاتية التي نبعت منها المشكلة فلابد أن تكون قد جهزت بإمكانات لحل المشكلة أيضا، لئلا يشذ الانسان عن سائر الكائنات التي زودت فطرتها جميعا بالإمكانات التي تسوق كل كائن إلى كماله الخاص. وليست تلك الامكانات التي تملكها الفكرة الانسانية لحل المشكلة إلا غريزة التدين والاستعداد الطبيعي لربط الحياة بالدين وصوغها في إطاره العام.
فللفطرة الانسانية إذن جانبان: فهي من ناحية تملي على الانسان دوافعه الذاتية. التي تنبع منها المشكلة الاجتماعية الكبرى في حياة الانسان (مشكلة التناقض بين

(1) الزلزلة / 6.
(2) آل عمران / 169.
(3) التوبة / 120 و 121.
311

تلك الدوافع والمصالح الحقيقية العامة للمجتمع الانساني).
وهي من ناحية أخرى تزود الانسان بإمكانية حل المشكلة عن طريق الميل الطبيعي إلى التدين، وتحكيم الدين في الحياة بالشكل الذي يوفق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية. وبهذا أتمت الفطرة وظيفتها في هداية الانسان إلى كماله. فلو بقت تثير المشكلة ولا تموت الطبيعة الانسانية بحلها، لكان معنى هذا أن الكائن الانساني يبقى قيد المشكلة، عاجزا عن حلها، مسوقا بحكم فطرته إلى شرورها ومضاعفاتها وهذا ما قرره الإسلام بكل وضوح في قوله تعالى:
{فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. (1)
فإن هذه الآية الكريمة تقرر:
أولا: إن الدين من شؤون الفطرة الإنسانية التي فطر الناس عليها جميعا، ولا تبديل لخلق الله.
وثانيا: إن هذا الدين الذي فطرت الإنسانية عليه ليس هو إلا الدين الحنيف، أي دين التوحيد الخالص، لأن دين التوحيد هو وحده الذي يمكن أن يؤدي وظيفة الدين الكبر، ويوجد البشرية على مقياس عملي وتنظيم اجتماعي، تحفظ فيه المصالح الاجتماعية. وأما أديان الشرك أو الأرباب المتفرقة على حد تعبير القرآن، فهي في الحقيقة نتيجة للمشكلة فلا يمكن أن تكون علاجا لها، لأنها كما قال يوسف لصاحبي السجن {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} (2)
يعني بذلك أنها وليدة الدوافع الذاتية، التي أملت على الناس أديان الشرك طبقا لمصالحهم الشخصية المختلفة، لتصرف بذلك ميلهم الطبيعي إلى الدين الحنيف تصريحا غير طبيعي، وتحول بينهم وبين الاستجابة الصحيحة لميلهم الديني الأصيل.

(1) الروم: 30.
(2) يوسف / 40.
312

وثالثا‌: إن الدين الحنيف الذي فطرت الانسانية عليه يتميز بكونه دينا قيما على الحياة (ذلك الدين القيم)، قادرا على التحكم فيها وصياغتها في إطاره العام. وأما الدين الذي لا يتولى إمامة الحياة وتوجيهها، فهو لا يستطيع أن يستجيب استجابة كاملة للحاجة الفطرية في الانسان، إلا الدين، ولا يمكنه أن يعالج المشكلة الأساسية في حياة الإنسان.
ونخلص من ذلك إلى عدة مفاهيم للإسلام عن الدين والحياة.
فالمشكلة الأساسية في حياة الانسان نابعة من الفطرة.
لأنها مشكلة الدوافع الذاتية في اختلافاتها وتناقضاتها مع المصالح العامة. والفطرة في نفس الوقت تمون الانسانية بالعلاج.
وليس هذا العلاج إلا الدين الحنيف القيم، لأنه وحده القادر على التوفيق بين الدوافع الذاتية، وتوحيد مصالحها ومقاييسها العملية.
فلابد للحياة الاجتماعية إذن من دين حنيف قيم.
ولابد للتنظيم الاجتماعي في مختلف شعب الحياة أن يوضع في إطار ذلك الدين، القادر على التجاوب مع الفطرة ومعالجة المشكلة الأساسي في حياة الانسان.
وفي هذا الضوء نعرف أن الاقتصاد الإسلامي بوصفه جزءا من تنظيم اجتماعي شامل للحياة، يجب أن يندرج ضمن الإطار العام لذلك التنظيم، وهو الدين، فالدين هو الإطار العام لاقتصادنا المذهبي (1).
ووظيفة الدين - بوصفه إطارا للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام - أن يوفق بين الدوافع الذاتية والمصالح الخاصة من ناحية، والمصالح الحقيقية العامة للمجتمع الإنساني - من وجهة رأي الإسلام - من ناحية أخرى.

(1) لاحظ الوسائل ج 11، ص 407 و 521 و 599.
313

الإقتصاد الإسلامي ليس علما
يشكل كل واحد من مذاهب الاقتصاد التي عرضناها جزءا من مذهب كامل يتناول مختلف شعب الحياة ومناحيها. فالاقتصاد الإسلامي جزء من المذهب الإسلامي الشامل لشتى فروع الحياة، والاقتصاد الرأسمالي جزء من الديمقراطية الرأسمالية التي تستوعب بنظرتها التنظيمية المجتمع كله، كما أن الاقتصاد الماركسي جزء أيضا من المذهب الماركسي الذي يبلور الحياة الاجتماعية كلها في إطاره الخاص.
وتختلف هذه المذاهب في بذورها الفكرية الأساسية، وجذورها الرئيسية التي تستمد منها روحها وكيانها، وتبعا لذلك تختلف في طابعها الخاص.
فالاقتصاد الماركسي يحمل في رأي الماركسية طابعا علميا، لأنه يعتبر في عقيدة أنصاره نتيجة محتومة للقوانين الطبيعية التي تهيمن على التاريخ وتتصرف فيه، وعلى العكس من ذلك المذهب الرأسمالي، فإنه لم يضعه أصحابه - كما مر معنا في بحث سابق - كنتيجة ضرورية لطبيعة التاريخ وقوانينه، وإنما عبروا به عن الصورة الاجتماعية. التي تتفق مع القيم العملية والمثل التي يعتنقونها.
وأما المذهب الإسلامي فهو لا يزعم لنفسه الطابع العلمي، كالمذهب الماركسي، كما أنه ليس مجردا عن أساس عقائدي معين ونظرة رئيسية إلى الحياة والكون،
315

كالرأسمالية (1).
ونحن حين نقول عن الاقتصاد الإسلامي أنه ليس علما نعني أن الإسلام دين يتكفل الدعوة إلى تنظيم الحياة الاقتصادية كما يعالج سائر نواحي الحياة وليس علما اقتصاديا على طراز علم الاقتصاد السياسي، وبمعنى آخر: هو ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى واقع سليم، وليس تفسيرا موضوعيا للواقع. فهو حينما يضع مبدأ الملكية المزدوجة مثلا، لا يزعم بذلك أنه يفسر الواقع التاريخي لمرحلة معينة من حياة الانسانية، أو يعكس نتائج القوانين الطبيعة للتاريخ، كما تزعم الماركسية حين تبشر بمبدأ الملكية الاشتراكية، بوصفه الحالة الحتمية لمرحلة معينة من التاريخ والتفسير الوحيد لها.
فالاقتصاد الإسلامي من هذه الناحية يشبه الاقتصاد الرأسمالي المذهبي، في كونه عملية تغيير الواقع لا عملية تفسير له. فالوظيفة المذهبية تجاه الاقتصاد الإسلام يهي: الكشف عن الصورة الكاملة للحياة الاقتصادية وفقا للتشريع الإسلامي، ودرس الأفكار والمفاهيم العامة التي تشع من وراء تلك الصورة كفكرة انفصال شكل التوزيع عن نوعية الإنتاج، وما إليها من أفكار.
وأما الوظيفة العلمية تجاه الاقتصاد الإسلامي فيأتي دورها بعد ذلك، لتكشف عن مجرى الحياة الواقعي وقوانينه، ضمن مجتمع إسلامي يطبق فيه مذهب الإسلام تطبيقا كاملا. فالباحث العلمي يأخذ الاقتصاد المذهبي في الإسلام قاعدة ثابتة للمجتمع، الذي يحاول تفسيره وربط الأحداث فيه بعضها ببعض. فهو في هذا تنظير الاقتصاد السياسي لعلماء الاقتصاد الرأسماليين، الذين فرغوا من وضع خطوطهم المذهبية، ثم بدأوا يفسرون الواقع ضمن تلك الخطوط، ويدرسون طبيعة القوانين التي تتحكم في الواقع ضمن تلك الخطوط، ويدرسون طبيعة القوانين التي تتحكم في المجتمع الذي تطبق عليه، فنتج عن دراستهم هذه علم الاقتصاد السياسي.

(1) راجع في درس الفرق بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي من هذه الناحية: كتاب فلسفتنا: التمهيد.
316

وهكذا يمكن أن يتكون للاقتصاد الإسلامي علم - بعد أن يدرس دراسة مذهبية شاملة. من خلال دراسة الواقع في هذا الإطار - والسؤال هو: متى وكيف يمكن وضع علم الاقتصاد الإسلامي، كما وضع الرأسماليون علم الاقتصاد السياسي، أو بتعبير آخر علم الاقتصاد الذي يفسر أحداث المجتمع الرأسمالي؟؟.
والجواب على هذا السؤال: أن التفسير العلمي لأحداث الحياة الاقتصادية يرتكز على أمرين:
الأول: جميع الأحداث الاقتصادية من التجربة الواقعية للحياة وتنظيمها تنظيما علميا يكشف عن القوانين التي تتحكم بها في مجال تلك الحياة، وشروطها الخاصة.
الثاني: البدء في البحث العلمي من مسلمات معينة تفترض افتراضا، ويستنتج في ضوئها الاتجاه الاقتصادي ومجرى الأحداث. أما التفسير العلمي على الأساس الأول، فهو يتوقف على تجسيد المذهب في كيان واقعي قائم، ليتاح للباحث أن يسجل أحداث هذا الواقع، وستخلص ظواهرها وقوانينها العامة. وهذا ما ظفر به الاقتصاديون الرأسماليون، حين عاشوا في مجتمع يؤمن بالرأسمالية ويطبقها، فأتيح لهم أن يضعوا نظرياتهم على أساس تجارب الواقع الاجتماعي التي عاشوها. ولكن شيئا كهذا لا يتاح للاقتصاديين الإسلاميين، ما دام الاقتصاد الإسلامي بعيدا عن مسرح الحياة، فهم لا يملكون من حياتهم اليوم تجارب عن الاقتصاد الإسلامي خلال التطبيق، ليدركوا في ضوئها طبيعة القوانين التي تتحكم في حياة تقوم على أساس الإسلام.
وأما التفسير العلمي على الأساس الثاني فمن الممكن استخدامه في سبيل توضيح بعض الحقائق التي تتميز بها الحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي، بالانطلاق من نقاط مذهبية معينة، واستنتاج آثارها في محال التطبيق المفترض، ووضع نظيرات عامة عن الجانب الاقتصاد في المجتمع الإسلامي على ضوء تلك النقاط المذهبية.
317

فمثلا يمكن للباحث الإسلامي القول: بأن مصالح التجارة متفقة في المجتمع الإسلامي مع مصالح الماليين وأصحاب المصارف، لأن المصرف في المجتمع الإسلام يقوم على أساس المضاربة لا على أساس الربا، فهو يتجر بأموال زبائنه ويوزع الأرباح بينه وبينهم بنسبة مئوية معينة من الربح، وفي النهاية يتوقف مصيره المالي على مدى الربح التجاري الذي يجنيه. لا على الفائدة التي يقتطعها من الديون. فهذه الظاهرة - ظاهرة الاتفاق بين مصالح المصارف ومصالح التجارة - هي بطبيعتها ظاهرة موضوعية، ينطلق الباحث إلى استنتاجها من نقطة هي: إلغاء النظام الربوي للمصارف في المجتمع الإسلامي.
ويمكن للباحث أيضا بالانطلاق من نقطة كهذه أن يقرر ظاهرة موضوعية أخرى وهي: تجاه المجتمع الإسلامي من عامل رئيسي للأزمات التي تمنى بها الحياة الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي، فإن دورات الإنتاج والاستهلاك في مجتمع قائم على أساس الربا، يعرقلها هذا الجزء الكبير من الثروة الأهلية الذي يدخر طمعا بالفائدة الربوية، ويسحب بذلك من مجالات الإنتاج والاستهلاك، الأمر الذي يؤدي إلى كساد قسم كبير من الإنتاج الاجتماعي، للبضائع الرأسمالية والبضائع الاستهلاكية. فحين يقوم المجتمع على أساس الاقتصاد الإسلامي، ويحرم فيه الربا تحريما تاما، كما يمنعه عن الاكتناز بالنهي عنه، أو يفرض ضريبة عليه، فسوف ينتج عن ذلك إقبال الناس جميعا على إنفاق ثرواتهم.
ففي هذه التفسيرات نفترض واقعا اجتماعيا قائما على أسس معنية، ونأخذ بتفسير هذا الواقع المفترض واستكشاف خصائصه العامة، في ضوء تلك الأسس.
ولكن هذه التفسيرات لا تكون لنا بدقة المفهوم العلمي الشامل، للحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي، ما لم تجمع مواد الدراسة العلمية من تجارب الواقع المحسوس. فكثيرا ما تقع مفارقات بين الحياة الواقعية للنظام،
وبين التفسيرات التي تقدم لهذه الحياة على أساس الافتراض، كما اتفق للاقتصاديين الرأسماليين الذين
318

بنوا كثيرا من نظرياتهم التحليلية على أساس افتراض فانتهوا إلى نتائج تناقض الواقع الذي يعيشونه، لانكشاف عدة عوامل في الحقل الواقعي للحياة لم تؤخذ في مجال الافتراض.
أضف إلى ذلك أن العنصر الروحي والفكري، أو بكلمة أخرى المزاج النفسي العام للمجتمع الإسلامي، ذو اثر كبير في مجرى الحياة الاقتصادية، وليس لهذا المزاج درجة محدودة أو صيغة معينة، يمكن أن تفترض مسبقا وتقام على أساسها النظريات المختلفة.
فعلم الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يولد ولادة حقيقية، إلا إذا جسد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع، بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودرست الأحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة.
319

علاقات التوزيع منفصلة عن شكل الإنتاج
يمارس الناس في حياتهم الاجتماعية عمليتين مختلفتين: إحداهما عملية الإنتاج، والأخرى: عملية التوزيع، فهم من ناحية يخوضون معركة مع الطبيعة في سبيل إخضاعها لرغباتهم ويتسلحون في هذه المعركة بما تسمح به خبرتهم من أدوات الإنتاج، ومن ناحية أخرى يقيم هؤلاء الناس بينهم علاقات معينة، تحدد صلة الأفراد بعضهم ببعض في مختلف شؤون الحياة، وهذه العلاقات هي التي نطلق عليها اسم: النظام الاجتماعي، وتندرج فيها علاقات التوزيع للثروة التي ينتجها المجتمع. فالأفراد في عملية الإنتاج يحصلون على مكاسبهم من الطبيعة، وفي النظام الاجتماعي الذي يحدد العلاقات بينهم يتقاسمون تلك المكاسب.
وبدهي أن عملية الإنتاج في تطور وتحول أساسي دائم، وفقا لنمو العلم وعمقه فبينما كان يستخدم الإنسان في إنتاجه المحراث، أصبح يستخدم الكهرباء والذرة، كما أن النظام الاجتماعي الذي يحدد علاقات الناس بعضهم ببعض - بما فيها علاقات التوزيع - هو الآخر أيضا لم يتخذ صيغة ثابتة في تاريخ الإنسان، بل اتخذ في تاريخ الإنسان، بل اتخذ ألوانا مختلفة باختلاف الظروف وتغيرها.
والسؤال الأساسي بهذا الصدد: ما هي الصلة بين تطور أشكال الإنتاج وتطور العلاقات الاجتماعية بما فيها علاقات التوزيع (النظام الاجتماعي)؟
وتعتبر هذه النقطة مركز الاختلاف الرئيسي بين الاقتصاد الماركسي والاقتصاد
321

الإسلامي، ومن النقاط المهمة للخلاف بين الماركسية والإسلام بوجه عام.
فالاقتصاد الماركسي يرى: أن كل تطور في عمليات الإنتاج وأشكاله، يواكبه تطور حتمي في العلاقات الاجتماعية عامة وعلاقات التوزيع خاصة، فلا يمكن أن يتغير شكل الإنتاج وتظل العلاقات الاجتماعية محتفظة بشكلها القديم، كما لا يمكن أيضا أن تسبق العلاقات الاجتماعية شكل الإنتاج في تطورها. وتستخلص الماركسية من ذلك: أن من المستحيل أن يحتفظ نظام اجتماعي واحد بوجوده على مر الزمن، أو أن يصلح للحياة الإنسانية في مراحل متعددة من الإنتاج، لأن أشكال الإنتاج تتطور خلال التجربة البشرية دائما وتتطور وفقا لها العلاقات الاجتماعية فالنظام الذي يصلح لمجتمع الكهرباء والذرة غير النظام الذي كان يصلح لمجتمع الصناعة اليدوية، ما دام شكل الإنتاج مختلفا في المجتمعين. وعلى هذا الأساس تقدم الماركسية المذهب الاشتراكي، باعتباره العلاج الضروري للمشكلة الاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة، وفقا لمقتضيات الشكل الجديد للإنتاج في تلك المرحلة.
وأما الإسلام فهو يرفض هذه الصلة الحتمية المزعومة، بين تطور الإنتاج وتطور النظام الاجتماعي، ويرى أن للإنسان حقلين: يمارس في أحدهما عمله مع الطبيعة، فيحاول بمختلف وسائله أن يستثمرها ويسخرها لإشباع حاجاته، ويمارس في الآخر علاقاته مع الأفراد الآخرين في شتى مجالات الحياة الاجتماعية. وأشكال الإنتاج هي حصيلة الحقل الأول، والأنظمة الاجتماعية هي حصيلة الحقل الثاني. وكل من الحقلين - بوجوده التاريخي - تعرض لتطورات كثيرة في شكل الإنتاج أو في النظام الاجتماعي، ولكن الإسلام لا يرى ذلك الترابط المحتوم بين تطورات أشكال الإنتاج وتطورات النظم الاجتماعية. ولأجل ذلك فهو يعتقد أن بالإمكان أن يحتفظ نظام اجتماعي واحد، بكيانه وصلاحيته على مر الزمن مهما اختلفت أشكال الإنتاج (1).
وعلى أساس هذا المبدأ (مبدأ الفصل بين النظام الاجتماعي وأشكال الإنتاج)، يقدم الإسلام نظامه الاجتماعي بما فيه مذهبه الاقتصادي، بوصفه نظاما إجتماعيا

(1) لاحظ الميزان ج 4، ص 120.
322

صلاحا للأمة في كل مراحل إنتاجها، وقادرا على إسعادها حين تمتلك سر الذرة، كما كان يسعدها يوم كانت تفلح الأرض بيدها.
ومرد هذا الاختلاف الأساسي بين الماركسية والإسلام في نظرتهما نحو النظام الاجتماعي، إلى اختلافهما - بوجه عام - في تفسير الحياة الاجتماعية التي يتكفل النظام الاجتماعي بتنظيمها وضبطها. فالحياة الاجتماعية للانسان وليدة القوى المنتجة في رأي الماركسية، لأن قوى الإنتاج هي القاعدة الأساسية والعامل الأول في تاريخ الإنسان كله، فإذا تغير شكل القوى المنتجة كان طبيعيا أن يتغير تبعا لذلك شكل الحياة الاجتماعية، الذي يعبر عنه النظام الاجتماعي السائد، ويولد نظام جديد يساير الشكل الجديد للإنتاج.
وفي دراستنا السابقة للمادية التاريخية، ونقدنا الموسع لمفاهيمها عن التاريخ ما يغنينا عن التعليق في هذا المجال
، فقد برهنا بكل وضوح على أن القوى المنتجة ليست هي العامل الأساسي في التاريخ.
وأما في ضوء الإسلام، فليست الحياة الاجتماعية بأشكالها نابعة من الأشكال المتنوعة للإنتاج، وإنما هي نابعة من حاجات الانسان نفسه، لأن الإنسان هو القوة المحركة للتاريخ لا وسائل الإنتاج، وفيه نجد ينابيع الحياة الاجتماعية. فقد خلق الانسان مفطورا على حب ذاته والسعي وراء حاجاته، وبالتالي استخدام كل ما حوله في سبيل ذلك، وكان من الطبيعي أن يجد الانسان نفسه مضطرا إلى استخدام الانسان الآخر في هذا السبيل أيضا، لأنه لا يتمكن من إشباع حاجاته إلا عن طريق التعاون مع الأفراد الآخرين، فنشأت العلاقات الاجتماعية على أساس تلك الحاجات، واتسعت تلك العلاقات ونمت باتساع تلك الحاجات ونموها، خلال التجربة الحياتية الطويلة للانسان. فالحياة الاجتماعية إذن وليدة الحاجات الانسانية، والنظام الاجتماعي هو الشكل الذي ينظم الحياة الاجتماعية وفقا لتلك الحاجات الإنسانية. ‌‌‌‌
ونحن إذا درسنا الحاجات الانسانية، وجدنا أن فيها جانبا رئيسيا ثابتا على مر
323

الزمن، وفيها جوانب تستجد وتتطور طبقا للظروف والأحوال. فهذا الثبات الذي نجده في تركيب الانسان العضوي وقواه العامة، وما أودع فيه من أجهزة للتغذية والتوليد وإمكانات للادراك والاحساس، يعني حتما اشتراك الانسانية كلها في خصائص وحاجات وصفات عامة، الأمر الذي اشتراك الانسانية كلها في خصائص وحاجات وصفات عامة، الأمر الذي جعلها أمة واحدة في خطاب الله لأنبيائه: (إن هذا أمتكم أمة واحدة وانا ربكم فاعبدون) (1). ومن ناحية أخرى نجد أن عددا كبيرا من الحاجات يدخل في نطاق الحياة الانسانية بالتدريج، وينمو من خلال تجارب الحياة وزيادة الخبرة بملابساتها، وخصائصها. فالحاجات الرئيسية ثابتة إذن، والحاجات الثانوية تستجد وتتطور وفقا لنمو الخبرة بالحياة وتعقداتها.
وإذا عرفنا إلى جانب ذلك: أن الحياة الاجتماعية نابعة من الحاجات الانسانية، وان النظام الاجتماعي هو الشكل الذي ينظم الحياة الاجتماعية وفقا لتلك الحاجات كما سبق.. إذا عرفنا ذلك كله، خرجنا بنتيجة وهي: أن النظام الاجتماعي الصالح للانسانية ليس من الضروري لكي يواكب نمو الحياة الاجتماعية - أن يتطور ويتغير بصورة عامة، كما أنه ليس من المعقول أن يصوغ كليات الحياة وتفاصيلها في صيغ ثابتة، بل يجب أن يكون في النظام الاجتماعي جانب رئيسي ثابت، وجوانب مفتوحة للتطور والتغيير، ما دام الأساس للحياة الاجتماعية (الحاجات الانسانية) يحتوي على جوانب ثابتة وجوانب متغيرة فتنعكس كل من جوانبه الثابتة والمتطورة في النظام الاجتماعي الصالح (2).
وهذا هو الواقع في النظام الاجتماعي للإسلام تماما، فهو يشتمل على جانب رئيسي ثابت يتصل بمعالجة الحاجات الأساسية الثابتة في حياة الانسان كحاجته إلى الضمان المعيشي والتوالد والأمن، وما إليها من الحاجات التي عولجت في أحكام توزيع الثروة، وأحكام الزواج والطلاق، وأحكام الحدود والقصاص، ونحوها من الأحكام المقررة في الكتاب والسنة.

(1) الأنبياء / 92.
(2) لاحظ الميزان ج 4، ص 120 و 121.
324

ويشتمل النظام الاجتماعي في الإسلام أيضا على جوانب مفتوحة للتغير وفقا للمصالح والحاجات المستجدة، وهي الجوانب التي سمح فيها الإسلام لولي الأمر أن يجتهد فيها وفقا للمصلحة والحاجة، على ضوء الجانب الثابت من النظام. كما زود الجانب الثابت من النظام بقواعد تشريعية ثابتة في صيغها القانونية غير أنه تتكيف في تطبقها بالظروف والملابسات وبذلك تحدد من ثباتها وذلك كقاعدة نفي الضرر في الإسلام ونفي الحرج في الدين.
وهكذا - وخلافا للماركسية القائلة: بتبعية علاقات التوزيع، وبالتالي النظام الاجتماعي كله لأشكال الإنتاج - نستطيع، أن نقرر: انفصال علاقات التوزيع عن شكل الإنتاج. فمن الممكن لنظام اجتماعي واحد أن يقدم للمجتمع الانساني علاقات توزيع صالحة له، في مختلف ظروف الإنتاج وأشكاله، وليس كل نوع من علاقات التوزيع مرهونا بشكل معين من أشكال الإنتاج، لا يسبقه ولا يتأخر عنه كما ترى الماركسية.
وعلى هذا الأساس يختلف الإسلام والماركسية في نظرتهما إلى أنظمة التوزيع الأخرى التي طبقت في التاريخ، وحكمهما في حق تلك الأنظمة. فالماركسية تدرس كل نظام للتوزيع من خلال ظروف الإنتاج السائدة في المجتمع، فتحكم بأنه نظام صلاح إذا كان يواكب نمو القوى المنتجة، وبأنه نظام فاسد تجب الثورة عليه إذا كان عقبة في طريقها الصاعد. ولهذا نجد أن الماركسية تبارك الرق على أبعد مدى وبأفظع صورة، في المجتمع الذي يعيش على الإنتاج اليدوي للانسان، لأن مثل هذا المجتمع لا يمكن أن يدفع إلى مضاعفة النشاط المنتج، إلا إذا رفعت السياط على رؤوس الكثرة الكاثرة من أفراده، وأجبروا على العمل تحت وقع السياط ووخز الخناجر، فمن يباشر عملية الارهاب الهائل ويمسك السوط بيده، هو الرجل التقدمي والطليعة الثورية في ذلك المجتمع، لأنه الساهر دون وعي على تحقيق إرادة التاريخ.
325

وأما ذاك الفرد الآخر الذي يستنكف عن الاشتراك في عملية الاسترقاق، ويترك هذه الفرصة الذهبية.. فهو جدير بكل النعوت التي يطلقها الاشتراكيون اليوم على الرأسمالي، لأنه رجل يعارض عملية التقدم البشري.
وأما الإسلام فهو يحكم على كل نظام في ضوء صلته بالحاجات الإنسانية المتنوعة، التي يحب على النظام تكييف الحياة تكيفا يضمن إشباعها، بوصفها الأساس لنشوء الحياة الاجتماعية. ولا يعتبر هذا الشكل أو ذاك من أشكال
الإنتاج، مبررا لقيام نظام اجتماعي وعلاقات توزيع لا تكفل إشباع تلك الحاجات، لأنه ينكر تلك الصلة الحتمية المزعومة بين أشكال الإنتاج والنظم الاجتماعية.
والإسلام حين ينكر هذه الصلة لا يقرر ذلك نظريا فحسب، بل هو يقدم الدليل العلمي على ذلك من وجوده التاريخي. فقد سجل الإسلام في تجربته الواقعية للحياة نصرا فكريا وبرهانا حيا، على كذب تلك الصلة المزعومة بين النظام الاجتماعي وأشكال الإنتاج، ودلل على أن الإنسانية تستطيع أن تكيف وجودها الاجتماعي تكييفا انقلابيا جديدا، بينما يظل أسلوب في الإنتاج كما هو دونما تغيير.
فإن الواقع الإسلام الذي عاشته الإنسانية لحظة قصيرة من عمر الزمن المجيد، وأحدث فيها أروع تطوير شهدته الأسرة البشرية.. لم يكن هذا الواقع الانقلابي الذي خلق أمة، وأقام حضارة، وعدل من سير التاريخ.. وليد أسلوب جديد في الإنتاج، أو تغيير في أشكاله وقواه. ولم يكن من الممكن في منطق التفسير الاشتراكي للتاريخ - الذي يربط النظام الاجتماعي بوسائل الإنتاج - أن يوجد هذا الانقلاب الشامل، الذي تدفق إلى كل جوانب الحياة دون أن يسبقه أي تحول أساسي في ظروف الإنتاج.
وهكذا تحدى الواقع الإسلامي منطق الماركسية التاريخي، في كل حساباتها وفي كل شيء، نعم في كل شيء، فقد تحداها في فكرة المساواة، لأن الماركسية ترى أن فكرة المساواة من نتاج المجتمع الصناعي، الذي يتفتح عن الطبقة التي تحمل لواء المساواة وهي البورجوازية، وليس من الممكن في رأيها حمل هذا اللواء قبل أن
326

يبلغ التطور التاريخي هذه المرحلة الصناعية. ويقف الإسلام من هذا المنطق - الذي يرد كل وعي وفكرة إلى تطور الإنتاج - هازئا، لأنه استطاع أن يرفع لواء المساواة، وأن يفجر في الانسانية وعيا صحيحا وإدراكا شاملا، واستطاع أيضا أن يعكس جوهرها في واقع العلاقات الاجتماعية، بدرجة لم تصل إليها البورجوازية. استطاع أن يقوم بذلك كله قبل أن يأذن الله بظهور الطبقة البورجوازية، وقبل أن توجد شروطها المادية بعشرة قرون.. فقد نادى بالمساواة يوم لم تكن قد وجدت الآلة فقال: (كلكم لآدم وآدم من تراب) (1). و (الناس سواسية كأسنان المشط) (2). (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) (3).
فهل استوحى المجتمع الإسلامي هذه المساواة من وسائل الإنتاج البورجوازي، التي لم تظهر إلا بعد ذلك بألف سنة؟! أو استوحاها من وسائل الزراعة والتجارة البدائية التي كان المجتمع الحجازي يعيش عليها، وهي وسائل كانت توجد بدرجة أكثر نموا وأعظم تطورا في مجتمعات عربية وعالمية أخرى؟! فلماذا أوحت إلى المجتمع الحجازي بفكرة المساواة، وجندته للقيام بأروع دور تاريخي في سبيل تحقيق هذه الفكرة، ولم تصنع، نظير ذلك مع المجتمعات العربية في اليمن أو الحيرة أو الشام؟!
وتحدى الإسلام أيضا حسابات المادية التاريخية مرة أخرى، فبشر بمجتمع عالمي يجمع الانسانية كلها على صعيد واحد، وعمل جاهدا في سبيل تحقيق هذه الفكرة، في بيئة كانت تضج بالصراع القبلي، وتزخر بآلاف المجتمعات العشائرية المتناقضة، فقفز بتلك الوحدات إلى وحدة إنسانية كبرى، وتسامى بالمسلمين من فكرة المجتمع القبلي الذي تحده حدود الدم والقرابة والجوار، إلى فكرة المجتمع القبلي الذي لا يحده شيء من تلك الحدود، وإنما تحده القاعدة الفكرية للإسلام. فأي أداة إنتاج حولت أولئك الذين كانت تضيق عقولهم عن فكرة المجتمع القومي، فجعلتهم أئمة المجتمع العالمي والدعاة إليه في فترة قصير؟!.

(1) تحف العقول ص 33.
(2) تحف العقول ص 387. ولكن فيه لفظة سواء بدل سواسية.
(3) كنزل العمال ج 3، ص 699، حديث 8502.
327

وتحدى الإسلام المنطق التاريخي المزعوم مرة ثالثة، فيما أقام من علاقات التوزيع، التي لم يكن من الممكن في حساب الاقتصاد الاشتراكي، أن تقوم في مجتمع قبل أن يبلغ درجة من المرحلة الصناعية والآلية في الإنتاج. فقلص من دائرة الملكية الخاصة، وضيق من مجالها، وهذب من مفهومها، ووضع لها الحدود والقيود، وفرض عليها كفالة الفقراء، ووضع إلى جانبها الضمانات الكافية لحفظ التوازن والعدالة في التوزيع (1)، وسبق بذلك الشروط المادية - في رأي الماركسية - لهذا النوع من العلاقات. فبينما يقول القرن الثامن عشر: (لا يجهلن سوى الأبله أن الطبقات الدنيا يجب، تظل فقيرة، وإلا فإنها لن تكون مجتهدة) (2). ويقول القرن التاسع عشر: (ليس للذي يولد في عالم تم امتلاكه حق في الغذاء إذا ما تعذر عليه الظفر بوسائل عيشه عن طريق عمله أو أهله، فهو طفيلي على المجتمع لا لزوم لوجوده، إذ ليس له على خوان الطبيعة مكان، والطبيعة تأمره بالذهاب ولا تتوانى في تنفيذ أمرها هذا) (3)، بينما يقول العالم هذا حتى بعد مجيء الإسلام بقرون، يقول الإسلام - على ما جاء في الحديث - معلنا مبدأ الضمان الاجتماعي. (من ترك ضياعا فعلي ضياعه، ومن ترك دينا فعلي دينه) (4)، ويعلن الاقتصاد الإسلامي بوضوح: أن الفقر والحرمان ليس نابعا من الطبيعة نفسها، وإنما هو نتيجة سوء التوزيع والانحراف عن العلاقات الصالحة التي يجب أن تربط الأغنياء بالفقراء، فيقول (5) - على ما جاء في الحديث: (ما جاع فقير إلا بما متع غني) (6).
إن هذا الوعي الإسلامي لقضايا العدالة الاجتماعية في التوزيع، الذي لم يوجد نظيره حتى في مجتمعات أرقى من المجتمع الإسلامي في شروطه المادية، لا يمكن

(1) لاحظ الوسائل ج 6، ص 10، الباب 3، وص 178، الباب 24، وجواهر الكلام ج 22، ص 9.
(2) النص لأحد كتاب القرن الثامن عشر، وهو أثر يونج. من المؤلف
(3) النص لمالتس الذي عاش في بداية القرن التاسع عشر. من المؤلف
(4) الوسائل ج 13، ص 92، الحديث 23796.
(5) لاحظ الوسائل ج 6، ص 3 و 4 وج 11، ص 521، والميزان ج 13، ص 60 - 62.
(6) نهج البلاغة ص 533، الحكمة 328. وفي بعض النسخ: بما منع.
328

أن يكون وليد المحراث والتجارة البدائية أو الصناعية اليدوية. وما إليها من وسائل المعيشة التي كانت كل المجتمعات تعرفها.
يقولون: إن هذا الوعي، أو هذا الانقلاب الاجتماعي، بل هذا المد الإسلامي الهائل الذي امتد إلى تاريخ العالم
كله.. كان نتيجة للنمو التجاري وللأوضاع التجارية في مكة، التي كانت تتطلب إنشاء دولة ثابتة وتدعيمها بكل متطلباته الاجتماعية والفكرية التي تلائم الوضع التجاري السائد ‍‍!!
وحقا إنه تفسير طريف، أن يفسر هذا التحول التاريخي الشامل في حياة الانسانية كلها بالظروف التجارية لبلدة من بلاد جزيرة العرب.
ولا أدري كيف سمحت الظروف التجارية لمكة بهذا الدور التاريخي الجبار، دون غيرها من البلاد العالمية والعربية، التي شهدت مدنيات أضخم وشروطا مادية أرقى، وكانت تفوق مكة في ظروفها السياسية والاقتصادية؟! أفلم يكن من المحتوم في المنطق المادي للتاريخ أن ينبثق التطور الاجتماعي الجديد من تلك البلاد؟! فكيف استطاعت ظروف تجارية معنية في بلد كمكة أن تخلق تاريخا إنسانيا جديدا. بينما عجزت عن مثل ذلك ظروف مشابهة، أو ظروف أكثر منها تطورا ونموا؟
فلئن كانت مكة تتمتع بظرف تجاري مناسب لمرور التجارة بها بين اليمن وسوريا، فقد كان الأنباط يتمتعون بظروف تجارية مهمة حين أنشأوا (بطرا) كمحطة للطرق التجارية، وأنشأوا فيها مدنية من أرقى المدنيات العربية، حتى امتد نفوذهم إلى ما يجاورهم من البلاد، وأقاموا فيها حاميات للقوافل التجارية وأماكن لاستغلال المناجم، وأصبحت مدينتهم ردحا من الزمن المدينة الرئيسية للقوافل ومركزا تجاريا مهما، وامتد نشاطهم التجاري إلى مناطق واسعة، حتى وجدت آثار تجارتهم في سلوقية وموانئ سورية والإسكندرية، وكانوا يتاجرون بالأفاويه من اليمن، والحرير من الصين والحناء من عسقلان، والزجاج وصبغ الأرجوان من صيدا وصور، واللؤلؤ من الخليج الفارسي والخزف من روما، وينتجون في بلادهم الذهب والفضة والقار،
329

وزيت السمسم.. وبالرغم من هذا المستوى التجاري والإنتاجي الذي لم تصل اليه مكة، ظلت الأنباط في علاقاتها الاجتماعية كما هي، تنتظر دور مكة الرباني في تطوير التاريخ.
وهذه الحيرة التي شهدت على عهد المناذرة رقيا كبيرا في الصناعة والتجارة. فقد ازدهرت فيها صناعة الأنسجة والأسلحة والخزف وأواني الفخار والنقوش، واستطاع المناذرة أن يمدوا نفوذهم التجاري إلى أواسط وجنوب وغربي الجزيرة العربية، وكانوا يرسلون قوافل تجارية إلى الأسواق الرئيسية، وهي تحمل منتوجات بلادهم.
والحضارة التدمرية التي استمرت عدة قرون، وازدهرت في ظلها التجارة وقامت علاقاتها التجارة بمختلف دول العالم، كالصين والهند وبابل والمدن الفينيقية وبلاد الجزيرة.
والحضارات التي احتفل بها تاريخ اليمن منذ أقدم العهود..
إن دراسة تلك الحضارات والمدنيات وظروفها التجارية والاقتصادية؛ ومقارنتها بمكة في واقعها الحضاري والمدني قبل الإسلام، يبرهن على أن الانقلاب الإسلامي في العلاقات الاجتماعية والحياة الفكرية، لم يكن مسألة بما فيها علاقات التوزيع منفصلة عن شكل الإنتاج والوضع الاقتصادي للقوى المنتجة.
أفليس من حق الإسلام بعد هذا كله، أن يزيف بكل اطمئنان وثقة تلك الحتمية التاريخية، التي تربط كل أسلوب من أساليب التوزيع بأسلوب من أساليب الإنتاج، ويعلن بالدليل المادي المحسوس: أن النظام يقوم على أسس فكرية وروحية، وليس على الطريقة المادية في كسب حاجات الحياة؟!.
330

6 - المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام وحلولها
ما هي المشكلة الاقتصادية؟
تتفق التيارات الفكرية في الحقل الاقتصادي جميعا على: أن في الحياة الاقتصادية مشكلة يجب أن تعالج، وتختلف - بعد ذلك - في تحديد طبيعة هذه المشكلة، والطريقة العامة لعلاجها.
فالرأسمالية تعتقد: أن المشكلة الاقتصادية الأساسية هي قلة الموارد الطبيعية نسبيا، نظرا إلى أن الطبيعة محدودة. فلا يمكن أن يزاد في كمية الأرض التي يعيش عليها الإنسان، ولا في كمية الثروات الطبيعية المتنوعة المخبوءة فيها، مع أن الحاجات الحياتية للانسان تنمو باطراد، وفقا لتقدم المدنية وازدهارها، الأمر الذي يجعل الطبيعة عاجزة عن تلبية جميع تلك الحاجات بالنسبة إلى الأفراد كافة، فيؤدي ذلك إلى التزاحم بين الأفراد على إشباع حاجتهم، وتنشأ عن ذلك المشكلة الاقتصادية.
فالمشكلة الاقتصادية في رأي الرأسمالية هي: أن الموارد الطبيعية للثروة لا تستطيع أن تواكب المدنية، وتضمن إشباع جميع ما يستجد خلال التطور المدني من حاجات ورغبات.
والماركسية ترى: أن المشكلة الاقتصادية دائما هي مشكلة التناقض بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع. فمتى تم الوفاق بين ذلك الشكل وهذه العلاقات ساد الاستقرار في الحياة الاقتصادية، مهما كانت نوعية النظام الاجتماعي الناتج عن
331

التوفيق بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع.
وأما الإسلام فهو لا يعتقد مع الرأسمالية: أن المشكلة مشكلة الطبيعة وقلة مواردها، لأنه يرى أن الطبيعة قادرة على ضمان كل حاجات الحياة، التي يؤدي عدم إشباعها إلى مشكلة حقيقية في حياة الانسان.
كما لا يرى الإسلام أيضا: أن المشكلة هي التناقض بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع، كما تقرر الماركسية.. وإنما المشكلة - قبل كل شيء: مشكلة الإنسان نفسه، لا الطبيعة، ولا أشكال الإنتاج (1).
وهذا ما يقرره الإسلام في الفقرات القرآنية التالية:
{الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} (2).
فهذه الفقرات الكريمة تقرر بوضوح: أن الله تعالى قد حشد للانسان في هذا الكون الفسيح كل مصالحه ومنافعه، ووفر له الموارد الكافية لإمداده بحياته وحاجاته المادية.. ولكن الانسان هو الذي ضيع على نفسه هذه الفرصة التي منحها الله له، بظلمه وكفرانه (إن الانسان لظلوم كفار). فظلم الانسان في حياته العلمية وكفرانه بالنعمة الإلهية، هما السببان الأساسيان للمشكلة الاقتصادية في حياة الانسان.
ويتجسد ظلم الانسان على الصعيد الاقتصادي: في سوء التوزيع. ويتجسد كفرانه للنعمة: في إهماله لاستثمار الطبيعة وموقفه السلبي منها.
فحين يمحي الظلم من العلاقات الاجتماعية للتوزيع، وتجند طاقات الانسان للاستفادة من الطبيعة واستثمارها. تزول المشكلة الحقيقية على الصعيد الاقتصادي.
وقد كفل الإسلام محو الظلم بما قدمه من حلول لمسائل التوزيع والتداول.
(1) لاحظ الوسائل ج 11، ص 521، والميزان ج 13، ص 62.
(1) إبراهيم / 32 - 34.
332

وعالج جانب الكفران: بما وضعه للإنتاج من مفاهيم وأحكام. وهذا ما سنشرحه فيما يلي، بالمقدار الذي يتصل بالسبب الأول من المشكلة الاجتماعية في نظر الإسلام، وهو الظلم في مجالات التوزيع والتداول. وأما موقف الإسلام من السبب الثاني وهو كفران النعمة، فسوف نتناوله بالدرس. بحث مقبل (1)، أعددناه لعرض موقف الإسلام من الإنتاج وأحكامه ومفاهيمه عنه.
جهاز التوزيع
فبالنسبة إلى مجالات التوزيع منيت الانسانية على مر التاريخ بألوان من الظلم، لقيام التوزيع تارة: على أساس فردي بحت، وأخرى على أساس لا فردي خالص. فكان الأول تعديا على حقوق الجماعة وكان الثاني بخسا لحقوق الفرد.
وقد وضع الغلام جهاز التوزيع للمجتمع الإسلامي بالشكل الذي تلتقي فيه حقوق الفرد بحقوق الجماعة. فلم يحل بين الفرد وحقه واشباع ميوله الطبيعية، كما لم يسلب الجماعة كرامتها ولم يهدد حياتها، وبذلك امتاز عن أجهزة التوزيع في الإسلام يتكون من أداتين رئيسيتين، وهما: العمل والحاجة. ولكل من الأداتين دورهما الفعال في الحقل العام للثروة الاجتماعية.
وسوف نتناول كلا من الأداتين بالدرس، لنعرف دورها الذي تؤديه في مجال التوزيع، مع المقارنة بين مكانة العمل والحاجة في جهاز التوزيع الإسلامي للثروة، ومكانتهما في التصاميم والنظريات الأخرى للتوزيع، التي تقوم على أسس شيوعية واشتراكية ورأسمالية.
دور العمل في التوزيع
لكي نعرف دور العمل في التوزيع، يجب أن ندرس الصلة الاجتماعية بين العمل

(1) وسائل الإسلام في تنمية الإنتاج ص 617 من الكتاب.
333

والثروة التي ينتجها. فالعمل ينصب على مختلف المواد الطبيعية: فيستخرج المعدن من الأرض، ويقتطع الخشب من الأشجار، ويغوص على اللؤلؤ في البحر، ويصطاد طائرا من الجو.. إلى غير ذلك من الثروات الذي نعالجه بهذا الصدد هو: ماذا تكتسب المادة من طابع اجتماعي بسبب العمل؟ وما هي علاقة العامل بالثروة التي حصل عليها عن طريق عمله؟.
فهناك الرأي القائل: بانقطاع الصلة الاجتماعية بين العمل و (العامل) وموضوعه، فليس للعمل أو العامل من حق إلا في إشباع حاجته مهما كان عمله، لأن العمل ليس إلا وظيفة اجتماعية يؤديها الفرد للمجتمع، فيكافئه عليها المجتمع بضمان حاجاته.
ويتفق هذا الرأي مع وجهة نظر الاقتصاد الشيوعي، فان الاقتصاد الشيوعي ينظر إلى المجتمع بوصفه كائنا كبيرا يذوب فيه الأفراد، ويحتل كل فرد منه موضع الخلية في الكائن العضوي الواحد. وعلى أساس هذه النظرة التي تصهر الأفراد في البوتقة الاجتماعية البرى، وتذيبهم في العملاق الكبير.. لا تبدو الإعمال التي يقوم بها أفراد المجتمع أعمالا لأفراد، لأن الأفراد قد ذابوا جميعا ضمن الكائن الكبير. فتنقطع بذلك صلة العامل بنتائج عمله، ويصبح المجتمع هو العامل الحقيقي والمالك لنتاج عمل الأفراد جميعا، وليس للأفراد إلا إشباع حاجاتهم، وفقا للصيغة الشيوعية - التي مرت بنا سابقا في دراستنا للمادية التاريخية -: (من كل وفقا لطاقته ولكل وفقا لحاجته). فالأفراد في المجتمع الشيوعي يشبهون تماما الأجزاء التي يتكون منها جهاز ميكانيكي، فان كل جزء من الجهاز له الحق في استهلاك ما يحتاجه من زيت، وعليه القيام بوظيفته الخاصة، وبذلك قد تستهلك الأجزاء الميكانيكية جميعا حظوظا متساوية من الزيت بالرغم من اختلاف وظائفها في أهميتها وتعقيدها. وكذلك أفراد المجتمع يعطى كل منهم في نظام التوزيع الشيوعي (وفقا لحاجته)، وإن اختلفوا في مدى
مساهمتهم العملية في إنتاج الثروة. فالشخص يعمل ولكنه لا يملك ثمرة عمله ولا
334

يختص بنتائجه، وإنما له الحق في إشباع حاجته سواء زاد ذلك على عمله أم قل عنه (1).
وعلى هذا الأساس يصبح موقف العمل من التوزيع سلبيا. فهو في ضوء المفهوم الشيوعي أداة إنتاج للسلع، وليس أداة توزيع لها، وإنما الحاجة وحدها هي التي تقرر الطريقة التي يتم بها توزيع السلع على أفراد المجتمع، ولهذا يختلف أفراد المجتمع في حظهم من التوزيع، وفقا لاختلاف حاجاتهم، لا لاختلاف أعمالهم.
وأما الاقتصاد الاشتراكي الماركسي، فهو يحدد صلة العامل بنتيجة عمله في ضوء مفهومه الخاص عن القيمة: فهو يرى: أن العمل هو الذي يخلق القيمة التبادلية للمادة التي ينفق فيها عمله، فلا قيمة للمادة بدون العمل البشري المتجسد فيها. وما دام العمل هو الينبوع الأساسي للقيمة، فيجب أن يزن توزيع القيم المنتجة في مختلف فروع الثروة على أساس العمل، فيملك كل عامل نتيجة عمله والمادة التي انفق عمله فيها، لأنها أصبحت ذات قيمة بسبب العمل وينتج عن ذلك: أن (لكل حسب عمله) لا حسب العمل هو الخلاق الوحيد للقيم، فهو الأداة الوحيدة للتوزيع، فبينما كانت أداة التوزيع في المجتمع الشيوعي هي الحاجة، يصبح العمل أداة التوزيع الأساسية في المجتمع الاشتراكي.
وأما الإسلام فيختلف عن الاقتصاد الشيوعي والاشتراكي معا.
فهو يخالف الشيوعية في قطعها الصلة بين عمل الفرد ونتائج عمله، وتأكيدها على المجتمع بوصفه المالك الوحيد لنتائج أعمال الأفراد جميعا، لأن الإسلام لا ينظر إلى المجتمع بصفته كائنا كبيرا يختفي من وراء الأفراد، ويحركها في هذا الاتجاه وذاك، بل ليس المجتمع إلا الكثرة الكاثرة من الأفراد فالنظرة الواقعية إنما تنصب على الأفراد بوصفهم بشرا يتحركون ويعملون، فلا يمكن بحال من الأحوال أن تنقطع الصلة بين العامل ونتيجة عمله.

(1) هذا في الاتجاهات الشيوعية غير الماركسية، وأما الماركسية فلها طريقتها الخاصة في تبرير ذلك على ضوء مفهومها التاريخي عن المرحلة الشيوعية، راجع ص 217 من هذا الكتاب.
335

ويختلف الإسلام أيضا عن الاقتصاد الاشتراكي، القائل: ان الفرد هو الذي يمنح المادة قيمتها التبادلية بعمله، فالمواد الطبيعية كالخشب والمعادن وغير ذلك من ثروات الطبيعة.. لا تستمد قيمتها - في رأي الإسلام - من العمل، بل قيمة كل مادة حصيلة الرغبة الاجتماعية العامة في الحصول عليها، كما أوضحنا ذلك في دراستنا للمادية التاريخية.
وإنما العمل في نظر الإسلام سبب لملكية العامل لنتيجة عمله، وهذه الملكية الخاصة القائمة على أساس العمل، تعبير عن ميل طبيعي في الإنسان إلى تملك نتائج عمله، ومرد هذا الميل إلى السيطرة على نتائج العمل ومكاسبه، وبذلك تكون الملكية القائمة على أساس العمل حقا للانسان نابعا من مشاعره الأصيلة، وحتى المجتمعات التي تحدثنا الشيوعية عن انعدام الملكية الخاصة فيها، لا تدحض حق الملكية القائم على أساس العمل بوصفه تعبيرا عن ميل أصيل في الإنسان.. وإنما تعني أن العمل في تلك المجتمعات كان يجمل طابعا اشتراكيا، فكانت الملكية القائمة على أساسه اشتراكية أيضا. فالحقيقة هي الحقيقة، والميل الطبيعي إلى التملك على أساس العمل ثابت على أي حال، وإن اختلفت نوعية الملكية لاختلاف شكل العمل: من ناحية كونه فرديا أو اجتماعيا.
فالعمل إذن أساس لتملك العامل في نظر الإسلام، وعلى هذا الأساس فهو أداة رئيسية في جهاز التوزيع الإسلامي، لأن كل عامل يحظى بالثروات الطبيعية التي يحصل عليها بالعمل، ويمتلكها وفقا لقاعدة: إن العمل سبب الملكية.
وهكذا نستطيع أن نستخلص في النهاية المواقف المذهبية المختلفة، من الصلة الاجتماعية بين الفرد العامل ونتيجة عمله.
فالقاعدة الشيوعية في هذا المجال: (إن العمل سبب لتملك المجتمع لا الفرد).
والقاعدة الاشتراكية: (إن العمل سبب لقيمة المادة، وبالتالي سبب تملك العامل لها).
والقاعدة الإسلامية: (إن العمل سبب لتملك العامل للمادة، وليس سببا لقيمتها). فالعامل حين يستخرج اللؤلؤ لا يمنحه بعمله هذا قيمته وإنما يملكه بهذا العمل (1).
(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 116.
336

دور الحاجة في التوزيع
إن العمل هو الأداة الرئيسية الأولى في جهاز التوزيع، بوصفه أساسا للملكية كما عرفنا قبل لحظة. والأداة الأخرى التي تساهم في عملية التوزيع مساهمة رئيسية هي الحاجة.
والدور المشترك الذي يؤديه العمل والحاجة معا في هذا المجال، هو الذي يحدد الشكل الأولي العام للتوزيع في المجتمع الإسلامي.
ويمكننا لإيضاح هذا الدور المشترك الذي تساهم فيه الحاجة أن نقسم أفراد المجتمع إلى ثلاث فئات: فإن المجتمع يحتوي عادة على فئة: قادرة - بما تتمتع به من مواهب وطاقات فكرية وعملية - على توفير معيشتها في مستوى مرفه غنى، وفئة أخرى: تستطيع أن تعمل، ولكنها لا تنتج في عملها إلا ما يشبع ضروراتها ويوفر لها حاجاتها الأساسية، وفئة ثالثة: لا يمكنها أن تعمل لضعف بدني أو عاهة عقلية. وما إلى ذلك من الأسباب التي تشل نشاط الانسان، وتقذف به خارج نطاق العمل والإنتاج.
فعلى أساس الإقتصاد الإسلامي تعتمد الفئة الأولى في كسب نصيبها من التوزيع على العمل، بوصفه أساسا للملكية وأداة رئيسية للتوزيع، فيحصل كل فرد من هذه الفئة على حظه من التوزيع وفقا لإمكاناته الخاصة، وإن زاد ذلك على حاجاته، ما دام يستخدم إمكاناته في الحدود التي يضعها الاقتصاد الإسلامي للنشاطات الاقتصادية للافراد. فالحاجة إذن لا تعمل شيئا بالنسبة إلى هذه الفئة، وإنما العمل. هو أساس نصيبها من التوزيع.
وبينما تعتمد الفئة الأولى على العمل وحده، يرتكز دخل الفئة الثالثة وكيانها الاقتصادي في الإسلام على أساس الحاجة وحدها، لأن هذه الفئة على أساس حاجتها، وفقا لمبادئ الكفالة العامة والتضامن الاجتماعي في المجتمع الإسلامي.
337

وأما الفئة الثانية: التي تعمل ولا تجني من عملها إلا الحد الأدنى من المعيشة، فهي تعتمد في دخلها على العمل والحاجة معا. فالعمل يكفل لها معيشتها الضرورية، والحاجة تدعو - وفقا لمبادئ الكفالة والتضامن - إلى زيادة دخل الفئة، بأساليب وطرق محددة في الاقتصاد الإسلامي كما سيأتي، ليتاح لأفراد هذه الفئة العيش بالدرجة العامة من الرفاه.
ومن خلال هذا نستطيع أن ندرك أوجه الاختلاف بين دور الحاجة في الاقتصاد الإسلامي بصفتها أداة توزيع ودورها في المذاهب الاقتصادية الأخرى.
الحاجة في نظر الإسلام والشيوعية
تعتبر الحاجة في نظر الشيوعية - القائلة: أن من كل وفقا لطاقته ولكل وفقا لحاجته - وحدها هي المعيار الأساسي في توزيع الناتج على الأفراد العاملين في المجتمع فلا تسمح للعمل بإيجاد ملكية أوسع نطاقا من حاجة العامل.. بينما يعترف الإسلام بالعمل بوصفه أداة التوزيع إلى جانب الحاجة، ويسند إليه دورا إيجابيا في هذا المضمار، وبذلك يفتح المجال في الحياة الاقتصادية لظهور كل الطاقات والمواهب ونموها، على أساس من الحياة الاقتصادية لظهور كل الطاقات والمواهب ونموها، على أساس من التنافس والسباق، ويدفع الأفراد الموهوبين إلى إنفاق كل إمكاناتهم في مضمار المدنية والاقتصاد وعلى العكس من ذلك الشيوعية، فإنها بإقامتها للتوزيع على أساس حاجة العامل وحدها دون نوعية عمله ونشاطه، تؤدي إلى تجميد الدوافع الطبيعة في الإنسان الباعثة على الجد والنشاط، فإن الذي يبعث الفرد على ذلك إنما هو في الحقيقة مصلحته الخاصة، فإذا جرد العمل عن وصفه أداه توزيع واتخذت الحاجة وحدها مقياسا لنصيب كل فرد، كما تصنع الشيوعية، كان في ذلك القضاء على أهم قوة دافعة بالجهاز الاقتصادي إلى الأمام، ومحرك له في اتجاه متصاعد.
الحاجة في نظر الإسلام والاشتراكية الماركسية
تعتمد الاشتراكية القائلة -: من كل طاقته ولكل حسب عمله - على
338

العمل بصفته الجهاز الأساسي للتوزيع، فلكل عامل أحق في نتيجة عمله مهما كانت هذه النتيجة ضئيلة أو كبيرة. وبذلك يلغى دور الحاجة في التوزيع، فلا يقف نصيب العامل عند حاجته إذ كان ينتج في عمله أكثر من حاجته، كما لا يحظى العامل بما يشبع حاجته كاملة إذا قصر به عمله عن تقديم خدمة إنتاجية توازي ذلك، فلكل فرد إذن قيمة عمله مهما كانت حاجته ومهما حققه العمل من قيمة.
وهذا يختلف عن وجهة نظر الإسلام في الحاجة، فإن لها في رأيه دورا إيجابيا مهما، لأنها وإن لم تكن سببا لحرمان العامل الموهوب من ثمار عمله إذا زادت عن حاجته. غير أنها سبب فعال في التوزيع بالنسبة إلى الفئة الثانية من فئات المجتمع، التي استعرضناها قبل دقائق، وهي الفئة التي لا تملك من القدرة الفكرية والجسدية إلا الدرجة التي تسمح لها بالحصول على الحد الأدنى من ضرورات الحياة فأن هذه الفئة على الأسس الاشتراكية الماركسية للاقتصاد يجب أن تقنع بثمار عملها الضئيلة، وتستسيغ الفوارق الكبيرة بين مستوى معيشتها ومستوى المعيشة العام للفئة الأولى، القادرة على كسب العيش المرفه، لأن العمل وحده هو الذي يمارس التوزيع في ظل عمله. وأما في ظل الاقتصاد الإسلامي فالأمر يختلف، لأن الإسلام لم يكتف بالعمل وحده لتنظيم جهاز التوزيع بين العاملين، بل جعل للحاجة لونا من ذلك، واعتبر عجز الفئة الثانية عن تحقيق المستوى العام للرفاه فالعامل الموهوب الطيب الحظ لن يحرم مما زاد على حاجته من نتاج عمله، ولكن العامل الذي لم يمنح إلا الحد الأدنى من الطاقة العملية، سوف يحصل على نصيب أكبر من نتاجه.
وهناك نقطة خلاف فكري أخرى بين الإسلام والاشتراكية الماركسية، حول الفئة الثالثة من فئات المجتمع الثلاث، التي حرمت من العمل بسبب طبيعة تكوينها الفكري والجسدي، والاختلاف بين الإسلام والاشتراكية الماركسية حول هذه الفئة المحرومة ينبع من تناقض مفاهيمهما عن علاقات التوزيع.
339

وأنا لا أريد أن أتناول بهذا الصدد موقف العالم الاشتراكي اليوم من الفئة الثالثة، ولا أحاول أن أكرر المزاعم القائلة: أن الفرد العاجز عن العمل محكوم عليه في المجتمعات الاشتراكية بالموت جوعا، لأنني أريد أن أدرس المسألة من الوجهة النظرية لا التطبيقية، ولا أريد أن أتحمل مسؤولية تلك المزاعم التي يرددها أعداء العالم الاشتراكي عنه.
فمن الناحية النظرية لا يمكن للاقتصاد الاشتراكي الماركسي أن يفسر حق الفئة الثالثة في الحياة، ويبرر حصولها على نصيب من الناتج العام في عملية التوزيع، لأن التوزيع لا يقوم في رأي الماركسية على أساس
خلقي ثابت، وإنما يحدد وفقا لحالة الصراع الطبقي في المجتمع التي يمليها شكل الإنتاج السائد، ولذلك تؤمن الماركسية: أن الرق وموت الرقيق تحت السياط وحرمانه من ثمرات عمله.. كان شيئا سائغا من ظروف الصراع الطبقي بين السادة والعبيد.
وعلى هذا الأساس الماركسي يجب أن يدرس حظ الفئة الثالثة من التوزيع في ضوء مركزها الطبقي، ما دامت حظوظ الأفراد في التوزيع تحدد وفقا لمراكزهم الطبقية في المعترك الاجتماعي.
ولما كانت الفئة الثالثة مجردة عن ملكية وسائل الإنتاج وعن طاقة العمل المنتج، فهي لا تندرج ضمن إحدى الطبقتين المتصارعتين: (الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة)، ولا تشكل جزءا من الطبقة العاملة في دور انتصار العمال وإنشاء المجتمع الاشتراكي.
وإذا كان الأفراد العاجزون بطبيعتهم عن العمل منفصلين عن الصراع الطبقي بين الرأسماليين والعمال، وبالتالي عن الطبقة العاملة التي تسيطر على وسائل الإنتاج في المرحلة الاشتراكية فلا يوجد أي تفسير علمي على الطريقة الماركسية يبرر نصيب هؤلاء من التوزيع، وحقهم في الحياة وفي الثروة التي سيطرت عليها الطبقة العاملة، ما داموا خارج نطاق الصراع الطبقي.. وهكذا لا تستطيع الماركسية أن تبرر بطريقتها الخاصة ضمان حياة الفئة الثالثة ومعيشتها في المرحلة الاشتراكية.
340

وأما الإسلام فهو لا يحدد عملية التوزيع على أساس الصراع الطبقي في المجتمع، وإنما يحددها في ضوء المثل الأعلى للمجتمع السعيد، وعلى أساس من القيم الخلقية الثابتة التي تفرض توزيع الثروة بالشكل الذي يضمن تحقيق تلك القيم وإيجاد ذلك المثل، وتقليص آلام الحرمان بأكبر درجة ممكنة.
وعملية التوزيع التي ترتكز على هذه المفاهيم تتسع بطبيعة الحال للفئة الثالثة، بوصفها جزءا من المجتمع الإنساني الذي يجب أن توزع فيه الثروة، بشكل يقلص آلام الحرمان إلى أبعد حد ممكن، تحقيقا للمثل الأعلى للمجتمع السعيد، وللقيم الخلقية التي يقيم الإسلام العلاقات الاجتماعية عليها. ويصبح من الطبيعي عندئذ أن تعتبر حاجة هذه الفئة المحرومة سببا كافيا لحقها في الحياة، وأداة من أدوات التوزيع: (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) (1).
الحاجة في نظر الإسلام والرأسمالية
وأما الاقتصاد الرأسمالي بشكله الصريح فهو على النقيض من الإسلام تماما في موقفه من الحاجة، فإن الحاجة في المجتمع الرأسمالي ليست من الأدوات الإيجابية للتوزيع، وإنما هي أداة ذات صفة مناقضة ودور إيجابي معاكس لدورها في المجتمع الإسلامي. فهي كلما اشتدت عند الأفراد انخفض نصيبهم من التوزيع، حتى يؤدي الانخفاض في نهاية الأمر إلى انسحاب عدد كبير منهم عن مجال العمل والتوزيع. والسبب في ذلك: أن انتشار الحاجة وشدتها يعني: وجود كثرة من القوى العاملة المعروضة في السوق الرأسمالية، تزيد عن الكمية التي يطلبها أرباب الأعمال، ونظرا إلى أن الطاقة الإنسانية سلعة رأسمالية تتحكم في مصيرها قوانين العرض والطلب، كما تتحكم في سائر سلع التسويق.. فمن الطبيعي أن ينخفض أجر العمل تبعا لزيادة العرض على الطلب، وستمر الانخفاض وفقا لهذه الزيادة، وحين ترفض السوق الرأسمالية امتصاص كل الكمية المعروضة من القوى العاملة، ويمنى عدد كبير من

(1) المعارج / 70.
341

ذوي الحاجة بالبطالة نتيجة لذلك، يتحتم على هذا العدد الكبير أن يفعل المستحيل في سبيل أن يبقى حيا، أو يتحمل آلام الحرمان والموت جوعا.
وهكذا فان الحاجة لا تعني شيئا إيجابيا في التوزيع الرأسمالي، وإنما تعني وفرة في المعروض من القوى العاملة، وليس أمام كل سلعة تمنى بزيادة العرض على الطلب إلا أن ينخفض ثمنها ويجمد إنتاجها حتى تستهلك، وتصحح النسبة بين العرض والطلب.
فالحاجة في المجتمع الرأسمالي تعني: انسحاب الفرد من مجال التوزيع، وليست أداة التوزيع.
الملكية الخاصة
حينما قرر الإسلام: أن العمل سبب للملكية وفقا للميل الطبيعي في الانسان إلى تملك نتائج عمله، واتخذ من العمل على هذا الأساس أداة رئيسية للتوزيع.. انتهى من ذلك إلى أمرين:
أحدهما: السماح بظهور الملكية الخاصة على الصعيد الاقتصادي، فان العمل إذا كان أساسا للملكية، فمن الطبيعي أن توجد للعامل ملكية خاصة للسلع التي تدخل في إيجادها وجعلها.......، مثل المزروعات والمنسوجات وما شاكلها.
ونحن حين نقرر: أن تملك الإنسان العامل للأموال التي أنتجها، تعبير عن ميل طبيعي فيه نعني بذلك: أن في الانسان ميلا طبيعيا إلى الإختصاص بنتائج عمله عن الآخرين، الأمر الذي يعبر عنه في المدلول الاجتماعي: بالتملك، وأما نوعية الحقوق التي تترتب على هذا الاختصاص فلا تقرر وفقا لميل طبيعي، وإنما يقررها النظام الاجتماعي وفقا لما يتبناه من أفكار ومصالح. فمثلا‌: هل من حق العامل الذي تملك السلعة بالعمل، أن يبذر بها ما دامت مالا خاصا به؟ أو هل من حقه أن يستبدلها بسلعة أخرى، أو أن يتجر بها وينمي ثروته عن طريق جعلها رأس مال تجاري أو ربوي؟.. إن الجواب على هذه الأسئلة وما شاكلها يقرره النظام الاجتماعي الذي
يحدد للملكية الخاصة حقوقها، ولا يتصل بالفطرة والغريزة.
342

ولأجل هذا تدخل الإسلام في تحديد حقوق الاختصاص هذه، فأنكر بعضها واعترف بالبعض الآخر، وفقا للمثل والقيم التي يتبناها. فقد أنكر مثلا حق المالك في التبذير بماله أو الاسراف به في مجال الانفاق، وأقر حقه في الاستماع به دون تبذير أو إسراف، وأنكر حق المالك في تنمية أمواله التي يملكها عن طريق الربا، وأجاز له تنميتها عن طريق التجارة ضمن حدود وشروط خاصة وتبعا لنظرياته العامة في التوزيع التي سوف ندرسها في الفصول المقبلة إن شاء الله.
والأمر الآخر الذي يستنتج من قاعدة: إن العمل سبب الملكية: هو تحديد مجال الملكية الخاصة وفقا لمقتضيات هذه القاعدة. فان العمل إذا كان هو الأساس الرئيسي للملكية الخاصة، فيجب أن يقتصر نطاق الملكية الخاصة على الأموال التي يمكن للعمل أن يتدخل في إيجادها أو تركيبها، دون الأموال التي ليس للعمل فيها أدنى تأثير.
وعلى هذا الأساس تنقسم الأموال بحسب طبيعة تكوينها وإعدادها: إلى ثروات خاصة وعامة.
فالثروات الخاصة: كل مال يتكون أو يتكيف طبقا للعمل البشري الخاص المنفق عليه، كالمزروعات والمنسوجات، والثروات التي أنفق عمل في سبيل استخراجها من الأرض والبحر أو اقتناصها من الجو فإن العمل البشري يتدخل هنا: إما في تكوين نفس المال كعمل الزراع بالنسبة إلى الناتج الزراعي، وإما في تكييف وجوده وإعداده بالصورة التي تسمح بالاستفادة منه، كالعمل المبذول في استخراج الكهرباء من القوى المنتشرة في الطبيعة، أو اخراج الماء أو البترول من الأرض. فالطاقة الكهربائية والكميات المستخرجة من الماء أو البترول.. ليست مخلوقة للعمل البشري، ولكن العلم هو الذي كيفها وأعدها بالصورة التي تسمح بالاستفادة منها.
وهذه الثروات التي يدخل العمل البشري في حسابها هي المجال المحدود في الإسلام للملكية الخاصة، أي النطاق الذي سمح الإسلام بظهور الملكية الخاصة فيه، لأن العمل أساس الملكية، وما دامت تلك الأموال ممتزجة بالعمل البشري فللعامل أن يتملكها، ويستعمل حقوق التملك من استمتاع واتجار وغيرهما.
343

وأما الثروات العامة فهي: كل مال لم تتدخل اليد البشرية فيه كالأرض، فإنها مال لم تصنعه اليد البشرية، والإنسان وإن كان يتدخل أحيانا في تكييف الأرض بالكيفية التي تجعلها صالحة للزراعة والاستثمار، غير أن هذا التكييف محدود مهما فرض أمده، فان عمر الأرض أطول منه، فهو لا يعدو أن يكون تكييفا لفترة محدودة من عمر الأرض. وتشابه الأرض في ذلك رقبة المعادن والثروات الطبيعية الكامنة فيها، فان مادة هذه المعادن الكامنة في الأرض ليست مدينة للعمل البشري في تكوينها أو تكييفها، وإنما يتدخل العمل في الكميات المستخرجة منها، التي ينفق جهد في سبيل إخراجها وفصلها عن بقية المواد الأرضية.
وهذه الثروات العامة بحسب طبيعتها - أو عنوانها الأولي كما يقول الفقهاء - ليست مملوكة ملكية خاصة لفرد من الأفراد لأن أساس الملكية الخاصة هو العمل، فالأموال التي لا يمتزج بها العمل لا تدخل في المجال المحدد للملكية الخاصة، وإنما هي أموال مباحة إباحة عامة أو مملوكة ملكية عامة.
فالأرض مثلا، بوصفها مالا لا تدخل للعمل البشري فيه - لا تملك ملكية خاصة. والعمل الذي يبذل في إحياء الأرض وإعدادها، لما كان تكييفا مؤقتا بمدة محدودة أقصر من عمر الأرض.. فهو لا يدرج الأرض في مجال الملكية الخاصة، وإنما يجعل للعامل حقا في الأرض يسمح له بالانتفاع بها، ومنع الآخرين من مزاحمته في ذلك، لأنه يمتاز عليهم بما انفق على الأرض من طاقة. فمن الظلم أن يساوى بين الأيدي التي عملت وتعبت، وبين أيد أخرى لم تعمل في الأرض ولم تتعب في سبيلها فلأجل ذلك ميز العامل بحق في الأرض دون أن يسمح له بتملكها، ويستمر هذا الحق ما دامت الأرض متكيفة وفقا لعمله، فإذا أهمل الأرض سقط حقه الخاص.
وهكذا يتضح أن القاعدة العامة هي: أن الملكية الخاصة لا تظهر إلا في الأموال التي امتزجت في تكوينها وتكييفها بالعمل البشري، دون الأموال والثروات الطبيعية التي لم تمتزج بالعمل، لأن سبب الملكية الخاصة هو العمل، فما لم يكن المال مندرجا
344

ضمن نطاق العمل البشري لا يدخل في مجال الملكية الخاصة (1).
وللقاعدة بالرغم من ذلك استثناءاتها، لاعتبارات تتعلق بمصلحة الدعوة الإسلامية كما سنشير اليه فما يأتي.
الملكية أداة ثانوية للتوزيع
ويأتي بعد العمل والحاجة دور الملكية بوصفها ثانوية للتوزيع.
وذلك أن الإسلام حين سمح بظهور الملكية الخاصة على أساس العلم، حالف الرأسمالية والماركسية معا في الحقوق التي منحها للمالك، والمجالات التي فسح له بممارستها. فلم يسمح له باستخدام ماله في تنمية ثروته سماحا مطلقا دون تحديد، كما صنعت الرأسمالية: فأجازت كل ألوان الربح. ولم يغلق عليه فرصة الربح نهائيا، كما تفعل الماركسية: إذ تحرم الربح والاستثمار الفردي للمال بمختلف أشكاله.. وإنما وقف الإسلام موقفا وسطا: فحرم بعض ألوان الربح كالربح الربوي، وسمح ببعض آخر كالربح التجاري (2). ‌‌
وهو في تحريمه لبعض ألوان الربح يعبر عن خلافه الأساسي مع الرأسمالية في الحرية الاقتصادية، التي مر بنا نقدها في بحث (مع الرأسمالية)، بوصفها أساسا للتفكير المذهبي الرأسمالي.
وسوف ندرس في بحوث مقبلة بعض ألوان الربح المحرم في الإسلام، كالربح الربوي، ووجهة نظر الإسلام، في إلغائه.
كما أن الإسلام في سماحه بالربح التجاري يعبر عن خلافه الأساسي مع الماركسية، في مفهومها عن القيمة والقيمة الفائضة، وطريقتها الخاصة في تفسير الأرباح الرأسمالية، كما مر بنا في دراستنا للمادية التاريخية.
وباعتراف الإسلام بالربح التجاري الملكية بنفسها أداة لتنمية المال،

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 116.
(2) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 3، ص 438، وج 4، ص 211.
345

عن طريق الاتجار وفقا للشروط والحدود الشرعية، وبالتالي أداة ثانوية للتوزيع، محدودة بحدود من القيم المعنوية والمصالح الاجتماعية التي يتبناها الإسلام.
هذه هي الصورة الإسلامية للتوزيع، نستخلصها مما سبق ضمن هذه السطور.
العمل أداة رئيسية للتوزيع بوصفه أساسا للملكية، فمن يعمل في حقل الطبيعة يقطف ثمار عمله ويتملكها.
الحاجة أداة رئيسية للتوزيع بوصفها تعبيرا عن حق إنساني ثابت في الحياة الكريمة، وبهذا تكفل الحاجات في المجتمع الإسلامي ويضمن إشباعها.
الملكية أداة ثانوية للتوزيع عن طريق النشاطات التجارية التي سمح بها الإسلام ضمن شروط خاصة لا تتعارض مع المبادئ الإسلامية للعدالة الاجتماعية، التي ضمن الإسلام تحقيقها (1) كما سيأتي في شرح التفاصيل.
التداول
التداول (المبادلة) أحد الأركان الأساسية في الحياة الاقتصادية، وهو لا يقل أهمية عن الإنتاج والتوزيع، وإن كان متأخرا عنهما تاريخيا. فإن الوجود التاريخي للإنتاج والتوزيع يقترن دائما بالوجود الاجتماعي للإنسان، فمتى وجد مجتمع إنساني فمن الضروري - ليواصل حياته ويكسب معيشته - أن يمارس لونا من ألوان الإنتاج، وأن يوزع الثروة المنتجة على أفراده بأي شكل من أشكال التوزيع التي يتفق عليها. فلا حياة اجتماعية للانسان دون إنتاج وتوزيع. وأما المبادلة فليس من الضروري أن توجد في حياة المجتمع منذ البدء. لأن المجتمعات في بداية تكوينها تعيش على الأغلب لونا من الاقتصاد البدائي المقفل، الذي يعني: قيام كل عائلة في المجتمع بإنتاج كل ما تحتاج اليه، دون الاستعانة بمجهودات الآخرين. وهذا اللون من

(1) لاحظ البحار ج 66 ص 314، والروضة في شرح اللمعة ج 2، ص 42 وج 4، ص 212، وجواهر الكلام ج 38، ص 8.
346

الاقتصاد المقفل لا يفسح مجالا للمبادلة، ما دام كل منتوج يستوعب بإنتاجه كل حاجاته البسيطة ويكتفي بما ينتجه من سلع.. وإنما تبدأ المبادلة دورها الفعال على الصعيد الاقتصادي، حين تتنوع حاجات الإنسان وتنمو، وتتعدد السلع التي يحتاجها في حياته ويصبح كل فرد عاجزا بمفرده عن إنتاج كل ما يحتاجه من تلك السلع بأنواعها وأشكالها المختلفة، فيضطر المجتمع إلى تقسيم العمل بين أفراده، ويأخذ كل منتج - أو فئة من المنتجين - بالتخصيص في إنتاج سلعة معينة من السلع المختلفة التي يحسن إنتاجها أكثر من غيرها، ويشبع حاجاته الأخرى بمبادلة الفائض من السلع التي ينتجها، بما يحتاجه من السلع التي ينتجها الآخرون، فتبدأ المبادلة في الحياة الاقتصادية بوصفها وسيلة لإشباع حاجات المنتجين، بدلا عن تكليف كل منتج بإشباع حاجاته كلها بإنتاجه المباشر.
وهكذا تنشأ المبادلة تيسيرا للحياة، وتجاوبا مع اتساع الحاجات واتجاه الإنتاج إلى التخصيص والتطور.
وعلى هذا الأساس نعرف: أن المبادلة في الحقيقة تعمل في الحياة الاقتصادية للمجتمع بوصفها واسطة بين الإنتاج والاستهلاك، أو بتعبير آخر بين المنتجين والمستهلكين. فالمنتج يجد دائما عن طريق المبادلة والمستهلك الذي يحتاج إلى السلعة التي ينتجها، وهذا المستهلك بدوره ينتج سلعة من نوع آخر ويحصل في المبادلة على المستهلك الذي يشتريها.
ولكن ظلم الإنسان - كما يعبر القرآن الكريم - الذي حرم الإنسانية من بركات الحياة وخيراتها، وتدخل في مجال التوزيع على حساب هذا الحق أو ذاك.. سرى أيضا إلى المبادلة حتى طورها وصيرها أداة استغلال وتعقيد، لا أداة إشباع للحاجات وتيسير للحياة، وواسطة بين الإنتاج والادخار لا بين الإنتاج والاستهلاك. فنشأ عن الوضع الظالم للمبادلة من المآسي وألوان الاستغلال، نظير ما نشأ عن الأوضاع الظالمة للتوزيع في مجتمعات الرق والإقطاع، أو في مجتمعات الرأسمالية والشيوعية.
347

ولكي نشرح وجهة نظر الإسلام عن المبادلة لابد لنا أن نعرف رأي الإسلام في السبب الأساسي الذي جعل من المبادلة أداة ظالمة للاستغلال، وما هي النتائج التي تمخض عنها. ثم ندرس الحلول التي تقدم بها الإسلام للمشكلة، وكيف أعطى للمبادلة صيغتها العادلة وقوانينها التي تواكب أغراضها الرشيدة في الحياة؟؟
وقبل كل شيء يجب أن نلاحظ أن للمبادلة شكلين:
أحدهما: المبادلة على أساس المقايضة.
والآخر: المبادل على أساس النقد.
فالمبادلة على أساس المقايضة: مبادلة سلعة بأخرى وهذا الشكل هو أسبق أشكال المبادلة تاريخيا، فقد كان كل منتج - في المجتمعات الآخذة بالتخصيص وتقسيم العمل - يحصل على السلع التي لا ينتجها نظير الفائض من السلعة التي اختص بإنتاجها. فمن ينتج مائة كيلو من الحنطة يحتفظ بنصف المبلغ مثلا لإشباع حاجته، ويستبدل خمسين كيلو من الحنطة بمبلغ معين من القطن الذي ينتجه غيره.
ولكن هذا الشكل من المبادلة (المقايضة)، لم يستطع أن ييسر التداول في الحياة الاقتصادية، بل أخذ يزداد صعوبة وتعقيدا على مر الزمن كلما ازداد التخصص وتنوعت الحاجات، لأن المقايضة تضطر منتج الحنطة أن يجد حاجته من القطن عند شخص يرغب في الحصول على الحنطة، وأما إذا كان صاحب القطن بحاجة إلى فاكهة لا إلى حنطة، وليس لدى صاحب الحنطة فاكهة.. فسوف يتعذر على صاحب الحنطة أن يحصل على حاجته من القطن. وهكذا تتولد الصعوبات من ندرة التوافق بين حاجة المشتري وحاجة البائع.
أضف إلى ذلك صعوبة التوافق بين قيم الأشياء المعدة للمبادلة. فمن كان يملك فرسا لا يستطيع أن يحصل عن طريقها على دجاجة، لأن قيمة الدجاجة أقل من قيمة الفرس، وهو غير مستعد بطبيعة الحال للحصول على دجاجة واحدة نظير فرس
348

كاملة، ولا هي قابلة للقسمة حتى يحصل على دجاجة نظير جزء منها.
وكذلك أيضا كانت عمليات المبادلة تواجه مشكله أخرى هي: صعوبة تقدير قيم الأشياء المعدة للمبادلة، إذ لابد لقياس قيمة الشيء الواحد من مقارنته بباقي الأشياء الأخرى، حتى تعرف قيمته بالنسبة إليها جميعا.
لهذه الأسباب بدأت المجتمعات التي تعتمد على المبادلة تفكر في تعديل المقايضة بشكل يعالج تلك المشاكل، فنشأت فكرة استعمال النقد بوصفه أداة للمبادلة على أساس النقد. فأصبح النقد وكيلا عن السلعة التي كان يضطر المشتري إلى تقديمها للبائع في المقايضة. فبدلا عن تكليف صاحب الحنطة - في مثالنا - بتقديم الفاكهة إلى صاحب القطن نظير القطن الذي يشتريه منه.. يصبح بإمكانه أن يبيع حنطته نظير نقد، ثم يشتري بالنقد القطن الذي يرغب فيه، وصاحب القطن بدوره يشتري الفاكهة التي يطلبها بما حصل عليه من نقود.
ووكالة النقد عن السلعة في عمليات التداول، كفلت حل المشاكل التي نجمت عن المقايضة وتذليل صعوباتها. ‌‌‌
فصعوبة التوافق بين حاجة المشتري وحاجة البائع زالت، إذ لم يعد من الضروري للمشتري أن يقدم البائع السلعة التي يحتاجها، وإنما يكفي أن يقدم له النقد الذي يمكنه من شراء تلك السلعة من منتجيها بعد ذلك.
وصعوبة التوافق بين قيم الأشياء قد ذللت، لأن قيمة كل سلعة أصبحت تقدر بالنسبة للنقود وهي قابلة للقسمة.
كما أصبح من الميسور تقدير الأشياء بسهولة، لأنها تقدر كلها بالنسبة لسلعة واحدة، وهي النقد بوصفه المقياس العام للقيمة.
وكل هذه التسهيلات نتجت من وكالة النقد عن السلعة في مجالات التداول.
وهذا هو الجانب المضئ المشرق من وكالة النقد عن السلعة، الذي يشرح:
349

كيف تؤدي الوكالة وظيفتها الاجتماعية التي خلقت لأجلها، وهي تيسير عمليات التداول؟
ولكن هذه الوكالة لم تقف عند هذا الحد على مر الزمن، بل أخذت تلعب دورا خطيرا في الحياة الاقتصادية، حتى تمخض ذلك عن صعاب ومشاكل لا تقلا عن مشاكل المقايضة وصعابها، غير أن تلك مشاكل طبيعية، وأما المشاكل الجديدة التي نتجت عن وكالة النقد فهي مشاكل إنسانية، تعبر عن ألوان الظلم والاستغلال التي مهدت لها وكالة النقد عن السلعة في مجالات التداول.
ولكي نعرف ذلك، يجب أن نلاحظ التطورات التي حصلت في عمليات المبادلة نتيجة لتبدل شكلها، وقيامها على أساس النقد بدلا عن قيامها على أساس المقايضة المباشرة.
ففي المبادلة القائمة على أساس المقايضة، لم يكن يوجد حد فاصل بين البائع والمشتري، فقد كان كل من المتعاقدين بائعا ومشتريا في نفس الوقت، لأنه يدفع سلعة إلى صاحبه ويتسلم نظيرها سلعة أيضا. ولهذا كانت المقايضة تشبع بصورة مباشرة حاجة المتعاقدين معا، فيخرجان من عملية التداول وقد حصل كل منهما على السلعة التي يحتاجها في استهلاكه أو إنتاجه، كالحنطة أو المحراث. وفي هذا الضوء نعرف: أن الشخص في عصر المقايضة لم يكن يتاح له أن يتقمص شخصية البائع، دون أن يكون مشتريا في نفس الوقت، فلا بيع بدون شراء. والبائع يدفع بإحدى يديه سلعته إلى المشتري بوصفه بائعا، ليستلم منه بيده الأخرى سلعة جديدة بوصفه مشتريا. والبيع والشراء مزدوجان في عملية واحدة.
وأما في المبادلات القائمة على أساس النقد فالأمر يختلف اختلافا كبيرا، لأن النقد يضع حدا فاصلا بين البائع والمشتري، فالبائع هو صاحب السلعة، والمشتري هو الذي يبذل نقدا إزاء تلك السلعة. والبائع هو الذي يبيع حنطة ليحصل على قطن، بينما كان يستطيع أن يبيع حنطة ويحصل على حاجته من القطن في مبادلة واحدة، على أساس المقايضة. يصبح مضطرا الآن: إلى القيام بمبادلتين ليحصل على طلبته، يقوم في
350

إحداهما بدور بائع فيبيع حنطته بنقد معين، ويقوم في الأخرى بدور المشتري فيشتري قطنا بذلك النقد، وهذا يعني فصل البيع عن الشراء، بينما كانا مزدوجين في المقايضة. وفصل البيع عن الشراء في عمليات المبادلة القائمة على أساس النقد، فسح المجال لتأخير الشراء عن البيع. فالبائع لم يعد مضطرا لكي يبيع حنطته أن يشتري من الآخر ما ينتجه من القطن، بل يمكنه أن يبيع حنطته نظير نقد معين ويحتفظ بالنقد لنفسه، ويؤجل شراء القطن إلى وقت آخر.
وهذه الفرصة الجديدة التي وجدها البائعون بخدمتهم - فرصة تأخير الشراء عن البيع - غيرت الطابع العام للبيوع والمبادلات. فبينما كان البيع في عصر المقايضة، يستهدف منه دائما شراء سلعة من السلع التي يحتاجها
البائع، أصبح للبيع في عصر النقد هدف جديد. فالبائع يتخلص من سلعته في المبادلة لا ليظفر بسلعة أخرى، بل ليحصل على مزيد من النقد بوصفه الوكيل العام عن السلع، الذي يجعل بإمكانه شراء أي سلعة شاء في كل حين.. وهكذا تحول البيع للشراء إلى البيع لامتصاص النقود. ونشأت عن ذلك ظاهرة اكتناز المال وتجميده مجسدا في تلك النقود. لأن النقد - ونعني بوجه خاص النقود المعدنية والورقية - يمتاز على سائر السلع فإن مر الزمن، وقد يتطلب الاحتفاظ بها وبجدتها إلى نفقات عديدة، ومن ناحية أخرى: قد لا يتيسر لمالك تلك السلعة المكتنزة الظفر بما يطلبه المكتنز من سلع أخرى في وقت الحاجة، فلا يكون في اكتنازها ضمان الحصول على شتى الطلبات في كل حين.
وعلى العكس من ذلك كله النقد، فإن قابل للبقاء والادخار، ولا يكلف اكتنازه شيئا من النفقات، كما أنه بوصفه الوكيل العام عن السلع يضمن للمكتنز قدرته على شراء أي سلعة شاء، في كل وقت.
وهكذا توفرت دواعي الاكتناز لدى المجتمعات التي بدأت المبادلة فيها تقوم على أساس النقود، وعلى أساس النقود الذهبية والفضية بوجه خاص
351

ونجم عن ذلك: أن تخلت المبادلة عن وظيفتها الصالحة في الحياة الاقتصادية، كواسطة بين الإنتاج والاستهلاك، وأصبحت واسطة بين الإنتاج والادخار. فالبائع ينتج ويبيع ويبادل منتوجه بنقد ليدخر هذا النقد ويضمه إلى ثروته المكتنزة، والمشتري يقدم النقد إلى البائع ليحصل على السلعة التي يبعها، ثم لا يتمكن هو بعد ذلك أن يبيع منتوجه بدوره، لأن البائع اكتنز النقد وسحبه من مجال التداول.
ونتج عن ذلك أيضا اختلال كبير في التوازن بين كمية العرض وكمية الطلب: ذلك أن العرض والطلب كانا يميلان إلى التساوي في عصر المقايضة، لأن كل منتج كان ينتج لإشباع حاجاته واستبدال الفائض عن حاجته بسلع أخرى يحتاجها في حياته، من غير النوع الذي ينتجه. فالمنتوج دائما يوازي حاجته أي أن العرض دائما يجد طلبا مساويا له. وبذلك تتجه أثمان السوق إلى درجتها الطبيعية، التي تعبر عن القيم الحقيقية للسلع وأهميتها الواقعية في حياة المستهلكين وبعد أن بدأ عصر النقد وسيطر النقد على التجارة، واتجه الإنتاج والبيع اتجاها جديدا حتى أصبح الإنتاج والبيع لأجل اكتناز النقد وتنمية الملك لا لأجل إشباع الحاجة. عند ذلك يختل طبعا التوازن بين العرض والطلب، وتلعب دواعي الاحتكار دورها الخطير في تعميق هذا التناقض بين العرض والطلب، حتى أن المحتكر قد يخلق طلبا كاذبا فيشتري كل أفراد السلعة من السوق لا لحاجته إليها بل ليرفع ثمنها، أو يعرض السلعة بأثمان دون كلفتها، بقصد إلجاء المنتجين والبائعين الآخرين إلى الانسحاب من ميدان التنافس وإعلان الإفلاس.. وهكذا تتخذ الأثمان وضعا غير طبيعي، ويصبح السوق تحت سيطرة الاحتكار، ويتهاوى آلاف البائعين والمنتجين الصغار كل حين، بين أيدي المحتكرين الكبار الذين سيطروا على السوق.
ثم ماذا بعد ذلك؟! ليس بعد ذلك لا ان نرى الأقوياء في الحقل الاقتصادي، يغتنم هذه الفرص التي أتاحها لهم النقد، فيتجهون نحو الاكتناز بكل قواهم، نحو البيع لأجل الادخار، فيظلون ينتجون ويبيعون ليسحبوا النقد
352

المتداول في المجتمع إلى كنوزهم، ويمتصون بالتدريج، ويعطلوا وظيفة المبادلة كواسطة بين الإنتاج والاستهلاك، ويضطروا الكثرة الكاثرة إلى مهاوي البؤس والفقر، وبالتالي يتوقف الاستهلاك، نظرا إلى حركة الإنتاج، لأن انعدام القدرة الشرائية عند المستهلكين أو انخفاضها يجرد الإنتاج من أرباحه، ويعم الكساد شعب الحياة الاقتصادية كلها.
ولا تقف مشاكل النقد عند هذه الحد، بل إن النقد قد أدى إلى مشكلة قد تكون أخطر من المشاكل التي عرضناها. فلم يقتصر النقد على أن يكون أداة اكتناز، بل أصبح أداة تنمية للمال عن طريق الفائدة التي يتقاضاها الدائنون من مدينيهم، أو يتقاضاها أصحاب الأموال من المصارف الرأسمالية التي يودعون أموالهم فيها.. وهكذا أصبح الاكتناز في البيئة الرأسمالية سببا لتنمية الثروة بدلا عن الإنتاج، وانسحبت بذلك رؤوس أموال كثيرة على مشروع من مشاريع الإنتاج والتجارة، إلا إذ اطمأن إلى أن الربح الذي يدره المشروع عادة أكثر من الفائدة التي يمكن أن يحصل عليها عن طريق اقراض ماله، أو إيداعه في المصارف.
وأخذت الأموال على أساس الفائدة الربوية تتسرب إلى الصيارفة منذ بداية العصر الرأسمالي، حيث أخذ هؤلاء يجذبون الكميات المكتنزة من النقد عند مختلف الأفراد، عن طريق إغرائهم بالفائدة السنوية التي يتقاضاها زبائن المصرف عن أموالهم التي يودعونها فيه، فتجمعت تلك الكميات المختلفة في كنوز الصيارفة بدلا عن استخدامها في الإنتاج المثمر، وقامت على أساس هذا التجمع المصارف والبيوت المالية الكبيرة التي امتلكت زمام الثروة في البلاد، وقضت على أي مظهر من مظاهر التوازن في الحياة الاقتصادية.
353

هذا عرض سريع لمشاكل التداول أو المبادلة، وهو يوضح بجلاء أن هذه المشاكل قد نبعت كلها من النقد وسوء استخدامه في مجال التداول إذ اتخذ أداة اكتناز وبالتالي أداة تنمية للملك.
وقد يلقي هذا ضوءا على ما جاء في الحديث عن رسول الله (ص) أنه قال: (الدنانير والدراهم البيض مهلكاكم كما أهلكا من كان قبلكم) (1).
وعلى أي حال فقد عالج الإسلام هذه المشاكل النابعة من النقد، واستطاع أن يعيد إلى التداول وضعه الطبيعي ودوره الوسيط بين الإنتاج والاستهلاك.
وتتلخص النقاط الرئيسية في الموقف الإسلامي من مشاكل التداول فيما يلي:
أولا: منع الإسلام من اكتناز النقد، وذلك عن طريق فرض ضريبة الزكاة على النقد المجمد بصورة تتكرر في كل عام، حتى تستوعب النقد المكتنز كله تقريبا إذا طال اكتنازه عدة سنين (2). ولهذا يعتبر القرآن اكتناز الذهب والفضة جريمة يعاقب عليها بالنار. لأن الاكتناز يعني بطبيعة الحال التخلف عن أداء الضريبة الواجبة شرعا، لأن هذه الضريبة لدى أدائها لا تفسح مجالا أمام النقد للتجمع والاكتناز، فلا غرو إذا هدد القرآن الذين يكنزون الذهب والفضة وتوعدهم بالنار قائلا: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} (3).
وعن هذا الطريق ضمن الإسلام بقاء المال في مجالات الإنتاج والتبادل والاستهلاك، وحال دون تسلله إلى صناديق الاكتناز والادخار.
وثانيا: حرم الإسلام الربا تحريما قاطعا لا هوادة فيه (4)، وبذلك قضي على الفائدة ونتائجها الخطيرة في مجال التوزيع، وما تؤدي اليه من إخلال بالتوازن الاقتصادي

(1) الأصول من الكافي ج 2، ص 316، باب: حب الدنيا، الحديث 6، مع اختلاف في العبارة.
(2) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 2، ص 30.
(3) التوبة / 34 و 35.
(4) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 3، ص 438.
354

العام، وانتزع من النقد دوره بوصفه أداة تنمية للملك مستقلة بذاتها، ورده إلى دوره الطبيعي الذي يباشره بوصفه وكيلا عاما عن السلع، وأداة لقياس قيمتها وتسهيلا تداولها.
وقد يظن كثير ممن عاش التجربة الرأسمالية وألف ألوانها وأشكالها: أن القضاء على الفائدة يعني القضاء على البنوك والمصارف، وتعطيل أجهزة الحياة الاقتصادية وشل كل أعصابها وأوردتها التي تمونها تلك البنوك والمصارف. ولكن هذا الظن إنما ينشأ عند هؤلاء نتيجة للجهل بواقع الدور الذي تؤديه البنوك والمصارف في الحياة الاقتصادية، وبواقع الصورة الإسلامية للتنظيم الاقتصادي الكفيل بعلاج سائر المشاكل التي تنجم عن القضاء على الفائدة، وهذا ما سندرسه بتفصيل في بحث مقبل (1).
وثالثا: أعطى لولي الأمر صلاحيات تجعل له الحق في الرقابة الكاملة على سير التداول والإشراف على الأسواق، للحيلولة دون أي تصرف يؤدي إلى الضرر وزعزعة الحياة الاقتصادية، أو يمهد للتحكم الفردي غير المشروع في السوق وفي مجال التداول (2).
وسوف نشرح هذه النقاط وندرسها بصورة موسعة في البحوث المقبلة من الكتاب، التي نعرض فيها لتفاصيل الاقتصاد الإسلامي.

(1) القانون العام لمكافأة المصادر المادية للإنتاج ص 571 من الكتاب.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 15، ص 422، وإيصال الطالب ج 10، ص 397.
355

عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي
357

المذهب الاقتصادي والإسلامي:
من الأفضل قبل كل شيء - ما دمنا نحاول دراسة مذهب اقتصادي معين - أن نتفق منذ البدء على المفهوم الذي نعنيه من كلمة (المذهب) بالضبط، لنتبين في بداية الطريق معالم الهدف ونوعية المضمون، الذي يجب على أي بحث في المذهب الاقتصادي ان يجليه ويحدده. فماذا تعنيه كلمة المذهب؟. وما هو الفارق بين المذهب الاقتصادي وعلم الإقتصاد؟. وما هي المجالات التي تعالج مذهبيا؟.
وعلى أساس الجواب على هذا الأسئلة، الذي يحدد معالم المذهب الاقتصادي بشكل عام سوف نحدد طبيعة البحث الذي نمارسه في المذهب الاقتصادي الإسلامي.
وبهذا الصدد يجب أن نتذكر ما قلناه عن مفهومي المذهب والعلم في بحث سابق (1)، فقد جاء فيه: أن المذهب الاقتصادي للمجتمع عبارة عن الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشاكلها العملية، وعلم الاقتصاد هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيا.
359

وهذا القدر من التمييز بين المذهب والعلم وإن كان يشير إلى الفارق الجوهري بينهما، ولكنه لم يعد يكفي في الوقت الذي نحاول أن نكتشف مذهبا اقتصاديا معينا بالذات، أو ان نكون عنه فكرة محددة. فقد استخدمنا ذلك التمييز الأساسي بين المذهب والعلم، لنتيح للقارئ أن يعرف نوعية الاقتصاد الإسلامي الذي ندرسه، ويدرك في ضوء ذلك التمييز أن الإقتصاد الإسلامي مذهب وليس علما، لأنه الطريقة التي يفضل الإسلام اتباعها في الحياة الاقتصادية، وليس تفسيرا يشرح فيه الإسلام أحداث الحياة الاقتصادية وقوانينها.
ولتحقيق هذا الغرض والتأكيد على الطابع المذهبي للاقتصاد الإسلامي، كان يكفي أن نقول عن المذهب: أنه طريقة، وعن العلم: أنه تفسير، لنعرف أن الاقتصاد الإسلامي مذهب لا علم.
حسنا، ولكنا الآن يجب أن نعرف عن المذهب الاقتصادي أكثر من هذا، لنستطيع أن نضبط في ضوء مفهومنا عنه المجالات التي يعمل فيها، ثم نفحص كل ما يتصل من الإسلام بتلك المجالات.
ففي أي حقل يعمل المذهب الاقتصادي؟، وإلى أي مدى يمتد؟، وما هي الصفة العامة التي نجدها في كل فكر اقتصادي مذهبي، لنجعل من تلك الصفة علامة فارقة للأفكار المذهبية في الإسلام، التي نحاول جمعها وتنسيقها في إطراد واحد؟
إن هذه الأسئلة تتطلب أن نعطي للمذهب المتميز عن العلم مفهوما محددا، قادرا على الجواب عن كل هذه
الأسئلة، ولا يكفي بهذا الصدد القول: بأن المذهب مجرد طريقة.
إن هناك من يعتبر مجال المذهب مقتصرا على توزيع الثروة فحسب، فلا علاقة للمذهب بالإنتاج، لأن عملية إنتاج الحنطة أو النسيج مثلا تتحكم فيها القوانين العلمية، ومستوى المعرفة البشرية بعناصر الإنتاج وخصائصها وقواها، ولا تختلف عملية إنتاج الحنطة أو النسيج باختلاف طبيعة المذهب الاقتصادي. فعلم الاقتصاد
360

هو: علم قوانين الإنتاج. والمذهب الاقتصادي هو: فن توزيع الثروة. وكل بحث يتعلق بالإنتاج وتحسينه وإيجاد وسائله وتحسينها فهو من علم الاقتصاد، وذو صفة عالمية لا تتفاوت فيه الأمم تبعا لاختلاف مبادئها ومفاهيمها الاجتماعية، ولا يختص به مبدأ دون مبدأ. وكل بحث يبين الثروة وتملكها والتصرف فيا فهو بحث مذهبي، ومن النظام الاقتصادي وليس من علم الاقتصاد ولا يرتبط به، وإنما يرتبط بإحدى وجهات النظر في الحياة التي تتبعناها المذاهب المختلفة من رأسمالية واشتراكية وإسلام.
وهذا الفصل بين العلم والمذهب - علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي - على أساس اختلاف المجال الذي يمارسه أحدهما عن مجال الآخر. ينطوي على خطأ كبير، لأنه يؤدي إلى اعتبار الصفة المذهبية والصفة العلمية نتيجتين لنوعية المجال المدروس. فإذا كان البحث في الإنتاج فهو بحث علمي، وإذا كان في التوزيع فهو بحث مذهبي. مع أن العلم والمذهب مختلفان في طريقة البحث وأهدافه، لا في موضوعه ومجالاته. فالبحث المذهبي يظل مذهبيا ومحافظا على طابعه ما دام يلتزم طريقته وأهدافه الخاصة، ولو تناول الإنتاج نفسه. كما أن البحث العلمي لا يفقد طبيعته العملية إذا تكلم عن التوزيع ودرسه بالطريقة والأهداف التي تتناسب مع العلم.
ولأجل ذلك نجد أن فكرة التخطيط المركزي للإنتاج - التي تتيح للدولة الحق في وضع سياسة الإنتاج والإشراف عليه - هي إحدى النظريات. المذهبية المهمة، التي تعتبر من مقومات بعض المذاهب أو الأنظمة الاشتراكية، أو ذات الاتجاه الاشتراكي، مع أننا نعلم أن التخطيط المركزي للإنتاج والسماح لهيئة عليا كالدولة بممارسة هذا التخطيط. لا يعني تملك تلك الهيئة لوسائل الإنتاج، ولا يتصل بمسألة توزيع هذه الوسائل على الأفراد.
ففكرة التخطيط المركزي للإنتاج إذن فكرة مذهبية، تتصف بالمذهب الاقتصادي، وليست بحثا علميا بالرغم من أنها تعالج الإنتاج لا التوزيع.
وعلى العكس قد نجد كثيرا من الأفكار التي تعالج قضايا التوزيع تندرس في علم الاقتصاد، بالرغم من صلتها بالتوزيع دون الإنتاج ف - (ريكاردو) حين كان يقرر مثلا
361

: أن نصيب العمال من الثروة المنتجة، الذي يتمثل فيها يتقاضونه من أجور، لا يزيد بحال من الأحوال عن القدر الذي يتمثل فيما يتقاضونه من أجور، لا يزيد بحال من الأحوال عن القدر الذي يتيح لهم معيشة الكفاف.. لم يكن يقصد بذلك أن يقرر شيئا مذهبيا ولا أن يطلب من الحكومات فرضه نظاما اقتصاديا للأجور، كنظام الملكية الخاصة والحرية الاقتصادية، وإنما كان يحاول أن يشرح الواقع الذي يعيشه العمال والنتيجة الحتمية لهذا الواقع، بالرغم من عدم تبني الدولة لفرض حد أعلى من الأجور، وإيمانها بالحرية الاقتصادية بوصفها دولة رأسمالية.
فالمذهب والعلم يدخلان في كل تلك المجالات ويدرسان الإنتاج والتوزيع معا، ولكن هذا يجب أن لا يؤدي بنا إلى عدم التمييز بينهما أو الخلط بين الطابع العلمي والمذهبي في البحث الاقتصادي، الأمر الذي مني به بعض أولئك الذين يؤكدون على عدم وجود اقتصاد في الإسلام، إذ لم يتح لهم أن يميزوا بشكل حاسم بين العلم والمذهب، فظنوا أن القول بوجود اقتصاد إسلامي يستهدف ادعاء أن الإسلام سبق المفكرين الغربيين في الإبداع العلمي للاقتصاد السياسي، وظنوا أيضا أن القول بوجود اقتصاد إسلامي يعني أننا سوف نجد لدى الإسلام فكرا اقتصاديا، وبحثا علميا في قوانين الحياة الاقتصادية من إنتاج وتوزيع وغيرهما، نظير ما نجد في بحوث (آدم سميت) و (ريكاردو) ومن إليهما من أقطاب الاقتصاد السياسي، ولما كنا لا نجد في الإسلام بحوثا من هذا القبيل، فليس الاقتصاد الإسلامي إلا أسطورة وخيالا مجنحا.
ويمكن لهؤلاء أن يتنازلوا عن تأكيدهم على عدم وجود اقتصاد إسلامي إذا عرفوا بوضوح، الفرق بين المذهب الاقتصادي وعلم الإقتصاد أو ما يسمى بالاقتصاد السياسي، وعرفوا: أن الاقتصاد الإسلامي مذهب وليس علما.
فالمذهب الاقتصادي يشمل كل قاعدة أساسية في الحياة الاقتصادية، تتصل بفكرة: (العدالة الاجتماعية).
والعلم يشمل كل نظرية تفسر واقعا من الحياة الاقتصادية، بصورة منفصلة عن فكرة مسبقة أو مثل أعلى للعدالة.
362

ففكرة العدالة هي الحد الفاصل بين المذهب والعلم، والعلامة الفارقة التي تمييز بها الأفكار المذهبية عن النظريات العلمية، لأن فكرة العدالة نفسها ليست علمية، ولا أمرا حسيا قابلا للقياس والملاحظة، أو خاضعا للتجربة بالوسائل العلمية، وإنما العدالة تقدير وتقويم خلقي. فأنت حين تريد أن تعرف مدى العدالة في نظام الملكية الخاصة، أو تصدر حكما على نظام الفائدة الذي تقوم على أساسه المصارف بأنه نظام عادل أو ظالم.. لا تلجأ إلى نفس الأساليب والمقاييس العلمية التي تستخدمها حينما تريد قياس حرارة الجو، أو درجة الغليان في مائع معين، لأن الحرارة والتبخر ظاهرتان قيم خلقية ومثل عليا، خارجة عن حدود القياس المادي.
فالعدالة إذن ليست فكرة علمية بذاتها، وهي لذلك حين تندمج بفكرة تدمغها بالطابع المذهبي وتميزها عن التفكير العلمي. فمبدأ الملكية الخاصة، أو الحرية الاقتصادية، أو إلغاء الفائدة أو تأميم وسائل الإنتاج.. كل ذلك يندرج في المذهب، لأنه يرتبط بفكرة العدالة، وأما قانون تناقص الغلة، وقانون العرض والطلب، أو القانون الحديدي للأجور.. فهي قوانين علمية، لأنها ليست بصدد تقويم تلك الظواهر الاقتصادية. فقانون تناقض الغلة لا يحكم بأن هذا التناقص عادل أو ظالم، وإنما يكشف عنه بوصفه حقيقة موضوعية ثابتة، كما أن قانون العرض والطلب لا يبرر ارتفاع الثمن بسبب قلة العرض أو زيادة الطلب على أساس مفهوم معين عن العدالة، وإنما يبرز الترابط موضوعيا بين الثمن وكمية العرض والطلب، باعتباره ظاهرة من الظواهر الحتمية للسوق الرأسمالية، وكذلك الأمر في قانون الأجور الحديدي، فهو يشرح الواقع المحتوم للعمال الذي يجعلهم دائما لا يحصلون في المجتمع الرأسمالي إلا على معيشة الكفاف، بقطع النظر ما كانت ظالة نصيب العمال في التوزيع تتفق مع العدالة أو لا. فكل القوانين العملية لا ترتكز على فكرة العدالة، وإنما ترتكز على استقراء الواقع وملاحظة مختلف ظواهره المتنوعة. وعلى العكس من ذلك القواعد المذهبية التي تجسد دائما فكرة معينة للعدالة.
363

وهذا الفصل الحاسم بين البحث المذهبي والبحث العلمي لا يمنع عن اتخاذ المذهب إطارا للبحث العلمي في بعض الأحيان، كما في قوانين العرض والطلب، أو قانون الأجور الحديدي للعمال، فإن أمثال هذه القوانين إنما تصدق علميا وتنطبق على الواقع الذي تفسره.. في مجتمع رأسمالي يطبق الرأسمالية المذهبية، فهي قوانين علمية ضمن إطار مذهبي معين، وليست علمية ولا صحيحة ضمن إطار آخر، كما أوضحنا ذلك بكل تفصيل في بحث سابق من هذا الكتاب (1).
وبمجرد أن نضع هذا الفصل الحاسم بين المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد، نعرف أن القول بوجود مذهب اقتصادي في الإسلام لا يعني أن الإسلام يبحث في قوانين العرض والطلب، ويحدد مدى تأثير زيادتهما أو انكماشهما على الثمن في السوق الحرة، وإنما يبحث بدلا عن ذلك في توفير الحرية للسوق، فيدعو إلى توفيرها له وصيانتها، أو إلى الإشراف على السوق والتحديد من حريته، تبعا للصورة التي يتبناها للعدالة.
وكذلك لا يبحث الإسلام في العلاقة وردود الفعل بين الفائدة والربح، أو بين حركة رأس المال الربوي والتجارة، ولا في العوامل التي تؤدي إلى زيادة الفائدة أو انخفاضها، وإنما يقوم نفس الفائدة والربح، ويصدر حكمه على الاستثمار الربوي والتجاري، بما يتفق مع مفاهيمه عن العدالة.
ولا يبحث الإسلام أيضا في ظاهرة تناقض إنتاج الغلة وأسبابها، وإنما يبحث عما إذا كان من الجائز ومن العدل أن يوضح الإنتاج تحت إشراف هيئة مركزية عليا.
نعرف من ذلك كله: أن وظيفة المذهب الاقتصادي هي وضع حلول لمشاكل الحياة الاقتصادية، ترتبط بفكرته ومثله في العدالة. وإذا أضفنا إلى هذا الحقيقة: أن تعبيري (الحلال، والحرام) في الإسلام تجسيدان للقيم والمثل التي يؤمن بها الإسلام، فمن الطبيعي أن ننتهي من ذلك إلى اليقين بوجود اقتصاد مذهبي إسلامي، لأن قصة

(1) القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي ذات إطار مذهبي ص 251 - 256 من الكتاب.
364

الحلال والحرام في الإسلام تمتد إلى جميع النشاطات الإنسانية، وألوان السلوك: سلوك الحاكم والمحكوم، وسلوك البائع والمشتري، وسلوك المستأجر والأجير، وسلوك العامل والمتعطل فكل وحدة من وحدات هذا السلوك هي إما حرام وإما حلال، وبالتالي هي إما عدل وإما ظلم، لأن الإسلام إن كان يشتمل على نص يمنع عن سلوك معين سلبي أو إيجابي فهذا السلوك حرام، وإلا فهو حلال.
وإذا كانت كل ألوان النشاط في الحياة الاقتصادية خاضعة لقضية الحلال والحرام، بما تعبر عنه هذا القضية من قيم ومثل، فمن حق البحث في الإسلام أن يدعونا إلى التفكير في استخلاص وتحديد المذهب الاقتصادي، الذي تعبر عنه قضية الحلال والحرام بقيمتها ومثلها ومفاهيمها.
الهوامش:
- - - - - - - -
(1) الكتاب الأول من اقتصادنا - كلمة المؤلف ص 4 - 5.
(2) (القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي ذات اطار مذهبي) ص 237 - 244.
العلاقات بين المذهب والقانون:
كما عرفنا أن المذهب الاقتصادي يختلف عن علم الاقتصاد، كذلك يجب أن نعرف الفرق بين المذهب الاقتصادي والقانون المدني أيضا، فإن المذهب هو: مجموعة من النظريات الأساسية التي تعالج مشاكل الحياة الاقتصادية، والقانون المدني هو: التشريع الذي ينظم تفصيلات العلاقات المالية بين الأفراد وحقوقهم الشخصية والعينية. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يعتبر المذهب الاقتصادي لمجتمع نفس قانونه المدني. فالرأسمالية مثلا بوصفها المذهب الاقتصادي لدول كثيرة في العالم ليست هي نفس القوانين المدنية في تلك الدول، ولذا قد تختلف دولتان رأسماليتان في تشريعاتهما القانونية، تبعا لاتجاهات رومانية وجرمانية - مثلا - مختلف في التشريع بالرغم من وحدة المذهب الاقتصادي فيهما، لأن تلك التشريعات القانونية ليست من المذهب الرأسمالي. فليس من
الرأسمالية - باعتبارها مذهبا اقتصاديا - الأحكام التي ينظم بها القانون المدني في الدولة الرأسمالية عقود المقايضة من بيع وإيجار وقرض مثلا. فلو قدمت هذه الأحكام باعتبارها المضمون الرأسمالي للمذهب، كان ذلك ينطوي على التباس وخلط
365

بين النظريات الأساسية والتفصيلات التشريعية، بين المذهب والقانون، أي بين النظريات الأساسية للرأسمالية في حرية التملك، وحرية التصرف، وحرية الاستثمار، وبين التشريعات القانونية التي ترتكز على أساسها تلك المبادئ الرأسمالية في الحرية.
ولأجل هذا يكون من الخطأ أن يقدم الباحث الإسلامي مجموع من أحكام الإسلام - التي هي في مستوى القانون المدني حسب مفهومه اليوم - ويعرضها طبقا للنصوص التشريعية والفقهية بوصفها مذهبا اقتصاديا إسلاميا، كما يصنع بعض الكتاب المسلمين، حين يحاولون دراسة المذهب الاقتصادي في الإسلام، فيتحدثون عن مجموعة من تشريعات الإسلام التي نظم بها الحقوق المالية والمعاملات، كالأحكام الشرعية بشأن البيع والإيجار والشركة والغش والقمار وما إليها من تشريعات، فإن هؤلاء كمن يريد أن يدرس ويحدد المذهب الاقتصادي للمجتمع في (انكلترة) مثلا، فيقتصر في دراسته على القانون المدني لتلك البلاد وما يضمه من تشريعات، بدلا عن استعراض الرأسمالية ومبادئها الأساسية في حرية التملك والتصرف والاستثمار، وما تعبر عنه هذا المبادئ من مفاهيم وقيم.
ونحن حين نؤكد على ضرورة التمييز بين الكيان النظري للمذهب الاقتصادي، وبين القانون المدني، لا نحاول بذلك قطع الصلة بينهما، بل نؤكد في نفس الوقت على العلاقة المتينة التي تربط المذهب بالقانون، بوصفها جزئين من بناء نظري كامل للمجتمع. فليس المهم فقط أن نرتفع إلى مستوى التمييز بين المذهب الاقتصادي والقانون المدني، بل باعتبارهما مندمجين في مركب عضوي نظري واحد.
فالمذهب الاقتصادي بنظرياته وقواعده يشكل قاعدة لبناء فوقي من القانون، ويعتبر عاملا مهما في تحديد اتجاهه العام (1). وكون المذهب قاعدة نظرية للقانون لا ينفي اعتبار المذهب بدوره بناء علويا لقاعدة يتركز عليها، فان البناء النظري الكامل للمجتمع يقوم على أساس نظرة عامة، ويضم طوابق متعددة يرتكز بعضها على

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 59 و 76.
366

بعض، ويعتبر كل طابق متقدم أساسا وقاعدة للطابق العلوي المشاد عليه. فالمذهب والقانون طبقان من البناء النظري، والقانون هو الطباق العلوي منهما الذي يتكيف وفقا للمذهب، ويتحدد في ضوء النظريات والمفاهيم الأساسية التي يعبر عنها ذلك المذهب.
ولنأخذ لأجل التوضيح مثالا على ذلك من المذهب الرأسمالي الحر في الاقتصاد، وعلاقاته بالقوانين المدنية على صعيدها النظري والواقعي، لتتجسد لنا الصلة بين المذهب والقانون، ومدى تأثر القانون نظريا وواقعيا بالنظريات المذهبية.
ففي مجال الحقوق الشخصية من القانون المدين، نستطيع أن نفهم أثر المذهب فيه، إذا عرفنا أن نظرية الالتزام - وهي حجر الزاوية في القانون المدني - قد استمدت محتواها النظري من طبيعة المذهب الرأسمالي، في الفترة التي طغت فيها الأفكار الرأسمالية على الحرية الاقتصادية، وسيطرت مبادئ الاقتصاد الحر على التفكير العام، فكان من نتيجة ذلك ظهور مبدأ سلطان الإرادة في نظرية الالتزام، الذي يحمل الطابع المذهبي للرأسمالية إذ يؤكد - تبعا لإيمان الرأسمالية بالحرية واتجاهها الفردي - على أن الإرادة الخاصة للفرد هي وحدها مصدر جميع الالتزامات والحقوق الشخصية، ويرفض القول بوجود أي حق لفرد على آخر، أو لجماعة على فرد، ما لم تكمن وراءه إرادة حرة يتقبل الفرد بموجبات ثبوت الحق عليه بملء حريته.
ومن الواضح أن رفض أي حق على الشخص ما لم ينشئ ذلك الشخص الحق على نفسه بملء إرادته، ليس إلا نقلا أمينا للمضمون الفكري للمذهب الرأسمالي - وهو الحرية الاقتصادية - من الحقل المذهبي الاقتصادي إلى الحقل القانوني، ولذا نجد أن نظرية الالتزام حين تقام على أساس مذهبي آخر في الاقتصاد، تختلف عن ذلك، وقد يتضاءل دور الإرادة فيها حينئذ إلى حد بعيد.
ومن مظاهر نقل المضمون النظري للمذهب الرأسمالي إلى التفصيلات التشريعية على الصعيد القانوني: سماح القانون المدني القائم على أساس رأسمالي في تنظيماته، لعقود البيع والقرض والإيجار، ببيع كمية عاجلة من الحنطة بكمي أكبر
367

منها تدفع بعد ذلك، وبإقراض المال بفائدة معينة بنسبة مئوية، وباستئجار الرأسمالي عمالا يستخدمهم في استخراج البترول من الأرض بالوسائل التي يملكها لكي يتملك ذلك البترول.. إن القانون حين يجيز كل ذلك، إنما يستمد في الحقيقة مبررات هذا الجواز من النظريات الرأسمالية للمذهب، الذي يرتكز القانون عليه.
والأمر نفسه نجده أيضا في مجال الحقوق العينية من القانون المدني: فحق الملكية وهو الحق العيني الرئيسي، ينظمه القانون وفقا للموقف العام الذي يتخذه المذهب الاقتصادي من توزيع الثروة، فالرأسمالية المذهبية فرضت على الطابق الفوقي في البناء الرأسمالي، أن يسمح للأفراد بملكية المعادن تطبيقا لحرية التملك، وأن يقدم مصلحة الفرد في الانتفاع بنا يملك على أي اعتبار آخر، فلا يمنع الفرد عن ممارسة أمواله بالطريقة التي تحلو له مهما كان أثر ذلك على الآخرين ين ما دامت الملكية والحرية حقا طبيعيا للفرد، وليست وظيفة اجتماعية
يمارسها الفرد ضمن الجماعة.
وحين أخذ دور الحرية الاقتصادية يتضاءل، ومفهوم الملكية الخاصة يتطور، بدأت القوانين المدنية تمنع عن تملك الفرد لبعض الثروات أو المرافق الطبيعية، ولا تسمح له بالإساءة في استعمال حقه في التصرف والانتفاع بماله.
فهذا كله يجلي علاقة التبعية بين القانون المدني والمذهب، إلى درجة يجعل من الممكن التعرف على المذهب وملامحه الأصيلة عن طريق القانون المدني. فالشخص الذي لم يتح له الاطلاع المباشر على المذهب الاقتصادي لبلد ما، يمكنه أن يرجع إلى قانونه المدني، لا بوصفه المذهب الاقتصادي، فان المذهب غير القانون، بل باعتباره البناء العلوي للمذهب والطابق الفوقي الذي يعكس محتوى المذهب وخصائصه العامة، ويمكنه عندئذ في ضوء دراسة القانون المدين للبلد، أن يعرف بسهولة كون البلد رأسماليا أو اشتراكيا، بل وحتى الدرجة التي يؤمن البلد بها من الرأسمالية والاشتراكية.
368

تلخيص:
تحدثنا حتى الآن عن الفرق بين الاقتصاد بشكل عام وعلم الاقتصاد، والفرق بين المذهب الاقتصادي والقانون المدين، وعرفنا على هذا الأساس أن من الخطأ أن نتحدث عن المذهب الاقتصادي الإسلامي بوصفه علما، أو باعتباره مجموعة من التشريعات في مستوى القانون المدني الذي ينظم أحكام المعاملات وما إليها.
وليس هذا فقط، فقد عرفنا إلى ذلك أيضا طبيعة العلاقة بين المذهب والقانون، وسوف يكون لهذه العلاقة أثرها الكبير في العملية التي نمارسها في هذا الكتاب، كما سنرى إن شاء الله تعالى.
وآلان وقد اتفقنا على وجود المذهب الاقتصادي في الإسلام بتمييزه عن علم الاقتصاد، وفقنا بين المذهب والقانون مع إدراك نوع العلاقة بينهما، فلنتحدث عن العملية التي نمارسها في هذا الكتاب بشأن الاقتصاد الإسلامي، ونحدد نوعيتها ومعالمها الرئيسية، ونشرح منهجنا في ممارستها على ضوء المعلومات السابقة عن المذهب بشكل عام وتميزه عن العلم والقانون، وعلى ضوء نوع العلاقة التي تربط القانون المدني بالمذهب.
عملية اكتشاف وعملية تكوين:
إن العملية التي نمارسها في دراستنا للمذهب الاقتصادي الإسلامي تختلف عن طبيعة العمل الذي مارسه الرواد المذهبيون الآخرون، فان الباحث الإسلامي يحس منذ البدء بالفارق الأساسي بين موقفه من المهمة التي يحاول إنجازها، وموقف أي باحث مذهبي آخر ممن مارسوا عملية البحث المذهبي في الاقتصاد، وبشروا بمذاهب اقتصادية معينة كالرأسمالية والاشتراكية.
وهذا الفارق الجوهري هو الذي يحدد لكل من البحثين، الإسلامي وغيره،
369

معالم الطريق، ونوع العملية التي يجب أن يمارسها البحث، وطابعها المميز كما سنرى (بعد لحظات).
فالمفكر الإسلامي أمام اقتصاد منجز تم وضعه، وهو مدعو إلى تمييزه بوجه الحقيقي، وتحديده بهيكله العام، والكشف عن قواعده الفكرية، وإبرازه بملامحه الأصيلة، ونفض غبار التاريخ عنها، والتغلب بقدر الإمكان على كثافة الزمن المتراكم والمسافات التاريخية الطويلة، وإيحاءات التجارب غير الأمينة التي مارست - ولو اسميا - عملية تطبيق الإسلام، والتحرر من أطر الثقافات غير الإسلامية التي تتحكم في فهم الأشياء، وفقا لطبيعتها واتجاهها في التفكير.
إن محاولة التغلب على كل هذه الصعاب، واجتيازها للوصول إلى اقتصاد إسلامي مذهبي، هي وظيفة المفكر الإسلامي.
وعلى هذا الأساس يمكن القول: بأن العملية التي نمارسها هي عملية اكتشاف. وعلى العكس من ذلك المفكرون المذهبيون الذين بشروا بمذاهبهم الرأسمالية والاشتراكية، فإنهم يمارسون عملية تكوين المذهب وإبداعه.
ولكل من عملية الاكتشاف وعملية التكوين خصائصها ومميزاتها، التي تنعكس في البحث المذهبي الذي يمارسه المكتشفون الإسلاميون والمبدعون الرأسماليون والاشتراكيون.
وأهم تلك الخصائص والمميزات تحديد سير العملية ومنطلقها.
ففي عملية تكون المذهب الاقتصادي، وعندما يراد تشييد بناء نظري كامل للمجتمع تأخذ الفكرة اطرادها وسيرها الطبيعي، فتمارس بصورة مباشرة وضع النظريات العامة للمذهب الاقتصادي، وتجعل منها أساسا لبحوث ثانوية وأبنية علوية من القوانين التي ترتكز على المذهب، وتعتبر طابقا فوقيا بالنسبة اليه، كالقانون المدني الذي عرفنا سابقا تبعيته للمذهب وقيامه على أساسه. فالتدرج في عملية تكوين البناء تدرج طبيعي من الأساس إلى التفريعات، ومن القاعدة إلى البناء العلوي، وبكلمة أخرى: من الطابق المتقدم في البناء النظري العام للمجتمع إلى طابق أعلى منه.
370

وأما في عملية الاكتشاف للمذهب الاقتصادي، فقد ينعكس السير ويختلف المنطلق، وذلك حينما نكون بصدد اكتشاف مذهب اقتصادي لا نملك له أو لبعض جوانبه صورة واضحة، ولا صيغة محددة من قبل واضعيه، كما إذا كنا لا نعرف أن المذهب يؤمن بمبدأ الملكية العامة أو مبدأ الملكية الخاصة، أو لا نعرف الأساس النظري للملكية الخاصة في المذهب هل هو الحاجة أو العمل أو الحرية؟.
ففي هذه الحالة، ما دمنا لا نملك نصا محددا لواضعي المذهب الذي يراد اكتشافه يبدد الغموض الذي يكتنف المذهب.. فلا بد من الفحص عن طريقة أخرى لاستخدامها في اكتشاف المذهب، أو النواحي المظلمة منه.
وهذه الطريقة يمكننا تحديدها في ضوء علاقة التبعية التي شرحناها سابقا بين المذهب والقانون، فما دام القانون المدني طابقا فوقيا بالنسبة إلى المذهب، يرتكز عليه ويستمد منه اتجاهاته. فمن الممكن اكتشاف المذهب عن طريق القانون، إذا كنا على علم بالقانون الذي يرتكز على ذلك المذهب المجهول. وهكذا يصبح من الواجب على عملية الاكتشاف أن تفتش عن إشعاعات المذهب في المجال الخارجي، أي عن أبنيته العلوية وآثار إلى ينعكس ضمنها في مختلف الحقول، لتصل عن طريق هذه الإشعاعات والآثار إلى تقدير محدد لنوعية الأفكار والنظريات في المذهب الاقتصادي، الذي يختفي وراء تلك المظاهر.
وبهذا يتعين على عملية الاكتشاف أن تسلك طريقا معاكسا للطريق الذي سلكته عملية التكوين، فتبدأ من البناء العلوي إلى القاعدة، وتنطلق من جمع الآثار وتنسيقها إلى الظفر بصورة محددة للمذهب، بدلا عن الانطلاق من وضع المذهب إلى تفريع الآثار.
وهذا تماما هو موقفنا في عملية الاكتشاف التي نمارسها من الاقتصاد الإسلامي، أو من جزء كبير منه بتعبير أصح، لأن بعض جوانب المذهب الاقتصادي في الإسلام وإن كان بالامكان استنباطها مباشرة من النصوص، ولكن هناك من النظريات والأفكار الأساسية التي يتكون منها المذهب الاقتصادي ليس من الميسور الحصول عليها في النصوص مباشرة، وإنما يتعين الحصول عليها بطريق غير مباشر،
371

أي على أساس اللبنات الفوقية في الصرح الإسلامي، وعلى هدى الأحكام التي نظم بها الإسلام العقود والحقوق.
فنحن ننطلق من الطابق العلوي وندرج منه إلى الطابق المتقدم لأننا نمارس عملية اكتشاف. وأما أولئك الذين يمارسون عملية التكوين ويحاولون تشييد البناء لا اكتشافه، فهم يصعدون من الطابق الأول إلى الثاني، لأنهم يمارسون عملية بناء وتكون، والطابق الثاني لا يكون في عملية البناء إلا أخيرا.
هكذا نختلف في موقفنا منذ البدء عن موقف الرواد المذهبين من الرأسماليين والاشتراكيين، بل نختلف أيضا حتى عن أولئك الذين يدرسون المذاهب الرأسمالية والاشتراكية دراسة اكتشاف وتحديد، لأن هؤلاء بامكانهم دراسة هذه المذاهب عن طريق الاتصال بها مباشرة، وفقا لصيغها العامة التي بشر بها رواد تلك المذاهب، فليس التعرف على المذهب الاقتصادي ل - (آدم سميت) مثلا متوقفا على أن ندرس أفكاره القانونية في المجال المدني، والطريقة التي يفضلها في تنظيم الالتزامات والحقوق، بل يمكننا الإندماج ابتداء مع فكره المذهبي في المجال الاقتصادي. وعلى العكس من ذلك حين نريد أن نتعرف على كثير من محتوى المذهب الاقتصادي الذي يؤمن به الإسلام، فإننا ما دمنا لا نستطيع أن نجد الصيغة المحددة لذلك في مصادر الإسلام، كما نجدها عند (آدم سميت) فسوف نضطر بطبيعة الحال إلى تتبع الآثار، واكتشاف المذهب بصورة غير مباشرة، عن طريق معالمه المنعكسة في لبنان فوقية من الصرح الإسلامي.
وهذا هو الذي يجعل عملية الاكتشاف التي يمارسها المفكر الإسلامي تظهر أحيانا بشكل مقلوب، بل قد يبدو أنها لا تميز بين المذهب والقانون المدني حين تستعرض أحكاما إسلامية في مستوى القانون المدني، وهي تريد أن تدرس المذهب الاقتصادي في الإسلام، ولكنها في الواقع على حق ما دامت تستعرض تلك الأحكام بوصفها بناء علويا للمذهب قادرا على الكشف عنه، لا باعتبار أنه هي المذهب الاقتصادي والنظريات الاقتصادية نفسها.
372

النظام المالي كالقانون المدني:
ومن الضروري بهذا الصدد أن نضيف إلى القانون المدني النظام المالي أيضا، بوصفه أحد الأبنية العلوية للمذهب الاقتصادي، التي تعكس ملامحه وتتكيف بمقتضياته. فكما يمكن الاستفادة في عملية الاكتشاف من إشعاعات المذهب المنعكسة على القانون المدني، كذلك يمكن الاستفادة من إشعاعات مذهبية مماثلة في النظام المالي.
وإذا أردنا أن نضرب مثلا لهذا التأثير من المذهب الاقتصادي على التنظيم المالي بوصفه بناء علويا للمذهب، فيمكننا أن نجد هذا المثال في صلة المذهب الرأسمالي بالمالية العامة، كما استعنا سابقا بتحديد صلته بالقانون المدني على فهم العلاقة بين المذهب والقانون، فان من مظاهر الصلة بين الرأسمالية والمالية العامة: تأثر فكرة (الدومين) (1) بالناحية المذهبية. والدومين يعتبر في المالية أحد المصادر الرئيسية لإيرادات الدولة فقد تضاءلت فكرة الدومين، وانكمش نطاق المشروعات التي تملكها الدولة، وكادت أن تختفي من التنظيم المالي، تحت تأثير مبدأ الحرية الاقتصادية، حينما طغى المذهب الرأسمالي وساد التفكير المذهبي للرأسمالية، الذي كان، من مقتضاه عدم تدخل الدولة في النشاط الإنتاجي، حفاظا على الحرية الاقتصادية للأفراد، إلا في الحدود الضئيلة التي يعجز النشاط الفردي عن القيام بها. وكان من الطبيعي لأجل ذلك أن تعتمد الدولة الرأسمالية في ماليتها العامة على الضريبة، ونحوها من مصادر الإيرادات الأخرى. تم استأنف الدومين وجحوده بوصفه مصدرا مهما واتسع نطاقه بعد ظهور الاتجاهات الاشتراكية نحو التأميم، وتزلزل مبدأ الحرية الاقتصادية في التفكير الاقتصادي العام.

(1) يراد بالدومين: تلك الأموال التي تكون مملوكة للدولة، كالأراضي والغابات والمصانع التي تملكها الدولة وتدر عليها ايرادا، كما تدر الأراضي والغابات والمصانع التي يملكها الأفراد ملكية خاصة أرباحا على مالكيها. ‌‌
373

ومن مظاهر الصلة بين المذهب والمالية العامة: أن إيرادات الدولة اختلفت وظيفتها تبعا لنوع الأفكار الاقتصادية المذهبية التي تأثرت بها، ففي الفترة التي ساد فيها المذهب الرأسمالي بأفكاره عن الحرية، كانت الوظيفة الأساسية للإيرادات هي تغطية نفقات الدولة، بوصفها جهازا لحماية الأمن في البلاد والدفاع عنها. وعندما بدأت الأفكار الاشتراكية تغزو الصعيد المذهبي أصبح للإيرادات مهمة أخرى أضخم، وهي علاج سوء التوزيع والتقريب بين الطبقات وإقامة العدالة الاجتماعية، وفقا للأفكار الذي يغطي نفقاتها كجهاز، بل توسعت في ذلك بقدر ما تفرضه المهمة الجديدة.
فهذه المظاهر تبرهن على تكييف المالية العامة للمجتمع تبعا لقاعدته المذهبية، كما يتكيف القانون المدني، الأمر الذي يجعل منها رصيدا لعملية الاكتشاف، بوصفها طابقا علويا يشرف المكتشف منه على الطابق المتقدم أي على المذهب الاقتصادي.
تلخيص واستنتاج:
على أساس ما تقدم يصبح من الضروري أن ندرج عددا من أحكام الإسلام وتشريعاته التي تعتبر بناء فوقيا للمذهب في نطاق عملية اكتشاف المذهب، وإن لم تكن داخلة كلها في صميم المذهب ذاته.
ولأجل هذا سوف يتسع البحث في هذا الكتاب لكثير من أحكام الإسلام في المعاملات والحقوق التي تنظم العلاقات المالية بين الأفراد، كما يتسع لبعض أحكام الشريعة في تنظيم العلاقات المالية بين الدولة والأمة وتحديد موارد الدولة وسياستها العامة في إنفاق الإيرادات، لأن هذا الكتاب ليس كتاب عرض للمذهب الاقتصادي فحسب، وإنما هو كتاب يحاول أن يمارس عملية اكتشاف لهذا المذهب، ويحدد لهذه العملية أسلوبها وسيرها ومضمونها ونتائجها.
374

ولهذا أيضا سوف نقتطف وننسق من أحكام الإسلام في المعاملات والحقوق والضرائب ما يعد بناء علويا للمذهب، ويلقي ضوء عليه في عملية الاكتشاف. وأما الأحكام التي لا تساهم في هذا الضوء، فهي خارجة عن مجال البحث.
فعلى سبيل المثال نذكر الربا، والغش، وضريبة التوازن، وضريبة الجهاد فإن الإسلام قد حرم الربا في المعاملة كما حرم الغش أيضا، غير أن تحريم الربا والمنع عن القرض بفائدة يساهم في عملية الاكتشاف، لأنه جزء من بناء علوي لنظرية توزيع الثروة المنتجة، فهو يكشف عن القاعدة العامة للتوزيع في الإسلام، كما سيأتي في بحث توزيع ما بعد الإنتاج، وأما حرمة الغش فليس لها إطار مذهبي، ولذلك قد تتفق عليها قوانين جميع البلاد المختلفة في مذاهبها الاقتصادية.
وكذلك الأمر في ضريبة التوازن والجهاد، فإن الضريبة التي يشرعها الإسلام لحماية التوازن - كالزكاة مثلا - تدخل في عملية الاكتشاف، دون ضريبة الجهاد التي يأمر بها الإسلام لتمويل جيش المجاهدين، فإنها تتصل بدور الدعوة في الدولة الإسلامية، لا بالمذهب الاقتصادي في الإسلام.
عملية التركيب بين الاحكام:
حين نتناول مجموعة من أحكام الإسلام التي تنظم المعاملات وتحدد الحقوق والالتزامات، لنجتازها إلى ما هو أعمق، إلى القواعد الأساسية التي تشكل المذهب الاقتصادي في الإسلام.. يجب أن لا نكتفي بعرض أو فحص كل واحد من تلك الأحكام، بصورة منعزلة ومستقلة عن الأحكام الأخرى، لأن طريقة العزل أو الانفرادية في بحث كل واحد من تلك الأحكام، إنما تنسجم مع بحث على مستوى القانون المدني لا تتخطى المجالات التفصيلية لتلك الأحكام، وإنما تتكفل بعرض أحكام الإسلام التي تنظم عقود البيع والإيجار والقرض والشركة مثلا، وليست مكلفة بعد ذلك بعملية تركيب
375

بين هذه الأحكام، يؤدي إلى قاعدة عامة. وأما حين يكون درسنا لتلك الأحكام وعرضنا لها جزءا من عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي، فلا يجدي عرض المفردات فحسب لاكتشاف المذهب، وإن اكتفت بحوث كثير من الإسلاميين بهذا القدر، بل يتحتم علينا أن ننجز علمية تركيب بين تلك المفردات، أي أن ندرس كل واحد منها بوصفه جزءا من كل، وجانبا من صيغة عامة مترابطة، لننتهي من ذلك إلى اكتشاف القاعدة العامة التي تشع من خلال الكل، أو من خلال المركب، وتصلح لتفسيره وتبريره. وأما في طريقة العزل والنظرة الانفرادية فلن نصل إلى اكتشاف.
فالغاء فائدة رأس المال في عقد القرض، والسماح بالكسب الناتج عن إيجار وسيلة الإنتاج في عقد الإجارة، ومنع المستأجر عن أن يتملك بسبب عقد الإجارة المادة الطبيعية التي يحوزها أجيره كل هذا الأحكام لا بد - بعد التأكد من صحتها شرعا - أن تدرس مترابطة، ويركب بينها، ليتاح لنا الخروج منها بالقاعدة الإسلامية لتوزيع الثروة المنتجة، التي تميز موقف الإسلام من التوزيع عن موقف المذهب الاشتراكي، الذي يقيم توزيع الثروة المنتجة على أساس العمل وحده، وموقف المذهب الرأسمالي الذي يقيم توزيعها على أساس العناصر المشتركة في تكوين الثروة المنتجة، المادي منها والبشري.
المفاهيم تساهم في العملية:
ويمكننا أن نضع إلى صف الأحكام في عملية الاكتشاف: المفاهيم التي تشكل جزءا مهما من الثقافة الإسلامية.
ونعني بالمفهوم: كل رأي للإسلام أو تصور إسلامي يفسر واقعا كونيا أو اجتماعيا أو تشريعيا. فالعقيدة بصلة الكون بالله تعالى وارتباطه به تعبير عن مفهوم معين للإسلام عن الكون (‍ 1). والعقيدة بأن المجتمع البشري مر بمرحلة فطرة وغريزة،

(1) ((ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا)) النساء: 126.
376

قبل أن يصل إلى المرحلة التي يسود فيها العقل والتأمل تعبير عن مفهوم إسلامي عن المجتمع (1). والعقيدة بأن الملكية ليست حقا ذاتيا، وإنما هي عملية استخلاف تعكس التصور الإسلامي الخاص لتشريع معين، وهو الملكية للمال، فان المال في المفهوم الإسلامي كله مال الله والله يستخلف الأفراد أحيانا للقيام بشأن المال، ويعبر عن هذا الاستخلاف تشريعيا بالملكية.
فالمفاهيم إذن وجهات نظر، وتصورات إسلامية في تفسير الكون وظواهره، أو المجتمع وعلاقاته، أو أي حكم من الأحكام المتشرعة، وهي لذلك لا تشتمل على أحكام بصورة مباشرة. ولكن قسما منها بالرغم من ذلك ينفعنا في محاولتنا للتعرف على المذهب الاقتصادي في الإسلام، وهو ذلك القسم من المفاهيم الإسلامية الذي يتصل بالحياة الاقتصادية وظواهرها، أو بأحكام الإسلام المتشرعة فيها.
ولكي نوضح بشكل عام الدور الذي يمكن أن يؤديه هذا القسم من المفاهيم، في سبيل تحديد معالم المذهب الاقتصادي في الإسلام، يجب أن نتعجل النتائج التي سوف يسجلها بعض البحوث الآتية، وأن نستعير من تلك البحوث مفهومين إسلاميين، دخلا في عملية اكتشاف المذهب التي يمارسها هذا الكتاب.
وأحد هذين المفهومين هو: مفهوم الإسلام عن الملكية القائل بأن الله تعالى استخلف الجماعة على المال والثروة في الطبيعة، وجعل من تشريع الملكية الخاصة أسلوبا يحقق ضمنه الفرد متطلبات الخلافة، من استثمار المال وحمايته، وإنفاقه في مصلحة الإنسان فالملكية عملية يمارسها الفرد لحساب الجماعة، ولحسابه ضمن الجماعة.
والمفهوم الآخر الذي نستعيره من البحوث المقبلة هو: رأي الإسلام في التداول بوصفه ظاهرة مهمة من ظواهر الحياة الاقتصادية، فإنه يرى: أن التداول بطبيعته

(1) ((كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)) البقرة: 213 ((وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا)) يونس: 19.
377

الأصيلة يشكل شعبة من الإنتاج فالتاجر حين يبيع منتجات غيره يساهم بذلك في الإنتاج، لأن الإنتاج دائما هو إنتاج منفعة وليس إنتاج مادة، لأن المادة لا تخلق من جديد، والتاجر بجلبه للسلعة المنتجة وإعدادها في متناول أيدي المستهلكين بدون ذلك الاعداد. وكل اتجاه في التداول يبعده عن واقعه الأصيل هذا، ويجعله عملية طفيلية مقصودة للإثراء فحسب، ومؤدية إلى تطويل المسافة بين السلعة والمستهلك.. فهو اتجاه شاذ يختلف عن الوظيفة الطبيعية للتداول.
ولنؤجل المدرك الإسلامي لهذين المفهومين وتوضيحه بشكل أوسع إلى موضعه من الكتاب (1)، ونقتصر على هذا القدر من العرض الذي تحتم علينا القيام به لتوضيح دور المفاهيم في العملية، بالرغم من أن ذلك يوقعنا في شيء من التكرار.
ففي ضوء هذين النموذجين لمفاهيم الإسلام، نستطيع أن نستوعب ونحدد الدور الذي يمكن أن تؤديه أمثال هذه المفاهيم على صعيد البحث وفي عملية الاكتشاف.
فهناك من المفاهيم ما يقوم بدور الإشعاع على بعض الأحكام، وتيسير مهمة فهمها من نصوصها الشرعية، والتغلب على العقبات التي تعترض ذلك، فالمفهوم الأول - الذي عرضناه قبل لحظات عن الملكية الخاصة - يهيئ الذهنية الإسلامية، ويعدها لتقبل نصوص شرعية تحد من سلطة المالك، وفقا لمتطلبات المصلحة العامة للجماعة. لأن الملكية بموجب ذلك المفهوم وظيفة اجتماعية، يسندها الشارع إلى الفرد، ليساهم في حمل أعباء الخلافة التي شرف الله بها الانسان على هذه الأرض، وليست حقا ذاتيا لا يقبل التخصيص والاستثناء فمن الطبيعي أن تخضع الملكية لمتطلبات هذه الخلافة، ومن اليسير في هذا الضوء تقبل نصوص تحد من سلطة المالك، وتسمح بانتزاع المال من يد صاحبه في بعض الأحايين. كالنصوص الإسلامية في الأرض، التي تؤكد على أن الأرض، إذا لم يقم صاحبها باستثمار

(1) التفسير الخلقي للملكية في الإسلام ص 536، ومفهوم الإسلام عن التداول ص 647 من الكتاب
378

ورعايتها، وفقا لمتطلبات الخلافة.. تنتزع منه، ويسقط حقه فيها، وتعطى لآخر.
وقد تردد كثير في الأخذ بهذه النصوص، لأنها تهدر حرمة الملكية المقدسة. ومن الواضح أن هؤلاء المترددين، لو كانوا ينظرون إلى تلك النصوص بمنظار المفهوم الإسلامي عن الملكية.. لما صعب عليهم الأخذ بها، والتجاوب مع فكرتها وروحها.
وبهذا عرف: أن المفاهيم الإسلامية في الحقل الاقتصادي قد تشكل إطارا فكريا، يكون من الضروري اتخاذه لتتبلور ضمنه النصوص التشريعية في الإسلام تبلورا كاملا، ويتيسر فهمهما دون تردد.
ونحن نجد بعض تلك النصوص التشريعية قد لاحظت هذا المعنى بوضوح، فأعطت المفهوم أو الإطار تمهيدا لإعطاء الحكم الشرعي فقد جاء في الحديث بشأن الأرض وملكية الانسان لها: ((إن الأرض لله تعالى، جعلها وقفا على عباده، فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية لغير ما علة أخذت من يده، ودفعت إلى غيره)) (1). فنحن نرى أن الحديث قد استعان بمفهوم معين عن ملكية الأرض، ودور الفرد فيها، على توضيح الحكم بانتزاع الأرض من مالكها وتبرير ذلك.
وبعض المفاهيم الإسلامية يقوم بانشاء قاعدة يرتكز على أساسها ملء الفراغ الذي أعطى لولي الأمر حق ملئه.
فالمفهوم الإسلامي عن التداول مثلا الذي عرضناه سابقا، يصح أن يكون أساسيا لاستعمال الدولة صلاحياتها في مجالات تنظيم التداول، فتمنع - في حدود الصلاحيات - كل محاولة من شأنها الابتعاد بالتداول عن الإنتاج، وجعله عملية لإطالة الطريق بين المستهلك والسلعة المنتجة، بدلا عن أن يكون عملية إعداد للسلعة وإيصال لها إلى يد المستهلك.
فالمفاهيم الإسلامية تقوم إذن بدور الاشعاع على النصوص التشريعية العامة، أو بدور تموين الدولة بنوعية التشريعات الاقتصادية التي يجب أن تملأ بها منطقة الفراغ.

(1) الوسائل ج 17، ص 345، الحديث 32274.
379

منطقة الفراغ في التشريع الاقتصادي:
وحيث جئنا على ذكر منطقة الفراغ في التشريع الاقتصادي، يجب أن نعطي هذا الفراغ أهمية كبيرة خلال عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي، لأنه يمثل جانبا من المذهب الاقتصادي في الإسلام. فان المذهب الاقتصادي في الإسلام يشتمل على جانبين: أحدهما: قد مليء من قبل الإسلام بصورة منجزة، لا تقبل التغيير والتبديل. والآخر: يشكل منطقة الفراغ في المذهب قد ترك الإسلام مهمة ملئها إلى الدولة أو (ولي الأمر) يملؤها وفقا لمتطلبات الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي، ومقتضياتها في كل زمان.
ونحن حين نقول: (منطقة فراغ)، فإنما نعني ذلك بالنسبة إلى الشريعة الإسلامية ونصوصها التشريعية، لا بالنسبة إلى الواقع التطبيقي للإسلام، الذي عاشته الأمة في عهد النبوة. فان النبي الأعظم (ص) قد ملأ ذلك الفراغ بما كانت تتطلبه أهداف الشريعة في المجال الاقتصادي، على ضوء الظروف التي كان المجتمع الإسلامي يعيشها، غير أنه (ص) حين قام بعملية ملء هذا الفراغ لم يملأه بوصفه نبيا مبلغا للشريعة الإلهية، الثابتة في كل مكان وزمان، ليكون هذا الملء الخاص من سير النبي لذلك الفراغ.. معبرا عن صيغ تشريعية ثابتة، وإنما ملأه بوصفه ولي الأمر، المكلف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقا للظرف.
ونريد أن نخلص من هذا إلى النتائج الآتية:
أولا: أن تقويم المذهب الاقتصادي في الإسلام لا يمكن أن يتم بدون إدراج منطقة الفراغ ضمن البحث، وتقدير إمكانيات هذا الفراغ، ومدى ما يمكن أن تساهم عملية ملئه مع المنطقة التي ملئت من قبل الشريعة ابتداء.. في تحقيق أهداف الاقتصاد الإسلامي (1).
وأما إذا أهملنا منطقة الفراغ ودورها الخطير، فإن معنى ذلك تجزئة إمكانيات

(1) لاحظ الميزان ج 4، ص 121.
380

الاقتصاد الإسلامي، والنظر إلى العناصر الساكنة فيه دون العناصر الحركية.
وثانيا: أن نوعية التشريعات التي ملأ النبي (ص) بها منطقة الفراغ من المذهب، بوصفه مبلغا للاحكام العامة الثابتة، بل باعتباره حاكا ووليا للمسلمين (1). فهي إذن لا تعتبر جزءا ثابتا من المذهب الاقتصادي في الإسلام، ولكنها تلقي ضوءا إلى حد كبير على عملية ملء الفراغ التي يجب أن تمارس في كل حين وفقا للظروف، وتيسر فهم الأهداف الأساسية التي توخاها الفراغ دائما في ضوء تلك الأهداف.
وثالثا: إن المذهب الاقتصادي في الإسلام، يرتبط على هذا الأساس ارتباطا كاملا بنظام الحكم في مجال التطبيق (2)، فما لم يوجد حاكم أو جهاز حاكم يتمتع بنفس ما كان الرسول الأعظم (ص) يتمتع به من الصلاحيات، بوصفه حاكما لا بوصفه نبيا لا يتاح ملء منطقة الفراغ في المذهب الاقتصادي بما تفرضه الأهداف الإسلامية وفقا للظروف، وبالتالي يصبح من المتعذر تطبيق المذهب الاقتصادي كاملا، بنحو نقطف ثماره ونحقق أهدافه.
ومن الواضح أن هذا الكتاب ما دام يبحث في المذهب الاقتصادي، فليس من وظيفته أن يتكلم عن نظام الحكم في الإسلام، ونوعية الشخص أو الجهاز الذي يصح أن يخلف الرسول شرعا في ولايته وصلاحياته، بوصفه حاكما، ولا عن الشروط التي يجب أن تتوفر في ذلك الفرد أو الجهاز.. فان ذلك كله خارج عن الصدد. ولهذا سوف نفترض في بحوث الكتاب حاكما شرعيا، يسمح له الإسلام بمباشرة صلاحيات النبي كحاكم، ونستخدم هذا الافتراض في سبيل تسهيل الحديث عن المذهب الاقتصادي ومنطقة الفارغ فيه، وتصوير ما يمكن أن يحققه من أهداف ويقمه من ثمار.

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 65.
(2) لاحظ الأصول من الكافي ج 1، ص 405 و 406، وعلل الشرايع ج 1، ص 253، وإيصال الطالب ج 7، ص 168 - 214.
381

وأما لماذا تركت في المذهب الاقتصادي الإسلامي منطقة فراغ، لم تملأ من قبل الشريعة ابتداء بأحكام ثابتة؟، وما هي الفكرة التي تبرر وجود هذه المنطقة في المذهب، وترك أمر ملئها إلى الحاكم؟، وبالتالي ما هي حدود منطقة الفراغ على ضوء الأدلة في الفقه الإسلامي؟ كل ذلك سوف نجيب عليه في البحوث المقبلة (1) إن شاء الله تعالى.
عملية الاجتهاد والذاتية:
عرفنا حتى الآن: أن الذخيرة التي نملكها في عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام هي الاحكام والمفاهيم. وقد آن لنا أن نقول كلمة عن الطريقة التي نحصل بها على تلك الأحكام والمفاهيم، وما يحف هذه الطرقة من مخاطر، لأننا إذا كنا سوف نكشف المذهب الاقتصادي عن طريق الأحكام والمفاهيم. فمن الطبيعي أن نتساءل: كيف سوف نصل إلى هذه الأحكام. والمفاهيم نفسها؟.
والجواب على هذا السؤال هو: أننا نلتقي بتلك الأحكام والمفاهيم وجها لوجه وبصورة مباشرة في النصوص الإسلامية، التي تشتمل على التشريع أو على وجهة نظر إسلامية معينة.
فليس علينا إلا أن نستحضر نصوص القرآن الكريم والسنة بهذا الصدد، لنجمع العدد الكافي من الأحكام والمفاهيم، التي نصل بها في نهاية الشوط إلى النظريات المذهبية العامة.
ولكن المسألة بالرغم من ذلك ليست مجرد تجمع نصوص فحسب، لأن النصوص لا تبرز - في الغالب - مضمونها التشريعي أو المفهومي - الحكم أو المفهوم - إبرازا صريحا محددا، لا يقبل الشكل في أي جهة من جهاته، بل كثيرا ما ينطمس المضمون أو تبدو المضامين مختلفة وغير متسقة، وفي هذه الحالات يصبح فهم النص واكتشاف المضمون المحدد، من مجموع النصوص التي تعالج ذلك المضمون

(1) مبدأ تدخل الدولة ص 685 - 692 من الكتاب.
382

عملية اجتهاد معقدة لا فهما بسيطا.
ولا نحاول في هذا المجال أن نشير إلى طبيعة هذه العملية وأصولها وقواعدها ومناهجها الفقهية، لأن ذلك كله خارج عن الصدد، وإنما نريد في هذا الضوء أن نقرر حقيقة عن المذهب الاقتصادي، ونحذر من خطر قد يقع خلال عملية الاكتشاف.
أما الحقيقة فهي: أن الصورة التي نكونها عن المذهب الاقتصادي، لما كانت متوقفة على الأحكام والمفاهيم، فهي انعكاس لاجتهاد معين، لأن تلك الأحكام والمفاهيم التي تتوقف عليها الصورة نتيجة لاجتهاد خاص في فهم النصوص، وطريقة تنسيقها والجمع بينها. ما دامت الصورة التي نكونها عن المذهب الاقتصادي اجتهادية. فليس من الحكم أن تكون هي الممكن لمفكرين إسلاميين مختلفين. أن يقدموا صورا مختلفة للمذهب الاقتصادي في الإسلام وأقرها، ووضع لها مناهجها وقواعدها. وهكذا تكون الصورة إسلامية ما دامت نتيجة لاجتهاد جائز شرعا، بقطع النظر عن مدى انطباقها على واقع المذهب الاقتصادي في الإسلام.
هذه هي الحقيقة. وأما الخطر الذي يحف بعملية الاكتشاف، القائمة على أساس الاجتهاد من فهم الأحكام والمفاهيم في النصوص.. فهو خطر العنصر الذاتي، وتسرب الذاتية إلى عملية الاجتهاد، لأن عملية الاكتشاف كلما توفرت فيها الموضوعية أكثر، وابتعدت عن مظان العطاء الذاتي كانت أدق وأنجح في تحقيق الهدف. وأما إذا أضاف الممارس خلال عملية الاكتشاف، وفهم النصوص شيئا من ذاته وساهم في العطاء، فإن البحث يفقد بذلك أمانته الموضوعية، وطابعه الاكتشافي الحقيقي.
ويشتد الخطر ويتفاقم، عندما تفصل بين الشخص الممارس والنصوص التي
383

يمارسها فواصل تاريخية وواقعية كبيرة وحين تكون تلك النصوص بصدد علاج قضايا يعيش الممارس واقعا مخالفا كل المخالفة لطريقة النصوص في علاج تلك القضايا، كالنصوص التشريعية والمفهومية المرتبطة بالجوانب الاجتماعية من حياة الإنسان. ولأجل هذا كان خطر الذاتية على عملية اكتشاف الاقتصاد الإسلامي أشد من خطرها على عملية الاجتهاد في أحكام أخرى فردية: كالحكم بطهارة بول الطائر، أو حرمة البكاء في الصلاة، أو وجوب التوبة على العاصي.
ولأجل تعاظم خطر الذاتية على العملية التي يمارسها، كان لزاما علينا كشف هذه النقطة بوضوح، وتحديد منابع هذا الخطر وبهذا الصدد يمكننا أن نذكر الأسباب الأربعة التالية بوصفها أهم المنابع لخطر الذاتية:
أ - تبرير الواقع
ب - دمج النص ضمن إطار خاص.
ج - - تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه.
د - اتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص
أ - تبرير الواقع:
إن عملية تبرير الواقع هي: المحاول التي يندفع فيها الممارس - بقصد أو بدون قصد - إلى تطوير النصوص، وفهمها فهما خاصا يبرر الواقع الفاسد الذي يعيشه الممارس، ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص عنها نظير ما قام به بعض المفكرين المسلمين، ممن استسلم للواقع الاجتماعي الذي يعيشه، وحاول أن يخضع النص للواقع، بدلا عن التفكير في تغيير الواقع على أساس النص، فتأول أدلة حرمة الربا والفائدة وخرج من ذلك بنتيجة تواكب الواقع الفاسد، وهي: أن الإسلام يسمح بالفائدة إذا لم تكن أضعافا مضاعفة، وإنما ينهى عنها إذا بلغت مبلغا فاحشا، يتعدى الحدود المعقولة كما في الآية الكريمة: ((يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا
384

مضاعفة، واتقوا الله لعلكم تفلحون)) (1). والحدود المعقولة هي: الحدود التي ألفها هذا المتأول من واقعه في حياته ومجتمعه. وقد منعه واقعه عن إدراك غرض هذه الآية الكريمة، التي لم تكن تستهدف السماح بالفائدة التي لا تضاعف القرض، وإنما كانت تريد لفت نظر المرابين إلى النتائج الفظيعة التي قد يسفر عنها ونمو رأس المال الربوي نموا شاذا باستمرار يواكبه تزايد بؤس المدين وانهياره في النهاية.
ولو أراد هذا المتأول أن يعيش القرآن خالصا، وبعيدا عن إيحاءات الواقع المعاش وإغرائه، لقرأ قوله تعالى: (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) (2)
ويفهم: أن المسألة ليست مسألة حرب مع نوع خاص من الربا الجاهلي، الذي يضاعف الدين أضعافا مضاعفة، وإنما هي مسألة مذهب اقتصادي له نظرته الخاصة إلى رأس المال، التي تحدد له مبررات نموه، وتشجب كل زيادة له منفصلة عن تلك المبررات، مهما كانت ضئيلة، كما يقرره إلزام الدائن بالاكتفاء برأس ماله، لا يظلم
ولا يظلم.
ب - دمج النص ضمن إطار خاص:
وأما عملية دمج النص ضمن إطار معين فهي: دراسة النص في إطار فكري غير إسلامي. وهذا الإطار قد يكون منبثقا عن الواقع المعاش، وقد لا يكون. فيحاول الممارس أن يفهم النص ضمن ذلك الإطار المعين، فإذا وجده لا ينسجم مع إطاره، أو لا تصطدم به على أقل تقدير.
وقد رأينا سابقا كيف أهملت نصوص تحد من سلطة المالك، وتسمح أحيانا بانتزاع الأرض منه، وفضل عليها غيرها، لمجرد أن تلك النصوص لا تتفق مع الإطار الفكري، الذي يشع بتقديس الملكية الخاصة بدرجة بجعلها فوق سائر الاعتبارات.

(1) آل عمران / 130.
(2) البقرة / 279.
385

وقد كتب فقيه - معلقا على النص القائل: بأن الأرض إذا لم يعمرها صاحبها أخذها منه ولي الأمر واستثمرها لحساب الأمة: ((إن الأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية، فإنها تخالف الأصول والأدلة العقلية)) (1). وهو يعني بالأدلة العقلية: الأفكار التي تؤكد قدسية الملكية. بالرغم من أن قدسية الملكية ودرجة هذه القدسية يجب أن تؤخذ من الشريعة، وأما حين تقرر بشكل مسبق، وبصورة تتيح لها أن تتحكم في فهم النص التشريعي.. فهذا هو معنى الاستنباط في إطار فكري مستعار، وإلا فأي دليل عقلي على قدسية الملكية الخاصة إلا علاقة اجتماعية بين الفرد والمال؟ ‍!. والعلاقة الاجتماعية افتراض واعتبار، يشرعه المجتمع أو أي مشرع آخر لتحقيق غرض معين، فهو لا يدخل في نطاق البحث العقلي المجرد، ولا العقلي التجريبي.
وكثيرا ما نجد بعض الممارسين يستدل في مثل هذا المجال على حرمة انتزاع المال من المالك: بأن قبيح عقلا.. وهو استدلال عقيم، لأن الغصب هو انتزاع المال بدون حق. والشريعة هي التي تحدد ما إذا كان هذا الانتزاع بحق أم لا، فيجب أن نأخذ منها ذلك، دون أن نفرض عليها فكرة سابقة. فإذا قرت: أن الانتزاع بغير حق، كان غصبا، وإذا فرضت لشخص حقا في الانتزاع لم يكن الانتزاع غصبا، وبالتالي لم يكن قبيحا.
وكتب فقيه آخر يستدل على تشريع الملكية الخاصة في الأرض: ((إن الحاجة تدعو إلى ذلك، وتشتد الضرورة اليه، لأن الانسان ليس كالبهائم، بل هو مدني بالطبع، لا بد له من مسكن يأوي إليه، وموضع يختص به، فلو لم يشرع لزم الحرج العظيم، بل تكليف ما لا يطاق)) (2).
وكلنا نعترف طبعا: بوجود الملكية الخاصة في الإسلام، وفي الأرض بوجه خاص أيضا ولكن الشيء الذي لا نقره هو: أن يستمد الحكم في الشرعية الإسلامية من

(1) السرائر ج 1، ص 477.
(2) مفتاح الكرامة ج 7، ص 3.
386

الرسوخ التاريخي لفكرة الملكية، كما اتفق لهذا الفقيه الذي لم تمتد أبعاده الفكرية، وتصوراته عن الماضي والحاضر والمستقبل. خارج نطاق التاريخ الذي عاشته الملكية الخاصة، فكان يجحد وراء كل اختصاص في تاريخ حياة الإنسان، شبح الملكية الخاصة، يبرره ويفسره، حتى لم يعد يستطيع أن يميز بين الواقع والشبح، فأخذ يعتقد أن الإنسان ما دام بحاجة إلى الاختصاص بمسكن يأوي اليه، - على حد تعبيره - فهو بحاجة إذن إلى أن يتملكه ملكية خاصة، ليختص به ويأوي اليه. ولو استطاع هذا الممارس أن يميز بين سكنى الانسان مسكنا خاصا وبين تملكه لذلك المسكن ملكية خاصة، لما خدعه بالتشابك التاريخي بني الأمرين، ولأمكنه أن يدرك بوضوح: أن تكليف ما لا يطاق إما هو في منع الانسان من اتخاذ مسكن خاص، لا في عدم منحه الملكية الخاصة لذلك المسكن. فالطلاب في مدينة جامعية، أو الأفراد في مجتمع اشتراكي.. يأوي كل منهم إلى مسكن خاص دون أن يتملكه ملكية خاصة.
وهكذا نجد أن فقيهنا هذا اتخذ - بدون قصد - من الجلال التاريخي للملكية الخاصة، وما يوحي به من أفكار عن ضرورتها للانسانية.. إطارا لتفكيره الفقهي.
ومن الإطارات الفكرية التي تلعب دورا فعالا في عملية فهم النص: الإطار اللغوي، كما إذا كانت الكلمة الأساسية في النص لفظا مشحونا بالتاريخ أي ممتدا ومتطورا عبر الزمن.. فمن الطبيعي أن يبادر الممارس بصورة عفوية إلى فهم الكلمة، كما تدل عليه في واقعها، لا في تاريخها البعيد. وقد يكون هذا المدلول حديثا في عمر الكلمة، ونتاجا لغويا لمذهب جديد، أو حضارة ناشئة. ولأجل ذلك يجب عند تحديد معنى النص الانتباه الشديد إلى عدم الاندماج في إطار لغوي حادث، لم يعش مع النص منذ ولادته.
وقد يتفق أن تساهم عملية الاشراط الاجتماعي للملكية في تضليل الممارس
387

للنص عن الفهم الصحيح. فالكلمة حتى إذا كانت محفظة بمعناها الأصيل على مر الزمن، قد تصبح خلال ملابسات اجتماعية معينة بين مدلولها فكر خاص أو سلوك معين - مشروطة بذلك الفكر أو السلوك، حتى ليطغى أحيانا مدلولها السيكولوجي - على أساس عملية الاشراط التي ينتجها وضع اجتماعي معين - على مدلولها اللغوي الأصيل، أو يندمج على أقل تقدير، المعطى اللغوي للكلمة بالمعطي الشرطي النفسي، الذي هو في الحقيقة نتيجة وضع اجتماعي يعيشه الممارس، أكثر من كونه نتيجة للكلمة ذاتها.
وخذ إليك مثلا كلمة: (الاشتراكية) فقد أشرطت هذه الكلمة خلال مذاهب اجتماعية حديثة عاشها الانسان المعاصر.. بكتلة من الأفكار والقيم والسلوك، وأصبحت هذه الكتلة تشكل إلى حد ما جزءا مهما من مدلولها الاجتماعي اليوم، وإن لم تكن على الصعيد اللغوي المجرد تحمل شيئا من هذا الكتلة. ويناظرها كلمة: (الرعية
) التي حملها تاريخ الاقطاع تبعة كبيرة، وأشرطها بسلوك الإقطاعي صاحب الأرض مع الأقنان الذين يزرعون له أرضه. فإذا جئنا إلى نصوص تشتمل على كلمة الاشتراكية، أو كلمة الرعية كالنص القائل: الناس شركاء في الماء والنار والكلأ. والنص القائل: إن للوالي على الرعية حقا.. نواجه خطر الاستجابة للاشتراط الاجتماعي في تلك الكلمات، وإعطائها المعنى الاجتماعي الذي عاشته بعيدا عن جو النص، بدلا عن إعطاءها المعنى للغوي الذي ترمز اليه. ‌‌‌
ج - - تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه:
تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه، هو عملية تمديد للدليل دون مبرر موضوعي.
وهذه العملية كثيرا ما ترتكب في نوع خاض من الأدلة الشرعية وهو ما يطلق عليه فقهيا اسم: (التقريب) ونظرا إلى أن هذا النوع من الأدلة له اثر كبير على عملية الاجتهاد في الأحكام والمفاهيم، التي تتصل بالمذهب الاقتصادي.. فمن الضروري أن
388

نبرز الخطر الذي يتهدد هذا الدليل نتيجة لتجريده عن ظروفه وشروطه.
ولنشرح أولا معنى (التقرير): إن التقرير مظهر من مظاهر السنة الشريفة، ونعني به سكوت النبي (ص) أو الإمام عن عمل معين يقع على مرأى منه ومسمع، سكوتا يكشف عن سماحه به وجوازه في الإسلام.
وللتقرير على قسمين: لأنه تارة: يكون تقريرا لعمل معين، يقوم به فرد خاص، كما إذا شرب أحد الفقاع أمام النبي (ص)، فسكت عنه، فإن هذا السكوت يكشف عن جواز شربه في الإسلام. وأخرى: يكون تقريرا لعمل عام، يتكرر صدوره من الناس في حياتهم الاعتيادية، كما إذا عرفنا من عادة الناس في عهد التشريع الإسلامي قيام الأفراد باستخراج الثروات المعدنية، وتملكها بسبب استخراجها، فإن سكون الشريعة عن هذه العادة وعدم معارضتها.. يعتبر تقريرا منها ودليلا على سماح الإسلام للفرد باستخراج المادة الطبيعية وتملكها. وهذا ما يطلق عليه في البحث الفقهي اسم: العرف العام أو (السيرة العقلائية). ومرده في الحقيقة إلى اكتشاف موافقة الشريعة، إذ لو لم تكن الشريعة موافقة على ذلك السلوك الذي عاصرته، لنهت عنه. فعدم النهي دليل الموافقة.
ويتوقف هذا الاستدلال من الناحية الفقهية على عد أمور:
فأولا: يجب التأكد من وجود ذلك السلوك تاريخيا في عصر التشريع، إذ لو كان السلوك متأخرا زمنيا عن عصر التشريع، لم يكن سكوت الشرعية عنه دليلا على رضاها به، وإنما يستكشف الرضا من السكوت، إذا عاش السلوك عصر التشريع.
وثانيا: يجب التأكد من عدم صدور النهي من الشريعة عن ذلك السلوك ولا يكفي عدم العلم بصدوره، فما لم يجزم الباحث بعدم صدور النهي ليس من حقه أن يستكشف سماح الإسلام بذلك السلوك، ما دام من المحتمل أن تكون الشريعة قد نهت عنه.
وثالثا: يجب أخذ جميع الصفات والشروط الموضوعية المتوفرة في ذلك
389

السلوك بعين الاعتبار، لأن من الممكن أن يكون لبعض تلك الصفات والشروط اثر في السماح بذلك السلوك وعدم تحريمه. فإذا ضبطنا جميع الصفات والشروط، التي كانت تكتنف ذلك السلوك الذي عاصر التشريع، أمكننا أن نستكشف، سكوت الشريعة عنه: سماحها بذلك السلوك متى ما وجد ضمن تلك الصفات والشروط التي ضبطناها.
نستطيع الآن في ضوء هذا الشرح أن نفهم: كيف يتسرب العنصر الذاتي إلى هذا الدليل، متمثلا في تجريد السلوك من ظروفه وشروطه.
وعملية التجريد هذه تتخذ شكلين: في بعض الأحيان يجد الممارس نفسه يعيش واقعا عامرا بسلوك اقتصادي معين، ويحس بوضوح هذا السلوك وأصالته وعمقه، إلى درجة يتناسى العوامل التي ساعدت على إيجاده، والظروف الموقتة التي مهدت له. فيخيل له أن هذا السلوك أصيل، حادثة، أو من الممكن أن يكون كذلك على أقل تقدير. ولنذكر لذلك على سبيل المثال: الإنتاج الرأسمالي في الأعمال والصناعات الاستخراجية. فإن الواقع اليوم يعض بهذا اللون من الإنتاج، الذي يتمثل في عمل أجراء يستخرجون المواد المعدنية من ملح أو نفط، ورأسمالي يدفع إليهم الأجور، ويعتبر نفسه لأجل ذلك مالكا للمادة المستخرجة. وعقد الإجارة، - هذا الذي يقوم بين الرأسمالي والعمال - يبدو الآن طبيعيا في مضمونه ونتائجه الآنفة الذكر - أي تملك العامل للأجرة، وتملك الرأسمالي للمادة - إلى اكتشاف الانسان للمعادن واستفادته منها، ويؤمنون على أساس هذا التصور: بأن هذا النوع من الإجارة كان موجودا في عصر التشريع. ومن الطبيعي أن ينتج عن كل: التفكير في الاستدلال على جواز هذه الإجارة، وتملك الرأسمالي للمادة المستخرجة.. بدليل التقرير، فيقال: إن سكوت الشريعة عن هذه الإجارة وعدم نهيها عنها دليل على سماح الإجارة، وتملك الرأسمالية للمادة المستخرجة.. بدليل التقرير، فيقال: إن سكوت الشريعة عن هذه الإجارة وعدم نهيها عنها دليل على سماح الإسلام بها.
390

ولا نريد هنا أن نقول شيئا عن هذه الإجارة ومقتضياتها من الناحية الفقهية، ولا عن أقوال الفقهاء الذين يشكون فيها أو في مقتضياتها.. فإننا سوف ندرس الحكم الشرعي لهذه الإجارة ومقتضياتها بكل تفصيل في بحث مقبل (
1)، ونستعرض جميع الأدلة التي يمكن الاستناد إليها في الموضوع إيجابيا أو سلبيا.. وإنما نريد هنا أن ندرس فقط الاستدلال على تلك الإجارة ومقتضياتها بدليل التقرير، لنبرز شكلا من تجريد السلوك عن شوطه وظروفه. فإن هؤلاء الذين يستدلون بدليل التقرير على صحة تلك الإجارة ومقتضياتها لم يعيشوا عصر التشريع، ليتأكدوا من تداول هذا النوع من الإجارة في ذلك العصر، وإنما شاهدوا تداولها في واقعهم المعاش، وأدى رسوخها في النظام الاجتماعي السائد إلى الايمان بأنها ظاهرة مطلقة، ممتدة تاريخيا إلى عصر التشريع. وهذا هو الذي نعنيه بتجريد السلوك من ظروفه وشروطه دون مبرر موضوعي، وإلا فهل نملك دليلا حقا على أن هذا اللون من الإجارة كان موجودا وشائعا في عصر التشريع الإسلامي؟! وهل يعلم هؤلاء الذين يؤكدون على وجوده في ذلك العصر: أن هذه الإجارة هي المظهر القانوني للإنتاج الرأسمالي، الذي لم يوجد تاريخيا على نطاق واسع - خصوصا في ميادين الصناعة - إلا متأخرا؟!
وليس معنى هذا الكلام: الجزم بنفي وجود الإنتاج الرأسمالي للمواد المعدنية في عصر التشريع، أي العمل بأجرة في استخراجها، ولا تقديم دليل على هذا النفي بل مجرد الشك في ذلك، وأنه كيف تتأصل ظاهرة معينة وتبدو طبيعية حتى توحي باليقين بعمقها وقدمها، لمجرد أنها راسخة في الواقع المعاش، مع عدم توفر أدلة منطقية كاملة على قدمها تاريخيا، وانفصالها عن ظروف مستجدة.
هذا هو الشكل الأول من عملية التجريد - تجريد السلوك المعاش عن ظروفه الواقعية - وتمديده تاريخيا إلى عصر التشريع.
وأما الشكل الآخر من عملية التجريد في دليل التقرير فهو ما يتفق عندما ندرس

(1) الأساس النظري للتوزيع على عناصر الإنتاج ص 549 من الكتاب.
391

سلوكا معاصرا لعهد التشريع حقا، ونستكشف سماح الإسلام به من سكوت التشريع عنه. فان الممارسة في هذه الحالة قد يقع في خطأ التجريد، عندما يجرد ذلك السلوك المعاصر لعهد التشريع خصائصه، ويعزله عن العوامل التي قد تكون دخيلة في السماح به، ويعمم القول: بأن هذا السلوك جائز وصحيح إسلاميا في كل حال. مع أن من الضروري لكي يكن الاستدلال بدليل التقرير موضوعيا: أن ندخل في حسابنا كل حالة من المحتمل تأثيرها في موقف الإسلام من ذلك السلوك. فحين تتغير بعض تلك الحالات والظروف يصبح الاستدلال بدليل التقرير عقيما، فإن قيل كل مثلا: إن شرب الفقاع في الإسلام جائز، بدليل أن فلانا - حين مرض على عهد النبي صلى الله عليه وآله - شرب الفقاع، ولم ينه النبي (ص) عن ذلك.. كان لك أن تقول: ان دليل التقرير هذا وحده يكفي دليلا على سماح الإسلام بشرب الفقاع لكل فرد، ولو كان سليما، لأن من الممكن أن تكون بعض الأمراض مجوزة لشربه بصورة استثنائية. فمن الخطأ إذن أن نعزل السلوك المعاصر لعهد التشريع عن ظروفه وخصائصه، ونعمم حكم ذلك السلوك بدون مبرر لكل سلوك مشابه، وإن اختلف في الخصائص التي قد يختلف الحكم بسببها. بل يجب أن نأخذ بعين الاعتبار جميع الحالات الفردية والأوضاع الاجتماعية، التي تكتنف السلوك المعاصر لعهد التشريع.
د - اتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص:
ونقصد باتخاذ موقف معين النص: الاتجاه النفسي للباحث، فإن للاتجاه أثره الكبير على عملية فهم النصوص. ولكي تتضح فكرة الموقف، نفترض شخصين يمارسان دراسة النصوص، يتجه أحدهما نفسيا إلى اكتشاف الجانب الاجتماعي وما يتصل بالدولة من أحكام الإسلام ومفاهيمه، بينما ينجذب الآخر لاتجاه نفسي نحو الأحكام التي تتصل بالسلوك الخاص للأفراد. فإن هذين الشخصين بالرغم من أنهما يباشران نصوصا واحدة، سوف يختلفان في المكاسب التي يخرجان بها من دراستهما لتلك النصوص، فيحصل كل منهما على مكاسب أكبر فيما يتصل
392

باتجاهه النفسي وموقفه الخاص، وقد تنطمس أمام عينيه معالم الجانب الإسلامي الذي لم يتجه اليه نفسيا.
وهذا الموقف النفسي الذي تفرضه ذاتية الممارس لا موضوعية البحث، لا يقتصر تأثيره على إخفاء بعض معالم التشريع، بل قد يؤدي أحيانا إلى التضليل في فهم النص التشريعي، والخطأ في استنباط الحكم الشرعي منه، وذلك حينما يريد الممارس أن يفرض على النص موقفه الذاتي الذي اتخذه بصورة مسبقة، فلا يوفق حينئذ إلى تفسيره بشكل موضوعي صحيح.
والأمثلة على هذا من الفقه عديدة. وقد يكون نهي النبي عن: منع فضل الماء، والكلأ.. أوضح مثال من النصوص على مدى تأثر عملية الاستنباط من النص، بالموقف النفسي للممارس. فقد جاء في الرواية: أن النبي قضى بين أهل المدينة في النخل: لا يمنع نفع بئر. وقضى بين أهل البادية: أنه لا يمنع فضل ماء ولا يباع فضل كلأ (1). وهذا النهي من النبي عن منع فضل الماء والكلأ، يمكن أن يكون تعبيرا عن حكم شرعي عام، ثابت في كل زمان ومكان، كالنهي عن الميسر والخمر. كما يمكن أيضا ان يعبر عن اجراء معين، اتخذه النبي بوصفه ولي الأمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين، في حدود ولايته وصلاحياته، فلا يكون حكما شرعيا عاما، بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدرها ولي الأمر.
وموضوعية البحث في هذا النص النبوي تفرض على الباحث استيعاب كلا هذين التقديرين، وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النص وما يناظره من نصوص.
وأما أولئك الذي يتخذون موقفا نفسيا تجاه النص بصورة مسبقة، فهم يفترون منذ البدء أن يجدوا في كل نص حكما شرعيا عاما، وينظرون دائما إلى النبي من خلال النصوص بوصفه أداة لتبليغ الأحكام العامة، ويهملون دورة الإيجابي بوصفه ولي الأمر. فيفسرون النص الآنف الذكر على أساس انه حكم شرعي عام (2).

(1) راجع الوسائل ج 17، ص 333، الحديث / 32241.
(2) ويفرعون على هذا ان النهي ليس نهي تحريم، وإنما هو نهي كراهة، لأنهم يستبعدون أن يكون منع المالك لفضل ماله حراما شرعا، في كل زمان ومكان.
393

وهذا الموقف الخاص في تفسير النص لم ينبع من النص نفسه، وإنما نتج من اعتياد ذهني على صورة خاصة عن النبي، وطريقة تفكير معينة فيه، درج عليها الممارس، واعتاد خلالها أن ينظر اليه دائما، باعتباره مبلغا، وانطمست أمام عينيه شخصيته الأخرى بوصفه حاكما، وانطمست بالتالي ما تعبر به هذا الشخصية عن نفسها في النصوص المختلفة.
ضرورة الذاتية أحيانا:
ويجب أن نشير إلى المجال الوحيد، الذي سمح به للجانب الذاتي، لدى محاولة تكوين الفكرة العامة المحددة عن الاقتصاد الإسلامي، وهو مجال اختيار الصورة التي يراد أخذها عن الاقتصاد في الإسلام، من بين مجموع الصور التي تمثل مختلف الاجتهادات الفقهية المشروعة، فقد مر بنا أن اكتشاف المذهب الاقتصادي يتم خلال عملية اجتهاد في فهم النصوص وتنسيقها، والتوفيق بين مدلولاتها في إطراد واحد، وعرفنا أن الاجتهاد يختلف ويتنوع، تبعا لاختلاف المجتهدين في طريقة فهمهم للنصوص، وعلاجهم للتناقضات التي قد تبدو بين بعضها والبعض الآخر، وفي القواعد والمناهج العامة للتفكير الفقهي التي يتبنونها. كما عرفنا أيضا أن الاجتهاد يتمتع بصفة شرعية وطابع إسلامي ما دام يمارس وظيفته، ويرسم الصورة ويحدد معالمها ضمن إطار الكتاب والسنة، ووفقا للشروط العامة التي لا يجوز اجتيازها.
وينتج عن ذلك كله ازدياد ذخيرتنا بالنسبة إلى الاقتصاد الإسلامي، ووجود صور عديدة له، كلها شرعي وكلها إسلامي. ومن الممكن حينئذ أن نتخير في كل مجال أقوى العناصر التي نجدها في تلك الصورة، وأقدرها على معالجة مشاكل الحياة وتحقيق الأهداف العليا للإسلام. وهذا مجال اختيار ذاتي يملك الباحث فيه حيرته ورأيه، ويتحرر عن وصفه مكتشفا فحسب، وإن كانت هذه الذاتية لا تعدو أن
394

تكون اختيارا، وليست إبداعا، فهي تحرر في نطاق الاجتهادات المختلفة، وليست تحررا كاملا.
وقد مارس هذا الكتاب في بحوث سابقة، وسيمارس في بحوث مقبلة هذا المجال ‌‌‌الذاتي، كما ألمعنا إلى ذلك في المقدمة (1). فليس كل ما يعرض من أحكام في هذا الكتاب، وتبنى ويستدل عليه، نتيجة لاجتهاد المؤلف شخصيا. بل قد يعرض في بعض النقاط لما لا يتفق مع اجتهاده، ما دام يعبر عن وجهة نظر اجتهادية أخرى، تحمل الطابع الإسلامي والصفة الشرعية.
وأود أن أؤكد بهذه المناسبة على: أن ممارسة هذا المجال الذاتي، ومنح الممارس حقا في الاختيار ضمن الإطار العام للاجتهاد في الشريعة.. قد يكون أحيانا شرطا ضروريا من الناحية الفنية لعملية الاكتشاف التي يحاولها هذا الكتاب، وليس أمرا جائزا فحسب، أو لونا من الترف والتكاسل عن تحمل أعباء ومشاق الاجتهاد في أحكام الشريعة. فإن من المستحيل في بعض الحالات اكتشاف النظرية الإسلامية والقواعد المذهبية في الاقتصاد، شاملة كاملة منسجمة مع بناءها العلوي وتفصيلاته التشريعية وتفريعاتها الفقهية إلا على أساس المجال الذاتي للاختيار.
وأنا أقول هذا نتيجة لتجربة شخصية عشتها في فترة إعداد هذا الكتاب، ولعل من الضروري أن أجليها هنا لأبرز إحدى المشاكل التي يعانيها البحث في الاقتصاد الإسلامي غالبا، وطريقة تغلب هذا الكتاب عليها بممارسة المجال الذاتي الآنف الذكر الذي منح لنفسه حق ممارسته.
فمن المتفق عليه بين المسلمين اليوم: أن القليل من أحكام الشريعة الإسلامية هو الذي لا يزال يحتفظ بوضوحه وضرورته وصفته القطعية، بالرغم من هذه القرون المتطاولة التي تفصلنا عن عصر التشريع. وقد لا تتجاوز الفئة التي تتمتع بصفة قطعية من أحكام الشريعة، الخمسة في المئة من مجموع الأحكام التي نجدها في الكتب الفقهية.

(1) كلمة المؤلف ص 49.
395

والسبب في ذلك واضح، لأن أحكام الشريعة تؤخذ من الكتاب والسنة، أي من النص التشريعي، ونحن بطبيعة الحال نعتمد في صحة كل نص على نقل أحد الرواة والمحدثين - باستثناء النصوص القرآنية ومجموعة قليلة من نصوص السنة التي ثبتت بالتواتر واليقين - ومهما حاولنا أن ندقق في الراوي ووثاقته وأمانة الرواة إلا تاريخيا، لا بشكل مباشر، وما دام الراوي الأمين قد يخطئ ويقدم الينا النص محرفا، خصوصا في الحالات التي لا يصل الينا النص فيها إلا بعد أن يطوف بعدة رواة، ينقله كل واحد منهم إلى الآخر، حتى يصل الينا في نهاية الشوط. وحتى لو تأكدنا أحيانا من صحة النص، وصدوره من النبي أو الإمام، فإننا لن نفهمه إلا كما نعيشه الآن، ولن نستطيع استيعاب جوه وشروطه، واستبطان بيئته التي كان من الممكن أن تلقى عليه ضوءا. ولدى عرض النص على سائر النصوص التشريعية للتوفيق بينه وبينها، قد نخطئ أيضا في طريقة التوفيق، فنقدم هذا النص على ذاك، مع أن الآخر أصح في الواقع، بل قد يكون للنص استثناء في نص آخر ولم يصل الينا الاستثناء، أو لم نلتفت اليه خلال ممارستنا للنصوص، فنأخذ بالنص الأول مغفلين استثناءه الذي يفسره ويخصصه.
فالاجتهاد إذن عملية معقدة، تواجه الشكوك من كل جانب ومهما كانت نتيجته راجحة في رأي المجتهد، فهو لا يجزم بصحتها في الواقع، ما دام يحمل خطأه في استنتاجها، إما لعدم صحة النص في الواقع وان بدا له صحيحا، أو لخطأ في فهمه، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص، أو لعدم استيعابه نصوصا أخرى ذات دلالة في الموضوع ذهل عنها الممارس أو عاثت بها القرون.
وهذا لا عيني طبيعة الحال إلغاء عملية الاجتهاد أو عدم جوازها، فإن الإسلام - بالرغم من الشكوك التي تكتنف هذه العملية - قد سمح بها، وحدد للمجتهد المدى الذي يجوز له أن يعتمد فيه على الظن، ضمن قواعد تشرح عادة في علم أصول الفقه، وليس على المجتهد إثم إذا اعتمد ظنه في الحدود المسموح بها، سواء أخطأ أو أصاب.
396

وعلى هذا الضوء يصبح من المعقول ومن المحتمل: أن توجد لدى كل مجتهد مجموعة من الأخطاء والمخالفات لواقع التشريع الإسلامي، وإن كان معذورا فيها ويصبح من المعقول أيضا: أن يكون واقع التشريع الإسلامي في مجموعة من المسائل التي يعالجها موزعا هنا وهناك، بنسب متفاوتة في آراء المجتهدين، فيكون هذا المجتهد على خطأ في مسألة وصواب في أخرى، ويكون الآخر على العكس.
وأمام هذا الواقع الذي شرحناه من عن عملية الاجتهاد والمجتهدين، لا يملك الممارس لعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي، إلا أن ينطلق في اكتشافه من أحكام ثبتت باجتهاد ظني معين ليجتازها إلى ما هو أعمق وأشمل، إلى نظريات الإسلام في الاقتصاد ومذهبه الاقتصادي.
ولكن علينا أن نتساءل: هل من الضروري أن يعكس لنا اجتهاد كل واحد من المجتهدين - بما يضم من أحكام - مذهبا اقتصاديا كاملا، وأسسا موحدة منسجمة مع بناء تلك الأحكام وطبيعتها؟. ‌‌‌‌
ونجيب على هذا السؤال بالنفي، لأن الاجتهاد الذي يقوم على أساسه استنتاج تلك الأحكام معرض للخطأ، وما دام كذلك فمن الجائز أن يضم اجتهاد المجتهد عصرا تشريعيا غريبا على واقع الإسلام، قد أخطأ المجتهد في استنتاجه، أو يفقد عنصرا تشريعيا إسلاميا لم يوفق المجتهد للظفر به في النصوص التي مارسها. وقد تصبح مجموعة الأحكام التي أدى إليها اجتهاده متناقضة في أسسها بسبب هذا أو ذاك، ويتعذر عندئذ الوصول إلى رصيد نظري كامل يوحد بينها، أو تفسير مذهبي شامل يضعها جميعا في إطراد واحد.
ولهذا يجب أن نفرق بين واقع التشريع الإسلامي كما جاء به النبي (ص)، وبين الصور الاجتهادية كما يرسمها مجتهد معين خلال ممارسته للنصوص. فنحن نؤمن بأن واقع التشريع الإسلامي في المجالات الاقتصادية ليس مرتجلا، ولا وليد نظرات متفاصلة، ومنعزلة بعضها عن البعض، بل إن التشريع الإسلامي في تلك المجالات يقوم على أساس موحد، ورصيد مشترك من المفاهيم، وينبع من نظريات الإسلام
397

وعمومياته في شؤون الحياة الاقتصادية.
وإيماننا بهذا هو الذي جعلنا نعتبر الأحكام بناء علويا، يجب تجاوزه إلى ما هو أعمق وأشمل، وتخطيه إلى الأسس التي يقوم عليها هذا البناء العلوي وينسجم معها، ويعبر عن عمومياتها في كل تفصيلاته وتفريعاته، دون تناقض أو نشاز. ولولا الإيمان بأن أحكام الشريعة تقوم على أسس موحدة، لما كان هناك مبرر لممارسة عملية اكتشاف للمذهب، من وراء الأحكام التفصيلية في الشريعة.
كل هذا صحيح بالنسبة إلى واقع التشريع الإسلامي. وأما بالنسبة إلى هذا الاجتهاد أو ذاك من اجتهادات المجتهدين، فليس من الضروري أن تعكس الأحكام التي يضعها ذلك الاجتهاد مذهبا اقتصاديا كاملا، وأساسا نظريا شاملا، ما دام من الممكن فيها أن تضم عنصرا غريبا أو تفقد عنصرا أصيلا بسبب خطأ المجتهد.
وقد يؤدي خطأ واحد في مجموعة تلك الأحكام إلى قلب الحقائق في عملية الاكتشاف رأسا على عقب، وبالتالي إلى استحالة الوصول إلى المذهب الاقتصادي عن طريق تلك الأحكام.
ولهذا قد يواجه الممارس لعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي محنة هي محنة التناقض بين وصفه مكتشفا للمذهب، ووصفه مجتهدا في استنباط الأحكام. وذلك فيما إذا اقترضنا: أن المجموعة من الأحكام التي أدى إليها اجتهاده الخاص، غير قادرة على الكشف عن المذهب الاقتصادي، فالممارس في هذه الحالة بوصفه مجتهدا في استنباط تلك الأحكام، مدفوع بطبيعة اجتهاده إلى اختيار تلك الأحكام التي أدى إليها اجتهاده، لينطلق منها في اكتشافه للمذهب الاقتصادي. ولكنه بوصفه مكتشفا للمذهب، يجب عليه أن يختار مجموعة متسقة من الأحكام، منسجمة في اتجاهاتها ومدلولاتها النظرية، ليستطيع أن يكتشف على أساسها المذهب. وهو حين لا يجد نفسه مضطرا إلى اختيار نقطة انطلاق أخرى، مناسبة لعملية الاكتشاف. ولنجسد المشكلة بصورة أوضح في المثال التالي:
398

مجتهد رأى أن النصوص تربط ملكية الثروات الطبيعية الخام بالعمل، وتنفي تملكها بأي طريقة أخرى سوى العمل، ووجد لهذه النصوص استثناء واحدا في نص يقرر يقرر في بعض المجالات: التملك بطريقة أخرى غير العمل.
إن هذا المجتهد سوف تبدوا له نتائج النصوص ومعطياتها - حسب اجتهاده - قلقة غير متسقة. ومصدر هذا القلق وعدم الاتساق: النص الاستثنائي، إذ لولاه لاستطاع أن يكتشف على أساس مجموع النصوص الأخرى ان الملكية في الإسلام تقوم على أساس العمل. فماذا يصنع هذا المجتهد، وبم يتغلب على التناقض بين موقفيه
الاجتهادي والاكتشافي؟.
إن المجتهد الذي يواجه هذا التناقض يحتمل عادة تفسيرين لذلك القلق وعدم الاتساق بين الأحكام التي أدى إليها اجتهاده.
أحدهما: أن بعض النصوص التي مارسها غير صحيحة، كالنص الاستثنائي في الفرضية التي افترضناها مثلا، بالرغم من توفر الشروط التي أمر الإسلام باتباع كل نص تتوفر فيه. وعدم صحة بعض النصوص أدى إلى دخول عنصر تشريعي غريب في المجموعة التي يضمها اجتهاده من أحكام، وأدى بالتالي إلى تنافر تلك الأحكام على الصعيد النظري وفي عملية الاكتشاف.
والتفسير الآخر: أن هذا التنافر المحسوس بين عناصر المجموعة سطحي، وليس له واقع: وإنما نتج إحساس الممارس به عن عدم قدرته على الاهتداء إلى سر الوحدة بين تلك العناصر، وتفسيرها النظري المشترك.
وهنا يختلف موقف الممارس بوصفه مجتهدا يستنبط الأحكام، عن موقفه بوصفه مكتشفا للمذهب الاقتصادي فهو باعتباره مجتهدا يستنبط الأحكام لا يمكنه أن يتخلى في عمله الخاص عن الأحكام التي أدى إليها اجتهاده، وإن بدت له متنافرة على الصعيد النظري، ما دام يحتمل أن يكون مرد هذا التنافر إلى عجزه عن استكناه أسرارها وأسسها المذهبية. ولكن تمسكه بتلك الأحكام لا يعني قطعيتها، بل هي نتائج ظنية، ما دامت تقوم على أساس الاجتهاد
الظني الذي يبرر الأخذ بها،
399

بالرغم من احتمال الخطأ.
وأما حين يريد هذا الفقيه أن يتخطى فقه الأحكام إلى فقه النظريات، ويمارس عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام.. فإن طبيعة العملية تفرض عليه نوع الأحكام التي يجب أن ينطلق منها، وتحتم أن تكون نقطة الانطلاق مجموعة متسقة ومنسجمة من الأحكام، فإن استطاع أن يجد هذه المجموعة فيما يضمه اجتهاده الشخصي من أحكام، وينطلق منها في عملية الاكتشاف لفهم الأسس العامة للأمة للاقتصاد الإسلامي، دون أن يمنى بتناقض أو تنافر بين عناصر تلك المجموعة.. فهي فرصة ثمينة تتحد فيها شخصية الممارس بوصفه فقيها يستنبط الأحكام، مع شخصيته بوصفه مكتشفا للنظريات.
وأما إذا لم يسعد بهذه الفرصة، ولم يسعفه اجتهاده بنقطة الانطلاق المناسبة.. فإن هذا لن يؤثر على تصميمه في العملية، ولا على إيمانه: بأن واقع التشريع الإسلامي يمكن أن يفسر تفسيرا نظريا متسقا شاملا. والسبيل الوحيد الذي يتحتم على الممارس سلوكه في هذه الحالة، أن يستعين بالأحكام التي أدت إليها اجتهادات غيره من المجتهدين لأن في كل اجتهاد مجموعة من الأحكام، تختلف إلى حد كبير عن المجاميع التي تشتمل عليها الاجتهادات الأخرى.
وليس من المنطقي أن نترقب اكتشاف مذهب اقتصادي وراء كل مجموعة من تلك المجاميع، وإنما نؤمن بمذهب اقتصادي واحد، تقوم على أساسه أحكام الشريعة الموجودة، ضمن تلك المجاميع، ففي حالة التنافر بين عناصر المجموعة الواحدة، التي يتبناها اجتهاد الممارس. يتعين عليه في عملية الاكتشاف أن يزيل العناصر القلقة، التي تؤدي إلى التناقض على الصعيد النظري، ويستبدلها بنتائج وأحكام في اجتهادات أخرى، أكثر انسجاما وتسهيلا لعملية الاكتشاف، ويكون مجموعة ملفقة من اجتهادات عديدة يتوفر فيها الانسجام، لينطلق منها ويخرج في النهاية باكتشاف الرصيد النظري لتلك المجموعة الملفقة من الأحكام الشرعية.
وأقل ما يقال في تلك المجموعة: أنها صورة، من الممكن أن تكون صادقة كل
400

الصدق في تصوير واقع التشريع الإسلامي. وليس إمكان صدقها أبعد من إمكان صدق أي صورة أخرى من الصورة الكثيرة، التي يزخر بها الصعيد الفقهي الاجتهادي، وهي بعد ذلك تحمل مبرراتها الشرعية لأنها تعبر عن اجتهادات إسلامية مشروعة، تدور كلها في فلك الكتاب والسنة. ولأجل ذلك يصبح بالإمكان للمجتمع الإسلامي أن يختارها في مجال التطبيق، من بين الصور الاجتهادية الكثيرة للشريعة، التي يجب عليه أن يختار واحدة منها.
وهذا كل ما يمكن إنجازه في عملية الاكتشاف للاقتصاد الإسلامي، عندما يعجز الاجتهاد الشخصي للممارس عن تكوين النقطة المناسبة للانطلاق بل إن هذا هو كل ما نحتاج اليه تقريبا بهذا الصدد. وماذا نحتاج بعد أن نكتشف مذهبا اقتصاديا، يتمتع بإمكان الصدق والدقة في التصوير، بدرجة لا تقل عن حظ أي صورة اجتهادية أخرى، وتتوفر فيها مبررات النسب الإسلامي، باعتبار انتسابها إلى مجتهدين أكفاء، وتحمل من الإسلام رخصة التطبيق في الحياة الإسلامية؟!.
خداع الواقع التطبيقي:
قد دخل المذهب الاقتصادي في الإسلام حياة المجتمع بوصفه النظام السائد في عصر النبوة، وعاش على صعيد التطبيق مجسدا في واقع العلاقات الاقتصادية، التي كانت قائمة بين أفراد المجتمع الإسلامي يومذاك. ولأجل هذا يصبح من الممكن - خلال عملية اكتشاف الاقتصاد الإسلامي - أن ندرسه ونبحث عنه على الصعيد التطبيقي، كما ندرسه ونبحث عنه على الصعيد النظري. فإن التطبيق يحدد ملامح الاقتصاد الإسلامي وخصائصه، كما
تحددها نصوص النظرية في مجالات التشريع.
ولكن النصوص التشريعية للنظرية أقدر على تصوير المذهب من الواقع التطبيقي، لأن التطبيق نص تشريعي في ظرف معين قد لا يستطيع أن يعكس المضمون الضخم لذلك النص، ولا أن يصور مغزاه الاجتماعي كاملا، فيختلف إلهام التطبيق
401

ومعطاه التصوري للنظرية عن المعطى الفكري للنصوص التشريعية نفسها. ومرد هذا الاختلاف إلى خداع التطبيق لحواس الممارس الاكتشافية، نتيجة لارتباط التطبيق بظروف موضوعية خاصة.
ويكفي مثالا على هذا الخداع: أن المماس الذي يريد أن يتعرف على طبيعة الاقتصاد الإسلامي من خلال التطبيق، قد يوحي اليه التطبيق بأن الاقتصاد الإسلام رأسمالي، يؤمن بالحرية الاقتصادية، ويفسح المجال أمام الملكية الخاصة والنشاط الفردي الحر، كما ذهب إلى ذلك - بكل صراحة - بعض المفكرين المسلمين، حين تراءى لهم أفراد المجتمع الذي عاشوا تجربة الاقتصاد الإسلامي وهم أحرار في تصرفاتهم، لا يحسون بضغط أو تحديد، ويتمتعون بحق ملكية أي ثروة يتاح لهم الاستيلاء عليها من ثروات الطبيعة، وبحق استثمارها والتصرف فيها، وليست الرأسمالية إلا هذا الانطلاق الحر، الذي كان أفراد المجتمع الإسلامي يمارسونه في حياتهم الاقتصادية.
ويضيف البعض إلى ذلك: أن تطعيم الاقتصاد الإسلامي بعناصر لا رأسمالية والقول: بأن الإسلام اشتراكي في اقتصاده، أو يحمل بذورا اشتراكية.. ليس عملا أمينا من الممارس، وإنما هو مواكبة للفكر الجديد الذي بدأ يسخط على الرأسمالية ويرفضها، ويدعو إلى تطوير الإسلام بالشكل الذي يمكن أن يستساغ في مقاييس هذا الفكر الجديد.
وأنا لا أنكر أن الفرد في مجتمع عصر النبوة كان يمارس نشاطا حرا، ويملك حريته في المجال الاقتصادي إلى مدى مهم، ولا أنكر أن هذا قد يعكس وجها رأسماليا للاقتصاد الإسلامي... ولكن هذا الوجه الذي نحسه خلال النظر من بعد إلى بعض جوانب التطبيق قد لا نحسه مطلقا خلال دراسة النظريات على الصعيد النظري.
صحيح أن الفرد الذي كان يعيش عصر النبوة يبدو لنا الآن أنه كان يتمتع بنصيب كبير من الحرية، التي قد لا يميز الممارس أحيانا بينها وبين الحريات
402

الرأسمالية، ولكن هذا الوهم يتبدد حين نرد التطبيق إلى النظرية إلى النصوص التشريعية.
والسبب في هذه المفارقة بين النظرية والتطبيق، بالرغم من أن كلا منهما تعبير عن الآخر بشكل من الأشكال.. يكمن في الظروف التي كان إنسان عصر التطبيق يعيشها، ونوع الإمكانات التي كان يملكها فإن المضمون اللا رأسمالي للنظرية في الاقتصاد الإسلامي، كان مختفيا في مجال التطبيق إلى حد ما، بقدر ما كانت إمكانات الإنسان وقدرته على الطبيعة ضئيلة ويبرز المضمون اللا رأسمالي باطراد، ويتضح في مجال التطبيق الأمين للإسلام، بقدر ما ترتفع تلك الإمكانات وتتسع تلك القدرة. فكلما امتدت قدرة الإنسان، وتنوعت وسائله في السيطرة على الطبيعة.. انفتحت أمامه مجالات أرحب للعمل والتملك والاستغلال، واتضح أكثر فأكثر تناقض النظرية في الاقتصاد الإسلامي مع الرأسمالية، وتجلى مضمونها اللا رأسمالي من حلال الحلول التي يضعها الإسلام للمشاكل المستجدة، عبر القدرة المتنامية للانسان على الطبيعة.
فإنسان عصر التطبيق كان يذهب مثلا إلى منجم ملح أو غيره، ويحمل ما يشار من المواد المعدنية، دون منع من النظرية التي كانت لها السيادة، ولا معارضة منها لملكيته الخاصة لتلك المواد. فماذا يمكن أن توحي به هذه الظاهرة في مجال التطبيق، إذا فصلت عن دراسة النص التشريعي والفقهي بشكل عام؟. إنها توحي بسيادة الحرية الاقتصادية في المجتمع، بدرجة تشبه الوضع الرأسمالي للحرية في التملك والاستثمار.
وأما إذا نظرنا إلى النظرية من خلال النصوص، وجدنا أنها توحي بشعور معاكس للشعور الذي أوحت به تلك الظاهرة في مجال التطبيق، لأن النظرية في نصوصها تمنع أي فرد عن تملك المنابع المعدنية للملح أو النفط، ولا تسمح له باستخراج ما يزيد على حاجته منها. وهذا نقيض صريح للرأسمالية التي تتبنى مبدأ الملكية الخاصة، وتفسح المجال أمام الفرد ليتملك المنابع الطبيعة للثروة المعدنية، واستغلالها استغلالا رأسماليا، بقصد المريد من الأرباح. فهل يمكن لأحد أن يطلق
403

على اقتصاد لا يعترف بحرية تملك منابع الملح والنفط، ولا بأخذ المزيد من تلك المنابع، مما يضيق على الآخرين ويضيع حقهم في الانتفاع بالمنبع.. هل يمكن أن يطلق على هذا الاقتصاد: اسم الاقتصاد الرأسمالي؟!، أو أن يبعث في نفوسنا إحساسا باللون الرأسمالي للمذهب نظير ما بعثه التطبيق من إحساس بذلك في نفوس البعض.
فيجب أن نعرف إذن: أن إنسان عصر التطبيق كان يستشعر الحرية في مجالات العمل والاستغلال، وحتى الاستفادة من منابع الملح والبترول مثلا، لأجل أنه لم يكن يستطع في الغالب - بحكم ظروف الطبيعة، وانخفاض مستوى وسائله وبدائيتها - أن يعمل ويشتغل خارج الحدود المسموح بها من قبل النظرية. فهو لا يتمكن مثلا أن يستخرج من المادة المعدنية كميات هائلة - كالكميات الهائلة التي تستخرج اليوم - لأنه لم يكن مجهزا ضد الطبيعة بما جهز به الانسان الحديث، فلا يصطدم في واقع حياته بتحديد الكمية التي يباح له استخراجها، لأنه
مهما أراد أن يستخرج بوسائله البدائية، فلن يستخرج في الغالب القدر الذي يضر بشركة الآخرين معه في الانتفاع بالمعدن. وإنما يبرز أثر النظرية بشكل صارخ، وينعكس تناقضها مع التفكير الرأسمالي، حين ترتفع إمكانات الانسان، وتنمو قدرته على غزو الطبقة ويصبح بإمكان أفراد قلائل أن يستغلوا معدنا بكامله، ويجدوا في أسواق العالم المترابطة والمفتوحة كلها مجالا لأعظم الأرباح.
وكذلك أيضا نرى مثل هذا تماما في النظرية، التي لا يسمح للفرد بأن يملك من الثروات الطبيعية والمواد الخام - كخشب الغابات مثلا - إلا ما يباشر بنفسه حيازته وإنتاجه. فإن هذه النظرية لا يمكن لإنسان عصر التطبيق أن يحس بها في حياته العملية إحساسا واضحا عميقا. ما دام العمل في ذلك العصر يقوم بصورة عامة على أساس المباشرة وما بحكمها ولكن حين تتضخم الكمية التي يمكن استخراجها وحيازتها تضخما هائلا، بسبب الأدوات والآلات، مع كمية من النقد التي يكن أن تسدد منها أجور العمال. حين يتم كل ذلك، يصبح في مستوى قدرة ذلك الفرد
404

الاعتماد على العمل. حين يتم كل ذلك، يصبح في مستوى قدرة ذلك الفرد الاعتماد على العمل المأجور، في استخراج وحيازة المواد الخام من ثروات الطبيعة.
وهذا ما تم فعلا في الواقع المعاش، إذ أصبح العمل المأجور والإنتاج الرأسمالي هو الأساس في استخراج وحيازة تلك المواد. وعند هذا فقط يظهر بشكل بارز التناقض بين النظرية في الاقتصاد الإسلامي، وبين الرأسمالية، ويبدو لكل ممارس - ما لم يكن أعمى -: أن النظرية ليست ذات طبيعة رأسمالية، وإلا فأي اقتصاد رأسمالي يحارب الأسلوب الرأسمالي في حيازة الثروات الطبيعية؟!.
وهكذا نجد أن إنسان عصر الإنتاج الرأسمالي، الذي يملك الآلات التي تقطع كميات هائلة من خشب الغابات في ساعة، وتوجد في محفظته النقود التي تغري المتعطلين من العمال بالعمل عنده، واستخدام تلك الآلات في اقتطاع الخشب، وتتوفر لديه وسائط النقل التي تنقل تلك الكميات الضخمة إلى محلات البيع، وتوجد بانتظاره الأسواق التي تهضم كل تلك الكميات.
إن هذا الفرد هو الذي سيشعر إذا عاش حياة إسلامية، بمدى مناقضة النظرية في الإسلام لمبدأ الحرية الاقتصادية في الرأسمالية، حينما لا تسمح له النظرية بإقامة مشروع رأسمالي لاقتطاع الخشب من الغابة، وبيعه بأغلى الأثمان.
فالنظرية إذن لم تبرز وجهها كله من خلال التطبيق الذي عاشته، والفرد الذي عاش تطبيقها لم يتجل له وجهها الكامل خلال المشاكل والعمليات التي مارسها في حياته، وإنما يبدو ذلك الوجه الكامل من خلال النصوص بصيغها العامة المحددة.
وأولئك الذين اعتقدوا بأن الاقتصاد الإسلامي رأسمالي، يؤمن بالحريات الرأسمالية، قد يكون لهم بعض العذر إذا كانوا قد استلهموا إحساسهم من خلال دراسة إنسان عصر التطبيق، والقدر الذي كان يشعر به من الحرية، ولكن هذا إحساس خادع، لأن إلهام التطبيق لا يكفي بدلا عن معطيات النصوص التشريعية والفقهية نفسها، التي تكشف عن مضمون لا رأسمالي. ‌‌‌
وفي الواقع: أن الاعتقاد بوجود مضمون لا رأسمالي للنظرية الاقتصادية في الإسلام على ضوء ما قدمناه.. ليس نتيجة تطوير أو تطعيم أو عطاء ذاتي جديد
405

للنظرية، كما يقول أولئك المؤمنون برأسمالية الاقتصاد الإسلامي، الذين يتهمون الاتجاه إلى تفسير الاقتصاد الإسلامي اتجاها لا رأسماليا، ويقولون عنه: إنه اتجاه منافق، يحاول إدخال عناصر غريبة في الإسلام، تملقا للمد الفكري الحديث، الذي شجب الرأسمالية في الحرية والملكية....
ونحن نملك الدليل التاريخي على تفنيد هذا الاتهام، وإثبات أمانة الاتجاه اللا رأسمالي في تفسير الاقتصاد الإسلامي، وهذا الدليل هو النصوص التشريعية والفقهية، التي نجدها في مصادر قديمة، يرجع تاريخها إلى ما قبل مئات السنين، وقبل أن يوجد العالم الحديث والاشتراكية الحديثة، بكل مذاهبها وأفكارها.
وحين نبرز التوجه اللا رأسمالي للاقتصاد الإسلامي، الذي يعرضه هذا الكتاب، ونؤكد على المفارقات بينه وبين المذهب الرأسمالي في الاقتصاد.. لا نريد بذلك أن نمنح الاقتصاد الإسلامي طابعا اشتراكيا، وندرسه في إطار المذاهب الاشتراكية، بوصفها النقيض للرأسمالية. لأن التناقض المستقطب القائم بين الرأسمالية والاشتراكية، يسمح بافتراض قطب ثالث في هذا التناقض، ويسمح للاقتصاد الإسلامي خاصة أن يحتل مركز القطب الثالث، إذا أثبت التناقض. وإنما يسمح التناقض بدخول قطب ثالث إلى الميدان، لأن الاشتراكية ليست مجرد نفي للرأسمالية، حتى يكفي لكي تكون اشتراكيا أن ترفض الرأسمالية، وإنما هي مذهب إيجابي له أفكاره ومفاهيمه ونظرياته. وليس من الحتم أن تكون هذه الأفكار والمفاهيم والنظريات صوابا إذا كانت الرأسمالية على خطأ. ولا أن يكون الإسلام اشتراكيا، إذا لم يكن رأسماليا. فليس من الأصالة والاستقلال والموضوعية في البحث، ونحن نمارس عملية اكتشاف للاقتصاد الإسلامي.. أن نحصر هذه العملية ضمن نطاق التناقض الخاص بين الرأسمالية والاشتراكية، ويندمج الاقتصاد الإسلامي بأحد القطبين المتناقضين، فنسرع إلى وصفه بالاشتراكية إذا لم يكن رأسماليا، أو بالرأسمالية إذا لم يكن اشتراكيا.
406

وسوف تتجلى خلال البحوث المقبلة أصالة الاقتصاد الإسلامي، ومناقضته للاشتراكية في موقفه من الملكية الخاصة واحترامه لها، واعترافه - في حدود مستمدة من نظريته العامة - بمشروعية الكسب الناتج عن ملكية المصدر من مصادر الإنتاج غير العمل. بينما لا تعترف الاشتراكية بمشروعية الكسب الناتج عن ملكية أي مصدر من مصادر الإنتاج، إلا العمل المباشر وهذا في الحقيقة هو التناقض بين النظرية الإسلامية والنظرية الاشتراكية في الاقتصاد. وكل مظاهر التناقض بينهما إنما تنبع من هذا المنطلق، الذي سيتضح أكثر فأكثر حين نباشر التفصيلات، ونضع النقاط على الحروف.
407

نظرية توزيع ما قبل الإنتاج
1 - الأحكام
2 - النظرية
3 - الملاحظات
409

1 - الأحكام
توزيع الثروة على مستويين (1):
توزيع الثروة يتم على مستويين: أحدهما: توزيع المصادر المادية للإنتاج والآخر
411



(أ) لاحظ جواهر الكلام، ج 16، ص 133، وج 38، ص 9.
(ب) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 17.
(ج) المصدر السابق نفس الصفحة.
(د) لاحظ المصدر السابق ص 116، و 134.
(ه‍) لاحظ المصدر السابق، ج 16، ص 133, وج 38، ص 17.
(و) لاحظ المصدر السابق، 38، ص 134، وج 36، ص 227.
(ز) لاحظ المصدر السابق، ص 78 و 94.
(ح) لاحظ المصدر السابق، ج 36، ص 203.
412

توزيع الثروة المنتجة.
فمصادر الإنتاج هي: الأرض، والمواد الأولية، والأدوات اللازمة لإنتاج السلع المختلفة. لأن هذه الأمور جميعا تساهم في الإنتاج الزراعي أو الصناعي أو فيهما معا.
والحديث عن التوزيع يجب أن يستوعب كلتا الثروتين الثروة الأم، والثروة البنت، مصادر الإنتاج، والسلع المنتجة.
ومن الواضح أن توزيع المصادر الأساسية للإنتاج يسبق عملية الإنتاج نفسها، لأن الأفراد إنما يمارسون نشاطهم الإنتاجي، وفقا للطريقة التي يقسم بها المجتمع مصادر الإنتاج. فتوزيع مصادر الإنتاج قبل الإنتاج، وأما توزيع الثروة المنتجة فهو مرتبط بعملية الإنتاج، ومتوقف عليها، لأنه يعالج النتائج التي يسفر عنها الإنتاج.
والاقتصاديون، الرأسماليون، حين يدرسون في اقتصادهم السياسي قضايا التوزيع ضمن الإطار الرأسمالي.. لا ينظرون إلى الثروة الكلية للمجتمع، وما تضمه من مصادر إنتاج، وإنما يدرسون توزيع الثروة المنتجة فحسب، أي الدخل الأهلي، لا مجموع الثروة الأهلية. ويقصدون بالدخل الأهلي: مجموع السلع والخدمات المنتجة، أو بتعبير أصرح: القيمة النقدية لمجموع المنتوج في بحر سنة مثلا، فبحث التوزيع في الاقتصاد السياسي هو بحث توزيع هذه القيمة النقدية على العناصر التي ساهمت في الإنتاج، فيحدد لكل من رأس المال، والأرض، والمنظم، والعامل.. نصيبه على شكل فائدة وريع، وربح وأجور.
ولأجل ذلك كان من الطبيعي أن تسبق بحوث الإنتاج بحث التوزيع، لأن التوزيع ما دام يعني تقسيم القيمة النقدية للسلع المنتجة على مصادر الإنتاج وعناصره.. فهو عملية تعقب الإنتاج، إذ ما لم تنتج سلعة لا معنى لتوزيعها أو توزيع
413

قيمتها. وعلى هذا الأساس نجد أن الاقتصاد السياسي يعتبر الإنتاج هو الموضوع الأول من مواضيع البحث، فيدرس الإنتاج أولا، ثم يتناول قضايا التوزيع.
وأما الإسلام فهو يعالج قضايا التوزيع على نطاق أرحب وباستيعاب أشمل، لأنه لا يكتفي بمعالجة توزيع الثروة المنتجة، ولا يتهرب من الجانب الأعمق للتوزيع، أي توزيع الإنتاج، كما صنعت الرأسمالية المذهبية، إذ تركت مصادر الإنتاج يسيطر عليها الأقوى دائما، تحت شعار الحرية الاقتصادية، التي تخدم الأقوى وتمهد له السبيل إلى احتكار الطبيعة ومرافقها بل إن الإسلام تدخل تدخلا إيجابيا في توزيع الطبيعة، وما تضمه من مصادر إنتاج، وقسمها إلى عدة أقسام، لكل قسم طابعه المميز من الملكية الخاصة، أو الملكية العامة، وملكية الدولة، أو الإباحة العامة.. ووضع لهذا التقسيم قواعده، كما وضع إلى صف ذلك أيضا القواعد التي يقوم على أساسها توزيع الثروة المنتجة، وصمم التفصيلات في نطاق تلك القواعد.
ولهذا السبب تصبح نقطة الانطلاق، أو المرحلة الأولى في الإقتصاد الإسلامي هي: التوزيع، بدلا من الإنتاج، كما كان في الإقتصاد السياسي التقليدي لأن توزيع مصادر الإنتاج نفسها يسبق عملية الإنتاج، وكل تنظيم يتصل بنفس عملية الإنتاج أو السلع المنتجة يصبح في الدرجة الثانية.
وسوف نبدأ الآن بتحديد موقف الإسلام من توزيع المصادر الأساسية، توزيع الطبيعة بما تضمه من ثروات.
المصدر الأصيل للإنتاج:
وقبل أن نبدأ بالتفصيلات التي يتم توزيع المصادر الأساسية وفقا لها، يجب أن نحدد هذه المصادر.
ففي الاقتصاد السياسي يذكر عادة أن مصادر الإنتاج هي:
1 - الطبيعة.
2 - رأس المال.
3 - العمل، ويضم التنظيم الذي يمارسه المنظم للمشروع.
414

غير أننا إذ نتحدث عن توزيع المصادر في الإسلام وأشكال ملكيتها.. لابد لنا أن نستبعد من مجال البحث المصدرين الأخيرين، وهما: رأس المال، والعمل.
أما رأس المال فهو في الحقيقة ثروة منتجة، وليس مصدرا أساسيا للإنتاج، لأنه يعبر اقتصاديا عن كل ثروة تم إنجازها، وتبلورت خلال عمل بشري لكي تساهم من جديد في إنتاج ثروة أخرى. فالآلة التي تنتج النسيج ليس ثروة طبيعية خالصة، وإنما هي مادة طبيعية، كيفها العمل الإنساني خلال عملية إنتاج سابقة. ونحن إنما نبحث الآن في التفصيلات التي تنظم توزيع ما قبل الإنتاج، أي توزيع الثروة التي منحها الله لمجتمع قبل أن يمارس نشاطا اقتصاديا وعملا إنتاجيا فيها. وما دام رأس المال وليد إنتاج سابق، فسوف يندرج توزيعه في بحث توزيع الثروة المنتجة، بما تضمه من سلع استهلاكية وإنتاجية.
وأما العمل فهو العنصر المعنوي من مصادر الإنتاج، وليس ثروة مادية تدخل في نطاق الملكية الخاصة أو العامة.
وعلى هذا الأساس تكون الطبيعة وحدها من بين مصادر الإنتاج موضوع درسنا الآن، لأنها تمثل العنصر المادي السابق على الإنتاج.
اختلاف المواقف المذهبية من توزيع الطبيعة:
والإسلام في علاجه لتوزيع الطبيعة، يختلف عن الرأسمالية والماركسية في العموميات وفي التفاصيل.
فالرأسمالية تربط
415

ملكية مصادر الإنتاج، ومصير توزيعها بأفراد المجتمع أنفسهم، وما يبذله كل واحد منهم من طاقات وقوى - داخل نطاق الحرية الاقتصادية الموفرة للجميع - في سبيل الحصول على أكبر نصيب ممكن من تلك المصادر.. فتسمح لكل فرد بتملك ما ساعده الحظ وحالفة التوفيق على الظفر به، ثروات الطبيعة ومرافقها.
وأما الماركسية فهي ترى تبعا لطريقتها العامة في تفسير التاريخ: أن ملكية مصادر الإنتاج تتصل اتصالا مباشرا بشكل الإنتاج السائد، فكل شكل من أشكال الإنتاج هو الذي يقرر - في مرحلته التاريخية - طريقة توزيع المصادر المادية للإنتاج، ونوع الأفراد الذين يجب أن يملكوها. ويظل شكلا جديدا فيضيق هذا الشكل الجديد ذرعا بنظام التوزيع السابق، ويتعثر به في طريق نموه وتطوره، حتى يتمزق نظام التوزيع القديم، بعد تناقض مرير مع شكل الإنتاج الحديث، وينشأ توزيع جديد لمصادر الإنتاج، يحقق لشكل الإنتاج الحديث الشروط الاجتماعية التي تساعده على النمو والتطور. فتوزيع مصادر الإنتاج يقوم دائما على أساس خدمة الإنتاج نفسه، ويتكيف وفقا لمتطلبات نموه وارتقائه.
ففي مرحلة الإنتاج الزراعي من التاريخ، كان شكل الإنتاج يحتم إقامة توزيع المصادر على أساس إقطاعي، بينما تفرض المرحلة التاريخية للإنتاج الصناعي الآلي، إعادة التوزيع من جديد على أساس امتلاك الطبقة الرأسمالية لكل مصادر الإنتاج، وفي درجة معينة من نمو الإنتاج الآلي يصبح من المحتوم تبديل الطبقة الرأسمالية بالطبقة العاملة، وإعادة التوزيع على هذا الأساس.
والإسلام لا يتفق في مفهومه عن توزيع ما قبل الإنتاج مع الرأسمالية، ولا مع الماركسية، فهو لا يؤمن بمفاهيم الرأسمالية عن الحرية الاقتصادية، كما مر بنا في بحث (مع الماركسية) (1). وكذلك لا يقر الصلة الحتمية، التي تضعها الماركسية بين ملكية المصادر وشكل الإنتاج السائد، كما رأينا في بحث (اقتصادنا في معالمه الرئيسية) (2). وهو لذلك يحد من حرية تملك الأفراد لمصادر الإنتاج، ويفصل توزيع تلك المصادر عن شكل الإنتاج، لأن المسألة في نظر الإسلام ليست مسألة أداة إنتاج، تتطلب نظاما للتوزيع يلائم سيرها

(1) راجع ص 259 - 277 من الكتاب.
(2) راجع ص 321 - 330 من الكتاب.
416

ونموها، لكي يتغير التوزيع كلما استجدت حاجة الإنتاج إلى تغيير، وتوقف نموه على توزيع جديد، وإنما هي مسألة انسان له حاجات وميول، يجب إشباعها في إطار يحافظ على انسانيته وينميها. والانسان هو الإنسان، بحاجاته العامة ميوله الأصيلة، سواء كان يحرث الأرض بيديه، أو يستخدم قوى البخار والكهرباء، ولهذا يجب أن يتم توزيع المصادر الطبيعية للإنتاج بشكل يكفل إشباع تلك الحاجات والميول، ضمن إطار إنساني يتيح للانسان أن ينمي وجوده وإنسانيته داخل الإطار العام.
فكل فرد - بوصفه إنسانا خاصا - له حاجات لا بد من إشباعها، وقد أتاح الإسلام للأفراد إشباعها عن طريق الملكية الخاصة، التي أقرها ووضع لها أسبابها وشروطها.
وحين تقوم العلاقات بين الأفراد، ويوجد المجتمع، يكون لهذا المجتمع حاجاته العامة أيضا. التي تشمل كل فرد بوصفه جزءا من المركب الاجتماعي. وقد ضمن الإسلام للمجتمع إشباع هذه الحاجات، عن طريق الملكية العامة لبعض مصادر الإنتاج.
وكثيرا ما لا يتمكن بعض الأفراد من إشباع حاجاتهم عن طريق الملكية الخاصة فيمنى هؤلاء بالحرمان، ويختل التوازن العام، وهنا يضع الإسلام الشكل الثالث للملكية، ملكية الدولة، ليقوم ولي الأمر بحفظ التوازن العام.
وهكذا يتم توزيع المصادر الطبيعية للإنتاج، بتقسيم هذه المصادر إلى حقول الملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة.
مصادر الطبيعة للإنتاج:
ويمكننا تقسم المصادر الطبيعية للإنتاج في العالم الإسلامي إلى عدة أقسام (1):
1 - الأرض: وهي أهم ثروات الطبيعة، التي لا يكاد الانسان يستطيع بدونها أن

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 16، ص 132.
417

يمارس أي لون من ألوان الإنتاج.
2 - المواد الأولية التي تحويها الطبقة اليابسة من الأرض، كالفحم والكبريت والبترول والذهب والحديد، ومختلف أنواع المعادن.
3 - المياه الطبيعة التي تعتبر شرطا من شروط الحياة المادية للانسان، وتلعب دورا خطيرا في الإنتاج الزراعي والمواصلات.
4 - بقية الثروات الطبيعية، وهي محتويات البحار والأنهار من الثروات التي تستخرج بالغوص أو غيره، كاللئالئ والمرجان، والثروات الطبيعية المنتشرة في الجو، كالطيور والأوكسجين، والقوى الطبيعية المنبثة في أرجاء الكون، كقوة انحدار الشلالات من الماء التي يمكن تحويلها إلى سيال كهربائي، ينتقل بواسطة الأسلاك إلى أي نقطة، وغير ذلك من ذخائر الطبيعة وثروتها.
418

الأرض
طبقت الشريعة على الأرض التي تضمها دار الإسلام الأشكال الثلاثة للملكية، فحكمت على قسم منها الملكية العامة، وعلى قسم آخر بملكية الدولة، وسمحت للملكية الخاصة بقسم ثالث.
وهي في تشريعاتها هذه تربط نوع ملكية الأرض بسبب دخولها في حوزة الإسلام، والحالة التي كانت تسودها حين أصبحت أرضا إسلامية. فملكية الأرض في العراق تختلف عن ملكية الأرض في أندونيسيا، لأن العراق وأندونيسيا يختلفان في طريقة انضمامهما إلى دار الإسلام كما أن العراق نفسه مثلا تختلف بعض أراضيه عن بعض في نوع الملكية، تبعا للحالة التي كانت تسود هذه الأرض وتلك، عندما دشن العراق حياته الإسلامية.
ولكي ندخل في التفصيلات، نقسم الأرض الإسلامية إلى أقسام، ونتحدث عن كل قسم منها ونوع الملكية فيه.
1 - الأرض التي أصبحت إسلامية بالفتح
الأرض التي أصبحت إسلامية بالفتح هي: كل أرض دخلت دار الإسلام نتيجة للجهاد المسلح في سبيل الدعوة، كأراضي العراق ومصر وإيران وسورية وأجزاء كثيرة من العالم الإسلامي.
419

وهذه الأراضي ليست جميعا سواء في حالتها لحظة الفتح الإسلامي، فقد كان فيها العامر الذي تجسدت فيه جهود بشرية سابقة، قد بذلت في سبيل استثمار الأرض للزراعة، أو غيرها من المنافع البشرية. وكان فيها العامر طبيعيا، دون تدخل مباشر من الانسان، كالغابات الغنية بأشجارها التي استمدت غناها من الطبيعة لا من إنسان يوم الفتح. كما كان فيها أيضا الأرض المهملة، التي لم يمتد إليها الاعمار البشري حتى عصر الفتح، ولا الاعمار الطبيعي، ولهذا تسمى ميتة في العرف الفقهي، لأنها لا تنبض بالحياة ولا تزخر بأي نشاط.
فهذه أنواع ثلاثة للأرض، مختلفة تبعا لحالتها وقت دخولها في تاريخ الإسلام.
وقد حكم الإسلام على بعض هذه الأنواع بالملكية العامة، وعلى بعضها الآخر بملكية الدولة، كما سنرى.
أ - الأرض العامرة بشريا وقت الفتح
إذا كانت الأرض عامرة بشريا وقت اندماجها في تاريخ الإسلام، وداخلة في حيازة الانسان ونطاق استثماره.. فهي ملك عام للمسلمين جميعا، من وجد منهم ومن يوجد، أي ان الأمة الإسلامية بامتدادها التاريخي هي التي تملك هذه الأرض، دون أي امتياز لمسلم على آخر في هذه الملكية العامة. ولا يسمح للفرد بتملك رقبة الأرض ملكية خاصة.
وقد نقل المحقق النجفي في الجواهر - عن عدة مصادر فقهية كالغنية والخلاف والتذكرة -: ان فقهاء الامامية مجمعون على هذا الحكم، ومتفقون على تطبيق مبدأ الملكية العامة على الأرض المعمورة حال الفتح (1). كما نقل الماوردي عن الإمام مالك: القول بأن الأرض المفتوحة تكون وقفا على المسلمين منذ فتحها، بدون حاجة إلى إنشاء صيغة الوقف عليها من ولي الأمر. ولا يجوز تقسيمها بين الغانمين (2). وهو تعبير آخر عن الملكية العامة للأمة.

(1) جواهر الكلام ج 21، ص 157.
(2) الأحكام السلطانية ج 2، ص 137.
420

أدلة الملكية العامة وظواهرها:
ونصوص الشريعية وتطبيقاتها واضحة في تقرير مبدأ الملكية العامة لهذا النوع من الأرض، كما يظهر من الروايات التالية:
1 - في الحديث عن الحلبي قال: (سئل الإمام جعفر بن محمد الصادق عن السواد ما منزلته فقال: هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ولمن لم يخلق بعد. فقلنا الشراء من الدهاقين. فقال: لا يصلح إلا أن يشتري منهم على أن يصيرها للمسلمين. فإذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها. قلنا فإن أخذها منه؟ قال: يرد اليه رأس ماله وله ما أكل من غلتها بما عمل) (1).
2 - وفي حديث عن أبي الربيع الشامي عن الإمام جعفر الصادق قال: (لا تشتروا من أرض السواد شيئا إلا من كانت له ذمة فإنما هو فيء للمسلمين) (2) وأرض السواد في العرف السائد يومذاك هي: الجزء العامر من أراضي العراق التي فتحها المسلمون في حرب جهادية. وإنما أطلق المسلمون هذا الاسم على الأرض
العراقية، لأنهم حين خرجوا من أرضهم القاحلة في جزيرة العرب يحملون الدعوة إلى العالم.. ظهرت لهم خضرة الزرع والأشجار في أراضي العراق. فسموا خضرة العراق سوادا، لأنهم كانوا يجمعون بين الخضرة والسواد في الاسم.
3 - وفي خبر حماد ان الإمام موسى بن جعفر قال: (وليس لمن قاتل شيء من الأرضين ولا ما غلبوا عليه إلا ما احتوى عليه العسكر... والأرض التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوتة متروكة في يدي من يعمرها ويحييها ويقوم عليها على ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحق النصف والثلث والثلثين على قدر ما يكون لهم صالحا ولا يضرهم) (3).

(1) الاستبصار ج 3، ص 109، الحديث 384.
(2) الوسائل ج 12، ص 274، الحديث 22767.
03) الفروع من الكافي ج 5، ص 44.
421

ويعني بذلك أن ولي الأمر يدع الأراضي المفتوحة عنوة إلى القادرين على استثمارها من أفراد المجتمع الإسلامي، ويتقاضى منهم أجرة على الأرض لأنها ملك مجموع الأمة، فحينما ينتفع الزارعون باستثمارها يجب عليهم تقديم ثمن انتفاعهم إلى الأمة. وهذا الثمن أو الأجرة هو الذي أطلق عليه في الخبر اسم: الخراج.
4 - وجاء في الحديث: أن أبا بردة سأل الإمام جعفر عن شراء الأرض من أرض الخراج، فقال: ((ومن يبيع ذلك وهي أرض المسلمين)) (1).
وأرض الخراج تعبير فقهي عن الأرض التي نتحدث عنها، لأن الأرض التي تفتح وهي عامرة يفرض عليها خراج، كما مر في الخبر السابق، وتسمى لأجل ذلك أرضا خراجية.
5 - وفي رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وهو يشرح أقسام الأرض وأحكامها: ((وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام، يقبله بالذي يرى)) (2).
6 - وفي تاريخ الفتوح الإسلامية: أن الخليفة الثاني طولب بتقسيم الأرض المفتوحة بين المحاربين من الجيش الإسلامي، على أساس مبدأ الملكية الخاصة، فاستشار الصحابة، فأشار عليه علي عليه السلام بعدم التقسيم، وقال له معاذ بن جبل: ((إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد، أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا، وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم فقضى عمر بتطبيق مبدأ الملكية العامة، وكتب إلى سعد بن أبي وقاص: ((أما بعد فقد بلغني كتابك أن الناس قد سألوا أن تقسم بينهم غنائمهم، وما أفاء الله عليهم، فانظر ما أجلبوا به عليك في العسكر من كراع أو مال فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين

(1) الوسائل ج 11، ص 118، الحديث 20199.
(2) الوسائل ج 11، ص 120، الحديث 20206.
422

والأنهار لعمالهما، ليكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنا لو قسمناها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيء)) (1).
وقد ذهب جماعة في تفسير اجراءات الخليفة الثاني إلى القول: بأن السواد ملك لأهله - كما جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد - لأنه حين رده عليهم عمر صارت لهم رقاب الأرض، وتعين حق المسلمين في الخراج، فالملكية العامة تعلقت بالخراج لا برقبة الأرض (2).
وقد قال بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين، ممن أخذ بهذا التفسير أن هذا تأميم للخراج وليس تأميما للأرض.
ولكن الحقيقة: أن قيام إجراءات عمر على أساس الايمان بمبدأ الملكية العامة، وتطبيقه على رقبة الأرض.. كان واضحا كل الوضوح، ولم يكن ترك الأرض لأهلها اعترافا منه بحقهم في ملكيتها الخاصة، وإنما دفعها إليهم مزارعه أو إجارة، ليعملوا في أراضي المسلمين وينتفعوا بها، نظير خراج يقدمونه إليهم.
والدليل على ذلك ما جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد، من أن عتبة ابن فرقد اشترى أرضا على شاطئ الفرات، ليتخذ فيها قضبا،، فذكر ذلك لعمر فقال: ممن اشتريتها؟، قال: من أربابها. فلما اجتمع المهاجرون والأنصار عند عمر قال: هؤلاء أهلها، فهل اشتريت منهم شيئا؟. قال: لا، قال: فارددها على من اشتريتها منه، وخذ مالك (3).
7 - وعن أبي عون الثقفي في كتاب الأموال. أنه قال: أسلم دهقان على عهد علي (ع)، فقام الإمام عليه الصلاة والسلام وقال: ((أما أنت فلا جزية عليك، وأما أرضك فلنا)) (4).

(1) لاحظ الأموال ص 64 و 65، الأحاديث 150 و 1651 و 152.
(2) لاحظ الأموال ص 62، الحديث 146.
(3) الأموال ص 84 الحديث 196.
(4) الأموال ص 87، الحديث 206.
423

8 - وفي البخاري عن عبد الله قال ((أعطى النبي خيبرا ليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها)) (1). وهذا الحديث يشع بتطبيق رسول الله صلى الله علية وآله لمبدأ الملكية العامة على خيبر، بوصفها مفتوحة في الجهاد، بالرغم من وجود روايات معارضة. لأن النبي (ص) لو كان قد قسم الأرض بين المحاربين خاصة، على أساس مبدأ الملكية الخاصة، بدلا عن تطبيق مبدأ الملكية العامة.. لما دخل مع اليهود في عقد مزارعة بوصفه حاكما. فإن دخوله بهذا الوصف في العقد، يشير إلى أن الأرض كان أمرها موكولا إلى الدولة، لا إلى الأفراد الغانمين أنفسهم.
وقد ذكر بعض المفكرين الإسلاميين: أن حادثة معاملة خيبر هذه دليل قطعي، على أن من حق الدولة أن تمتلك أموال الأفراد، الأمر الذي يقرر جواز التأميم في الإسلام، لأن القاعدة العامة في الفيء تقسيمه على المقاتلين، فالاحتفاظ به للدولة دون تقسيم على مستحقيه، تخويل للدولة في أن تضع يدها على حقوق رعاياها، متى رأت في ذلك مصلحة تقتضيها سعادة المجموع فصح إذن: إن للدولة حق تأميم الملكيات الخاصة.
ولكن الحقيقة أن احتفاظ الدولة بالأراضي المفتوحة، وعدم تقسيمها بين المقاتلين كما تقسم سائر الغنائم، ليس تطبيقا لمبدأ التأميم، وإنما هو تطبيق لمبدأ الملكية العامة. فإن الأرض المفتوحة لم تشرع فيها الملكية الخاصة، وتقسم الفيء: (الغنيمة) مبدأ وضعه الشارع في الغنائم المنقولة فقط. فالملكية العامة للأرض المفتوحة إذن طابع أصيل لها في التشيع الإسلامي، وليست تأميما وتشريعا ثانويا، بعد تقرير مبدأ الملكية الخاصة.
وعلى أي حال، فإن أكثر النصوص التي قدمناها تقرر: أن رقبة الأرض - أي نفس الأرض - ملك لمجموع الأمة، ويتولى الإمام رعايتها بوصفه ولي الأمر، ويتقاضى من المنتفعين بها خراجا خاصا، يقدمه المزارعون أجرة على انتفاعهم

(1) صحيح البخاري ج 16، ص 115، الحديث 3963.
424

بالأرض. والأمة هي التي تملك الخراج، لأنها ما دامت تملك رقبة الأرض، فمن الطبيعي أن تملك منافعها وخراجها أيضا.
مناقشة لأدلة الملكية الخاصة:
وفي الباحثين الإسلاميين - معاصرين وغير معاصرين - من يتجه إلى القول بخضوع الأرض المفتوحة عنوة لمبدأ التقسيم بين المقاتلين، على أساس الملكية الخاصة، كما تقسم سائر الغنائم بينهم (1).
ويعتمد هؤلاء فقهيا على أمرين: أحدهما: آية الغنيمة. والآخر، ما هو المأثور من سيرة رسول الله (ص) في تقسيم غنائم خيبر.
أما آية الغنيمة فهي قوله تعالى في سورة الأنفال: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل..} الآية (2).
وهي في رأي هؤلاء تقتضي بظاهرها: أن كل ما غنم يخمس وبالتالي يقسم الباقي منه على الغانمين، دون فرق بين الأرض وغيرها من الغنائم. ولكن الحقيقة أن قصارى ما تدل عليه الآية الكريمة هو وجوب اقتطاع خمس الغنيمة بوصفها ضريبة تتقاضاها الدولة لصالح: ذي القربى، والمساكين، والأيتام، وابن السبيل. ولنفترض أن هذه الضريبة تقتطع من الأرض أيضا، فإن ذلك لا يشرح بحال من الأحوال مصير الأخماس الأربعة الأخرى، ولا نوع الملكية التي يجب أن تطبق عليها. لأن الخمس - باعتباره ضريبة لصلاح فئات معينة من الفقراء وأشباههم - كما يمكن أن يفرض لحساب هذه الفئات، على ما يملكه المحاربون ملكية خاصة من الغنائم المنقولة، كذلك يمكن أن يفرض لحساب تلك الفئات أيضا، على ما تملكه الأمة ملكية عامة من الأرض المفتوحة. فلا توجد إطلاقا صلة بين التخميس

جواهر الكلام ج 21، ص 157، والأحكام السلطانية ج 2، ص 137.
(2) الأنفال / 41.
425

والتقسيم فقد يخضع مال لمبدأ التخميس، ولكن ليس من الضروري أن يقسم بين المحاربين على أساس الملكية الخاصة. فآية التخميس لا تدل على التقسيم بين المحاربين إذن. وبكلمة أخرى أن الغنيمة التي تتحدث عنها آية الغنيمة إما أن تكون بمعنى الغنيمة الحربية أي ما تم الاستيلاء عليه بالحرب وإما أن تكون بمعنى الغنيمة الشرعية أي ما تملكه الانسان بحكم الشارع من أموال. فإذا فسرنا الكلمة بالمعنى الأول فليس في الآية الكريمة أي دلالة على أن غير الخمس من الغنيمة يعتبر ملكا للمحاربين في كل الحالات، وإذا فسرنا الكلمة بالمعنى الثاني كانت الآية بنفسها تفترض ملكية المخاطبين للمال كموضوع لها فكأنها قالت: إذا ملكتم مالا فالخمس ثابت فيه وفي هذه الحالة لا يمكن أن تعتبر الآية دليلا على ملكية المحاربين للغنيمة لأنها لا تحقق موضوعها ولا تثبت شرطها.
وأما المأثور من سيرة النبي صلى الله عليه وآله في تقسيم غنائم خيبر، فهو الدليل الثاني الذي استند اليه هؤلاء المؤمنون بتقسيم الأرض بين المحاربين خاصة، اعتقادا منهم بأن النبي (ص) طبق على أراضي خيبر مبدأ الملكية الخاصة، وقسمها بين المحاربين الذين فتحوها.
ولكنا نشك في صواب هذه الاعتقاد كل الشك، حتى لو افترضنا المقاتلين. لأن التاريخ العام الذي ينقل هذا، يحدثنا عن ظواهر أخرى في سيرته الرائدة، تساهم في فهم القواعد التي طبقها النبي (ص) على غنايم خيبر. ‌‌‌‌
فهناك ظاهرة احتفاظ النبي (ص) بجزء كبير من خيبر لمصالح الدولة والأمة.
فقد جاء في سنن أبي داود عن سهل بن أبي حشمة: أن رسول الله (ص) قسم خيبر نصفين، نصفا لنوائبه وحاجاته، ونصفا بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما (1)

(1) مختصر سنن أبي داود ج 4، ص 237، الحديث 2890.
426

وعن بشير بن يسار مولى الأنصار، عن رحال من أصحاب النبي (ص) ((أن رسول الله (ص) لما ظهر على خيبر، قسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مئة سهم، فكان لرسول الله (ص) وللمسلمين النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس)) (1).
وعن ابن يسار أنه قال: ((لما أفاء الله على نبيه خيبر، قسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مئة سهم، فعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به: (الوطيحة) و (الكتيبة) وما أحيز معها، وعزل النصف الآخر فقسمه بين المسلمين: (الشق) و (النطأة) وما أحيز معهما، وكان سهم رسول الله فيها أحيز معهما)) (2).
وهناك ظاهرة أخرى وهي: أن رسول الله (ص) كان يمارس بنفسه السيطرة على أراضي خيبر، بالرغم من تقسيم جزء منها على الأفراد، إذ باشر الاتفاق مع اليهود على مزارعة الأرض، ونص على أن له الخيار في إخراجهم متى شاء (3).
فقد جاء في سنن أبي داود: ((أن النبي (ص) أراد أن يجلي اليهود عن خيبر، فقالوا: يا محمد دعنا نعمل في الأرض، ولنا الشطر ما بدا لك ولكم الشطر)) (4).
وفي سنن أبي داود أيضا عن عبد الله بن عمر: ((أن عمر قال أيها الناس إن رسول اله (ص) كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا فمن كان له مال فليلحق به، فإني مخرج يهود خيبر، فأخرجهم)) (5).
وعن عبد الله بن عمر أيضا أنه قال: ((لما افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله (ص): أن يقرهم على أن يعملوا على النصف مما خرج منها، فقال رسول الله:

(1) المصدر السابق، ص 238، الحديث 2891.
(2) المصدر السابق، ص 238، الحديث 2893.
(3) لاحظ الوسائل ج 13، ص 199، الباب 7، الحديث 1 و 2 و 8، والسيرة النبوية ج 3، ص 352.
(4) مختصر سنن أبي داود ج 4، ص 236.
(5) المصدر السابق.
427

أقركم فيها على ذلك ما شئنا، فكانوا على ذلك، وكان التمر يقسم على السهمان في نصف خيبر، ويأخذ رسول الله الخمس)) (1).
ونقل أبو عبيد في كتاب الأنوال عن ابن عباس أنه قال: ((دفع رسول الله (ص) خيبر - أرضها ونخلها - إلى أهلها، مقاسمة على النصف)) (2).
ونحن إذا جمعنا بين هاتين الظاهرتين من سيرة النبي (ص): بين احتفاظه بجزء كبير من خيبر لمصالح المسلمين وشؤون الدولة، وبين ممارسته بوصفه ولي الأمر لشؤون الجزء الآخر أيضا، الذي نفترض أنه قد قسمه بين المقاتلين.. إذا جمعنا بين ذلك كله، نستطيع ان نضع للسيرة النبوية تفسيرا ينسجم مع النصوص التشريعية السابقة، التي تقرر مبدأ الملكية العامة في الأرض المفتوحة، فإن من الممكن أن يكون رسول الله (ص) قد طبق على أرض خيبر مبدأ الملكية العامة، الذي يقتضي تملك الأمة لرقبة الأرض، ويحتم لزوم استخدامها في مصالح الأمة وحاجاتها العامة.
والحاجات العامة للأمة يومئذ كانت من نوعين: أحدهما تيسير نفقات الحكومة، التي تنفقها خلال ممارستها لواجبها في المجتمع الإسلامي. والآخر: إيجاد التوازن الاجتماعي ورفع المستوى العام، الذي كان مترديا إلى درجة قالت السيدة عائشة في وصفه: ((إنا لم نشبع من التمر حتى فتح الله خيبر)) (3). فإن هذه الدرجة من التردي التي تقف حائلا دون تقدم المجتمع الفتي، وتحقيق مثله في الحياة، يعتبر علاجها حاجة عامة للأمة.
وقد حققت السيرة النبوية اشباع كلا النوعين من الحاجات العامة للأمة فالنوع الأول ضمن النبي إشباعه بالنصف الذي حدثتنا الراويات السابقة عن تخصيصه للنوائب والوفود ونحو ذلك. والنوع الثاني من الحاجات عولج عن طريق تخصيص ريع النصف الآخر من أرض خيبر لمجموعة كبيرة من المسلمين، ليساعد ذلك على

(1) المصدر السابق.
(2) الأموال ص 82، الحديث 191.
(3) لاحظ صحيح البخاري ج 16، ص 114، الحديث 3960.
428

تجنيد الطاقات العامة في المجتمع الإسلامي، وفسح المجال أمامها لمستوى أرفع. فلم يكن يعني تقسيم نصف خيبر على عدد كبير من المسلمين منهم ملكية رقبة الأرض، وإخضاعها لمبدأ الملكية الخاصة، وإنما هو تقسيم للأرض باعتبار ريعها ومنافعها مع بقاء رقبتها ملكا عاما.
وهذا هو الذي يفسر لنا مباشرة ولي الأمر للتصرفات التي تتصل بأرض خيبر، بما فيها سهم الأفراد، لأن رقبة الأرض ما دامت ملكا للأمة فيجب أن يكون وليها هو الذي يتولى شؤونها.
كما يفسر لنا شمول التقسيم لبعض الأفراد، ممن لم يساهم في معركة خيبر. كما نص على ذلك عدد من المحدثين والمؤرخين فان هذا يعزز موقفنا في تفسير هذا التقسيم على أساس محاولة إيجاد التوازن في المجتمع بدلا عن تفسيره بوصفه تطبيقا لمبدأ توزيع الغنيمة على المقاتلين الذي لا يسمح بمشاركة غيرهم، وتوجد آية أخرى استدل بها بعض القائلين بالملكية الخاصة وهي قوله تعالى {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها} (1) على أساس أن الآية اعتبرت الأرض ميراثا للجماعة التي خاطبتهم وهو المؤمنون المعاصرون لنزول الآية وهذا ينفي ملكيتها للأمة على امتدادها وقد ساوت الآية بين الأرض والأموال وساقتها مساقا واحدا وهذا يعني أن الوارث للأموال هو الوارث للأرض ومن الواضح أن الأموال تختص بالمقاتلين فكذلك الأرض. ونلاحظ بهذا الصدد أن الآية الكريمة قد عطفت على أرضهم وأموالهم أرضا وصفتها بأنها لم يطأها المسلمون والمقصود بهذه الأرض إما الأرض التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وفر أهلها خوفا من المسلمين واما الأرض التي كانت من المقدر أن تفتح بعد ذلك كأراضي الفرس والروم كما قيل في كتب التفسير. فإذا أخذنا بالفرضية الأولى في تفسير هذه الفقرة - كما هو الظاهر لأن الآية
429

تدل على أنها قد تم توريثها فعلا للمسلمين - كانت تعبيرا عن نوع من الأنفال الذي ترجع ملكيته إلى الله ورسوله لا إلى المسلمين وهذا يشكل قرينة على أن المقصود بإرث المسلمين لتلك الأشياء انتقال السيطرة والاستيلاء إليهم لا انتقال الملكية بالمعنى الشرعي فلا تكون في الآية دلالة على نوع الملكية للأرض.
وإذا أخذنا بالفرضية الثانية في تفسير تلك الفقرة كانت قرينة على أن الآية ليست متجهة نحو المعاصرين نزولها فحسب بل نحو الأمة على امتدادها لأن فتح الأرضي في المعارك المستقبلة قد لا يشهده المعاصرون بوصفهم أفرادا وإنما يشهدونه بوصفهم تعبيرا عن الأمة الممتدة تاريخيا فيتناسب توريث الأرض في الآية الكريمة عندئذ مع الملكية العامة للمسلمين. وأما الاستناد إلى وحدة لإثبات أن من ملكوا الأرض هو بعينهم من ملكوا الأموال - أي المقاتلين خاصة - فهو غير صحيح لأنه يؤدي إلى جعل الآية خطابا للمقاتلين خاصة مع أن ظاهر الآية الكريمة الاتجاه نحو الجماعة المسلمة المعاصرة كلها فلا بد من اعطاء التوريث معنى غير التمليك بالمعنى
الحرفي الذي يختص بالمقاتلين في الأموال المغتنمة وهو إما السيطرة أو دخول ملكية تلك الأشياء في حوزتهم سواء اتخذت شكل الملكية الخاصة أو العامة فتكون الآية الكريمة في قوة قولنا: ومكنكم من أرضهم وأموالهم، أو قولنا: وضممنا ملكية أرضهم وأموالهم إلى حوزتكم، فلا تكون في الآية دلالة على أن المالك بالمعنى الحرفي للكلمة واحد في الأموال وفي الأراضي.
والنتيجة التي نخرج بها من كل ذلك هي: أن الأرض المفتوحة مملوكة بالملكية العامة للمسلمين، إذا كانت عامرة حال الفتح (1). وهي باعتبارها ملكا عاما للأمة ووقفا على مصالحها العامة. لا تخضع لأحكام الإرث، ولا ينتقل ما يملكه الفرد المسلم منها - بوصفه فردا من الأمة - إلى ورثته، بل لكل مسلم الحق فيها بوصفه

(1) راجع الملحق رقم 1.
430

مسلما فحسب. وكما لا تورث الأرض الخراجية لا تباع أيضا، لأن الوقف لا يجوز بيعه. فقد قال الشيخ الطوسي في المبسوط: أنه ((لا يصح التصرف ببيع فيها وشراء، ولا هبة، ولا معارضة، ولا تملك، ولا إجارة ولا إرث)) (1). وقال مالك: ((لا تقسم الأرض، وتكون وقفا يصرف خراجها في مصالح المسلمين: من أرزاق المقاتلة وبناء القناطر والمساجد، وغير ذلك من سبل الخير)) (2).
وحين تسلم الأرض إلى المزارعين لاستثمارها، لا يكتسب المزارع حقا شخصيا ثابتا في رقبة الأرض، وإنما هو مستأجر يزرع الأرض ويدفع الأجرة أو الخراج، وفقا للشروط المتفقة عليها في العقد. وإذا انتهت المدة المقررة انقطعت صلته بالأرض، ولم يجز له استثمارها والتصرف فيها إلا بتجديد العقد، والاتفاق مع ولي الأمر مرة أخرى.
وقد أكد ذلك بكل وضوح الفقيه الأصفهاني في تعليقه على المكاسب: نافيا اكتساب الفرد أي حق شخصي في الأرض الخراجية، زائدا على حدود إذن ولي الأمر في عقد الإجارة الذي يسمح له بالانتفاع بالأرض واستثمارها نظير أجرة خلال مدة محددة (3).
وإذا أهملت الأرض الخراجية حتى خربت وزالت عمارتها، لم تفقد بذلك صفة الملكية العامة للأمة. ولذلك لا يسمح لفرد بإحيائها إلا بإذن من ولي الأمر، ولا ينتج عن إيحاء الفرد لها حق خاص في رقبة الأرض، لأن الحق الخاص بسبب الاحياء إنما يوجد في أراضي الدولة التي سنتحدث عنها فيما يأتي، لا في الأرض الخراجية التي تملكها الأمة ملكية عامة كما صرح بذلك المحقق صاحب البلغة في كتابه (4).

(1) المبسوط ج 2، ص 34.
(2) لاحظ الأحكام السلطانية ج 2، ص 146 و 147.
(3) حاشية المكاسب ج 1، ص 250.
(4) لاحظ بلغة الفقيه ج 1، ص 338.
431

فالمساحات التي لحقها الخراب من الأراضي الخراجية، تظل خراجية وملكا للمسلمين، ولا تصبح ملكا خاصا للفرد، بسبب احيائه وإعماره لها.
ويمكننا أن نستخلص من هذا العرض: أن كل الأرض تضم إلى دار الإسلام بالجهاد، وهي عامرة بجهود بشرية سابقة على الفتح.. تطبق عليه الاحكام الشرعية الآتية:
أولا: تكون ملكا عاما للأمة، ولا يباح لأي فرد تملكها والاختصاص بها (1).
ثانيا: يعتبر لكل مسلم حق في الأرض، بوصفه جزءا من الأمة، ولا يتلقى نصيب أقربائه بالوراثة (2).
ثالثا: لا يحوز للأفراد اجراء عقد على نفس الأرض، من بيع وهبة ونحوها (3).
رابعا: يعتبر ولي الأمر هو المسؤول عن رعاية الأرض واستثمارها، وفرض الخارج عليها عند تسليمها للمزارعين (4).
خامسا: الخراج الذي يدفعه المزارع إلى ولي الأمر، يتبع الأرض في نوع الملكية فهو ملك للأمة كالأرض نفسها (5).
سادسا: تنقطع صلة المستأجر بالأرض عند انتهاء مدة الإجارة، ولا يجوز له احتكار الأرض بعد ذلك (6).
سابعا: إن الأرض الخراجية إذا زال عنها العمران وأصبحت مواتا لا تخرج عن وصفها ملكا عاما، ولا يجوز للفرد تملكها عن طريق أحيائها وإعادة عمرانها من جديد (7).
ثامنا: يعتبر عمران الأرض حال الفتح الإسلامي بجهود أصحابها السابقين،

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 21، ص 157.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 17.
(3) المصدر السابق.
(4) لاحظ جواهر الكلام ج 21، ص 162.
(5) لاحظ جواهر الكلام ج 21، ص 166.
(6) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 18.
(7) المصدر السابق.
432

شرطا أساسيا للملكية العامة، والاحكام الآنفة الذكر فما لم تكن معمورة بجهد بشري معين، لا يحكم عليها بهذه الاحكام (1).
وعلى هذا الأساس، نصبح اليوم في مجال التطبيق، بحاجة إلى معلومات تاريخية واسعة عن الأراضي الإسلامية، ومدى عمرانها، لنستطيع أن نميز في ضوئها المواضع التي كانت عامرة وقت الفتح، عن غيرها من المواضع المغمورة ونظرا إلى صعوبة توفر المعلومات الحاسمة بهذا الصدد اكتفى كثير من الفقهاء بالظن، فكل أرض يغلب على الظن أنها كانت معمورة حال الفتح الإسلامي تعتبر ملكا للمسلمين (2).
ولنذكر على سبيل المثال، محاولات بعض الفقهاء لتحديد نطاق الأرض الخراجية المملوكة ملكية عامة من أراضي العراق، التي فتحت في العقد الثاني من الهجرية: فقد جاء في كتاب المنتهى للعلامة الحلي: ((أن أرض السواد هي الأرض المفتوحة من الفرس، التي فتحها عمر بن الخطاب. وهي سواد العراق، وحده في العرض: من منقطع الجبال بحلوان إلى طرف القادسية، المتصل بالعذيب من أرض العرب. ومن تخوم الموصل طولا إلى ساحل البحر ببلاد عبادان، من شرقي دجلة. وأما الغربي الذي يليه البصرة فإنما هو إسلامي، مثل شط عمرو بن العاص... وهذه الأرض (أي الحدود التي حددها) فتحت عنوة فتحها عمر بن
الخطاب، ثم بعث إليها بعد فتحها ثلاث أنفس: عمار بن ياسر على صلاتهم أميرا، وابن مسعود قاضيا وواليا على بيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض. وفرض لهم في كل يوم شاة، شطرها مع السواقط لعمار، وشطرها للآخرين وقال: ما أرى قرية تؤخذ منها كل يوم شاة إلى سرع خرابها.
ومسح عثمان أرض الخراج، واختلفوا في مبلغها فقال المساح: اثنان وثلاثون ألف ألف جريب. وقال أبو عبيدة: ستة وثلاثون ألف ألف جريب)) (3).

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 38.
(2) لاحظ مسالك الإفهام ج 2، ص 287.
(3) المنتهى ج 2، ص 937.
433

وجاء في كتاب الاحكام السلطانية لأبي يعلى: ((إن حد‍ السواد طولا: من حديثة الموصل إلى عبادان. وعرضا من عذيب القادسية إلى حلوان: يكون طوله (160) فرسخا وعرضه (80) فرسخا، إلا قريات - قد سماها أحمد، وذكرها أبو عبيد: الحيرة، ويانقيا، وأرض بني صلوبا، وقرية أخرى - كانوا صلحا)).
((وأما العراق فهو في لعرض مستوعب لعرض السواد عرفا، ويقصر عن طوله في العرض، لأن أوله في شرقي دجلة: (العلث). وعن غربيها (حربي)، ثم يمتد إلى آخر أعمال البصرة من جزيرة عبادان، فيكون طوله (125) فرسخا يقصر عن طول السواد ب - (35) فرسخا، وعرضه (80) فرسخا كالسواد)).
((قال قدامة بن جعفر: يكون ذلك مكسرا عشرة آلاف فرسخ وطول الفرسخ: (12) ألف ذراع بالذراع المرسلة. ‌‌‌ويكون بذراع المساحة: تسعة آلاف ذراع: فيكون ذلك إذا ضرب في مثله، وهو تكسير فرسخ في فرسخ: (22) ألف جريب و (500) جريب، فإذا ضرب ذلك في عدد الفراسخ وهي (10000) فرسخا بلغ: مائتي ألف ألف وخمسة وعشرين ألف ألف جريب، يسقط منها بالتخمين: مواضع التلال، والآكام، والسباخ، والآجام، ومدارس الطرق والمحاج، ومجاري الأنهار، وعراص المدن والقرى، ومواضع الأرحاء والبحيرات، والقناطر، والشاذروانات والبيادر ومطارح القصب وأتانين الآخر وغير ذلك، وهو 75 ألف ألف جريب يصير الباقي من مساحة العراق: مائة ألف ألف جريب وخمسين مائة ألف ألف جريب، يراح منها النصف ويكون النصف مزروعا، مع ما في الجميع من النخل والكرم والأشجار)). وإذا أضفت إلى ما ذكره قدامة في مساحة العراق: ما زاد عليها من بقية السواد، وهو (35) فرسخا.. كانت الزيادة على تلك المساحة قدر ربعها، فيصير ذلك مساحة جميع ما يصلح للزرع والغرس من أرض السواد. وقد يتعطل منه بالعوارض والحوادث ما لا ينحصر)) (1).

(1) الأحكام السلطانية ج 1، ص 173، مع اختلاف في العبارة.
434

ب - الأرض الميتة حال الفتح
وإذا لم تكن الأرض عامرة حين دخولها في الإسلام لا بشريا ولا طبيعيا.. فهي ملك للإمام، - هذا ما نصطلح عليه باسم: ملكية الدولة، وليست داخلة ضمن نطاق الملكية الخاصة، وبذلك كانت تتفق مع الأرض الخراجية في عدم الخضوع لبدأ الملكية الخاصة. ولكنها تختلف عنها مع ذلك في شكل الملكية. فالأرض العامرة حال الفتح تعتبر حين ضمها إلى حوزة الإسلام ملكا عاما، للأمة، والأرض الميتة تعتبر حين دخولها في دار الإسلام ملكا للدولة.
الدليل على ملكية الدولة للأرض الميتة:
والدليل التشريعي على ملكية الدولة للأرض الميتة حين الفتح هو: أنها من الأنفال، كما جاء في الحديث. والأنفال عبارة: عن مجموعة من الثروات التي حكمت الشريعة بملكية الدولة لها في قوله: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} (1).
وقد روى الشيخ الطوسي في التهذيب بشأن نزول هذه الآية أن بعض الأفراد سألوا رسول الله (ص) أن يعطيهم شيئا من الأنفال، فنزلت الآية تؤكد مبدأ ملكية الدولة، وترفض تقسيم الأنفال بين الأفراد، على أساس الملكية الخاصة (2).
وتملك الرسول للأنفال، يعبر عن تملك المنصب الإلهي في الدولة لها، ولهذا تستمر ملكية الدولة للأنفال وتمتد بامتداد الإمامة من بعده، كما ورد في الحديث عن علي (ع): أنه قال: ((إن للقائم بأمور المسلمين الأنفال التي كانت لرسول الله قال الله عز وجل: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول، فما كان لله ولرسوله فهو للإمام)) (3). فإذا كانت الأنفال ملكا للدولة - كما يقرره القرآن الكريم -

(1) الأنفال / 1.
(2) لاحظ التهذيب ج 4، ص 127، الحديث 364.
(3) الوسائل، ج 6، ص 370 الحديث 12646.
435

وكانت الأرض في نطاق ملكية الدولة. وعلى هذا الأساس ورد عن الصادق (ع)، بصدد تحديد ملكية الدولة (الإمام): أن الموات كلها هي له، وهو قوله تعالى ((يسألونك عن الأنفال (أن تعطيهم منه) قل الأنفال لله والرسول)) (1).
ومما قد يشير إلى ملكية الدولة للأراضي الموات أيضا، ما ورد في الحديث: من أن النبي (ص) قال: ((ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه)) (2). وقد استدل أبو حنيفة بهذا الحديث على: أن الموات لا يجوز احياؤها والاختصاص بها دون إذن الإمام (3)، وهذا يتفق تماما مع ملكية الإمام للموات، أو ملكية الدولة بتعبير آخر (4). ويدل على ذلك أيضا: ما ورد في كتاب الأموال لأبي عبيد، عن ابن طاووس، عن أبيه: ((أن رسول الله (ص) قال: عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم)) (5). فقد حكم هذا النص بملكية الرسول لعادي الأرض، والجملة الأخيرة: (ثم هي لكم) تقرر حق الاحياء الذي سنشير اليه فيما بعد.
وقد جاء في كتاب الأموال: أن عاد الأرض هي كل أرض كان لها ساكن في آباد الدهر، فلم يبق منها أنس،
فصار حكمها إلى الإمام. وكذلك كل أرض موات لم يحيها أحد، ولم يملكها مسلم ولا معاهد (6).
وفي كتاب الأموال أيضا، عن ابن عباس: أن رسول الله (ص) لما قدم المدينة جعلوا له كل أرض لا يبلغاها الماء، يصنع بها ما يشاء (7). وهذا النص لا يؤكد مبدأ

(1) الوسائل ج 6، ص 369، الحديث 12644.
(2) كنوز الحقائق ج 2، ص 77 و 78، والمبسوط للسرخسي، ج 23، ص 167.
(3) راجع المحلى لابن حزم، ج 8، ص 234، والأحكام السلطانية ج 1، ص 209.
(4) راجع الملحق رقم 2.
(5) الأموال ص 286، الحديث 676، لاحظ المبسوط للسرخسي، ج 23، ص 167، وجواهر الكلام ج 38، ص 8.
(6) الأموال ص 291، الحديث 292.
(7) الأموال ص 294، الحديث 695.
436

ملكية الدولة للأراضي الموات البعيدة عن الماء فحسب، بل يؤكد أيضا تطبق هذا المبدأ في عصر النبوة. وجاء في مصادر أخرى ما يؤكد ممارسة النبي السيطرة الفعلية على الأراضي الموات الأمر الذي تعتبر تطبيقا عمليا لمبدأ ملكية الدولة لها، فقد ورد في كتاب الإمام الشافعي أنه (لما قدم رسول الله (ص) المدينة أقطع الناس الدور فقال حي من بني زهرة يقال لهم بنو عبد بن زهرة نكب عنا ابن أم عبد فقال رسول الله (ص) (فلم ابتعثني الله إذا إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقه) (1)
وقد علق الشافعي على ذلك قائلا (وفي هذا دلالة على أن ما قارب العامر وكان بين ظهرانيه وما لم يقارب من الموات سواء في أنه لا مالك له فعلى السلطان إقطاعه ممن سأله من المسلمين) (2).
فالأرضان - العامرة والموات من أرضي الفتح - طبق عليهما شكلان تشريعيان من أشكال الملكية، وهما: الملكية العامة للأرض العامرة، وملكية الدولة للموات.
نتيجة اختلاف شكلي الملكية ‍!
وهاتان الملكيتان - الملكية العامة للأمة، وملكية الدولة - وإن اتفقتا في المغزى الاجتماعي إلا أنهما يعتبران شكلين تشرعيين مختلفين، لأن المالك في أحد الشكلين هو الأمة، والمالك في الشكل الآخر هو المنصب، الذي يباشر حكم تلك الأمة من قبل الله. وينعكس الفرق بين الشكلين في الأمور التالية:
أولا: طريقة استثمار كل من الملكيتين والدور الذي تؤديه للمساهمة في بناء المجتمع الإسلامي فالأراضي والثروات التي تملك ملكية عامة لمجموع الأمة يجب على ولي الأمر استثمارها للمساهمة في إشباع حاجات مجموع الأمة وتحقيق مصالحها العامة التي ترتبط بها ككل (3) نحو إنشاء المستشفيات وتوفير وتهيئة

(1) الأم ج 4، ص 50.
(2) المصدر السابق.
(3) لاحظ تفسير القمي ج 1، ص 278، والروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 136.
437

مستلزمات التعليم وغير ذلك من المؤسسات الاجتماعية العامة التي تخدم مجموع الأمة ولا يجوز استخدام الملكية العامة لمصلحة جزء معين من الأمة ما لم ترتبط مصلحته بمصلحة المجموع فلا يسمح بإيجاد رؤوس أموال - مثلا - لبعض الفقراء من ثمار تلك الملكية ما لم يصبح ذلك مصلحة وحاجة لمجموع الأمة كما إذا توقف حفظ التوازن الاجتماعي على الاستفادة من الملكية العامة في هذا السبيل، وكذلك لا يسمح بالصرف من ريع الملكية العامة في للأمة على النواحي التي يعتبر ولي الأمر مسؤولا عنها من حياة المواطنين الذين في المجتمع الإسلامي. وأما أملاك الدولة فهي كما يمكن أن تستثمر في مجال المصالح العامة لمجموع الأمة كذلك يمكن استثمارها لمصلحة معينة مشروعة (1) كإيجاد رؤوس أموال منها لمن هو بحاجة إلى ذلك من أفراد المجتمع الإسلامي أو أي مصلحة أخرى من المصالح التي يعتبر ولي الأمر مسؤولا عنها.
ثانيا: إن الملكية العامة لا تسمح بظهور حق خاص للفرد فقد رأينا فيما سبق أن الأرض المفتوحة عنوة والتي تعود ملكيتها للأمة لا يكسب الفرد فيها حقا خاصا ولو مارس عليها عملية الاحياء، خلافا لملك الدولة فان الفرد فيها حقا خاصا ولو مارس عليها عملية الاحياء، خلافا لملك الدولة فان الفرد قد يكتسب في ممتلكاتها حقا خاصا على أساس العمل بالقدر الذي تأذن به الدولة فيمن يحيي أرضا ميتة للدولة بإذن من الإمام يكتسب حقا خاصا فيها وإن لم يملك رقبتها وإنما هو حق يجعله أولى من الآخرين بها مع بقاء رقبتها ملكا للدولة على ما يأتي.
ثالثا - إن ما يدخل في نطاق الملكية العامة للأمة لا يجوز لولي الأمر بوصفه وليا للامر نقل ملكيته إلى الأفراد ببيع أو هبة ونحو ذلك خلافا لما يدخل في نطاق ملكية الدولة فإنه يجوز فيه ذلك وفقا لما يقدره الإمام من المصلحة العامة. (2)
وهذا الفارق بين الملكيتين يقرب هذين المصطلحين الفقهيين نحو مصطلحي الأموال الخاصة للدولة والأموال العامة لها في لغة القانون الحديث، فما

(1) لاحظ الوسائل ج 6، ص 367 و 368.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 21، ص 349 وج 22، ص 162 وج 38، ص 17.
438

نطلق عليه اسم ملكية الدولة يوازي من هذه الناحية ما يعبر عنه قانونيا بالأموال الخاصة للدولة بينما يناظر الملكية العامة للأمة ما يطلق عليه القانون اسم الأموال الخاصة للدولة بينما يناظر الملكية العامة للأمة ما يطلق عليه القانون اسم الأموال العامة للدولة. غير ان مصطلح الملكية العامة للأمة العامة التي يشملها هي ملك الأمة ودور الدولة فيها دور الحارس الأمين بنا ينسجم التعبير القانوني بالأموال العامة للدولة مع هذا كما ينسجم مع كونها ملكا للدولة نفسها.
دور الاحياء في الأراضي الميتة:
وكما تختلف الأرض الميتة والأرض العامرة في شكل الملكية، كذلك تختلفان أيضا من ناحية التي يسمح للأفراد باكتسابها في الأرض. فالشريعة لا تمنح حقا خاصا في رقبة الأرض العامرة حال الفتح، ولو جدد عمرانها بعد خراب، كما مر بنا سابقا.
وأما الأرض الميتة عند الفتح، فقد سمحت الشريعة للأفراد بممارسة إحيائها وإعمارها، ومنحتهم حقا خاصا فيها، على أساس ما يبذلون من جهد في سبيل إحياء الأرض وعمارتها. وفي الروايات ما يقرر هذه الحقيقة إذ جاء عن أهل البيت: أن ((من أحيا أرضا فهي له وهو أحق بها)) (1). وورد في صحيح البخاري عن عائشة
: أن النبي (ص) قال: ((من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق)) (2).
وعلى هذا الأساس نعرف: أن الملكية العامة للأرض في الشريعة لا تنسجم مع الحق الخاص للفرد، فلا يحصل الفرد على حق خاص في أرض الملكية العامة، مهما قدم لها من خدمات أو جدد عمرانها بعد الخراب، بينما نجد ملكية الدولة للأرض تنسجم مع اكتساب الأفراد حقا خاصا فيها.

(1) الخلاف للطوسي ج 3، ص 527، مع نقص و، وغوالي اللئالي ج 3، ص 259، مع نقص.
(2) صحيح البخاري ج 10، ص 160، الحديث 2185.
439

والمصدر الأساسي للحقوق الخاصة في أراضي الدولة هو الاحياء والتعمير. فممارسة هذا العمل أو البدء بالعمليات التمهيدية له يمنح الممارس حقا خاصا في الأرض، وبدون ذلك لا تعترف الشريعة بالحق الخاص إطلاقا (1) بوصفه عملية مستقلة منفصلة عن الاحياء لا تكون سببا لاكتساب حق خاص في الأرض وقد جاء في الرواية عن عمر بن الخطاب أنه قال: ليس لأحد أن يتحجر (2)
والسؤال المهم فقهيا بهذا الشأن، يرتبط بطبيعة الحق الذي يستمده الفرد من عملية الاحياء: فما هو هذا الحق الذي يحصل عليه الفرد، نتيجة لعمله في الأرض الميتة وإحيائها؟
هذا هو السؤال الذي يجب علينا أن نجيب عليه، في ضوء مجموع النصوص التي تناولت عملية الإحياء، وشرحت أحكامها الشرعية.
وجواب الكثير من الفقهاء على هذا السؤال: أن مرد الحق الذي يستمده الفرد من إحياء الأرض، إلى تملكه لها ملكية خاصة (3)، فتخرج الأرض بسبب الاحياء عن نطاق الدولة إلى نطاق الملكية الخاصة، ويملك الفرد الأرض التي أحياها نتيجة لعمله المنفق عليها أن الذي بعث فيها الحياة.
وهناك رأي فقهي آخر يبدو أكثر انسجاما مع النصوص التشريعية، يقول: إن عملية الاحياء لا تغير من شكل ملكية الأرض، بل تظل الأرض وإنما يكتسب بالإحياء حقا في الأرض دون مستوى الملكية، ويخول له بموجب هذا الحق استثمار الأرض والاستفادة منها، ومنع غيره ممن له يشاركه جهده وعمله من مزاحمته وانتزاع الأرض منه، ما دام قائما بواجبها. وهذا القدر من الحق لا يعفيه من واجباته تجاه منصب الإمامة، بوصفه المالك الشرعي لرقبة الأرض، فللإمام أن يفرض عليه الأجرة

(1) راجع الملحق رقم 3.
(2) الأم ج 4، ص 46.
(3) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 9.
440

أو الطسق - كما جاء في الحديث - بالقدر - الذي يتناسب مع المنافع التي يجنيها الفرد من الأرض التي أحياها.
وقد أخذ بهذا الرأي الفقيه الكبير الشيخ محمد بن الحسن الطوسي في بحوث الجهاد، من كتابه المبسوط في الفقه، إذ ذكر: أن الفرد لا يملك رقبة الأرض بالإحياء وإنما يملك التصرف، بشرط أن يؤدي إلى الإمام ما يلزمه عليها.. واليكم نص عبارته.
((فأما الموات فإنها لا تغنم، وهي للإمام خاصة، فإن أحياها أحد من المسلمين كان أولى بالتصرف فيها، ويكون للإمام طسقها)) (1).
ونفس الرأي نجده في بلغة المحقق الفقيه السيد محمد بحر العلوم، إذ مال إلى: (منع إفادة الاحياء التملك المجاني، من دون أن يكون فيه حق، فيكون للإمام فيه بحسب ما يقاطع المجبى عليها في زمان حضوره وبسط يده، ومع عدمه فله أجرة المثل. ولا ينافي ذلك نسبة الملكية إلى المحيي في أخبار الاحياء - أي في قولهم: من أحيى أرضا فهي له - وإن هي إلا جارية مجرى كلام الملاكين للفلاحين، في العرف العام، عند تحريضهم على تعمير الملك: من عمرها أو حفلا أنهارها وكرى سواقيها فهي له، على تعمير الملك: من عمرها أو حفر أنهارها وكرى سواقيها فهي له، الدالة على أحقيته من غيره، وتقدمه على من سواه، لا على نفي الملكية من نفسه، وسلب الملكية عن شخصه. فالحصة الراجعة إلى الملاك المعبر عنها بالملاكة مستحقة له غير منفية عنه، وإن أضاف الملك إليهم عند الترخيص والاذن العمومي) (2).
وهذا الرأي الفقهي الذي يقرره الشيخ الطوسي والفقيه بحر العلوم، يستند إلى عدة نصوص ثابتة بطرق صحيحة عن أئمة أهل البيت، علي وآله عليهم السلام. فقد جاء في بعضها: (من أحيى أرضا من المؤمنين فهي له وعليه طسقها)) (3). وجاء في بعضها الآخر ((من أحيى من الأرض من المسلمين فليعمرها، وليؤد خراجها إلى

(1) راجع الملحق رقم 3.
(2) الأم ج 4، ص 46.
(3) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 9.
441

الإمام وله ما أكل منها)) (1)
فالأرض في ضوء هذه النصوص ملكا خاصا لمن أحياها وإلا لما صح أن يكلف بدفع أجرى عن الأرض للدولة، وإنما تبقى رقبة الأرض ملكا للإمام، ويتمتع الفرد بحق في رقبة الأرض، يمكنه من الانتفاع بها ومع الآخرين عن انتزاعها منه وللإمام في مقابل ذلك فرض الطسق عليه (2)
وهذا الرأي الفقهي الذي يعطي لملكية الإمام مدلولها الواقعي، ويسمح له بفرض الطسق على أراضي الدولة لا نجده لدى فقهاء من شيعة أهل البيت - كالشيخ الطوسي فحسب، بل إن له بذورا وصيغا متنوعة في مختلف المذاهب الفقهية في الإسلام فقد ذهب أحمد بن حنبل إلى أن الغامر الميت من أرض السواد يعتبر أرضا خراجية أيضا وللدولة فرض الخراج عليه بوصفه ملكا لعامة المسلمين واستند في ذلك إلى ما صنعه عمر من مسح العامر والغامر من أرض السواد ووضع الخراج عليهما معا (3). وبعض الفقهاء جعل موات المفتوح عنوة مطلقا للمسلمين (4).
وذكر الماوردي عن أبي حنيفة يوسف أن الفرد إذا أحيا أرضا من الموات وساق إليها ماء الخراج كانت أرض
خراج وكان للدولة فرض الخراج عليها (5).
ويريدان بماء الخراج الأنهار التي فتحت عنوة كدجلة والفرات والنيل، فكل أرض ميتة تحيا بماء الخراج تصبح خراجية وداخلة في نطاق ولاية الدولة على وضع الخراج وإن لم تكن الأرض نفسها مفتوحة عنوة. وجاء في كتاب الأموال لأبي عبيد أن أبا حنيفة كان يقول: أرض الخراج هي كل أرض بلغها ماء الخراج (6).
وأما محمد بن الحسن الشيباني فقد اعترف بدوره أيضا بمبدأ فرض الخراج على

(1) الفروع من الكافي ج 5، ص 279، والتهذيب ج 7، ص 152.
(2) راجع الملحق رقم 4.
(3) لاحظ الأحكام السلطانية ج 1، ص 166.
(4) لاحظ مستمسك العروة للإمام الحكيم، ج 9، ص 599.
(5) لاحظ الأحكام السلطانية ج 1، ص 211.
(6) الأموال ص 79، الحديث 182.
442

ما يحيى من الأرض الموات ولكنه اختار تفصيلا آخر غير ما سبق عن أبي حنيفة وأبي يوسف، فقد قال: إن كانت الأرض المحياة على أنهار حفرتها الأعاجم فهي أرض خراج وإن كانت على أنهار أجراها الله عز وجل فهي أرض عشر (1).
وعلى أي حال فان مبدأ فرض الخراج على الأرض المحياة تجده بصورة أو أخرى في اتجاهات فقهية مختلفة.
ونلاحظ أن كلمات الفقهاء غير الإماميين هذه لم تصل إلى الدرجة التي بلغتها فتوى الشيخ الطوسي وعدد آخر من فقهاء الامامية لأنها لم تتجاوز بصورة صريحة عن كونها تعبيرات متفاوتة عن حدود الأرض الخراجية وانها تشمل قسما من الأراضي الموات كموات السواد أو الموات التي تحيى المحياة بصورة أو أخرى في اتجاهات فقهية مختلفة ولا يوجد ما يمنع عن اعتباره مبررا مبدئيا في الشريعة الإسلامية لفرض الخراج من الإمام على الأراضي المحياة.
ومن المواقف الفقهية الملتقية إلى درجة كبيرة مع رأي الشيخ الطوسي وغيره من علماء الامامية موقف لبعض فقهاء المذهب الحنفي كأبي القاسم البلخي وغيره ممن تكلم عن الأرض التي أحياها شخص ثم خربت فاستأنف أحياها شخص آخر، إذ قالوا بأن الثاني أحق بها لأن الأول ملك استغلالها لا رقبتها فإذا تركها كان الثاني أحق بها (2) وهذا الكلام وإن كان لا ينص على ملكية الدولة للأرض الميتة وحقها في فرض الخراج على ما يحيى منها ولكنه يلتقي مع موقف الشيخ الطوسي وغيره من علماء الامامية في القول بأن الأرض الميتة لا تملك ملكية خاصة ولا تدخل رقبتها في نطاق ملكية المستولي عليها ولو مارس فيها عملية الاحياء والاستثمار (3). ‌‌‌

(1) لاحظ الأحكام السلطانية ج 1، ص 211.
(2) لاحظ شرح فتح القدير ج 9، ص 4، وشرح العناية على الهداية في هامش شرح فتح القدير ص 4، والنهاية للشيخ الطوسي، ص 420.
(3) راجع الملحق رقم 5.
443

ونحن حين نقتبس من فقه الشيخ الطوسي مبدأ ملكية الإمام، بهذا المعنى الذي يسمح له بفرض الخراج على ما يحيى من الأراضي الميتة... إنما ندرس الموقف على الصعيد النظري فحسب، إذ توجد من الناحية النظرية - كما عرفنا - مبررات لاستنباط هذا المبدأ من النصوص التشريعية.
وأما على صعيد التطبيق فلم يؤخذ بهذا المبدأ عمليا في الإسلام، بل جمد في المجال التطبيقي ورفع بصورة استثنائية عن بعض الأشخاص وفي بعض الأزمنة، كما تدل عليه بأخبار التحليل. وتجميد المبدأ هذا على صعيد التطبيق وفي السيرة النبوية المقدسة.. لا يمكن أن يعتبر دليلا على عدم صحته نظريا. فإن من حق النبي (ص) العفو عن الطسق وممارسته لهذا الحق لا تعني عدم السماح لإمام متأخر بالعمل بهذا المبدأ. أو تطبيقه، حين تزول الظروف التي كانت تمنع عن ذلك. كما أن النصوص التي ترفع مفعول هذا المبدأ عن بعض الأشخاص بصورة استثنائية، لا تمنع عن اعتباره قاعدة يمكن الأخذ بها في غير مجالات استثنائها، التي شرحتها أخبار التحليل.
وما دمنا في دراستنا هذه نحاول التعرف على النظرية الاقتصادية في الإسلام، فمن حقنا أن نستوعب في دراستنا هذا المبدأ، ما دام له أساس إسلامي من الناحية النظرية، فهو جزء من الصورة الكاملة التي تعبر عن النظرية الإسلامية في المجال الذي ندرسه، سواء أخذ نصيبه من التطبيق أو اضطرب ظروف قاهرة أو مصلحية لإهماله.
وعلى ضوء ما قدمناه، يتبين الفرق بين المزارع الذي يعمل في قطاع الملكية العامة، والمزارع الذي يعمل في قطاع ملكية الدولية. فإنهما وإن كانا معا لا يملكان رقبة الأرض، ولكنهما يختلفان في مدي علاقتهما بالأرض، فالمزارع الأول ليس إلا مستأجر أفحسب كما أكد الفقيه المحقق الأصفهاني في تعليقه على المكاسب - فمن حق الإمام أن ينتزع منه الأرض، ويعطيها لفرد آخر متى انتهت مدة الإجارة وأما المزارع الثاني، فهو يتمتع بحق في الأرض يخوله الانتفاع بها، ويمتع الآخرين من انتزاعها منه، ما دام قائما بحقها وعمارتها (1)

(1) لاحظ حاشية المكاسب ج 1، ص 242 و 250 والمهذب لابن الراج ج 1، ص 182 و 183
444

وعملية الإحياء في قطاع الدولة حرة، يجوز لكل فرد ممارستها دون إذن خاص من ولي الأمر، لأن النصوص الآنفة الذكر أذنت لجميع الأفراد بالإحياء، دون تخصيص، فيعتبر هذا الإذن نافذ المفعول ما لم تر الدولة في بعض الأحايين المصلحة في المنع. وهناك في الفقهاء من يرى: أن الإحياء لا يجوز ولا يمنح حقا، ما لم يكن بإذن خاص من ولي الأمر، ولا يكفي الإذن الصادر من النبي (ص) في قوله: من أعمر أرضا فهو أحق بها (1) لأن هذا الإذن صدر من النبي بوصفه حاكما ورئيسا للدولة الإسلامية، لا باعتباره نبيا، فلا يمتد مفعوله مع الزمن بل ينتهي بانتهاء حكمه.
وعلى أي حال: فلا شك أن لولي الأمر أن يمنع عن احياء بعض أراضي الدولة، وأن يحدد الكمية التي يباح لكل فرد احياؤها من تلك الأراضي، إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك (2).
ونخلص من أحكام الأراضي الموات إلى النقاط الآتية:
أولا: أنها تعتبر ملكا للدولة.
وثانيا: أن احياءها من قبل الأفراد جائز مبدئيا، ما لم يمنع عنه ولي الأمر.
وثالثا: أن الفرد إذا أحيى أرضا للدولة وعمرها، كان له فيها الحق، الذي يخوله الانتفاع بها، ويمنع الآخرين من مزاحمته فيها، دون أن تصبح الأرض ملكا خاصا له.
رابعا: للإمام أن يتقاضى من الفرد المحيي للأرض خراجا لأن رقبة الأرض ملكه. ويفرض هذا الخراج وفقا للمصلحة العامة، والتوازن الاجتماعي. وللإمام أيضا أن يعفو عن الخراج في ظروف معينة، ولاعتبارات استثنائية نجد ذلك في السيرة النبوية المقدسة (3).

(1) صحيح البخاري ج 3، ص 140، مع اختلاف في العبارة، والخلاف ج 3، ص 525، والسرائر ج 2، ص 381 وجواهر الكلام ج 38، ص 11.
(2) لاحظ الوسائل ج 6، ص 373.
(3) لاحظ المبسوط ج 2، ص 29، والوسائل ج 6، ص 364، وص 373، الباب 2.
445

وعلى ضوء ما تقدم يمكننا، أن نميز بوضوح بني الحق الخاص الذي ذكرنا أن الفرد يكسبه بالاحياء وبين الملكية الخاصة لرقبة الأرض التي نفينا حصولها بالاحياء. ويمكن تلخيص أهم ما يميز هذا الحق عن ملكية رقبة الأرض فيما يلي:
أولا - إن هذا الحق يسمح للدولة بأخذ الأجرة من الفرد صاحب الحق لقاء انتفاعه بالأرض لأن رقبتها تظل ملكا للدولة بينما لا مبرر لهذه الأجرة في حالة قيام ملكية خاصة لرقبة الأرض.
ثانيا - إن هذا الحق حق الأولوية من الآخرين، بمعنى أن المحيي أولى بالأرض التي أحياها ممن لم يحيها ولا يعني ذلك أنه أولى بها من الإمام نفسه المالك الشرعي للأرض فهو حق نسبي يتمتع به المحيي أمام الآخرين لا أمام المالك نفسه ولهذا كان من حق الإمام أن ينتزعها منه وفقا لما يقدره من المصلحة العامة كما تشير إلى ذلك رواية الكابلي (1).
ثالثا: قد يقال ان هذا الحق يختلف عن الملكية موضوعا فان الملكية الخصاصة لرقبة الأرض موضوعها الأرض نفسها وأما هذا الحق فهو حق الاحياء (2) وبهذه المناسبة يكون حقا في حياة الأرض التي أوجدها المحيي فيها لا في الأرض نفسها. ويترتب على ذلك أن هذه الحياة إذا زالت وعادت الأرض ميتة سقط هذا الحق بصورة طبيعية إذ ينتفي موضوعه، وأما الملكية المتعلقة برقبة الأرض فيحتاج سقوطها إلى دليل لأن موضوعها لا يزال ثابتا.
ج - - الأرض العامرة طبيعيا حال الفتح
يرى كثير من الفقهاء: أن الأراضي العامرة طبيعيا - بما فيها الأراضي العامرة طبيعيا حال الفتح - كالغابات وأمثالها تشترك مع الأراضي الموات التي مر الحديث عنها قبل لحظة في الشكل التشريعي للملكية. فهم يرون أنها ملك للإمام (3)،

(1) المراد برواية الكابلي ما سيأتي، ص 453.
(2) لاحظ المبسوط ج 2، ص 29، وجواهر الكلام ج 38، ص 10.
(3) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 19.
446

ويستندون في ذلك إلى النص التشريعي المأثور عن الأئمة عليهم السلام الذي يقرر أن: ((كل أرض لا رب لها هي للإمام)) (1). فإن هذا النص يعطي للإمام ملكية كل أرض ليس لها صاحب، وأمثالها من هذا القبيل، لأن الأرض لا يكون لها صاحب إلا بسبب الإحياء، والغابات حية طبيعيا دون تدخل إنسان معين في ذلك، فهي لا صاحب لها في الشريعة بل تندرج في نطاق الأراضي التي لا رب لها، وتخضع بالتالي لمبدأ ملكية الدولة.
وقد يلاحظ على هذا الرأي. أن تطبق مبدأ ملكية الدولة (الإمام) على الغابات ونظائرها من الأراضي العامرة بطبيعتها، إنما يصح في الغابات التي دخلت دار الإسلام بدون حرب لأنها لا رب لها. وأما الغابات والأراضي العامرة بطبيعتها، التي تفتح عنوة وتنتزع من أيدي الكفار.. فهي ملك عام للمسلمين (2)، لأنها تندرج في النصوص التشريعية التي أعطت المسلمين ملكية الأرض المفتوحة عنوة (3)، وإذا دخلت الغابات في نطاق الملكية العامة بموجب هذه النصوص، أصبحت أرضا لها صاحب، وصاحبها هو مجموع الأمة. ولا يوجد مبرر بعد ذلك لإدراجها ضمن الأراضي التي لا رب لها، لكي يستوعبها النص القائل: ((كل أرض لا رب لها للإمام)). وبتعبير آخر. إن نصوص الأراضي الخراجية بإطلاقها، حاكمة على نصوص الأرض التي لا رب لها، وهذه الحكومة تتوقف على أن يكون موضوع نصوص الأرض الخراجية (ما أخذ بالسيف مما كان تحت استيلاء الكفار) لا خصوص ما أخذ مما كان ملكا للكفار إذ على التقدير الثاني لا يكون موضوعها شاملا للغابات بخلافه على الأول كما هو واضح. كما تتوقف الحكومة أيضا على أن يكون عدم المالك المأخوذ في نص مالكية الإمام ملحوظا حدوثا وبقاء. والظاهر من النصوص

(1) لاحظ الوسائل ج 6 ص 371، الحديث 12647.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 19.
(3) وانطلاقا مع هذا يجب أن يطبق على المفتوح عنوة من الغابات والأرضي العامرة بطبيعتها، نفس الأحكام التي تطبق على أراضي الفتح التي كانت عامرة بالإحياء والجهد البشري.
447

التي تجعل الأرض التي لا رب لها ملكا للإمام أنها تتناول كل أرض ليس لها مالك بطبيعتها فيكفي عدم المالك حدوثا لكي تكون ملكا للإمام.
فالصحيح أن الأرض العامرة بطبيعتها ملك للدولة دون فرق بين ما كان منها مفتوحا عنوة وما لم يكن كذلك.
وعلى هذا الأساس لا يتكون للفرد حق خاص في رقبة الأرض المفتوحة عنوة من الغابات وما إليها، كما لا يتكون الحق الخاص في رقبة الأرض الخراجية العامرة بالاحياء قبل الفتح (1).
وقد يقال: أن الأرض العامرة بطبيعتها تمتلك على أساس الحيازة، بمعنى أن الحياة تقوم في الأراضي العامرة طبيعيا بنفس الدور الذي يقوم به الاحياء في الأراضي الميتة بطبيعتها، ويستند هذا القول في إثبات الملكية بسبب الحياة إلى الاخبار الدالة على أن من حاز ملك (2).
ويلاحظ على هذا القول:
أولا: إن بعض هذه الاخبار ضعيف السند، ولهذا لا حجية له، ومنها ما لا يدل على هذا القول لأنه مسوق البيان امارية اليد، وجعل الحيازة امارة ظاهرية على الملكية لا سببا لها. ومنها ما كان واردا في موارد خاصة كقوله ((لليد ما أخذت وللعين ما رأت)) (3) الوارد في الصيد.
2 - الأرض المسلمة بالدعوة:
الأراضي المسلمة بالدعوة هي: كل أرض دخل أهلها في الإسلام، واستجابوا للدعوة دون أن يخوضوا معركة مسلحة ضدها (4) كأرض المدينة المنورة،

(1) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 136، وجواهر الكلام ج 38، ص 17.
(2) لاحظ إيصال الطالب ج 7، ص 332.
(3) الوسائل ج 16، ص 297، الحديث 29826.
(4) لاحظ جواهر الكلام ج 21، ص 175.
448

وأندونيسيا، وعدة نقاط متفرقة في العالم الإسلامي.
وتنقسم الأراضي المسلمة بالدعوة - كما تنقسم الأراضي المسلمة بالفتح - إلى:
أرض عامرة قد أحياها أهلها وأسلموا عليها طوعا، وأرض عامرة طبيعيا كالغابات،
وأرض دخلت في الإسلام طوعا وهي ميتة.
أما الموات من الأرض المسلمة بالدعوة، فهي كالموات من أراضي الفتح، يطبق
عليها مبدأ ملكية الدولة، وجميع الأحكام التي مرت بنا في موات الفتح، لأن
الأرض المية بشكل عام تعتبر من الأنفال، والأنفال ملك الدولة.
وكذلك الأرض العامرة طبيعيا المنضمة إلى حوزة الإسلام بالاستجابة السلمية، فهي ملك
للدولة أيضا، تطبيقا للمبدأ الفقهي القائل: كل أرض لا رب لها هي من الأنفال
ولكن الفرق بين هذين القسمين، المية والعامرة طبيعيا - بالرغم من كونهما معا
ملكا للدولة - هو: أن الفرد يمكنه أن يكتسب حقا خاصا في الأرض المية عن طريق
إحيائها، وتثبت له من الأحكام ما مر من تفصيلات تشريعية عن عملية الإحياء التي
يمارسها الفرد في الميت من أراضي الفتح، وأما الأراضي العامرة بطبيعتها، التي
دخلت في دار الإسلام طوعا، فلا سبيل إلى اكتساب الفرد حقا فيها بسبب الإحياء،
لأنها عامرة وحية بطبيعتها، وإنما يباح للأفراد الانتفاع بتلك الأرض وإذا مارس
الفرد انتفاعه، فلا تنتزع الأرض منه الحساب فرد آخر، ما دام يمارس الأول انتفاعه،
إذ لا ترجيح لفرد على فرد، ويسمح للآخر بالانتفاع في حدود لا تزاحم انتفاع
الأول، أو فيما إذا كف الأول عن انتفاعه بالأرض واستثماره لها (1).
وأما الأرض العامرة التي اسلم عليها أهلها طوعا فهي لهم (2) لأن الإسلام يمنح المسلم على ارضه
وماله طوعا، جميع الحقوق التي كان يتمتع لها في الأرض والمال قبل إسلامه. فيتمتع أصحاب الأرض المسلمون طوعا بالحق في الاحتفاظ بأرضهم، وتملكها ملكية خاصة، ولا خرج عليهم، كما كانوا قبل الدخول في الإسلام تماما (3).
3 - أرض الصلح:

(1) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 136.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 1، ص 175.
(3) راجع الملحق رقم 6.
449

وهي الأرض التي هجم عليها لفتحها، فلم يسلم أهلها، ولا قاوموا الدعوة بشكل مسح، وإنما ظلوا على دينهم، ورضوا أن يعيشوا في كنف الدولة الإسلامية مسالمين. فالأرض تصبح أرض صلح في العرف الفقهي، ويجب تطبيق ما تم عليه الصلح بشأنها، فإذا كان عقد الصلح ينص على أن الأرض لأهلها، فهي على هذا الأساس، تعتبر ملكا لهم، وليس لمجموع الأمة حق فيها، وإذا تم الصلح على تملك الأمة للأرض ملكية عامة وجب التقيد بذلك، وخضعت الأرض لمبدأ الملكية العامة، وفرض عليها الخراج.
ولا يجوز الخروج عن مقررات عقد الصلح. فقد جاء في كتاب الأموال عن رسول الله (ص)، ((أنكم لعلكم تقاتلون قوما فيتقونكم بأموالهم، دون أنفسهم وأبناءهم، ويصالحونكم على صلح، فلا تأخذوا منهم فوق ذك، فإنه لا يحل لكم)). وورد في سنن أبي داود عن النبي (ص) ((ألا من ظلم معاهدا أو نقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه، فأنا حجيجه يوم القيامة)).
وأما موات أرض الصلح، فالقاعدة فيها هي ملكية الدولة، كموات الأراضي المفتوحة، وموات الأراضي المسلمة بالدعوة. وكذلك أيضا الغابات من أراضي الصلح مما إليها من الأراضي العامرة طبيعيا، ما لم يكن قد أدرجها النبي صلى الله عليه وآله في عقد الصلح، فتطبق عليها حينئذ مقتضيات العقد.
(1) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 149.
(2) الأموال ص 157، الحديث 388.
(3) مختصر سنن أبي داود ج 4، ص 255، الحديث 2929 و 2930.
(4) لاحظ جواهر الكلام ج 21، ص 171.
450

4 - أراضي أخرى للدولة
وتوجد أنواع أخرى من الأرض تخضع لمبدأ ملكية الدولة، كالأراضي التي سلمها أهلها للدولة الإسلامية، دون هجوم من المسلمين، تسميا ابتدائيا. فان هذه الأراضي من الأنفال التي تختص بها الدولة، أو النبي (ص) والإمام بتعبير آخر (1)، كما قرره القرآن الكريم في قوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم
عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير} (2). وقد نص الماوردي على أن هذه الأراضي التي يتم انجلاء الكفار عنها خوفا تصير بالاستيلاء عليها وقفا (3) وهذا يعني دخولها في نطاق الملكية العامة.
ومن أراضي الدولة أيضا الأرض التي باد أهلها وانقرضوا (4)، كما جاء في حديث حماد، عيسى عن الإمام موسى بن جعفر (ع): ((إن للإمام الأنفال، والأنفال، كل أرض باد أهلها..)) (5).
وكذلك أيضا الأراضي المستجدة في دار الإسلام، كما إذا ظهرت جزيرة في البحر أو النهر، مثلا، فإنها تندرج في نطاق ملكية الدولة، تطبيقا للقاعدة الفقهية القائلة، أن كل أرض لا رب لها هي للإمام (6). وذكر الخرشي في شرحه على المختصر الجليل أن الأرض إذا كانت غير مملوكة لأحد كالفيافي أو مما انجلى عنها أهلها فحكمها أنها للإمام اتفاقا قال البعض يريد أهل المذهب ما أتجلى منها أهلها الكفار وأما المسلمون فلا يسقط ملكهم عن أراضيهم بانجلائهم (7).

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 16، ص 116.
(2) الحشر / 6.
(3) لاحظ الأحكام السلطانية ج 2، ص 137.
(4) لاحظ جواهر الكلام ج 16، ص 116.
(5) الوسائل ج 6، ص 365، الحديث 12631.
(6) لاحظ جواهر الكلام ج 16، ص 116.
(7) لاحظ مواهب الجليل ج 2، ص 334.
451

الحد من السلطة الخاصة على الأرض
يمكننا أن نستخلص من التفصيلات السابقة، أن اختصاص الفرد بالأرض والحق الشخصي فيها ينشأ من أحد أسباب ثلاثة.
1 - احياء الفرد لشيء من أراضي الدولة.
2 - إسلام أهل البلاد، واستجابتهم للدعوة طوعا.
3 - دخول الأرض في دار الإسلام، بعقد صلح ينص على منح الأرض للمصالحين.
ويختلف السبب الأول عن الأخيرين، في نوع العلاقة الخاصة التي تنجم عنه. فالسبب الأول وهو إحياء الفرد لشيء من أراضي الدولة، لا يدرج الأرض في نطاق الملكية الخاصة، ولا ينزع عنها طابع ملكية الدولة ولا يمنع الإمام من فرض الخراج والأجرة على الأرض. وإنما ينتج من مزاحمته، كما مر بنا سابقا. وأما السببان الأخيران، فإنهما يمنحان الفرد المسلم أو المصالح ملكية الأرض، فتصبح بذلك مندرجة في نطاق الملكية الخاصة.
والاختصاص الشخصي للفرد بالأرض - سواء كان على مستوى حق أو على مستوى ملكية -، ليس اختصاصا مطلقا من الناحية الزمنية، بل هو اختصاص وتفويض محدود بقيام الفرد بمسؤوليته تجاه الأرض، فإذا أخل بمسؤوليته، بالصورة التي سوف توضحها الروايات الآتية. سقط حقه في الأرض، ولم يجز له احتكارها وتحجيرها، ‌‌‌ومنع الآخرين من حقه في الأرض، ولم يجز له احتكارها وتحجيرها، ومنع الآخرين من إعمارها واستثمارها. وبذلك اتخذ المفهوم القائل بأن الملكية وظيفة اجتماعية يمارسها الفرد.. أقوى تعبير في مجال الأرض وحقوق الأفراد فيها.
والدليل على ذلك من الشريعة عدة نصوص تشريعية: فقد جاء في حديث أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الإمام على بن موسى الرضا (ع)، قال: ((من أسلم طوعا تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر، مما سقت السماء والأنهار، ونصف العشر مما كان......، فيما عمروه منها، وما لم يعمر منها أخذه الإمام فقبله من
452

يعمره، وكان للمسلمين، وعلى المتقبلين في حصصهم العشر أو نصف العشر)) (1).
وورد في صحيح معاوية بن وهب: أن الإمام جعفر (ع) قال ((أيما رجل أتى خربة بائرة فاستخرجها، وكرى أنهارها وعمرها، فإن عليه فيها الصدقة (الزكاة). فإن كانت لرجل قبله، فغاب عنه وتركها فأخربها، ثم جاء بعد يطلبها، فإن الأرض لله ولمن عمرها)) (2).
وفي صحيح الكابلي، جاء النص عن أمير المؤمنين علي (ع)، ((بأن من أحيى أرضا ميتة من المسلمين فليعمرها، وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها. فإن تركها أو أخربها، فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها، فهو أحق بها من الذي تركها، فليؤد خراجها إلى الإمام)) (3) (4).
ففي ضوء هذه النصوص نعرف، أن حق الفرد في الأرض الذي يخوله منع غيره من استثمارها، يزول بخراب الأرض وإهماله لها، وامتناعه عن عمارتها، فلا يجوز له بعد إهمال الأرض على هذه الشكل، أن يمنع غيره من السيطرة عليها واستثمارها ما دام مهملا لها.

(1) الوسائل ج 11، ص 120، الحديث 20205.
(2) الوسائل ج 17، ص 328، الحديث 32229.
(3) المصدر السابق، الحديث 32230، مع اختلاف.
(4) ولا يمكن أن يعارض صحيحا الكابلي ومعاوية بن وهب، برواية الحلبي عن الإمام الصادق (ع): ((أنه سأله عن الرجل يأتي الأرض الخربة، فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها - ويزرعها، ما عليه قال: الصدقة: فان كان يعرف صاحبها. قال: فليؤد اليه حقه)).
وذلك، لأن الجواب في رواية الحلبي، لم يفرض فيه إلا مجرد كون الأرض خربة قد زال عمرانها، هذا العنوان أعم من كون الخراب مستندا إلى اهمال صاحب الأرض وامتناعه عن القيام بحقها. وحيث ان صحيحة معاوية بن وهب أخذ في موضوعها، ان صاحب الأرض السابق ترك الأرض وأخربها، فهي أخص مطلقا من رواية الحلبي. ومقتضى التخصيص: أن علاقة صاحب الأرض بأرضه تزول بخراب الأرض وامتناعه عن احيائها.
453

ولا فرق في ذلك، بين الفرد الذي مارس إحياء الأرض وغيره ممن حصل على الأرض بأسباب أخرى، فإنه لا يسمح له باحتكار الأرض بعد خرابها وإهمالها، مهما كان السبب في حصوله عليها.
فإذا كانت الأرض من أراضي الدولة (الإمام)، وأهملها الشخص الذي عمرها حتى أخربها، عادت بعد خرابها حرة طليقة، تطبق عليها نفس الأحكام التي تطبق على سائر الأراضي الميتة التي تملكها الدولة فيفسح المجال لإحيائها من جديد، ويترتب على إحيائها نفس الأحكام التي تترتب على إحيائها الأول.
وللشهيد الثاني رحمه الله نص يوضح هذا المعنى في المسالك إذ كتب يقول: ((إن هذه الأرض - أي الأرض التي أحياها الفرد ثم خربت - أصلها مباح فإذا تركت عادت إلى ما كانت عليه، وصارت مباحة، وإن العلة في تملك هذه الأرض، الاحياء والعمارة، فإذا زالت العلة زال المعلول)) (1).
ويريد بذلك، أن الحق الذي يحصل عليه الفرد في الأرض إنما هو نتيجة للاحياء ومعلول له، فيبقى حقه ما دامت العلة باقية والأرض عامرة، فإذا زالت معالم الحياة عن الأرض سقط حقه، لزوال العلة (2).

(1) المسالك ج 2، 288.
(2) ويلاحظ لدى مقارنة هذا النص الفقهي بالنصوص التشريعية التي مرت بنا في رواية معاوية بن وهب ورواية الكابلي، أن النص للشهيد واضح كل الوضوح في انقطاع صلة الفرد بالأرض نهائيا، إذا خربت وزال عمرانها، لأن العلة إذا زالت زال المعلول. وأما النصوص التشريعية السابقة، فهي تسمح عند خراب الأرض واهمال صاحبها لها باحيائها من أي فرد آخر، وتمنحه الأرض بدلا عن صاحبه السابق، ولكنها لا تدل على انقطاع صلة صاحب الأرض بأرضه انقطاعا نهائيا، بسبب خرابها، فمن الممكن في حدود المعطى التشريعي لهذه النصوص، ان يفترض لصاحب الأرض حق فيها، وعلاقة بها حتى بعد خرابها، بدرجة يجعل له حق السبق إلى تجديد احيائها، إذا نافسه غيره على ذلك، ويستمر هذا الحق ما لم يسبقه شخص آخر إلى احياء الأرض، فان أحياها فرد آخر فعلا، حال اهمال صاحبها الأول، انقطعت صلة الأرض بصاحبها القديم.
فعلى أساس النص الفقهي للشهيد، يزول حق الفرد في الأرض لدى خرابها بصورة كاملة. وعلى أساس النصوص الأخرى، يمكن أن نفترض بقاء علاقة الفرد الأول بأرضه، وحقه فيها بعد الخراب بدرجة ما وزوال حق الاحتكار فقط أي حق مع الآخرين عن استثمار الأرض والانتفاع بها.
وينعكس الفرق علميا بين هاتين الفرضيتين، فما إذا أهمل الفرد أرضه وخربت، ثم مات قبل احياء فرد آخر لها، فإن الانطلاق مع رأي الشهيد، يؤدي إلى القول بعدم انتقال الأرض إلى الورثة، لأن صاحبها انقطعت صلته بها نهائيا بعد خرابها، فلا معنى لاندراجها في تركته التي تورث. وأما على الأساس الثاني، فالأرض تورث بمعنى أن الورثة يتمتعون بنفس الدرجة من الحق، التي بقيت للميت بعد خراب الأرض.
وسوف تتجه بحوث الكتاب المقبلة إلى تبني رأي الشهيد الثاني.
454

قد ذكر المحقق الثاني في (جامع المقاصد)، أن: زوال اختصاص المحيي بالأرض بعد خرابها، وجواز أخذ الغير لها، واختصاصه بها، هو المشهور بين الأصحاب والرأي الفقهي السائد في كلماتهم (1) (2). وقال الإمام مالك (ولو أن رجلا أحيا أرضا مواتا ثم أهملها بعد حتى تهدمت آبارها وهلكت أشجارها وطال زمانها حتى عفت بحال ما وصفت لك وصارت إلى حالها الأول ثم أحياها آخر بعده كانت لمن أحياها بمنزلة الذي أحياها أول مرة (3).
وقال بعض فقهاء الأحناف بهذا أيضا معللين بأن الأول ملك استغلال الأرض لا رقبتها فإذا تركها كان ثاني أحق بها (4).
وإذا كانت الأرض التي أهملها صاحبها، مندرجة في نطاق الملكية لها، لا تحول دون سقوط حقه فيها، بإهمالها والامتناع عن القيام بحقها، كما عرفنا. وتعود

(1) راجع جامع المقاصد ج 7، ص 17.
(2) ولا فرق في سقوط الاختصاص بسبب الخراب والاهمال، بين أن يكن المهمل نفسه المحيي للأرض أو شخصا آخر، انتقلت اليه الأرض من المحيي، لإطلاق الدليل بالنحو الذي تقدم. وقد مال إلى ذلك المحققان الفقيهان صاحب الكفاية وصاحب المفاتيح.
(3) المدونة الكبرى 15 / 195.
(4) راجع فتح القدير ج 9، ص 4.
455

- في رأي ابن البراج وابن حمزة وغيرهما - ملكا للمسلمين وتدخل في نطاق الملكية العامة (1).
وهكذا نعرف، أن الاختصاص بالأرض - حقا أو ملكا - محدود بإنجاز الفرد لوظيفته الاجتماعية في الأرض. فإذا أهملها وامتنع عن إعمارها حتى خربت، انقطعت صلته بها، وتحررت الأرض من قيوده. وعادت ملكا طليقا للدولة، إن كانت مواتا بطبيعتها، وأصبحت ملكا عاما للمسلمين، إن كان الفرد الذي أهملها وسقط حقه فيها قد ملكها بسبب شرعي، كما في الأراضي التي أسلم عليها أهلها طوعا (2).

(1) راجع المهذب لابن البراج، ج 1، ص 182 والوسيلة لابن حمزة ص 681، ومسالك الإفهام ج 2، ص 288.
(2) لاحظ التحرير ج 2، ص 130، ومسالك الإفهام ج 2، ص 288.
456

نظرة الإسلام العامة إلى الأرض
في ضوء الأحكام المتنوعة التي شرعها الإسلام للأرض، ووقفنا على تفصيلاتها يمكننا أن نستخلص النظرة العامة للإسلام إلى الأرض، ومصيرها في ظل الإسلام، الذي يمارس النبي (ص) تطبيقه أو خليفته الشرعي، وسوف نحدد الآن النظرة العامة للإسلام إلى الأرض. فإذا استعرضنا بعد ذلك أحكام الإسلام، التي تتصل بسائر ثروات الطبيعة، ومصادر الإنتاج الأساسية، عدنا إلى هذه النظرة الإسلامية العامة عن الأرض، لنضعها في موضعها من نظرة أشمل وأوسع، تشكل الأساس والقاعدة المذهبية لتوزيع ما قبل الإنتاج.
ولكي نستطيع تجلية الموقف، وفحص المضمون الاقتصادي للنظرة الإسلامية في الأرض، وعزله عن سائر العوامل والاعتبارات الأخرى، ذات الصفة السياسية التي سنأتي على ذكرها بعد ذلك. لكي يتأتى لنا ذلك كله، يحسن بنا أن ننطلق - في تحديد نظرة الإسلام العامة - من فرضية تساعدنا على إبراز المضمون الاقتصادي للنظرية، مستقلا عن الاعتبارات السياسية.
فلنفترض، أن جماعة من المسلمين قرت أن تستوطن منطقة من الأرض كانت لا تزال غير مستثمرة، فأنشأت في تلك المنطقة مجتمعا إسلاميا وأقامت علاقاتها على أساس الإسلام، ولنتصور أن الحاكم الشرعي، النبي (ص) أو (الخليفة) يقوم بتنظيم تلك العلاقات، وتجسيد الإسلام في ذلك المجتمع بكل خصائصه ومقوماته الفكرية والحضارية والتشريعية. فماذا سوف يكون موقف الحاكم والمجتمع من الأرض؟، وكيف تنظم ملكيتها؟.
457

والجواب على هذا السؤال جاهز، في ضوء التفصيلات التي قدمناها. فان الأرض التي قدرها في فرضيتنا أن تصبح وطنا للمجتمع الإسلامي، وتنمو على تربتها حضارة السماء، قد افترضناها أرضا طبيعية غير مستثمرة لم يتدخل العنصر الإنساني فيها بعد، ومعنى هذا أن هذه الأرض تواجه الإنسان وتدخل في حياته لأول مرة في الفترة المنظورة من التاريخ.
ومن الطبيعي أن تنقسم هذه الأرض في الغالب إلى قسمين، ففيها الأراضي التي وفرت لها الطبيعة شوط الحياة والإنتاج من ماء ودفأ ومرونة في التربة، وما إلى ذلك، فهي عامرة طبيعيا، وفيها الأراضي التي لم تظفر بهذه المميزات من الطبيعة، بل هي بحاجة إلى جهد إنساني يوفر لها تلك الشروط، وهي الأرض الميتة في العرف الفقهي، فالأرض التي افترضنا أنها سوف تشهد ولادة المجتمع الإسلامي، هي إذن: أما أرض عامرة طبيعيا وإما أرض ميتة ولا يوجد قسم ثالث.
والعامر طبيعيا من تلك الأرض ملك للدولة، أو بتعبير آخر، ملك المنصب الذي يمارسه النبي (ص) وخلفاؤه الشرعيون، كما مر بنا، وفقا للنصوص التشريعية والفقهية، حتى جاء في تذكرة العلامة الحلي، أن إجماع العلماء قائم على ذلك (1).
وكذلك أيضا الأرض الميتة، كما عرفنا سابقا، وهو واضح أيضا في النصوص التشريعية والفقهية. حتى ذكر الشيخ الإمام المجدد الأنصاري في المكاسب، أن النصوص بذلك مستفيضة، بل قيل انها متواترة (2).
فالأرض كلها إذن، يطبق عليها الإسلام - حين ينظر إليها في وضعها الطبيعي - مبدأ ملكية الإمام، وبالتالي ملكية ذات طابع عام (3).
وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم النصوص التشريعية، المنقولة عن أئمة أهل البيت بأسانيد صحيحة، التي تؤكد أن الأرض كلها ملك الإمام، فإنها حين تقرر

(1) التذكرة ج 2، ص 402، كتاب إحياء الموات، بحث تقسيم الأراضي، القسم الرابع.
(2) إيصال الطالب 7، ص 325.
(3) لاحظ جواهر الكلام ج 16، ص 4 و 5.
458

ملكية الإمام للأرض، تنظر إلى الأرض بوضعها الطبيعي كما تقدم (1).
ولننظر الآن إلى ما يأذن به الإسلام لأفراد المجتمع الذي افترضناه - من ألوان الاختصاص بالأرض. وفي هذا المجال يجب أن نستبعد الحيازة والاستيلاء المجرد، بوصفه مبررا أصيلا لاختصاص الفرد بالأرض التي يحوزها ويستولي عليها، لأنا لا نملك نصا صحيحا يؤكد ذلك في الشريعة، كما ألمعنا سابقا، وإنما الشيء الوحيد الذي عرفنا أنه يبرر الاختصاص شرعا: هو الإحياء (2)، أي انفاق الفرد جهدا خاصا على أرض ميتة، من أجل بعث الحياة فيها.
فان ممارسة هذا العمل، أو العمليات التمهيدية له تعتبر في الشريعة سببا للاختصاص، ولكنه بالرغم من ذلك لا يكون سببا لتملك الفرد رقبة الأرض ملكية خاصة تخرج بها عن مبدأها الأول، وإنما ينتج حقا للفرد، يصبح بموجبه أولى بالانتفاع بالأرض التي أحياها من غيره، بسبب الجهود التي بذلها في الأرض. ويظل للإمام ملكية الرقبة، وحق فرض الضريبة على المحيي، وفقا للنص الفقهي الذي كتبه الشيخ الفقيه الكبير، محمد بن الحسن الطوسي، حين قال في فصل الجهاد من كتاب المبسوط، ((فأما الموات فإنها لا تغنم، وهي للإمام فان أحياها أحد كان أولى بالتصرف فيها، ويكون لإمام طسقها)) (3) وقد مر بنا النص سابقا.

(1) وبهذا نعرف. أن في الإمكان تفسير ملكية الإمام للأرض كلها - في هذه النصوص - على أساس كونها حكما شرعيا وملكية اعتبارية، ما دامت منصبة على الوضع الطبيعي للأرض من حيث هي ولا تتعارض مع تملك غير الإمام لشيء من الأرض، بأسباب شرعية طارئة على الوضع الطبيعي للأرض، من احياء أو غيره. فلا ضرورة لتأويل الملكية في تلك النصوص واعتبارها أمرا معنويا لا حكما شرعيا مع أن هذا التأويل يعارض سياق تلك النصوص بوضوح. فلاحظ رواية الكابلي كيف قررت أن الأرض كلها ملك الإمام، وانتهت من ذلك إلى القول بأن للإمام حق الطسق على أن يحيي شيئا من الأرض، فان فرض الطسق أو الأجرة للإمام، تفريعا على ملكيته.. يدل بوضوح، على أن الملكية هنا بمعناها التشريعي، الذي تترتب عليه هذه الآثار، لا بمعنى آخر روحي بحت. ‌‌‌‌
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 38 ص 63.
(2) المبسوط ج 2، ص 29.
459

ويستمر الحق الذي يمنح للفرد بالإحياء، ما دام عمله مجسدا في الأرض، فإذا استهلك عمله، واحتاجت الأرض إلى جهد جديد للحفاظ على عمرانها، فلا يمكن للفرد أن يحتفظ بحقه، إلا بمواصلة أعمارها وتقديم الجهود اللازمة لذلك، أما إذا أهملها وامتنع عن عمرانها، حتى خربت سقط حقه فيها.
نستطيع الآن أن نستوعب الصورة كاملة، وأن نحدد النظرة العامة فالأرض بطبيعتها ملك الإمام، ولا يملك الفرد رقبتها، ولا يصلح أي اختصاص فردي بها، إلا على أساس ما ينفقه الشخص على الأرض من عمل لأجل إعدادها واستثمارها. وهذا الاختصاص أو الحق الذي يكسبه الفرد نتيجة لعمله فيها لا يمنع الإمام عن فرض الطسق أو الريبة على الأرض المحياة لتساهم الإنسانية الصالحة كلها في الاستفادة منها، ولا يتعارض هذا مع العفو عن الطسق أو الضريبة أحيانا، لظروف استثنائية، كما جاء في أخبار التحليل.
هذه هي نظرة الإسلام نحو الأرض، كما تبدو لنا - حتى الآن - قبل إبراز العنصر السياسي منها. وفي الواقع أنها جديرة بحل التناقض القائم بين أنصار ملكية الأرض وخصومها، فإن ملكية الأرض من القضايا الاجتماعي، التي لعبت دورا مهما في التفكير البشري، تبعا لأهميتها بوصفها ظاهرة عاشرت في حياة الإنسان منذ آلاف السنين.
وأكبر الظن أن هذه الظاهرة ولدت في تاريخ الإسلام أو اتسعت بعد اكتشافه للزراعة واعتماده في حياته عليها إذ وجد الإنسان المزارع نفسه بحاجة إلى الاستقرار في أرض خاصة مدة من الزمان، لما يتطلبه هذا الإنتاج نفسه بحاجة إلى الاستقرار في أرض خاصة مدة من الزمان، لما يتطلبه هذا الإنتاج من وقت. فكان من الطبيعي أن يرتبط إلى حد ما بمساحة معينة من الأرض، ويمارس فيها عمله، ويقيم له فيها مأوى ومسكنا يسكنه قريبا من زرعه، ليكون قادرا على مراقبته والمحافظة عليه، وفي النهاية، وجد الإنسان المزارع - أي مزارع - نفسه مشدودا إلى مساحة من الأرض ومرتبطا بها عد روابط تنبع كلها أخيرا من عمله الذي أنفقه على الأرض، وجهده الذي اختلط بتربتها وكل ذرة من ذراتها، فكان من أثر ذلك أن نشأت فكرة الاختصاص، لأنها كانت تعكس من ناحية: هذا الارتباط الذي يجده المزارع بينه
460

وبين عمله المنفصل، الذي جسده في الأرض، ومزجه بوجودها. ومن ناحية أخرى كانت فكرة الاختصاص تحقق الاستقرار، وتسفر عن تقسيم الأرض على أساس الكفاءة إذ يحتفظ كل فرد بالمساحة التي علم فيها، وأثبت كفاءته إلى درجة ما في استثمارها.
وعلى هذا الأساس نرجح أن تكون الحقوق الخاصة في الأرض نشأت تاريخيا في أكبر الظن نتيجة للعمل، واتخذت هذه الحقوق على مر الزمن شكل الملكية.
ع خصوم ملكية الأرض:
والشكوك التي تثار عادة من خصوم ملكية الأرض حولها، تتجه تارة إلى اتهام واقعها التاريخي وجذورها الممتدة في أعماق الزمن، وتذهب تارة أخرى إلى أكثر من ذلك، فتدين نفس فكرة الملكية وحق الفرد في الأرض، بمجافاتها لمبادئ العدالة الاجتماعية.
أما اتهام واقع ملكية الأرض، والسند التأريخي لهذه الملكية.. فينصب في الغالب على أسباب القوة والسيطرة، التي تقول عنها التهمة أنها لعبت دورها الرئيسي على مر التاريخ، في توزيع الأرض توزيعا غير عادل، ومنح الافراد حقوقا خاصة فيها، وإذا كانت القوة والاغتصاب وعوامل العنف، هي المبررات الواقعية والسند التاريخي لملكية الأرض، والحقوق الخاصة التي شهدها تاريخ الانسان.. فمن الطبيعي أن تشجب هذه الحقوق، وتعتبر ملكية الأرض في التاريخ لونا من السرقة.
ونحن لا ننكر عوامل القوة والاغتصاب، ودورها في التأريخ، ولكن هذه العوامل لا تفسر ظهور ملكية الأرض وحقوقها الخاصة في التاريخ، إذ يجب لكي تستولي على الأرض بالعنف والاغتصاب، أن يكون هناك من تغتصب منه الأرض، وتطرده بالقوة لتضمها إلى أراضيك. وهذا يفترض مسبقا أن تكون تلك الأرض التي
تعرضت للاغتصاب والعنف، قد دخلت في حيازة شخص أو أشخاص قبل ذلك، وأصبح لهم حق فيها.
461

وحين نريد أن نفسر هذا الحق السابق على عمليات الاغتصاب، يجب أن ندع جانبا التفسير بالقوة والعنف، لنفتش عن سببه، في نوع العلاقة التي كانت قائمة بين الأرض وأصحاب الحق فيها. ومن ناحية أخرى أن هذا الشخص الغاصب، الذي نفترض أنه كان يستولي على الأرض بالقوة. لم يكن على الأكبر شخصا طريدا لا مأوى له ولا أرض، بل هو - في أقرب صورة إلى القبول - شخص استطاعه أن يعمل في مساحة من الأرض ويستثمرها، واتسعت امكاناته بالتدريج، فأخذ يفكر بالاستيلاء بالعنف على مساحات جديدة من الأرض. فهناك إذن قبل العنف والقوة العمل المثمر والحق القائم على أساس العمل والاستثمار.
وأقرب الأشياء إلى القبول، حين نتصور طائفة بدائية تسكن في أرض وتدخل الحياة الزراعية.. أن يشغل كل فرد فيها مساحة من تلك الأرض، تبعا لإمكاناته، ويعمل لاستثمارها. ومن خلال هذا التقسيم الذي يبدأ بوصفه تقسيما للعمل - إذ لا يتاح لجميع المزارعين المساهمة في كسل شبر - تنشأ الحقوق الخاصة للافراد، ويصبح لكل فرد حقه في الأرض، التي أجهدته وامتصت عمله وأتعابه. وتظهر بعد ذلك عوامل العنف والقوة، حين يأخذ الأكثر قدرة وقوة يغزو أراضي الآخرين ويستولي على مزارعهم.
ولسنا نريد بهذا أن نبرر الحقوق والملكيات الخاصة للأرض، التي مرت في تاريخ الانسان، وإنما نستهدف القول. بأن الاحياء - العمل في الأرض - هو - في أكبر الظن - السبب الأول الوحيد، الذي اعترفت به المجتمعات الفطرية، بوصفه مصدرا لحق الفرد في الأرض، التي أحياها وعمل فيها، والأسباب الأخرى كلها عوامل ثانوية، ولدتها الظروف والتعقيدات، التي كانت تبتعد بالمجتمعات الأولى عن وضعها الفطري وإلهامها الطبيعي.
وقد فقد السبب الأول اعتباره تاريخيا بالتدريج، خلال نمو هذه العوامل الثانوية، وتزايد سيطرة الهوة على الفطرة، حتى امتلأ تاريخ الملكية الخاصة للأرض بألوان من الظلم والاحتكار، وضاقت الأرض على جماهير الناس، بقدر ما اتسعت
462

للمحظوظين منهم.
والإسلام - كما رأينا - قد أعاد إلى هذا السبب الفطري اعتباره، إذ جعل الاحياء المصدر الوحيد لاكتساب الحق من الأرض، وشجب الأسباب الأخرى كلها. وبهذا أحيى الإسلام سنة الفطرة، التي كاد الانسان المصطنع أن يطمس معالمها.
هذا فيما يتصل باتهام السند التاريخي لملكية الأرض. ولكن الاتهام الأوسع والأخطر من ذلك، هو اتهام نفس فكرة الملكية والحق الخاص بالأرض بالذات، وبشكل مطلق، كما تؤكد عليه بعض الاتجاهات المذهبية الحديثة، أو نصف الحديثة - إن صح هذا التعبير - كالاشتراكية الزراعية وغالبا ما نسمع بهذا الصدد: أن الأرض ثروة طبيعية لم يصنعها إنسان، وإنما هي هبة من هبات الله، فلا يجوز لأحد أن يستأثر بها دون الآخرين.
ومهما قيل في هذا الصدد، فان الصورة الإسلامية - التي قدمناها في مستهل هذا الحديث - سوف تبقى فوق كل تهمة منطقية. لأننا رأينا أن الأرض - منظورا إليها بوضعها الطبيعي الذي هي عليه حين تسلمت الانسانية هذه الهبة من الله تعالى -، ليست ملكا أو حقا لأي فرد من الأفراد، وإنما هي ملك الإمام - باعتبار المنصب لا الشخص - ولا تزول - بموجب النظرية الاقتصادية للإسلام عن الأرض - ملكية الإمام لها، ولا تصبح الأرض ملكا للفرد بالعنف والاستيلاء، بل وحتى بالإحياء، وإنما يعتبر الاحياء مصدرا حق الفرد في الأرض فإذا بادر شخص بصورة مشروعة إلى احياء مساحة من الأرض، وأنفق فيها جهوده، كان من الظلم أن يساوى في الحقوق بينه وبين سائر الافراد، الذين لم يمنحوا تلك الأرض شيئا من جهودهم، بل وجب اعتباره أولى من غيره بالأرض والانتفاع بها. ‌‌
فالإسلام يمنح العامل في الأرض حقا يجعله من غيره، ويسمح من الناحية النظرية للإمام بفرض الضريبة أو الطسق عليه، لتساهم الانسانية الصالحة كلها في الاستفادة من الأرض، عن طريق الانتفاع بهذا الطسق.
463

ولما كان الحق في نظر الإسلام يقوم على أساس العمل، الذي أنفقه الفرد على الأرض، فهو يزول - بطبيعة الحال - إذا استهلكت الأرض ذلك العمل، وتطلبت المزيد من الجهد، لمواصلة نشاطها إنتاجها، فامتنع صاحب الأرض من عمرانها وأهملها حتى خربت، والأرض - في هذه الحالة - تنقطع صلتها بالفرد الذي كان يمارسها، لزوال المبرر الشرعي الذي كان يستمد منه حقه الخاص فيها، وهو عمله المتجسد في عمران الأرض وحياتها.
العنصر السياسي في ملكية الأرض:
والآن وقد استوعبنا النظرية الاقتصادية للإسلام نحو الأرض، يتحتم علينا أن نبرز العنصر السياسي، الذي يكمن في نظرة الإسلام العامة إلى الأرض، فان الإسلام قد اعترف إلى جانب الاحياء، الذي هو عمل اقتصادي بطبيعته.. بالعمل السياسي. والعمل السياسي الذي يتجسد في الأرض ويمنح العامل حقا فيها، هو العمل الذي يتم بموجبه ضم الأرض إلى حوزة الإسلام، وجعلها مساهمة بالفعل في الحياة الإسلامية، وتوفير إمكاناتها المادية.
وفي الواقع: أن مساهمة الأرض فعلا في الحياة الإسلامية وتوفير إمكاناتها المادية، تنشأ تارة عن سبب اقتصادي، وهو عملية الاحياء التي ينفقها افرد، على أرض داخلة في حوزة الإسلام، لتدب فيها الحياة وتساهم في الإنتاج، كما تنشأ - تارة أخرى - عن سبب سياسي، وهو العمل الذي يتم بموجبه، ضم أرض حية عامرة إلى حوزة الإسلام. وكل من العملين له اعتباره الخاص في الإسلام.
وهذا العمل الذي ينتج ضم أرض حية عامرة إلى حوزة الإسلام على نوعين: لأن الأرض تارة تفتح فتحا جهاديا، على يد جيش الدعوة، وأخرى يسلم عليها أهلها طوعا.
فان كان ضم الأرض إلى حوزة الإسلام، مساهمتها في الحياة الإسلامية نتيجة للفتح، فالعمل السياسي هنا يعتبر عمل الأمة، لا علم فرد من الأفراد، ولذلك تكون
464

الأمة هي صاحبة الأرض، ويطبق على الأرض - لأجل ذلك - مبدأ الملكية العامة.
وإن كان ضم الأرض العامرة، وإسهامها في الحياة الإسلامية، عن طريق إسلام أهلها عليها، كان العمل السياسي هنا عمل الأفراد، لا عمل الأمة. ولأجل ذلك اعترف الإسلام هنا بحقهم في الأرض العامرة، التي أسلموا عليها، وسمح لهم بالاحتفاظ بها.
وهكذا نعرف. أن العمل السياسي يقوم بدور، في النظرية الإسلامية العامة إلى الأرض، ولكنه لا ينتزع طابع اللا فردية في الملكية، إذا كان عملا جماعيا، تشترك فيه الأمة بمختلف ألوان الاشتراك، كالفتح، بل تصبح الأرض عندئذ ملكا عاما للأمة. والملكية العامة للأمة تتفق في الجوهر والمغزى الاجتماعي مع ملكية الدولة، وإن كانت ملكية الدولة أرحب منها وأوسع، لأن ملكية الأمة بالرغم من كونها عامة داخل نطاق الأمة، لكنها خاصة بالأمة على أي حال، ولا يجوز استخدامها إلا في مصالحها العامة. وأما ملكية الدولة فيمكن للأمام استثمارها في نطاق أوسع (1).
فالعمل السياسي الجماعي بالنسبة إلى الأراضي العامة التي فتحها المسلمون، أنتج وضعها في نطاق إسلامي، بدلا عن نطاق إنساني أوسع، ولم يخرجها عن طابع اللا فردية في الملكية على أي حال وإنما تخرج الأرض عن هذا الطابع، وتخضع لمبدأ الملكية الخاصة، حين يكون العمل السياسي عملا فرديا، كإسلام الافراد على أراضيهم طوعا.
فان كان ضم الأرض إلى حوزة الإسلام، ومساهمتها في الحياة الإسلامية نتيجة للفتح، فالعمل السياسي هنا يعتبر عمل الأمة لا عمل فرد من الأفراد، ولذلك تكون الأمة هي صاحبة الأرض، ويطبق على الأرض - لأجل ذلك - مبدأ الملكية العامة.
وإن كان ضم الأرض العامرة، وإسهامها في الحياة الإسلامية، عن طريق إسلام أهلها عليها، كان العمل السياسي هنا عمل الافراد، لا عمل الأمة. ولأجل ذلك اعترف الإسلام هنا بحقهم في الأرض العامرة، التي أسلموا عليها، وسمح لهم بالاحتفاظ بها.
وهكذا نعرف. أن العمل السياسي يقوم بدور، في النظرة الإسلامية العامة إلى الأرض، ولكنه لا ينتزع طابع اللا فردية في الملكية، إذا كان عملا جماعيا، تشترك فيه الأمة بمختلف ألوان الاشتراك، كالفتح، بل تصبح الأرض عندئذ ملكا عاما للأمة. والملكية العامة للأمة تتفق في الجوهر والمغزى الاجتماعي مع ملكية الدولة، وإن كانت ملكية الدولة أرحب منها وأوسع، لأن ملكية الأمة بالرغم من كونها عامة داخل نطاق الأمة، لكنها خاصة بالأمة على أي حال، ولا يجوز استخدامها إلا في مصالحها العامة. وأما ملكية الدولة، فيمكن للإمام استثمارها في نطاق أوسع. فالعمل السياسي الجماعي بالنسبة إلى الأراضي العامرة التي فتحها المسلمون، أنتج وضعها في نطاق إسلامي، بدلا عن نطاق إنساني أوسع، ولم يخرجها عن طابع اللا فردية في الملكية على أي حال وإنما تخرج الأرض عن هذا الطابع، وتخضع لمبدأ الملكية الخاصة، حين يكون العمل السياسي عملا فرديا، كإسلام الافراد على أراضيهم طوعا.
وفي هذا الضوء نعرف. أن المجال الأساسي للملكية الخاصة لرقبة الأرض في التشريع الإسلامي.. هو ذلك القسم من الأرض، الذي كان ملكا لأصحابه، وفقا لأنظمة عاشوها قبل الإسلام، ثم استجابوا للدعوة ودخلوا في الإسلام طوعا أو صالحوها، فان الشريعة تحترم ملكياتهم، وتقرهم على أموالهم (2).
وأما في غير هذا المجال، فالأرض تعتبر ملكا للإمام. ولا تعترف الشريعة بتملك

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 16، ص 21، ص 166، وج 22، ص 349.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 21، ص 174 و 175.
465

الفرد لرقبتها، وإنما يمكن للفرد الحصول على حق خاص فيها، عن طريق الاعمار والاستثمار، كما مر في رأي الشيخ الطوسي. هذا الحق وإن كان لا يختلف عمليا في واقعنا المعاش عن الملكية، ولكنه يختلف عنها نظريا، لأن الفرد ما دام لا يملك رقبة الأرض، ولا ينتزعها من نطاق ملكية الإمام فللإمام أن يفرض عليه الخراج، كما قرره الشيخ الطوسي وإن كنا غير مسؤولين فعلا عن هذا الخراج من الناحية العملية، لأجل اخبار التحليل التي رفعته بصور استثنائية، مع اعترافها به نظريا.
فالشريعة على الصعيد النظري إذن لم تعترف بالملكية الخاصة لرقبة الأرض، إلا في حدود احترامها للملكيات الثابتة في الأرض، قبل دخولها في حوزة الإسلام طوعا وصلحا.
ويمكننا بسهولة أن نجد المبررات السياسية لهذا الاعتراف، إذا ربطناه باعتبارات الدعوة ومصلحتها الرئيسية،
بدلا عن ربطه بالمضمون الاقتصادي للنظرة الإسلامية. لأن أولئك الذين أسلموا على أراضيهم طوعا، أو دخلوا في حوزة الإسلام صلحا، كان من الضروري أن تترك المساحات التي عمروها في أيديهم، وان لا يطالبوا بتقديمها إلى دولة الدعوة، التي دخلوا في حوزة الإسلام صلحا، كان من الضروري أن تترك المساحات التي عمروها في أيديهم، وأن لا يطالبوا بتقديمها إلى دولة الدعوة، التي دخلوا فيها أو انضموا إلى سلطانها، وإلا لشكل ذلك عقبة كبيرة في وجه الدعوة وامتدادها في مختلف مراحلها.
وبالرغم من إعطاء الإسلام لهؤلاء حق الملكية الخاصة، فإنه لم يمنحها بشكل مطلق، وإنما حددها باستمرار هؤلاء الافراد في استثمار أراضيهم، والعمل لإسهامها في الحياة الإسلامية، وأما إذا أهملوا الأرض حتى خربت فان عددا من الفقهاء كابن البراج وابن حمزة يرى أنها تعود عندئذ ملكا للأمة (1).
نظرة الإسلام في ضوء جديد:
ويمكننا أن نتجاوز ما وصلنا اليه من استنتاجات حتى الآن عن نظرة الإسلام

(1) لاحظ المهذب لابن البراج، ج 1، ص 182 والوسيلة لابن حمزة، ص 681.
466

التشريعية إلى الأرض لنضع هذه النظرة في إطار أكثر اتساقا على ضوء بعض المواقف الفقهية الخاصة من النصوص ويتمثل ذلك في المحاولة التالية:
إننا لاحظنا قبل لحظات أن الأرض حينما ينظر إليها ضمن وضعها الطبيعي وبصورة مستقلة عن الاعتبارات السياسية تعتبر إسلاميا ملكيا للدولة لأنها إما ميتة بطبيعتها أو حية، وكلا القسمين ملك للإمام. كما رأينا أن الفرد بممارسة الاحياء للأرض الميتة يكتسب حقا خاصا سيجعله أولى بها من الآخرين ما دامت حية، وبممارسته للانتفاع بالأرض العامرة يكتسب حقا يجعله أولى بالانتفاع بها ما دام مواصلا لذلك.
والآن نريد أن نريد إذا كانت هناك تعديلات يجب إدخالها على هذه الصورة التشريعية وما هي حدود هذه التعديلات، وذلك ضمن النقاط التالية:
أولا: الأرض المفتوحة عنوة العامرة حين الفتح.
وقد تقدم أن هذه الأرض يحكم بأنه ملك عام للمسلمين ولهذا قلنا إنها تدخل في نطاق الملكية العامة للأمة لا في نطاق ملكية الدولة. ولكن يمكن ان نقول بهذا الصدد إن هذه الأرض إذا نظرنا إليها قبل الفتح نجد أنها أرض ميتة قد أحياها كافر فتكون رقبتها على ضوء ما تقدم ملكا للإمام أو الدولة وللكافر المحيي لها أو لمن انتقلت اليه من المحيي حق الاحياء، والروايات الواردة عن الأئمة (عليهم السلام) بشأن الأرض المفتوحة وأنها للمسلمين لا يفهم منها سوى أن ما كان للكافر من حق في الأرض ينتقل بالفتح إلى الأمة ويصبح حقا عاما ولا تدل على أن حق الإمام يسقط بالفتح لأن المسلمين إنما يغنمون من أعدائهم لا من إمامهم، وعلى هذا فسوف تظل رقبة الأرض ملكا للإمام ويتحول ما فيها من حق خاص إلى حق عام للأمة.
ثانيا: الأرض التي أسلم أهلها عليها طوعا.
وقد تقدم أن هذه الأرض ملك خاص لأصحابها غير أن بالإمكان القول بأن الروايات الواردة لبيان حكم هذه الأرض كانت متجهة إلى الأمر بتركها في أيدي
467

أصحابها في مقابل ما يصنع بالأرض المفتوحة من تجريد أصحابها من حقوقهم فيها فما يترك لمن اسلم طوعا هو نفس ما ينتزع من حق ممن قهر عنوة وهذا هو الحق الخاص دون ملكية رقبة الأرض. وبكلمة أخرى: أن الأرض قبل إسلام أهلها عليها طوعها كانت ملكا لدولة بحكم دليل الأنفال وكان لصاحبها حق خاص فيها هو حق الاحياء والإسلام يحقن ماله من حقوق لا أنه يمنحه من الحقوق ما لم يكن له وعليه (1) فيظل محتفظا بحق الاحياء مع بقاء الأرض ملكا للدولة، ولهذا وجدنا أنه إذا أخل بواجبه وأهمل الأرض ولم يعمرها كان على الإمام أن يبادر إلى الاستيلاء عليها واستثمارها لأن رقبتها لا تزال ضمن نطاق ملكية الدولة.
ثالثا: الأرض التي صولح أهلها على أن تكون لهم.
وهنا في الحقيقة عقد تنقل الدولة بموجبه ملكية هذه الأرض إلى المصالحين في مقابل امتيازات معينة تكسبها كالجزية مثلا، وقد سبق أن الأراضي التي تملكها الدولة تعتبر من الأموال الخاصة للدولة التي يمكن لها أن تتصرف فيها بمعارضة ونحوها. ولكن عقد الصلح هذا عقد سياسي بطبيعته وليس عقد معوضة فهو لا يعني حقا اسقاط ملكية الدولة أو النبي والإمام لرقبة الأرض ونقلها إليهم وإنما يعني رفع اليد عن أرضهم وتركها لهم في مقابل امتيازات معينة، ووجوب الوفاء بهذا العقد يحتم على الإمام ألا يفرض عليهم أجرة في مقابل انتفاعهم بالأرض وهذا غير نقل ملكية الرقبة (2)، فالمصالحة على أن يتكون الأرض لهم تعني المدلول العملي لهذه العبارة، لا المدلول التشريعي، لأن المدلول العملي هو كل ما يهم الكفار المصالحين، فهي نظير عقد الذمة الذي هو عقد سياسي تتنازل فيه الدولة عن جباية الزكاة والخمس من الذمي في مقابل إعطاء الجزية فان هذا لا يعني سقوط الزكاة عن الكافر من الوجهة التشريعية وإنما يعين الزام الدولة بأن لا تمارس جباية هذه الضريبة وإن كانت ثابتة تشريعا. ‌‌‌‌

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 16، ص 4.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 21، ص 171.
468

فإذا تم كل ما تقدم أمكن القول بأن الأرض كلها ملك الدولة أو المنصب الذي يمثله النبي أو الإمام ولا استثناء لذلك إطلاقا وعلى هذا الضوء نفهم قول الإمام علي في رواية أبي خالد الكابلي عن محمد بن علي الباقر (ع) عنه (ع): (والأرض كلها لنا فمن أحيى أرضا من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الأمام)... (1
).
فالمبدأ في الأرض هو ملكية الدولة وإلى جانب هذا المبدأ يوجد حق الاحياء وهو الحق الذي يجعل المحيي أو من انتقلت اليه الأرض من المحيي أولى بالأرض من غيره وهذا الحق يكسبه الفرد إذا مارس الاحياء في حالة عدم منع الإمام منه سواء كان مسلما أو كافرا ويكون حقا خاصا (2) غير أنه إذا كان كافرا واحتل المسلمون أرضه عنوة في حرب جهاد تحول هذا الحق الخاص إلى حق عام وأصبح قائما بالأمة الإسلامية ككل.
وإذا لوحظ أن الأرض الخراجية لا يجوز للإمام اخراجها عن كونها خراجية ببيع رقبتها أو هبتها أمكن القول بأن هذا الحق العام وإن كان لا يقطع صلة الدولة برقبة الأرض وملكيتها لها ولكنه يحول الأرض من الأموال الخاصة للدولة إلى الأموال العامة لها التي لابد أن تستثمرها في المصالح المقررة لها مع الاحتفاظ بها (3). وهذا ما يؤكده التعبير عن الأرض الخراجية بأنها موقوفة ولأجل ذلك سوف نعبر بالملكية العامة عن كل حالة من هذا القبيل تمييزا لها عن حالات ملكية الدولة البحتة وهي حالات كون الرقبة ملكا للدولة مع عدم وجود حق عام من هذا النوع.
469

المواد الأولية في الأرض
تأتي المواد الأولية، التي تحويها الطبقة اليابسة في الأرض، والثروات المعدنية الموجودة فيها.. بعد الأرض مباشرة في الأهمية، وخطورة الدور الذي تمارسه في حياة الإنسان الإنتاجية والاقتصادية، لأن كل ما يتمتع به الإنسان في الحقيقة، من سلع وطيبات مادية، مردها في النهاية إلى الأرض، وما تزخر به من مواد وثروات معدنية، ولذلك كانت جل فروع الصناعة تعتمد وتتوقف على الصناعات الإستخراجية، التي يمارس الإنسان فيها الحصول على تلك المواد والمعادن.
ويقسم الفقهاء عادة المعادن إلى قسمين: وهما المعادن الظاهرة، والمعادن الباطنة.
فالمعادن الظاهرة هي: المواد التي لا تحتاج إلى مزيد عمل وتطوير لكي تبدو على حقيقتها، ويتجلى جوهرها المعدني، كالملح والنفط مثلا. فنحن إذا نفذنا إلى آبار النفط، فسوف نجد المعدن بوجهه الحقيقي، ولن نحتاج إلى جهد في تحويله إلى نفط وإن كنا بحاجة إلى جهود كبيرة، في الوصول إلى آبار النفط واكتشافها، وفي تصفية النفط بعد ذلك.
فالمعدن الظاهر في العرف الفقهي، ليس هو ما يبدو من معنى اللفظ لغة، أي الظاهر الذي لا يحتاج إلى حفر ومؤنة في التوصل اليه، بل هو كل معدن تكون طبيعته المعدنية بارزة، سواء احتاج الإنسان إلى حفر وجهد كبير، للوصول إلى آباره
471

وعيونه في أعماق الطبيعة، أو وجده بيسر وسهولة على سطح الأرض (1).
وأما المعادن الباطنية فهي: كل معدن احتاج في إبراز خصائصه المعدنية إلى عمل وتطوير، كالحديد والذهب (2). فإن مناجم الحديد والذهب، لا تحتوي على حديد أو ذهب ناجز، ينتظر أن يصل الانسان إلى أعماقه ليأخذ منه ما شاء، وإنما تضم تلك المناجم موادا يجب أن يصل الانسان إلى أعماقه ليأخذ منه ما شاء، وإنما تضم تلك المناجم موادا يحجب أن ينفق عليها كثير من الجهد والعمل، لكي تصبح حديدا وذهبا، كما يفهمه بائعو الحديد والذهب.
فظهور المعدن وبطونه في المصطلح الفقهي، يرتبطان بطبيعة المادة ودرجة انجاز الطبيعة لها، لا بمكانها ووجودها قريبا من سطح الأرض، أو في أعماقها وأغوارها.
وقد قال العلامة الحلي في التذكرة، لإيضاح هذا المصطلح الفقهي الذي شرحناه: ((إن المراد بالظاهر: ما يبدو جوهرها من غير عمل، وإنما السعي والعمل لتحصيله، إما سهلا أو متعبا، ولا يفتقر إلى إظهار، كالملح، والنفط، والقار، والقطران، والموميا، والكبريت، وأحجار الرحى، والبرمة، والكحل، والياقوت، ومقالع الطين، وأشباهها (3). المعالجة والمؤونة. عليها، كمعادن الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص.. الخ)) (4).
المعادن الظاهرة:
أما المعادن الظاهرة - كالملح والنفط - فالرأي الفقهي السائد فيها هو: أنها من المشتركات العامة بين كل الناس. فلا يعترف الإسلام لأحد بالاختصاص بها

(1) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 187، وجواهر الكلام ج 38، ص 100 و 101.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 110.
(3) التذكرة ج 2، ص 403، الفصل الأول، المطلب الثاني.
(4) المصدر السابق، المسألة الثالثة.
(5) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 187.
472

، وتملكها ملكية خاصة، لأنها مندرجة عنده ضمن نطاق الملكية العامة، وخاضعة لهذا المبدأ وإنما يسمح للأفراد بالحصول على قدر حاجتهم من تلك الثروة المعدنية، دون أن يستأثروا بها، أو يتملكوا ينابيعها الطبيعية.
وعلى هذا الأساس يصبح للدولة وحدها - أو للإمام بوصفه ولي أمر الناس، الذين يملكون تلك الثروات الطبيعية ملكية عامة - أن يستثمرها بقدر ما توفره الشروط المادية للإنتاج والاستخراج، من إمكانات، ويضع ثمارها في خدمة الناس.
وأما المشاريع الخاصة التي يحتكر فيها الأفراد استثمار المعادن، فتمنع منعا باتا. ولو مارست تلك المشاريع العمل والحفر، للوصول إلى المعدن، واكتشافه في أعماق الأرض.. لم يكن لها حق تملك المعدن، وإخراجه عن نطاق الملكية العامة، وإنما يسمح لكل مشروع فردي بالحصول على قدر حاجة الفرد الخاصة، من تلك
المادة المعدنية.
وقد قال العلامة الحلي في التذكرة - توضيحا لهذا المبدأ التشريعي في المعادن الظاهرة، بعد أن استعرض أمثلة كثيرة لها -: ((إن هذه المعادن لا يملكها أحد بالإحياء والعمارة، وإن أراد بها (النيل) اجماعا)) (1). ويعني (بالنيل): الطبقة التي تحتوي على المعدن من الأرض. أي أن الفرد لا يسمح له بتملك تلك المعادن، ولو حفر حتى وصل إلى آبار النفط، أي إلى الطبقة المعدنية في أعماق الأرض.
وقال أيضا في القواعد - عند الحديث عن المعادن الظاهرة - ما يلي: ((المعادن وهي قسمان: ظاهرة وباطنة. أما الظاهرة، وهي التي لا تفتقر في الوصلة إليها إلى مؤونة، كالملح والنفط، والكبريت، والقار، والموميا، والكحل والبرام، والياقوت،... إلا قرب اشتراك المسلمين فيها، فحينئذ لا تملك بالإحياء، ولا يختص بها المحجر، ولا يجوز إقطاعها، ولا يختص المقطع بها. والسابق إلى موضع منه لا يزعج قبل قضاء وطره. فان تسابق اثنان أقرع مع تعذر الجمع، ويحتمل القسمة، وتقديم الأحوج)) (2).

(1) التذكرة ج 2، ص 403، كتاب إحياء الموت، الفصل الأول المطلب الثاني.
(2) قواعد الأحكام، ج 1، ص 222.
473

وقد نصت على مبدأ الملكية العامة، وعدم السماح بالملكية الخاصة للمعادن الظاهرة، كثير من المصادر الفقهية، كالمبسوط، والمهذب، والسرائر والتحرير، والدروس، واللمعة، والروضة (1).
وجاء في جامع الشرائع والإيضاح: (أنه لو قام الفرد لأخذ الزيادة عن حاجته منع) (2).
وفي المبسوط، والسرائر، والشرائع، والارشاد، واللمعة، ما يؤكد هذا المنع، إذ جاء في هذه المصادر: أنه من سبق أخذ قدر حاجته (3).
وقال العلامة في التذكرة: ((إن هذا هو رأي أكثر أصحابنا، ولم يبينوا لنا حاجة يومه أو سنته)) (4).
ويريد بذلك، أن الفقهاء منعوا من أخذ الزائد على قدر الحاجة، ولم يحددوا الحاجة التي تسوغ الأخذ، هل هي حاجة اليوم أو السنة؟. وفي هذا تبلغ الشريعة قمة الصراحة، في التأكيد على عدم جواز الاستغلال الفردي، لتلك الثروات الطبيعية.
وجاء في متن نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: أن المعدن الظاهر وهو ما يخرج بلا علاج كنفط وكبريت لا يملك ولا يثبت فيه اختصاص بتحجير ولا اقطاع فان ضاق نيله قدم السباق بقدر حاجته فان طلب زيادة فالأصح إزعاجه (5).

(1) لاحظ المبسوط ج 3، ص 274، والمهذب لابن البراج، ج 2، 33، والسرائر ج 2، ص 383، والتحرير ج 2، ص 131، والدروس ص 295، واللمعة ص 243، والروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 188.
(2) لاحظ الجامع للشرائع ص 375، والإيضاح ج 2، ص 237.
(3) لاحظ المبسوط ج 3، ص 275، والسرائر ج 2، ص 383 ومجمع الفائدة والبرهان ج 7، ص 502، والروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 188، والشرائع ج 3، ص 222.
(4) التذكرة ج 2، ص 403، الفصل الأول، المطلب الثاني، المسألة الثانية.
(5) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ج 5، ص 349.
474

وقال الشافعي يوضح حكم المعادن الظاهرة: وأصل المعادن صنفان ما كان ظاهرا كالملح في الجبال تنتابه الناس فهذا لا يصلح لأحد أن يقطعه بحال والناس فيه شرع وهكذا النهر والماء والظاهر والنبات فيما لا يملك لأحد، وقد سأل الأبيض بن حمال النبي (ص) أن يقطعه ملح مأرب فأقطعه إياه وأراده. فقيل له: إنه كالماء العد فقال: فلا إذن (1): قال: ومثل هذا كل عين ظاهرة كنفط أو قيل أو كبريت أو موميا أو حجارة ظاهرة في غير ذلك أحد فهو كالماء والكلأ الناس فيه سواء)) (2).
وقال الماوردي في الأحكام السلطانية يتحدث عن المعادن الظاهرة: فأما الظاهرة فهي ما كان جوهرها المستودع فيها بارزا كمعادن الكحل والملح والقار والنفط وهو كالماء الذي لا يجوز إقطاعه والناس فيه سواء بأخذه من ورد اليه.. فان أقطعت هذه المعادن الظاهرة لم يكن لإقطاعها حكم وكان المقطع وغيره فيها سواء وجميع من ورد إليها أسوة مشتركون فيها فإن منعهم المقطع منها كان بالمنع متعديا (3).
فالمعادن الظاهرة في ضوء ما قدمناه من النصوص الفقهية خاضعة لمبدأ الملكية العامة. والملكية العامة هنا تختلف عن الملكية العامة لتلك الأرض كانت نتيجة لعلم سياسي قامت به الأمة وهو الفتح، فلم تكن لتنفتح لأكثر من ذلك، فهي ملكية عامة للأمة الإسلامية، وأما المعادن هنا، فالناس فيها جميعا سواء، بموجب كثير من المصادر الفقهية، التي جاء التعبير فيها بكلمة الناس بدلا عن كلمة المسلمين، كما في المبسوط، والمهذب، والوسيلة، والسرائر والأم. إذ لا دليل في رأي أصحاب هذه المصادر على اختصاص المسلمين بالمعادن، فهي إذن ملك عام للمسلمين، ولكل من يعيش في كنفهم.

(1) لاحظ مختصر سنن أبي داود ج 4، ص 260، الحديث 2941.
(2) الأم ج 4، ص 42.
(3) الأحكام السلطانية ج 2، 235، و 236.
475

المعادن الباطنة
وأما المعادن الباطنة: وهي في العرف الفقهي كما عرفنا، كل معدن لا ينجز بشكله الكامل إلا بالعمل، كالذهب الذي لا يصبح ذهبا إلا بالعمل والتطوير.. فهذه بدورها أيضا نوعان، لأن المدة المعدنية من هذا القبيل قد توجد قريبا من سطح الأرض، وقد توجد في أعماقها بشكل لا يمكن الوصول إليها، بدون حفر وجهد كبير.
المعادن الباطنة القريبة من سطح الأرض:
أما ما كان من المعادن الباطنة قريبا من سطح الأرض، فهو كالمعادن الظاهرة (1) التي مرت بنا أحكامها الآن.
قال العلامة الحلي في التذكرة: ((فالمعادن الباطنة إما أن تكون ظاهرة - أي قريبة من سطح الأرض أو في متناول اليد - أولا، فإن كانت ظاهرة لم تملك بالإيحاء أيضا، كما تقدم في المعادن الظاهرة)) (2).
والشيء نفسه ذكره ابن قدامة حيث كتب يقول: (إن المعادن الظاهرة هي التي يوصل ما فيها من غير مؤونة ينتابها الناس وينتفعون بها. لا تملك بالاحياء ولا يجوز اقطاعها لأحد من الناس ولا احتجازها دون المسلمين.. فاما المعادن الباطنة وهي التي لا يوصل إليها إلى بالعمل والمؤونة كمعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس
والرصاص والبلور والفيروزج فإذا كانت ظاهرة لم تملك أيضا بالاحياء) (3).
فالإسلام لا يسمح في المواد المعدنية التي تقع قريبا من سطح الأرض بتملكها، وهي في مكانها ملكية خاصة، وإنما يأذن لكل فرد أن يمتلك الكمية التي يأخذها

(1) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 192.
(2) التذكرة ج 2 ص 302، كتاب إحياء الموات، الفصل الأول، المطلب الثاني، المسألة الثالثة.
(3) المغني ج 6، ص 156 و 157.
476

ويحوزها من تلك المواد، على أن لا تتجاوز الكمية حدا معقولا، ولا تبلغ الدرجة التي يصبح استيلاء الفرد عليها وحيازته لها سببا للضرر الاجتماعي، والضيق على الآخرين، كما نص على ذلك الفقيه الأصفهاني في الوسيلة (1). لأننا لا نملك نصا صحيحا من الشريعة، يدل على ان الحيازة - دائما وفي جميع الأحوال - تكون سببا لملكية الثروة المعدنية المحازة، مهما كان قدر تلك الثروة، ومدى أثر حيازتها على الآخرين. وإنما الشيء الوحيد الذي نعلمه هو، أن الناس كانوا قد اعتادوا في عصر التشريع على إشباع حاجاتهم، من المواد المعدنية التي توجد على سطح الأرض أو قريبا منه، بحيازة كميات من تلك المواد لسد حاجاتهم. وكانت الكميات ضئيلة بطبيعة الحال، تبعا لانخفاض إمكاناتهم الاستخراجية والإنتاجية. وهذه العادة التي سمحت بها الشريعة وقتئذ، لا يمكن أن تصبح دليلا على سماح الشريعة بتملك الفرد لما يحوزه من الكميات وإن اختلفت حيازته في الكم - أي في قدر المادة المحازة - وفي الكيف - أي أثر الحيازة على الآخرين - عن الحيازة التي جرت عليها عادة الناس في عصر التشريع.
وحتى الآن، وفي حدود المعادن الظاهرة - بالمعنى الفقهي - والمعادن الباطنة القريبة من سطح الأرض.. نجد أن الفقهاء لم يسمحوا بالملكية الخاصة لرقبة المعدن، وإنما أجازوا للفرد أن يأخذ من تلك المعادن، القدر المعقول من حاجته. وبذلك ترك مجال استثمار هذه الثروات الطبيعية في نطاق أوسع، بدلا عن ممارسة المشاريع الفردية الخاصة لها على سبلي الاحتكار.
المعادن الباطنة المستترة:
وأما المعادن الباطنة، التي تختفي في أعماق الأرض فهي تتطلب نوعين من الجهود: أحدهما: جهد التفتيش والحفر، للوصول إلى طبقاتها في أغوار الأرض. والآخر: الجهد الذي يبذل على نفس المادة لتطويرها، وإبراز خصائصها المعدنية، وذلك كمعادن

(1) لاحظ الوسيلة لابن حمزة ج 3 ن ص 124.
477

الذهب والحديد، ولنطلق على هذه الفئة من المعادن اسم: (المعادن الباطنة المستترة).
وهذه المعادن الباطنة المستترة، تتقاذفها عدة نظريات في الفقه الإسلامي، فهناك من يرى أنها ملك الدولة، أو الإمام باعتبار المنصب لا الشخص، كالكليني والقمي، والمفيد، والديلمي، والقاضي، وغيرهم إيمانا منهم بأن المعادن من الأنفال، والأنفال ملك الدولة. وهناك من يرى أنها من المشتركات العامة، التي يملكها الناس جميعا ملكية عامة، كما نقل عن الإمام الشافعي وعن كثير من العلماء الحنابلة (1).
وقد ذكر الماوردي الفقيه الشافعي: أنه أحد القولين في المسألة إذ كتب يقول: وأما المعادن الباطنة فهي ما كان جوهرها مستكنا فيما لا يوصل اليه إلا بالعمل كمعادن الذهب والفضة والصفر والحديد فهذه وما أشبهها معادن باطنة سواء احتجاج المأخوذ منها إلى سبك وتخليص أو لم يحتج. وفي جواز اقطاعها قولان أحدهما لا يجوز كالمعادن الظاهرة وكل الناس فيها شرع (2).
كما يبدو من ابن قدامة الفقيه الحنبلي أن المعادن الباطنية المستترة هي من المشتركات العامة أيضا في ظاهرة المذهب الحنبلي وظاهر مذهب الشافعي فلا فرق بينها وبين المعادن الظاهرة أو الباطنة غير المستترة من هذه الناحية (3).
وليس من المهم فعلا، بالنسبة إلى عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي التي نمارسها، أن ندرس الكل التشريعي لملكية هذه المعادن، وهل هو شكل الملكية العامة أو ملكية الدولة، أو أي شكل آخر؟.. ما دام من المسلم به أن هذه المعادن بحسب وضعها الطبيعي ذات طابع اجتماعي عام، ولا يختص بها فرد دون فرد. فتبقى دراسة نوع الملكية بحثا شكليا، لا يتصل بأهدافنا فعلا. وإنما المهم الجدير

(1) لاحظ الأصول من الكافي 1، ص 538، والمهذب ج 2، ص 34، والمقنعة ص 278، باب الأنفال، وتفسير القمي ج 1، ص 254، والمراسم للديلمي، ص 581 من الجوامع الفقهية، والأم ج 4، ص 42 و 44، والأحكام السلطانية ج 1، ص 236، وج 2، ص 197.
(2) الاحكام السلطانية ج 1، ص 236.
(3) لاحظ المغني ج 6 ص 157.
478

بالبحث، أن نعرف ما إذا كان الإسلام يسمح بخروج معدن الذهب والفضة مثلا عن حقل الثروات العامة، ويمنح الفرد الذي حفر الأرض المعدنية واكتشف المادة، ملكية المعدن الذي اكتشفه.
ونحن قد رأينا في المعادن الظاهرة، والمعادن الباطنة التي تقرب من سطح الأرض، أن الشريعة - في رأي جمهور الفقهاء - لم تسمح بتملكها ملكية خاصة، وإنما أجازت لكل فرد أن يأخذ من مواردها المعدنية وفقا لحاجته، دون إضرار بالآخرين. فمن الضروري أن نعرف موقف الشرعية من المعادن الباطنة المستترة، ونتبين مدى اتفاقه أو اختلافه، مع موقفها من المعادن الأخرى.
فالمسألة إذن هي: هل يمكن للفرد ان يملك مناجم الذهب والحديد، ملكية خاصة، بإكتشافها عن طريق الحفر، أو لا؟
ويجيب كثير من الفقهاء على هذا السؤال بالإيجاب، فهم يرون أن المعدن يملك بالاكتشاف خلال عمليات الحفر (1).
ويستندون في ذلك إلى أن اكتشاف المعدن بالحفر، لون من ألوان الإحياء، والموارد الطبيعية تملك بالإحياء. كما أنه أسلوب للحيازة، والحيازة تعتبر سببا لتملك ثروات الطبيعة على اختلافها.
ونحن حين ندرس هذا الرأي من الناحية التي فرضت فيه على ملكية المعدن حين سمح بها لمن يكتشفه.
فملكية المعدن التي يظفر بها المكتشف - على هذا الرأي - لا تمتد في أعماق الأرض، إلى عروق المادة المعدنية وجذورها.
وإنما تشمل المادة التي كشف عنها الحفر. كما أنها لا تمتد أفقيا خارج حدود الحفرة، التي أنشأها المكتشف، إلا بالقدرة الذي يتوقف عليه ممارسته لاستخراج المادة من الحفرة، وهو ما يسمى فقهيا بحريم المعدن (2).

(1) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 191، وجواهر الكلام ج 38، ص 110.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 110 - 113.
479

ومن الواضح، أن هذه الأبعاد للملكية محدودة وضيقة إلى حد كبير وتسمح لأي فرد أخر أن يمارس عمليات الحفر، في موضع آخر من نفس ذلك المعدن، ولو كان يمتص في الحقيقة في نفس الينابيع والجذور، التي يمتصها المكتشف الأول، لأن الأول لا يملك العروق والينابيع.
وهذا التحديد في ملكية المعدن الباطن، لدى القائلين بها، واضح في عدة نصوص فقهية. فقد قال العلامة الحلي في القواعد: ((ولو حفر فبلغ المعدن، لم يكن له منع غيره من الحفر من ناحية أخرى. فإذا وصل - الغير - إلى العرق، لم يكن له - أي للحافر الأول - منعه، لأنه يملك المكان الذي حفره وحريمه)) (1).
وقال في التذكرة - وهو يحدد نطاق الملكية -: ((وإذا اتسع الحفر، ولم يوجد النيل إلا في الوسط، أو بعض الأطراف، لم يقتصر الملك على محل النيل، بل كما يملك ما حواليه، ما يليق بحريمه، وهو قدر ما تقف الأعوان والدواب.
ومن جواز ذلك الحفر - أي من حفر في موضع آخر - لم يمنع، وإن وصل إلى العرق، سواء قلنا أن المعدن يملك بحفره أو لم نقل. لأنه لو كان يملك، فإنما يملك المكان الذي حفره، وأما العرق الذي في الأرض فلا يملكه بذلك)) (2).
وهذه النصوص تحدد الملكية، ضمن حدود الحفرة وما حواليها، بالقدر الذي يتيح ممارسة استخراج المادة منها. ولا تعترف بامتدادها، عموديا وأفقيا، أكثر من ذلك.
ونحن إذا جمعنا إلى هذه التحديد، الذي يقرره القائلون بملكية المعدن من الفقهاء مبدأ عدم جواز التعطيل، الذي يمنع الأفراد الممارسين للحفر وعملية الكشف، من تجميد المعدن وتعطيله، ويحكم بانتزاعه منهم إذا هجروه وعطلوه.
إذا جمعنا بين كل هذه التحفظات، وجدنا القول بالملكية، الذي يسمح للفرد بتملك المعدن ضمن تلك الحدود، في قوة إنكار الملكية الخاصة للمناجم، من ناحية النتائج

د الاحكام ج 1 ص 222.
(2) تذكرة ج 2 كتاب احياء الموات الفصل الأول المطلب الثاني، المسألة الرابعة.
480

الحاسمة والأضواء التي يلقيها على البحث النظري في الاقتصاد الإسلامي. لأن الفرد بحكم تلك التحفظات، لا يسمح له إلا بتملك المادة المعدنية الواقعة في حدود حفرياته فقط ويواجه منذ البدء في العمل، تهديدا بانتزاع المعدن منه إذا حجر المنجم، وقطع العمل، وجمد الثروة المعدنية.
وهذا النوع من الملكية، يختلف بكل وضوح عن ملكية المرافق الطبيعية في المذهب الرأسمالي، لأن هذا النوع من الملكية لا يتجاوز كثيرا عن كونه أسلوبا من أساليب تقسيم العمل بين الناس، ولا يمكن أن يؤدي إلى إنشاء مشاريع فردية إحتكارية، كالمشاريع التي تسود المجتمع الرأسمالي ولا يمكن أن يكون أداة للسيطرة على مرافق الطبيعة، واحتكار المناجم، وما تضم من ثروات.
وخلافا للقول بالملكية، يوجد اتجاه فقهي آخر، ينكر تملك الفرد للمعدن، ضمن تلك الحدود التي اعترف بها الفقهاء، القائلون بالملكية.
وقد جاء في متن نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج قوله: (والمعدن الباطن وهو ما لا يخرج إلا بعلاج كذهب وفضة وحديد ونحاس لا يملك بالحفر والعمل في الأظهر) (1.
وجاء في المغني لابن قدامة الفقيه الحنبلي، قوله عن المعادن: وإن لم تكن ظاهرة فحفرها إنسان وأظهر ها، لم تملك بذلك في ظاهر المذهب وظاهر مذهب الشافعي (2)
ويستمد هذا الاتجاه الفقهي مبررات الانكار، من مناقشة أدلة الملكية ومستمسكات القائلين بها. فهو لا يقر هؤلاء على أن المكتشف للمعدن بملكه، على أساس احيائه للمعدن بالاكتشاف، أو على أساس حيازته له وسيطرته عليه. لأن الاحياء لم يثبت في الشريعة حق خاص على أساسه، إلا في الأرض، للنص التشريعي القائل ((من أحيى أرضا فهي له)). والمعدن ليس أرضا، حتى يشمله النص، بدليل أن

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ج 5، ص 351.
(2) المغني ج 6، ص 157.
481

الفقهاء حين بحثوا أحكام أراضي الفتح العامرة، وقالوا: انها ملك عام للمسلمين، لم يلحقوا معادن تلك الأراضي بها في هذه الملكية، معترفين بأن المعدن ليس أرضا.
كما أن الحيازة لا يوجد دليل في الشريعة، على أنها سبب لتملك المصادر الطبيعية (1).
وعلى ضوء هذا الاتجاه الفقهي، لا يتاح للفرد أن يملك شيئا من المنجم، ما دام في موضعه الطبيعي، وإنما يملك المادة التي يستخرجها خاصة وهذا لا يعني أن علاقته بالمنجم، لا تختلف من الناحية التشريعية عن علاقة أي فرد آخر، بل هو بالرغم من أنه لا يملك المعدن، يعتبر تشريعا أولى من غيره بالاستفادة من المعدن، وممارسة العمل فيه عن طريق الحفرة التي حفرها لاكتشافه، لأنه هو الذي خلق فرصة الاستفادة من المعدن، عن طريق تلك الحفرة التي انفق عليها جهده وعمله، ونفذ منها إلى المواد المعدنية في أعماق الأرض. فمن
حقه أن يمنع الآخرين عن استغلال الحفرة، في الحدود التي تزاحمه، ولا يجوز لأي فرد آخر استخدام تلك الحفرة، في سبيل الحصول على مواد معدنية، بشكل يزاحم صاحب الحفرة.
وفي ضوء ما مر بنا من نصوص فقهية ونظريات عن المناجم، يمكننا أن نستخلص: أن المناجم - في الرأي الفقهي السائد - من المشتركات العامة، فهي تخضع لمبدأ الملكية العامة، ولا يسمح للفرد بتملك عروقها وينابيعها المتوغلة في الأرض. وأما تملك الفرد للمادة المعدنية في الأرض، بالقدر الذي تمتد اليه أبعاد الحفرة عموديا وأفقيا فهو موضع خلاف، بين رأي فقهي سائد، واتجاه فقهي آخر. ففي الرأي السائد فقهيا: يمنح الفرد حق تملك المعدن في تلك الحدود، إذا كان مكان المعدن باطنا مستترا. وفي الاتجاه الفقهي المعاكس: يعطى الفرد حق تملك ما يستخرجه من المادة المعدنية فحسب، ويعتبر أولى بالاستفادة من المعدن، واستخدام حفرته في هذا السبيل من أي شخص آخر (2).

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 114، ج 22، ص 335.
(2) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 187، وجواهر الكلام ج 38، ص 109 و 111.
482

هل تملك المعادن تبعا للأرض؟
كنا نريد بالمعادن حتى الآن: المناجم التي توجد في أرض حرة، لا يختص بها أحد من الأفراد. وقد أسفر البحث عن النتيجة التي استخلصناها قبل لحظة. ويجب أن نلاحظ الآن أن هذه النتيجة، هل تستوعب المناجم التي توجد في أرض يختص بها فرد معين، أو أن هذا المناجم تصبح ملكا لذلك الفرد، باعتبار وجودها في أرضه؟.
والحقيقة: أنا لا نجد مانعا من تطبيق النتيجة التي أسفر عنها البحث على هذه المناجم - ما لم يوجد اجماع تعبدي - لأن وجودها في أرض فرد معين، ليس سببا كافيا من الناحية الفقهية، لتملك ذلك الفرد لها، لأننا عرفنا في بحث سابق: أن اختصاص الفرد بالأرض لا ينشأ إلا من أحد سببين: وهما الإحياء ينتج حقا للمحيي في الأرض ملكا له. وكل من هذين السببين لا يمتد أثره إلى المناجم الموجودة في أفاق الأرض، وإنما يقتصر أثره على الأرض نفسها، وفقا للدليل الشرعي الوارد بشأن كل منهما. فالدليل الشرعي بالنسبة إلى الاحياء هو النص التشريعي القائل: ((أن من أحيا أرضا فهي له وهو أحق بها وعليه طسقها)). ومن الواضح أن هذا النص يمنح المحيي حقا في الأرض التي أحياها، لا فيما تضم الأرض من ثروات لا تزال في الأعماق.
وأما الدليل الشرعي على ملكية الفرد للأرض التي أسلم عليها أهلها طوعا، فهو أن الإسلام يحقن الدم والمال، فمن أسلم حقن دمه وسلمت أمواله التي كان يملكها قبل الإسلام. وهذا المبدأ ينطبق على الأرض نفسها، ولا ينطبق على المناجم التي تضمها، لأن الشخص الذي أسلم لم يكن قبل إسلامه يملك تلك المناجم فتحفظ له. وبكلمة أخرى: أن مبدأ حقن الدم والمال بالإسلام، لا يشرع ملكية جديدة، وإنما يحفظ للشخص بسبب دخوله في الإسلام، ما كان يملكه من أموال قبل ذلك. وليست المناجم من تلك الأموال ليملكها بالإسلام، وإنما يحفظ له إسلامه أرضه التي
483

كانت له سباقا، فيظل مالكا لها بعد الإسلام، ولا تنتزع منه.
ولا يوجد في الشريعة نص على: أن ملكية الأرض تمتد إلى كل ما فيها من ثروات.
وهكذا نعرف: أن بالامكان فقهيا - إذا لم يوجد إجماع تعبدي - القول، بأن المناجم التي توجد في الأراضي المملوكة أو المختصة، ليست ملكا لأصحاب الأراضي، وإن وجب لدى استثمارها أن يلاحظ حق صاحب الأرض في أرضه لأن احياء تلك المناجم واستخراجها يتوقف على التصرف في الأرض (1).
ويبدو أن الإمام مالك ذهب إلى هذا القول وأفتى بأن المعدن الذي يظهر في أرض مملوكة لشخص لا يكون تابعا للأرض بل هو للإمام. فقد جاء في مواهب الجليل ما يلي: (قال ابن بشير: وإن وجد في أرض مملوكة لمالك معين ففيها ثلاثة أقوال: أحدها، أنه للإمام. والثاني، لمالك الأرض. والثالث إن كان عينا للإمام وإن كان غير ذلك من الجواهر فلمالك الأرض. وقال اللخمي: أختلف في معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص تظهر في ملك الرجل فقال مالك: الامر فيها للإمام يقطعه لمن رآه) (2).
الاقطاع في الإسلام
توجد في مصطلحات الشريعة الإسلامية، فيما يتصل بالأراضي والمعادن كلمة، (الاقطاع). فنحن نجد في كلام كثير من الفقهاء القول، بأن للإمام اقطاع هذه الأرض، أو هذا المعدن. على خلاف بينهم في الحدود المسموح بها من الاقطاع للإمام.
وكلمة: (الاقطاع) أشرطت في تاريخ القرون الوسطى - وبخاصة في تاريخ أوروبا - بمفاهيم معينة، حتى أصبحت نتيجة لذلك تثير في الذهن لدى استماعها كل تلك المفاهيم والنظم، التي كانت تحدد علاقات المزارع بصاحب

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 113.
(2) مواهب الجليل ج 2 ص 335.
484

الأرض وتنظم حقوقهما، في العصور التي ساد فيها نظام الاقطاع في أوروبا، ومناطق مختلفة من العالم.
وفي الواقع: أن هذه الإثارة والإشراط باعتبارهما نتاجا لغويا لحضارات ومذاهب اجتماعية لم يعشها الإسلام ولم يعرفها - وساء عرفها المسلمون في بعض أجزاء الوطن الإسلامي، حينما فقدوا أصالتهم وقاعدتهم، واندمجوا في تيارات العالم الكافر أولا - فمن غير المعقول أن نحمل الكلمة الإسلامية، هذا النتاج اللغوي الغريب عنها.
ونحن لا نريد ولا يهمنا الحديث عن رواسب الكلمة التاريخية، والتركة التي تحملتها نتيجة لعصور معينة من
التاريخ الإسلامي، لأننا لسنا بصدد المقارنة بين مدلولين للكلمة، بل لا نجد مبررا لهذه المقارنة اطلاقا، بين مفهوم الاقطاع في الإسلام، ومفهومه الذي تعكسه النظم الاقطاعية على اللفظ، لانقطاع الصلة بين المفهومين نظريا كانفصال أحدهما عن الآخر تاريخيا. وإنما نستهدف في هذا البحث شرح الكلمة، من وجهة نظر الفقه الإسلامي، من أجل تحديد الصورة الكاملة لاحكام الشريعة في التوزيع، التي تتحدد وتتبلور خلال عملية الاكتشاف، التي مارسها في هذا الكتاب.
فالإقطاع كما يحدده الشيخ الطوسي في المبسوط وابن قدامة في المغني، والماوردي في أحكامه والعلامة الحلي، هو في الحقيقة: منح الإمام لشخص ومن الأشخاص، حق العمل في مصدر من مصادر الثروة الطبيعية، التي يعتبر العمل فيها سببا لتملكها أو اكتساب حق خاص فيها (1).

(1) فقد كتب الطوسي يقول: إذا أقطع السلطان رجلا من الرعية قطعة من الموات، صار أحق
به من غيره بإقطاع السلطان إياه بلا خلاف، ولذلك إذا تحجر أرضا من الموات ن والتحجير
أن يؤثر فيها أثرا لم يبلغ به حد الإحياء، مثل أن ينصب فيها المروز، أو يحوط عليها حائطا
وما أشبه ذلك من آثار الإحياء، فإنه يكون أحق بها من غيره، فإقطاع السلطان بمنزلة
التحجير. المبسوط للشيخ الطوسي، ج 3، ص 273.
وكتب ابن قدامة يقول: (إن من أقطعه الإمام شيئا من الموات لم يملكه بذلك لكن يصير أحق به كالمتحجر للشارع في الاحياء) المغني ج 6 ص 164.
وكتب الماوردي يقول: (فمن خصه الإمام به وصار بالإقطاع أحق الناس به لم يستقر ملكه عليه قبل الاحياء). الاحكام السلطانية ج 2، ص 191.
وقال العلامة الحلي: فائدة الاقطاع تصيير المقطع أحق باحيائه التحرير ج 2، ص 131، ولاحظ قواعد الأحكام ج 1، ص 221.
485

ولكي نستوعب هذا التعريف، يجب أن نعرف: أن جميع مصادر الثروة الطبيعية الخام (1) في الإسلام لا يجوز للفرد العمل فيها وإحياؤها ما لم يسمح الإمام أو الدولة بذلك، سماحا خاصا أو عاما (2)، كما سيأتي - في فصل مقبل - عند دراسة مبدأ تدخل الدولة، الذي يتيح لها الإشراف على الإنتاج، وتوزيع العمل والفرص بشكل سليم. فمن الطبيعي للإمام على أساس هذا المبدأ، أن يقوم باستثمار تلك المصادر، بممارسة ذلك مباشرة، أو بإيجاد مشاريع جماعية، أو بمنح فرص استثمارها للافراد، تبعا للشروط الموضوعية والامكانات الإنتاجية، التي تتوفر في المجتمع من ناحية، ومتطلبات العدالة الاجتماعية من وجهة نظر الإسلام من ناحية أخرى.
فبالنسبة إلى معدن خام - مثلا - كالذهب قد يرى من الأفضل أن تمارس الدولة استخراجه، وإعداد الكميات المستخرجة في خدمة الناس. وقد يجد الإمام ذلك غير ممكن عمليا، لعدم توفر امكانات الإنتاج المادية، لاستخراج الكميات الضخمة من قبل الدولة ابتداء، فيرجح إنتاج الأسلوب الآخر، بالسماح للافراد أو الجماعات، باحياء منجم الذهب واستخراجه، لتفاهة الكميات التي يمكن استخراجها. وهكذا يقرر الإمام أسلوب استثمار الخام من المصادر الطبيعية، وسياسية الإنتاج العامة، في ضوء الواقع الموضوعي، والمثل المتبنى للعدالة.
وفي هذا الضوء، نستطيع أن نفهم دور الاقطاع ومصطلحه الفقهي، فهو أسلوب من أساليب استثمار المواد الخام، يتخذه الإمام حين يرى أن السماح للافراد باستثمار تلك الثروات، أفضل الأساليب للاستفادة منها في ظرف معين. فاقطاع الإمام منجم
(1) أي: الموات التي لم تستثمر بعد.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 16، ص 133 و 134 وج 38، ص 11.
486

الذهب لشخص، معناه السماح له باحياء ذلك المنجم، واستخراج المادة منه. ولذلك لا يجوز للإمام اقطاع الفرد ما يزيد على طاقته، ويعجز عن استثماره، كما نص على ذلك العلامة الحلي في (التحرير) و (التذكرة) (1) وفقهاء شافعيون وحنابلة (2) لأن الاقطاع الإسلامي هو السماح للفرد باستثمار الثروة المقطعة، والعمل عليها، فإذا لم يكن الفرد قادرا على العمل لم يكن الاقطاع مشروعا. فهذا التحديد من الاقطاع، يعكس بوضوح طبيعة الإقطاع، بوصفه أسلوبا من أساليب تقسيم العمل واستثمار الطبيعة.
ولم يعتبر الإسلام الاقطاع سببا لتملك الفرد المقطع المصدر الطبيعي، الذي أقطعه الإمام إياه لأن هذا مما يحرفه عن وصفه أسلوبا من أساليب الاستثمار، وتقسيم الطاقات العملية. وإنما جعل للفرد المقطع حقا في استثمار المصدر الطبيعي، وهذا الحق يعني أن له العمل في ذلك المصدر، ولا يجوز لغيره انتزاعه منه والعلم فيه بدلا عنه، كما صرح بذلك العلامة الحلي في (القواعد)، قائلا: بأن الاقطاع يفيد الاختصاص (3)، وكذلك الشيخ الطوسي في (المبسوط) إذ كتب يقول: ((إذا أقطع السلطان رجلا من الرعية، قطعة من الموات، صار أحق بها من غيره، باقطاع السلطان، بلا خلاف)) (4).
وقال الحطاب في مواهب الجليل يتحدث عن اقطاع الإمام للمعدن حيث يكون نظر المعدن للإمام فإنه ينظر فيه بالصلح جباية وإقطاعا.. إنما يقطعه انتفاعا لا تمليكا فلا يجوز بيعه من أقطعه.. ولا يورث عمن أقطعه لأن ما لا يملك لا يورث وفي أرث نيل أدرك قول (5).

(1) لاحظ التذكرة ج 2، كتاب إحياء الموات، الفصل الثاني، الشرط الخامس مي شروط الإحياء والتحرير ج 2، ص 131.
(2) راجع نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج 5، ص 341، والمغني ج 6، ص 166.
(3) قواعد الأحكام ج 1، ص 221.
(4) المبسوط ج 3، ص 273.
(5) مواهب الجليل ج 2، ص 336.
487

فالإقطاع إذن ليس عملية تمليك، وإنما هو حق يمنحه الإمام للفرد في مصدر طبيعي خام، فيجعله أولى من غيره باستثمار الجزء الذي حدد له من الأرض أو المعدن، تبعا لقدرته وإمكاناته.
ومن الواضح، أن منح هذا الحق ضروري، ما دام الاقطاع كما عرفنا أسلوبا من أساليب تقسيم الطاقات والقوى العاملة، على المصادر الطبيعية بقصد استثمارها، لأن الإقطاع لا يمكن أن يقوم بدوره هذا، وينجز تقسيم القوى العاملة على المصادر الطبيعة، وفقا لمخطط عام.. ما لم يتمتع كل فرد بحق استثمار ما أقطع من تلك المصادر: يكون بموجبه أولى من غيره باحيائه والعمل فيه. فمرد هذا الحق إلى ضمان ضبط التقسيم، وإنجاح الاقطاع بوصفه أسلوبا لاستثمار المصادر الطبيعية، وتقسيمها بين القوى العاملة على أساس الكفاءة.
وهكذا نجد أن الفرد من حين اقطاع الإمام له أرضا أو شيئا من المعدن، وحتى يمارس العمل، أي في فترة الاستعداد، وتهيئة الشروط اللازمة، التي تتخلل بين الاقطاع والبدء في العمل.. ليس له أي حق سوى العمل في تلك المساحة المحددة من الأرض، أو ذلك الجزء المعين من المنجم، الذي يسمح له بالاحياء والاستثمار، ويمنع الآخرين من مزاحمته في ذلك، لئلا يضطرب الأسلوب الذي اتبعه الإمام في استثمار المصادر الطبيعية،
وتقسيم الطاقات عليها وفقا لكفاءتها.
وهذه الفترة التي تتخلل بين الاقطاع والبدء في العمل، يجب أن لا تطول، لأن الاقطاع لم يكن معناه تمليك الفرد أرضا أو معدنا، وإنما هو تقسيم للعمل الكلي على المصادر الطبيعية، على أساس الكفاءة. فليس من حق الفرد المقطع أن يؤجل موعد العمل دون مبرر، لأن مسامحته في البدء بالعمل تعيق عن إنجاح الاقطاع، بوصفه استثمارا للمصادر على أساس تقسيم العلم، كما كانت مزاحمة الغير له في العمل - بعد أن وظف من قبل الدولة، باستثمار ذلك الجزء الخاص الذي تم إقطاعه له. معيقة أيضا عن أداء الاقطاع لدوره الإسلامي.
ولهذا نجد الشيخ الطوسي في المبسوط، يقول عن الفرد المقطع: ((إن أخر
488

الاحياء قال له السلطان: اما أن تحييها أو تخلي بينها وبين غيرك حتى يحييها، فان ذكر عذرا في التأخير واستأجل في ذلك أجله السلطان، وإن لم يكن له عذر في ذلك، وخيره السلطان بين اللأمرين، فلم يفعل، أخرجها من يده)) (1).
وجاء في مفتاح الكرامة: ((أنه لو اعتذر بالاعسار، فطلب الامهال إلى اليسار، لم يجب إلى طلبه، لأنه لعدم الأمد، يستلزم التطويل، فيفضي إلى التعطيل)) (2).
وقال الإمام الشافعي: ومن أقطع أرضا أو تحجرها فلم يعمرها رأيت للسلطان أن يقل له إن أحييتها وإلا خلينا بينها وبين من يحييها فان تأجله رأيت أن يفعل (3).
وجاء في الرواية عن الحرث بن بلال بن الحرث أن رسول الله (ص) أقطع بلال بن الحرث العقيق فلما ولي عمر بن الخطاب قال ما أقطعك لتحتجنه بأقطعة الناس (4).
هذا هو كل دور الإقطاعه واثره في الفترة المتخللة بينه وبين العمل، وهي الفترة التي يؤثر فيها القطاع من الناحية التشريعية اثره، وهذا الأثر لا يتجاوز - كما عرفنا - حق العمل، الذي يجعل من الاقطاع أسلوبا تستعمله الدولة في بعض الظروف، لاستثمار المصادر الطبيعية وتقسيم الطاقات العاملة على تلك المصادر، تبعا لمدى كفاءتها.
وأما بعد ممارسة الفرد للعمل في الأرض أو المعدن، فان الاقطاع لا بقي له اثر من الناحية التشريعية بل يحل العمل محله، فيصبح للفرد من الحق في الأرض أو المعدن، ما تقرره طبيعة العمل (5)، وفقا للتفصيلات التي مرت بنا.
وهذه الحقيقة عن الاقطاع، التي تبرزه بوصفه أسلوبا إسلاميا لتقسيم العمل، نجد ما يبرهن عليها إضافة إلى ما سبق، من نصوص وأحكام.. في التحديد الذي وضعته الشريعة للإقطاع، فقد حدد الإقطاع المسموح به في الشريعة: بالمصادر الطبيعة التي

(1) المبسوط ج 3 ص 273.
(2) مفتاح الكرامة ج 7 ص 47.
(3) الأم ج 4، ص 46.
(4) المغني ج 6، ص 169، والأموال ص 287، الحديث 679، مع اختلاف.
(5) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 159.
489

من شأن العمل فيها أن يمنح العامل حقا أو لونا من الاختصاص بها، وهي الموات في العرف الفقهي. فلا يجوز اقطاع المرافق الطبيعة التي لا يتولد فيها عن العمل أي حق أو اختصاص كما نص على ذلك الشيخ الطوسي في (المبسوط)، ممثلا لهذا النوع من المرافق: بالمواضع الواسعة في الطرقات (1). فان المنع عن اقطاع هذا النوع من المرافق وتحديد فان المنع عن اقطاع هذا النوع من المرافق وتحديد الاقطاع بالموات خاصة، يدل بكل وضوح على الحقيقة التي تبيناها ويثبت: أن وظيفة الاقطاع من الناحية التشريعية، ليست إلا اعطاء حق العمل في مصدر طبيعي معين لغرض خاص بوصفه أسلوبا من أساليب تقسيم العمل على المصادر الطبيعية التي هي بحاجة إلى احياء وعمل. واما حق الفرد في نفس المصدر الطبيعي، فيقوم على أساس العمل لا الاقطاع.
فإذا كان المصدر الطبيعي من المرافق التي ليست بحاجة إلى احياء وعمل، ولا يؤدي فيها العمل إلى حق خاص للعامل فلا يجوز الاقطاع (2)، لأن الاقطاع بالنسبة إلى هذه المرافق، مظهرا من مظاهر احتكار الطبيعة واستغلالها، وهذا لا يتفق مع المفهوم الإسلامي للإقطاع، ووظيفته الأصيلة ولهذا منعت منه الشريعة، وحددت الاقطاع الجائز بذلك النوع من المصادر الطبيعية، التي هي بحاجة إلى علم.
الاقطاع في الأرض الخراجية:
بقي شيء آخر، قد يطلق عليه اسم: (الاقطاع) في العرف الفقهي، وليس هو إقطاعا في الحقيقة، وإنما هو تسديد لأجرة على خدمة.
وموضع هذا الاقطاع هو الأرض الخارجية، التي تعتبر ملكا للأمة، إذ قد يتفق للحاكم أن يمنح فردا شيئا من الأرض الخراجية، ويسمح له بالسيطرة على خراجها.

(1) لاحظ المبسوط ج 3، ص 276.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 102.
490

وهذا التصرف من الحاكم، وإن عبر في مدلوله التاريخي أحيانا، وبدون حق، عن عملية تمليك سافرة لرقبة الأرض، ولكنه في مدلوله الفقهي وحدوده المشروعة، لا يعني شيئا من ذلك وإنما يعتبر أسلوبا في تسديد الأجور والمكافات، التي تلتزم الدولة بدفعها إلى الأفراد نظير ما يقدمون من أعمال وخدمات عامة.
ولكي نعرف ذلك، يجب أن نستذكر أن الخراج - وهو المال الذي تتقاضاه الدولة من المزارعين - يعتبر ملكا للأمة، تبعا لملكية الأرض نفسها (1). ولهذا يجب على الدولة أن تصرف أموال الخراج في المصالح العامة للأمة، كما نص على ذلك الفقهاء، ممثلين لتلك المصالح بمؤنة الولاة والقضاة، وبناء المساجد والقناطر، وغير
ذلك لأن الولاة والقضاة يقدمون خدمة للأمة، فيجب أن تقوم الأمة بمؤنتهم، كما أن المساجد والقناطر من المرافق العامة، التي ترتبط بحياة الناس جميعا، فيجوز إنشاؤها من أموال الأمة وحقوقها في الخراج.
وواضح أن قيام الدولة بمؤنة الوالي والقاضي أو مكافأة أي فرد قدم خدمة عامة لمجموع الأمة، قد يكون باعطاء الدولة له من بين المال مباشرة، وقد يكون أيضا بالسماح له بالحصول مباشرة على ريع بعض أملاك الأمة. والدولة تتبع عادة الأسلوب الثاني، إذا كانت لا تتمتع بإدارة مركزية قوية.
ففي المجتمع الإسلامي قد تسدد أجور ونفقات الافراد، الذين يقدمون خدمات عامة للأمة، بصورة نقدية، كما قد يتفق - تبعا لظروف الإدارة في الدولة الإسلامية - أن تسدد تلك الأجور والنفقات، عن طريق منح الدولة لفرد الحق في السيطرة على خراج أرض محدودة من أراضي الأمة، وأخذه من المزارعين مباشرة، باعتباره أجرة لفرد على الخدمة التي يقدمها للأمة، فيطلق على هذا اسم: (الاقطاع). ولكنه ليس إقطاعا في الحقيقة، وإنما هو تكليف للفرد بأن يتقاضى أجره من خراج مساحة معينة من الأرض، يحصل عليه عن طريق الاتصال بالمزارع.
فالفرد المقطع يملك الخراج، بوصفه أجرة على خدمة عامة قدمها للأمة،

(1) لاحظ المبسوط ج 2، ص 34.
491

ولا يملك الأرض، ولا يوجد له أي حق أصيل في رقبتها ولا في منافعها، ولا تخرج بذلك الأرض عن كونها ملكا للمسلمين، ولا عن وصفها أرضا خراجية كما نص على ذلك المحقق الفقيه السيد محمد بحر العلوم في (بلغته). وهو يحدد هذا النوع من الإقطاع - أي إقطاع الأرض الخراجية - فقد كتب يقول: ((إن هذا الاقطاع لا يخرج الأرض عن كونا خارجية، لأن معناه كون خراجها للفرد المقطع، لا خروجها عن الخراجية)) (1).
الحمى في الإسلام
(الحمى) مفهوم قديم عند العرب، يعبر عن المساحات الشاسعة من موات الأرض، يحتكرها الافراد والأقوياء لأنفسهم، ولا يسمحون للآخرين بالاستفادة منها، ويعتبرونها وكل ما تضم من طاقات وثروات، ملكا خالصا لهم، بسبب استيلائهم عليها، وقدراتهم على منع الآخرين من الانتفاع بها. وقد جاء في كتاب الجواهر للمحقق النجفي: ((أن هؤلاء كان من عادة أحدهم في الجاهلية، إذا انتجع بلدا مخصبا، أن يستعوي كلبا على جبل أو سهل، ثم يعلن تملكه لمجموع المساحة التي امتد إليها صوت الكلب من سار الجهات، وحمايته لها من الآخرين، ولذلك يطلق عليها اسم: (الحمى) (2).
وقال الشافعي في كتابه - بعد أن نقل بسنده عن الصعب أن رسول الله (ص) قال لا حمى إلا لله ورسوله (3) - (كان الرجل العزيز من العرب إذا انتجع بلدا مخصبا أوفى بكلب على جبل إن كان به أو نشز إن لم يكن جبل ثم استعواه وأوقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء فحيث بلغ صوته حماه من كل ناحية فيرعى مع العامة فيما سواه ويمنع هذا من غيره لضعفاء سائمته وما أراد قرنه معها

(1) بلغة الفقيه ج 1 ص 249.
(2) جواهر الكلام ج 38، ص 62.
(3) مختصر سنن أبي داود ج 4، ص 270، الحديث 2958.
492

فيرعى معها فترى أن قول رسول الله (ص) ولا حمى إلا لله ورسوله لا حمى على هذا المعنى الخاص وأن قوله لله كل محمي وغيره ورسوله إن رسول الله (ص) إنما كان يحمي لصلاح عامة المسلمين لا لما يحمي له غيره من حاجة نفسه) (1).
ومن الطبيعي أن ينكر الإسلام الحمى، لأن الحق الخاص فيه يقوم على أساس السيطرة، لا على أساس العمل. ولهذا لا يسمح بذلك لأحد من المسلمين وجاء النص يؤكد شجب هذا الأسلوب من التملك والاحتكار للمصادر الطبيعية، ويقول ((لا حمى إلا لله ولرسوله)). وورد في بعض الروايات ((أن شخصا سأل الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل المسلم، تكون له الضيعة، فيها جبل مما يباع، يأتيه أخوه المسلم، وله غنم، قد احتاج إلى جبل، يحل له أن يبيعه الجبل، كما يبيع من غيره، أو يمنعه من إن طلبه بغير ثمن، أو يمنعه من إن طلبه بغير ثمن، وكيف حاله فيه وما يأخذ؟ فقال: لا يجوز له بيع جبله من أخيه)) (2).
فمجرد وقوع مصدر طبيعي في سيطرة فرد، لا يعتبر في الإسلام سببا لإيجاد حق للفرد في ذلك المصدر. والحمى الوحيد الذي سمح به الإسلام، هو حمى الرسول، فقد حمى النبي صلى الله علية وآله بعض المواضع من موات الأرض، لمصالح عامة، كالبقيع إذ خصصه لإبل الصدقة، ونعم الجزية، وخيل المجاهدين (3).

(1) الام ج 4 ص 47.
(2) الوسائل ج 12 ص 276 الحديث 22774
(3) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 61، 62.
493

المياه الطبيعية
مصادر المياه الطبيعية على قسمين: أحدهما المصدر المكشوفة التي أعدها الله للانسان على سطح الأرض، كالبحار والأنهار، والعيون الطبيعية. والآخر المصادر المكنوزة في أعماق الطبيعة، التي يتوقف وصول الإنسان إليها على جهد وعمل، كمياه الآبار التي يحفرها الإنسان ليصل إلى ينابيع الماء.
فالقسم الأول - من المياه يعتبر من المشتركات العامة بين الناس (1)، والمشتركات هي الثروات الطبيعية التي لا يأذن الإسلام لفرد خاص بتملكها بصفة الاشتراك والعموم، فالبحر أو النهر الطبيعي من الماء لا يملكه أحد ملكية خاصة، ويباح للجميع الانتفاع به، وعلى هذا الأساس نعرف أن المصادر الطبيعية المكشوفة للمياه تخضع لمبدأ الملكية العامة (2). وإذا حاز الشخص منها كمية في أي ظرف مهما كان نوعه، ملك الكمية التي حازها، فلو اغترف من ‌النهر باناء، أو سحب منه بآلة، أو حفر حفيرة بشكل مشروع، وأوصلها بالنهر.
أصبح الماء الذي غرقه الاناء، أو سحبته

(1) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 184 وجواهر الكلام ج 38، ص 124.
(2) وهناك رأي فقهي مشهور، بستثني من تلك المصادر ما كان نابعا في ارض تختص بفرد خاص راجع بهذا الصدد الملحق رقم 7.
495

الآلة أو اجتذبته الحفيرة ملكا بالحيازة، وبدون الحيازة والعمل لا يملك من الماء شيئا (1)، كما أكد على ذلك الشيخ الطوسي في المبسوط، إذ قال: ان المباح من ماء البحر والنهر الكبير، مثل دجلة والفرات، ومثل العيون النابعة في موات السهل والجبل، فكل هذا مباح، ولكل واحد أن يستعمل منه ما أراد وكيف شاء بلا خلاف، لخبر ابن عباس المتقدم عن رسول الله (ص): ((إن الناس شركاء في ثلاث الماء والنار والكلأ)) (2) وإن زاد هذا الماء فدخل إلى أملاك الناس واجتمع فيها لم يملكوه (3).
فالعمل إذن هو: أساس تملك ما يسيطر عليه الشخص من مياه تلك المصادر، وأما دخول شيء من تلك المياه في سيطرة الشخص، بتسرب الماء من النهر إلى منطقته دون عمل منه، فلا يبرر تملكه له، بل يبقى الماء على إباحته العامة، ما لم يبذل علم في حيازته.
وأما القسم الثاني من المصادر الطبيعية للماء، وهو ما كان مكنوزا ومستترا في باطن الأرض، فلا يختص به أحد ما لم يعمل للوصول اليه، والحفر لأجل كشفه، فإذا كشفه إنسان بالعمل والحفر، أصبح له حق في العين المكتشفة، يجيز له الاستفادة منها، ويمنع الآخرين من مزاحمته (4)، لأنه هو الذي خلق بعمله فرصة الانتفاع بتلك العين، فيمن حقه أن ينتفع الاستفادة منها، ولذلك يصبح أولى بالعين من غيره، ويملك ما يتحدد من مائها لأنه لون من ألوان الحيازة، ولكنه لا يملك نفس العين الموجودة في أعماق الطبيعة قبل علمه (5)، ولذا كان يجب عليه، إذا أشبع

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 124.
(2) المستدرك ج 17، ص 114، الحديث 20914.
(3) المبسوط ج 3، ص 282.
(4) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 187.
(5) راجع الملحق رقم 8.
496

حاجته من الماء بذلت الزائد للآخرين، ولا يجوز له أن يطالبهم بمال عوضا عن شربهم وسقي حيواناتهم (1)، لأن المدة لا تزال من المشتركات العامة، وإنما حصل للمكتشف بعمله حق الأولوية بها، فإذا أشبع حاجته، كان للآخرين الانتفاع بها، فقد جاء في حديث أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام أن رسول الله (ص) نهى عن النطاف، والأربعاء، وقال: لاتبعه، ولكن أعره جارك، أو أخاك والأربعاء أن يسني مسناة فيحمل الماء فيسقي به الأرض ثم يستغني عنه. والنطاف أن يكون له الشرب فيستغني عنه فيقول: لا تبعه أعره أخاك أو جارك (2). وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أيضا أنه قال: (النطاف شرب الماء ليس لك إذا استغنيت عنه أن تبيعه جارك تدعه له، والأربعاء المسناة تكون بين القوم فيستغني عنها صاحبها، قال: يدعها لجاره، ولا يبيعها إياه) (3).
والشيخ الطوسي في المبسوط يقرر أيضا ما ذكرناه، فيوضح: أن علاقة الفرد بعين الماء علاقة حق لا ملك، بالرغم أنه يملك فر رأيه البئر، أي الحفرة التي حفرها وتوصل عن طريقها إلى الماء: فقد قال: ((إن في كل موضع قلنا أنه يملك البئر، فإنه أحق من مائها بقدر حاجته لشربه، وشرب ماشيته، وسقي زرعه فإذا فضل بعد ذلك شيء، وجب عليه بذله بلا عوض لمن احتاج اليه لشربه، وشرب ماشيته.. فأما الماء الذي حازه وجمعه في حبه، أو جرته، أو كوزه، أو بركته، أو بئره - أي حفرة غير ذات مادة - أو مصنعه، أو غير ذلك، فإنه لا يجب عليه بذل شيء منه وإن كان فضلا عن حاجته، بلا خلاف لأنه لا مادة له)) (4).

(1) لاحظ المبسوط ج 3 ن ص 281.
(2) الوسائل ج 17، ص 333، الحديث 32240.
(3) الوسائل ج 12، ص 278، الحديث 22780. راجع أيضا الملحق رقم 9.
(4) المبسوط ج 3، ص 281.
497

فالمادة إذن بوصفها مصدرا طبيعيا لا يمكن للفرد أن يمنع عنها الآخرين في الحدود التي لا تتعارض مع حقه، لأنه لا يملك المادة على هذا الرأس وإنما هو أحق بها نتيجة لخلقه الفرصة التي أتاحت الانتفاع بتلك المادة، فما لا يتعارض مع حقه في الانتفاع بالمادة يجب السماح به للآخرين.
498

بقية الثروات الطبيعية
وأما الثروات الطبيعة الأخرى فتعتبر من المباحات العامة
والمباحات العامة هي: الثروات التي يباح للافراد الانتفاع بها، وتملك رقبتها، فالإباحة العامة هي إباحة تملك لا مجرد إباحة انتفاع.
وقد أقام الإسلام الملكية الخاصة للمباحات العامة على أساس العمل لحيازتها على اختلاف ألوانه (1)، فالعمل لحيازة الطير هو الصيد، والعمل لحيازة الخشب هو الاحتطاب، والعمل لحيازة الطاقة الكهربائية الكامنة في قوة انحدار الشلالات هو بتحويل هذه القوة إلى سيال كهربائي. وهكذا تملك الثروات المباحة بإنفاق العمل الذي تتطلبه حيازتها.
ولا تملك هذه الثروات ملكية خاصة بدون العلم، فلا يكفي دخولها في حدود سيطرة الإنسان لتصبح ملكا له لم ينف عملا إيجابيا في حيازتها فقد جاء في التذكرة للعلامة الحلي هذا النص: (لو زاد الماء المباح فدخل شيء منه ملك إنسان، قال الشيخ: لا يملكه كما لو وقع في ملك الغير مطر أو ثلج ومكث في ملكه، أو فرخ طائر في بستانه، أو توحل ضبي في أرضه، أو وقعت سمكة في سفينته

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 36 ص 202 و 203 وج 38 ن ص 134.
499

، لم يملكه بذلك بل بالأخذ والحيازة) (1).
وجاء في كتاب القواعد للعلامة في أحكام الصيد: إن الصيد لا يتملك بتوحله في أرضه، ولا بتعشيشه في داره، ولا بوثوب السمكة إلى سفينته (2).
وهذا هو أصح القولين الفقهاء الشافعيين كما نقله العلامة عنهم في لتذكرة (3).
(1) تذكرة ج 2 ص 406، كتاب احياء الموات الفصل الأول، المطلب الرابع المسألة الأولى.
(2) قواعد الأحكام ج 2، ص 152.
(3) التذكرة ج 2، ص 406، كتاب إحياء الموات، الفصل الأول، المطلب الرابع، المسألة الأولى.
500

2 - النظرية
انتهينا الآن من تحديد صورة دقيقة لبناء علوي شامل من التشريع الإسلامي، يضم مجموعة مهمة من الأحكام التي تم وفقا لها توزيع ما قبل الإنتاج، وتنظيم حقوق الأفراد والمجتمع والدولة، في الثروات الطبيعية، التي يزخر بها الكون.
وباستيعاب هذا البناء العلوي من التصميم الإسلامي نكون قد قطعنا نصف المسافة في طريق اكتشاف النظرية، وبقي علينا البحث الأساسي من الناحية المذهبية، الذي يجب أن نكشف فيه القواعد والنظريات العامة التي يقوم على أساسها البناء العلوي، ويرتكز عليها ذلك الحشد من الأحكام التي مرت بنا، وهذا هو النصف الثاني من عملية الاكتشاف التي تنطلق من البناء العلوي إلى القاعدة، ومن التفصيلات التشريعية إلى العموميات النظرية.
وقد اتبعنا دائما في عرض تلك التشريعات، والأحكام، والتعبير عنها، طريقة تعكس باستمرار ووضوح الترابط النظري الوثيق بين هذه الأحكام، الأمر الذي سوف يساهم في هذه المرحلة الجديدة من عملية الاكتشاف، وسوف نجزئ النظرية المذهبية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج، وندرسها على مراحل، ونتناول في كل مرحلة جانبا منها، ونجمع من البحوث السابقة النصوص التشريعية، والفقهية، والأحكام، التي تكشف عن ذلك الجانب وتبرهن عليه.
501

وبعد أن نستوعب الجوانب المختلفة للنظرية في ضوء الأبنية العلوية التي يختص كل واحد منها بأحد تلك الجوانب، نجمع في النهاية خيوط النظرية كلها في مركب واحد، ونعطيها صيغتها العامة.
1 - الجانب السلبي من النظرية
ولنبدأ بالجانب السلبي من النظرية. ومحتوى هذا الجانب - كما سنعرف - الايمان بعدم وجود ملكيات وحقوق خاصة ابتدائية في الثروة الطبيعية الخام بدون عمل.
بناؤه العلوي:
1 - ألغى الإسلام الحمى، وقال: لا حمى إلا لله وللرسول، وبذلك نفى أي حق خاص للفرد في الأرض بمجرد السيطرة عليها، وحمايتها بالقوة (1).
2 - إذا أقطع ولي الأمر أرضا لفرد، اكتسب الفرد بسبب ذلك حق العمل في تلك الأرض، دون أن يمنحه الإقطاع حقا في ملكية الأرض، أو أي حق آخر فيها، ما لم يعمل، وينفق جهده على تربتها.
3 - لا تملك الينابيع، والجذور العميقة للمنجم ملكية خاصة ولا يوجد لأي فرد حق خاص فيها، كما أوضح العلامة الحلي ذلك في التذكرة قائلا: (وأما العرق الذي في الأرض فلا يملكه بذلك ومن وصل اليه من جهة أخرى فله أخذه).
4 - المياه الطبيعية المكشوفة كالبحار والأنهار لا تملك ملكية خاصة لأحد، ولا يوجد لفرد حق خاص فيها. قال الشيخ الطوسي في المبسوط: (ماء البحر والنهر، والعيون النابعة في موات السهل والجبل، كل هذا مباح، ولكل واحد أن يستعمل منه

(1) لاحظ المبسوط ج 3، ص 270.
(2) لاحظ المبسوط ج 3، ص 273.
(3) التذكرة ج 2، ص 404 كتاب إحياء الموات، الفصل الأول، المطلب الثاني، المسألة الرابعة.
502

ما أراد، كيف شاء، لخبر ابن عباس عن النبي: الناس شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ) (1) (2).
5 - إذا زاد الماء الطبيعي فدخل أملاك الناس واجتمع دون أن يحوزوه بعمل خاص، لم يملكوه، كما قال الشيخ في المبسوط (3).
6 - إذا لم ينفق الفرد جهدا في الصيد، بل دخل الحيوان في سيطرته لم يملكه، ففي قواعد العلامة الحلي يقول: (لا يملك الصيد بدخوله في أرضه ولا بوثوب السمكة إلى السفينة) (4).
7 - وكذلك الحال في الثروات الطبيعية الأخرى، فإن دخولها في سيطرة الشخص دون عمل لا يبرر تملكها، ولذا جاء في التذكرة: (أن الشخص لا يملك الثلج الذي يتساقط في حوزته بمجرد سقوطه على أرضه) (5).
الاستنتاج:
من هذه الأحكام ونظائرها في المجموعة التي مرت بنا من التشريع الإسلامي، نستطيع أن نعرف أن الفرد لا يوجد له بصورة ابتدائية حق خاص في الثروة الطبيعية يمتاز به عن الآخرين على الصعيد التشريعي، ما لم يكن ذلك انعكاسا لعمل خاص فيها، يميزه عن غيره في واقع الحية، فلا يختص الفرد بأرض إذا لم يحيها، ولا بمعدن إذا لم يكشف عنه، ولا بعين ماء إذا لم يستنبطها ولا بالحيوانات النافرة إلا إذا صادها، ولا بثروة على وجه الأرض أو في السماء إلا إذا حازها، وأنفق جهده في ذلك.

(1) المستدرك ج 17، ص 114، الحديث 20914.
(2) لاحظ المبسوط ج 3، ص 282.
(3) المصدر السابق.
(4) قواعد الأحكام ج 2، ص 152.
(5) التذكرة ج 2، ص 406، كتاب إحياء الموات، الفصل الأول، المطلب الرابع، المسألة الأولى.
503

ونحن نرى من خلال هذه الأمثلة أن العمل الذي اعتبر في النظرية الأساس الوحيد لاكتساب الحقوق الخاصة بصورة ابتدائية في ثورات الطبيعة يختلف مفهومه النظري، حسب اختلاف طبيعة الثروة ونوعها، فما يعتبر عملا بالنسبة إلى بعض الثروات الطبيعة، وسببا كافيا لقيام الحقوق الخاصة على أساسه، لا يعتبر كذلك بالنسبة إلى نوع آخر من الثروة فالحجر في الصحراء يمكنك أن تمتلكه بالحيازة، فالحيازة بالنسبة إلى الحجر علم
تعترف به النظرية، وتسمح بقيام الحقوق الخاصة على أساسه، ولكنها لا تعترف بالحيازة بوصفها عملا، ولا تسمح بقيام الحقوق الخاصة وعلى أساسها، في الأرض الميتة والمنجم والينابيع الطبيعة للماء، فلا يكفي لكي تختص بأرض أو منجم أو عين ماء في أعماق الأرض أن تسيطر على تلك الثروات وتضمها على حوزتك، بل لا بد لك في سبيل اكتساب حقوق خاصة فيها أن تجسد جهودك في الأرض والمنجم والعين فتحيي الأرض وتكشف المنجم وتستنبط الماء وسوف نحدد في النواحي الإيجابي من النظرية مفهومها عن العمل والمقياس الذي تتبعه في منح صفة العمل للجهود المتنوعة التي يمارسها الإنسان في حقول الطبيعة وثرواتها وحين نستوعب ذلك المقياس نستطيع أن ندرك حينئذ لماذا كانت حيازة الحجر سببا كافيا لتملكه، ولم تكن حيازة الأرض علما، ولا مبررا، لاكتساب أي حق خاص في تلك الأرض.
2 - الجانب الايجابي من النظرية
والجانب الايجابي من النظرية يوازي جانبها السلبي ويكمله فهو يؤمن بأن العمل أساس مشروع، لاكتساب الحقوق والملكيات الخاصة في الثروات الطبيعية.
فرفض أي حق ابتدائي في الثروات الطبيعية منفصل عن العمل هو الصيغة السلبية للنظرية.
والإيمان بالحق الخاص فيها على أساس هو الصيغة الإيجابية الموازية.
504

بناؤه العلوي:
1 - من أحيى أرضا فهي له، كما جاء في الحديث (1).
2 - من حفر معدنا حتى كشفه كان أحق به، وملك الكمية التي كشفت عنها الحفرة، وما إليها من مواد (2).
3 - من كشف بالحفر عينا طبيعية للماء، فهو أحق بها (3).
4 - إذا حاز الفرد الحيوان النافر بالصيد، والخشب بالاحتطاب، والحجر الطبيعي بحمله، والماء من النهر باغترافه، في آنية وغيرها، وملكه بالحيازة. كما نص على ذلك الفقهاء جميعا (4).
الاستنتاج:
كل هذه الأحكام تشترك في ظاهرة واحدة، وهي أن العمل مصدر للحقوق والملكيات الخاصة في الثروات الطبيعية، التي تكتنف الانسان من كل جانب، وبالرغم من أن هذه الظاهرة التشريعية نجدها في كل تلك الأحكام فإننا بالتدقيق فيها، وفي نصوصها التشريعية. وأدلتها يمكننا أن نكتشف عنصرا ثابتا في هذه الظاهرة، وعنصرين متغيرين يختلفان باختلاف أنواعه الثروة وأقسامها، فالعنصر الثابت هو: ربط الحقوق الخاصة للفرد في الثروات الطبيعية الخام بالعمل، فما لم يقدم عملا لا يحصل على شيء، وإذا اندمج مع ثروة طبيعية في عملية من العمليات، استطاع أن يظفر بحق خاص فيها، فالعلاقة بين العمل والحقوق الخاصة بشكل عام، هي المضمون المشترك لكل تلك الأحكام والعنصر الثابت فيها.

(1) لاحظ المبسوط ج 3، ص 282 ن والتهذيب ج 7، ص 152، الحديث 673.
(2) لاحظ المبسوط ج 3، ص 277.
(3) لاحظ المبسوط ج 3، 280.
(4) لاحظ المبسوط ج 3، ص 282.
505

وأما العنصران المتغيران فهما: نوع العمل، وتنوع الحقوق الخاصة التي يخلقها العلم، فنحن نرى أن الاحكام التي شرعت الحقوق الخاصة على أساس العمل، يختلف بعضها عن البعض في نوع العمل، الذي جعلته مصدرا للحق الخاص، وفي نوع الحقوق الخاصة التي تنجم عن الأرض، فالأرض لا تعتبر حيازتها عملا، بينما يعتبر العمل لحيازة الحجر في الصحراء سببا كافيا لتملكه كما ألمعنا إلى ذلك قبل لحظات، وكذلك نرى الإحياء الذي يعتبر عملا بالنسبة إلى الأرض والمعدن، لا يؤدي إلا إلى حق خاص للفرد في رقبة الأرض والمعدن، يكون الفرد بموجبه أولى من غيره بهما، ولا يصبح مالكا للأرض والمعدن نفسهما، بينما نجد أن العمل لحيازة الحجر من الصحراء واغتراف الماء من النهر، يكفي سببا من الناحية الشرعية لا لاكتساب حق الأولوية في الحجر والماء فحسب، بل لتملكهما ملكية خاصة.
فهناك اختلاف بين الاحكام التي ربطت الحقوق الخاصة للفرد بعمله وجهده في تحديد نوع العمل الذي ينتج تلك الحقوق، وفي تحديد طبيعة تلك الحقوق التي ترتكز على العمل، ولاجل ذلك سوف يثير هذا الاختلاف عدة أسئلة يجب الجواب عليها. فلماذا - مثلا - كان العلم لحيازة الحجر والماء من النهر كافيا لاكتساب العامل حقا فيه، ولم يكن هذا النوع من العمل في الأرض والمعدن - مثلا - سببا لأي حق خاص فيها؟ وكيف ارتفع الحق الذي كسبه الفرد في الماء عن طريق حيازته من النهر إلى مستوى الملكية بينما لم يتح لمن أحيى أرضا أو اكتشف نجما أن يملك الأرض أو المنجم، وإنما منح حق الأولوية في المرفق الطبيعي الذي أحياه؟. ثم إذا كان العمل سببا للحقوق الخاصة، فما ببال الفرد إذا وجد أرضا عامرة بطبيعتها، فاغتنم الفرصة الممنوحة لها طبيعيا وزرعها وأنفق على زراعته جهدا لا يحصل على حقوق مماثلة لحقوق الاحياء، مع أنه قدم على تربتها كثيرا من الجهود والأعمال؟ وكيف أصبح إحياء الأرض الميتة سببا لحق الفرد في رقبة الأرض ولم يصبح استغلال الأرض العامرة وزراعتها مبررا لحق مماثل للفرد؟
إن الجواب على كل هذه الأسئلة التي أثارها اختلاف احكام الإسلام بشأن
506

العمل وحقوقه، ليتوقف على تحديد الجانب الثالث من النظرية الذي يشرح الأساس العام لتقييم العمل في النظرية ولكي نحدد هذا الجانب، يجب أن نجمع تلك الأحكام المختلفة بشأن العمل وحقوقه، التي أثارات هذه الأسئلة ونضيف إليها سائر الاحكام المماثلة التي تشابها، ونكون منها بناء علويا نصل عن طريقه إلى تحديد معالم
النظرية، بوضوح، لأن مجموعة هذه الأحكام المختلفة تعكس في الحقيقة المعالم المحددة للنظرية، وسوف ننجز ذلك كله الآن.
3 - تقييم العمل في النظرية
البناء العلوي:
1 - إذا مارس الفرد أرضا ميته فأحياها كان له الحق فيها، وعليه طسقها، يؤديه إلى الإمام ما لم يعف عنه، كما جاء في مبسوط الشيخ الطوسي في كتاب الجهاد (1)، وقفا للنصوص الصحيحة الدالة على: أن من أحيى أرضا فهو أحق بها وعليه طسقها، وبموجب الحق الذي يكسبه، لا يجوز لآخر انتزاع الأرض منه ما دام قائما بحقها، بالرغم من أنه لا يملك رقبة الأرض نفسها.
2 - إذا مارس الفرد أرضا عامرة بطبيعتها، فزرعها واستغلها، كان من حقه الاحتفاظ بها، ومنع الآخرين من مزاحمته في ذلك ما دام يمارس انتفاعه بالأرض، ولا يحصل على حق أوسع من ذلك، يخوله احتكارها الحق الناتج عن استثمار أرض عامرة بطبيعتها يختلف عن الحق الناتج عن إحياء أرض ميته، فإن حق الاحياء يمنع أي فرد آخر من الاستيلاء عليها بدون إذن المحيي ما دامت معالم الحياة باقية فيها، سواء كان المحيي يمارس الانتفاع بالأرض فعلا أم لا. وأما الحق الذي يكسبه الفرد نتيجة لزراعته أرضا حية بطبيعتها فهو لا يعدو أن يكون حق الأولوية بالأرض ما دام
(1) لاحظ المبسوط ج 2، ص 29.
507

يمارس انتفاعه بها، فإذا كف عن ذلك، كان لأي فرد آخر أن يستفيد من الفرصة الممنوحة طبيعيا لأرض ويقوم بدور الأول (1).
3 - إذا حفر الفرد أرضا لاكتشاف منجم، فوصل إليه، كان لآخر أن يستفيد من نفس المنجم إذا لم يزاحمه. وذلك أن يحفر في موضع آخر - مثلا - ويصل إلى ما يريد من المواد المعدنية. كما نص على هذا العلامة في القواعد قائلا: (ولو حفر فبلغ المعدن لم يكن له منع غيره من الحفر من ناحية أخرى، فإذا وصل إلى ذلك العرق لم يكن له منعه) (2).
4 - يقول الشهيد الثاني في المسالك، عن الأرض التي أحياها الفرد ثم خربت (إن هذا الأرض أصلها مباح، فإذا تركها عادت إلى ما كانت عليه، وصارت مباحة، كما لو أخذ من ماء دجلة ثم رده إليها. وإن العلة في تملك هذه الأرض الإحياء والعمارة، فإذا زالت العلة زال المعلول وهو الملك) (3). ومعنى هذا أن الأرض إذا أحياها الفرد تصبح حقا له، ويبقى حقه فيها ما دام إحياؤها مستجدا فيها، فإذا زال الإحياء سقط الحق.
5 - وعلى هذا الضوء إذا حفر الفرد في أرض لاكتشاف منجم، أو عين ماء، فوصل إليها، ثم أهمل اكتشافه، حتى طمت الحفرة، أو التحمت الأرض بسبب طبيعي، فجاء شخص آخر فبدأ العمل من جديد حتى اكتشف المنجم، كان له الحق في ذلك، وليس للأول حق منعه (4) (5)
6 - الحيازة بمجردها ليست سببا للتملك، أو الحق، في المصادر الطبيعية من الأرض، والمنجم، وعيون الماء، وهي نوع من الحمى، ولا حمى إلا لله وللرسول (6).
(1) لاحظ وإيصال الطالب ج 7 ص 231.

(2) قواعد الأحكام ج 1، ص 222.
(3) مسالك الإفهام ج 2 ص 288.
(4) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 124.
(5) راجع الملحق رقم 10.
(6) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 135، وجواهر الكلام ج 38، ص 7 و 8.
508

7 - الحيوانات النافرة المتمردة على الانسان تملك بالقضاء على مقاومتها. واصطيادها. ولو لم يحزها الصائد بيده، أو شبكته، فلا يجب في تملك الصيد الاستيلاء الفعلي. فقد قال العلامة الحلي في القواعد: (إن أسباب مملك الصيد أربعة: إبطال منعته، وإثبات اليد عليه، وإثخانه، والوقوع فيما نصب آلة للصيد، وكل من رمى صيدا لا يد لأحد عليه، ولا آثر ملك فإنه يملكه إذا صيره غير ممتنع وإن لم يقبضه) (1).
وقال ابن قدامة: (ولو رمى طائرا على شجرة في دار قوم فطرح في دارهم فأخذوا فهو للرامي دونهم لأن ملكه بإزالة امتناعه) (2).
ونفس الشيء صرح به جعفر بن الحسن المحقق الحلي في شرائع الإسلام (3).
8 - من حفر بئرا حتى وصل إلى الماء، كان أحق بمائها بقدر حاجته لشربه وشرب ماشيته وسقي زرعه، فإذا فضل بعد ذلك، وجب عليه بذله بلا عوض لمن احتاج اليه، كما نص على ذلك الشيخ الطوسي في المبسوط (4)، وقد مر بنا النص سابقا.
9 - إذا ملك شخص مالا بالحيازة ثم أهمله وسيبه، زال حقه فيه وعاد مباحا طلقا، كما كان قبل الحيازة، وجاز لآخر تملكه لأن اعراض المالك عن الانتفاع بملكه وتسييبه له يقطع صلته به (5)، كما جاء في حديث صحيح لعبد الله بن سنان، عن أهل البيت عليهم السلام أنهم قالوا: (من أصاب مالا أو بعيرا في فلاة من الأرض كلت وتاهت وسيبها صاحبها لما لم يتبعه فأخذها غيره، فأقام عليها، وأنفق نفقه حتى أحياها من الكلال ومن الموات، فهي له ولا سبيل له عليها، إنما هي مثل الشيء المباح) (6) والحديث وإن كان يدور حول بعير مسيب، ولكنه حين عطف البعير على المال عرفنا أن القاعدة عامة في كل الأحوال.

(1) قواعد الأحكام ج 2، ص 152.
(2) المغني ج 11، ص 30.
(3 شرائع الإسلام ج 3، ص 158.
(4) المبسوط ج 3، ص 281.
(5) لاحظ جواهر الكلام ج 36، ص 207.
(6) الفروع من الكافي ج 5، ص 140، الحديث 13.
509

10 - لا يوجد للفرد حق في رقبة الأرض التي يرعى فيها غنمه، ولا يتملك المرعى بممارسته للرعي فيه، وإنما يكتسب حقا فيها قبل ذلك بالإحياء أو الإرث من المحيي ونحو ذلك (1).
وقد جاء عن زيد بن إدريس أنه سأل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وقال له إن لنا ضياعا ولها حدود، ولنا الدواب وفيها مراعي يحمي المراعي لحاجته إليها. فأجاب الإمام: بأن الأرض إذا كانت يحمي المراعي لحاجته إليها. فأجاب الإمام: بأن الأرض إذا كانت أرضه فله أن يحمي ويصير ذلك إلى ما يحتاج اليه. ثم سأله عن الرجل يبيع المراعي، فقال له، إذا كانت الأرض، رضه فلا بأس (2). فإن هذا الجواب يدل على أن نفس عملية اتخاذ الأرض مرعى لا توجد حقا للراعي في الأرض يسوغ له نقل هذا الحق إلى غيره بالبيع.
الاستنتاج:
في ضوء هذا البناء العلوي، وإشعاعه الخاص من القاعدة المذهبية نستطيع أن ندرك معالم النظرية، وبالتالي أن نجيب على الأسئلة التي قدمناها سابقا.
العمل الاقتصادي أساس الحقوق في النظرية:
فالنظرية تميز بين النوعين من الأعمال، أحدهما: الانتفاع والاستثمار، والآخر: الاحتكار والاستئثار. فأعمال الانتفاع والاستثمار ذات صفة اقتصادية بطبيعتها. واعمال الاحتكار والاستئثار تقوم على أساس القوة ولا تحقق انتفاعا ولا استثمارا مباشرا.
ومصدر الحقوق الخاصة في النظرية، هو العمل الذي ينتمي إلى النوع الأول، كاحتطاب الخشب من الغابة ونقل الأحجار من الصحراء، وإحياء الأرض الميتة.

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 63.
(2) الوسائل ج 12، ص 276، الحديث 22773، مع اختلاف.
510

وأما النوع الثاني من العمل فلا قيمة له، لأنه مظهر من مظاهر القوة وليس نشاطا اقتصاديا من نشاطات الانتفاع والاستثمار للطبيعة وثروتها. والقوة لا تتكون مصدرا للحقوق الخاصة ولا مبررا كافيا لها. وعلى هذا الأساس ألغت النظرية العامة العمل لحيازة الأرض والاستيلاء عليها ولم تقم على أساسه أي حق من الحقوق الخاصة، لأنه في الحقيقة، من أعمال القوة، لا من أعمال الانتفاع والاستثمار.
الحيازة ذات طابع مزدوج:
ونحن حين نقرر هذا، قد نواجه السؤال عن الفرق بين حيازة الأرض، وحيازة الحجر بحمله من الصحراء، والخشب باحتطابه من الغابة، والماء باغترافه من النهر، فإذا كانت الحيازة مظهر قوة وليست ذات صفة اقتصادية كأعمال الانتفاع والاستثمار فكيف جاز للإسلام أن يفرق بين حيازة الأرض وحيازة الخشب، ويمنح الأخيرة حقوقا خاصة، بينما يلغي الأولى ويجردها من كل الحقوق؟.
وجوابا على هذا السؤال: ان التمييز بين أعمل الانتفاع والاستثمار وأعمال الاحتكار والاستئثار، في النظرية الإسلامية، لا يقوم على أساس شكل العمل. بل قد يتخذ الشكل الواحد للعمل طابع الانتفاع والاستثمار تارة وطابع الاحتكار والاستئثار، تارة أخرى، تبعا لطبيعة المجال الذي يشتغل فيه العامل، ونوع الثورة التي يمارسها، فالحيازة - مثلا - وإن كانت من الناحية الشكلية نوعا واحدا من العمل، ولكنها تختلف في حساب النظرية العامة باختلاف نوع الثروة التي يسيطر عليها الفرد، لأن حيازة الخشب بالاحتطاب، والحجر بنقله من الصحراء - مثلا - عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار. وأما حيازة الأرض والاستيلاء على منجم أو على عين ماء فليس من تلك الأعمال، بل هو مظهر من مظاهر القوة والتحكم في الآخرين.
ولكي نبرهن على ذلك، يمكننا أن نفترض انسانا، يعيش بمفردة في مساحة كبيرة من الأرض، غنية بالعيون والمناجم والثروات الطبيعية، بعيدا عن المنافسة والمزاحمة، وندرس سلوكه، وما يمارسه من ألوان الحيازة.
511

إن إنسانا كهذا لأن يفكر في الاستيلاء على مساحة كبيرة من الأرض، وما فيها من مناجم وعيون، وحمايتها، لأنه لا يجد داعيا إلى هذه الحماية، ولا فائدة يجنيها منها في حياته، ما دامت الأرض بخدمته في كل حين، لا ينافسه فيها أحد، وإنما ينصرف مباشرة إلى إحياء جزء من الأرض يتناسب مع مستوى قدرته على الاستثمار.
ولكنه بالرغم من أنه لا يفكر في حيازة مساحات كبيرة من الأرض يمارس دائما حيازة الماء بنقله إلى كوزه، والحجر يحمله إلى كوخه، والخشب يوقد عليه النار، لأنه لا يتاح له الانتفاع بهذه الأشياء في حياته إلا بحيازتها، وإعدادها في متناول يده.
فحيازة الأرض وغيرها من مصادر الطبيعة لا معنى لها إذن عندما تنعدم المنافسة، بل الإحياء في هذا الحال هو العمل الذي يمارسه الفرد في الطبيعة لاستثمارها والانتفاع بها. وإنما تكتسب حيازة الأرض قيمتها عندما توجد المنافسه على الأرض، وتشتد، فينطلق، وتشتد، فينطلق كل فرد للاستيلاء على أوسع مساحة ممكنة من الأرض وحمايتها من الآخرين. وهذا يعني أن حيازة الأرض وما إليها من مصادر الطبيعة ليست عملا ذا صفة اقتصادية من أعمال الانتفاع والاستثمار وإنما هي عملية تحصين لمورد طبيعي وحمايته من تدخل الآخرين فيه.
وعلى العكس من ذلك حيازة الخشب والحجر والماء، فإنها ليست عمل قوة، وإنما هي بطبيعتها عمل اقتصادي من أعمال الانتفاع والاستثمار. ولهذا رأينا أن الإنسان المنفرد في حياته يمارس هذا اللون من الحيازة بالرغم أن حيازة الأشياء المنقولة من ثروات الطبيعة ليست مجرد عمل من أعمال القوة وإنما هي في الأصل عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار يمارسه الانسان ولو لم يوجد لديه أي مبرر لاستعمال القوة.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن ندرج حيازة المصادر الطبيعية من أراضي
512

ومناجم وعيون، في أعمال الاحتكار والقوة، التي لا قيمة لها في النظرية، وندرج حيازة الثروات التي تنقل
وتحمل، في أعمال الانتفاع والاستثمار، التي هي المصدر الوحيد للحقوق الخاصة في الثروات الطبيعية.
ونخرج من ذلك بنتيجة وهي: أن الصفة الاقتصادية للعمل شرط ضروري في إنتاجه للحقوق الخاصة، فلا يكون العلم مصدرا لتملك المال ما لم يكن بطبيعته من أعمال الانتفاع والاستثمار (1).
النظرية تميز بين الأعمال ذات الصفة الاقتصادية:
ولنأخذ الآن أعمال الانتفاع والاستثمار، التي تحمل الطابع الاقتصادي لندرس موقف النظرية من تقييمها، ونوع الحقوق التي تقيمها على أساسها.
ولا نحتاج في هذا المجال إلى أكثر من تتبع الفقرة الثانية والفقرة العاشرة من البناء العلوي السابق، لنعرف أن الشريعة لا تمنح الفرد دائما الحق والملكية في مصادر الثروة الطبيعية، من أرض ومناجم وعيون، بمجرد ممارسة الفرد فيها لعمل خاص من أعمال الانتفاع والاستثمار. فنحن نرى، مثلا في الفقرة الثانية، أن ممارسة الزراعة في أرض عامرة بطبيعتها لا يمنح الفرد الزارع من الحق فيها، ما يمنحه الإحياء في أرض ميتة. ونلاحظ في الفقرة العاشرة أيضا، أن الانتفاع بالأرض باتخاذها مرعى لا يعطي الراعي حقا في تملك الأرض، مع أن استخدامه لها في الرعي عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار. فهناك إذن فارق بجب اكتشافه، بين احياء الأرض وما اليه من أعمال، وبين استثمار الأرض العامرة في الزراعة والرعي، بالرغم من أن هذه الاعمال، تبدو جميعا ذات صفة اقتصادية وألوانا من الانتفاع والاستثمار لمصادر الثروة الطبيعية. وباكتشاف ذلك الفارق نتقدم مرحلة جديدة في تحديد النظرية العامة واستيعابها.

(1) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 135، وجواهر الكلام ج 36، ص 203 و 204 وج 38، ص 32، 63 و 112.
513

كيف تقوم الحقوق الخاصة على أساس العمل:
والحقيقة أن هذا الفراق يرتبط كل الارتباط بالمبررات التي آمنت بها النظرية لمنح الفرد حقوقا خاصة في الثروة الطبيعية على أساس العمل.
فلكي نفهم باستيعاب الفرق نظريا بين المجموعة التي عرضناها من أعمال الانتفاع والاستثمار ذات الصفة الاقتصادية، يجب أن نعرف التكييف النظري للحقوق الخاصة التي ربطت بالعمل، وكيف وإلى أي مدى يلعب العمل دوره الإيجابي في النظرية؟ وما المبدأ الذي ينشئ العمل على أساسه حقوقا خاصة للعامل في الثروة التي يمارسها بعمله؟ فإذا عرفنا هذا المبدأ استطعنا في ضوئه أن نميز بين تلك المجموعة من أعمال الانتفاع.
ويمكننا تلخيص هذا المبدأ على ضوء البناء العلوي الكامل للنظرية في الصيغة التالية: إن العامل يملك نتيجة عمله التي يخلقها بجهده وطاقته في المواد الطبيعية الخام. وهذا المبدأ يسري على كل أعمال الانتفاع الاستثمار التي يمارسها الفرد في الطبيعة ومصادرها الخام، من دون تمييز بين عملية إحياء الأرض الميتة، أو كشف المنجم، أو استنباط الماء، أو زراعة الأرض العامرة بطبيعتها، أو استخدامها في رعي الحيوانات وتربيتها، كل ذلك عمل وكل عمل مع مادة خام من حق العامل أن يقطف ثماره ويمتلك نتيجته.
ولكن حق العامل في امتلاك نتيجة عمله في مصدر طبيعي، لا يعني أن جميع هذه الأعمال تتفق في نتائجها لكي تتفق في نوع الحقوق التي تسفر عنها، بل إنهما تختلف في نتائجها وعلى هذا الأساس تختلف في نوع الحقوق الخاصة التي تنشأ عنها، فإحياء الأرض مثلا عملية يمارسها الفرد ويوفر كل الشروط التي تجعلها قابلة للانتفاع أو الإنتاج، ويحقق عن طريق ذلك نتيجة مهمة بسبب إحيائه للأرض لم تكن موجودة قبل الإحياء، وليس هذه النتيجة وجود الأرض نفسها، لأن عملية
514

الإحياء لا تخلق الأرض الميتة يؤدي إلى خلق فرصة الانتفاع بالأرض واستثمارها، إذ لم تكن هذه الفرصة متاحة قبل إحيائها وإنما نتجت عن عملية الاحياء. والعامل يملك وفقا للنظرية العامة هذه الفرصة بوصفها نتيجة لعمله وملكيته للفرصة تؤدي إلى منع الآخرين عن سرقة هذه الفرصة منه، وتضييعها عليه، بانتزاع الأرض منه، والانتفاع بها بدلا عنه، لأنهم بذلك يحرمونه من الفرصة التي خلقها بجهده في عملية الإحياء، وملكها بعمل مشروع. ولأجل ذلك يصبح الفرد بإحيائه الأرض أولى بها من غيره، ليتاح له الانتفاع بالفرصة التي أنتجها، وهذه الأولوية هي كل حقه في الأرض. وهكذا نعرف أن حق الفرد في الأرض التي أحياها، مرده نظريا إلى عدم جواز سرقة الآخرين نتيجة عمله وتضييع الفرصة التي خلقها بعمله المشروع.
وإحياء المنجم أو عين الماء المستترة في أعماق الأرض، كإحياء الأرض الميتة، في هذا تماما. فان العامل الذي يمارس عملية الإحياء، يخلق فرصة الانتفاع بالمرفق الطبيعي الذي أحياه، ويملك هذه الفرصة بوصفها ثمرة لجهده، فلا يجوز لغيره نضيع الفرصة عليه. وللعامل الحق في منع الآخرين إذا حاولوا انتزاع المرفق منه. ويعتبر هذا حقا في الأرض والمنجم والعين، مع فوارق سوف ندرسها بعد لحظات.
وأما ممارسة الفرد للزراعة، في أرض عامرة بطبيعتها، أو استخدام أرض لرعي الحيوانات، فهذه الأعمال وإن كانت من أعمال الانتفاع والاستثمار في المصادر الطبيعية، ولكنها لا تبرر وجود حق للزارع والراعي في الأرض، لأنه لم ينتج الأرض نفسها، ولا فرصة عامة كالفرصة التي أنتجها إحياء الأرض الميتة. صحيح أن الزارع أو الراعي أنتج زرعا، أو ربى ثروة حيوانية، عن طريق عمله في الأرض ولكن هذا يبرر تملكه للزرع الذي أنتجه، أو للثروة الحيوانية التي تعاهدها، ولا يبرر تملكه للأرض وحقه فيها.
فالفرق إذن بين هذه الاعمال، وعمليات الاحياء، أن تلك العمليات تخلق فرصة للاستفادة من الأرض أو المنجم
أو العين، لم تكن قبل الإحياء فيملكها الفرد،
515

ويكتسب عن طريق تملكه لهذه الفرصة حقه في المصدر الذي أحياه. وأما الأرض العامرة بطبيعتها، أو الأرض الخضراء بطبيعتها التي يمارس فيها الفرد عملية الزرع أو الرعي، فقد كانت فرصة الانتفاع بها في الزرع والرعي، موجودة قبل ذلك، ولم تنتج عن العمل الخاص، وإنما الشيء الذي نتج عن عمل الزارع - مثلا - هو الزرع، ولا شكل أنه من حقه الخاص، لأنه نتيجة عمله.
وفي هذا الضوء نستطيع الآن أن نستنج شرطا جديدا في العمل الذي يتيح حقا خاصا في المصادر الطبيعية. فقد اكتشفنا آنفا الشرط الأول وهو أن يكون العمل ذا صفة اقتصادية، ونستنتج الآن الشرط الثاني وهو أن يخلق هذا العمل حالة أو فرصة معينة جديدة يملكها العام، ويكتسب عن طريقها حقه في المصدر الطبيعي (1).
وإلى هذه الحقيقة كان الإمام الشافعي يشير حينما استدل على أن المعدن الباطن المستتر لا يملك بالاحياء بأن المحيا ما يتكرر الانتفاع به بعد عمارته بالاحياء من غير إحداث عمارة وهذا لا يمكن في المعادن (2) بمعنى أن الفرصة التي يخلقها الاحياء في المعدن محدودة فيكون الحق محدودا تبعا لذلك.
وهذا الاكتشاف للترابط بين حق العامل في المصدر الطبيعي، والفرصة التي ينتجها العمل في ذلك المصدر، يترتب عليه منطقيا أن يزول حق الفرد في المصدر إذا تلاشت تلك الفرصة التي أنتجها، لأن حقه في المصدر الطبيعي كان يقوم كما عرفنا على أساس تملكه لتلك الفرصة، فإذا زالت سقط حقه (3). وهذا ما نجده تماما في الفقرة الرابعة والخامسة من البناء العلوي الذي قدمناه.
ولنأخذ الآن أعمال الإحياء هذه التي تمنح الفرد العامل حقا خاصا في المصدر الطبيعي، كإحياء الأرض واستخراج المنجم واستنباط العين، لكي ندرس بدقة موقف النظرية منها. ونرى ما إذا كان نفس هذه الأعمال تختلف في الحقوق التي

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 65 و 110 و 112.
(2) لاحظ الأم ج 4، ص 43.
(3) لاحظ الروضة في شرح اللمعة ج 7، ص 139.
516

تنتجها بعد أن درسنا الفرق بين أعمال الانتفاع والاستثمار بشكل عام، وأعمال الاحتكار والاستئثار.
ونحن إذا استعرضنا من البناء العلوي المتقدم الحقوق التي تقوم على أساس أعمال الإحياء، وجدنا أنها تختلف من عمل لآخر. فالأرض التي أحياها الفرد لا يحوز لفرد آخر بدون إذنه استثمارها، والتصرف فيها، ما دامت الفرد الذي أحياها يتمتع بحقه في الأرض، بينما نجد أن الفرد إذا استنبط عينا، كان له الحق في مائها بقدر حاجته، وحاز للآخرين الاستفادة من العين فيما زاد على حاجة صاحبها.
ولهذا كان على النظرية أن تشرح السبب الذي أدى إلى اختلاف حق العامل في أرضه التي أحياها، عن حق العامل في العين التي استنبطها، ولماذا سمح لأي فرد بالاستفادة من ماء العين إذا زاد على حاجة صاحبها. ولم يسمح لأحد بزراعة الأرض التي أحياها العامل بدون إذنه، ولو لم يستغلها العامل في الزراعة فعلا؟
والواقع أن الجواب على هذا جاهز في ضوء معلوماتنا التي اكتشفناها حتى الآن عن النظرية فإن العامل يملك قبل كل شيء نتيجة عمله، وهي فرصة الاستفادة من المصدر الطبيعي، وملكيته لهذه الفرصة تحتم على الآخرين الامتناع عن سرقتها منه وتضييعها عليه، وبذلك يحصل على الحق الخاص في المصدر الذي أحياه. وهذا كله يطرد في سائر المصادر دون فرق في ذلك بين الأرض والمنجم والعين. فالحقوق التي تنتج عن إحياء تلك المصادر الطبيعية متساوية.
والسماح للغير بالاستفادة من عين الماء فيما زاد على حاجة العامل دون الأرض لا ينشأ من اختلاف الحقوق، بل ينبع عن طبيعة تلك الأشياء فان الفرصة التي يملكها الفرد نتيجة لحفره العين، واكتشافه للماء، لا تضيع عليه بمشاركة شخص آخر له في الانتفاع بالماء، ما دامت العين غزيرة تفيض عن حاجته، فالعين الثرية بالماء لا تضيق عادة عن تزويد فردين بالماء وإشباع حاجتهما. وبهذا يظل العامل محتفظا بالفرصة التي خلقها دون أن يؤدي انتفاع الآخر بالعين في شربه وشرب
517

ماشيته إلى فوات تلك الفرصة منه.
وعلى العكس من ذلك الأرض التي يحيها الفرد، ويخلق فهيا فرصة الانتفاع بها عن طريق إحيائه لها، فإن الأرض بطبيعتها لا تتسع لإستثمارين في وقت واحد، فلو بادر شخص إلى أرض محياة واستثمرها لإنتزع بذلك من العامل الذي أحياها الفرصة التي خلقها، لأن الأرض إذا وظفت في إنتاج زراعي لا يمكن أن تقوم بدور مماثل، ولا أن تستغل لأغراض الإنتاج من تقبل فرد آخر.
وهكذا نعرف أن الأرض المحياة لا يجوز لغير العامل الذي أحياها أن يستثمرها وينتفع بها، لأنه يضيع على العامل الفرصة التي يملكها بعمله. فلكي يحتفظ العامل بهذه الفرصة لا يسمح لغيره باستثمار الأرض، سواء كان العامل يفكر في استغلال الفرصة فعلا أولا، لأنها على أي حال فرصته الأرض التي خلقها، ومن حقه الاحتفاظ بها ما دامت جهوده التي أنفقها لإحياء الأرض مجسدة فيها. وخلافا لذلك يسمح في عيون الماء لغير العامل الذي اكتشفها أن يستفيد منها فيما زاد على حاجة العامل (1)، لأن ذلك لا يجرد المكتشف من الفرصة التي خلقها، لقدرة العين على تلبية طلبات العامل الذي اكتشفها، واشباع حاجة الآخرين في وقت واحد، فاختلاف الأرض عن العين في طبيعتها وطريقة استغلالها هو السبب الذي يفسر السماح للآخرين بالاستفادة من العين دون الأرض.
وأما المنجم المكتشف، فقد أجاز الإسلام لأي فرد أن يستفيد منه، بالطريقة التي لا تؤدي إلى حرمان المكتشف من الفرصة التي خلقها. وذلك بالحفر في موضع آخر من المنجم، أو بالاستفادة من نفس الحفرة التي أنشأها المكتشف الأول، إذا كانت واسعة تتيح للغير أن يستفيد منها دون أن ينتزع من المكتشف فرصة الانتفاع.
فالمقياس العام للسماح لغير العامل، أو منعه عن الانتفاع بالمرفق الطبيعي الذي أحياه العامل وخلق فيه فرصة الانتفاع، هو: مدى تأثير ذلك على الفرصة التي خلقا العامل باحيائه للمصدر الطبيعي.

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 33 و 113 و 123.
518

أساس التملك في الثروات المنقولة:
وحتى الآن كنا نحصر الحديث تقريبا بالعمل في المصادر الطبيعية كالأراضي والمناجم وعيون الماء. ولا بد لكي نستوعب المحتوى الكامل للنظرية، أن تفحص بتدقيق تطبيقات النظرية على غير المصادر الطبيعية من الثروات المنقولة، وأوجه الفرق بينها وبين المصادر، والمبررات النظرية لهذه الفروق.
والشيء الوحيد الذي مر بنا عن موقف النظرية من الثروات المنقولة، أن حيازة هذه الثروات تعتبر نظريا عملا ذا صفة اقتصادية من أعمال الانتفاع والاستثمار، خلافا لحيازة المصدر الطبيعي التي تحمل طابع الاحتكار والاستئثار، ولا تتسم بالصفة الاقتصادية.
وقد استخدمنا فرضية الانسان المنفرد، للتدليل بها على هذا الفرق بين حيازة المصادر الطبيعية وحيازة الثورات المقولة.
221
فالاستيلاء - إذن - على كمية من الماء أو من خشب الغابة أو أي ثروة طبيعية أخرى بالامكان نقلها يعتبر قبل كل شيء عملا من أعمال الانتفاع والاستثمار. ولهذا تدخل حيازة الثروات المنقولة في حساب النظرية، التي لا تعترف بعمل سوى أعمال الانتفاع ذات الصفة الاقتصادية.
ولكن الحيازة ليست هي الوحيد الذي تعترف به النظرية، وتقيمه في مجال الثروات الطبيعية المنقولة، إذا كانت تشتمل بطبيعتها على مقومة للانتفاع بها، كصيد الحيوان النافر، فان العمل الذي يشل به الصياد مقومة الحيوان الذي يصطاده بخلق فرصة الانتفاع بذلك الحيوان بسبب القضاء على مقاومته كما يخلق العامل فرصة الانتفاع بالأرض الميتة عن طريق احيائها والقضاء على مقاومتها وتذليل تربتها.
فالحيازة والعمل لإيجاد فرصة نوعان من العمل، يحملان معا الطابع
519

الاقتصادي في مجال الثروات المنقولة ولكن العمل لإيجاد فرصة جديدة للانتفاع بالثروة كالصيد، يمتاز عن الحيازة بدوره الايجابي في خلق هذه الفرصة، إذ ان الحيازة ذات دور سلبي من هذه الناحية لأنها بوصفها مجرد عملية استيلاء على الثروة لا تخلق فيها فرصة جديدة للانتفاع بها بشكل عام. فأنت حين تحوز حجرا من الطريق العام، أو ماء من البئر، لا تخلق في الحجر أو الماء كان معروضا للجميع، ولم تزد على أن سيطرت عليه وادخرته لحاجتك. صحيح أنك نقلت الحجر إلى بيتك والماء إلى آنيتك ولكن هذا إنما يمهد لانتفاعك بالحجر أو الماء، ولا يذلل عقبة عامة في هذا السبيل، ولا يمنح المال صفة تجعله أكثر استعدادا أو لياقة للنفع بصورة عامة كاحياء الأرض الذي يقضي على مقاومة الأرض للانتفاع بها بشكل عام، ويمنحها كفاءة جديدة للقيام بدورها العام في حياة الانسان.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقارن الصيد، وما إليه من أعمال كخلق فرصة جديدة في الثروات المنقولة، بعملية احياء الأرض، لأن الصيد والاحياء يتفقان في خلق فرصة عامة لم تكن متاحة من قبل. ونقارن حيازة الثروة المنقولة بعملية زراعة الأرض العامرة بطبيعتها، فكما أن زراعة الأرض العامرة طبيعيا لا تخلق في الأرض فرصة جديدة، وإنما هي عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار، كذلك حيازة الماء من العيون الطبيعية (1).
وهذا التمييز بين حيازة الثروات المنقولة، وبين العمل فيها لايجاد فرصة الانتفاع، كالصيد وما إليه من أمال، لا يعني انفصال هذين الأمرين أحدهما عن الآخر دائما فان الحيازة كثيرا ما تقترن بخلق فرصة جديدة في الثروة، فتندمج الحيازة مع

(1) يلاحظ هنا أنا لم نقارن بين حيازة الماء المباح وحيازة الأرض العامرة بطبيعتها ح وإنما قارنا بين حيازة الأرض ليست عملا من أعمال الانتفاع والاستثمار، - كما مر سابقا - أما حيازة الماء فهي من أعمال الانتفاع ذات الصفة الاقتصادية، كزراعة الأرض العامرة بطبيعتها.
520

خلق الفرصة الجديدة عملية واحدة. كما قد يوجد كل منهما بصورة منفصلة عمليا عن الآخر.
فهناك من الث [1] رواة ما يحتوي على درجة من المقاومة الطبيعية للانتفاع به، كالسمك في البحر والفائض من ماء النهر الذي يجري بطبيعته ليتلاشى في نهاية الشوط في أعماق البحر، فإذا قضى الصياد على مقاومة السمك باغرائه بدخول شبكته التي يصطاد بها، فقد حازه وخلق فيه أيضا فرصة الانتفاع، نتيجة للقضاء على مقاومته خلال عملية واحدة، كما أن اختزان الماء الفائض من النهر يعتبر حيازة له، وهو في نفس الوقت يخلق فرصة الانتفاع، نتيجة لمنعه من الهروب إلى البحر والتسلل اليه.
وقد يمارس الفرد عملا لخلق فرصة جديدة في الثروة والقضاء على مقاومتها الطبيعية، دون أن تتحقق خلال ذلك حيازة الثروة، كما إذا رمى الصائد بحجر على طائر محلق في الجو، فشل حركته، واضطره إلى الهبوط في منطقة بعيدة عن موضع الصائد، وأصبح في وضع لا يسمح له إلا بالمشي كالدواجن، فالفرصة الجديدة للانتفاع قد أنجزت في هذه العملية عن طريق اصطياد الطائر والقضاء على مقاومته بقذف الحجر عليه، ولكن
الطير وهو يمشي بعيدا عن موضع الصائد لا يعتبر في حيازته وتحت يده، وإنما تتم حيازته له إذا تعقبه الصائد وأخذه.
وقد يحوز الفرد ثروة دون أن يمارس عملا لخلق فرصة جديدة فيها، كما إذا كانت الثروة مستعدة بطبيعتها للانتفاع بها، ولا تشتمل على مقاومة تحول دون ذلك، كحيازة الماء من العيون والحجر من الأرض.
فالحيازة وخلق الفرصة لونان من العمل قد يندمجان في عملية واحدة وقد يفترقان.
ولنعبر عن اللون الثاني من العمل قد يندمجان في عملية واحدة وقد يفترقان.
ولنعبر عن اللون الثاني من العمل الذي يخلق الفرصة بالصيد، بوصفه المثال البارز للعمل المنتج لفرصة جديدة في الثروات المنقولة.
ولكي ندرس هذين اللونين من العمل على صعيد النظرية، سوف نتناول كلا من الحيازة والصيد بصورة منفصلة عن الآخر، لاكتشاف الأحكام المختصة به، وطبيعة الحقوق التي تنتج عن كل من العملين، والأساس النظري لها.
521

دور الأعمال المنتجة في النظرية:
فالصيد إذا درسناه بصورة منفصلة عن الحيازة، نجد أنه عمل ينتج فرصة معينة. فمن الطبيعي أن يمنح العامل حق تملك الفرصة التي نتجت عن عمله، كما يملك العامل في الأرض فرصة الانتفاع التي نجمت عن إحيائه للأرض، وفقا للمبدأ الآنف الذكر في النظرية، الذي يمنح كل عامل في الثروة الطبيعية الخاتم حق تملك النتيجة التي يسفر عنها العمل.
وعن طريق تملك الصائد لهذه الفرصة، يصبح له حق خاص في الطير الذي اصطاده واضطره إلى الهبوط والمشي على الأرض، ولو لم يحزه كما يدل عليه اطلاق النصوص التشريعية (1) فلا يسمح لفرد آخر أن يبادر إلى الطير ويستولي عليه، أو يغتنم فرصة اشتعال الصياد عن حيازته بمواصلة عملية الصيد مثلا، فيسبقه اليه، لأن ذلك يؤدي إلى حرمان العامل من الفرصة التي خلقها بالصيد.
فحق الصياد في الطائر الذي اصطاده، لا يتوقف على حيازته له أو البدء في الانتفاع به فعلا، بل مجرد الفرصة التي خلقها بعمله يخوله الحق فيه، لأن هذه الفرصة ملك للعامل خلقها، سواء فكر فعلا في الانتفاع بصيده وبادر إلى حيازته أو لا.
وبهذا كان الصياد نظير العامل الذي يحيي الأرض، فكما لا يجوز لفرد لآخر أن يستثمر الأرض ويزرعها، ولو لم يمارس المحيي لانتفاع بها فعلا، كذلك لا يصح لغير العامل الذي ذلل الصيد وقضى على مقاومته أخذ الصيد ما دام الصياد محتفظا بحقه، ولو لم يبادر إلى حيازته فعلا.
ولكن الطير الذي شلت حركته نتيجة لاصطياده، إذا استطاع قبل أن يبادر الصياد إلى حيازته، أن يسترجع قواه، أو يتغلب على الصدمة، ويحلق في الجو من جديد، زال عنه حق الصياد، لأن هذا الحق كان يعتمد على تملك العامل للفرصة

(1) راجع الملحق رقم 11.
522

التي أنتجها بالصيد، وهذا الفرصة تتلاشى بهروب الطائر في الجو، فلا يبقى للصائد حق في الطير (1) وهو في هذا يشبه أيضا العامل الذي يحيي الأرض ويكتسب حقه فيها على هذا الأساس، إذ يفقد حقه في الأرض، إذا انطفأت فيها الحياة ورجعت مواتا من جديد والسبب نظريا واحد في الحالتين، وهو أن حق الفرد في الثرو‌ة يرتبط بتملكه للفرصة التي تنتج عن عمله فإذا زالت تلك الفرصة وانعدم أثر ذلك العمل زال حقه في الثروة.
فالصيد في أحكامه إذن حين ينظر اليه بصورة مستقلة عن الحيازة يشابه احياء المصادر الطبيعية. وهذا التشابه ينبع - كما رأينا - من وحدة التفسير النظري لحق العامل في صيده. وحق العامل في الأرض الميتة التي أحياها.
دور الحيازة للثروات المنقولة:
وأما الحيازة، فهي تختلف عن الصيد المجرد في أحكامها. ولهذا نجد أن الفرد إذا ملك طيرا بالحيازة ودخل في حوزته، أصبح من حقه استرجاعه إذا طار وامتنع، فاصطاده آخر، وليس للآخر الاحتفاظ به، بل يجب عليه رده إلى من كان الطير في حوزته (2)، لأن الحق المستند إلى الحيازة حق مباشر بمعنى أن الحيازة سبب مباشر لتملك الطير، وليس تملك الطير مرتبطا بتملك فرصة معينة ليزول بزوالها.
وهذا هو الفرق بين الحيازة وغيرها من العمليات التي مرت بنا فالصيد كان سببا لامتلاك الصائد للفرصة التي أنتجها، وقام على هذا الأساس حقه في الطير، والاحياء كان سببا لامتلاك العامل للفرص التي نجمت عن الإحياء ونتيجة لذلك حصل على حقه في المرفق الذي أحياه. وأما حيازة الثروات المنقولة، فهي بمجردها سبب أصيل ومباشر لتملك الثروة.
وهذا الفرق بين الحيازة وغيرها من الأعمال، يحتم علينا مواجهة السؤال التالي

(1) راجع الملحق رقم 12 ولاحظ جواهر الكلام ج 36، ص 209.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 36، ص 204.
523

على الصعيد النظري: إذا كان حق الفرد في المصدر الطبيعي الذي أحياه، أو في الصيد الذي اصطاده، يقوم على أساس امتلاكه نتيجة عمله، وهي فرصة الانتفاع بذلك المصدر، فعلى أي أساس يقوم حق الفرد في الحجر الذي يلقاه في الطريق، فيأخذه لنفسه؟ أو حقه في الماء الراكد الذي يحوزه من بحيرة طبيعية؟ مع أن
حيازته هذه للحجر أو للماء لم تنتج فرصة عامة جديدة في المال كما ينتج الصيد واحياء الأرض؟.
والجواب على هذا السؤال: أن حق الفرد هذا، لا يستمد مبرره من تملك الفرصة نتجت عن عمله، وإنما يبرره انتفاع الفرد بذلك المال، فكما أن من حق كل عامل أن يمتلك الفرصة التي ينتجها عمله، كذلك من حقه أن ينتفع بالفرصة التي هيأتها له الطبيعة بعناية الله تعالى. فالماء مثلا إذا كان في أعماق الأرض وكشفه الفرد بالحفر، فقد خلق فرصة الانتفاع به وأصبح جديرا بامتلاك هذه الفرصة. وأما إذا كان الماء مجتمعا طبيعيا على سطح الأرض، وكان فرصة الانتفاع به ناجزة بدون جهد من الانسان، فلا بد أن يتاح لكل فرد أن يمارس انتفاعه بذلك الماء، ما دامت الطبيعة قد كفتهم العمل ومنحتهم فرصة الانتفاع.
فإذا افترضنا فردا اغترف بإنائه من الماء المجتمع طبيعيا على وجه الأرض فقد مارس عملا من أعمال الانتفاع والاستثمار، في مفهوم النظرية كما مر بنا في مستهل البحث، وما دام من حق كل فرد أن ينتفع بالثروة التي تقدمها الطبيعة بين يدي الانسان فمن الطبيعي أن يسمح للفرد بحيازة الماء المكشوف على وجه الأرض، من مصادره الطبيعية، لأنها عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار وليس عملا من أعمال الاحتكار والقوة.
وإذا احتفظ الفرد بالماء الذي حازه، كان له ذلك، ولا يجوز لآخر أن ينازعه فيه، أو ينتزعه منه وينتفع به لأن النظرية ترى حيازة الماء وما اليه، الثروات المنقولة عملا من أعمال الانتفاع، فما دامت الحيازة مستمرة فالانتفاع مستمر إذن من قبل الحائز، وما دام الحائز مواصلا لانتفاعه بالثروة، فلا مبرر لتقديم فرد آخر عليه في الانتفاع بها إذا أراد.
524

وهكذا يظل الفرد متمتعا بحقه في الثروة المنقولة التي حازها، ما دامت الحيازة مستمرة حقيقة أو حكما (1). فإذا تنازل الفرد عن حيازته بإهمال المال والاعراض عنه، انقطع انتفاعه به، وسقط بسبب ذلك حقه في المال، وأصبح لأي فرد آخر الاستيلاء عليه والانتفاع به.
وهكذا يتضح أن حق الفرد في الماء الذي حازه من البحيرة، أو الحجر الذي أخذه من الطريق العام، لا يستند إلى تملكه لفرصة عامة ناجمة عن عمله وإنما يقوم على أساس ممارسة الفرد للانتفاع بتلك الثروة الطبيعية عن طريق حيازته لها (2).
وفي هذا الضوء نستطيع أن نضيف، إلى المبدأ المتقدم في النظرية القائل: إن كل عامل يملك نتيجة عمله، مبدأ جديدا وهو: أن ممارسة الفرد للانتفاع بثروة طبيعية، يجعل له حقا فيها، ما دام مواصلا لانتفاعه بتلك الثروة. ولما كانت الحيازة في مجال الثروات المنقولة عملا من أعمال الانتفاع، فيستوعبها هذا المبدأ، ويقيم على أساسها حقا للفرد في الثروة التي حازها.
تعميم المبدأ النظري للحيازة:
وهذا المبدأ لا ينطبق على الثروات المنقولة فحسب، بل ينطبق على المصادر الطبيعية أيضا، إذا مارسها الفرد بعمل من أعمال الانتفاع، كما إذا زرع أرضا عامرة بطبيعتها، فان زراعته لها عمل من أعمال الانتفاع، فيكسب على أساس ذلك حقا في الأرض، يمنع الآخرين من مزاحمته، وانتزاع الأرض منه، ما دام يواصل انتفاعه

(1) نريد باستمرار الحيازة حكما: الحالات التي تنقطع فيها الحيازة لسبب اضطراري، كالنسيان والضياع والاغتصاب، ونحو ذلك، فان الشريعة تعتبر الحيازة وممارسة الانتفاع مستمرة حكما، ولذا تأمر بارجاع المال الضائع أو المغتصب إلى حوزة صاحبه، ومرده هذا الاعتبار في الحقيقة إلى التأكيد على العنصر الاختياري، وسلب الأثر عن حالات الاضطرار في مختلف مجالات التشريع.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 122 و 124.
525

بها، ولكن ليس معنى هذا أن مجرد حيازة الأرض مثلا تكفي لاكتساب هذا الحق فيه كحيازة الماء، لأن حيازة الأرض ليست من أعمال الانتفاع والاستثمار، وإنما ينتفع بالأرض العامرة عن طريق زراعتها مثلا، فإذا باشر العامل الزراعة في أرض عامرة بطبيعتها، وواصل هذا النوع من الانتفاع بها، لم يجز لآخر ليس أولى بها ممن ينتفع بها فعلا. وأما إذا ترك العامل زراعتها والانتفاع بها، فلا يبقى له الحق في الاحتفاظ بها، ويجوز عندئذ لفرد آخر ممارستها في عمل من اعمال الانتفاع والاستثمار (1).
ونلاحظ في حال ترك الفرد الانتفاع بالأرض، الفرق بين المبدأ بين، فحق الفرد الذي يقوم على أساس مواصلة الانتفاع بثورة طبيعية يزول بمجرد ترك الفرد للانتفاع بالأرض وعدم مواصلته، بينما يظل الحق القائم على أساس تملك العامل للفرصة التي يخلقها ثابتا، ما دامت الفرصة باقية وجهود العامل مجسدة في الأرض، ولو لم يكن يمارس الانتفاع بالأرض فعلا.
تلخيص النتائج النظرية:
يمكننا أن نستنتج الآن، من دراسة النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج مبدأين أساسيين في هذه النظرية:
أحدهما: أن العامل الذي يمارس شيئا من ثروات الطبيعة الخام يملك نتيجة عمله، وهي الفرصة العامة للانتفاع بتلك الثروة. ونتيجة لتملك العامل هذه الفرصة يكون له الحق في نفس المال تبعا لما تفرضه ملكيته للفرصة التي أنتجها عمله ويرتبط حقه في المال بملكية هذه الفرصة، فإذا انعدمت وزالت الفرصة التي خلقها، سقط حقه في المال.
والمبدأ الآخر: أن ممارسة الانتفاع بأي ثروة طبيعية تمنح الفرد الممارس حقا، يمنع الآخرين عن انتزاع الثروة منه، ما دام يواصل استفادته منها، ويمارس أعمال الانتفاع

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38 ن ص 22 و 122 و 124 وإيصال الطالب ج 7، ص 334.
526

والاستثمار، لأن غيره ليس أولى منه بالثروة التي يمارسها لتنتزع منه وتعطى للغير.
وعلى أساس المبدأ الأول تقوم الاحكام التي نظمت الحقوق في عمليات الأحياء والصيد. وعلى أساس المبدأ
الثاني ترتكز أحكام الحيازة للثروات المنقولة، التي وفرت الطبيعة فرصة الانتفاع بها للانسان.
فخلق فرصة جديدة في ثروة طبيعية، والانتفاع المستمر بثروة توفرت فيها الفرصة طبيعيا، هما المصدران الأساسيان للحق الخاص في الثروات الطبيعية (1).
والطابع المشترك لهذين المصدرين هو الصفة الاقتصادية، فان كلا من خلق فرصة جديدة، أو الانتفاع بثروة على أساس الفرصة المتاحة طبيعيا، يعتبر ذا صفة اقتصادية، وليس من أعمال القوة والاستئثار.

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 36، ص 209 و 222 وج 38، ص 7 و 68 و 134.
527

ملاحظات
1 - دراسة مقارنة للنظرية الإسلامية
رأينا أن الشريعة تسمح للأفراد باكتساب الحقوق الخاصة، في المصادر الطبيعية، ضمن الحدود التي تقررها النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج. والتصميم النظري لهذه الحقوق يختلف عن تصميمها في النظرية الرأسمالية والماركسية.
ففي المذهب الرأسمالي يسمح لكل فرد بتملك المصادر الطبيعية على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية. فكل ثروة يسيطر عليها الفرد يمكنه أن يعتبرها ملكا له، ما لم يتعارض ذلك مع حرية التملك الممنوحة للآخرين. فالمجال المسموح به من الملكية الخاصة لكل فرد، لا يحدده إلا صيانة حق الأفراد الآخرين في حرية التملك. وهكذا يستمد الفرد مبرر ملكيته من كونه حرا، وغير مزاحم للآخرين في حرياتهم.
وأما النظرية العامة للتوزيع التي درسناها فلا تعترف بحرية التملك بمفهومها الرأسمالي، وإنما تعتبر حق الفرد في المصدر الطبيعي الخام مرتبطا بتملكه لنتيجة علمه، أو انتفاعه المباشر المستمر بذلك المصدر ولهذا يزول الحق، إذا فقد كلا هذين الأساسين.
فالحقوق الخاصة في المصادر الطبيعية تعتبر رأسماليا مظهرا من مظاهر حرية الإنسان، التي يتمتع بها في ظل النظام الرأسمالي، بينما هي في الإسلام مظهر من مظاهر نشاط الإنسان، وممارسته لأعمال الانتفاع والاستثمار.
529

وأما الماركسية فهي تؤمن بالغاء كل لون من ألوان الملكية الخاصة، للمصادر الطبيعية وسائر وسائل الإنتاج، وتدعو إلى تحرير تلك الوسائل من الحقوق الخاصة، إذ لم يعد لها مبرر، منذ دخول التاريخ المرحلة المحددة التي دقت الصناعة الآلية أجراسها، في عصر الإنسان الرأسمالي الحديث.
وإيمان الماركسية بضرورة هذا الإلغاء لا يعني، من الناحية النظرية التحليلية، ان الملكية الخاصة لا مبرر لها في المفهوم الماركسي إطلاقا، وإنما يعبر عن إيمانها مذهبيا بأن الملكية الخاصة قد استنفدت كل أغراضها في حركة التاريخ، ولم يبق لها مجال في تيار التاريخ الحديث، بعد أن فقدت مبرراتها وأصبحت قوة معاكسة للتيار.
ولكي نقارن بين النظرية الماركسية والإسلام، يجب أن نعرف ما هي المبررات في النظرية الماركسية للملكية الخاصة؟ وكيف فقدت في عصر الإنتاج الرأسمالي هذه المبررات (1)؟
إن الماركسية ترى: أن جميع الثروات الطبيعية الخام ليس لها بطبيعتها قيمة تبادلية، وإنما لها منافع استعمالية كثيرة، لأن القيمة التبادلية لا توجد في ثروة إلا نتيجة لعمل بشري متجسد فيها. فالعمل هو الذي يخلق القيمة التبادلية في الأشياء، والثروات الخام في وضعها الطبيعي لم تندمج مع عمل إنساني محدد فلا قيمة لها من الناحية التبادلية. وبهذا تربط الماركسية بين القيمة التبادلية والعمل، وتقرر أن

(1) نريد هنا بالنظرية الماركسية، النظرية الاقتصادية للمذهب الماركسي لا نظرية ماكس في تفسير التاريخ وتحليله.
فان الملكية الخاصة تدرس تارة بوصفها ظاهرة تاريخية،، وهي بهذا الوصف تبرر ماركسيا على أساس نظرية ماركس في التاريخ، بظروف التناقض الطبقي، وشكل الإنتاج ونوع القوى المنتجة.
وتدرس الملكية الخاصة تاريخ أخرى على أساس اقتصادي بحت لاكتشاف مبرراتها التشريعية لا المبرر التاريخي لوجودها. وفي هذه المرة يجب التفتيش عن مبرراتها الماركسية في نظرية ماركس في القيمة والعمل والقيمة الفائضة.
530

العامل الذي يمارس مصدرا طبيعيا أو ثروة من ثروات الطبيعة يمنح المال الذي يمارسه قيمة تبادلية بقدر كمية العمل الذي ينفقه عليه.
وكما تربط الماركسية بين العمل والقيمة التبادلية، تربط أيضا بين القيمة التبادلية والملكية، فتمنح الفرد الذي يخلق بعمله قيمة تبادلية في المال حق ملكية ذلك المال، والتمتع بتلك القيمة التي خلقها فيه. فتملك الفرد للثروة يستمد مبرره النظري في الماركسية من وصفه خالقا للقيمة التبادلية في تلك الثروة، نتيجة لما بذله عليها من عمل. وهكذا يصبح للفرد على أساس النظرية هذه حق تملك المصدر الطبيعي ووسائل الإنتاج الطبيعية، إذا استطاع أن ينفق عليها شيئا من الجهد، ويمنحها قيمة تبادلية معينة. وهذه الملكية تبدو في الحقيقة على ضوء النظرية الماركسية ملكية للنتيجة التي يسفر عنها العمل، لا للمصدر الطبيعي مفصلا عن تلك النتيجة، ولكن هذه النتيجة التي يملكها العامل ليست هي فرصة الانتفاع بوصفها حالة ناتجة عن العمل، كما رأينا في النظرية العامة للإسلام في توزيع ما قبل الإنتاج، بل هي القيمة التبادلية التي تنشأ عن العمل في رأي الماركسية. فالعامل يمنح المصدر الطبيعي قيمة معينة، ويتملك هذه القيمة التي أسبغها على المال.
وتعلية على هذا الأساس الماركسي لتبرير الملكية الخاصة تقرر الماركسية: ان هذه الملكية تظل مشروعة ما لم تدخل في عصر الإنتاج الرأسمالي، الذي يدفع فيه المالكون المصادر والوسائل التي يملكونها إلى من لا يملكون شيئا، ليعملوا بأجور ويسلموا الأرباح إلى مالكي تلك المصادر والوسائل، فان هذه الأرباح سوف تعادل قيمتها خلال زمن قصير نسبيا القيمة التبادلية للمصدر والوسائل. وبذلك يكون المالك قد استوفى كل حقه تلك المصادر، ما دام قد حصل على هذه القيمة مجسدة في الأرباح التي تقاضاها، فقد انقطعت بذلك صلته بالمصادر
والوسائل التي كان يملكها. وهكذا تفقد الملكية الخاصة مبرراتها، وتصبح غير مشروعة في النظرية الماركسية، بدخول عصر الإنتاج الرأسمالي أو العمل المأجور.
531

وعلى هذا الأساس الذي يربط ملكية العامل بالقيمة التبادلية، تفسح الماركسية لعامل آخر - إذا مارس الثروة - أن يملك القيمة الجديدة التي تنتج عن عمله. فإذا ذهب فرد إلى الغابة واقتطع من أخشابها وأنفق على الخشب جهدا حتى جعله لوحا، ثم جاء آخر فجعل من اللوح سريرا، أصبح كل منهما مالكا بقدر القيمة التبادلية التي أنتجها عمله. ولهذا تعتبر الماركسية الأجير في النظام الرأسمالي هو المالك لكل القيمة التبادلية التي تكتسبها المادة عن طريق عمله، ويكون اقتطاع مالك المادة جزءا من هذه القيمة باسم الأرباح سرقة من الأجير.
فالقيمة مرتبطة بالعمل. والملكية إنما هي في حدود القيمة التي تنتج عن عمل المالك.
هذه هي المبررات الماركسية الخاصة، التي يمكن تلخيصها في القضيتين التاليتين:
1 - القيمة التبادلية مرتبطة بالعمل وناتجة عنه.
2 - وملكية العامل مرتبطة بالقيمة التبادلية التي يخلقها عمله.
ونحن نختلف عن الماركسية في كلتا القضيتين.
أما القضية الأولى التي تربط القيمة التبادلية بالعمل، وتجعل منه المقياس الأساسي الوحيد لها، فقد درسناها بكل تفصيل في بحوثنا مع الماركسية من هذا الكتاب (1)، واستطعنا أن نبرهن على أن القيمة التبادلية لا تنبع بصورة أساسية من العمل. وبذلك تنهار جميع اللبنات الفوقية التي شادتها الماركسية على أساس هذه القضية. ‌
وأما القضية الأخرى التي تربط ملكية الفقر بالقيمة التبادلية التي تتولد عن العمل، فهي تتعارض مع اتجاه النظرية العامة للإسلام في توزيع ما قبل الإنتاج، لأن الحقوق الخاصة للأفراد في المصادر الطبيعية وإن كانت تقوم في الإسلام على أساس امتلاك الفرد نتيجة عمله، ولكن نتيجة العمل التي يمتلكها العامل الذي أحيى قطعة

(1) ص 186 - 198 من الكتاب.
532

من الأرض خلال عمل أسبوع مثلا ليست هي القيمة التبادلية التي ينتجها عمل أسبوع كما ترى الماركسية، بل النتيجة التي ملكها العمال في الأرض التي أحياها هي فرصة الانتفاع بتلك الأرض، وعن طريق تملك هذه الفرصة ينشأ حقه الخاص في الأرض نفسها، وما دامت هذه الفرصة قائمة يعتبر حقه في الأرض ثابتا، ولا يجوز لآخر أن يتملك الأرض بإنفاق عمل جديد عليها ولو ضاعف العمل الجديد قيمتها التبادلية، لأن فرصة الانتفاع بالأرض ملك الأول ولا يجوز مزاحمته فيها.
وهذا هو الفارق الأساسي من الناحية النظرية، بين الأساس الماركسي الخاص في المصدر الطبيعي، وبين الأساس الإسلامي. فمرد الحق الخاص على الأساس الأول إلى امتلاك العامل القيمة التبادلية التي اكتسبتها الأرض من عمله فحسب، ومرده على الأساس الثاني إلى امتلاك العامل الفرصة الحقيقية التي أنتجها العمل في الأرض.
فالمبدأ القائل: ان الحقوق الخاصة في المصادر الطبيعية تقوم على أساس العمل، وان العامل يتملك النتيجة الواقعية لعمله، يعكس النظرية الإسلامية.
والمبدأ القائل: أن القيمة التبادلية لمصادر الطبيعة تقوم على أساس العمل وملكية العامل تحددها القيمة التبادلية التي خلقها، يعكس النظرية الماركسية.
والفرق الرئيسي بين هذين المبدأين هو مصدر كل الاختلاف، التي سوف نجدها بين الإسلام والماركسية في توزيع ما بعد الإنتاج.
2 - ظاهرة الطسق وتفسيرها نظريا
نجد في البناء العلوي، الذي ينظم توزيع ما قبل الإنتاج في الإسلام، ظاهرة خاصة قد يبدو أنها تميز الأرض عن غيرها من المصادر الطبيعية، فلا بد من دراستها بصورة خاصة، وتفسيرها في ضوء النظرية العامة للتوزيع، أو ربطها بنظرية أخرى من المذهب الاقتصادي في الإسلام.
533

وهذه الظاهرة هي: الطسق الذي سمحت الشريعة للإمام بأخذه من الفرد، إذا أحيى أرضا وانتفع بها. فقد جاء في الحديث الصحيح وفي بعض النصوص الفقيه للشيخ الطوسي: أن للفرد ان يحيي أرضا ميتة وعليه طسقها: (أجرتها) يؤديه للإمام (1).
فما هو المبرر النظري لهذا الطسق؟ ولماذا اختصت به الأرض دون غيرها من منابع الثروة فلم يكلف الذين يحيون المنابع الأخرى بدفع شيء من غلتها؟.
والحقيقة أن هذا الطسق الذي سمح للإمام بفرضه على الأرض الميتة عند إحياء الفرد لها يمكن تكييفه مذهبيا وتفسيره من الناحية النظيرة على أساسين:
الأول: على أساس النظرية العامة في التوزيع نفسها، فنحن إذا لاحظنا أن الطسق أجرة يتقاضاها الإمام على الأرض بوصفها من الأنفال، وعرفنا إضافة إلى ذلك أن الأنفال يستخدمها الإمام في مصالح الجماعة كما سيأتي في بحث مقبل (2)، وقارنا بين إلزام صاحب الأرض بالطسق، وإلزام صاحب العين والمنجم بالسماح للآخرين بما زاد على حاجته من العين وما لا يتعارض مع حقه في المنجم، إذا جمعنا كل ذل، تكامل لدينا بناء علوي من التشريعي يسمح لنا بإستنتاج مبدأ جديد في النظرية، يمنح الجماعة حقا عاما في الاستفادة من مصادر
الطبيعية، لأنها موضوعة في خدمة الإنسانية بشكل عام (خلق لكم ما في الأرض جميعا) (3). وهذا الحق العام للجماعة لا يزول باكتساب المصادر الطبيعية طابع الحقوق الخاصة، وإنما تحدد الشريعة طريقة استفادة الجماعة من هذا الحق، بالشكل الذي لا يتعارض مع تلك الحقوق الخاصة (4). ففي المناجم والعيون التي يحيها الأفراد يتاح للجميع الاستفادة منها بشكل مباشر، لأن لكل فرد

(1) لاحظ المبسوط ج 2، ص 29.
(2) إيجاد قطاعات عامه ص 680.
(3) البقرة / 29.
(4) لاحظ الميزان ج 4، ص 170 و 171.
534

أن يستفيد من عروق المنجم، إذا حفر من موضع آخر، كما أن له أن يستقي من عين الماء إذا زادت على حاجة مستنبطها. وأما الأرض فلما كانت بطبيعتها لا تسمح لانتفاع فردين بها في وقت واحد، فقد شرع الطسق الذي ينفقه الإمام على مصالح الجماعة ليتاح للآخرين الاستفادة عن هذا الطريق، بعد أن حال الحق الخاص لصاحب الأرض الذي أحياها عن انتفاع الآخرين بتلك الأرض انتفاعا مباشرا.
الثاني: أن نفسر الطسق بصورة منفصلة عن النظرية العامة للتوزيع، وذلك على أساس أنه ضريبة تتقاضاها الدولة لصالح العدالة الاجتماعية، لأننا سوف نرى عند دراسة الأنفال ووظيفتها في الإقتصاد الإسلامي أن من أهم أغراض الأنفال في الشريعة الضمان الاجتماعي وحماية التوازن العام. وما دام الطسق يعتبر تشريعيا من الأنفال فمن المعقول أن يعتبر ضريبة نابعة من النظرية العامة في العدالة الاجتماعية وما تضم من مبادئ الضمان والتوازن العام. وإنما اختصت الأرض بهذه الضريبة الضخمة لأهميتها ولخطورة دورها في الحياة الاقتصادية، فشرعت هذه الضريبة وقاية للمجتمع الإسلامي من أعراض الملكية الخاصة للأرض، التي منيت بها المجتمعات غير الإسلامية، ومقاومة لمآسي الريع العقاري التي ضج بها تاريخ الأنظمة البشرية، ودوره في إشاعة الفروق والتناقضات وتعميقها. ويشابه الطسق على هذا الأساس الخمس الذي فرض ضريبة على ما يستخرج من المعدن.
وفي النهاية وقد قدمنا هذين التفسيرين النظريين للطسق، يمكننا أن نرد أحدهما إلى الآخر في نظرة أشمل وأوسع، فنفسر الطسق بأنه ضريبة سمح للإمام بفرضها لأغراض الضمان والتوازن وحماية الأفراد الضعفاء في الجماعة، ونفسر هذه الأغراض نفسها وحتمية تنفيذها على الأفراد الأقوياء بما للجماعة من حق عام مسبق في مصادر الطبيعة، يجعل لها على الأفراد الذين يحيون تلك المصادر ويستثمرونها الحق في حماية مصالحها وانقاذ ضعفائها (1).

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 21، ص 158 و 166 و 181.
535

3 - التفسير الخلقي للملكية في الإسلام
كنا ندرس الملكية والحقوق الخاصة حتى الآن، على ضوء النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج، فالبحث كان يقوم على أساس المذهب الاقتصادي. وفي خلال البحث استطعنا أن نقدم للملكية والحقوق الخاصة تفسيرا نظريا يعكس وجهة نظر المذهب الاقتصادي في الإسلام. ونريد الآن أن نقدم للملكية تفسيرها الخلقي في الإسلام. وأريد بالتفسير الخلقي للملكية الخاصة: استعراض التصورات المعنوية التي أعطاها الإسلام عن الملكية، ودورها وأهدافها، وعمل لإشاعتها بين الأفراد لتصبح قوى موجهة للسلوك، ومؤثرة على تصرفات الأفراد التي تتصل بملكياتهم وحقوقهم الخاصة.
وقبل أن نأخذ بالتفصيلات في التفسير الخلقي للملكية يجب أن نميز بكل وضوح بينه، وبين التفسير المذهبي للملكية الذي عالجناه فيما تقدم من وجهة نظر اقتصادية. ولكي يتاح لنا هذا التمييز يمكننا أن نستعير من تفصيلات التفسير الخلقي الآتية مفهوم الخلافة، لنقارن بينه وبين النظرية العامة في التوزيع، التي فسرنا الحقوق الخاصة على أساسها من وجهة نظر المذهب الاقتصادي.
فالخلافة تضفي طابع الوكالة على الملكية الخاصة، وتجعل من المالك أمينا على الثروة، ووكيلا عليها من قبل الله تعالى الذي يملك الكون وجميع ما يضم من ثروات. وهذا التصور الإسلامي الخاص لجوهر الملكية متى تركز وسيطر على ذهنية المالك المسلم، أصبح قوة موجهة في مجال السلوك، وقيدا صارما يفرض على المالك التزام التعليمات والحدود المرسومة من قبل الله عز وجل، كما يلتزم الوكيل والخليفة دائما بإرادة الموكل والمستخلف.
ونحن إذا فحصنا هذا المفهوم، وجدنا أنه لا يفسر مبررات الملكية الخاصة من وجهة نظر مذهبية في الاقتصاد، لأن الملكية الخاصة سواء كانت خلافة أم أي شيء آخر تثير السؤال عن مبرراتها المذهبية التي تفسرها، فلماذا جعلت هذه الخلافة والوكالة لهذا الفرد دون سواه؟ ومجرد كونها وكالة ليس جوابا كافيا على هذا السؤال، وإنما نجد الجواب عليه في التفسير الاقتصادي للملكية الخاصة على أسس
536

معينة، كأساس العمل وصلة العامل بنتائج عمله.
وهكذا نعرف أن اسباغ طابع الوكالة الخلافة على الملكية الخاصة مثلا لا يكفي لصوغ نظرية عامة في التوزيع، لأنه لا يفسر هذه الظاهرة تفسيرا اقتصاديا، وإنما يخلق هذا الطابع نظرة خاصة إلى الملكية، تقوم على أساس أنها مجرد وكالة أو خلافة. وهذه النظرة إذا نشأت وسادت وأصبحت عامة لدى أفراد المجتمع الإسلامي، أصبح لها من القوة ما يحدد سلوك الأفراد، ويعدل من الانعكاسات النفسية للملكية ويطور من المشاعر التي توحي بها الثروة إلى نفوس الأغنياء. وبذلك يصبح مفهوم الخلافة قوة محركة موجهة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
فالتفسير الخلقي للملكية إذن يبرر تلك التصورات عن الملكية التي يتلقاها كل مسلم عادة من الإسلام، ويتكيف بها نفسيا وروحيا، ويحدد مشاعره ونشاطه وفقا لها.
وأساس هذه التصورات هو مفهوم الخلافة الذي أشرنا اليه، فالمال ما ل الله وهو المالك الحقيقي، والناس خلفاؤه في الأرض، وأمناؤه عليها وعلى ما فيها من أموال وثروات. قال الله تعالى: {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره و لا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا} (1).
والله تعالى هو الذي منح الإنسان هذه الخلافة، ولو شاء لانتزعها منه. {إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء} (2).
وطبيعة الخلافة تفرض على الإنسان أن يتلقى تعليماته بشأن الثروة المستخلف عليها ممن منحه تلك الخلافة. قال الله تعالى: {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير} (3) كما أن من نتائج هذه الخلافة أن يكون الإنسان مسؤولا بين يدي من استخلفه خاضعا لرقابته في كل تصرفاته وأعماله، قال الله تعالى: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من

(1) الفاطر / 39.
(2) الأنعام / 133.
(3) الحديد / 7.
537

بعدهم لننظر كيف تعملون} (1).
والخلافة في الأصل هي للجماعة كلها، لأن هذه الخلافة عبرت عن نفسها عمليا في إعداد الله تعالى لثروات الكون ووضعها في خدمة الانسان. والانسان هنا هو العام الذي يشمل الأفراد جميعا، ولذا قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} (2).
وأشكال الملكية بما فيها الملكية والحقوق الخاصة إنما هي أساليب تتيح للجماعة باتباعها أداء رسالتها في اعمار الكون واستثماره. قال الله تعالى: {هو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم} (3) فالملكية والحقوق الخاصة التي منحت لبعض دون بعض فاختلفت بذلك درجاتهم في الخلافة، هي ضرب من الامتحان لمواهب الجماعة ومدى قدرتها على حمل الأعباء، وقوة دافعة لها على إنجاز مهام الخلافة، والسباق في هذا المضمار. وهكذا تصبح الملكية الخاصة في هذا الضوء أسلوبا من أساليب قيام الجماعة بمهمتها في الخلافة، وتتخذ طابع الوظيفة الاجتماعية كمظهر من مظاهر الخلافة العامة، لا طابع الحق المطلق والسيطرة الأصلية وقد جاء عن الإمام الصادق أنه قال: إنما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث وجهها الله ولم يعطكموها لتكنزوها (4).
ولما كانت الخلافة في الأصل للجماعة، وكانت الملكية الخاصة أسلوبا لإنجاز الجماعة أهداف الخلافة ورسالتها، فلا تنقطع صلة الجماعة ولا تزول مسؤوليتها عن المال لمجرد تملك الفرد له، بل يجب على الجماعة أن تحمي المال من سفه المالك إذا لم يكن رشيدا لأن السفيه لا يستطيع أن يقوم بدور صالح في الخلافة (5). ولذا

(1) يونس / 14.
(2) البقرة / 29.
(3) الأنعام / 165.
(4) الفروع من الكافي ج 4، ص 32، الحديث 5.
(5) لاحظ جواهر الكلام ج 26، ص 52، والميزان ج 4 ن ص 170 و 171.
538

قال الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا} (1) ووجه الخطاب إلى الجماعة، لأن الخلافة في الأصل لها، ونهاها عن تسليم أموال السفهاء إليهم، وأمرها بحماية هذه الأموال والإنفاق منها على أصحابها. وبالرغم من أنه يتحدث إلى الجماعة عن أموال السفهاء، فقد أضاف الأموال إلى الجماعة نفسها فقال: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم}. وفي هذا إشعاع بأن الخلافة في الأصل للجماعة الخاصة. وقد عقبت الآية على هذا الإشعاع بالإشارة إلى أهداف الخلافة ورسالتها، فوصفت الأموال قائلة {أموالكم التي جعل الله لكم قياما} فالأموال قد جعلها الله للجماعة، يعني أنه استخلف الجماعة عليها، لا ليبذروها أو يجمدوها، وإنما ليقوموا بحقها ويستثمروها ويحافظوا عليها فإذا لم يتحقق ذلك عن طريق الفرد فلتقم الجماعة بمسؤوليتها (2).
وعلى هذا الأساس يسع الفرد المسؤولية في تصرفاته المالية أمام الله تعالى، لأنه هو المالك الحقيقي لجميع الأموال، كما يحس بالمسؤولية أمام مظاهر تلك الخلافة وأساليبها، ولهذا كان من حق الجماعة أن تحجر عليه، إذا لم يكن أهلا للتصرف في ماله لصغر أو سفه، وان تمنعه عن التصرف في ماله بشكل يؤدي إلى ضرر بليغ بسواه (3)، وكذلك أن تضرب على يده إذا جعل من ماله مادة للفساد والإفساد كما ضرب رسول الله (ص) على يد سمرة ابن جندب وأمر بقطع نخلته الخاصة ورميها حين اتخذها مادة فساد وقال له: إنك رجل مضار (4).
وحين أعطى الإسلام للملكية الخاصة مفهوم الخلافة ج

(1) النساء / 5.
(2) اتبعنا هنا في فهم الآية أحد الوجوه المحتملة التي ذكرها المفسرون في تفسيرها.
(3) لاحظ جواهر الكلام ج 26 ص 3 و 48 و 52 و 59، والميزان ج 4 ن ص 170
(4) الوسائل ج 17، ص 341، الحديث 32266.
539

وحين أعطى الإسلام للملكية الخاصة مفهوم الخلافة ن جردها عن كل الامتيازات المعنوية التي اقترنت بوجودها على مر الزمن، ولم يسمح للمسلم بأن ينظر إليها بوصفها مقياسا للاحترام والتقدير في المجتمع الإسلامي، ولا أن يقرنها بنوع من القيمة الاجتماعية في العلاقات المتبادلة، حتى جاء في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا أن (من لقي فقيرا مسلما فسلم عليه خلاف سلامه على الغني لقي الله عز وجل يوم القيامة وهو عليه غضبان (1)) وندد القرآن الكريم تنديدا رائعا بالأفراد الذين يقيسون احترامهم للآخرين وعنايتهم بهم مقاييس الثروة والغنى فقال: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى} (2) وبهذا أعاد الإسلام الملكية إلى وضعها الطبيعي وحقلها الأصيل بوصفها لونا من ألوان الخلافة وصممها ضمن الإطار
الإسلامي العام بشكل لا يسمح لها بأن تعكس وجودها على غير ميدانها الخاص، أو تخلق مقاييس مادية للاحترام والتقدير لأنها خلافة وليست حقا ذاتيا.
وفي الصور الرائعة التي يتحدث فيها القرآن الكريم عن مشاعر الملكية الخاصة وانعكاساتها في النفس البشرية، ما يكشف بوضوح عن إيمان الإسلام بأن مشاعر الامتياز ومحاولات التمديد للملكية الخاصة إلى غير مجالها الأصيل تنبع في النهاية من الخطأ في مفهوم الملكية واعتبارها حقا ذاتيا لا خلافة لها مسؤولياتها ومنافعها.
ولعل من أروع تلك الصور قصة الرجلين اللذين اغنى الله أحدهما واستخلفه على جنتين من جنات الطبيعة {فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا} إيمانا منه بأن ملكيته تبرر هذا اللون من التعالي والتسامي الذي واجه به

(1) الوسائل ج 8، ص 442، الحديث 15657.
(2) عبس / 1 - 10.
540

صاحبه {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه} لأنه كان يهئ بهذا الانحراف في فهم وظيفة ملكيته وطبيعتها عوامل فنائها ودمارها {قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله} واستشعرت أنها خلافة أمدك الله بها لتقوم بواجباتها لا أحسست بالتسامي والتعالي ولا خالجتك مشاعر الكبرياء والزهو {إن ترني أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا} (1).
وبهذا التقليص من وجود الملكية الخاصة وضغطها في مجالها الأصيل على أساس مفهوم الخلافة تحولت الملكية في الإسلام إلى أداة لا غاية، فالمسلم الذي اندمج كيانه الروحي والنفسي مع الإسلام ينظر إلى الملكية باعتبارها وسيلة لتحقيق الهدف من الخلافة العامة وأشاع حاجات الإنسانية المتنوعة، وليست غاية بذاتها تطلب بوصفها تجميعا وتكديسا شرها لا يرتوي ولا يشبع وقد جاء في تصوير هذه النظرية الطريقية إلى الملكية - النظرة إليها بما في أداة - عن رسول الله (ص) أنه قال: ليس لك من مالك إلا من أكلت فأفنيت ولبست فأبليت وتصدقت فأبقيت (2). وقال في نص آخر: يقول العبد مالي مالي وإنما له من ماله ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فاقتنى وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس (3).
وقد قاوم الإسلام النظرة الغائية إلى الملكية - النظرة إليها بما هي غاية - لا

(1) الكهف / 34 - 42.
(2) كنز العمال ج 6، ص 358، الحديث 16046، مع اختلاف في العبارة.
(3) المصدر السابق الحديث 16045.
541

بالتعديل من مفهومها وتجريدها عن امتيازاتها في غير مجالها الأصيل فحسب بل قام إلى صف ذلك بعمل إيجابي لمقاومة تلك النظرة، ففتح بين يدي الفرد المسلم أفقا أرحب من المجال المحدود والمنطلق المادي العاجل، وخطأ أطول من الشوط القصير للملكية الخاصة الذي ينتهي بالموت، وبشر المسلم بمكاسب من نوع آخر: أكثر بقاء وأقوى اغراء وأعظم نفعا لمن آمن بها وعلى أساس تلك المكاسب الأخروية الباقية قد تصبح الملكية الخاصة أحيانا حرمانا وخسارة إذا حالت دون الظفر بتلك المكاسب، كما قد يصبح التنازل عن الملكية عملية رابحة إذا أدت إلى تعويض أضخم من مكاسب الحياة الآخرة. وواضح أن الإيمان بهذا التعويض وبالمنطق الأوسع والمدى الأرحب للمكاسب والأرباح يقوم بدور إيجابي كبير في إطفاء البواعث الأنانية للملكية وتطوير النظرة الغائية إلى نظرة طريقية. قال الله تعالى: {وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه، وهو خير الرازقين} (1) {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} (2) {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} (3) {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا} (4) {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين} (5).
وقد قارن القرآن الكريم بين النظرة المنفتحة للأرباح والخسائر التي لا تقيسها بمقاييس الحس العاجل فحسب، وبين النظرة الرأسمالية الضيقة التي لا تملك سوى هذه المقاييس فيتهددها شبح الفقر دائما وتفزع بمجرد التفكير في تسخير الملكية الخاصة لأغراض أعم وأوسع من دوافع الشره والأنانية، لأن شبح الفقر المرعب والخسارة يبدو لها من وراء هذا اللون من التفكير. ونسب القرآن هذه النظرة

(1) سبأ / 39.
(2) البقرة / 272.
(3) البقرة / 110.
(4) آل عمران / 30.
(5) آل عمران / 115.
542

الرأسمالية الضيقة إلى الشيطان فقال: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم} (1).
4 - التحديد الزمني للحقوق الخاصة
النظرية العامة في التوزيع التي قررت الحقوق الخاصة بالطريقة التي عرفناها تفرض على هذه الحقوق تحديدا زمنيا بشكل عام، فكل ملكية وحق في الإسلام فهو محدد زمنيا بحياة المالك ولم يسمح له بالامتداد بشكل مطلق، ولهذا لا يملك الفرد في الإسلام الحق في تقرير مصير الثروة التي يملكها بعد وفاته، وإنما يقرر مصيرها القانون ابتداءا ضمن أحكام الميراث والتشريعات التي تنظم توزيع التركة بين الأقرباء (2).
وفي هذا يختلف الإسلام عن المجتمع الرأسمالية التي تؤمن عادة بامتداد سلطة المالك على أمواله إلى أبعد مدى، وتفوض اليه الحق في تقرير مستقبل الثروة بعد وفاته ومنحها لمن يشار بالطريقة التي تحلو له.
وهذا التحديد الزمني للحقوق الخاصة هو في الحقيقة من نتائج النظرية العامة في توزيع ما قبل الإنتاج التي هي
الأساس لتشريع تلك الحقوق الخاصة فقد عرفنا سابقا في ضوء النظرية أن الحقوق الخاصة ترتكز على أساسيين: أحدهما خلق الفرد فرصة الانتفاع بمصدر طبيعي بالإحياء فيملك هذه الفرصة بوصفها نتيجة لعمله، وعن طريقها يوجد له حق في المال لا يمسح لآخر بانتزاع تلك الفرصة. والآخر الانتفاع المتواصل بثروة معينة فإنه يعطي المنتفع حق الأولوية بتلك الثروة من غيره ما دام منتفعا بها. وهذان الأساسان لا يظلان ثابتين بعد الوفاة، ففرصة الانتفاع التي يملكها من أحيى أرضا ميتة مثلا تتلاشى بوفاته طبعا إذا تنعدم فرصة الانتفاع بالنسبة اليه نهائيا، ولا تكون استفادة فرد آخر منها سرقة لها منه ما دامت قد ضاعت عليه الفرصة طبيعيا بوفاته، وكذلك الانتفاع المستمر بالموت وتفقد بذلك

(1) البقرة / 268.
(2) لاحظ جواهر الكلام 26، ص 59 ومستمسك العروة للإمام الحكيم، ج 13، ص 543.
543

الحقوق الخاصة مبرراتها التي تقررها النظرية العامة.
فالتحديد الزمني للحقوق والملكيات الخاصة وفقا لأحكام الشريعة في الميراث جزء من بناء المذهب الاقتصادي، ومرتبط بالنظرية العامة في التوزيع.
وهذا التحديد الزمني يعبر عن الجانب السلبي من أحكام الميراث، الذي يقرر انقطاع صلة الميراث الذي يحدد المالكين الجدد وينظم طريقة توزيع الثروة عليهم، فهو ليس نتيجة للنظرية العامة في توزيع ما قبل الإنتاج، وإنما يرتبط بنظريات أخرى من الاقتصاد الإسلامي كما سنرى في بحوث مقبلة.
والإسلام حين حدد الملكية الخاصة تحديدا زمنيا بحياة المالك ومنعه من الوصية بماله والتحكم بمصير ثروته بعد وفاته، استثنى من ذلك ثلث التركة فسمح للمال بأن يقرر بنفسه مصير ثلث ماله (1)، وهذا لا يتعارض مع الحقيقة التي عرفناها عن التحديد الزمني وارتباطه بالنظرية العامة، لأن النصوص التشريعية التي دلت على السماح للمالك بالثلث من التركة تشير بوضوح إلى أن هذا السماح ذو صفة استثنائية، يقوم على أساس مصالح معينة، فقد جاء في الحديث عن علي بن يقطين أنه سأل الإمام موسى ما للرجل من ماله عند موته فأجابه: الثلث والثلث كثير (2). وجاء عن الإمام الصادق أن الوصية بالربع والخمس أفضل من الوصية بالثلث (3). وورد في الحديث أيضا ان الله تعالى يقول لابن آدم قد تطولت عليك بثلاثة: سترت عليك ما لو يعلم به أهلك ما واروك وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم تقدم خيرا، وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدم خيرا (4).

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 26، ص 59، ومستمسك العروة للإمام الحكيم، ج 13، ص 544 و 547.
(2) الوسائل ج 13، ص 363، الحديث 24576.
(3) الوسائل ج 13، ص 360، الحديث 24566.
(4) الوسائل ج 13، ص 356، الحديث 24553.
544

فالثلث في ضوء هذه الأحاديث حق يرجح للمالك عدم استخدامه ويستكثر عليه ويعتبر منحة قد تفضل بها الله على عبده عند موته وليس امتدادا طبيعيا لحقوقه التي كسبها حال الحياة فكل ذلك يشير إلى أن السماح بالثلث للميت حكم استثنائي وفي هذا اعتراف ضمني بالحقيقة التي قدمناها عن التحديد الزمني وارتباطه بالنظرية العامة.
وقد استهدفت الشريعة من تشريع هذا الحكم الاستثنائي الحصول على مكاسب جديدة للعدالة الاجتماعية، لأنه يتيح للفرد وهو يودع دنياه كلها ويستقبل عالما جديدا أن يستفيد من ثروته لعالمه الجديد، والغالب في لحظات الانتقال الحاسمة من حياة الفرد المسلم أن تنطفئ فيها شعلة الدوافع المادية والشهوات الموقوتة، الأمر الذي يساعد الإنسان على التفكير في ألوان جديدة من الانفاق تتصل بمستقبله وحياته المنتظرة التي يتأهب للانتقال إليها. وهذه الألوان الجديدة هي التي أطلق عليها في الحديث السابق اسم الخير وعوتب الفرد الذي لم يستفد من حقه في الوصية على عدم تحقيقه للغرض الذي من أجله منح ذلك الحق.
وقد حث الإسلام في نفس الوقت الذي سمح فيه بالثلث على استغلال الفرد لفرصته الأخيرة هذه في سبيل حماية مستقبله وآخرته بتخصيص الثلث لمختلف سبل الخير والمصالح العامة التي تساهم في تدعيم العدالة الاجتماعية.
فالتحديد الزمني للملكية هو القاعدة إذن، والسماح بالثلث استثناء فرضته أغراض ترتبط بجوانب أخرى من الاقتصاد الإسلامي.
545

نظرية التوزيع ما بعد الإنتاج
1 - الأساس النظري للتوزيع على عناصر الإنتاج
2 - أوجه الفرق بين النظرية الإسلامية والماركسية
3 - القانون العام لمكافأة المصادر المادية للإنتاج
4 - الملاحظات
547

1 - الأساس النظري للتوزيع على عناصر الإنتاج (1)
البناء العلوي:
1 - ذكر المحقق الحلي في كتاب الوكالة من الشرائع: أن الاحتطاب وما اليه من ألوان العمل في الطبيعة لا تصح فيه الوكالة، فلو وكل فرد شخصا آخر في الاحتطاب له من أخشاب الغابة مثلا، كانت الوكالة باطلة، فلا يملك الموكل الخشب الذي احتطبه العامل، لأن الاحتطاب وغيره من ألوان العمل في الطبيعية لا ينتج أثرا أو حقا خاصا لشخص ما لم يمارس العمل بنفسه وينفق جهدا مباشرا في عمليات الاحتطاب والاحتشاش ونحوهما، فقد تعلق غرض الشارع - على حد تعبير المحقق - بإيقاع هذه الأعمال من المكلف مباشرة.
وإليكم نص كلامه (وأما ما لا تدخل النيابة فيه فضابطه ما تعلق قصد الشارع بإيقاعه من المكلف مباشرة كالطهارة.. والصلاة الواجبة ما دام حيا والصوم والاعتكاف والحج الواجب مع القدرة والايمان والنذر
والغصب والقسم

(1) كنا في نظرية توزيع ما قبل الإنتاج نحاول أن نحدد الحقوق التي يكسبها الأفراد في الثروات الطبيعية الخام بوصفها مظهرا من مظاهر توزيعها. ولما كانت هذه الحقوق نتيجة للعمل اتجه البحث إلى تحديد دور العمل في تلك الثروات الطبيعية. والثروة الطبيعية التي يطورها العلم هي بهذا الاعتبار تندرج في ثروة ما بعد الإنتاج ولأجل هذا تداخل البحثان - بحث توزيع ما قبل الإنتاج وبحث توزيع ما بعد الإنتاج - بصورة جزئية، وكان لا بد من هذا التداخل حفاظا على الوضوح في اعطاء الأفكار عن كل من حقلي التوزيع.
549

بين الزوجات له يتضمن استمتاعا والظهار واللعان وقضاء العدة والجناية والالتقاط والاحتطاب والاحتشاش) (1).
2 - وجاء في الوكالة من كتاب التذكرة للعلامة الحلي: أن في صحة التوكيل في المباحات كالاصطياد والاحتطاب والاحتشاش وإحياء الموات وحيازة الماء وشبه إشكالا. ونقل القوم بعدم صحة ذلك بعض فقهاء الشافعية (2).
3 - وفي كتاب القواعد: أن في التوكيل بإثبات اليد على المباحث كالالتقاط والاصطياد والاحتشاش والاحتطاب نظرا (3).
4 - وقد شاركت في هذا النظر عدة مصدر فقهية أخرى كالتحرير والإرشاد والإيضاح وغيرها (4).
5 - ولم تكتف عدة مصادر فقهية أخرى بالنظر والإشكال، بل أعلنت بصراحة عن عدم جواز الوكالة وفاقا للشرائع كالجامع في الفقه، وكذلك السرائر أيضا بالنسبة إلى الاصطياد، كما نقل عن الشيخ الطوسي في كتاب المبسوط - في بعض نسخه - المنع عن التوكيل في الإحياء. ونقل عنه أيضا المنع من التوكيل في الاحتطاب والاحتشاش (5).
وقال أبو حنيفة - بصدد الاستدلال على أن الشركة لا تصح في اكتساب المباح كالاحتشاش - لأن الشركة مقتضاها الوكالة ولا تصح الوكالة في هذه الأشياء لأن من أخذها ملكها (6).

(1) شرائع الإسلام ج 2، ص 153.
(2) التذكرة ج 2، 118، كتاب الوكالة، الفصل الثاني، البحث الرابع، النظر الثاني، المسألة الخامسة.
(3) قواعد الأحكام ج 1، ص 254.
(4) لاحظ التحرير ج 1 ن 233، وإيضاح الفوائد ج 2، ص 339، وإرشاد الأذهان ج 1، ص 416، ومفتاح الكرامة ج 7، ص 559.
(5) لاحظ السرائر ج 2، ص 85، والشرائع الإسلام ج 2، ص 339 والمبسوط ج 2، ص 363 والجامع للشرائع ص 319.
(6) لاحظ المغني ج 5، ص 111.
550

6 - وربط العلامة الحلي بين الوكالة والإجارة فذكر ان الوكالة في تلك الأعمال إذا كانت غير منتجة، فالإجارة مثلها أيضا، فكما لا يملك الموكل ما يحصل عليه الوكيل في الاحتطاب والاصطياد ‌‌إحياء الموات، كذلك لا يملك المستأجر مكاسب عمل الأجير في الطبيعية (1). والنص في كتاب التذكرة إذ كتب يقول: إن جوزنا التوكيل فيه جوزنا الإجارة عليه، فإذا استأجر ليحتطب أو يستقي الماء أو يحيي الأرض، جاز وكان ذلك للمستأجر. وإن قلنا بالمنع هناك. منعنا هنا فيقع الفعل للأجير (2).
وقد أكد المحقق الأصفهاني في كتاب الإجارة إن الإجارة لا أثر لها في تملك المستأجر - أي باذل الأجرة - لما يحوزه الأجير ويحصل عليه بعمله في الطبيعة، فإذا حاز الأجير لنفسه، ملك المال المحاز ولم يكن للمستأجر شيء (3).
والشيء نفسه ذهب اليه الشهيد الثاني في مسالكه إذ كتب يقول: (وبقي في المسألة بحث آخر وهو أنه على القول بصحة الإجارة على أحد القولين (أي الإجارة للاحتطاب أو الاحتشاش أو الاصطياد) إنما يقع الملك للمستأجر مع نية الأجير الملك له اما مع نية الملك لنفسه فيجب أن يقع له لحصول الشرط على جميع الأقوال واستحقاق المستأجر منافعه تلك المدة لا ينافي ذلك) (4).
7 - ذكر العلامة الحلي في القواعد: ان الإنسان لو صاد أو احتطب أو احتش وحاز بنية أنه له ولغيره، لم تؤثر تلك النية وكان بأجمعه له (5).
8 - وفي مفتاح الكرامة: أن الشيخ الطوسي والمحقق والعلامة حكموا جميعا بأن الشخص إذا حاز ثروة طبيعية بنية أنه له ولغيره كانت كلها له (6).

(1) راجع الملحق رقم 13.
(2) التذكرة نفس الموضع المشار إليه في هامش (2) ص 534.
(3) بحوث في الفقه بحث الإجارة، ص 133.
(4) مسالك الإفهام ج 1، ص 281.
(5) قواعد الأحكام ج 1، ص 244.
(6) مفتاح الكرامة ج 7، ص 420.
551

9 - وجاء في قواعد العامة: أن الشخص لو دفع شبكة للصائد بحصة، فالصيد للصائد وعليه أجرة الشبكة (1). وأكدت ذلك عدة مصادر فقهية أخرى كالمبسوط والمهذب والجامع والشرائع (2).
10 - وقال المحقق الحلي في الشرائع: الاصطياد بالآلة المغصوبة حرام ولا يحرم الصيد ويملكه الصائد دون صاحب الآلة وعليه أجرة مثلها (3).
وقد علق المحقق النجفي في الجواهر على الحكم المذكور بتملك الصائد للصيد دون صاحب الآلة قائلا: (لأن الصيد من المباحات التي تملك بالمباشرة المتحققة من الغاصب وإن حرم استعماله للآلة... نعم عليه - أي الصائد - أجرة مثلها للمالك كباقي الأعيان المغصوبة بل لو لم يصد بها كان عليه الاجر لفوات المنفعة تحت يده) (4).
وجاء نظير ذلك في المبسوط للفقيه الحنفي السرخسي إذ كتب يقول: (وإذا دفع إلى رجل شبكة ليصيد بها السمك على أن ما صاد بها من شيء فهو بينهما فصاد بها سمكا كثيرا فجميع ذلك للذي صاد.. لأن الآخذ هو المكتسب دون الآلة فيكون الكسب له وقد استعمل فيه آلة الغير بشرط العوض لصاحب الآلة وهو مجهول فيكون له أجر مثله على الصياد) (5) ليس لها حصة في السلعة المنتجة.
11 - وللشيخ الطوسي في الشركة كتاب المبسوط هذا النص الآتي (إذا أذن رجل لرجل أن يصطاد له صيدا فاصطاد الصيد بنية أن يكون للآمر دونه فلمن يكون هذا الصيد، قيل فيه: إن ذلك بمنزلة الماء المباح إذا استقاه السقا بنية أن يكون بينهم وإن الثمن يكون له - أي للسقاء - دون شريكه فها هنا يكون الصيد للصياد دون الآمر لأنه انفرد بالحيازة. وقيل: إنه يكون للآمر لأنه اصطاده بنيته فاعتبرت

(1) قواعد الأحكام ج 1، ص 245.
(2) لاحظ مفتاح الكرامة ج 7، ص 441.
(3) شرائع الإسلام ج 3، ص 158.
(4) جواهر الكلام ج 36، 65.
(5) المبسوط للسرخسي، ج 22، ص 34.
552

النية: والأول أصح (1).
12 - ذكر المحقق الحلي في الشرائع: أن إنسانا لو دفع دابة مثلا وآخر راوية إلى سقاء على الاشتراك
الحاصل لم تنعقد الشركة فكان ما يحصل حينئذ للسقاء وعليه مثل أجرة الدابة والراوية (2). والشيء نفسه ذكره العلامة الحلي في القواعد (3).
وجاءت المسألة نفسها في كتاب المغني لابن قدامة ونقل عن القاضي والشافعي نفس الحكم المذكور وهو أن ما يحصل للسقاء وعليه لصاحبه أجرة المثل (4).
وكذلك نص على الحكم المذكور الشيخ الطوسي مشيرا في مقابل ذلك إلى القول باقتسام الربح أثلاثا بين صاحب الدابة وصاحب الراوية والسقاء مع عدم ارتضائه (5).
وهذا يعني أن وسائل الإنتاج التي استخدمها السقا ليس لها نصيب في منتوج العملية وإنما لها أجرة المثل على العامل.
من النظرية:
كل هذا البناء العلوي يكشف الحقيقة الأساسية في النظرية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج، وبالتالي عن خلافات جوهرية بين النظرية الإسلامية، والنظرية العامة للتوزيع في الاقتصاد المذهبي للرأسمالية.
وقد يكون من الأفضل بدلا عن البدء في استنتاج النظرية من البناء العلوي المتقدم، أن نكون فكرة قبل ذلك عن طبيعة نظرية توزيع ما بعد الإنتاج، وصورة عامة عن طريق تقديم نموذج لها من المذهب الرأسمالي، لكي نعرف نوع المجال الذي لابد لنظرية مذهبية في توزيع ما بعد الإنتاج أن تمارسه.

(1) المبسوط ج 2، ص 346.
(2) شرائع الإسلام ج 2، ص 108.
(3) قواعد الأحكام ج 1، ص 244.
(4) المغني ج 5، ص 120.
(5) المبسوط ج 2، ص 349.
553

وبعد تقديم النظرية في إطارها الرأسمالي نستعرض النظرية الإسلامية في توزيع ما بعد الإنتاج كما نؤمن بها، حتى إذا أعطينا الصورة المحددة لها وأبرزنا بوضوح الفوارق بين النظريتين عدنا إلى البناء العلوي المتقدم، لندعم افتراضنا للنظرية الإسلامية، ونشرح طريقة استنتاجنا لها من ذلك البناء الذي تنعكس فيه معالمها الأساسية وهكذا سوف يكون البحث على مراحل ثلاث:
1 - نموذج للنظرية من الاقتصاد الرأسمالي:
تحلل عملية الإنتاج عادة في المذهب الرأسمالي التقليدي إلى عناصرها الأصلية المتشابكة في العملية. وتقوم الفكرة العامة في توزيع الثروة المنتجة على أساس اشتراك تلك العناصر في الثروة التي أنتجتها، فلكل عنصر نصيبه من الإنتاج وفقا لدوره في العملية.
وعلى هذا الأساس تقسم الرأسمالية المنتجة أو القيمة النقدية لهذه الثروة إلى حصص أربع وهي:
1 - الفائدة.
2 - الأجور.
3 - الريع.
4 - الربح.
فالأجور هي نصيب العمل الإنساني، أو الإنسان العامل بوصفه عنصرا مهما في عملية الإنتاج الرأسمالي. والفائدة هي نصيب رأس المال المسلف. والربح هو نصيب رأس المال المشترك فعلا في الإنتاج. والريع يعبر عن حصة الطبيعية أو حصة الأرض بتعبير أخص.
وجرت عدة تعديلات على هذه الطريقة الرأسمالية في التوزيع من الناحية الشكلية، فأدرج الربح والأجر في فئة واحدة، اعتقادا بأن الربح في الحقيقة نوع من الأجر على عمل خاص، وهو عمل التنظيم الذي يباشره صاحب المشروع، بتهيئة عناصر الإنتاج المختلفة من رأس مال وطبيعة عمل، وتوفيقه بينها وتنظيمها في عملية الإنتاج.
554

ومن ناحية أخرى أعطت النظرية الحديثة في التوزيع للريح مفهوما أوسع يتعدى به حدود الأرض، ويكشف عن ألوان عديدة من الريع في مختلف المجالات. كما رجح البعض أخذ رأس المال بمعنى شامل يضم جميع القوى الطبيعية بما فيها الأرض.
وبالرغم من التعديلات الشكلية فإن النظرية الجوهرية في التوزيع الرأسمالي ظلت ثابتة خلال جميع ألا تعديلات ولم تتغير من الناحية المذهبية. وهذه النظرة هي ملاحظة جميع عناصر الإنتاج على مستوى واحد، وإعطاء كل واحد من تلك العناصر نصيبه من الثروة المنتجة، بوصفه مساهما في العملية، وفي حدود مشاركته لسائر العناصر في إنجاز تلك الثروة وإنتاجها، فالعمل يحصل على الأجر بنفس الطريقة وعلى أساس نفس النظرة المذهبية التي يحصل رأس المال بموجبها على فائدة مثلا، لأن كلا منهما في العرف الرأسمالي عامل إنتاج وقوى مساهمة في التركيب العضوي للعملية، فمن الطبيعي أن توزيع المنتجات على عناصر إنتاجها بنسب تقررها قوانين العرض والطلب، وما إليها من القوى التي تتحكم في التوزيع.
2 - النظرية الإسلامية ومقارنتها بالرأسمالية:
وأما الإسلام فهو يرفض هذه النظرية الجوهرية في المذهب الرأسمالي رفضا تاما، ويختلف عنها اختلافا أساسيا، لأنه لا يضع عناصر الإنتاج المتعددة على مستوى واحد، ولا ينظر إليها بصورة متكافئة، ليقر توزيع الثروة المنتجة على تلك العناصر بالنسب التي تقررها قوانين العرض والطلب كما تصنع الرأسمالية، بل إن النظرية الإسلامية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج كما تصنع الرأسمالية، بل إن النظرية الإسلامية العامة لتوزيع ما بعد
الإنتاج تعتبر أن الثروة التي تنتج من الطبيعة الخام ملك للانسان المنتج وحده - العامل - وأما وسائل الإنتاج المادية التي يستخدمها الإنسان في عملية الإنتاج من أرض ورأس مال ومختلف الأدوات والآلات فلا نصيب لها من الثروة المنتجة نفسها، وإنما هي وسائل تقدم للانسان خدمات في تذليل الطبيعة وإخضاعها لأغراض الإنتاج، فإذا كانت تلك الوسائل ملكا لفرد آخر
555

غير العامل المنتج، كان على الإنسان المنتج أن يكافئ الفرد الذي يملك تلك الوسائل للصاحب الأرض، أو لمالك الأداة، أو صاحب الآلة التي تساهم في أعمال الإنتاج لا يعبر عن نصيب الأرض والأداة والآلة نفسها في المنتوج بوصفها عنصرا من عناصر إنتاجه، وإنما يعني مكافأة لمالكي تلك الوسائل على الخدمات التي قدموها بالسماح للعامل المنتج باستخدام وسائلهم، وأما إذا لم يكن للوسائل مالك معين سوى الانسان أنتج، فلا معنى للمكافأة لأنها عندئذ منحة الطبيعة لا منحة انسان آخر. فالانسان المنتج في النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج هو المالك الأصيل للثروة المنتجة من الطبيعة الخام، ولاحظ لعناصر الإنتاج المادية في تلك الثروة، وإنما يعتبر الانسان المنتج مدينا لأصحاب الوسائل التي يستخدمها في إنتاجه فيكلف بإبراء ذمته ومكافأتهم على الخدمات التي قدمتها وسائلهم (1)، فنصيب الوسائل المادية المساهمة في عملية الإنتاج يحمل طابع المكافأة على خدمة، ويعبر عن دين في ذمة الانسان المنتج، ولا يعني التسوية بين الوسيلة المادية والعمل الإنساني أو الشركة بينهما في الثروة الناتجة على أساس موحد.
ومن خلال مواصلتنا لاكتشاف النظرية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج، سنعرف المبرر النظري لتلك المكافأة التي يظفر بها أصحاب الوسائل المادية من الانسان المنتج لقاء استخدامه للوسائل التي يملكونها في عملية الإنتاج.
فالفارق كبير بين النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج والنظرية الرأسمالية بهذا الشأن.
ومرد هذا الفرق إلى اختلاف النظريتين الرأسمالية والإسلامية في تحديد مركز الانسان ودوره في عملية الإنتاج، فإن دور الانسان في النظرة الرأسمالية هو دور الوسيلة التي تخدم الإنتاج لا الغابة التي يخدمها الإنتاج، فهو في صف سائل القوى المساهمة في الإنتاج من طبيعة ورأس مال، ولهذا يتلقى الانسان المنتج نصيبه من

(1) لاحظ شرائع الإسلام ج 2، ص 108، وقواعد الأحكام ج 1، ص 244.
556

ثروة الطبيعة، بوصفه مساهما في الإنتاج وخادما له، ويصبح الأساس النظري للتوزيع على الانسان العامل والوسائل المادية التي تساهم معه في عملية الإنتاج واحدا.
وأما مركز الانسان في النظرة الإسلامية فهو مركز الغاية لا الوسيلة، فليس هو في مستوى سائل الوسائل المادية لتوزيع الثروة المنتجة بين الانسان وتلك الوسائل جميعا على نسق واحد، بل إن الوسائل المادية تعتبر خادمة للانسان في إنجاز عملية الإنتاج لأن عملية الإنتاج نفسها إنما هي لأجل الانسان وبذلك يختلف نصيب الانسان المنتج عن نصيب الوسائل المادية في الأساس النظري، فالوسائل المادية إذا كانت ملكا لغير العامل وقدمها صاحبها لخدمة الإنتاج، كان من حقه على الانسان المنتج أن يكافئه على خدمته (1)، فالمكافأة هنا دين ذمة المنتج يسدده لقاء خدمة، ولا تعني نظريا مشاركة الوسيلة المادية في الثروة المنتجة.
وهكذا يفرض مركز الوسائل المادية - في النظرية الإسلامية - عليها أن تتقاضى مكافأتها من الانسان المنتج بوصفها خادمة له، لا من الثروة المنتجة بوصفها مساهمة في إنتاجها، كما يفرض مركز الانسان في عملية الإنتاج بوصفه الغاية لها أن يكون وحده صاحب الحق في الثروة الطبيعية التي أعدها الله تعالى لخدمة الانسان.
ومن أهم الظواهر التي يعكسها هذا الفرق الجوهري بين النظريتين - الإسلامية والرأسمالية - موقف المذهبيين من الإنتاج الرأسمالي في مجالات الثروة الطبيعية الخام، فالرأسمالية المذهبية تسمح لرأس المال بممارسة هذا اللون من الإنتاج، فيكون بمقدور رأس المال أن يستأجر عمالا لاحتطاب الخشب من أشجار الغابة أو استخراج البترول من آباره، ويسدد إليهم أجورهم - وهي كل نصيب العامل في النظرية الرأسمالية للتوزيع - ويصبح رأس المال بذلك مالكا لجميع ما يحصل عليه الاجراء من أخشاب أو معادن طبيعية، ومن حقه بيعها بالثمن الذي يحلو له.
وأما النظرية الإسلامية للتوزيع فلا مجال فيها لهذا النوع من الإنتاج (2)، لأن

(1) لاحظ المبسوط ج 2، ص 346.
(2) لما عرفنا في البناء العلوي من منع المحقق الحلي في الشرائع عن التوكيل في الاختطاب وما إليه من حيازة المباحات، ومنع الشيخ الطوسي على ما حكي عن بعض نسخ المبسوط من التوكيل في احياء الأرض، وتأكيد المحقق الأصفهاني في كتاب الجارة على أن المستأجر لا يملك بسبب عقد الإجارة ما يجوزه أجيره من الثروات الطبيعية.
557

رأس المال لا يظفر بشيء عن طريق تسخير الاجراء لاحتطاب الخشب واستخراج المعدن وتوفير الأدوات اللازمة لهم، ما دامت النظرية الإسلامية تجعل مباشرة العمل شرطا في تملك الثروة الطبيعية، وتمنح العامل وحده حتى ملكية الخشب الذي يحتطبه والمعدن الذي يستخرجه. وبذلك يقضي على تملك الثروات الطبيعية الخام عن طريق العمل المأجور، وتختفي بسيطرة رأس المال على تلك الثروات التي يمتلكها في ظل المذهب الرأسمالي لمجرد قدرته على دفع الأجور للعامل وتوفير الأدوات اللازمة له، وتحل محلها سيطرة الانسان على ثروات الطبيعة.
واختفاء طريقة الإنتاج الرأسمالي هذا في مجال الثروات الطبيعية الخام ليس حادثا‌ عرضيا أو ظاهرة عابرة وفارقا جانبيا بين النظرية الإسلامية والمذهب الرأسمالي، وإنما يعبر بشكل واضح وعلى أساس نظري - كما عرفنا - عن التناقض المستقطب بينهما وأصالة المضمون النظري للاقتصاد الإسلامي.
الهوامش:
- - - - - - - -
(1) لما عرفنا في البناء العلوي من منع الحقق الحلي في الشرائع عن التوكيل في الاحتطاب وما اليه
3 - استنتاج النظرية من البناء العلوي:
عرضنا حتى الآن النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج ونحن نفترضها افتراضا، بالقدر الذي تتطلبه المقارنة بينها وبين النظرية الرأسمالية في أساسها النظري لتوزيع الثروة على عناصر الإنتاج.
ولابد لكي نبرهن على صحة تصورنا للنظرية، ان نعود الآن إلى البناء العلوي المتقدم في مستهل البحث، لنستنبط منه الجانب الذي افترضناه من النظرية الإسلامية، ونبرز مدلوله المذهبي ومدى انسجامه مع الصورة التي قدمناها.
إن الأحكام التي استعرضناها في البناء العلوي تقرر:
أولا: ان الموكل لا يجوز له أن يقطف ثمرات عمل الوكيل في ثروات الطبيعة الخام، فلو وكل فردا في الاحتطاب له من خشب الغابة مثلا، لم يجز له أن يمتلك
558

الخشب الذي يظفر به وكيله ما دام لم يباشر بنفسه العمل والاحتطاب، لأن الملكية التي تنتج عن العمل هي من نصيب العامل وحده. وهذا واضح ومن الفقرات الثمانية الأولى في البناء العلوي.
وثانيا: ان عقد الإجارة كعقد الوكالة، فكما لا يملك الموكل الثروات التي يظفر بها وكيله من الطبيعة كذلك لا يملك المستأجر الثروات الطبيعية التي يحوزها أجيره لمجرد أنه سدد الأجر اللازم له لأن تلك الثروات لا تملك إلا بالعمل المباشر. وهذا واضح من الفقرة السادسة.
وثالثا: أن الإنسان المنتج الذي يمارس ثروات الطبيعة إذا استخدم في عمله أداة أو آلة إنتاج يملكها غيره، لم يكن للأداة نصيب من الثروة التي يحصل عليها من الطبيعة، وإنما يصبح الإنسان المنتج مدينا لصاحب الأداة بمكافأة على الخدمة التي أسداها له خلال عملية الإنتاج، وأما المنتج فهو ملك العامل كله. وهذا واضح في الفقرة 9 و 10 و 12.
وهذه النقاط الثلاث تكفي اكتشاف النظرية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج التي يقوم على أساسها البناء العلوي لتلك الأحكام كلها، كما أنها تكفي أيضا للتدليل على صحة اكتشافنا للنظرية وإعطائها نفس المضمون والملامح التي حددناها.
فالإنسان المنتج يملك الثروة المنتجة من الطبيعة الخام لا بوصفه مساهما في الإنتاج وخادما له بل لأجل أنه هو الغرض الذي يخدمه الإنتاج، ولذلك فهو يستأثر بكل الثروة المنتجة، ولا تشاركه فيها القوة والوسائل الأخرى التي خدمت الإنتاج وساهمت فيه.
وأما تلك الوسائل المادية فلها أجرها على خدماتها من الإنسان العامل الذي يمارس الإنتاج، لأنها تعتبر خادمة له وليست في مستواه (1).

(1) ويكفينا في الحصول على هذه النتائج من الناحية النظرية بناء البحث على أساس النقطتين الأخيرتين من النقاط الثلاث التي لخصنا فيها مدلول البناء العلوي، فحتى إذا لم نعترف بالنقطة الأولى كان البناء النظري الذي شيدناه صحيحا، فلنفترض أن الوكيل إذا أنتج لموكله شيئا من ثروات الطبيعة الخام لم يملك تلك الثروة التي أنتجها بل ملكها الموكل (*) - وهذا ما أرجحه بوصفي الفقهي (راجع ملحق رقم 14) فان هذا لا يتعارض مع المبدأ القائل: إن الانسان المنتج هو وحده صاحب الحق في الثروة التي ينتجها، لأن الانسان المنتج هنا يتنازل بنفسه عن هذا الحق ويمنح الثروة آخر حين يقصد الحصول على الثروة لذلك الشخص، فالمبدأ القائل: إن الانسان المنتج هو وحده صاحب الحق في الثروة التي ينتجها انما يرتبط بالنقطة القائلة من البناء العلوي: بأن وسيلة الإنتاج المادية لا تشارك العامل في الثروة المنتجة، وبالنقطة الأخرى التي تقول: إن الرأسمالي ليس له أن يمتلك الثروة التي يحوزها العامل لمجرد شراء العمل منه وتجهيزه بالمعدات اللازمة للإنتاج.
وهكذا يتضح الفرق جوهريا بين فكرة تملك الموكل للثروة التي يحوزها وكيله، وبين فكرة تملك الفرد للثروة التي يحوزها أجيره، فان الفكرة الثانية رأسمالية بطبيعتها لأنها تمنح رأس المال النقدي والإنتاجي الحق المباشر في تملك الثروة بدلا عن العمل الانساني، وعلى عكس ذلك الفكرة الأولى التي تعترف للعامل بحقه في الثروة، وتعتبر وكالته عن فرد آخر في احتطاب الخشب من الغابة مثلا تعبيرا ضمنيا عن منح العامل ملكية الخشب للفرد الآخر وتنازله له عن الثروة.
(*) لاحظ جواهر الكلام ج 26، ص 334، وتكملة المجموع ج 11، ص 8 والمغني ج 5، ص 204، والتنقيح للسيورى الحلي ج 2، ص 285.
559

وهكذا نحصل باستخدام البناء العلوي المتقدم على الأساس الإسلامي لتوزيع ما بعد الإنتاج، ونبرهن في ضوئه على صدق الصورة التي قدمناها عن النظرية الإسلامية عند مقارنتها بالنظرية الرأسمالية.
ولنواصل الآن اكتشافنا، ولنأخذ بدراسة جانب آخر من النظرية - وإبرازه عن طريق مقارنتها بالماركسية وتحديد أوجه الفرق بينهما.
2 - أوجه الفرق بين النظرية الإسلامية والماركسية
البناء العلوي:
1 - في كتاب الإجارة من الشرائع كتب المحقق الحلي يقول: إذا دفع سلعة إلى غيره ليعمل له فيها عملا، فإن كان من عادته أن يستأجر لذلك العمل كالغسل والقصار،
560

فله أجرة مثل عمله وان لم يكن له - أي للعامل - عادة وكان العمل مما له أجرة، فللعامل المطالبة لأنه أبصر بنيته، وإذا لم يكن مما له أجرة بالعادة لم يتلفت إلى مدعيها (1).
وعلق الشراح على ذلك ان العامل إذا عرف من نيته التبرع لم يجز له المطالبة بالأجرة (2).
2 - في كتاب الغصب من الجواهر ذكر المحقق النجفي: ان شخصا (إذ غصب حبا فزرعه أو بيضا فاستفرخه، فالأكثر يرون انه للمغصوب منه بل عن الناصرية نفس الخلاف بل عن السرائر الاجماع عليه وهو أشبه بأصول المذهب وقواعد) (3).
وذكر قولا فقهيا آخر يزعم: أن الزرع والفرخ للغاصب لأن البذر والبيض الذي كان يملكه المغصوب منه يعتبر متلاشيا ومضمحلا، فيكون الزرع والفرخ شيئا جديدا يملكه الغاصب بعمله فيهما.
وإلى هذا القول ذهب المرغيناني حيث قال: (وإذا تغبرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها زال ملك المغصوب منه عنها وملكها الغاصب) (4).
وقال السرخسي: (وإن غصب حنطة فزرعها ثم جاء صاحبها وقد أدرك الزرع أو هو بقل فعليه حنطة مثل حنطته ولا سبيل له على الزرع عندنا وعند الشافعي الزرع له لأنه متولد من ملكه) (5).
3 - وفي نفس الكتاب (5) جاء: ان شخصا (إذا غصب أرضا فزرعها أو غرسها، فالزرع ونماؤه للزارع بلا خلاف أجحده بل في التنقيح انعقد الاجماع عليه وعلى الزارع أجرة الأرض) (6).
وقد أكدت ذلك عدة أحاديث، ففي رواية عقبة بن خالد أنه سأله الإمام

(1) شرائع الإسلام ج 2، ص 149.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 27، ص 335، ومناهج المتقين) للمامقاني، ص 314، كتاب الإجارة، الفصل الثالث، المسألة الثانية عشرة.
(3) جواهر الكلام ج 37، ص 198.
(4) شرح فتح القدير ج 8، ص 259.
(5) المبسوط للسرخسي، ج 11، ص 95.
(6) جواهر الكلام ج 37، ص 202.
561

الصادق (ع) عن رجل أتى أرض رجل فزرعها بغير اذنه، حتى إذا بلغ الزرع جاء صاحب الأرض فقال زرعت بغير اذني فزرعك لي وعلي ما أنفقت أله ذلك أم لا؟ فقال الإمام: للزارع زرعه ولصاحب الأرض كراء أرضه (1).
وقال ابن قدامة: (وان غصب أرضا فغرسها فأثمرت فأدركها ربها بعد أخذ الغاصب ثمرتها فيه له وان أدركها والثمرة فيا فكذلك لأنها ثمرة شجره فكانت له كما لو كانت في أرضه) (2).
4 - جاء في كتاب المزارعة من الجواهر (أنه في كل موضع يحكم فيه ببطلان المزارعة يجب لصاحب الأرض أجرى المثل، ويكون الزرع ملكا للعامل نفسه إن كان البذر من العامل، واما إذا كان البذر من صاحب الأرض فالزرع له أيضا - أي لصاحب الأرض - وعليه أجره مثل العامل والعوامل - أي وسائل الإنتاج، ولو كان البذر منهما - أي من العامل وصاحب الأرض - فالحاصل بينهما على النسبة) (3).
ويستخلص من هذا التفصيل أن الزرع يملكه صاحب البذر سواء كان هو الزارع أم صاحب الأرض لأن البذر هو الذي يكون المادة الأساسية للزرع وفي حالة كون البذر من الزارع لا يوجد للأرض حق في الزرع وإنما تجب الأجرة لصاحب الأرض على العامل الزارع الذي استخدام أرضه في زراعة بذره (4).
ويستفاد الشيء نفسه أيضا من فقه المبسوط للسرخسي إذ ربط ملكية صحب الأرض للنماء كله في حالة بطلان عقد المزارعة بأنه نماء بذره فصاحب الأرض يملك الحاصل بوصفه مالكا للبذر لا بوصفه مالكا للأرض (5).
وقد صرح الشيخ الطوسي في حالة المزارعة الفاسدة بأن الزرع لصاحب البذر معللا ذلك بأن الزرع هو نفس البذر غير أنه نما وزاد ويرجع صاحب الأرض على

(1) الوسائل ج 17، ص 310، الحديث 32176.
(2) المغني ج 25، ص 394.
(3) جواهر الكلام ج 27، ص 47.
(4) لاحظ المبسوط ج 2، ص 359.
(5) راجع المبسوط للسرخسي، ج 23، ص 116.
562

الزارع بمثل أجرى أرضه (1).
5 - وفي كتاب المساقاة من الجواهر أنه في كل موضع تفسد فيه المساقاة فللعامل أجرة المثل والثمرة لصاحب الأصل لأن النماء يتبع الأصل في الملكية (2).
وبيان ذلك أن شخصا إذا كان يملك أشجارا تحتاج إلى السقي والملاحظة لتؤتي ثمارها، فيمكنه دفع تلك الأشجار إلى عامل والارتباط معه بعقد، يتعهد فيه العامل برعايتها وسقايتها ويصبح في مقابل ذلك شريكا لصاحب الأشجار في الثمرة بنسبة تحدد في العقد. ويطلق على هذا النزع من الاتفاق بين صاحب الأشجار والعامل فقهيا أسم المساقاة. وينص الفقهاء على وجوب تقيد الطرفين المتعاقدين بمحتوى العقد، إذا توفرت فيه الشروط بشكل كامل واما إذا فقد العقد أحد مقوماته وشروطه، فلا يكون له أثر من الناحية الشرعية (3)، وفي هذه الحالة يقرر النص الفقهي الذي قدمناه أن الثمرة إلا الأجرة المناسبة التي يطلق عليهما فقهيا اسم أجرة المثل جزاء له على خدماته وجهوده التي بذلها في استثمار الأشجار.
6 - عقد المضاربة هو عقد خاص يتفق فيه العامل مع صاحب المال على الاتجار بماله ومشاركته في الأرباح فإذا لم يستوف العقد عناصر صحته لأي اعتبار من الاعتبارات يصبح الربح كله للمالك كما نص على ذلك الفقهاء في الجواهر وغيرها وليس للعامل إلا الأجرة المناسبة في بعض الحالات
من النظرية:
كشفنا حتى الآن عن النظرية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج في الإسلام، بالقدر

(1) المبسوط ج 2، ص 359.
(2) جواهر الكلام ج 27، 76.
(3) لاحظ المبسوط ج 3، ص 209، ومفتاح الكرامة ج 7، ص 374.
(4) لاحظ المبسوط ج 3، ص 167 و 171, مفتاح الكرامة ج 7، ص 437، وجواهر الكلام ج 26، ص 338.
563

الذي تطلبته المقارنة بينها وبين النظرية الرأسمالية في الأساس النظري للتوزيع. ونريد الآن أن نواصل اكتشافنا لمعالم النظرية الإسلامية ومميزاتها من خلال مقارنتها بالنظرية الماركسية لتوزيع ما بعد الإنتاج وتحديد أوجه الفرق بين النظريتين.
وسوف نبدأ - كما صنعنا في المرحلة السابقة - باعطاء الصورة وابراز أوجه الفرق بين النظريتين كما نؤمن بها قبل أن نتناول البناء العلوي بالبحث حتى إذا أتيح لنا أن نتصور بوضوح جوانب الاختلاف والمدلول المذهبي لهذا الاختلاف، عدنا إلى فحص البناء العلوي لنستخرج منه الأدلة التي تدعم تصورنا وتدل فقهيا على صوابه.
1 - ظاهرة ثبان الملكية في النظرية:
ونستطيع أن نلخص الفرق بين النظرية الإسلامية والنظرية الماركسية في نقطتين جوهريتين:
وإحدى هاتين النقطتين هي: أن النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج إنما تمنح الانسان العامل كل الثروة التي أنتجها إذا كانت المادة الأساسية التي مارسها العامل في عملية الإنتاج ثروة طبيعية لا يملكها فرد آخر، كالخشب الذي يقتطعه العامل من أشجار الغابة، أو الأسماك والطيور في البحر والجو التي يصطادها الصائد من الطبيعة، أو المواد المعدنية التي يستخرجها المنتج من مناجمها، أو الأرض الميتة التي يحييها الزارع ويعدها للإنتاج، أو عين الماء التي يستنبطها الشخص من أعماق الأرض، فان كل هذه الثروات ليست في وضعها الطبيعي ملكا لأحد فعملية الإنتاج تعطي الانسان المنتج حقا خاصا فيها، ولا تشترك معه الوسائل المادية للإنتاج في تملك الثروات كما عرفنا سابقا.
وأما إذا كانت المادة الأساسية التي مارسها الانسان في عملية الإنتاج ملكا أو حقا لفرد آخر نتيجة لحد الأسس التي عرضناها في النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج، فهذا يعني أن المادة قد تم تملكها أو الاختصاص بها في
توزيع سابق، فلا مجال لمنحها على أساس الإنتاج الجديد للانسان العامل، ولا لأي عامل من
564

العوامل التي استخدمها في العملية، فمن غزل ونسج كمية من الصوف الذي أنفقه فيه بل يعتبر النسيج كله ملكا للراعي للصوف الذي أنتجه لا تزول ولا تتضاءل بانفاق عمل جديد من فرد آخر في غزل الصوف ونسجه. وهذا ما نطلق عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية (1).
والماركسية على عكس ذلك، فهي ترى: أن العامل الذي يتسلم المواد من الرأسمالي وينفق جهده عليها يملك من المادة بمقدار ما منحها بعمله من قيمة تبادلية جديدة، ولأجل هذا كان العامل في رأس الماركسية صاحب الحق الشرعي في السلعة المنتجة باستثناء قيمة المادة التي تسلمها العامل من الرأسمالي قبل عملية الإنتاج.
ومرد هذا الاختلاف بين الماركسية والإسلام إلى ربط الماركسية بين الملكية والقيمة التبادلية من ناحية وربطها بين القيمة التبادلية والعمل من ناحية أخرى، فان الماركسية تعتقد - من الناحية العملية -: أن القيمة التبادلية وليدة العمل (2) وتفسير من ناحية المذهبية - ملكية العامل للمادة التي يمارسها على أساس القيمة التبادلية التي ينتجها عمله في المادة. ونتيجة لذلك يصبح من حق أي عامل إذا منح المادة قيمة جديدة أن يملك هذه القيمة التي جسدها في المادة.
وخلافا للماركسية يفصل الإسلام بين الملكية والقيمة التبادلية، ولا يمنح العامل حق الملكية المادة على أساس القيمة الجديدة التي أعطاها العامل للمادة وإنما يضع أساسا العمل مباشرا للملكية كما مر بنا في بحث نظرية توزيع ما قبل الإنتاج، فإذا ملك فرد المادة على أساس العمل وكان الأساس لا يزال قائما، فلا يسمح لشخص آخر أن يحصل على ملكية جديدة في المادة وان منحها بعمله قيمة جديدة (3).

(1) لاحظ مستمسك العروة ج 11، ص 4.
(2) راج ص 183 من الكتاب.
(3) لاحظ جواهر الكلام ج 27، ص 47.
565

وهكذا نستطيع أن نلخص النظرية الإسلامية كما يلي: إن المادة التي يمارسها الانسان المنتج إذا لم يكن مملوكة سابقا فالثروة المنتجة كلها للانسان وجميع القوة الأخرى المساهمة في الإنتاج تعتبر خادمة للانسان وتتلقى المكافأة منه، لا شريكة في الناتج على أساس مساهمتها في صف واحد مع الانسان، واما إذا كانت المادة مملوكة سابقا لفرد خاص فهي ملكه مهما طرأ عليها من تطوير طبقا لظاهرة الثبات كما رأينا في مثال الصوف.
وقد يخيل للبعض أن هذه الملكية - أي تملك صاحب الوصف لنسيج صوفه واحتفاظ مالك المادة بملكيته لها مهما طرأ عليها من تطوير نتيجة لعمل غيره فيها - تعني أن الثروة المنتجة يستأثر بها رأس المال والقوى المادية في الإنتاج نظرا إلى أن مادة السلعة المنتجة - وهي الصوف في مثالنا - تعتبر من الناحية الاقتصادية نوعا من رأس المال في عملية الغزل والنسيج لأن المادة الخام لكل سلعة منتجة تشكل نوعا من رأس المال في عملية إنتاجها. ولكن تفسير ظاهرة الثبات على أساس رأسمالي خطأ لأن منح مالك الصوف ملكية النسيج الذي نسجه العامل من صوفه لا يقوم على أساس الطابع الرأسمالي للصوف، ولا يعني أن رأس المال يكون له الحق في امتلاك السلعة المنتجة - النسيج - بوصفه مساهما أو أساسا في عملية إنتاج النسيج.
فان الصوف وإن كان رأس المال في عملية إنتاج الغزل والنسيج بوصفه المادة الخام لهذا الإنتاج ولكن الأدوات التي تستخدم في غزله ونسجه هي الأخرى أيضا تحمل الطابع الرأسمالي وتساهم في العملية بوصفها نوعا آخر من رأس المال، مع أنها لا تمنح صاحبها ملكية الثروة المنتجة، ولا يسمح لمالك تلك الأدوات أن يشارك مالك الصوف في ملكية النسيج، وهذا يبرهن على أن النظرية الإسلامية حين تحتفظ للراعي بملكية الصوف بعد إنتاج العامل منه نسيجا لا تستهدف بذلك أن تخص رأس المال وحده بالحق في تملك الثروة المنتجة، بدليل أنها لا تعطي هذا الحق لرأس المال المتمثل في الأدوات والآلات، وإنما يعبر ذلك عن احترام النظرية للملكية الخاصة التي كانت ثابتة للمادة قبل الغزل والنسيج. فالنظرية ترى، مجرد تطوير المال لا يخرجه عن كونه ملكا لصاحبة الأول وان أدى هذا التطوير
566

إلى خلق قيمة جديدة فيه. وهذا ما أطلقنا عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية.
فرأس المال والقوة المادية المساهمة في الإنتاج لا تمنح في النظرية الإسلامية الحق في الثروة المنتجة بوصفها رأس مال وقوة مساهمة في الإنتاج لأنها بهذا الوصف لا ينظر إليها إلا باعتبارها خادمة للانسان الذي هو المحور الرئيس في عملية الإنتاج، وتتلقى بهذا الاعتبار مكافأتها منه، وإنما يظفر الراعي الذي يملك الصوف في مثالنا بحث ملكية النسيج لأجل أن النسيج هو نفس الصوف الذي كان يملكه الراعي، لا بما أن الصوف رأس مال في عملية إنتاج النسيج.
2 - فصل النظرية للملكية عن القيمة التبادلية:
وأما النقطة الأخرى التي تختلف فيها النظرية الإسلامية عن النظرية الماركسية فهي: أن الماركسية التي تعطي كل فرد الحق في الملكية بقدر ما جسده في الثروة من قيمة تبادلية، تؤمن - على أساس ربطها بين الملكية والقيمة التبادلية - بان مالك القوى والوسائل المادية في الإنتاج يتمتع بنصيب في الثروة المنتجة، لأن تلك القوى والوسائل تدخل في تكوين قيمة السلعة المنتجة بقدر ما يستهلك منها خلال عملية الإنتاج، فيصبح مالك الأداة المستهلكة مالكا في الثروة المنتجة التي استهلكت الأداة لحسابها بقدر ما ساهمت أداته في تكوين قيمة تلك الثروة.
وأما الإسلام فهو كما عرفنا يفصل الملكية عن القيمة التبادلية، فحتى إذا افترضنا علميا أن أداة الإنتاج تدخل في
تكوين قيمة المنتج بقدر استهلاكها، فلا يعني هذا بالضرورة أن يمنح مالك الأداة حتى الملكية في الثروة المنتجة، لأن الأداة لا ينظر إليها في النظرية الإسلامية دائما الا خادمة للانسان في عملية الإنتاج، ولا يقوم حقها إلا على هذا الأساس (1). وهذا كله من نتائج الفصل بين الملكية والقيمة التبادلية، فالقوى المادية التي تساهم في الإنتاج تتلقى دائما - على أساس هذا الفصل - جزاءها من الانسان بوصفها خادمة له لا من نفس الثروة المنتجة بوصفها داخلة في تكوين قيمتها التبادلية.

(1) لاحظ المبسوط ج 3، ص 221، وجواهر الكلام ج 27، ص 27.
567

3 - استنتاج النظرية من البناء العلوي:
والآن بعد أن استعرضنا أوجه الفرق بين النظريتين الإسلامية والماركسية كما نتصورها ونفترضها، يمكننا أن نضع أصابعنا بتحديد على أدلة هذه الفروق ومبرراتها من البناء العلوي الذي قدمناه، كما هي طريقتنا في اكتشاف النظرية من صرحها التشريعي الفوقي.
إن كل الفقرات التي سبقت في البناء العلوي تشترك في ظاهرة واحدة وهي: أن المادة التي تدخل في علمية الإنتاج ملك لفرد معين قبل ذلك، ولأجل هذا تؤكد الفقرات جميعا على بقاء المادة بعد تطويرها في عملية الإنتاج ملكا لصاحبها السابق.
فالسلعة التي يدفعها صاحبها إلى أجير لكي يعمل فيها ويطورها في الفقرة الأولى تظل ملكا له وليس للأجير أن يملكها بسبب علمه وان طورها وخلق فيها قيمة جديدة، لأنها مملوكة بملكية سابقة.
والعامل الذي يغتصب أرض غيره فيزرعها ببذره ويمتلك الزرع الناتج كما نصت عليه الفقرة الثالثة، ولا نصيب لصاحب الأرض في الزرع، وذلك لأن الزارع هو المالك للبذر والبذر هو العنصر الأساسي من المادة التي تطورت خلال الإنتاج الزراعي إلى زرع. وأما الأرض فهي بوصفها قوة مادية مساهمة في الإنتاج تعتبر في النظرية الإسلامية خادمة للانسان الزارع، فعليه مكافأتها - أي مكافأة صاحبها - فالإسلام يفرق إذن بين البذر والأرض أن كلا منهما رأس مال بالمغني الاقتصادي وقوة مادية مساهمة في الإنتاج، الخام التي يمارسها الإنتاج ويطورها إنما يملك تلك المادية بعد تطويرها لأنها في عملية الإنتاج، وإلا ميز الإسلام بين البذر والأرض وحرم صاحب الأرض من ملكية الزرع بينما منحها لصاحب البذر، بالرغم من اشتراك البذر والأرض في
568

الطابع الرأسمالي بالمعنى العام لرأس المال الذي يشمل كل القوة المادية للإنتاج.
والفقرة الرابعة والخامسة تتفقان معا على تقرير المبدأ الذي قررته الفقرة الثالثة، وهو أن ملكية الزرع أو الثمرة تمنح لمن يملك المادة التي تطورت خلال الإنتاج إلى زرع أو ثمرة، ولا تمنح لصاحب الأرض ولا لمالك أي قوة أخرى من القوة التي تساهم في عملية الإنتاج الزراعي وتحمل الطابع الرأسمالي في العملية.
والفقرة الأخيرة تمنح ملكية الربح لصاحب المال إذا بطل عقد المضاربة، ولا تسمح للعامل بتملكه أو الاشتراك في ملكيته، لأن هذا الربح وإن كان - في الغالب - نتيجة للجهد الذي يبذله العامل في شراء السلعة وإعدادها بين يدي المستهلكين بشكل يتيح بيعها بثمن أكبر، ولكن هذا الجهد ليس إلا نظير جهد العامل في غزل الصوف الذي يملكه الراعي أو نسجه لا أثر له في النظرية ما دامت المادة - مال المضاربة أو الصوف - مملوكة بملكية سابقة.
بقي علينا أن نثير إلى الفقرة الثانية من البناء العلوي بصورة خاصة، وهي الفقرة التي تتحدث عن الشخص إذا غصب من آخر بيضا فاستغله في الإنتاج الحيواني أو بذرا فاستثمره في الإنتاج الزراعي، فإن الفقرة تنص على أن الرأي السائد فقهيا هو: أن الناتج - الفرخ أو الزرع - ملك لصاحب البيض والبذر، وتثير إلى رأي فقهي آخر يقول: أن الغاصب الذي مارس علمية الإنتاج هو الذي يملك الناتج.
وقد رأينا في تلك الفقرة التي استعرضت هذين الرأيين أن مردهما فقهيا إلى الاختلاف بين الفقهاء في تحديد نوع العلاقة بين البيض والطائر الذي خرج من أحشائه. وكذلك بين البذر والزرع الذي نتج عنه. فمن يؤمن بوحدتهما وان الفرق بينهما فرق درجة كالفرق بين ألواح الخشب والسرير المتكون منها يأخذ بالرأي الأول، ويعتبر الشخص الذي اغتصب منه بيضه وبذره هو المالك للناتج. ومن يرى أن المادة - البيض والبذر - قد تلاشت في عملية الإنتاج وان الناتج شيء جديد في تصور العرف العام قام على أنقاض المادة الأولى بسبب عمل الغاصب وحده الذي بذله خلال عملية الإنتاج، فالمالك للناتج في رأيه هو الغاصب، لأنه شيء جديد
569

لم يملكه صاحب البيض والبذر لا قبل ذلك، فمن حق العامل - وإن كان غاصبا - أن يمتلكه على أساس عمله.
وليس المهم هنا حل هذا التناقض فقهيا بين هذين الرأيين وتمحيص وجهات النظر فيهما، وإنما نستهدف الاستفادة من مدلوله النظري في موقفنا المذهبي من النظرية لأن هذا النزاع الفقهي يكشف بوضوح أكثر عن الحقيقة التي كشف عنها فقرات أخرى في البناء العلوي، وهي أن منح صاحب الصوف ملكية النسيج وصاحب كل مادة ملكية تلك المادة بعد ممارستها في عملية الإنتاج لا يقوم على أساس أن الصوف والمادة الأولية نوع من رأس المال في عملية الغزل والنسيج. وإنما يقوم على أساس ظاهرة الثبات في الملكية التي تقرر أن من يملك مادة يظل محتفظا بملكيته لها ما دامت المادة قائمة والمبررات الإسلامية للملكية باقية، فإن الفقهاء حين اختلفوا في ملكية الناتج من البيض أو البذر، ربطوا موقفهم الفقهي من ذلك بوجهة نظرهم في طبيعة الصلة بن المادة والنتيجة. وهذا يعني أن من منح المغصوب منه ملكية الناتج لم يقل بذلك على أساس مفهوم رأسمالي، ولم يرجح ملكية
صاحب البيض والبذر لأنه هو المالك لرأس المال أو النوع منه في عملية الإنتاج، إذ لو كان هذا هو الأساس في الترجيح لما اختلفت النتيجة الفقهية في رأي الفقهاء تبعا لوحدة المادة والنتيجة وتعددهما، لأن المادة رأس مال في عملية الإنتاج على كل حال، سواء استهلكت خلال العملية أم تجسدت في المنتوج الذي أسفر عنه العمل، فكان لزاما على الفقهاء من وجهة نظر كانت العلاقة بينه وبين المادة ولكنهم خلافا لوجهة النظر هذه لم يمنحوا مالك المادة - كالبذر مثلا - حق ملكية الزرع إلا إذا ثبت في العرف العام أن المنتوج هو نفس المادة في حالة معينة من التطور، وهذا يقرر بوضوح أن منح ملكية السلعة المنتجة لمالك المادة لا العامل يقوم على أساس ما أطلقنا عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية ولا يستمد مبرره الإسلامي من وجهة النظر الرأسمالية التي تقوم: إن السلعة المنتجة يملكها رأس المال، وأن العامل أجير
570

لدى رأس المال يتقاضى أجره على عمله منه.
وهكذا ندرك بوضوح مدى الفرق النظري بين التفسير الإسلامي لمنح صاحب المادة الأولية في الإنتاج ملكية الثروة المنتجة، وبين تفسيرها على أساس وجهة نظر رأسمالية.
3 - القانون العام لمكافأة المصادر المادية للإنتاج
البناء العلوي:
1 - يجوز للانسان المنتج أن يستأجر إحدى أدوات الإنتاج وآلاته من غيره ليستخدمها في عملياته، ويدفع إلى مالك الأداة مكافأة يتفق عليها معه وتعتبر هذه المكافأة أجرة لمالك الأداة على الدور الذي لعبته في عملية الإنتاج ودينا في ذمة الإنسان المنتج يجب عليه تسديده، بقطع النظر عن مدى ونوع المكاسب التي يحصل عليها في عملية الإنتاج، وهذا كله مما اتفق عليه الفقهاء (1).
2 - كما يجوز استئجار أداة من أدوات الإنتاج كمحراث أو معمل نسيج كذلك يجوز للإنسان المنتج أن يستأجر أرضا بأجرة معينة من صاحبها الذي يختص بها اختصاص حق أو ملكية. فإذا كانت مزارعا مثلا، أمكنك أن تستخدم أرض غيرك بالاتفاق معه، وتدفع له نظير ذلك أجرة مكافأة له على الخدمة التي قدمتها أرضه في عملية الإنتاج.
وهذا الحكم يتفق عليه أكثر الفقهاء المسلمين، ولا خلاف فيه إلا من بعض الصحابة، وعدد قليل من المفكرين الإسلاميين الذين أنكروا جواز إجارة الأرض (2)، استنادا إلى روايات النبي (ص) سوف ندرسها في بحث مقبل إن شاء الله تعالى، ونوضح عدم تناقضها مع الرأي الفقهي السائد.

(1) لاحظ المبسوط ج 3، ص 221، ومفتاح الكرامة ج 7، ص 82.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 27 ن ص 222 و 227.
571

وكذلك يجوز للانسان أيضا أن يستأجر عاملا لخياطة الثوب وغزل الصوف وبيع الكتاب وشراء صفقة تجارية، فإذا أنجز الأجير المهمة التي كلف بها وجب على من استأجره دفع الأجرة المحددة له (1).
3 - شرع الإسلام عقد المزارعة كأسلوب لتنظيم شركة معينة بين صاحب الأرض والزارع، يتعهد بموجبه الزارع بزرع الأرض ويقاسم صاحب الأرض الناتج الذي يسفر عنه العمل. ويحدد نصيب كل منهما بنسبة مئوية من مجموع الناتج.
ولنأخذ فكرتنا عن عقد المزارعة من نص للشيخ الطوسي في كتاب الخلاف شرح فيه مفهوم المزارعة، وحدودها المشروعة، إذ كتب يقول: (يجوز أن يعطي - صاحب - الأرض - الأرض غيره ببعض ما يخرج منها، بأن يكون منه الأرض والبذر، ومن المتقبل (2) القيام بها بالزراعة والسقي ومراعاتها) (3).
ففي هذا الضوء نعرف أن عقد المزارع شركة بين عنصرين:
أحدهما العمل من العامل الزارع، والآخر: الأرض والبذر من صاحب الأرض. وعلى أساس هذا التحديد الذي كتبه الشيخ الطوسي، يصبح من غير المشروع إنجاز عقد المزارعة بمجرد تقديم صاحب الأرض لأرضه وتكليف العامل بالعمل والبذر معا، لأن مساهمة صاحب الأرض بالبذر أخذت شرطا أساسيا لعقد المزارعة في النص السابق، وإذا تم ما يقرره هذا النص بشأن البذر، فعلى ضوئه يمكننا أن نفهم ما جاء عن النبي (ص) من النهي عن المخابرة (4)، لأن المخابرة هي نوع من المزارعة يكلف فيه صاحب الأرض بتسليم الأرض دون البذر. وهكذا نعرف من حدود النص الذي كتبه الشيخ الطوسي: أن تعهد صاحب الأرض بدفع البذر للعامل يعتبر عنصرا أساسيا في عقد المزارعة، ولا يصح العقد بدون ذلك (5).

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 27 ص 213، ومستمسك العروة ج 11 ص 127.
(2) المتقبل، هو العامل الذي يستخدم أرض غيره. من المؤلف
(3) الخلاف ج 3، ص 476.
(4) لاحظ سنن أبي داود ج 5، ص 65، الحديث 3262.
(5) لاحظ المبسوط ج 3، ص 253.
572

وهذا ما ذهب اليه جملة من الفقهاء أيضا فقد كتب ابن قدامة يقول: 0 ظاهر المذهب أن المزارعة إنما تصح إذا كان البذر من رب الأرض والعمل من العامل نص عليه أحمد في رواية جماعة واختاره عامة الأصحاب وهو مذهب ابن سيرين والشافعي وإسحاق) (1)
4 - المساقاة عقد آخر يشابه عقد المزارعة، وهو لون من الاتفاق بين شخصين: أحدهما يملك
أشجارا وأغصانا، والآخر قادر على ممارسة سقيها حتى تؤتي ثمارها.
ويتعهد العامل في هذا العقد بسقي تلك الأشجار والأغصان حتى تثمر وفي مقابل ذلك يشارك المالك في الثمار بنسبة مئوية تحدد ضمن العقد.
وقد أجاز الإسلام هذا العقد، كما جاء في كثير من النصوص الفقهية (2).
5 - ولا تنحصر مسؤولية صاحب الأرض بتقديم الأرض فحسب بل إن عليه أيضا الانفاق على تسميد الأرض
إذا احتاجت إلى ذلك فقد قال العلامة الحلي في القواعد: (لو احتاجت الأرض إلى التسميد فعلى المالك شراؤه وعلى العامل تفريقه) (3). وأكدت ذلك عدة مصادر فقهية كالتذكرة والتحرير وجامع المقاصد (4).
6 - المضاربة عقد مشروع في الإسلام، يتفق فيه العامل مع صاحب المال على الاتجار بأمواله والمشاركة في الأرباح بنسبة مئوية، فإذا استطاع العامل أن يظفر بأرباح في تجارته، قسمها بينه وبين صاحب المال وفقا لما تم عليه الاتفاق في العقد وأما إذا مني بخسارة فإن المالك هو الذي يتحملها وحده، ويكتفي العامل بضياع جهوده وأتعابه دون نتيجة، ولا يجوز للمالك أن يحمل العامل هذه الخسارة. وإذا ضمن العامل الخسارة في حالة من الحالات، لم يكن لصاحب المال شيء من

(1) المغني ج 5، ص 589.
(2) لاحظ المبسوط ج 3، ص 207، والروضة في شرح اللمعة ج 4، ص 309.
(3) قواعد الأحكام ج 1، ص 240.
(4) لاحظ التحرير ج 1، ص 259، وجامع المقاصد ج 7، ص 331، والتذكرة ج 2، ص 346، كتاب المساقاة البحث الخامس، المسألة الثانية.
573

الربح (1)، كما جاء في الحديث عن علي عليه الصلاة والسلام: من ضمن تاجرا فليس له إلا رأس ماله، وليس له من الربح شيء (2). وفي حديث آخر: (من ضمن مضاربة - أي جعل العامل المضارب ضامنا لرأس المال، فليس له إلا رأس المال، وليس له من الربح شيء) (3) فتوفر عنصر المخاطرة بالنسبة إلى صاحب المال وعدم ضمان العامل لماله شرط أساسي في صحة عقد المضاربة، وبدونه تصبح العملية قرضا لا مضاربة ويكون الربح كله للعامل.
ولا يجوز للعامل بعد الاتفاق مع صاحب المال على أساس المضاربة أن يظفر بعامل آخر يكتفي بنسبة مئوية أقل من الربح، فيدفع اليه المال ليتجر به ويحصل في النهاية على التفاوت بين النسبتين دون عمل منه (4)، كما إذا كان متفقا مع صاحب المال على مناصفة الأرباح، وأكفى منه العامل الآخر. بالربع، فإنه سوف يفوز بربع الأرباح عن هذا الطريق دون أن يتكلف جهدا.
وقد كتب المحقق الحلي في فصل المضاربة من كتاب الشرائع يحرم ذلك قائلا: إذا قارض - أي ضارب - العامل غيره، فإن كان بإذنه - أي بإذن المالك، وشرط الربح بين العامل الثاني والمالك صح، ولو شرط لنفسه شيئا من الربح لم يصح، لأنه لا عمل له (5). وجاء في الحديث: أن الإمام (ع) سئل عن رجل أخذ مالا مضاربة أيحل له أن يعينه غيره بأقل مما أخذ؟ قال: لا (6).
وجاء في كتاب المغني لابن قدامة بهذا الصدد ما يلي: (وإن أذن رب المال في دفع المال مضاربة جاز ذلك... فإذا دفعه إلى آخر ولم يشترط لنفسه شيئا من الربح كان صحيحا وإن شرط لنفسه شيئا من الربح لم يصح لأنه ليس من جهة مال

(1) لاحظ المبسوط ج 3، ص 167.
(2) الوسائل ج 13، ص 186، الحديث 24070.
(3) المصدر السابق.
(4) لاحظ الحدائق الناضرة ج 21، ص 257.
(5) الشرائع ج 2، ص 115.
(6) الوسائل ج 13، ص 191، الحديث 24080.
574

ولا عمل والربح إنما يستحق بواحد منهما) (1).
7 - الربا في الفرض حرام في الإسلام، وهو: أن تقرض غيرك مالا إلى موعد بفائدة يدفعها المدين عند تسليم المال في الموعد المتفق عليه. فلا يجوز القرض إلا مجردا عن الفائدة، وليس للدائن إلا استرجاع ماله الأصيل دون زيادة، مهما كانت ضئيلة (2). وهذا الحكم يعتبر في درجة وضوحه إسلاميا في مصاف الضروريات من التشريع الإسلامي.
ويكفي في التدليل عليه، الآيات الكريمة التالية:
{الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (3) {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله و إن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} (4).
8 - والجملة القرآنية الأخيرة التي تحصر حق الدائن في رأس المال الذي أقرضه، ولا تسمح له، إذا تاب، إلا باسترجاع ماله الأصيل، دليل واضح على المنع من القرض بفائدة، وتحريم الفائدة بمختلف ألوانها مهما كانت تافهة أو ضئيلة، لأنها تعتبر على أي حال ظلما في المفهوم القرآني من الدائن للمدين. وفقهاء الامامية متفقون جميعا على هذا الحكم كما يظهر من مراجعة جميع مصادرهم الفقهية (5).
وقد نقل الجزيري عن الفقهاء المالكيين أنه يحرم على المقرض أن يشترط في القرض شرطا يجر منفعة كما نقل عن الفقهاء الشافعيين أن القرض يفسد بشرط

(1) المغني ج 5، ص 161.
(2) لاحظ الحدائق الناضرة ج 19، ص 270 و 274.
(3) البقرة / 275.
(4) البقرة / 278 و 279.
(5) لاحظ جواهر الكلام ج 26، ص 337، والحدائق الناضرة ج 19، ص 270 و 274.
575

يجر منفعة للمقرض وكذلك نقل عن الحنابلة قولهم بعدم جواز اشتراط ما يجر منفعة للمقرض في عقد القرض (1).
وقال ابن قدامة: (إن شرط في القرض أن يؤجره داره أو يبيعه شيئا أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يجز... وروى البخاري عن أبي بردة عن أبي موسى قال قدمت المدينة فأتيت عبد الله بن سلام - وذكر حديثا - وفيه، ثم قال لي: إنك بأرض فيها الربا فاش فإذا كان على رجل دين فأهدى إليك حمل تين أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا) (2).
9 - وجاء في الحديث النبوي: ان شر المكاسب الربا (3)، ومن أكله ملأ الله بطنه من نار جهنم بقدر ما أكل، وإن اكتسب مالا لم يقبل الله شيئا من عمله، ولم يزل في لعنة الله والملائكة، ما كان عند قيراط (4).
10 - الجعالة صحيحة في الشريعة وهي: الالتزام من الشخص بمكافأة على عمل سائغ مقصود. كما إذا قال: من فتش عن كتابي الضائع فله دينار، ومن خاط ثوبي فله درهم. فالدينار أو الدرهم، عوض التزم مالك الكتاب
أو يكون العوض محددا كدرهم ودينار، بل يجوز للانسان أن يجعل عوضا غير محدد بطبيعته فيقول: من زرع أرضي هذه، فله نصف النتاج، ومن رد علي قلمي الضائع فهو شريكي في نصفه، كما نص على ذلك العلامة الحلي في التذكرة، وابنه في الايضاح، والشهيد في المسالك، والمحقق النجفي في الجواهر (5).

(1) الفقه على المذاهب الأربعة ج 2، ص 342 - 345.
(2) المغني ج 4، ص 360.
(3) الوسائل ج 12، ص 416، الحديث 23380.
(4) الوسائل ج 12، ص 427، الحديث 23382.
(5) لاحظ التذكرة ج 2، ص 287، كتاب الجعالة ن الفصل الثاني ن الركن الرابع، المسألة الأولى، وإيضاح الفوائد ج 2، ص 163، ومسالك الإفهام ج 2، ص 183، وجواهر الكلام ج 35، ص 192.
576

والفرق من الناحية الفقهية بين الجعالة والإجارة هو أنك إذا استأجرت شخصا بأجرة لخياطة ثوبك مثلا، أصبحت بموجب عقد الإجارة مالكا لمنفعة معينة من منافع الأجير، وهي منفعة عمله في خياطة الثوب، كما يملك الأجير الأجرة التي نص عليها العقد. وأما إذا جعلت درهما لمن يخيط ثوبك، فلا تملك شيئا من عمل الخياطة، كما لا يملك الخياط شيئا على ذمتك، ما لم يباشر العمل، فإذا أنجز الخياطة، كان له علي الدرهم الذي جعلته مكافأة على الخياطة (1).
11 - المضاربة التي سبق الحديث عنها، في الفقرة السادسة محددة تشريعيا في نطاق العمليات التجارية بالبيع والشراء، فكل من يملك سلعة أو نقودا، يتاح له الاتفاق مع عامل معين على الاتجار بماله وبيع سلعته، أو شراء سلعة بنقوده ثم بيعها، والاشتراك مع العامل في الأرباح، بنسبة مئوية كما ذكرناه في الفقرة السادسة.
وأما في غير النطاق التجاري الذي تحدده فقهيا عمليات البيع والشراء فلا تصح المضاربة، فمن يملك أداة إنتاج مثلا ليس له أن ينشئ عقد مضاربة مع العامل على أساسها. وإذا دفعها إلى العامل ليستثمرها، فليس من حقه أن يفرض لنفسه نصيبا من الأرباح التي تسفر عنها عملية الإنتاج، ولا نسبة مئوية في الناتج.
ولأجل هذا كتب المحقق الحلي في كتاب المضاربة من الشرائع: يقول: إن المالك لو دفع إلى العامل آلة الصيد بحصة ثلث مثلا، فاصطاد العامل، لم يكن مضاربة، وكان الصيد للصائد الذي حازه، وليس لصاحب الآلة شيء منه، وإنما على الصائد الأجرة لقاء انتفاعه بالآلة (2).
ونص على الحكم نفسه الفقيه الحنفي السرخسي إذ كتب يقول: (وإذا دفع إلى رجل شبكة ليصيد بها السمك على أن يكون ما صاد بها من شيء فهو بينهما فصاد بها سمكا كثيرا فجميع ذلك للذي صاد... لأن الآخذ هو المكتسب دون الآلة فيكون الكسب له وقد أستعمل فيه آلة الغير بشرط العوض لصاحب الآلة وهو

(1) لاحظ الحدائق الناضرة ج 21، ص 532.
(2) شرائع الإسلام ج 2، ص 112، ولاحظ الحدائق الناضرة ج 21، ص 219.
577

مجهول فيكون له أجر مثله على الصياد) (1).
وبهذا نعرف أن مجرد الاشتراك في عملية إنتاج، بأداة من الأدوات، لا يبرر اشتراك مالك الأداة في الأرباح، وإنما يسمح للمالك بمشاركة العامل في الربح، إذا قدم سلعة أو نقودا، وكلفه بالاتجار بها عن طريق البيع والشراء على أساس الاشتراك في الأرباح.
وكما لم يسمح بقيام المضاربة والمشاركة في الأرباح على أساس أداة الإنتاج، كذلك لم يسمح بقيام عقد المزارعة - وهو العقد الذي مر بنا في الفقرة الثالثة - على هذا الأساس أيضا. فلا يجوز لشخص أن يشارك الإنسان العمل في منتوجه الزراعي لمجرد تقديم أدوات الإنتاج اليه، من محراث وبقر وآلات، وإنما تتاح هذه المشاركة لمن يسهم بالأرض والبذر معا كما عرفا من نص للشيخ الطوسي (2) سبق ذكره.
12 - لا يجوز للانسان أن يستأجر أرضا أو أداة إنتاج، بأجرة معينة، ثم يؤجرها بأكثر من ذلك ما لم يعمل في الأرض أو الأداة عملا يبرر حصلوه على الزيادة. فإذا كنت قد استأجرت أرضا، بعشرة دنانير، فلا يجوز لك أن تدفعها إلى شخص وتتقاضى منه عوضا أضخم من تلك الأجرة التي سددتها لصاحب الأرض، ما لم يتفق على الأرض وإصلاحها وإعداد تربتها جهدا يبرر الفارق الذي تكسبه.
وقد نص على هذا الحكم بصورة وأخرى جماعة من كبار الفقهاء، كالسيد المرتضى والحلبي والصدوق وابن البراج والشيخ المفيد والشيخ الطوسي (3)، وفقا لأحاديث كثيرة وردت بهذا الصدد، ننقل فيما يلي بعضها: ‌‌
(أ) حديث سليمان بن خالد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:
أني لأكره أن أستأجر الرحى وحدها ثم أؤاجرها بأكثر مما استأجرتها، إلا أن أحدث

(1) المسوط للسرخسي، ج 22، ص 34.
(2) لاحظ الخلاف ج 3، ص 476.
(3) لاحظ النهاية للطوسي، ص 445، والمقنع للصدوق، ص 32 من الجوامع الفقهية، والكافي للحلبي، ص 346، والمقنعة للمفيد، ص 640، والمهذب لابن البراج ج 2، ص 12، وجواهر الكلام ج 27، ص 224.
578

فيها حدثا (1).
(ب) عن الحلبي قال قلت للصادق عليه السلام: أتقبل الأرض بالثلث أو الربع، فاقبلها بالنصف، قال: لا بأس. قلت: فأتقبلها بألف درهم، واقبلها بألفين. قال: لا يجوز. قلت: لم قال: لأن هذا مضمون وذاك غير مضمون (2) (3).
(ج -) حديث إسحاق بن عمار عن الصادق عليه السلام أنه قال: إذا تقبلت أرضا بذهب أو فضة، فلا تقبله بأكثر من ذلك، وأن تقبلتها بالنصف والثلث، فلك أن تقبلها بأكثر مما تقبلتها بأكثر من ذلك، وإن تقبلتها بالنصف والثلث، فلك أن تقبلها بأكثر مما تقبلتها به، لأن الذهب والفضة مضمونان (4).

(1) الوسائل ج 13، ص 259، الحديث 24279، ولاحظ سائر الروايات الأخرى في الصفحات
التالية بذلك الموضع.
(2) الوسائل ج 13، ص 260، الحديث 24284.
(3) خلاصة التفصيل الذي يعرضه هذا النص، والنص التالي، هو التفرقة بين حالتي الإجارة والمزارعة: ففي حالة الإجارة، عندما يستأجر الفرد أرضا بمئة دينار مثلا، لا يجوز له أن يؤجرها بأكثر من مئة، ما لم يكن قد عمل في الأرض. وفي حالة المزارعة، عندما يتفق العامل مع صاحب الأرض والبذر، وعلى زرع أرضه والاشتراك معه في الناتج بنسبة خمسين بالمئة مثلا يجوز للعامل بعد ذلك أن يعطي أرض العامل آخر يباشر زراعتها، على أن يدفع له ثلاثين بالمئة مثلا، ويحفظ في النتيجة بعشرين بالمئة.
وقد حاول النص أن يفسر هذا الفرق بين حالتي الإجارة والمزارعة فذكر في تبرير ذلك: (أن هذا مضمون وذلك غير مضمون). والنص يريد بهذا التعليل: أن المستأجر الثاني للأرض الذي يستأجرها ممن كان قد استأجرها قبله، - أي من المستأجر الأول - يضمن في عقد الإجارة للمستأجر الأول الأجرة المتفق عليها، فهي مضمونة بنفس العقد. وأما المزارع الذي يتسلم الأرض من المستأجر بموجب عقد مزارعة ليعمل فيها. فهو لا يضمن في عقد المزارعة شيئا للمستأجر الأول، فما يحصل عليه المستأجر الأول نتيجة لعقد المزارعة ليس مضمونا له في نفس عقد المزارعة. فكأن النص أراد أن يقول أن التفاوت الذي يحصل عليه المستأجر الأول حين يؤجر الأرض بأكثر مما استأجرها به، مضمون له في نفس عقد الإجارة، فلا بد أن يسبق العقد عمل يبرر هذا المكسب المضمون لأن الشريعة لا تقر مكسبا مضمونا إلا في مقابل عمل. وأما التفاوت الذي يحصل عليه المستأجر، إذا زارع على الأرض بالنصف مثلا، فهو ليس مضمونا له بنفس عقد المزارعة، فلا يجب أن يسبق عقد المزارعة علم للمستأجر الأول في الأرض يبرر هذا المكسب.
579

(د) عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: سألت جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن الرجل، استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام مسمى، ثم آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقل من ذلك أو أكثر وله في الأرض بعد ذلك فضل، أيصلح له ذلك؟ قال نعم، إذا حفر لهم نهرا أو عمل شيئا يعينهم بذلك، فله ذلك (1).. قال: وسألته عن الرجل استأجر أرضا من

(1) وتوضيح هذا النص: أن الشخص إذا كان قد استأجر أرضا بمئة درهم، ودفعها إلى زارع ليزرعها إلى أساس المشاركة في الناتج بنسبة مئوية ولنفرضها النصف، وزاد النصف على مئة درهم، لم يجز للمستأجر أن يأخذ الزيادة ما لم ينفق عملا في الأرض كحفر النهر ونحوه.
وقد لاحظ كثير من الفقهاء: أن هذا النص يؤدي إلى الغاء الفرق بين المزارعة والإجارة. فكما لا يجوز للمستأجر إيجار الأرض بأقل والاستفادة من الفارق بين المزارعة والإجارة. فكذلك لا يجوز له - بموجب هذا النص - أن يحصل على الفارق نتيجة لعقد مزارعة أيضا.
ولأجل ذلك كان هذا النص يتعارض في رأيهم، مع النصين السابقين، إذا أكدا على الفرق بين المزارعة والإجارة، وأن الفارق الناتج عن تفاوت أجرتين لا يجوز بغير عمل. وأما الفارق الناتج عن تفاوت نسبتين مئويتين في مزارعتين فهو جائز.
ولكن الواقع هو أن النصوص متسقة، ولا تناقض بينها. وتوضيح ذلك بأساليب البحث الفقهي: أن النصين السابقين يعالجان ناحية معينة، وهي التفاوت بين اتفاق المستأجر مع المالك واتفاقه مع عامله، والبحث الذي يحصل عليه المستأجر الوسيط بين المالك والعامل المباشر نتيجة لهذا التفاوت. ومعالجة النصين لهذه الناحية هي: أن الربح الذي يحصل عليه الشخص الوسيط بين مالك الأرض والعامل المباشر فيها كان نتيجة للتفاوت بين مزارعتين، فهو مشروع ولو لم يكن الشخص الوسيط قد قام بأي عمل في الأرض قبل أن يزارع عامله بنسبة أقل أما إذا كان نتيجة للتفاوت بين الإجارتين، فهو غير مشروع ما لم يكن المستأجر قد قام بعمل خاص في الأرض قبل أن يؤجرها بأقل.
وأما النص الأخير في خبر الهاشمي فهو يعتبر عمل المستأجر الوسيط في الأرض - كحفر النهر ونحوه - شرطا في صحة المزارعة التي يتفق عليها مع العامل، وشرطا بالتالي في جواز تملك هذا المستأجر الوسيط للزيادة الناجمة عن التفاوت بين ما يعطي لمالك الأرض وما يأخذ من العمل المباشر.
ولكي نعرف عدم تعارض هذا مع مدلول النصين السابقين يجب أن نعرف:
أولا: أن العمل الذي اعتبره النص - في خبر الهاشمي - شرطا لصحة المزارعة التي يتفق عليها المستأجر الوسط مع عامله إنما هو العمل بعد عقد المزارعة لا قبل ذلك، بدليل قوله، (نعم، إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم بذلك فله ذلك). فان الحفر لهم والعمل لهم واعانتهم بذلك معناه أن هذه الأعمال تتم بعد الاتفاق معهم على المزارعة. وأما إذا حفر المستأجر قبل أن يؤاجر الأرض بأزيد مما استأجرها به.
وثانيا: أن هذا النص لم تفترض فيه زيادة في العقد، وإنما حصلت الزيادة اتفاقا، لأن المستأجر كان قد استأجر الأرض بأجرة محددة، ثم اتفق مع عامل على أن يزرعها، ولكل منهما النصف، والنصف قدر غير محدد بطبيعته وكان من الممكن أن ينقص عن الأجرة التي دفعها المستأجر، كما كان بالامكان أن يساويها أو يزيد عليها فالزيادة التي يتحدث عنها النص ليست مفروضة في طبيعة العقد، لأن العقد بطبيعته لم يفرض على العامل المباشر أن يدفع إلى المستأجر الوسيط أكثر من الأجرة التي دفعها هذا إلى المالك وإنما ألزم العامل في العقد بدفع نسبة مئوية معينة من الناتج إلى المالك بقطع النظر عن كميتها، وزيادتها ونقصانها عن الأجرة التي تسلمها المالك من المستأجر الوسيط.
وإذا لاحظنا هذين الأمرين، أمكننا القول بأن اشتراط العمل في هذا النص - نص الهاشمي - على المستأجر الوسيط بين المالك والعامل، ليس لأجل تبرير الزيادة التي يحصل عليها المستأجر الوسيط، نتيجة للفرق بين الأجرة التي دفعها إلى صاحب الأرض، والنسبة المئوية التي يتسلمها من العامل المباشر ولنفرضها النصف مثلا. بل إن اشتراط العمل على المستأجر الوسيط إنما هو لتصحيح عقد المزارعة، وتوفير مقوماته الشرعية بما هو عقد خاص بقطع النظر عن الزيادة والنقيصة. وذلك بناء على الزعم الفقهي القائل: إن المزارعة لا يكفي فيها أن يقدم صاحب الأرض أرضه، بل لابد لكي تكون صحيحة أن يتعهد بشيء آخر غير الأرض كما دل على ذلك النص الفقهي الذي نقلناه عن الشيخ الطوسي في الفقرة الثالثة، إذ جعل البذر في هذا النص الفقهي على صاحب الأرض. وفي الفرضية التي يعالجها النص الوارد في خبر الهاشمي لم يفترض أن المستأجر الوسيط تعهد للعامل الذي زارعه بالبذر فكان لابد أن يكلف بالمساهمة مع العامل الذي يزارعه في العمل.
وينتج عن ذلك أن صاحب الأرض - المالك لها رقبة أو منفعة - حينما يزارع عاملا، لابد له من المساهمة مع العامل في العمل أو في البذر ونحوه من النفقة، ولا يكفي مجرد اعطائه للأرض.
وتفسير نص الهاشمي في هذا الضوء لا يتعارض مع ظهوره اطلاقا، ويحافظ على الفرق بين المزارعة والإجارة كما قرره النصان السابقان، لأن العمل الذي يسوغ للمستأجر أن يؤجر الأرض بأكثر مما استأجرها هو العمل السابق على عقد الإجارة، وشأنه تصحيح التفاوت بين الأجرتين. وأما العمل الذي يسوغ للمستأجر أن يزارع غيره على الأرض بالنصف مثلا، فهو عمل يقوم به المستأجر الوسيط، بعد المزارعة، وشأنه تصحيح أصل المزارعة، لا تصحيح التفاوت فحسب.
580

أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام معلوم، فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريبا جريبا لشيء معلوم، فيكون له فضل فيما استأجر من السلطان ولا ينفق شيئا، أو يؤاجر تلك
581

الأرض قطعا على أن يعطيهم البذر والنفقة، فيكون له في ذلك فضل على إجارته، وله تربة الأرض أو ليست له. فقال له: إذا استأجرت أرضا، فأنفقت فيها شيئا، أو رممت فيها، فلا بأس بما ذكرت (1).
(ه -) حديث أبي بصير عن الصادق عليه السلام، أنه قال: إذا تقبلت أرضا بذهب أو فضة، فلا تقبلها بأكثر مما قبلتها به، لأن الذهب والفضة مضمونان (2).
(و) حديث الحلبي عن الصادق عليه السلام، في الرجل يستأجر الدار ثم يؤآجرها بأكثر مما استأجرها به. قال: لا يصلح ذلك إلا أن يحدث فيها شيئا (3).
(ز) في حديث إسحاق بن عمار، أن الإمام محمد الباقر عليه السلام كان يقول: لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة، ثم يؤآجرها بأكثر مما استأجرها به، إذا أصلح فيها شيئا (4).
(ح -) روى سماعة قال: سألته (ع)، عن رجل اشترى مرعى يرعى فيه بخمسين درهما أو أقل أو أكثر، فأراد أن يدخل معه من يرعى معه فيه، قبل أن يدخله منهم الثمن،

(1) الوسائل ج 13، ص 2261، الحديث 24286 و 24287.
(2) الوسائل ج 13، ص 262، الحديث 24289، مع اختلاف.
(3) الوسائل ج 13، ص 263، الحديث 24293.
(4) المصدر السابق، الحديث 24291.
582

قال: فليدخل من شاء ببعض ما أعطى، وإن أدخل معه بتسعة وأربعين، وكانت غنمه بدرهم، فلا بأس وإن هو رعى فيه قبل أن يدخله بشهر أو شهرين أو أكثر من ذلك، بعد أن يبين لهم، فلا بأس. وليس له أن يبيعه بخمسين درهما ويرعى معهم، ولا بأكثر من خمسين درهما ولا يرعى معهم، إلا أن يكون قد عمل في المرعى عملا، حفر بئرا أو شق نهرا، تعنى فيه برضا أصحاب المرعى، فلا بأس ببيعه بأكثر مما اشتراه لأنه قد عمل فيه عملا. فبذلك يصلح له (1) (2).
وقد نقل الجزيري عن الفقهاء الأحناف أن الشخص إذا استأجر دارا أو دكانا بمبلغ معين كجنية في الشره فلا يحل له أن يؤجرها لغيره بزيادة (3) وهذا هو نفس الموقف الذي رأيناه لدى الفقهاء الإماميين.
وذكر السرخسي الحنفي في مبسوطه عن الشعبي في رجل استأجر بيتا وآجره بأكثر مما استأجره به إنه لا بأس بذلك إذا كان يفتح بابه ويغلقه ويخرج متاعه فلا بأس بالفضل وعلق السرخسي على ذلك بقوله: بين أنه إنما يجوز له أن يستفضل إذا كان يعمل فيه عملا نحو فتح الباب وإخراج المتاع فيكون الفضل له بإزاء عمله وهذا فضل اختلف فيه السلف... وكان إبراهيم يكره الفضل إلا أن يزيد فيه شيئا فان زاد فيه شيئا طاب له الفضل وأخذنا بقول إبراهيم (4).
وكما لا يجوز لمن استأجر أرضا أو أداة إنتاج أن يؤآجرها بأجرة أكبر، كذلك لا يسمح له أيضا أن يتفق مع شخص على إنجاز عمل بأجرة معينة ثم يستأجر للقيام بذلك العمل أجيرا آخر لقاء مبلغ أقل من الأجرة التي ظفر بها في الاتفاق

(1) ليس المقصود بالبيع هنا المدلول الحقيقي الخاص لكلمة البيع، وذلك بقرينة قوله (إلا أن يكون قد عمل في المرعى.. برضا أصحاب المرعى). فإنه يدل على أن للمرعى أصحابه، وهذا يتنافى مع افتراض أن الراعي قد اشتراه حقيقة. فيجب أن تفهم كلمة البيع بمعنى عام، يمكن أن ينطبق على الإجارة.
(2) الفروع من الكافي ج 5، 273، الحديث 10.
(3) الفقه على المذاهب الأربعة ج 3، ص 117.
(4) المبسوط للسرخسي، ج 15، ص 78.
583

الأول، ليحتفظ لنفسه بالفارق بين الأجرتين (1).
ففي رواية محمد بن مسلم أنه سأله الصادق عليه السلام عن الرجل يتقبل بالعمل فلا يعمل فيه، ويدفعه إلى آخر فيربح فيه قال: لا، إلا أن يكون قد عمل شيئا (2). وفي حديث آخر أن أبا حمزة سأل الإمام الباقر (ع) عن الرجل يتقبل العمل فلا يعمل فيه، ويدفعه إلى آخر يربح فيه؟ قال: لا (3) في نص ثالث، سئل الإمام عليه السلام: عن الرجل الخياط يتقبل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل؟ قال الإمام لا بأس قد عمل فيه (4). وعن مجمع أنه قال: قلت لأي عبد الله الصادق عليه السلام: أتقبل الثياب، أخيطها ثم أعطيها الغلمان بالثلثين؟ فقال: أليس تعمل فيها؟ فقلت: اقطعها واشتري لها الخيوط. قال: لا بأس (5). وفي حديث أن صائغا قال لأبي عبد الله الصادق عليه السلام أتقبل العمل ثم اقبله من غلمان يعملون معي بالثلثين؟ فأجاب الإمام عليه السلام: أن ذلك لا يصلح إلا بأن تعالج معهم فيه (6).
النظرية:
درسنا في المجال النظري سابقا العمل حين يمارس مادة غير مملوكة بصوره مسبقة لشخص آخر، فاستطعنا أن نكتشف بكل وضوح أن النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج تمنح الانسان العامل في هذه الحالة كل الثروة التي مارسها في عملية الإنتاج، ولا تشرك فيها العناصر المادية، لأنها قوة تخدم الانسان المنتج، وليست في مستواه فهي تتلقى مكافأتها من الانسان ولا تشترك معه في المنتوج.

(1) لاحظ المقنعة ص 640، وجواهر الكلام ج 27، وص 222.
(2) الوسائل ج 13، ص 265، الحديث 24298.
(3) المصدر السابق، الحديث 24301.
(4) و (ه) الوسائل ج 13، ص 266، الحديث 24302 و 24303.
(5) المصدر السابق، الحديث 24304.
584

ودرسنا أيضا العمل حين يمارس مادة مملوكة لفرد آخر، كما إذا غزل العامل الصوف الذي يملكه الراعي وعرفنا من رأي النظرية في هذه الحالة أن المادة تظل ملكا لصاحبها، وليس للعمل ولا لكل العناصر المادية التي تساهم في عملية الإنتاج نصيب فيها، وإنما يجب على مالك المدة مكافأة تلك العناصر على الخدمات التي قدمتها اليه في تطوير المادة وتحسينها.
ونريد الآن من خلال البناء العلوي الجديد أن ندرس هذه المكافأة التي تحصل عليها العناصر أو مصادر الإنتاج في هذه الحالة، ونكتشف حدودها ونوعيتها، وبالتالي أساسها النظري.
وبتحديد نوع المكافأة التي يسمح لمصادر الإنتاج - من عمل وأرض وأداة إنتاج ورأس مال - بالحصول عليها نعرف المدى الذي سمح به الإسلام من الكسب نتيجة لملكية أحد مصادر الإنتاج، وما هي المبررات النظرية في الإسلام لهذا الكسب القائم على أساس ملكية تلك المصادر.
1 - تنسيق البناء العلوي:
ولنستخلص في عملية تنسيق للبناء العلوي الجديد النتائج العامة التي يؤدي إليها، ثم نوحد بين تلك النتائج في مركب نظري مترابط.
فالعمل وفقا لهذا البناء العلوي من التشريع الإسلامي قد سمح له بأسلوبين لتحديد المكافأة التي يستحقها، وترك للعامل الحق في اختيار أيهما شاء.
أحدهما: أسلوب الأجرة. والآخر: أسلوب المشاركة في الأرباح أو الناتج فمن حق العامل أن يطلب مالا محددا نوعا وكما مكافأة له على عمله، كما يحق له أن يطالب باشراكه في الربح والناتج، ويتفق مع صاحب المال على نسبة مئوية من الربح أو الناتج، تحدد لتكون مكافأة له على عمله، ويمتاز الأسلوب الأول بعنصر الضمان، فالعامل إذا اقتنع، بأن يكافأ بقدر محدد من المال - وهذا ما نطلق عليه اسم الاجر والأجرة - كان على صاحب المال دفع هذا القدر المحدد له بقطع النظر عن نتائج
585

العمل وما يسفر عنه الإنتاج من مكاسب أو خسائر. واما إذا اقترح العامل أن يشارك صاحب المال في الناتج والأرباح بنسبة مئوية بأمل الحصول عن هذا الطريق على مكافأة أكبر، فقد ربط مصيره بالعملية التي يمارسها، وفقد بذلك الضمان، إذ من المحتمل أن لا يحصل على شيء إذا لم يوجد ربح، ولكنه في مقابل تنازله عن الضمان يفوز بمكافأة منفتحة، غير محددة تفوق الاجر المحدد في أكثر الأحيان، لأن الربح أو الناتج كمية قد تزيد وقد تنقص، فتعيين المكافأة على العمل في الربح أو الناتج بنسبة مئوية يعني تبعيتها في الزيادة والنقصان. فلكل من الأسلوبين مزيته الخاصة.
وقد نظم الإسلام الأسلوب الأول - الاجر - بتشريع احكام الإجارة، كما رأينا في الفقرة الأولى. ونظم الأسلوب الثاني - المشاركة في الربح أو الناتج - بتشريع أحكام المزارعة والمساقاة والمضاربة والجعالة، كما مر في الفقرات 3 و 5 و 8 و 6، ففي عقد المزارعة يمكن للعامل أن يتفق مع صاحب الأرض والبذر على استخدام الأرض في زراعة ذلك البذر، ومقاسمة الناتج بينهما. وفي عقد المساقاة يمكن للعامل أن يعقد مع صاحب الأشجار عقدا يتعهد فيه بسقيها في مقابل منحه نسبة مئوية في الثمرة. وفي عقد المضاربة يسمح للعامل بأن يتجر لصاحب المال ببضاعته على أن يقاسمه أرباح تلك البضاعة. وفي الجعالة يجوز لتاجر الأخشاب مثلا أن يعلن استعداده لمنح أي شخص يصنع سريرا من تلك الأخشاب نصف قيمة السرير، فتصبح مكافأة العامل بموجب ذلك مرتبطة بمصير العملية التي يمارسها.
وفي كلا الأسلوبين لتحديد مكافأة العامل لا يجوز لصاحب المال أن يضع عليه شيئا من الخسارة، بل يتحمل صاحب المال الخسارة كلها، وحسب العامل من الخسارة إذا ارتبط معه على أساس المضاربة أن تضيع جهوده سدى.
وأما أدوات الإنتاج - أي الأشياء والآلات التي تستخدم خلال العملية، كالمغزل والمحراث مثلا إذ يستعملان في غزل الصوف وحرث الأرض - فمكافأتها تنحصر شرعا في أسلوب واحد وهو الاجر، فإذا أردت أن تستخدم محراثا يملكه غيرك أو
586

شبكة توجد عند شخص خاص، فلك أن تستأجر المحراث أو الشبكة من صاحبها كما مر في الفقرة الثانية من البناء العلوي المتقدم، وليس لصاحب المحراث أو الشبكة أن يطالب بمكافأة عن طريق إشراكه في الأرباح. فالتمتع بنسبة مئوية من الربح الذي سمح به للعمل حرمت منه أدوات الإنتاج فليس من حق مالك الأداة أن يضارب عاملا عليها أي أن يدفع اليه شبكة الصيد مثلا ليصطاد بها ويشاركه في الأرباح، كما رأينا في الفقرة (10) من البناء العلوي، كما لا يصلح لمن يملك محراثا وبقرا أو آلة زراعية أن يزارع عليها، فيدفعها إلى المزارع ليستخدمها في عملياته ويقاسمه الناتج، كما سبق في الفقرة (3) من البناء، إذ عرفنا من نص فقهي للشيخ الطوسي أن عقد المزارعة إنما يقوم بين فردين أحدهما يتقدم بالأرض والبذر والآخر يتقدم بالعمل، فلا يكفي لانجازه أن يقوم الأول بدفع أداة الإنتاج فحسب وكذلك الامر في الجعالة أيضا، التي كانت تسمح لصانع الأسرة الخشبية أن يشارك صاحب الخشب في الأرباح، كما تقدم في فقرة (8) فان صاحب الخشب يمكنه أن يجعل نصف الأرباح لكل من يعمل من خشبة أسرة، ولكن لم يسمح له بجعالة يمنح فيها نصف الأرباح لمن يزوده بأدوات الإنتاج، التي يحتاجها في تقطيع الخشب وتركيب السرير منه، لأن الجعالة في الإسلام عبادة عن مكافأة يحددها الشخص مسبقا على عمل يود تحقيقه، وليس مكافأة على أي خدمة مهما كان نوعها.
وعلى أي حال فأداة الإنتاج لا تساهم في الأرباح وإنما تتقاضى الأجور فقط. فالكسب الناتج عن ملكية الأداة أضيق حدودا من الكسب الناتج عن العمل، لأنه ذو لون واحد بينما سمح للعمل بأسلوبين من الكسب.
وعلى العكس من أدوات الإنتاج رأس المال التجاري، فإنه لم يسمح له بالكسب على أساس الأجور، فلا يجوز لصاحب النقد أن يقرض نقده بفائدة، أي ان يدفعه للعامل ليتاجر به ويتقاضى من العامل أجرا على ذلك، لأن الأجر يتمتع بميزة الضمان، وعدم الارتباط بنتائج العملية وما تكتنفها من خسائر وأرباح، وهذا هو الربا المحرم شرعا كما مر في فقرة (7). وإنما يجوز لصاحب النقد أو السلعة أن
587

يدفع ماله إلى العامل ليتاجر به ويتحمل وحده الخسارة بينما يقاسمه الأرباح بنسبة مئوية إذا حققت المالية ربحا فالمشاركة في الربح مع تحمل أعباء الخسارة هو الأرباح بنسبة مئوية إذا حققت العملية ربحا فالمشاركة في
الربح مع تحمل أعباء الخسارة هو الأسلوب الوحيد الذي سمح لرأس المال التجاري باتخاذه.
وبهذا نعرف أن أداة الإنتاج ورأس المال التجاري متعاكسان في الأسلوب المشروع للكسب، فلكل منهما أسلوبه بينما يجمع العامل الأسلوبين.
وأما الأرض فهي كأداة الإنتاج يسمح لها بالكسب على أساس الأجور ولا يسمح لها بالمشاركة في الناتج وأرباح العملية الزراعية.
صحيح أن صاحب الأرض في عقد المزارعة يساهم في الأرباح بنسبة مئوية، ولكنا عرفنا من النص الفقهي للشيخ الطوسي في الفقرة (3) أن عقد المزارعة إنما يسمح به بين شخصين أحدهما العامل والآخر هو الذي يقدم الأرض والبذر، فصاحب الأرض في عقد المزارعة هو مالك البذر أيضا على رأس الشيخ الطوسي - كما يبدو من النص المتقدم - وليست مشاركته في الناتج على أساس الأرض، بل على أساس ملكيته للمادة وهي البذر.
2 - الكسب يقوم على أساس العمل المنفق:
ومن اليسير علينا بعد تنسيق البناء العلوي وتلخيص ظواهره العامة أن نصل إلى الجانب المذهبي من النظرية، الذي يربط بين تلك الظواهر، ويوجد بينها، وان نعرف القاعدة التي تفسر ألوان الكسب الناتج عن ملكية مصادر الإنتاج، وتبرر السماح ببعضها والمنع عن البعض الآخر.
والقاعدة التي تجمع كل تشريعات البناء العلوي على الكشف عنها ومواكبتها، هي أن الكسب لا يقوم إلا على أساس انفاق عمل خلال المشروع فالعمل المنفق هو المبرر الأساسي الوحيد لحصول صاحبه على مكافأة من صاحب المشروع الذي أنفق العمل لحسابه، وبدون المساهمة من شخص بانفاق عمل لا مبرر لكسبه (1).

المبسوط للسرخسي ج 15، ص 78 وجواهر الكلام ج 27، ص 222.
588

ولهذه القاعدة مدلولها الإيجابي ومدلولها السلبي. فهي تقرر من ناحية إيجابية أن الكسب على أساس العمل المنفق جائز. وتقرر من ناحية سلبية الغاء الكسب الذي لا يقوم على أساس انفاق عمل في المشرع.
3 - الناحية الايجابية من القاعدة:
والناحية الايجابية تنعكس في أحكام الإجارة - فقرة (1 و 2) - فقد سمح للأجير الذي يستأجر للعمل في مشروع معين، أن يحصل على أجرة مكافأة له على عمله المنفق في ذلك المشروع.
وسح لمن يملك أداة إنتاج أن يدفعها إلى فرد آخر لاستخدامها في مشروعه لقاء أجر معين يحصل عليه مالك الأداة من صاحب المشروع، نظرا إلى أن الأداة تجسد عملا مختزنا يتحلل ويتفتت خلال استخدامها في عملية الإنتاج، فالمغزل مثلا تجسيد لعمل معين جعل من قطعة الخشب الاعتيادية أداة للغزل. وهذا العمل المختزن فيه ينفق ويستهلك تدريجيا خلال عمليات الغزل، فيكون لصاحب المغزل الحق في الحصول على كسب نتيجة لاستهلاك العمل المختزن في الأداة، فالأجرة التي يحصل عليها مالك الأداة هي من نوع الأجرة التي يحصل عليها الأجير. ومرد الأجرتين معا إلى كسب يقوم على أساس انفاق عمل خلال المشروع مع فارق في نوع العمل لأن العمل الذي ينفقه الأجير خلال المشروع عمل مباشر متصل به في لحظة انفاقه، فهو ينجز وينفق في وقت واحد واما العمل الذي يستهلك وينفق خلال استخدام أداة الإنتاج فهو عمل منفصل عن صاحب الأداة، قد تم إنجازه وإعداده سابقا لكي ينفق ويستهلك بعد ذلك في عمليات الإنتاج. وبهذا نعرف أن العمل المنفق الذي اعتبرته النظرية مصدرا وحيدا للكسب ليس هو العمل المباشر فحسب بل يشمل العمل المختزن أيضا، فما دام هناك انفاق واستهلاك للعمل فمن حق صاحب العمل المنفق أن يحصل على المكافأة التي يتفق عليها مع صاحب المشروع، سواء كان العمل الذي يستهلكه المشروع مباشرا أم منفصلا.
589

وعلى أساس هذا التحديد للعمل المنفق الذي يضم كلا النوعين نستطيع أن نضيف إلى أدوات الإنتاج الدار التي سمح الإسلام لصاحبها بإيجارها والحصول على كسب نظير انتفاع الآخرين بها، فان الدار هي الأخرى أيضا مختزن لعمل سابق ناجز يستهلكه ويبدده الانتفاع بالدار ولو في مدى بعيد فيكون لصاحب الدار الحق في الحصول على مكافأة لقاء العمل المختزن في الدار الذي يستهلكه المستأجر خلال الانتفاع بها.
وكذلك أيضا الأرض الزراعية التي يدفعها صاحبها إلى المزارع نظير أجرة، فان صاحب الأرض، يستمد حقه فيها من العمل الذي بذله عليها لاحيائها وتذليل تربتها واعدادها، ويزول حقه حين يستهلك هذا العمل وتزول آثاره، كما مر في نصوص: فقهية متقدمة، فمن حقه ما دام له عمل مجسد وجهد مختزن في الأرض أن يتقاضى أجرة من المزارع لقاء انتفاعه بها واستثماره لها لأن استغلال المزارع للأرض يستهلك شيئا من العمل الذي بذل فيها خلال عمليات الاحياء.
فالأجرة في الحدود المسموح بها في النظرية تقوم دائما على أساس عمل لفرد يستهلكه آخر خلال مشروع فيدفع أجرة لصاحب الملك المستهلك في مقابل ذلك، ولا فرق بين أجرة العمل وأجرة أدوات الإنتاج والعقار والأرض الزراعية في هذا الأساس، وإن اختلفت طبيعة الصلة التي تربط صاحب الأجرة بالعمل، فالعمل المأجور جهد مباشر يقوم الأجير بايجاده واستهلاكه لحساب صاحب المشروع خلال عملية الإنتاج، وأما العمل المختزن في أداة الإنتاج مثلا فهو جهد قد تم انفصاله عن العامل، واختزانه في الأداة في زمان سابق، ولهذا يباشر استهلاكه خلال المشرع شخص آخر غير العامل. فالأجرة التي يتسلمها الأجير هي أجرة على عمل آني حققه واستهلكه
الأجير بنفسه. والأجرة التي يستلمها صاحب الأداة هي في الحقيقة أجرة على عمل سابق، اختزنه صاحب الأداة في أداته، واستهلكه صاحب المشروع في عمليته.
هذا هو المدلول الايجابي للقاعدة التي تفسر الكسب الناتج عن ملكية مصادر الإنتاج. وقد عرفنا أن هذا المدلول ينعكس في جميع المجالات التي يسمح فيها بالأجرة والكسب نتيجة لملكية المصادر المنتجة.
590

4 - الناحية السلبية من القاعدة:
وأما المدلول السلبي الذي يلغي كل كسب لا يبرره عمل منفق خلال العملية فهو واضح في النصوص والاحكام، فقد سبق في النص التشريعي (ح) من الفقرة العاشرة أن الراعي إذا اشترى مرعى بخمسين درهما، فليس له أن يبيعه بأكثر من خمسين، إلا أن يكون قد عمل في المرعى عملا، حفر بئرا أو شق نهرا أو تعنى فيه برضا أصحاب المرعى، فلا بأس ببيعه بأكثر مما اشتراه، لأنه قد عمل فيه عملا فبذلك يصلح له.
وهذا النص يقرر المدلول السلبي للقاعدة بوضوح، لأنه يمنع الراعي من الحصول على كسب نتيجة لبيع المرعى أو إيجاره بثمن يزيد على ما دفعه إلى أصحاب المرعى الأولين أو إيجاره بثمن يزيد على ما دفعه بهذا الكسب أو الاجر ما لم يبذل جهدا يبرر حصوله عليه من حفر بئر أو شق نهر وما إليها من أعمال.
ويؤكد النص في النهاية أنه إذا عمل في المرعى عملا، فهو يستمد مبرر كسبه والتفاوت الذي يحصل عليه من العمل الذي قدمه. (لأنه قد عمل فيه عملا فبذلك يصلح له).
وكأن النص بهذا التعليل والربط بين الكسب والعمل أراد التأكيد على المدلول السلبي للقاعدة، فبالعمل يصلح للراعي الحصول على كسب جديد في مرعاه، ولا يصلح له ذلك بدون العمل. ومن الواضح أن هذا التعليل يعطي النص معنى القاعدة، ولا يبقى مجرد حكم في قصة راعي ومرعى، بل يمد مدلوله حتى يجعله أساسا عاملا للكسب (1).

(1) فهو نظير قول القائل لا تتبع زيدا في فتواه إلا إذا كان مجتهدا فإذا كان مجتهدا جاز لك اتباع رأيه لأنه مجتهد فبسبب اجتهاده جاز لك اتباعه فان المفهوم عرفا من هذا القول أن جواز اتباع الرأي مرتبط دائما بالاجتهاد فكما لا يجوز اتباع رأس زيد إذا لم يكن مجتهدا كذلك لا يجوز اتباع رأي غيره في هذه الحالة وبكلمة أخرى أن العرف يلغي خصوصية مورد الحكم المعلل بقرينة التعليل ويجعل الربط بين الكسب والعمل أو بين الاتباع والاجتهاد قاعدة عامة.
591

فالكسب بموجب هذا النص لا يجوز بدن عمل مباشر، كعمل الأجير أو منفصل مختزن، كما في أدوات الإنتاج والعقارات ونحوها.
وتشع هذا الحقيقة نفسها في النص - ب - من الفقرة (10) إذ منع الشخص الذي يستأجر الأرض بألف درهم أن يؤآجرها بألفين من دون عمل يبذله فيها. وأردف المنع بالقاعدة التي تفسره، والعلة العامة التي يقوم على أساسها المنع، فقال: لأن هذا مضمون.
وبموجب هذا التعليل والتفسير، الذي يرتفع بالحكم عن وصفه حكما في واقعه إلى مستوى قاعدة عامة، لا يسمح لأي فرد بأن يضمن لنفسه كسبا بدون عمل لأن العمل هو المبرر الأساسي للكسب في النظرية (1).
فالمدلول السلبي للقاعدة تقرره النصوص مباشرة، كما ترتبط به عدة أحكام من البناء العلوي المتقدم.
فمن تلك الاحكام منع المستأجر للأرض أو الدار أو أي أداة إنتاج عن إيجارها بأجرة أكبر مما كلفه استئجارها ما لم ينفق عليها عملا، لأن ذلك يجعله يكسب التفاوت بدون علم منفق متصل أو منفصل. فإذا استأجر الشخص دارا بعشرة دنانير وآجرها بعشرين، خرج من ذلك بعشر دنانير مكسبا خالصا بدون عمل منفق فكان من الطبيعي الغاؤه على أساس القاعدة التي اكتشفناها.
ومن الاحكام التي ترتبط بالقاعدة أيضا منع الأجير عن استئجار غيره لقيام بالمهمة التي استؤجر عليها بأجرة أقل مما حصل عليه كما مر في الفقرة (12). فمن استؤجر لخياطة ثوب مثلا بعشرة دراهم لا يجوز له أن يستأجر شخصا آخر لهذا المهمة نظير ثمانية دراهم، لأن هذا يؤدي إلى احتفاظه بالتفاوت بين الأجرتين، والحصول على درهمين بدون عمل، فحرمت الشريعة ذلك تطبيقا بمدلولها السلبي، الذي يرفض ألوان الكسب التي لا تقوم على أساس العلم. وإنما أجيز

(1) راجع الملحق رقم 15.
592

للخياط الذي استأجره صاحب الثوب أن يستأجره غيره بثمانية دراهم للقيام بالمهمة ويحافظ لنفسه بدرهمين في حالة واحدة وهي ما إذا كان قد مارس بنفسه جزءا من العملية، وأنجز مرحلة من الخياطة التي استؤجر عليها، ليكون الظفر بدرهمين نتيجة لعمل منفق على الثوب.
وحكم ثالث نجده في البناء العلوي مرتبطا أيضا بالقاعدة ومدلولها السلبي، وهو ما مر بنا في الفقرة السادسة من منع صاحب المال عن تضمين العامل في عقد المضاربة، بمعنى أن التاجر إذا أراد أن يدفع رأس ماله التجاري - كنقود وسلعة - إلى عامل ليتجر به على أساس اشتراكهما في الأرباح فليس له أن يكلف العامل بتعويض عن الخسارة إذا اتفق وقوعها.
وتوضيح هذا المعنى أن صاحب المال في سلوكه مع العامل بين طريقتين:
أحدهما: أن يمنح ملكية المال التجاري للعامل بعوض محدد يدفعه العامل بعد انتهائه من العلمية التجارية، وفي هذه الحالة يصبح العامل ضامنا للعوض المتفق عليه، ومسؤولا عن دفعه - مع توفر سائر الشروط الشرعية - سواء أسفر عمله التجاري عن ربح أم مني بخسارة، لكن صاحب المال في هذه الحالة لا يشارك العامل في الأرباح، وليس له حق إلا في العوض المتفق عليه، لأن المال التجاري أصبح ملكا للعامل، فالربح كله يعود اليه لأنه هو الذي يملك المادة. ولهذا جاء في الحديث كما سبق في ف (12) أن من ضمن تاجرا - أي عاملا يتجر بالمال - فليس له إلا رأس ماله.
والطريق الآخر هو أن يحتفظ صاحب المال لنفسه بملكية المال التجاري ويستخدم العامل للاتجار به على أساس اشتراكه في الربح. وفي هذه الحالة سيصبح لصاحب المال حق في الربح، لأن المال ماله، ولكن لا يجز له أن يكلف العامل في العقد بتعويض عن الخسارة. وهذا هو الحكم الذي أشرنا إلى ارتباطه بالقاعدة التي نمارس الآن اكتشافها من خلال البناء العلوي، وذلك لأن الخسارة في التجارة لا تعني استهلاك العامل خلال العملية التجارية لعمل منفصل لصاحب المال كان قد اختزنه في ماله، كما هي الحال بالنسبة إلى صاحب الدار أو أداة الإنتاج، الذي يجوز
593

له السماح لك بالانتفاع بداره أو أدواته واعتبارك ضامنا لما تستهلكه منها خلال الانتفاع، فأنت حين تنتفع بدار شخص آخر أو أداته فترة من الزمن سوف تستهلك منها شيئا، وبالتالي تستهلك قسطا من العمل المختزن فيها، فلصاحب الدار، والأداة أن يطالبك بتعويض عما استهلكته، ويكون هذا التعويض الذي يظفر به المالك منك قائما على أساس عمل منفق. وأما حين تسلم من صاحب المال مئة دينار للاتجار بها على أساس اشتراكك في الربح، فتشتري بها مئة قلم، ثم تضطر لهبوط ثمن القلم أو قيمت لأي سبب من الأسباب إلى بيع الأقلام بتسعين دينارا، فأنت غير مسؤول عن هذه الخسارة، ولا مكلف بدفع تعويض عن القدر الذي تفتت من المال، لأن هذا التفتت ليس نتيجة لاستهلاكك شيئا من المال ومن العمل المخزون فيه خلال العملية التجارية، وإنما هو نتيجة لهبوط القيمة التبادلية للأقلام، أو تنزل أسعارها في السوق، فليس المسألة هنا مسألة عمل مختزن لشخص استهلكته وأنفقته خلال انتفاعك به لكي يجب عليك تعويضه عنهن، بل العمل المختزن في المال التجاري لا يزال كما هو لم يتفتت ولم يستهلك، وإنما نقصت قيمته، أو انخفض سعره، فليس لصاحب المال عليك أن تعوضه، إذ لو حصل على شيء منك نظير ذلك لكان كسبا بدون عمل منفق، ولأدى إلى حصوله على كسب منك بدون أن تستهلك من عمله شيئا خلال الانتفاع، وهذا ما ترفضه القاعدة في مدلولها السلبي.
5 - ربط حرمة الربا بالناحية السلبية:
وكما يرتبط المنع عن فرض الضمان على العامل بالمدلول السلبي للقاعدة التي ندرسها، كذلك يمكننا أن نعتبر أيضا حرمة الربا لبنة من البناء العلوي الذي يرتكز على هذا المدلول السلبي للقاعدة، بل ان حرمة الربا من أهم أجزاء ذلك البناء، وقد مرت بنا حرمة الربا في فقرة (9) من البناء العلوي المتقدم التي شرحت لنا تحريم الإسلام كل لون من ألوان القرض بفائدة. والفائدة تعتبر في العرف الرأسمالي الذي يسمح لها أجرة رأس المال النقدي الذي يسلفه الرأسماليون
594

للمشاريع التجارية وغيرها لقاء أجر سنوي يحدد بنسبة مئوية من المال المسلف، ويطلق على هذا الاجر اسم الفائدة. ولا يختلف في مفهومه القانوني كثيرا عن الأجر الذي يحصل عليه أصحاب العقارات أو أدوات الإنتاج نتيجة لإيجار تلك العقارات والأدوات. فكما يمكنك أن تستأجر دارا تسكنها برهة من الوقت ثم تدفعها إلى صاحبه مع أجرة معينة، كذلك يسمح لك في العرف الذي يؤمن بالفائدة أن تقتصر كمية من النقد لتستخدمها في أغراض تجارية أو استهلاكية ثم تدفع نفس الكمية أو كمية مماثلة مع أجرة محددة إلى الشخص الذي استقرضت المال منه.
والإسلام بتحريمه لقروض الفائدة وسماحه بالكسب الناتج عن إيجار العقارات وأدوات الإنتاج كشف لنا عن فرق نظري بين رأس المال النقدي وبين أدوات الإنتاج والعقارات. وهذا الفرق يجب تفسيره في ضوء النظرية، وعلى أساس القاعدة التي نمارس الآن اكتشافها، لنعرف السبب الذي دعا المذهب الاقتصادي إلى إلغاء أجرة رأس المال أو بكلمة أخرى الغاء الكسب المضمون الناتج من ملكية رأس المال النقدي، بينما يسمح بأجرة أدوات الإنتاج ويبيح الكسب المضمون الناتج عن ملكية هذه الأدوات. فلماذا جاز لمالك الأداة أن يجني من ورائها وعن طريق إيجارها كسبا مضمونا دون عناء، ولم يجز للرأسمالي أن يجدني من وراء نقده وعن طريق إقراضه كسبا مضمونا دون عناء؟ هذا السؤال الذي يتحتم علينا الجواب عنه فعلا.
والحقيقة أن الجواب على هذا السؤال لا يتوقف على أكثر من الرجوع إلى القاعدة بصيغتها التي اكتشفناها وبمدلولها الايجابي والسلبي. فالكسب المضمون - الاجر - الناتج عن ملكية أدوات الإنتاج يندرج في المدلول الإيجابي للقاعدة لأن الأداة مختزن لعمل سابق سوف يكون للمستأجر الحق في استهلاك قسط منه خلال استخدام الأداة في عملية الإنتاج التي يباشرها. فالأجرة التي يدفعها إلى صاحب الأداة في الحقيقة هي أجرة على عمل سابق وبالتالي تعتبر كسبا يقوم على أساس عمل منفق، فيجوز وفقا للقاعدة في مدلولها الإيجابي. وأما الكسبي المضمون الناتج عن ملكية رأس المال النقدي - الفائدة - فليس ما يبرره نظريا، لأن
595

التاجر الذي يستقرض ألف دينار لمشروع تجاري بفائدة معينة سوف يدفع ألف دينار الوقت المحدد إلى الدائن دون أن يستهلك منها ذرة. وفي هذه الحال تصبح الفائدة كسبا غير مشروع لأنه لا يقوم على أساس أي عمل منفق فيندرج في المدلول السلبي للقاعدة.
وهكذا نعرف أن الفرق بين الفائدة على رأس المال النقدي وبين الأجرة على أدوات الإنتاج في التشريع الإسلامي ناتج عن اختلاف بين طبيعة الانتفاع برأس المال المسلف وطبيعة الانتفاع بأدوات الإنتاج المستأجرة.
فانتفاع المقترض برأس المال لا يؤدي بطبيعته إلى استهلاك شيء منه أو من العمل المتجسد فيه، لأنه مسؤول
بحكم عقد القرض عن دفع المبلغ في الوقت المحدد والنقد الذي يدفع وفاء القرض في قوة النقد المقترض ومن أي تفاوت.
وأما انتفاع المستأجر بالأداة التي استأجرها خلال عملية الإنتاج مثلا فهو يؤدي إلى استهلاكها بدرجة ما، واستهلاك العمل المجسد فيها، ولأجل ذلك كان لصاحب الأداة أن يحصل على لكسب عن طريق إيجار الأداة بسبب العمل المنفق والجهد المستهلك خلال استخدام الأداة، ولم يكن للرأسمالي أن يحصل على كسب من هذا القبيل لأنه يسترجع ماله كما هو بدون استهلاك.
ويمكننا أن نضيف إلى مجموعة الأحكام التي قدمناها للكشف عن الترابط بين البناء والنظرية حكما آخر، سبق أن تقدم في فقرة (9)، وهو الحكم الذي يقضي بعدم السماح للعامل في عقد المضاربة بالانفاق مع عمل آخر على أن يقوم الأخر بالعمل لقاء نسبة مئوية من الأرباح أقل من النسبة التي حصل عليها العامل الأول. ومن الواضح أن المنع عن هذه العملية يتفق كل الاتفاق مع المدلول السلبي للقاعدة التي نمارس اكتشافها، وهو رفض الكسب الذي لا يقوم على أساس العمل المنفق، لأن العامل الأول حين ينجز العملية الآنفة الذكر سوف يحتفظ لنفسه بالتفاوت بين النسبتين المئويتين، ويكون هذا التفاوت كسبا بدون عمل منفق، فمن الطبيعي أن يلغى وفقا للقاعدة العامة.
596

6 - لماذا لا تشترك وسائل الإنتاج في الربح:
بقي علينا أن نواجه سؤالا أخيرا بشأن أحكام المشاركة في الأرباح من البناء العلوي المتقدم. ولنمهد لهذا السؤال باستخلاص المعلومات التي اكتشفناها حتى الآن. فقد عرفنا أن الكسب لا يسمح به في نظرية توزيع ما بعد الإنتاج في الإسلام إلا على أساس العمل المنفق، والعمل المنفق نوعان: عمل مباشر يوجد ويتفق في وقت واحد كعمل الأجير وعمل منفصل مختزن يوجد بصورة مسبقة وينفق خلال انتفاع المستأجر به، كالعمل المختزن في الدار أو أداة الإنتاج الذي ينفق ويستهلك خلال سكنى المستأجر فيها والانتفاع بها. وعرفنا أيضا أن ملكية رأس المال النقدي ليست مصدرا للكسب، ولأجل ذلك كان القرض بالفائدة محرما لأن الفائدة لا تقوم على أساس عمل منفق واستطعنا أن نستوعب جميع ألوان الأجور الثابتة، ما كان منها جائزا كأجرة الدار، وما كان منها محرما كالفائدة الربوية، ونطبق القاعدة بنجاح عليها بمدلولها الإيجابي والسلبي، ولكنا لم نقل حتى الآن شيئا عن تفسير غير الأجور الثابتة من ألوان الكسب التي عرضها البناء العلوي المتقدم، وأعني بذلك المشاركة في الربح، وربط المصير بنتائج العملية من فوز أو خسران، فالعمل في عقد المضاربة ليس له أجر ثابت يتقاضاه على كل حال من صاحب المال، وإنما هو شريك في الأرباح، فكسبه يتحدد ويتمدد وفقا لنتائج العملية، وكذلك العامل في عقد المزارعة أو في عقد المساقاة، فقد سمح له بالكسب على أساس المشاركة في الأرباح أو الناتج، كما سبق في فقرات (3 و 6 و 8) ولأجل هذا قلنا في مستهل البحث أن العمل قد سمح له بنوعين من الكسب: أحدهما الأجر والآخر المشاركة في الربح.
كما أن صاحب المال التجاري في عقد المضاربة، وصاحب الأرض في عقد المزارعة، وصاحب الشجر والأغصان في عقد المساقاة، قد سمح لهم أيضا بالكسب على أساس الربح، فلكل منهم نصيبه من الربح تبعا لما يتفق عليه في تلك العقود
597

كما سبق في الفقرات التي أشرنا إليها آنفا.
وفي مقابل هذا حرمت أدوات الإنتاج من المشاركة في الربح، ولم تسمح لهم الشرعية بالكسب على هذا الأساس، وإنما أعطتها فرصة الكسب على أساس الأجر الثابت. فمن يملك أداة الإنتاج ليس له أن يدفعها إلى العامل على أساس المشاركة في الناتج أو الربح كما سبق في فقرة (11) من البناء العلوي المتقدم، التي جاء فيها أن من يملك شبكة صيد أو أي آلة أخرى لا يجوز دفعها إلى العامل على أساس المشاركة فيما يصطاد، فإذا اصطاد بها العامل شيئا كان الصيد كله له ولم يكن لصاحب الشبكة شيء منه.
فهذه ظواهر واضحة في البناء العلوي. ومن حق البحث علينا أن نطرح بشأنها السؤال التالي:
لماذا سمح للعمل بالكسب على أساس المشاركة في الربح، ولم يسمح بذلك لأدوات الإنتاج؟ وكيف حرمت أدوات الإنتاج من هذا اللون من الكسب بينما أتيح لصاحب المال التجاري أو صاحب الأرض أو صاحب الشجر أن يحصل عليه
والحقيقة أن الفرق بين العمل وأدوات الإنتاج، الذي يسمح للعمل بالمشاركة في الناتج دون وسائل الإنتاج ينبع من نظرية توزيع ما قبل الإنتاج. فقد عرفنا في تلك النظرية أن العمل - ممارسة أعمال الانتفاع والاستثمار - هو السبب العام للحقوق الخاصة في ثروات الطبيعة الخام، ولا يوجد فمن وجهة نظر المذهب الاقتصادي سبب آخر للملكية واكتساب الحق الخاص فها. كما عرفنا أيضا أن الثروة الطبيعية إذا اكتسب فيها الفرد حقا خاص بممارسة العمل ظل حقه ثابتا ما دام نوع العمل الذي اكتسب على أساسه الحق باقيا. وفي هذه الحال لا يسمح لفرد آخر باكتساب حق خاص في تلك الثروة بإنفاق عمل جديد كما شرحته نظرية توزيع ما قبل الإنتاج بكل تفصيل. ولكن هذا لا يعني أن العمل الجديد يختلف بطبيعته عن العمل الأول بل أن كلا منهما يعتبر بمفرده سببا كافيا لتملك العامل للمادة التي عمل فيها. وإنما جرد العمل الجديد من التأثير باعتبار سبق العمل الأول زمنيا
وتأثيره قبل
598

ذلك في تملك العامل الأول للمادة فحق العامل الأول بسبب سبقه الزمني هو الذي يعزل العمل الثاني عن التأثير. ولأجل هذا يصبح من الطبيعي أن يستعيد العمل الثاني تأثيره ويؤدي مفعوله إذا تخلى العامل عن حقه وهذا هو ما يحدث تماما في عقود المزارعة والمساقاة والمضاربة والجعالة ففي عقد المزارعة مثلا ينفق العامل جهدا ويمارس عملا في استغلال البذر وتطويره إلى زرع. وهذا العمل يمارسه إنما لا يعطيه حق ملكية الزرع لأن المادة التي يمارس عمله فيها - البذر - مملوكة لشخص سابق، وهو صاحب الأرض. فإذا سمح صاحب الأرض للعامل في عقد المزارعة بأن يقتطف ثمار عمله وتنازل عن حقه في نصف المادة مثلا، لم يبق ما يحول عن تملك العامل لنصف الزرع.
وعلى هذا الأساس نعرف أن مشاركة العامل في الناتج هي في الحقيقة تعبير عن دور العمل الذي يمارسه في المادة - البذر أو الشجر أو المال التجاري مثلا - وعن الحق الذي ينتج عن ممارسته بموجب النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج. وإنما يعطل هذا الدور أو الحق أحيانا بسبب دور أو حق سابق زمنيا يتمتع به شخص آخر. فإذا تنازل هذا الشخص عن حقه في عقد كعقد المزارعة وغيرها من عقود الشركة بين العامل وصاحب المال، لم يعد ما يمنع عن إعطاء العامل حقه في المادة - وفي حدود تنازل مالكها السباق - نتيجة لممارسة العمل فيها.
وأما أدوات الإنتاج فهي تختلف أساسيا عن العمل الذي يمارسه العامل بموجب تلك العقود. فإن الزارع الذي ارتبط مع صاحب الأرض والبذر بعقد مزارعة يمارس عملا وينفق جهدا خلال عملية الزرع، فيكون من حقه أن يملكه في الحدود التي سمح بها في العقد، وأما مالك الشبكة الذي يدفعها إلى الصياد ليصطاد بها فهو لا يمارس عملا في علمية الصيد، ولا ينفق جهدا في الاستيلاء على لا الحيوان، وإنما الذي يمارس العمل وينفق الجهد هو الصياد وحده، فلا يوجد إذن مبرر لاكتساب صاحب الشبكة حق ملكية الصيد، لأن المبرر لذلك هو ممارسة العمل، وصاحب الشبكة لم يمارس عملا في الصيد ليحصل على هذا الحق وسماح الصياد له بهذا
599

الحق لا يكفي لمنحه إياه ما دام لا ينطبق على النظرية العامة في التوزيع، فليس حق الصياد هنا هو الذي يحول دون تملك صاحب الشبكة للصيد وإنما الذي يحول دون ذلك هو عدم وجود المبرر النظري.
وهكذا نعرف الفرق من هذه الناحية بين العمل المباشر والعمل المختزن فالعمل المباشر ممارسة من العامل للمادة تبرر تملكه لشيء منها، إذا تنازل مالكها السابق عن حق السبق الزمني. وأما العمل المختزن في أداة الإنتاج فهو ليس ممارسة من صاحب الأداة في العملية، فلا يكون له حق الملكية في المادة سواء تنازل الممارس للعمل - الصياد مثلا - عن حقه أم لا. وإنما له حق الأجرة كمكافأة وتعويض عما تبدد من عمله المختزن خلال العملية.
وعلى هذا الضوء نستطيع أن ندرك أيضا الفرق بين أصحاب أدوات الإنتاج الذين لم يسمح لهم بالمشاركة في الناتج، وبين صاحب الأرض في عقد المزارعة، وصاحب المال التجاري في عقد المضاربة، ونحوهما ممن يسمح له بنصيب من الربح، فإن هؤلاء المالكين الذين سمح لهم بنصيب من الربح أو الناتج يملكون في الحقيقة المادة التي يمارسها العامل. فصاحب الأرض يملك البذر الذي يزرعه العامل (1) وصاحب المال التجاري يملك السلعة التي يتجر بها العامل، وقد عرفنا في نظرية توزيع ما قبل الإنتاج أن ملكية شخص للمادة لا تزول بتطوير تلك المادة من قبل شخص آخر أو منحها منافع جديدة. فمن الطبيعي أن يصبح لصاحب البذر أو المال حقه في الناتج أو الربح ما دام يملك المادة التي يمارسها العامل (2).
واستقراء الحالات التي سمح فيها للمالك بتملك الناتج والربح كما في المزارعة والمضاربة والمساقاة ونحوها يدعم صحة التفسير الذي نتقدم به لهذه الملكية لأن جميع تلك الحالات تشترك في ظاهرة واحدة وهي أن المادة التي يمارسها العامل ملك لصاحب المال بصورة مسبقة.

(1) بموجب النص الفقهي المتقدم عن الشيخ الطوسي.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 26، ص 364، وج 27، ص 76.
600

الملاحظات
1 - دور المخاطر في الاقتصاد الإسلامي
إن الاكتشافات التي مرت عن نظرية توزيع ما بعد الإنتاج، تقرر بوضوح أن النظرية لا تعترف بالمخاطرة بوصفها عاملا من عوامل الكسب، وليس في ألوان الكسب التي سمحت بها النظرية ما يستمد مبرره النظري من عنصر المخاطرة.
فان المخاطرة في الحقيقة ليست سلعة يقدمها المخاطر إلى غيره ليطالب بثمنها، ولا عملا ينفقه المخاطر على مادة ليكون من حقه تملكها أو المطالبة بأجر على ذلك من مالكها، وإنما هي حالة شعورية خاصة تغمر الانسان وهو يحاول الاقدام على أمر يخاف عواقبه، فإما أن يتراجع انسياقا مع خوفه، واما أن يتغلب على دوافع الخوف ويواصل تصميمه، فيكون هو الذي رسم لنفسه الطريق، واختار بملء ارادته تحمل مشاكل الخوف بالاقدام على مشروع يحتمل خسارته مثلا، فليس من حقه أن يطالب بعد ذلك بتعويض مادي عن هذا الخوف ما دام شعورا ذاتيا وليس عملا مجسدا في مادة ولا سلعة منتجة.
صحيح أن التغلب على الخوف في بعض الأحيان، قد يكون ذا أهمية كبيرة من الناحية النفسية والخلفية، ولكن
التقييم الخلقي شيء، والتقييم الاقتصادي شيء آخر.
وقد وقع الكثير في الخطأ تأثرا بالتفكير الرأسمالي المذهبي، الذي يتجه إلى تفسير الربح وتبريره على أساس المخاطرة، فقالوا: إن الربح المسموح به لصاحب المال في
601

عقد المضاربة يقوم على أساس المخاطرة وعرض نفسه للخسارة بدفعه المال إلى العامل ليتجر به فكان على العامل أن يكافئه على مخاطرته بنسبة مئوية من الربح يتفقان عليها في عقد المضاربة.
ولكن الحقيقة كما جلتها البحوث السابقة، هي ان الربح الذي يحصل عليه المالك نتيجة لاتجار العامل بأمواله، ليس قائما على أساس المخاطرة. وإنما يستمد مبرره من ملكية صاحب المال للسلعة التي اتجر بها العامل. فان هذه السلعة وإن كانت قيمتها تزداد غالبا بالعمل التجاري الذي ينفقه العامل عليها، من نقلها إلى السوق واعدادها بين أيدي المستهلكين، ولكنها تبقى مع ذلك ملكا لصاحب المال، لأن كل مادة لا تخرج عن ملكيتها لصاحبها مع ذلك ملكا لصاحب المال، لأن كل مادة لا تخرج عن ملكيتها لصاحبها بتطوير شخص آخر لها. وهذا ما أطلقنا عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية.
فحق صاحب المال في الربح نتيجة لملكيته للمادة التي مارسها العامل وربح عن طريق بيعها، فهو نظير حق مالك اللوح في السرير الذي يصنع من لوحه.
ولأجل هذا يعتبر الربح من حق صاحب المال ولو لم يمارس نفسيا أي لون من ألوان المخاطرة، كما إذا اتجر شخص بأموال فرد آخر دون علمه وربح في تجارته، فإن بامكان صاحب المال في هذه الحالة أن يوافق على ذلك ويستولي على الأرباح، كما أن من حقه أن يعترض ويستحصل على ماله أو ما يساويه من العامل.
فاستيلاء المالك على الأرباح في هذا المثال لا يقوم على أساس المخاطرة لأن ماله مضمون على أي حال. وإنما خاطر العامل باقدامه على ضمان المال والتعويض عنه في حالة الخسارة.
وهذا يعني أن حق صاحب المال في الربح ليس من الناحية النظرية نتيجة للمخاطرة، ولا تعويضا عنها، أو مكافأة لصاحب المال على مقاومته لمخاوفه، كما نقرأ عادة لكتاب الرأسمالية التقليدية الذين يحاولون أن يضفوا على المخاطرة سمات البطولة، ويجعلوا منها سببا مبررا للحصول على كسب في مستوى هذه البطولة.
602

وهناك عدة ظواهر في الشريعة تبرهن على موقفها السلبي من المخاطرة، وعدم الاعتراف لها بدور إيجابي في تبرير الكسب.
فالفائدة الربوية مثلا قد اعتاد الكثير على تبريريها وتفسيرها بعنصر المخاطرة، الذي يشتمل عليه القرض - كما سنتناول ذلك في الملاحظة الآتية - لأن إقراض الدائن لماله نوع من المغامرة التي قد تفقده ماله، إذا عجز المدين في المستقبل عن الوفاء وتنكب له الحظ، فلا يظفر الدائن بشيء. فكان من حقه أن يحصل على أجر ومكافأة له على مغامرته بماله لأجل المدين. وهذه المكافأة هي الفائدة.
والإسلام لم يقر هذا اللون من التفكير، ولم يجد في المخاطرة المزعومة مبررا للفائدة التي يحصل عليها صاحب المال من المدين. ولهذا حرمها تحريما حاسما (1).
وحرمة القمار وتحريم الكسب القائم على أساسه جانب آخر من جوانب الشرعية التي تبرهن على موقفها السلبي من عنصر المخاطرة (2). لأن الكسب الناتج عن المقامرة لا يقوم على أساس عمل من أعمل الانتفاع والاستثمار، وإنما يرتكز على أساس المخاطرة وحدها، فالفائز يحصل على الرهان لأنه غامر بماله وأقدم على دفع الرهان لخصمه، إذا خسر الصفقة.
ويمكننا أن نضيف إلى إلغاء القمار، والغاء الشركة في الأبدان أيضا، فقد نص كثير من الفقهاء على بطلانها، كالمحقق الحلي في الشرائع وابن حزم في المحلى (3).
ويريدون بهذه الشركة أن يتفق اثنان أو أكثر على ممارسة كل واحد منهم عمله الخاص، والاشتراك فيما يحصلون عليه من مكاسب، كما إذا قرر طبيبان أن يمارس كل واحد منهما عمله في عيادته، ويحصل في نهاية الشهر مثلا على نصف مجموع الأجور التي كسبها الطبيبان معا خلال ذلك الشهر.
والغاء هذه الشركة يتفق مع الموقف السلبي العام للشريعة من عنصر المخاطرة،

(1) لاحظ الوسائل ج 11، ص 252، الحديث 20629.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 22، ص 25.
(3) لاحظ شرائع الإسلام ج 2، ص 106، والمحلى ج 8، ص 122.
603

لأن الكسب فيها يقوم على أساس المخاطرة لا العمل. فالطبيبان في المثال المتقدم إنما يتقدمان على هذا النوع من الشركة، لأنهما لا يعلمان سلفا كمية الأجور التي سوف يحصلان عليها. فكل واحد منهما يحتمل أن أجور صاحبه سوف تزيد على أجوره. كما يحتمل العكس، ولهذا يقدم على الشركة موطنا نفسه على التنازل عن شيء من أجوره إذا زادت على أجور صاحبه في حالة تفوق شريكه عليه. ونتيجة لذلك يكون من حق الطبيب الأقل دخلا أن يحصل على جزء من كسب الطبيب الآخر وثمار عمله، لأنه غامر في البدء وأقدم على دفع شيء من كسبه، إذا اختلفت النتيجة. وهذا يعني أن كسب الطبيب الأقل دخلا ينبع من عنصر المخاطر، ولا يرتكز على عمل منفق. فالغاء الشريعة له وحكمها ببطلان شركة الأبدان تؤكد مفهومها السلبي عن المخاطرة.
2 - المبررات الرأسمالية للفائدة ونقدها
مر بنا قبل لحظة أن المخاطرة التي يقف منها الإسلام موقفا سلبيا، هي أحد المبررات التي استندت إليها الرأسمالية لتفسير الفائدة وحق الرأسمالي في فرضها على المدين.
وعرفنا أيضا أن تبري الفائدة بعنصر المخاطرة خطأ من الأساس في نظر الإسلام. لأنه لا يعتبر المخاطرة أساسا مشروعا للكسب، وإنما يربط الكسب بالعمل المباشر أو المختزن.
والرأسمالية في تبريرها هذا للفائدة تتناسى دور الرهن في ضمان المال للدائن وإزالة عنصر المخاطرة من عملية القرض، فما رأيها في القروض المدعمة برهن وضمانات كافية؟.
ولم يقتصر المفكرون الرأسماليون على بط الفائدة بعنصر المخاطرة وتفسيرها في هذا الضوء، بل قدموا لها عدة تفسيرات لتبريرها من الناحية المذهبية.
فقد قال بعض المفكرين الرأسماليين، ان الفائدة يدفعها المدين إلى الرأسمالي تعويضا له عن حرمانه من الانتفاع بالمال المسلف، ومكافأة له على انتظاره طيلة المدة
604

المتفق عليها، أو أجرة يتقاضاها الرأسمالي نظير انتفاع الدين بالمال الذي اقترضه منه، كالأجرة التي يحصل عليها مالك الدار من المستأجر لقاء انتفاعه بسكناها.
ونحن ندرك في ضوء النظرية الإسلامية - كما حددناها - التناقض بين هذه المحاولة وطريقة التفكير الإسلامي في التوزيع. لأننا عرفنا أن الإسلام لا يعترف بالكسب تحت اسم الاجر أو المكافأة إلا على أساس انفاق عمل مباشر أو مختزن. وليس للرأسمالي عمل مباشر أو مختزن ينفقه ويمتصه المقترض ليدفع إليه أجرة ذلك، ما دام المال المقترض سوف يعود إلى الرأسمالي، دون أن يتفتت أو يستهلك منه شيء، فلا مبرر إسلاميا للاعتراف بالفائدة، لأن الكسب بدون عمل منفق يتعارض مع تصورات الإسلام عن العدالة.
وهناك من يبرر الفائدة بوصفها تعبيرا عن حق الرأسمالي في شيء من الأرباح، التي جناها المقترض عن طريق ما قدم اليه من مال.
وهذا القول لا موضع له في القروض التي نفقها المدين على حاجاته الشخصية، ولا يربح بسببها شيئا، وإنما يبرهن على جواز حصول الرأسمالي على شيء من الأرباح حين يدفع المال إلى من يتجر به ويستثمره. وفي هذه الحالة يقر الإسلام حق الرأسمالي في ذلك، ولكن هذا الحق يعني اشتراك صاحب المال والعامل في الأرباح، وربط حق الرأسمالي بنتائج العملية. وهو معنى المضاربة في الإسلام التي يتحمل فيها الرأسمالية الخسارة وحدها، ويشارك العامل في الأرباح، إذا حصلت بنسبة مئوية يتفقان عليها في العقد.
وهذا يختلف بصورة جوهرية عن الفائدة بمفهومها الرأسمالي التي تضمن له أجرا ثابتا منفصلا عن نتائج العملية التجارية.
وجاءت الرأسمالية أخيرا على يد بعض رجالاتها بأقوى مبرراته للفائدة، إذ فسرتها بوصفها تعبيرا عن الفارق بن قيمة السلع الحاضرة وقيمة سلع المستقبل، اعتقادا منها بأن للزمن دورا إيجابيا في تكوين القيمة، فالقيمة التبادلية لدينار اليوم أكبر من القيمة التبادلية لدينار المستقبل، فإذا أقرضت غيرك دينارا إلى سنة، كان من
605

حقك في نهاية السنة أن تحصل على أكثر من دينار، لتسترد بذلك ما يساوي القيمة التبادلية للدينار الذي أقرضته، وكلما بعد ميعاد الوفاء ازدادت الفائدة التي يستحقها الرأسمالي تبعا لازدياد الفرق بين قيمة الحاضر وقيمة المستقبل، بامتداد الفاصل الزمني بينها وابتعاده.
والفكرة في هذا التبرير الرأسمالي، تقوم على أساس خاطئ. وهو ربط توزيع ما بعد الإنتاج بنظر القيمة. فإن نظرية توزيع ما بعد الإنتاج في الإسلام منفصلة عن نظرية القيمة. ولهذا رأينا أن كثيرا من العناصر التي تدخل في تكوين القيمة التبادلية للسلعة المنتجة، ليس لها نصيب من تلك السلعة في التوزيع الإسلامي، وإنما لها أجور تتقاضاها من صاحب السلعة، نظير خدماتها له في علمية الإنتاج.
فالتوزيع على الأفراد في الإسلام لا يرتكز على أساس القيمة التبادلية، لكي يمنح كل عنصر من عناصر الإنتاج نصيبا من الناتج يتفق مع دوره في تكوين القيمة التبادلية، وإنما يرتبط توزيع الثروة المنتجة في الإسلام بمفاهيمه المذهبية وتصوراته عن العدالة.
فلا يجب من وجهة نظر الإسلام أن يدفع إلى الرأسمالي فائدة على القرض حتى إذا صح أن سلع الحاضر أكبر قيمة من سلع المستقبل (1)، لأن هذا لا يكفي مذهبيا لتبرير الفائدة الربوية التي تعبر عن الفارق بين القيمتين، ما لم تتفق الفائدة مع التصورات التي يتبناها المذهب عن العدالة.
وقد عرفنا سابقا أن الإسلام لا يقر من الناحية المذهبية كسبا لا يبرره انفاق عمل مباشر أو مختزن. والفائدة من هذا القبيل لأنها تبعا للتفسير الرأسمالي الأخير نتيجة لعامل الزمن وحده دون عمل منفق. فمن حق المذهب أن يمنع الرأسمالي عن استغلال الزمن في الحصول على كسب ربوي حتى لو اعترف المذهب بدور إيجابي لعامل الزمن في تكوين القيمة.
وهكذا نعرف أن ربط عدالة التوزيع بنظرية القيمة خطأ، وهذا الخطأ يعبر عن عدم التمييز بين البحث المذهبي والبحث العلمي. ‌‌‌‌

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 26، ص 337، وج 27، ص 204.
606

3 - التحديد من سيطرة المالك على الانتفاع
في الإسلام تحديدات متعددة لسيطرة المالك على التصرف في ماله وهذه التحديدات تختلف مصادرها النظرية، فبعضها نابع عن نظرية توزيع ما قبل الإنتاج، كالتحديد الزمني لسيطرة المالك على ماله بامتداد حياته، ومنعه
عن تقرير مصير الثروة التي يملكها بعد وفاته، كما سبق في بحوث تلك النظرية.
وبعض تلك التحديدات، نتيجة لنظرية توزيع ما بعد الإنتاج، كالتحديد من سيطرة الرأسمالي على رأس المال الذي يملكه، بمنعه من الاكتساب به على أساس ربوي، وعدم السماح له بقروض الفائدة، فإن هذا التحديد قد نشأ نتيجة لنظرية توزيع ما بعد الإنتاج، التي اشتملت على ربط الكسب بالعمل المنفق - المباشر أو المختزن - كما رأينا قبل قليل.
وهناك تحديدات في الاقتصاد الإسلامي، ترتبط بالمفهوم الديني والخلقي عن الملكية الخاصة، فإن حق الفرد في التملك ينظر اليه دينيا وخلقيا بوصفه نتيجة لعضوية الفرد في الجماعة التي أعد الله الطبيعة وثرواتها لها وفي خدمتها، فلا يجوز أن تنقض الملكية الخاصة على أساسها، وتصبح عاملا من عوامل الاضرار بالجماعة وسوء حالها، لأنها بذلك تخرج عن وصفها مظهرا من مظاهر انتفاع الجماعة، وحقا للفرد بوصفه عضوا في الجماعة التي أعدت ثروات الكون لانتفاعها، فمن الطبيعي على هذا الأساس أن تحدد سيطرة المالك على التصرف في ماله، بعدم استغلالها فيما يضر الآخرين ويسئ إلى الجماعة (1).
وعلى العكس من ذلك حق الملكية على أساس رأسمالي، فإنه لا ينظر اليه بوصفه مظهرا من مظاهر انتفاع الجماعة، وإنما يعبر رأسماليا عن حق الفرد في أكبر نصيب ممكن من الحرية في جميع المجالات، فمن الطبيعي أن لا يحدد إلا بحرية الآخرين،

(1) لاحظ مستمسك العروة ج 13، ص 543، والميزان ج 4، ص 170.
607

فللفرد أن يستغل أمواله كيف يشاء ما لم يسلب الآخرين حريتهم الشكلية (1).
فإذا كنت تملك مثلا مشروعا ضخما، فبإمكانك على أساس المفهوم الرأسمالي عن الملكية الخاصة أن تتبع في مشروعك مختلف الأساليب التي تتيح لك القضاء على المشاريع الصغيرة، والقذف بها خارج نطاق السوق، بشكل يؤدي إلى دمارها وضرر أصحابها، لأن ذلك لا يتعارض مع حريتهم الشكلية التي تحرص الرأسمالية على توفيرها للجميع (2).

(1) لتوضيح معنى الحرية الشكلية والحرية الحقيقة راجع ص 259 من اقتصادنا الكتاب الأول.
(2) تصرف المالك في ماله بشكل يؤدي إلى الاضرار بالآخرين على نوعين:
أحدهما: التصرف الذي يضر شخصا آخر ضررا ماليا مباشرا، بانقاض شيء من أمواله، كما إذا حفرت في أرض لك حفيرة تؤدي إلى انهدام دار مجاورة لفرد آخر.
والآخر: التصرف المضر بشكل غير مباشر الذي يؤدي إلى سوء حالة الآخرين، دون أن ينقض فعلا شيئا من أموالهم، كالأساليب التي يتبعها المشروع الرأسمالي الكبير في تدمير المشاريع الصغيرة، فان هذه الأساليب لا تفقد صاحب المشروع الصغير شيئا من بضاعته التي يملكها فعلا، وإنما قد تضطره إلى تصريفها بأرخص الأثمان والانسحاب من الميدان والعجز عن مواصلة العمل.
أما النوع الأول فهو يندرج في القاعدة الإسلامية العامة (لا ضرر ولا ضرار) فيمنع المالك وفقا لهذه القاعدة من ممارسة ذلك النوع من التصرف.
وأما النوع الثاني فإندراجه في تلك القاعدة العامة يرتبط بتحديد مفهوم القاعدة عن الضرر. فإذا كان الضرر يعني النقص المباشر في المال أو النفس كما يرى كثير من الفقهاء - فلا يندرج هذا النوع في القاعدة، لأنه ليس اضرارا بهذا المعنى. وإذا كان الضرر بمعنى سوء الحال كما جاء في كتب اللغة فهو مفهوم أوسع من النقص المالي المباشر، ويمكن على هذا الأساس ادراج النوع الثاني في هذا المفهوم، والقول بتحديد سلطة المالك على ماله، ومنعه من ممارسة كلا النوعين المتقدمين من التصرفات المضرة (*)، لأنها جميعا تؤدي إلى سوء حال الآخرين ومرد سوء الحال إلى النقص أيضا كما أوضحناه في بحوثنا الأصولية ودللنا على شمول القاعدة له.
608

وقد جاء المبدأ التشريعي الذي يحدد إسلاميا تصرفات المالك في ماله بعدم إضرار الآخرين في مجموعة، الروايات والأحاديث نذكر منها ما يلي:
1 - جاء في عدة روايات أن سمرة بن جندب كان له عذق، وكان طريقه اليه في جوف منزل رجل من الأنصار، فكان يجئ ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري. فقال الأنصاري: يا سمرة لا تزال تفجأنا على حال لا نحب أن تفجأنا عليه، فإذا دخلت فاستأذن. فقال: لا أستأذن في طريق، وهو طريقي إلى عذقي. فشكاه الأنصاري إلى رسول الله (ص). فأرسل اليه رسول الله فأتاه فقال: إن فلانا قد شكاك وزعم أنك تمر عليه وعلى أهله بغير إذن، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل. فقال: يا رسول الله استأذن في طريقي إلى عذقي؟! فقال له النبي (ص): خل عنه ولك مكانه عذق في مكان كذا وكذا. فقال: لا.. فقال له رسول الله (ص) إنك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن، ثم أمر بها رسول الله فقلعت ورمى بها اليه (1)
2 - وعن الصادق (ع) أن رسول الله قضى بين أهل المدينة في مشارب النخل: أنه لا يمنع نفع الشيء. وقضاء بين أهل البادية: أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، وقال لا ضرر ولا ضرار (2).
وروى الشافعي بسنده إلى أبي هريرة ان رسول الله (ص) قال: من منع فضول الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة. وعلق على الحديث قائلا: (ففي هذا الحديث ما دل على أنه ليس لأحد أن يمنع فضل مائه وإنما يمنع فضل رحمة الله بمعصية الله فلما كان منع فضل الماء معصية لم يكن لأحد منع فضل الماء) (3).
3 - وعن الصادق (ع) أيضا أنه سئل عن جدار الرجل وهو ستره بينه وبين

(1) الفروع من الكافي ج 5، ص 294.
(2) المصدر السابق.
(3) الأم ج 4، ص 49، ولاحظ أيضا المغني ج 6، ص 157.
609

جاره سقط عنه فامتنع من بنائه. قال ليس يجبر على ذلك، إلا أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى بحق، أو شرط في أصل الملك.
ولكن يقال لصاحب المنزل: اشتر على نفسك في حقك إن شئت، قيل له: فان كان الجدار لم يسقط، ولكنه هدمه أو أراد هدمه اضرارا بجاره بغير حاجة منه إلى هدمه؟ قال لا يترك وذلك أن رسول الله قال: لا ضرر ولا ضرار وإن هدمه كلفه أن يبنيه (1).
4 - وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة أنه قال: ان رسول الله قضى: أن لا ضرر ولا ضرار وقضى: أنه ليس لعرق ظالم حق، وقضى بين أهل المدينة في النخل: لا يمنع نفع بئر. وقضى بين أهل البادية: أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل الكلاء (2).

(1) المستدرك ج 17، ص 118، الحديث 20927.
(2) المسند ج 5، ص 327، مع اختلاف.
610

نظرية الإنتاج
1 - صلة المذهب بالإنتاج
2 - تنمية الإنتاج
3 - لما ذا ننتج؟
4 - الصلة بين الإنتاج والتوزيع
5 - الصلة بين الإنتاج والتداول
6 - لمن ننتج؟
611

1 - نظرية الإنتاج
صلة المذهب بالإنتاج
عملية الإنتاج لها جانبان:
أحدهما: الجانب الموضوعي المتمثل في الوسيلة التي تستخدم، والطبيعة التي تمارس، والعمل الذي ينفق خلال الإنتاج.
والآخر: الجانب الذاتي الذي يتمثل في الدافع النفسي، والغاية التي تستهدف من تلك العملية، وتقييم العملية هو الموضوع الذي يدرسه علم الإقتصاد بمفرده، أو بالمساهمة مع العلوم الطبيعية، لاكتشاف القوانين العامة التي تسيطر على الوسيلة وطبيعة لكي يتاح للانسان التحكم في تلك القوانين بعد اكتشافها، وتنظيم الجانب الموضوعي لعملية الإنتاج تنظيما أفضل وأكثر نجاحا.
فعلم الاقتصاد يكشف مثلا عن قانون الغلة المتناقضة في الزراعة القائل: ان زيادة وحدات إضافية من العمل ورأس المال بنسبة معينة، تقابلها زيادة في النتائج بنسبة أقل، ويستمر هذا التفاوت بين نسبة معينة، تقابلها زيادة في النتائج بنسبة أقل، ويستثمر هذا التفاوت بين نسبة زيادة الوحدات ونسبة زيادة النتائج، وبالتالي تستمر زيادة الغلة في التناقض حتى تتعادل زيادة الغلة مع نسبة زيادة وحدات العمل ورأس المال، وحينذاك لا تكون ثمة مصلحة للزارع في ان يزيد في الانفاق على الأرض من جديد. وهذا القانون يلقي ضوءا على العملية وباكتشاف المنتج له يستطيع أن يتفادى التبذير بالعمل ورأس المال ويحدد عناصر الإنتاج تحديدا يكفل
613

له أكبر قدر ممكن من الناتج.
ونظير هذا القانون الحقيقة القائلة: أن تقسيم العمل يؤدي إلى تحسين الإنتاج ووفرته. فإنها حقيقة موضوعية من حق العلم الكشف عنها، ووضعها في خدمة المنتجين، للاستفادة منها في تحسين الإنتاج وتنميته.
فوظيفة علم الاقتصاد التي يؤديها إلى الإنتاج، هي اكتشاف تلك القوانين التي يتاح للمنتج عن طريق معرفتها، تنظيم الجانب الموضوعي لعملية الإنتاج بالشكل الذي يؤدي إلى نتيجة أضخم وإنتاج أوفر وأجود.
وفي هذا المجال ليس للمذهب الاقتصادي مهما كان نوعه، أي دور إيجابي. لأن الكشف عن القوانين العامة والعلائق الموضوعية بين الظواهر الكونية أو الاجتماعية من وظيفة العلم، ولا يدخل في صلاحيات المذهب إطلاقا. ولهذا كان لمجتمعات مختلفة في مذاهبها الاقتصادية، أن تلتقي على الصعيد العلمي وتتفق على استخدام معطيات علم الإقتصاد وسائر العلوم والاسترشاد بها في مجالات الإنتاج.
وإنما يظهر الدور الايجابي للمذهب في الجانب الذاتي من عملية الإنتاج ففي هذا الجانب ينعكس التناقض المذهبي بين المجتمعات التي تختلف في مذاهبها الاقتصادية. فلكل مجتمع وجهة نظره الخاص إلى عملية الإنتاج، وتقييمه لتلك العملية على أساس تصوراته العامة، وطريقته المذهبية، في تحديد الدوافع وإعطاء المثل العليا للحياة.
فلماذا ننتج؟ وإلى أي مدى؟ وما هي الغايات التي يجب أن تستهدف من وراء الإنتاج؟ وما هو نوع السلعة المنتجة؟ وهل هناك قوة مركزية تشرف على الإنتاج وتخطيطه؟. هذه هي الأسئلة التي يجيب عليها المذهب الاقتصادي.
614

2 - تنمية الإنتاج
قد يكون النقطة الوحيدة التي تتفق عليها المذاهب الإسلامية والرأسمالية والماركسية جميعا على الصعيد المذهبي، هي تنمية الإنتاج، والاستفادة من الطبيعة إلى أقصى حد ضمن الإطار العام للمذهب.
فكل هذه المذاهب تجمع على أهمية هذا الهدف وضرورة تحقيقه بجميع الأساليب والطرق التي تنسجم مع الإطار العام للمذهب، كما أنها ترفض ما لا يتفق مع إطارها المذهبي، نتيجة للترابط العضوي في المذهب الواحد. فإن مبدأ تنمية الإنتاج والاستمتاع بالطبيعة إلى أقصى حد، وهو جزء من كل فيتفاعل في كل مذهب مع بقية الاجزاء. ويتكيف وفقا لموقعه من المركب وعلاقاته مع سائر الاجزاء. فالرأسمالية ترفض مثلا من الأساليب في تنمية الإنتاج وزيادة الثروة ما يتعارض مع مبدأ الحرية الاقتصادية، والإسلام يرفض من تلك الأساليب ما لا يتفق مع نظرياته في التوزيع ومثله في العدالة، وأما الماركسية فهي تؤمن بأن المذهب لا يتعارض مع تنمية الإنتاج، بل يسير معها في خط واحد تبعا لنظرتها عن الترابط الحتمي بين علاقات الإنتاج وشكل التوزيع كما سيأتي.
وعلى أي حال، فسوف ننطلق في دارسة النظرية الإسلامية للإنتاج، من مبدأ تنمية الإنتاج الذي آمن به الإسلام، وفرض على المجتمع الإسلامي السير وفقا له،
615

وجعل تنمية الثروة والاستمتاع بالطبيعة إلى أقصى حد ممكن مذهبيا هدفا للمجتمع، يضع في ضوئه سياسته الاقتصادية، التي يحددها الإطار المذهبي العام من ناحية، والظروف والشروط الموضوعية للمجتمع من ناحية أخرى، وتمارس الدولة تنفيذها ضمن تلك الحدود.
ومبدأ تنمية الإنتاج هذا يمكننا أن نلمحه بوضوح من خلال التطبيق في عهد الدولة الإسلامية، وفي التعليمات الإسلامية الرسمية التي لا يزال التاريخ يحتفظ بشيء منها حتى الآن، فمن تلك التعليمات البرنامج الذي وضعه
أمير المؤمنين علي (ع) لواليه على مصر محمد بن أبي بكر، وأمره بالسير عليه وتطبيقه. ففي أمالي الشيخ الطوسي أن أمير المؤمنين لما ولى محمد بن أبي بكر مصر، كتب له كتابا وأمره أن يقرأه على أهل مصر، وأن يعمل بما احتواه وقد كتب الإمام في هذا الكتاب يقول:
(يا عباد الله إن المتقين حازوا عاجل الخير وآجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم أباح لهم الله الدنيا ما كفاهم به وأغناهم، قال الله عز وجل: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} (1) سكنوا الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون، وشربوا من طيبان ما يشربون، ولبسوا من أفضل ما يلبسون، وسكنوا من أفضل ما يسكنون، وركبوا من أفضل ما يركبون، أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا، وهم غدا جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من اللذة، فإلى هذا يا عباد الله يشتاق من كان له عقل ويعمل له بتقوى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله) (2).

(1) الأعراف / 32.
(2) الأمالي للشيخ الطوسي، ج 1، ص 25.
616

وهذا الكتاب التاريخي الرائع، لم يكن قصة يتحدث فيها الإمام عن واقع المتقين على وجه الأرض، أو واقعهم في التاريخ، وإنما كان يستهدف التعبير عن نظرية المتقين في الحياة، والمثل الذي يجب أن يحققه مجتمع المتقين على هذه الأرض، ولذا أمر بتطبيق ما في الكتاب، ورسم سياسته في ضوء ما جاء فيه من وصايا وتعليمات، فالكتاب إذن واضح كل الوضوح، في أن اليسير المادي الذي يحققه نمو الإنتاج واستثمار الطبيعة إلى أقصى حد، هدف يسعى اليه مجتمع المتقين، وتفرضه النظرية التي يتبناها هذا المجتمع ويسير على ضوئها في الحياة (1).
والهدف في نفس الوقت مغلف بالإطار المذهبي، ومحدد بحدود المذهب كما يقرره القرآن الكريم: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (2).
فالنهي عن الاعتداء في مجال الانتفاع بالطبيعة واستثمارها تعبير بالطريقة القرنية عن ذلك الإطار المذهبي العام.
وسائل الإسلام في تنمية الإنتاج:
والإسلام حين تبنى هذا المبدأ ووضع تنمية الثروة والاستمتاع بالطبيعة هدفا للمجتمع الإسلامي، جند كل إمكاناته المذهبية، لتحقيق هذا الهدف وإيجاد المقومات والوسائل التي يتوقف عليها.
ووسائل تحقيق هذا الهدف على نوعين:
فهناك وسائل مذهبية، من وظيفة المذهب الاجتماعي إيجادها وضمانها وهناك وسائل تطبيقية بحتة، تمارسها الدولة التي تتبنى ذلك المذهب الاجتماعي، يرسم سياسة عملية تواكب الاتجاه المذهب العام.
وقد وفر الإسلام الوسائل التي تدخل في نطاقه بوصفه مذهبا اجتماعيا ومركبا حضاريا شاملا.

(1) لاحظ الوسائل ج 12، ص 3.
(2) المائدة / 87.
617

أ - وسائل الإسلام من الناحية الفكرية:
فمن الناحية الفكرية حث الإسلام على العمل والإنتاج، وقيمه بقيمة كبيرة، وربط به كرامة الانسان وشأنه عند الله وحتى عقله. وبذلك خلق الأرضية البشرية الصالحة لدفع الإنتاج وتنمية الثروة، وأعطى مقاييس خلقية وتقديرات معينة عن العمل والبطالة لم تكن معروفة من قبله وأصبح خلقية وتقديرات معينة عن العمل والبطالة لم تكن معروفة من قبله وأصبح العمل في ضوء تلك المقاييس والتقديرات عبادة يثاب عليها المرء... وأصبح العامل في سبيل قوته أفضل عند الله من المتعبد الذي لا يعمل وصار الخمول أو الترفع عن العمل نقصا في إنسانية الإنسان وسببا في تفاهته.
ففي الحديث أن الإمام جعفر سأل عن رجل فقيل: أصابته الحاجة، وهو في البيت يعبد ربه، واخوانه يقومون بمعيشته، فقال عليه السلام: الذي يقوته أشد عبادة (1).
وعن الرسول الأعظم (ص) أنه رفع يوما يد عامل مكدود فقبلها، وقال: طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة. ومن أكل من كد يده مر على الصراط كالبرق الخاطف. ومن أكل من كد يده نظر الله اليه بالرحمة ثم لا يعذبه أبدا. ومن أكل من كد يده حلالا فتح له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء (2).
وفي رواية أخرى أن شخصا مر بالإمام محمد بن علي الباقر، وهو يمارس العمل في أرض له، ويجهد في ذلك حتى يتصاب عرقا: فقال له: أصلحك الله أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحالة، فأجابه الإمام، وهو يعبر عن مفهوم العمل في الإسلام: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عز وجل... (3)

(1) لاحظ الوسائل ج 12، ص 14، الحديث 21887.
(2) لاحظ المستدرك ج 13، ص 417، والبحار ج 103، ص 9، وأسد الغابة ج 2، ص 269.
(3) لاحظ الوسائل ج 12، ص 10، الحديث 21869.
618

وكان رسول الله (ص) كما جاء في سيرته الشريفة يسأل عن الشخص إذ أعجبه مظهره، فإن قيل له ليست له حرفة ولا عمل يمارسه، سقط من عينه، ويقول: إن المؤمن إذا لم تكمن له حرفة يعيش بدينه (1).
وفي عدة أحاديث جعل العمل جزءا من الايمان وقيل ((إن أصلاح المال من الايمان)) (2) وقيل في حديث نبوي آخر: ((ما من مسلم زرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه الانسان أو دابته إلا وكتب الله له به صدقة)) (3).
وفي خبر عن الإمام جعفر أنه قال لمعاذ - وهو أحد أصحابه ممن كان قد اعتزل العمل - يا معاذ أضعفت عن التجارة أو زهدت فيها؟ فقال معاذ: ما ضعفت عنها ولا زهدت فيها، عندي مال كثير، وهو في يدي وليس
لأحد علي شيء، ولا أراني آكله حتى أموت. فقال له الإمام: لا تتركها فان تركها مذهبة للعقل (4).
وفي محاورة أخرى رد الإمام على من طلب منه الدعاء له بالرزق في دعة، قال له: لا أدعو لك أطلب كما أمرك الله عز وجل (5).
ويروى عن جماعة من الصحابة أنهم اعتكفوا في بيوتهم وانصرفوا إلى العبادة. عند نزول قوله تعالى {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} (6) وقالوا قد كفانا. فأرسل إليهم النبي قائلا: إن من فعل ذلك لم يستجب له عليكم بالطلب (7).
وكما قاوم الإسلام فكرة البطالة وحث على العمل، كذلك قاوم فكرة تعطيل بعض ثروات الطبيعة، وتجميد بعض الأموال، وسحبها عن مجال الانتفاع

(1) المستدرك ج 2، ص 415.
(2) الوسائل ج 12، ص 40، الحديث 31985.
(3) صحيح البخاري ج 10، ص 147، الحديث 2170، مع اختلاف.
(4) الوسائل ج 12، ص 6، الحديث 21856.
(5) الوسائل ج 12، ص 10، الحديث 21871.
(6) الطلاق / 2.
(7) الوسائل ج 12، ص 15، الحديث 21891.
619

والاستثمار، ودفع إلى توظيف أكبر قدر ممكن من قوى الطبيعة وثرواتها للإنتاج وخدمة الإنسان في مجالات الانتفاع والاستثمار، واعتبر الإسلام فكرة التعطيل أو إهمال بعض مصادر الطبيعة أو ثرواتها، لونا من الجحود وكفرانا بالنعمة، التي أنعم الله تعالى بها على عباده (1).
قال الله تعالى {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون...} (2).
وقال يشجب أسطورة تحريم بعض الثروات الحيوانية: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون)) (3).
وقال وهو يهيب بالانسان إلى استثمار مختلف المجالات {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا، فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه وإليه النشور} (4).
وفضل الإسلام الانفاق الإنتاجي، على الانفاق الاستهلاكي، حرصا منه على تنمية الإنتاج، وزيادة الثروة كما جاء في النصوص المنقولة عن النبي (ص) والأئمة، التي تنهى عن بيع العقار والدار، وتبديد ثمن ذلك في الاستهلاك (5).
ب - وسائل الإسلام من الناحية التشريعية:
وأما من الناحية التشريعية، فقد جاءت تشريعات الإسلام في كثير من الحقول، تتفق مع مبدأ تنمية الإنتاج الذي يؤمن به الاقتصاد الإسلامي، وتساعد على تطبقه.
وفيما يلي نستعرض شيئا من تلك التشريعات والاحكام:

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 22 و 59 و 112.
(2) الأعراف / 32.
(3) المائدة / 103.
(4) الملك / 15.
(5) لاحظ الوسائل ج 12، ص 44، الباب 24.
620

1 - حكم الإسلام بانتزاع الأرض من صاحبها، إذا عطلها وأهملها حتى خربت، وامتنع عن إعمارها، وعلى هذا الأساس يستولي ولي الأمر في هذه الحالة على الأرض، ويستثمرها بالأسلوب الذي يختاره (1)، لأن الأرض لا يجوز أن يعطل دورها الايجابي في الإنتاج، بل يجب أن تظل دائما عاملا قويا يساهم في رخاء الانسان، ويسر الحياة، فإذا حال الحق الخاص دون قيامها بهذا الدور، الغي هذا الحق وكيفت بالشكل الذي يتيح لها الإنتاج (2).
2 - منع الإسلام عن الحمى وهو: السيطرة على مساحة الأرض العامرة وحمايتها بالقوة دون ممارسة عمل في احيائها واستثمارها، وربط الحق في الأرض بعملية الاحياء وما إليها دون أعمال القوة التي لا شأن لها في الإنتاج وفي استثمار الأرض لصالح الانسان (3) (4).
3 - لم يعط الإسلام للأفراد الذين يبدأون عملية احياء المصادر الطبيعية الحق في تجميد تلك المصادر وتعطيل العمل لاحيائها، ولم يسمح لهم بالاحتفاظ بها في حالة توقفهم عن مؤاصلة العمل في هذا السبيل (5). لأن استمرار سيطرتهم عليها في هذه الحالة يؤدي إلى حرمان الإنتاج من طاقات تلك المصادر وامكاناتها.
ولهذا كلف ولي الأمر في الإسلام بانتزاع المصادر من أصحابها، إذا أوقفوا أعمالهم في احيائها، ولم يمكن إغراؤهم بمواصلة العمل فيها.
4 - لم يسمح الإسلام لولي الأمر باقطاع الفرد شيئا من مصادر الطبيعة إلا بالقدر الذي يتمكن الفرد من استثماره والعمل فيه (6) (7)، لأن اقطاع ما يزيد على

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، 22.
(2) لاحظ البناء العلوي لنظرية توزيع ما قبل الإنتاج.
(3) المصدر السابق.
(4) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 63.
(5) لاحظ جواهر الكلام ج 38 ن ص 59.
(6) لاحظ البناء العلوي لنظرية توزيع ما قبل الإنتاج.
(7) لاحظ التذكرة ج 2، ص 404، كتاب إحياء الموات، الفصل الأول، المطلب الثاني المسألة السادسة.
621

قدرته يبدد ثروات الطبيعة وإمكاناتها الإنتاجية.
5 - حرم الإسلام الكسب بدون عمل، عن طريق استئجار الفرد أرضا بأجرة وإيجارها بأجرة أكبر للحصول على التفاوت بين الأجرتين ما يشابه ذلك من الفروض التي تحدثنا عنها سابقا (1).
ومن الواضح أن إلغاء دور هذا الوسيط بين مالك الأرض والفلاح المباشر لزراعتها، يوفر على الإنتاج، لأن هذا الوسيط لا يقوم بأي دور إيجابي للإنتاج، وإنما يعيش على حساب الإنتاج بدون خدمة يقدمها اليه.
6 - حرام الإسلام الفائدة، وألغى رأس المال الربوي (2)، وبذلك ضمن تحول رأس المال هذا في المجتمع الإسلامي إلى رأس مال منتج يساهم في المشاريع الصناعية والتجارية.
وهذا التحول يحقق مكسبين للإنتاج:
أحدهما القضاء على التناقض المرير بين مصالح التجارة، والصناعة، ومصالح رأس المال الربوي، فإن الرأسماليين في المجتمعات التي تؤمن بالفائدة، ينتظرون دائما فرصتهم الذهبية حين تشتد حاجة رجال الأعمال
في التجارة والصناعة إلى المال، ويزيد طلبهم عليه لكي يرفعوا سعر الفائدة ويمسكوا بأموالهم طلبا لأعلى سعر ممكن لها.
وأما حين ينخفض الطلب على الكمال من رجال الاعمال وتقل حاجاتهم اليه، ويهبط تبعا لذلك سعر الفائدة، فسوف نجد الرأسماليين وهم يعرضون أموالهم بكل سخاء وبأزهد الأجور، ومن الواضح أن الغاء الفائدة يضع حدا لهذا التناقض، الذي تعيشه طبقة المرابين، وطبقة التجار في المجتمع الرأسمالي، لأن إلغاء الفائدة سوف يؤدي بطبيعة الحال إلى تحويل الرأسماليين الذي كانوا يقرضون أموالهم بفائدة، إلى مضاربين يساهمون في مشاريع صناعية، وتجارية، على أساس الاشتراك

(1) لاحظ النهاية للطوسي، ص 445، والمقنعة للمفيد، ص 640 وجواهر الكلام ج 27، ص 222.
(2) لاحظ الوسائل ج 12، ص 423، وجواهر الكلام ج 26، ص 337.
622

في الأرباح، وبذلك يتحد الموقف ويصبح رأس المال في خدمة التجارة والصناعية يلبي حاجاتها ويواكب نشاطها.
والمكسب الآخر للإنتاج، هو أن تلك الأموال التي حولت إلى ميادين الصناعة والتجارة، سوف تستخدم بعزم وطمأنينة في مشاريع ضخمة وأعمال طويلة الأمد، لأن صاحب المال سوف لن يبقى أمامه بعد إلغاء الفائدة إلا امل الربح، وهو يحركه نحو اقتحام تلك المشاريع الضخمة المغرية بأرباحها ونتائجها خلافا لحاله في مجتمع يسطر عليه نظام الفائدة، فإنه يفضل أقراض المال بفائدة على توظيفه في تلك المشاريع، لأن الفائدة مضمونة على أي حال وسوف يفضل أيضا أن يقرض المال لأجل قصير، ويتحاشى الاقراض لمدة طويلة لئلا يفوته شيء من سعر الفائدة، إذا ارتفع في المستقبل البعيد سعرها وبذلك سوف يضطر المقترضون ما دام أجل الوفاء قريبا إلى استخدام أموالهم في مشاريع قصيرة الأمد، ليكون في إمكانهم إعادة المبلغ في الوقت المحدد مع الفائدة المتفق عليها إلى الرأسمالي الدائن وعلاوة على هذا فان رجال الأعمال في ظل نظام الفائدة، سوف لن يقدموا على اقتراض المال من الرأسماليين وتوظيفه في مشروع تجاري أو صناعي، ما لم ترهن الظروف على أن بإمكانهم الحصول على ربح يزيد عن الفائدة التي يتقاضاها الرأسمالي، وهذا يعيقهم عن ممارسة كثير من ألوان النشاط في كثير من الظروف، كما يجمد المال في جيوب الرأسماليين ويحرمه من المساهمة في الحقل الاقتصادي، ولا يسمح له بأي لون من ألوان الإنفاق الإنتاجي أو الاستهلاكي، الأمر الذي يؤدي إلى عدم إمكان تصريف كل المنتجات، وكساد السوق، وظهور الأزمات وتزلزل الحياة الاقتصادية، وأما عند إلغاء الفائدة، وتحول الرأسماليين المرابين إلى تجار مساهمين مباشرة في مختلف المشاريع التجارية والصناعية، فإنهم سوف يجدون من مصلحتهم الاكتفاء بقدر أقل من الربح لأنهم لن يضطروا إلى تسلم جزء منه باسم فوائد، وسوف يجودون من مصلحته أيضا توضيف الفائض عن حاجتهم من الأرباح في مشاريع
623

الإنتاج والتجارة، وبذلك يتم انفاق الناتج كله انفاقا استهلاكيا وإنتاجيا، بدلا من تجميد جزء منه في جيوب المرابين بالرغم من انفاقه.
7 - حرم الإسلام بعض الأعمال العقيمة من الناحية الإنتاجية، كالمقامرة والسحر والشعوذة، ولم يسمح بالاكتساب عن طريق أعمال من هذا القبيل، بأخذ أجرة على القيام بها (1) {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (2).
فان هذه الأعمال تبديد لأصحابها هدر لتلك الأموال التي كان بالامكان تحويلها إلى عامل تنمية وإنتاج. ونظرة شاملة في التاريخ والواقع المعاش، يكشف لنا عن مدى التبذير الذي ينتج عن هذا النوع من الأعمال والاكتساب بها، وفداحة الخسارة التي يمنى بها الإنتاج، وكل الأهداف الصالحة، بسبب تبديد تلك الطاقات والجهود والأموال.
8 - منع الإسلام من اكتناز النقود، وسحبها عن مجال التداول وتجميدها، وذلك عن طريق فرض ضريبة على ما يكتنز من النقود الذهبية والفضية، التي كانت الدولة الإسلامية تجري على أساسها، وهي: ضريبة الزكاة التي تستنفذ المال المدخر على مر الزمن لأنها تتكرر في كل عام (3) وتقطع كل مرة ربع العشر من المال المدخر، ولا تتركه الضريبة حتى تنخفض به إلى عشرين دينارا. ولأجل هذا تعتبر الزكاة مصادرة تدريجية للمال الذي يكنز ويجمد عن العمل، وبالقضاء على الاكتناز هذا، تندفع جميع الأموال إلى حقول النشاط الاقتصادي وتمارس دورا إيجابيا في الحياة الاقتصادية، وبذلك يكسب الإنتاج كثيرا من تلك الأموال التي كانت تؤثر بطبيعتها، لولا ضريبة المال المكتنز، أن تختفي في جيوب أصحابها بدلا عن المساهمة في المشاريع الصناعية والزراعية وما إليها.

(1) لاحظ المكاسب للأنصاري، ج 2، ص 29 وج 4، ص 91 وجواهر الكلام ج 22، ص 25 و 75 و 94 و 110.
(2) البقرة / 188.
(3) لاحظ تحف العقول ص 398، والوسائل ج 6، ص 92، والميزان ج 9، ص 263.
624

والواقع أن منع الإسلام من اكتناز النقود ليس مجرد ظاهرة عرضية في التشريع الإسلامي، بل إنه يعبر عن أحد أوجه الخلاف الخطير بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي، ويعكس الطريقة التي استطاع الإسلام بها أن يتخلص من مشاكل الرأسمالية الناجمة عن شذوذ الدور الرأسمالي للنقد الذي يؤدي إلى أخطر المضاعفات، ويهدد حركة الإنتاج ويعصف بالمجتمع الرأسمالي باستمرار.
ولكي يتضح لا خلاف الخطير بين المذهبين، في هذه النقطة، يجب أن نميز بين الدور الأصيل للنقد والدور الطارئ الذي يمارسه في ظل الرأسمالية، وندرك اختلاف هذين الدورين في نتائجهما وآثارهما على حركة الإنتاج وغيرها.
فالنقد بطبيعته أداة للتبادل، وقد استخدمه الإنسان في المبادلة تفاديا من مشاكل المقايضة، التي كانت تتولد عن مبادلة المنتجات بشكل مباشر. فقد وجد المنتجون الأوائل بعد تقسيم العمل، وإقامة حياتهم على أساس المبادلة، ان من الصعب عليهم تبادل منتوجاتهم مباشرة، لأن منتج الحنطة، إذا احتاج في حياته إلى صوف، فلا يستطيع الحصول عليه من منتج الصوف في مقابل الحنطة، إلا إذا كان صاحب الصوف بدوره محتاجا إلى حنطة. والراعي إذا أراد الحصول على حاجته اليومية من الحنطة، فسوف لن يقدر على ذلك عن طريق المقايضة، لأن الغنم الذي يرعاه تزيد قيمته على قيمة ذلك. وإضافة إلى هذا فان المبادلة المباشرة للمنتجات، كانت تواجه صعوبة تقدير قيم الأشياء المعدة للمبادلة. إذ كان لا بد لمعرفة قيمة السلعة من مقارنتها بجميع السلع الأخرى، حتى تعرف قيمتها بالنسبة إليها جميعا (1) فكان اختراع النقد علاجا لهذه المشاكل كلها إذ قام بدور المقياس العام للقيمة من ناحية، وأصبح أداة للمبادلة من ناحية أخرى، فهو من الناحية الأولى يستخدم كمحدد لقيم الأشياء، فبمقارنة سائر السلع بالسلعة التي أنتجت لتكون نقدا تحدد قيمتها. ومن الناحية الثانية يستعمل النقد وسيلة للتداول، فبعد أن كان التداول يقوم على أساس المقايضة، وبيع

(1) راجع ص 349 من الكتاب.
625

حنطة بصوف، جاءت النقود فحولت عملية البيع هذه إلى عمليتين وهما البيع والشراء، فصاحب الحنطة يبيع الحنطة بمئة درهم، ثم يمارس عملية أخرى، فيشتري بهذا النقد حاجته من الصوف. وبهذا قامت مبادلتان مقام المبادلة المباشرة بين المنتجات، وزالت بسبب ذلك كل الصعوبات التي كانت تنجم عن نظام المقايضة.
وهكذا نعرف أن الدور الأصيل الذي وجد النقد ليمارسه، هو دور المقياس العام للقيمة، والأداة العامة في التداول.
ولكن النقد بعد ذلك لم يقتصر على أداة دوره، وممارسة وظيفته في التغلب على تلك الصعاب والمشاكل بصلة، وهو دور الاكتناز والادخار. وذلك أن دخول النقد في مجال التداول، حول العملية الواحدة - بيع الحنطة بصوف - إلى عمليتين، وأصبح منتج الحنطة يبيع منتوجه ثم يشتري الصوف، بعد أن كان يبيع الحنطة ويشتري الصوف في مبادلة واحدة وهذا الفصل بين عمليتين بيع الحنطة وشراء الصوف، أتاح لبائع الحنطة أن يؤجل شراء الصوف، بل جعل في ميسورة أن يبيع الحنطة لا لشيء إلا لرغبته في تحويل الحنطة إلى نقد، والاحتفاظ بالنقد إلى وقت الحاجة. فنشأ عن ذلك دور النقد بوصفه أداة لاكتناز المال وادخاره.
وقد لعب هذا الدور الطارئ للنقد كأداة للاكتناز، أخطر لعبة في ظل الرأسمالية التي شجعت الادخار، جعلت من الفائدة أكبر قوة للاغراء بذلك، فأدى هذا إلى اختلال التوازن بين الطلب الكلي والعرض الكلي لمجموع السلع الإنتاجية والاستهلاكية، بينما كان هذا التوازن مضمونا في عهد المقايضة التي تقوم على أساس المبادلة المباشرة بين المنتجات، لأن المنتج في تلك العهود لم يكن ينتج إلى ليستهلك ما ينتجه، أو يستبدله بسلعة أخرى يستهلكها، فالسلعة التي تنتج تضمن دائما طلبا بقدرها فيتساوى الإنتاج والاستهلاك، أو العرض الكلي مع مجموع الطلب. وأما في عصر النقد، بعد انفصال علمية الشراء عن البيع، فليس من الضروري للمنتج أن يكون لديه طلب يساوي السعلة التي تنتجها، إذ قد ينتج بقصد أن يبيع
626

ويحصل على نقد ليضيفه إلى ما ادخره من نقود، لا ليشتري به سلعة من منتج آخر فيوجد في هذه الحال عرض لا يقابله طلب، ويختل لأجل ذلك التوازن بين العرض والطلب العام، ويتعمق هذا الاختلال بقدر ما تبرز إرادة الاكتناز وتتسع ظاهرة الادخار لدى المنتجين والبائعين، ونتيجة لذلك يظل جزء كبير من الثروة المنتجة دون تصريف، وتعاني السوق الرأسمالية مشكلة تصريفها وأزمة تكدسها، وتتعرض حركة الإنتاج وبالتالي الحياة الاقتصادية عموما لأشد الأخطار.
وقد ظلت الرأسمالية ردحا من الزمن لا تدرك حقيقة هذه المشاكل التي تنجم عن دور الاكتناز الذي يمارسه النقد انسياقا منها مع نظرية التصريف، التي تقول: إن الشخص عندما يريد بيع سلعة معنية لا يرغب في النقود لذاتها بل للحصول على سلعة أخرى تشبع حاجاته، وهذا يعني أن إنتاج أية سلعة يخلق طلبا مماثلا على سلعة أخرى، فيتساوى العرض والطلب دائما.
فالنظرية تفترض أن بائع السلعة يستهدف دائما من ذلك الحصول على سلعة أخرى، مع أن هذا الافتراض إنما يصح في عصر المقايضة الذي تزدوج فيه عملية الشراء وعملية البيع، ولا يصدف على عصر النقد الذي يتيح لتاجر أن يبيع السلعة بقصد الحصول على المزيد من النقد وادخاره واكتنازه، لأجل توظيفه بعد ذلك في علميات القرض بفائدة.
وفي ضوء هذه المعلومات عن النقود ودورها الأصيل ودورها الطارئ ونتائجهما، نستطيع ان ندرك الاختلاف الجوهري بين الإسلام والرأسمالية. فبينما تقر الرأسمالية استعمال النقد أداة للاكتناز، وتشجع عليه بتشريع نظام الفائدة، يحاربه الإسلام بفرض ضريبة على النقد المكتنز، ويحث على إنفاق المال في المجالات الاستهلاكية والإنتاجية، حتى جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق: (إن الله إنما أعطاكم هذه الفضول من الأموال، لتوجهوها حيث وجهها الله، ولم يعطكموها لتكتنزوها) (1).

(1) الفروع من الكافي ج 4، ص 32، الحديث 5.
627

والإسلام بمحاربته للاكتناز يفضي على مشكلة من أهم مشاكل الإنتاج التي تمنى بها الرأسمالية وهو على علم بأن المجتمع الإسلامي الذي ينظمه ليس مضطرا إلى الاكتناز والادخال في سبيل تنمية الإنتاج فيه، وإقامة المشاريع
الكبيرة، كما هي الحال بالنسبة إلى المجتمع الرأسمالي، الذي تمكن عن طريق الاكتناز والادخار من تكوين رؤوس أموال ضخمة، نتيجة لتجميع المدخرات عن طريق المصارف وغيرها، واستطاع أن يستخدم تلك الكميات الهائلة المتجمعة من النقد في أضخم مشاريع الإنتاج. فان المجتمع الرأسمالي لما كانت الملكية الخاصة هي التي تسيطر عليه، فكان لا بد له من ملكيات خاصة ضخمة للاستعانة بها في مشاريع الإنتاج الكبرى، وحيث لم يكن من الميسور تكوين تلك الملكيات إلا بالتشجيع على الادخار وتجميع المدخرات بعد ذلك عن طريق المصارف الرأسمالية، فكان المجتمع الرأسمالي مضطرا إلى اتخاذ هذه الخطوات لأجل تنمية الإنتاج وتضخيمه. وأما المجتمع الإسلامي فيمكنه الاعتماد على حقول الملكية العامة وملكية الدولة في مشاريع الإنتاج الكبرى، ويبقى للملكيات الخاصة المجالات التي تتسع لها امكاناتها.
9 - تحريم اللهو والمجون، فقد جاء في الأحاديث النهي عما يلهو عن ذكر الله، والمنع عن عدة ألوان من اللهو التي تؤدي إلى تذويب الشخصية الجدية للانسان وميوعته (1)، وبالتالي إلى عزله عن مجال الإنتاج والعمل الحقيقي المثمر، وإيثاره حياة اللعب واللهو بقدر ما تؤاتيه الظروف على حياة المجد والعمل، وألوان الإنتاج المادي والمعنوي.
10 - محاولة المنع من تركز الثروة وفقا للنص القرآني الكريم {لئلا يكون دولة بين الأغنياء منكم} (2) كما سنشرح ذلك في دراستنا لنظرية التوازن الاجتماعي في الاقتصاد الإسلامي. وهذا المنع عن التركز وإن كان يرتبط بصورة مباشرة بالتوزيع، ولكنه يرتبط أيضا بشكل غير مباشر بالإنتاج، ويؤدي إلى الاضرار به. لأن الثروة حين تتركز في أيد قليلة، يعم البؤس وتشتد الحاجة لدى الكثرة الكاثرة.

(1) لاحظ الوسائل ج 12، ص 232، الباب 100 و 101.
(2) الحشر / 7.
628

ونتيجة لذلك سوف يعجز الجمهور عن استهلاك ما يشبع حاجتهم من السلع لإنخفاض قوتهم الشرائية. فتتكدس المنتجات دون تصريف وسيطر الكساد على الصناعة والتجارة ويتوقف الإنتاج.
11 - التقليص من مناورات التجارة، واعتبارها من حيث المبدأ شعبة من الإنتاج (1)، كما سيأتي في محلة أخرى من مراحل الكشف عن نظرية الإنتاج وسوف نرى عندئذ مدى تأثير ذلك على الإنتاج وتنميته.
12 - منح الإسلام ملكية المال بعد موت المالك إلى أقربائه. وهذا هو الجانب الإيجابي من أحكام الإرث، الذي يمكن اعتباره في القطاع الخاص عاملا دافعا للانسان نحو العمل وممارسته ألوان النشاط الاقتصادي (2)، بل عاملا أساسيا في الأشواط الأخيرة من حياة الانسان التي تتضاءل فيها فكرة المستقبل عنده وتحتل موضعها فكرة الأبناء والقربى، فيجد في أحكام الإرث التي توزع أمواله بعده بين أقربائه الأدنين ما يغريه بالعمل ويدفعه إلى تنمية الثروة حرصا على مصالح أهليه بوصفهم امتدادا لوجوده.
وأما الجانب السلبي من أحكام الإرث، الذي يقطع صلة المالك بماله بعد موته، ولا يسمح له أن يقرر مصير ثروته بنفسه (3) فهو نتيجة لنظرية توزيع ما قبل الإنتاج ومرتبط بها كما عرفنا سابقا.
13 - وضع الإسلام المبادئ التشريعية للضمان الاجتماعي، كما سنشرحه في بحث مقبل. والضمان الاجتماعي يقوم بدور كبير في القطاع الخاص، لأن إحساس الفرد بأنه مضمون من قبل الدولة وأن مستوى كريما من الحياة مكفول له ولو خسر في مشرعه، رصيد نفسي كبير، يزيد من شجاعته، ويدفع به إلى مختلف ميادين الإنتاج، وينمي فيه عنصر الابداع والابتكار خلافا لمن

(1) لاحظ الوسائل ج 12، ص 327، الباب 37.
(2) الأحوال الشخصية على المذهب الخمسة ص 192 - 194 و 212، والروضة في شرح اللمعة ج 8، ص 16 - 20.
(3) المصدر السابق.
629

يفقد ذلك الضمان، ولا يحسب تلك الكفالة، فإنه في كثير من الأحايين يحجم عن ألوان من النشاط والتجديد، خوفا من الخسارة المحتملة التي لا تهدد ماله فحسب، بل تهدد حياته وكرامته ما دام لن يجد من يكفله ويوفر له أسباب الحياة الكريمة، إذا خسر ماله وضاع في خضم التيار. ولأجل ذلك لأن تواتيه تلك الشجاعة وذلك العزم الذي يبعثه الضمان الاجتماعي في نفوس الأفراد الذين يعيشون في كنفه.
14 - حرم الإسلام القادرين على العمل والنشاط الاقتصادي من الضمان الاجتماعي، ومنعهم من الاستجداء (1)، وبذلك سد عليهم منافذ التهرب من العمل المثمر. وهذا يؤدي بطبيعته إلى تجنيد طاقاتهم للإنتاج والاستثمار.
15 - حرم الإسلام الإسراف والتبذير (2) وهذا التحريم يحد من الحاجات الاستهلاكية، ويهيء كثيرا من الأموال للانفاق الإنتاجي، بدلا عن الانفاق الاستهلاكي في مجالات الإسراف والتبذير.
16 - أوجب الإسلام على المسلمين كفاية تعلم جميع الفنون والصناعات التي تنظم بها الحياة (3).
17 - بل إن الإسلام لم يكتف بذلك، بل أوجب على المسلمين الحصول على أكبر قدر ممكن وأعلى مستوى من الخبرة الحياتية العامة في كل الميادين (4)، ليتاح للمجتمع الإسلامي امتلاك جميع الوسائل المعنوية والعلمية والمادية التي تساعده على دوره القيادي للعالم، بما فيها وسائل الإنتاج وإمكاناته المتنوعة.
قال الله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) (5). والقوة هنا جاءت في

(1) لاحظ الوسائل ج 6، ص 159، و 305.
(2) لاحظ الوسائل ج 11، ص 261 و 520.
(3) لاحظ المكاسب للأنصاري، ج 5، ص 60، ومستمسك العروة ج 11، ص 200 و 201.
(4) لاحظ الأصول من الكافي ج 1، ص 30، والبحار ج 2، ص 31 و 32.
(5) الأنفال / 60.
630

النص مطلقة دون تحديد، فهي تشمل كل ألوان القوة التي تزيد من قدرة الأمة القائدة على حمل رسالتها إلى كل شعوب العالم. وفي طليعة تلك القوة الوسائل المعنوية والمادية لتنمية الثروة، ووضع الطبيعة في خدمة الانسان.
18 - مكن الإسلام الدولة من قيادة جميع قطاعات الإنتاج عن طريق ممارستها للقطاع العام (1)، ومن الواضح أن وضع مجال كبير من ملكية قوة موجهة وقائدة للحقول الأخرى، ويتيح لمشاريع الإنتاج المماثلة
الاسترشاد بتلك التجربة واتباع أفضل الأساليب في تحسين الإنتاج وتنمية الثروة.
19 - منح الإسلام الدولة القدرة على تجميع عدد كبير من القوى البشرية العاملة، والاستفادة منها في مجالات القطاع العام (2). وبذلك يمكن للدولة أن تحول دون تبديد الفائض عن حاجة القطاع الخاص من تلك القوة البشرية وتضمن مساهمة جميع الطاقات في حركة الإنتاج الكلي.
20 - وأخيرا فقد أعطيت الدولة - على أساس أحكام معينة سندرسها في المراحل الآتية من نظرية الإنتاج - الحق في الاشراف على الإنتاج، وتخطيطه مركزيا، لتفادي الفوضى التي تؤدي إلى شل حركة الإنتاج، وتعصف بالحياة الاقتصادية (3).
ج - السياسية الاقتصادي لتنمية الإنتاج:
هذه هي الخدمات التي قدمها الإسلام بوصفه المذهبي لتنمية الإنتاج زيادة الثروة. وترك بعد ذلك للدولة أن تدرس الشروط الموضوعية للحياة الاقتصادية، وتحصي ما في البلاد من ثروات طبيعية، وتستوعب ما يختزنه المجتمع من طاقات، وما

(1) لاحظ الأصول من الكافي ج 3، ص 476، وتفسير القمي ج 1، ص 278، والوسائل ج 2، ص 370، الحديث 1245.
(2) لاحظ الخلاف ج 3، ص 476، وجواهر الكلام ج 27، ص 204.
(3) لاحظ الأصول من الكافي ج 1، ص 405، وعلل الشرائع ج 1، ص 253، وتفسير القمي ج 1، ص 278، وج 2، ص 176، وتحف العقول ص 62 و 464.
631

يعيشه من مشاكل، وتضع على ضوء ذلك كله، وفي الحدود المذهبية، السياسة الاقتصادية التي تؤدي إلى زيادة ونمو الثروة، وتضمن يسر الحياة ورخاء المعيشة.
وعلى هذا الأساس نعرف علاقة المذهب بالسياسة الاقتصادية، التي ترسمها الدولة وتحددها إلى مدى خمس سنوات أو سبع أو أكثر أو أقل للوصول إلى أهداف معينة في نهاية تلك المدة. فان هذه السياسة ليست جزءا من المذهب، ولا من وظيفة المذهب وضعها وتحديدها، لأنها تختلف باختلاف الظروف الموضوعية، ونوع الإمكانات التي يملكها المجتمع وطبيعة المشاكل والصعاب التي لا بد من التغلب عليها. فالبلاد الكثيفة السكان بدرجة كبيرة مثلا تختلف عن البلاد القليلة السكان الواسعة الأرجاء في إمكاناتها ومشاكلها وأساليب التغلب على هذه المشاكل وتعبئة تلك الإمكانات. وهكذا يكون لكل ظرف موضوعي أثره في تحديد السياسية التي يجب انتهاجها.
ولهذا كان لزاما على المذهب أن يترك رسم تفاصيل هذه السياسة إلى الدولة، لتصنع التصميم الذي يتفق مع الظروف التي تكتنفها، ويقتصر المذهب على وضع الأهداف الرئيسية للسياسة الاقتصادية، وحدودها العامة وإطارها المذهب الشامل، الذي يجب على الدولة التقيد به ووضع سياستها ضمنه.
632

3 - لماذا ننتج
كنا ندرس من نظرية الإنتاج النقطة المتفق عليها مذهبيا بين مختلف الاتجاهات الفكرية للمذاهب الاقتصادية، بدأنا بها لنجعل منها المحور الذي ننطلق منه لدراسة الخلافات المذهبية وتفاصيلها.
فقد عرفنا أن مبدأ تنمية الإنتاج واستثمار الطبيعة إلى أبعد حد من المبادئ الأساسية في النظرية الإسلامية، ومن الأهداف التي يتفق فيها الإسلام مع سائل المذاهب.
ولكن هذه المذهب بالرغم من اتفاقها على هذا المبدأ تختلف في مواجهة التفصيلات، وطريقة التفكير فيها تبعا لاختلاف قواعدها الفكرية وإطارها الحضارية العام، ومفاهيمها عن الكون والحياة والمجتمع.
فهناك مثلا الاختلاف بين تلك المذاهب في الهدف الأصيل من تنمية الثروة، ودورها في حياة الانسان، فسؤال لماذا ننتج؟ وما هو دور الثروة؟ يجيب عليه كل مذهب بطريقته الخاصة، وفقا لأساسه الفكرية والنظرة العامة التي يتبناها.
ونحن في دراستنا للمذهب في الإسلام، أو حين ندرس أي مذهب اقتصادي آخر، وموقفه من الإنتاج لا يكفينا أن نعرف إيمان المذهب بمبدأ تنمية الإنتاج والثروة بل يجب أن نستوعب الأساس الفكري لذلك، الذي يشرح مفهوم المذهب عن الثروة ودورها وأهدافها. فان تنمية الثروة تتكيف وفقا لأساسها الفكرة والنظرة
633

العامة التي ترتبط بها. فقد تختلف تنمية الثروة على أساسها فكري معين عن تنميتها على أساسها فكري آخر، تبعا لما يفرضه الأساس الفكري من إطار للتنمية وأساليب لتحقيقها.
وفي سبيل تحديد الأساس الفكري للتنمية لا يمكن أن نفصل المذهب الاقتصادي، بوصفه جزءا من مركب حضاري كامل، عن الحضارة التي ينتمي إليها ومفاهيمها عن الحياة والكون.
وعلى هذا الأساس سوف نأخذ الرأسمالية والاقتصاد الإسلامي، وندرس مفاهيمها عن الإنتاج ودوره وأهدافه، لا بوصفها مذهبين اقتصاديين فحسب، بل بوصفهما - إضافة إلى ذلك - واجهتين لحضارتين مختلفتين، لنقدم الأساس الفكري لتنمية الإنتاج من وجهة نظر الإسلام، مقارنا بالأساس الفكري لتنمية الثروة في الرأسمالية.
ففي الحضارة المادية الحديثة التي مثلت الرأسمالية تاريخيا واجهتها المذهبية الاقتصادية، تعتبر تنمية الثروة عادة هدفا أصيلا وغاية أساسية، لأن المادة هي كل شيء في المقاييس التي يسير عليها انسان هذه الحضارة في حياته فهو لا يرى غاية وراءها ولهذا يسعى إلى تنمية الثروة لأجل الثروة نفسها وتحقيقا لأكبر قدر ممكن من الرخاء المادي.
كما أن الرأسمالية تنظر في الأساليب التي تتبعها لتحقيق هذا الهدف إلى تنمية الثروة بوضعها الكلي، وبشكل منفصل عن التوزيع. فهي ترى أن الهدف يتحقق، إذا ازداد مجموع ثروة المجتمع، بقطع النظر عن مدى
انتشار هذه الثروة في المجتمع، وعن نصيب أفراده من اليسر والرخاء الذي توفره تلك الثروة ولهذا شجع المذهب الرأسمالي على استخدام الآلة الصناعية في عهد الصناعة الآلية، لأنها تساهم في زيادة الثروة الكلية للمجتمع ولو عطلت الآلات ممن لم يكن يملك الآلة الجديدة، وأدت إلى انهيار مشاريعهم.
فالثروة في الحضارة المادية هدف أصيل، ونمو الثروة في المفهوم الرأسمالي يقاس
634

بازدياد مجموع الثروة الكلية في المجتمع.
والمشكلة الاقتصادية ترتبط في التفكير الرأسمالي بندرة الإنتاج، وعدم سخاء البيعة، وأحجامها عن تلبية كل الطلبات. ولأجل هذا كان علاج المشكلة مرتبطا بتنمية الإنتاج، واستغلال قوة الطبيعة وكنوزها إلى أبعد حد، بالقضاء على مقاومتها ومضاعفة إخضاعها للانسان.
وللإسلام موقفه المختلف في كل ذلك.
فلا نمو الثروة بشكل منفصل عن التوزيع وعلى أساس الثروة الكلية.
ولا المشكلة الاقتصادية تنبع من ندرة الإنتاج، ليكن علاجها الأساسي بتنمية مجموع الثروة الكلية.
وفيما يلي تفصيل الموقف الإسلامي.
1 - مفهوم الإسلام عن الثروة:
ففيما يتصل بالنظر إلى الثروة كهدف أصيل يمكننا أن نحدد نظرة الإسلام إلى الثروة في ضوء النصوص التي عالجت هذه الناحية وحاولت أن تشرح المفهوم الإسلامي للثروة.
وهذه النصوص يمكن تصنيفها إلى فئتين. وقد يجد الدارس لأول وهلة تناقضا بينهما في معطياتهما الفكرية عن الثروة وأهدافها ودورها، ولكن عملية التركيب بين تلك المعطيات تحل التناقض، وتبلور المفهوم الكامل للإسلام عن تنمية الثروة بكلا حديه.
ففي إحدى الفئتين تندرج النصوص التالية:
(أ) قال رسول الله (ص): نعم العون على تقوى الله الغنى (1).

(1) الوسائل ج 12، ص 49، الحديث 2204.
635

(ب) وعن الإمام الصادق (ع) إن نعم العون على الآخرة الدنيا (1).
(ج) وعن الإمام الباقر (ع) إن نعم العون الدنيا على طلب الآخرة (2).
(د) وعن الرسول (ص): اللهم بارك لنا في الخبز، ولا تفرق بيننا وبينه، ولو لا الخبز ما صلينا، ولا صمنا ولا أدينا فرائض ربنا (3).
(ه -) وعن الصادق (ع): لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال، يكف به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه (4).
(و) وقال رجل للصادق (ع): والله إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها فقال له: تحب أن تصنع بها ماذا؟ فقال أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأتصدق بها وأحج واعتمر فقال له الإمام: ليس هذا طلب الدنيا هذا طلب الآخرة (5).
(ز) وفي الحديث: ليس منا من ترك دنيا لآخرته أو آخرته لدنياه (6).
وتضم الفئة الثانية النصوص الآتية.
أ - عن الرسول (ص): من أحب دنياه أضر بآخرته (7).
ب - وعن الصادق (ع): رأس كل خطيئة حب الدنيا (8).
ج - - وعن الصادق أيضا: أبعد ما يكون العبد من الله إذا لم يهمه إلا بطنه وفرجه (9).

(1) الوسائل ج 12، ص 16، الحديث 21895.
(2) المصدر السابق، الحديث 21898.
(3) المصدر السابق، الحديث 21899.
(4) الوسائل ج 12، ص 19، الحديث 21905.
(5) المصدر السابق، الحديث 218907.
(6) الوسائل ج 12، ص 49، الحديث 22022.
(7) الوسائل ج 11، ص 309، الحديث 20825.
(8) الأصول من الكافي ج 2 ن ص 315، الحديث 1.
(9) الوسائل ج 11، ص 318، الحديث 20854.
636

د - وعن أمير المؤمنين علي (ع): أن من أعون الاخلاق على الدين الزهد في الدنيا (1).
ومن اليسير لكل أحد أن يلاحظ التفاوت بين الفئتين، فالدنيا والثروة والغنى نعم العون على الآخرة في الفئة الأولى، بينما هي رأس كل خطيئة في الفئة الثانية.
ولكن هذا التناقض يمكن حله بعملية تركيب، فالثروة وتنميتها نعم العون على الآخرة وهي رأس كل خطيئة لأنها ذات حدين. وإطارها النفسي هو الذي يبرز هذا الحد أو ذاك. فالثروة في رأس الإسلام وتنميتها هدف من الأهداف المهمة ولكنه هدف طريق لا هدف غاية فليس الثروة وإنما هي وسيلة يؤدي بها الإنسان الإسلامي دور لخلافة، ويستخدمها في سبيل تنمية جميع الطاقات الإسلامية دور الخلافة، ويستخدمها في مجالاتها المعنوية والمادية فتنمية الثروة والإنتاج لتحقيق الهدف الأساسي من خلافة الانسان في الأرض هي نعم العون على الآخرة، ولا خير فيمن لا يسعى إليها، وليس من المسلمين بوصفهم حملة رسالة في الحياة من تركها وأهملها. واما تنمية الثروة والإنتاج لأجل الثروة بذاتها، وبوصفها المجال الأساسي الذي يمارس الانسان في حياته ويغرق فيه، فهي رأس كل خطيئة، وهي التي تبعد الانسان عن ربه، ويجب الزهد فيها.
فالإسلام يريد من الانسان الإسلامي أن ينمي الثروة ليسطر عليها، وينتفع بها في تنمية وجوده ككل، لا لتسيطر عليه الثروة، وتستلم منه زمام القيادة، وتمحو من أمامه الأهداف الكبرى (2).
فالثروة وأساليب تنميتها التي تحجب الانسان الإسلامي عن ربه، وتنسيه أشواقه الروحية، وتعطل رسالته الكبرى في إقامة العدل على هذا الكوكب، وتشده إلى الأرض لا يقرها الإسلام. والثروة وأساليب التنمية التي
تؤكد صلة الانسان الإسلامي

(1) الوسائل ج 11، ص 311، الحديث 20830.
(2) لاحظ الوسائل ج 12، ص 16 و 19.
637

بربه المنعم عليه، وتهئ له عبادته في يسر ورخاء، وتفسح المجال أمام كل مواهبه وطاقته للنمو والتكامل، وتساعد على تحقيق مثله في العدالة والأخوة والكرامة هي الهدف الذي يضعه الإسلام أمام الانسان الإسلامي، ويدفعه نحوه.
2 - ربط تنمية الإنتاج بالتوزيع:
وفيما يتصل بالفكرة الرأسمالية عن إنماء الإنتاج التي تنظر إلى عملية تنمية الثروة بصورة منفصلة عن نوع توزيعها فان الإسلام يرفض هذه النظرة ويربط تنمية الثروة كهدف بالتوزيع ومدى ما يحقق نمو الثروة لأفراد الأمة من يسر ورخاء، لأن تنمية الثروة في مفهوم الإسلام هدف طريق لا هداف غاية كما عرفنا في الفقرة السابقة، فما لم تساهم عمليات التنمية في إشاعة اليسر والرخاء بين الافراد، وتوفر لهم الشروط التي تمكنهم من الانطلاق في مواهبهم الخيرة وتحقيق رسالتهم، فلن تؤدي تنمية الثروة دورها الصالح في حياة الانسان.
ولهذا نجد أن كتاب الإمام علي (ع) إلى حاكم مصر - الذي حدد فيه الإمام لواليه البرنامج الإسلامي الذي يجب عليه تطبقه - حين أراد أن يتحدث عن تنمية الثروة بوصفها هدفا من أهداف مجتمع المتقين - على حد تعبير الكتاب - لم يصور تكديسا هائلا لثروة، وإنما صورة اليسر والرخاء يعم حياة الأفراد جميعا في مجتمع المتقين. وهذا تأكيد على أن تنمية الثروة ليست هدفا إلا بمقدار ما تنعكس في حياة الناس ومعيشتهم. وأما حين تنمو الثروة بشكل منفصل عن حياة الناس، ويكون الجمهور في خدمة هذه التنمية لا التنمية في خدمة الجمهور، فسوف تكتسب الثروة نوعا من الصنمية، وتصبح هدف غاية لا هدف طريق، ويصدق عليها قول النبي (ص) وهو يعبر عن هذا اللون من الثروة ويحذر من أخطارها: إن الدنانير الصفر والدراهم البيض مهلكاكم كما أهلكا من كان قبلكم (1).
وعلى هذا الأساس فالإسلام حين يضع تنمية الإنتاج هدفا للمجتمع يجعل

(1) الأصول من الكافي ج 2 ص 316، الحديث 6، مع اختلاف.
638

نصب عينيه ارتباط هذه التنمية باليسر والرخاء العام. ولهذا يرفض من أساليب التنمية ما يتعارض مع ذلك، ويضر بالناس بدلا عن تيسير الحياة لهم.
ويمكننا أن نقدر على هذا الضوء أن الإسلام لو كان قد استلم زمام القيادة بدلا عن الرأسمالية في عصر ولادة الآلة البخارية، لما سمح باستعمال الآلة الجديدة، التي ضاعفت الإنتاج بقدر ما أطاحت بالآلاف من الصناع اليدويين، إلا بعد أن يتغلب على المشاكل والاضرار التي تجلبها الآلة لهؤلاء، لأن التنمية التي تحققها الآلة قبل التغلب على تلك المشاكل والاضرار سوف لن تكون هدف طريق بل هدف غاية.
3 - تصور الإسلام للمشكلة الاقتصادية:
وأخيرا فان الإسلام يرى أن المشكلة الاقتصادية القائمة على أساس تصور واقعي للأمور لم تنشأ من ندرة موارد الإنتاج وبخل الطبيعة.
صحيح ان موارد الإنتاج في الطبيعة محدودة، وحاجات البشر كثيرة ومتنوعة.
وحقا ان مجتمعنا أسطوريا يتمتع بموارد غير محدودة وافرة وفرة الهواء يظل سليما من المشاكل الاقتصادية، ولا يوجد فيه فقير، لأن كل فرد فيه قادر على إشباع جميع رغباته في هذا الفردوس.
ولكن هذا لا يعني ان المشكلة الاقتصادية التي تعانيها البشرية في الواقع نابعة من عدم وجود هذا الفردوس. بل ليست محاولة تفسيرها على هذا الأساس إلا لونا من التهرب عن مواجهة الوجه الواقعي للمشكلة القابل للحل بإبراز وجهها الأسطوري الذي لا يمكن حله بحال من الأحوال، ليكون ذلك مبررا للاعتراف بحتمية المشكلة وحصر علاجها النسبي في تنمية الإنتاج بوصفها عملية مقصودة بذاتها، وبالتالي يؤدي ذلك إلى وضع النظام الاقتصادي في إطار المشكلة - بدلا عن اكتشاف النظام الذي يقضي عليها كما صنعت الرأسمالية حين أبرزت الوجه الأسطوري للمشكلة، فخيل هلا أن الطبيعة ما دامت بخيلة أو عاجزة عن إشباع حاجات الانسان جميعا فمن الطبيعي أن تتصادم هذه الحاجات وتتعارض، وعندئذ
639

لابد من وضع نظام اقتصادي ينسق تلك الحاجات ويحدد ما يجب إشباعه منها.
إن الإسلام لا يقر ذلك كله، وينظر إلى المشكلة من ناحيتها الواقعية القابلة للحل كما نجد ذلك في قوله تعالى:
{الله الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. إن الإنسان لظلوم كفار} (1).
فان هذه الآيات بعد أن استعرضت مصادر الثروة التي أنعم الله تعالى بها على الانسان أكدت أنها كافية لإشباع الانسان وتحقيق سؤله {وآتاكم من كل ما سألتموه} فالمشكلة الواقعية لم تنشأ عن بخل الطبيعة، أو عجزها عن تلبية حاجات الانسان. وإنما نشأت من الانسان نفسه كما تقرره الآية الأخيرة (إن الانسان لظلوم كفار). فظلم الانسان في توزيع الثروة وكفرانه للنعمة بعدم استغلال جميع المصادر التي تفضل الله بها عليه استغلالا تاما هما السببان المزدوجان للمشكلة التي يعيشها الانسان البائس منذ أبعد عصور التاريخ (2). وبمجرد تفسير المشكلة على أساس انساني يصبح بالامكان التغلب عليها، والقضاء على الظلم وكفران النعمة بإيجاد علاقات توزيع عادلة
، وتعبئة كل القوة المادية لاستثمار الطبيعة، واستكشاف كل كنوزها (3).

(1) إبراهيم / 32 - 34.
(2) لاحظ الوسائل ج 6، ص 4 وج 11، ص 249 و 539.
(3) راجع ص 314 من الكتاب.
640

الصلة بين الإنتاج والتوزيع
هل توجد صلة بين أشكال الإنتاج وعلاقات التوزيع؟.
هذا هو السؤال الذي يختلف في الإجابة عليه الإسلام والماركسية، اختلافا أساسيا على الصعيد المذهبي للاقتصاد.
فالماركسية تؤكد وجود هذه الصلة، وتؤمن بأن كل شكل من أشكال الإنتاج يفرض وفقا لقانون التطور - نوعا خاصا من التوزيع وهو النوع الذي ينسجم مع ذلك الشكل من الإنتاج، ويواكب نموه وتطوره. وإذا اتخذ الإنتاج شكلا جديدا لا يتفق في حركته مع علاقات التوزيع، التي فرضها الشكل السابق.. تحتم على علاقات جديدة في التوزيع، تلائم الشكل السائد من الإنتاج، وتساعده على النمو والتحرك. وهكذا ترى الماركسية: أن نظام التوزيع يتبع دائما شكل الإنتاج، ويتكيف وفقا لحاجاته. وهذه التبعية قانون طبيعي صارم للتاريخ، لا يمكن تبديله أو تعديله. فالقضية الأساسية في حياة الإنسان هي أن ينتج، وأن يسير الإنتاج وينموا باطراد. أما كيف يوزع الناتج؟. ومن هم الذين يمنحون حق ملكية الوسائل المنتجة؟ وهل يتم التوزيع على أساس ملكية الرقيق؟.. أو الملكية الإقطاعية، أو الملكية البرجوازية أو ملكية البروليتاريا.؟ فكل هذا تقرره مصلحة الإنتاج نفسه. فالإنتاج يتخذ في كل مرحلة تاريخية الأسلوب الموقت من التوزيع الذي يمكنه من النمو في إطاره.
641

وقد درسنا هذه النظرية الماركسية بإسهاب، في الكتاب الأول من اقتصادنا، واستطعنا أن نخرج من دراستنا بنتائج معاكسة للنظرية، تدينها فلسفيا وعلميا، وتبرهن على عجزها عن تفسير التاريخ (1). كما عرفنا في بعض البحوث السابقة موقف الإسلام من هذه النظرية، ورفضه تبعية التوزيع لشكل الإنتاج (2).
توجيه الإنتاج لضمان عدالة التوزيع:
والإسلام حين ينكر تبعية التوزيع لأشكال الإنتاج، وتكيفه تبعا لها بقوة القانون الطبيعي للتاريخ، كما تزعم الماركسية، لا يقطع الصلة بالمرة بين التوزيع وشكل الإنتاج. ولكن الصلة في رأس الإسلام بين التوزيع والإنتاج ليست علاقة تبعية موفقا لقانون طبيعي، وإنما هي صلة يفرضها المذهب، ويحدد فيها الإنتاج لحساب التوزيع، بدلا عن تكييف التوزيع طبقا لحاجات الإنتاج، كما تقرره النظرية الماركسية.
وتقوم الفكرة في هذه الصلة على أساس النقاط التالية:
أولا: إن الاقتصاد الإسلامي يعتبر قواعد التوزيع التي جاء بها ثابتة وصالحة في كل زمان ومكان (3)، لا يختلف في ذلك عصر الكهرباء والذرة عن عصر البخار، ولا عصر البخار عن عصر الطاحونة الهوائية والعمل اليدوي.
فعلى كل هذه العصور مثلا - تصح القاعد القائلة: إن من حق العام أن يقطف ثمار عمله.
وثانيا: إن عمليات الإنتاج التي يمارسها الفرد، تعتبر مرحلة تطبيق لتلك القواعد العامة في التوزيع (4). فإحياء الأرض الميتة، واستنباط عين الماء واقتطاع الخشب، واستخراج المعادن، كلها عمليات إنتاج. وهي في نفس الوقت تؤدي إلى تطبيق القواعد العامة للتوزيع على الثروات المنتجة. فمجال الإنتاج إذن هو ظرف تطبيق قواعد التوزيع.

(1) راجع ص 53 - 238 من الكتاب.
(2) راجع ص 321 - 330 من الكتاب.
(3) جواهر الكلام ج 36، ص 202 و 203 وسفينة البحار ج 1، ص 299.
(4) لاحظ جواهر الكلام ج 36، ص 209 و 222.
642

وثالثا: إن الإنتاج إذا ارتفع مستواه، وازدادت وسائله وإمكاناته.. نمت سيطرة الانسان على الطبيعة، وأصبح، بإمكان الفرد المجهز بقوى الإنتاج أن يمارس نشاطه في نطاق أوسع من المجالات التي كانت تتاح له قبل نمو الإنتاج وارتفاع مستواه (1).
وتعلية على هذه النقاط نعرف: إن تطور الإنتاج ونمو قواه، يتيح للانسان أكثر فأكثر استغلال القواعد العامة للتوزيع في مرحلة التطبيق، خلال عمليات الإنتاج التي يمارسها. وقد يبلغ هذا الاستغلال إلى درجة تشكل خطرا على التوازن العام، ومثل العدالة الاجتماعية في الإسلام.
ولنأخذ مثالا على ذلك من إحياء الأرض: فان الانسان في عصور العمل اليدوي، لم يكن يستطيع أن يحيي مساحات شاسعة من الأرض، لأن النظرية لا تأذن له باستخدام الأجراء في هذا السبيل، وهو لا يمكنه بأدوات عصر ما قبل الآلة ان يباشر الاحياء إلا في حدود خاصة، ولهذا لم يكن قي مقدوره أن يسيء استغلال القواعد العامة للتوزيع في مرحلة التطبيق ولا أن يمتلك مساحات خطيرة من الأرض، وفقا للقاعدة التي تمنح المحيي حقا في الأرض التي أحياها. ولكن عصر الآلة يمد الفرد بالقدرة على إحياء تلك المساحات الخطيرة، وإساءة استغلال القواعد العامة للتوزيع في مرحلة التطبيق، فلا بد في هذه الحالة، توجيه التطبيق الوجهة التي تتفق مع مثل العدالة الاجتماعية في الإسلام.
ومن هنا نشأت الصلة المذهبية في الإسلام، بين الإنتاج والتوزيع، ومردها في الحقيقة على فكرة التطبيق الموجه، التي تحدد الإنتاج، بوصفه عملية تطبق لقواعد التوزيع، تحديدا يضمن عدالة التوزيع واتساقه مع مثل الإسلام وأهدافه.
وقد جسد الإسلام فكرة التطبيق الموجه التي تحدد الإنتاج لحساب التوزيع، في إعطاء ولي الأمر الحق في التدخل للحد من تطبيق القاعدة والمنع عن الأعمال التي تؤدي إلى استغلال قواعد التوزيع استغلالا سيئا، ففي
مثال الأرض الذي قدمناه، يملك ولي الأمر الحق في منع الفرد من ممارسة الاحياء، إلا في حدود تعيين وفقا

(1) لاحظ علل الشرائع ج 1، ص 253.
643

لتصور الإسلام للعدالة الاجتماعية كما يقرره مبدأ تدخل الدولة الذي سوف ندرسه بتفصيل في بحث مقبل (1).
وهكذا نعرف أن تطور الإنتاج ونموه، قد يفرض على ولي الأمر التدخل في توجيه الإنتاج، والتحديد من مجالات تطبيق القواعد العامة للتوزيع، دون أن يمس جوهر القواعد نفسها.
وهذا يعني أن مبدأ تدخل الدولة الذي يسمح لها بتوجيه التطبيق، هو القاعدة التي ضمن بها الإسلام صلاحية قواعده العامة في التوزيع، وانسجامها مع تصوراته للعدالة الاجتماعية في كل زمان ومكان (2).

(1) ص 685 من الكتاب.
(2) لاحظ الأصول من الكافي ج 1، ص 405، وعلل الشرائع ج 1، ص 253، وتحف العقول ص 357، وإيصال الطالب ج 7، ص 180.
644

الصلة بين الإنتاج والتداول
الإنتاج كما نعرف هو: عملية تطوير الطبيعة إلى شكل أفضل بالنسبة إلى حاجات الانسان (1).
والتداول بمعناه المادي: نقل الأشياء من مكان إلى آخر، وبمعناه القانوني - وهو الذي نقصده بهذا البحث - يعبر عن: مجموع عمليات التجارة التي تتم عن طريق عقود المقايضة، من بيع ونحوه.
(1) وبالتعبير التقليدي في الاقتصاد هو: خلق منفعة جديدة:
وإنما آثرنا التعبير الأول في تعريف الإنتاج، لأن الذين يعرفونه بالصيغة الثانية، يقعون في تعميم غير مقصود، لأنهم يفسرون المنفعة بأنها صفة في الشيء، تجعله صالحا لإشباع أي حاجة كانت. ويقولون: إن هذه الصفة ليست صفة ذاتية أو موضوعية في الشيء، وإنما تتولد عن مجرد الرغبة فيه، ولو كانت الرغبة تقوم على خطأ في تقدير لا موقف، كالرغبة في عقاقير نتيجة لاعتقاد خاطئ بأثرها في الوقاية من الوباء.
وتعريف الإنتاج والمنفعة بهذا الشكل، يدرج في الإنتاج: عمل الفرد في إقناع الجمهور بفائدة مادة معينة في الوقاية أو العلاج لأن هذا العمل يخلق منفعة جديدة ويؤدي إلى تمتع تلك المادة بصفة إشباع لرغبة عامة، بالرغم من أن الفرد لم يمارس المدة في أي نشاط اقتصادي.
وهذا هو التعميم الذي يمنى به التعريف التقليدي. ولهذا قلنا: ان الإنتاج هو تطوير الطبيعة إلى شكل أفضل بالنسبة إلى حاجات الانسان. وبهذا يتوقف اكتساب العمل طابع الإنتاج على خلقه المنفعة وممارسته للطبيعة بلون من الألوان.
645

ومن الواضح: أن التداول بمعناه المادي نوع من عمليات الإنتاج. لأن نقل الثروة من مكان إلى مكان يخلق في كثير من الأحيان منفعة جديدة ويعتبر تطويرا للمادة إلى شكل أفضل بالنسبة إلى حاجات الانسان، سواء كان النقل عموديا - كما في الصناعات الاستخراجية، التي يمارس الإنتاج فيها عملية نقل المواد الأولية من أعماق الأرض إلى سطحها - أو أفقيا كما في نقل السلع المنتجة إلى الأماكن القريبة من المستهلكين، واعدادها في متناول أيديهم، فإن نقلهم بهذا الشكل نوع من التطوير إلى شكل أفضل، بالنسبة إلى حاجات الانسان.
وأما التداول بمعناه القانوني، ونقل الحقوق أو الملكية من فرد لآخر، كما نشاهد في عمليات التجارة، فهو بوصفه عملية قانونية لابد أن يكتسب مفهومه، وتحدد علاقته بالإنتاج على أساس مذهبي.
ولهذا يمكننا أن ندرس رأس الإسلام في الصلة بين الإنتاج والتداول وطبيعة العلاقة التي يقيمها بينهما في مخططه المذهبي العام.
ومفهوم الإسلام عن التداول وصلته بالإنتاج مذهبيا لا يساهم في تصور مذهبي شمل فحسب، بل يلعب أيضا دورا مهما في وضع السياسة العامة في مجال التداول وملء الفراغ الذي تركه الإسلام للدولة لكي تملأ حسب الظروف.
مفهوم الإسلام عن التداول:
والذي يبدو من دراسة نصوص المفاهيم والأحكام، واتجاهها التشريعي العام: ان التداول في نظر الإسلام من حيث المبدأ شعبة من الإنتاج، ولا ينبغي أن ينفصل عن مجاله العام.
وهذا المفهوم الإسلام، الذي سوف نلمحه في عدة نصوص وأحكام يتفق تماما مع قصة التداول تاريخيا ونشوئه، والحاجات الموضوعية التي ولدته.
فان التداول في أكبر الظن لم يكن موجودا على نطاق واسع في المجتمعات التي كان كل فرد فيها يكتفي عادة بما ينتجه مباشرة، في إشباع حاجاته البسيطة.
646

لأن الانسان الذي يعيش هذا الاكتفاء الذاتي لا يشعر بحاجة غالبا، إلى الحصول على منتجات فرد آخر ليمارس مع ذلك الفرد لونا من ألوان التداول والتبادل. وإنما نشأ التداول في حياة الانسان نتيجة لتقسيم العمل، الذي أصبح كل فرد بموجبه يمارس فرعا خاصا من فروع الإنتاج، وينتج في ذلك الفرع كمية أكبر من حاجته ويحصل على سائر السلع التي يحتاجها من منتجي تلك السلع عن طريق التبدل، وإعطائهم حاجتهم من منتوجه لقاء الحصول على منتوجاتهم فان تنوع الحاجات وكثرتها فرض تقسيم العمل بهذا الشكل وبالتالي أدى إلى انتشار التداول ووجوده في حياة الانسان على نطاق واسع.
فمنتج الحنطة مثلا يقتصر على إنتاجها. ويسد حاجته من الصوف بحل كمية من الحنطة الفائضة عن الحاجة. إلى منتج الصوف الذي يحتاج بدوره إلى حنطة، فيدفع اليه حاجته من الحنطة ويتسلم منه مقابل ذلك الكمية التي يريدها من الصوف.
ونلاحظ في هذا الصورة: ان منتج الحنطة التقى بالمستهلك مباشرة، كما أن الراعي بوصفه منتجا للصوف اتصل في عملية التداول بالمستهلك للصوف، دون وسيط فالمستهلك - وفقا لهذه الصورة -: هو دائما منتج باعتبار آخر.
وتطور التداول بعد ذلك، فوجد الوسيط بين المنتج والمستهلك، وأصبح منتج الصوف لا يبيع الصوف مباشرة لمنتج الحنطة في مثالنا السابق بل أخذ شخص ثالث يقوم بدور الوساطة بينهما، فيشتري الكميات المنتجة من الصوف، لا لاستهلاكها في حاجته الخاصة، لإعدادها وجعلها في متناول أيدي المستهلكين. فبدلا عن أن يتصل منتج الحنطة بمنتج الصوف ابتداء، أصبح يلتقي بهذا الوسيط الذي أعد الصوف في السوق وهيأه للبيع، ويتفق معه على الشراء. ومن هنا نشأت عمليات التجارة، وأصبح الوسيط يوفر كثيرا من الوقت والجهد على المنتجين والمستهلكين.
وفي هذا الضوء نعرف: ان التداول أو نقل الملكية في كلا الدورين - دور التقاء
647

المنتجين مباشرة ودور الوسيط التاجر - كان يسبقه عمل من أعمال الإنتاج، ممن ينقل ملكية المال إلى غيره ويحصل على ثمنه. ففي الدور الأول: كان منتج الصوف يمارس بنفسه عملية إنتاج الصوف، ثم يبيعه وينقل ملكيته إلى آخر بعوض. وفي الدور الثاني: كان الوسيط يمارس عملية نقل الصوف إلى السوق، والمحافظة عليه واعداده في متناول يد المستهلك متى أراد. وهذا لون من الإنتاج كما عرفنا قبل لحظات.
وهذا يعني أن الفوائد التي يجنيها البائع من نقل ملكية المال إلى غيره بعوض - وهي ما نسميه الآن بالأرباح - كانت نتيجة لعمل إنتاجي، يمارسه البائع، ولم تكن نتيجة لنفس عملية نقل الملكية.
ولكن سيطرة الدوافع الأنانية على التجارة أدت إلى تطويرها، وانحرافها عن وضعها الطبيعي، الذي كان ناتجا، حاجة موضوعية سليمة، وبخاصة في عصر الرأسمالية الحديثة ونتج عن ذلك انفصال التداول في كثير من الأحيان عن الإنتاج، وأصبح نقل الملكية عملية تقصد لذاتها، دون أن يسبقها أي عمل إنتاجي من الناقل وتمارس لأجل الحصول على فوائد وأرباح. فبينما كانت التجارة مصدرا لهذه الفوائد والأرباح، بوصفها شعبة من الإنتاج، أصبحت مصدرا لذلك لمجرد كونها عملية قانونية لنقل الملكية. ولهذا نجد في تجارة الرأسمالية: أن العمليات القانونية لنقل الملكية قد تتعدد على مال واحد، تبعا لتعدد الوسطاء بين المنتج والمستهلك، لا لشيء، إلا لكي يحصل أكبر عدد ممكن من التجار الرأسماليين على أرباح تلك العمليات ومكاسبها.
ومن الطبيعي يرفض الإسلام هذه الانجراف الرأسمالي في عمليات التداول، لأنه يتعارض مع مفهومه عن المبادلة نظرته إليها بوصفها جزءا من الإنتاج كما قلنا آنفا. ولهذا هو يعالج قضايا التداول وينظمها دائما في ضوء نظريته الخاصة اليه، ويتجه إلى عدم فصل التداول تشريعيا، في التنظيمات القانونية لعقود المقايضة.. عن الإنتاج فصلا حاسما.
648

النصوص المذهبية للمفهوم:
ومن اليسير الآن - بعد أن اتضحت معالم المفهوم الإسلامي عن التداول (1) - أن نلمح هذا المفهوم في النصوص المذهبية للإسلام، وفي مجموعة من الأحكام والتشريعات التي يضمها البناء العلوي للشريعة.
فمن النصوص المذهبية التي تعكس هذا المفهوم، وتحدد النظرية الإسلامية إلى التداول، ما جاء في كتاب علي عليه السلام إلى واليه على مصر، مالك الأشتر، وهو يضع له برنامج العمل، ويحدد له مفاهيم الإسلام ((ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا. المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه. فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترون عليها)) (2).
وواضح من هذا النص أن فئة التجار جعلت في صف واحد مع ذوي الصناعات، أي المنتجين، وأطلق عليهم جميعا أنهم مواد المنافع، فالتاجر يخلق منفعة كما يخلق الصانع وعقب ذلك بشرح المنافع التي يخلقها التجار، والعمليات التي يمارسونها في جلب المال من المباعد والمطارح، ومن حيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها.
فالتجارة في نظر الإسلام - إذن - نوع من الإنتاج والعمل المثمر. ومكاسبها إنما هي في الأصل نتيجة لذلك، لا للعملية في نطاقها القانوني فحسب.
وهذا المفهوم الإسلامي عن التداول ليس مجرد تصور نظري فحسب، وإنما يعبر عن اتجاه عملي عام لأنه يقدم الأساس الذي تملأ الدولة على ضوئه الفراغ المتروك لها في حدود صلاحياتها، كما ألمعنا إلى ذلك سابقا.

(1) قد يكون من الأفضل أن نعبر عن هذا اللون من المفاهيم بكلمة: اتجاه إسلامي، تمييزا لها عن الأحكام الإسلامية.
(2) نهج البلاغة ص 438، الرسالة 53.
649

الاتجاه التشريعي الذي يعكس المفهوم:
وأما الأحكام والتشريعات التي تعكس المفهوم الإسلامي في التداول، فيمكننا أن نجدها في عدد من النصوص التشريعية، والآراء الفقهية كما يلي:
1 - في رأس عدد من الفقهاء كالعماني والصدوق والشهيد الثاني والشافعي وغيرهم: إن التاجر إذا اشترى حنطة مثلا ولم يقبضها لا يسمح له أن يربح فيها عن طريق بيعها بثمن أكبر، وإنما يجوز له ذلك بعد قبضتها (1) مع أن عملية النقل القانونية تتم في الفقه الإسلامي بنفس العقد، ولا تتوقف على أي عمل إيجابي بعده.
فالتاجر يملك الحنطة بعد العقد وإن لم يقبضها، ولكنه بالرغم من ذلك يسمح له بالاتجار بها، والحصول على ربح ما لم يقبض المال، حرصا على ربط الأرباح التجارية بعمل، وإخراج التجارة عن كونها مجرد عمل قانوني يدر ربحا.
وفي عدة نصوص تشريعية ما يشير إلى هذا الرأس - ففي خبر علي بن جعفر: ((أنه سأل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: عن الرجل يشتري الطعام، أيصلح بيعه قبل أن يقبضه؟ قال (ع): إذا ربح لم يصلح حتى يقبض، وإن كان توليه - أي باعه بنفس الثمن الذي اشتراه به بدون ربح - فلا بأس)) (2).
وقال العلامة الحلي في التذكرة: (منع جماعة من عملائنا بيع ما لم يقبض في سائر المبيعات (3).
وقال الإمام الشافعي: (وبهذا نأخذ فمن ابتاع شيئا كائنا ما كان فليس له أن يبيعه حتى يقبضه) (4).
(1) لاحظ المقنع للصدوق، ص 31 من الجوامع الفقهية، والروضة في شرح اللمعة ج 3، ص 528، والأم ج 3، ص 69، والوسائل ج 12، ص 387، ومختلف الشيعة ج 2، ص 115
650

وإلى ذلك ذهب الفقهاء الأحناف أيضا (1).
2 - في رأي الإسكافي، والعماني، والقاضي، وابن زهرة، والحلبي، وابن حمزة ومالك، وكثير من الفقهاء: أن التاجر إذا ابتاع مالا مؤجلا بثمن يدفعه فعلا، فليس له حين حلول الأجل أن يبيع ما اشتراه - قبل قبضه - بثمن أكبر (2) فإذا اشتريت حنطة من الزارع، واتفقت معه على أن يسلك المبلغ بعد شهر، ودفعت له الثمن فعلا، فلا يجوز لك بعد مرور شهر أن تبيع تلك الحنطة بزيادة قبل أن تقبضها، تستغل عملية النقل القانوني في سبيل الحصول على ربح جديد، وانما لك أن تبيع المال بنفس الثمن الذي اشتريته به.
وقد كتب ابن قدامة يقول: (أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا) (3).
وقد استند أصحاب هذا الرأي إلى عدة روايات ففي الحديث: ان أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: من اشترى طعاما أو علفا إلى أجل، فإن لم يجد شرطه وأخذ ورقا، فلا يأخذ إلى رأس ماله لا يظلمون ولا يظلمون)) (4). وفي حديث آخر: ((عن يعقوب بن شعيب أنه سأل الإمام الصادق (ع): عن الرجل يسلف في الحنطة والتمر بمائة درهم، فيأتي صاحبه حين يحل له الذي له، فيقول: والله ما عندي إلى نصف الذي لك، فخذ مني إن شئت بنصف الذي لك حنطة وبنصفه ورقا، - أي نقدا -. فقال: لا باس إذا أخذ منه الورق كما أعطاه - أي بقدر مائة درهم)) (5) (6).

(1) الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري، ج 2، ص 233، شرح القدير ج 5، ص 492، والمبسوط للسرخسي، ج 12، ص 163.
(2) الوسائل ج 12، ص 389، الحديث 23159.
(3) المغني ج 4، ص 341.
(4) الوسائل ج 13، ص 72، الحديث 23733.
(5) المصدر السابق، الحديث 23734.
(6) هذه النصوص إنما تدل على الحكم المقصود، إذا كانت تستهدف بالنهي الوارد فيها، منع المشتري عن بيع ما اشتراه سلفا قبل قبضه وبعد حلول أجله بثمن أكبر. وأما إذا كانت النصوص تريد بيان ما للمشتري المطالبة به، إذا فسخ العقد استنادا إلى حقه في الخيار، نتيجة لعدم تسليم البائع له السلعة في الوقت المحدد، فيكون معنى النهي فيها أن المشتري إذا لم يتسلم السلعة التي اشتراها سلفا في الوقت المحدد، وفسخ العقد، فليس له إلا استرجاع نفس الثمن الذي سلمه للبائع سابقا. وعلى هذا التقدير لا تبقى في النصوص دلالة على النهي عن البيع بثمن أكبر قبل القبض.
651

3 - جاء في نصوص نبوية كثيرة النهي عن تلقي الركبان، وعن بيع الحاضر للبادي. ففي الحديث: ((أن رسول الله (ص) قال: لا يتلقى أحدكم تجارة خارجا من المصر، ولا يبيع حاضر لباد)) (1).
وروى الشافعي بسنده إلى جابر ان رسول الله (ص) قال: (لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق بعضهم من بعض) كما روى بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال (لا تلقوا السلع) (2).
وتلقي الركبان هو: خروج التاجر إلى خارج البلد، ليستقبل أصحاب البضائع، ويشتري منهم بضائعهم، قبل أن يدخلوا البلد، ويرجع إلى المدينة فيبيع السلع على الناس. وبيع الحاضر لأهل البادية: أن يتولى تاجر المدينة شأن القرويين، الذين يقدمون المدينة وهم يحملون منتجاتهم من فواكه وألبان وغيرها، فيشتريها منهم ثم يبيعها ويتجر بها (3). وواضح أن النهي عن هاتين العمليتين يحمل طابع الاتجاه الإسلامي الذي نحاول إثباته، لأن النهي يستهدف الاستغناء عن الوسيط ودوره الطفيلي، الذي يحول به دون مواجهة صاحب السلعة للمستهلك مباشرة، لا لشيء إلا ليربح الوسيط على أساس اقحام نفسه بينهما. فالوساطة هنا لا يرحب بها الإسلام، لأنها وساطة متكلفة لا تعتبر عن أي محتوى إنتاجي لعمليات التجارة، بل عن هدف في مجرد المبادلة لأجل الربح.

(1) الوسائل ج 12، ص 326، الحديث 22951 وص 327، الحديث 22953.
(2) الأم ج 3 ص 93.
(3) لاحظ الروضة في شرح للمعة ج 3 ص 296 وجواهر الكلام ج 22، ص 470.
652

لمن ننتج؟
أود البدء بإبراز موقف الرأسمالية من هذا السؤال، ليتاح عن طريق مقارنة الموقف الإسلامي به، اعطاء الجواب من وجهة نظر الإسلام، بملامحه المحددة، وسماته المميزة.
الموقف الرأسمالي:
المذهب الرأسمالي يعتمد في توجيه الإنتاج على جهاز الثمن، الذي تحدده قوانين العرض والطلب في السوق الحرة، لأن الاقتصاد الرأسمالي الحر يقوم على أساس المشاريع الخاصة، التي يديرها الأفراد وتخضع لإرادتهم وكل واحد من هؤلاء يدير مشروعه ويخطط إنتاجه، وفقا لمصلحته ورغبته في أكبر قدر ممكن من الربح. فحاسة الربح هي التي تكيف لدى كل فرد إنتاجه وتوجه نشاطه. والربح يتبع حركة الثمن في السوق، فكلما اطلع صاحب المشروع على ارتفاع ثمن سلعة، اتجه إلى إنتاجها بقدر كبير، أملا في الحصول على الوفير من الربح. ومن الواضح أن ارتفاع ثمن السلعة في السوق يعكس في الظروف السليمة زيادة الطلب عليها. وبهذا تضمن الرأسمالية ربط الإنتاج بالطلب، لأن الربح هو الذي يحرك الإنتاج، وارتفاع الثمن هو الذي يغري المشاريع الرأسمالية بالربح، وزيادة الطلب هي التي تؤدي إلى ارتفاع الثمن، فيكون الإنتاج في النهاية موجها من قبل المستهلكين مكيفا طبقا لحاجاتهم، التي تعبر عن نفسها في زيادة الطلب وارتفاع الثمن. وفي هذا الضوء تجيب
653

الرأسمالية على سؤال: لمن ننتج؟ إن الإنتاج لأجل المستهلكين وحاجاتهم. ويتناسب طرادا وعكسا واتجاها مع
هذه الحاجات.
نقد الموقف الرأسمالي:
هذه هي الصورة الظاهرة للإنتاج الرأسمالي، أو هي الصورة المشرقة التي يحاول الرأسماليون ابراز الإنتاج الرأسمالي في إطارها الزاهي، ليبرهنوا على التوافق والتلاقي في ظل النظام الرأسمالي بين خطي الإنتاج والطلب، وحركتهما العامتين.
ولكن هذه الصورة، بالرغم من صدقها جزئيا، لا تستطيع ان تخفي التناقض الصارخ في ظل النظام الرأسمالي بين الإنتاج والطلب. فهي تشرح الترابط في تسلسل متعدد الحلقات بين الإنتاج والطلب، ولكنها لا تحدد مدلول الطلب، ولا تكشف عن مفهوم الرأسمالية عن هذا الطلب، الذي يتحكم في إنتاج ويواجهه بواسطة رفع ثمن السلع.
والحقيقة أن الطلب في المفهوم الرأسمالي هو تعبير نقدي أكثر من كونه تعبيرا بشريا عن حاجة من الحاجات، لأنه لا يشمل إلا قسما خاصا من الطلب وهو ذلك الطلب الذي يؤدي إلى ارتفاع ثمن السلعة في السوق، أي الطلب الذي يتمتع بالقوة الشرائية، ويمتلك رصيدا نقديا قادرا على إشباعه وأما تلك الطلبات المجردة عن تلك القوة النقدية، التي لا تستطيع أن تغزو السوق الرأسمالية ولا تؤدي إلى رفع ثمن السلعة لعدم امتلاكها الثمن، فنصيبها الإهمال مهما كانت ملحة وضرورية، ومهما عمت واستوعبت، لأن الطلب لابد أن يبرهن عليه الطالب بالنقد الذي يقدمه، وما لم يقدم هذا البرهان فلا حق له في توجيه الإنتاج، ولا كلمة له في الحياة الاقتصادية الرأسمالية وان نبع من صميم الواقع البشري وضروراته الملحة.
وبمجرد أن نعرف مفهوم الرأسمالية هذا عن الطب، تتبدد فجأة كل تلك الأحلام الذهبية التي نسجها أنصار الاقتصاد الحر، حول الإنتاج الرأسمالي وتكيفه وفقا للحاجة والطلب، لأن القوة الشرائية في المجتمع الرأسمالي تتوفر - بدرجات
654

عالية - في القلة المحظوظة التي تسيطر على ثروات البلاد، وتنخفض لدى غيرهم، وتهبط هبوطا كبيرا في مستوى القاعدة التي تتكون منها أكثرية المجتمع الرأسمالي ونتيجة هذا التفاوت الهائل في القوة الشرائية - من وجهة نظر المذهب الرأسمالي - أن تحتكر لأنها هي التي تغري أصحاب المشاريع، وتسيل لعابهم بما تؤدي اليه من ارتفاع الأثمان وتحرم الطلبات الحياتية للجمهور من ذلك لعدم تمتعها بقوة شرائية مغرية.
ولما كانت الطلبات التي تتمتع بالقوة الشرائية الضخمة، قادرة على جلب كل السلع الضرورية والكمالية، وأدوات اللهو ووسائل الترف من السوق الرأسمالية، بينما تعجز الطلبات الفقيرة حتى عن جلب السلع الضرورية بصورة كاملة، فسوف يؤدي ذلك إلى تجنيد المشاريع الرأسمالية كل طاقاتها لإشباع تلك الطلبات المترفة، والرغبات النهمة التي لا تكف عن التفنن في إشباع نهمها، وتطلب الجديد تلو الجديد من أدوات البطر ووسائل المتعة واللذة، وتبقى طلبات الكثرة الكاثرة من الناس على السلع الضرورية ومواد الحياة قائمة دون أن تلقى عناية من الإنتاج الرأسمالي، اللهم إلا في الحدود التي توفر للكبار الأيدي العامة. وهكذا تمتلئ الأسواق الرأسمالية بألوان من سلع الترف والكماليات، بينما تفقد أحيانا الكمية الكافية من السلع الضرورية التي تستطيع ان تشبع الجميع إشباعا كاملا.
هذه هي الرأسمالية في موقفها من الإنتاج، والطريقة التي تعتمد عليها في تحديد حركته.
الموقف الإسلامي:
وأما الإسلام فيمكن تلخيص موقفه في النقاط التالية:
1 - يحتم الإسلام على الإنتاج الاجتماعي أن يوفر إشباع الحاجات الضرورية لجميع أفراد المجتمع، بإنتاج كمية من السلع القادرة على إشباع تلك الحاجات الحياتية، بدرجة من الكفاية التي تسمح لكل فرد بتناول حاجته الضرورية منها. وما
655

لم يتوفر مستوى الكفاية والحد الأدنى من السلع الضرورية، لا يجوز توجيه الطاقات القادرة على توفير ذلك إلى حقل آخر من حقول الإنتاج (1). فالحاجة نفسها ذات دور إيجابي في حركة الإنتاج، بقطع النظر عن القدرة الاقتصادية لهذه الحاجة ورصيدها النقدي.
2 - كما يحتم الإسلام أيضا على الإنتاج الاجتماعي أن لا يؤدي إلى الإسراف، لأن الإسراف محرم في الشريعة، سواء حصل بتصرف شخصي من الفرد أو بتصرف عام من المجتمع خلال حركة الإنتاج (2)، فكما يحرم على الفرد أن يستعمل العطور الثمينة في غسل ساحة داره، لأنه إسراف، كذلك يحرم على المجتمع أو على منتجي العطور - بتعبير آخر - أن ينتجوا من العطور كمية تزيد على حاجة المجتمع وقدرته الاستهلاكية والتجارية، لأن إنتاج الفائض لون من الإسراف، وتبديد الأموال بدون مبرر.
3 - يسمح الإسلام للإمام بالتدخل في الإنتاج، للمبررات الآتية (3):
أولا: لكي تضمن الدولة الحد الأدنى من إنتاج السلع الضرورية، والحد الأعلى الذي لا يجوز التجاوز عنده لأن من الواضح أن يسير مشاريع الإنتاج الخاصة، وفقا لإرادة أصحابها، دون توجيه مركزي من قبل السلطة الشرعية يؤدي في عصور الإنتاج المعقد والضخم إلى تسيب الإنتاج الاجتماعي، وتعرضه للإسراف والافراط
من جانب، وللتفريط بالحد الأدنى من جانب آخر. فلا بد لضمان سير الإنتاج الاجتماعي بين الحدين من الاشراف والتوجيه.
وثانيا: لأجل أن تملأ منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف. فان منطقة الفراغ تضم جميع ألوان النشاط المباحة بطبيعتها فلولي الأمر أن يتدخل في هذه الألوان من النشاط، ويحدد منها في ضوء الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي.

(1) لاحظ الوسائل ج 11، ص 597.
(2) لاحظ الميزان ج 8، ص 93 و 94.
(3) لاحظ علل الشرائع ج 1، ص 253، وتحف العقول ص 462 - 464.
656

وسوف نتحدث بتفصيل عن منطقة الفراغ هذه أن وحدوها ودورها في البحث المقبل. والذي نعنيه هنا أن الصلاحيات الممنوحة لولي الأمر في ملء منطقة الفراغ، تجعل من حقه التدخل في حركة الإنتاج والاشراف عليها، وتحديدها ضمن منطقة الفراغ المتروكة للدولة.
وثانيا: إن التشريع الإسلام بشأن توزيع الثروات الطبيعية الخام يفسح المجال بطبيعته للدولة لكي تتدخل، وتهيمن على الحياة الاقتصادية كلها، لأن تشريع الإسلام بهذا الشأن يجعل من المباشرة في العمل، شرطا أساسيا في تملك الثروة الطبيعية الخام، واكتساب الحق الخاص فيها - على قول فقهي سبق في بعض الابنية العلوية - وهذا يعني بطبيعته عدم إمكان قيام الفرد، مهما كانت إمكاناته بالمشاريع الكبرى في استثمار الطبيعة وثرواتها العامة، ما دام لا يكتسب حقه فيها إلا بالمباشرة. فيتعين على إنتاج الثروات الطبيعية الخام والصناعات الإستخراجية، أن تتم بتنظيم من السلطة الشرعية، ليتاح عن طريقها إقامة مشاريع كبرى لاستثمار تلك الثروات، ووضعها في خدمة المجتمع الإسلامي.
وإذا تمت للدولة الهيمنة على الصناعات الإستخراجية وإنتاج المواد الأولية الخام، كان لها بالتالي السيطرة وبصورة غير مباشرة.. على مختلف فروع الإنتاج في الحياة الاقتصادية، لأنها تتوقف غالبا على الصناعات الإستخراجية، وإنتاج المواد الأولية، فيمكن لولي الأمر أن يتدخل في مختلف تلك الفروع بصورة غير مباشرة، عن طريق هيمنته على المرحلة الأولية والأساسية من الإنتاج، أي إنتاج المواد الطبيعية.
657

مسؤولية الدولة في الإقتصاد الإسلامي
1 - الضمان الاجتماعي
2 - التوازن الاجتماعي
3 - مبدأ تدخل الدولة
659

1 - الضمان الاجتماعي
فرض الإسلام على الدولة ضمان معيشة أفراد المجتمع الإسلامي ضمانا كاملا. وهي عادة تقوم بهذه المهمة على مرحلتين: ففي المرحلة الأولى تهئ الدولة للفرد وسائل العمل، وفرصة المساهمة الكريمة في النشاط الاقتصادي المثمر، ليعيش على أساس عمله وجهده. فإذا كان الفرد عاجزا عن العمل وكسب معيشته بنفسه كسبا كاملا، أو كانت الدولة في ظرف استثنائي لا يمكنها منحه فرصة العمل، جاء دور المرحل الثانية، التي تمارس فيها الدولة تطبيق مبدأ الضمان، عن طريق تهيئة المال الكافي، لسد حاجات الفرد، وتوفير حد خاص من المعيشة له.
ومبدأ الضمان الاجتماعي هذا يرتكز في المذهب الاقتصادي للإسلام على أساسين، ويستمد مبرراته المذهبية منهما:
أحدهما: التكافل العام. والآخر: حق الجماعة في موارد الدولة العامة. ولكل من الأساسين حدوده ومقتضياته، في تحديد نوع الحاجات التي يجب أن يضمن إشباعها، وتعيين الحد الأدنى من المعيشة التي يوفرها مبدأ الضمان الاجتماعي للافراد.

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38، ص 55، والوسائل ج 6، ص 363، الحديث 12626، وص 365 الحديث 12631.
(2) لاحظ جواهر الكلام ج 36، ص 432، والميزان ج 4، ص 171.
661

فالأساس الأول للضمان لا يقتضي أكثر من ضمان إشباع الحاجات الحياتية والملحة للفرد، بينما يزيد الأساس الثاني على ذلك، ويفرض إشباعا أوسع ومستوى أرفع من الحياة.
والدولة يجب أن تمارس الضمان الاجتماعي في حدود امكاناتها على مستوى كل من الأساسين.
ولكي نحدد فكرة الضمان في الإسلام يجب أن نشرح هذين الأساسين ومقتضياتهما وأدلتهما الشرعية.
الأساس الأول للضمان الاجتماعي:
فالأساس الأول للضمان الاجتماعي: هو التكافل العام. والتكافل العام هو المبدأ الذي يفرض فيه الإسلام على المسلمين كفاية، كفالة بعضهم لبعض ويجعل من هذه الكفالة فريضة على المسلم في حدود ظروفه وإمكاناته، يجب عليه أن يؤديها على أي حال كما يؤدي سائر فرائضه.
والضمان الاجتماعي الذي تمارسه الدولة على أساس هذا المبدأ للتكافل العام بين المسلمين، يعبر في الحقيقة عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال ما يكلفون به شرعا، ورعايتها لتطبيق المسلمين أحكام الإسلام على أنفسهم. فهي بوصفها الأمنية على تطبق أحكام الإسلام، والقادرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مسؤولية عن أمانتها، ومخولة حق إكراه كل فرد على أداة واجباته الشرعية، وامتثال التكاليف التي كلفه الله بها. فكما يكون لها حق إكراه المسلمين على الخروج إلى الجهاد لدى وجوبه عليهم، كذلك لها حق إكراههم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين، إذا امتنعوا عن القيام بها. وبموجب هذا الحق يتاح لها أن تضمن حياة العاجزين
وكالة عن المسلمين، وتفرض عليهم في حدود صلاحياتها مد هذا الضمان بالقدر الكافي من المال، الذي يجعلهم قد أدوا الفريضة وامتثلوا أمر الله تعالى (1).

(1) لاحظ علل الشرائع ج 1، ص 200 و 253، وتحف العقول ص 462.
662

ولأجل أن نعرف حدود الضمان الاجتماعي، الذي تمارسه الدولة على أساس مبدأ التكافل، ونوع الحاجات التي يضمن إشباعها.. يجب أن نستعرض بعض النصوص التشريعية التي أشارت إلى مبدأ التكافل، لنحدد في ضوئها القدر الواجب من الكفالة على المسلمين، وبالتالي حدود الضمان الذي تمارسه الدولة على هذا الأساس.
فقد جاء في الحديث الصحيح عن سماعة: ((أنه سال الإمام جعفر بن محمد عن قوم عندهم فضل، وبإخوانهم حاجة شديدة، فرد الزكاة أيسعهم أن يشبعوا ويجوع اخوانهم؟. فإن الزمان شديد، فرد الإمام عليه قائلا: إن المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحرمه، فيحق على المسلمين الاجتهاد فيه والتواصل والتعاون عليه، والمواساة لأهل الحاجة)) (1).
وفي حديث آخر: أن الإمام جعفر قال: ((أيما مؤمن منع مؤمنا شيئا مما يحتاج اليه، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره، أقامه الله يوم القيامة مسودا وجهه، مزرقة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله، ثم يؤمر به إلى النار)) (2). وواضح أن الأمر به إلى النار يدل على: أن المؤمن يجب عليه إشباع حاجة أخيه المؤمن، في حدود قدرته، لأن الشخص لا يدخل النار إذا ترك شيئا لا يجب عليه.
والحاجة في هذا الحديث وإن جاءت مطلقة ولكن المقصود منها هو الحاجة الشديدة التي ورد الحديث الأول بشأنها، لأن غير الحاجات الشديدة لا يجب على المسلمين كفالتها وضمان إشباعها إجماعا.
وينتج عن ذلك: أن الكفالة هي في حدود الحاجات الشديدة. فالمسلمون إذا كان لديهم فضل عن مؤونتهم، فلا يسعهم - على حد تعبير النص في الحديث الأول - أن يتركوا أخاهم في حاجة شديدة، بل يجب عليهم إشباع

(1) الوسائل ج 11 ص 597، الحديث 21827.
(2) الوسائل ج 11، ص 559، الباب 39، الحديث 21833.
663

تلك الحاجة وسدها (1).
وقد ربط الإسلام بين هذا الكفالة ومبدأ الأخوة العامة بين المسلمين ليدلل على أنها ليست ضريبة التفوق في الدخل فحسب، وإنما هي التعبير العملي عن الأخوة العامة، سيرا منه على طريقته في إعطاء الأحكام إطارا خلقيا يتفق مع مفاهيمه وقيمه، فحق الانسان في كفالة الآخر له مستمد في مفهوم الإسلام من أخوته له، واندراجه معه في الأسر البشرية الصالحة. والدولة تمارس في حدود صلاحياتها حماية هذا الحق وضمانه. والحاجات التي يضمن هذا الحق إشباعها هي الحاجات الشديدة. وشدة الحاجة تعني كون الحاجة حياتية، وعسر الحياة بدون إشباعها.
وهكذا نعرف: أن الضمان الاجتماعي، الذي يقوم على أساس التكافل يتحدد - وفقا له - بحدود الحاجات الحياتية للافراد، التي يعسر عليهم الحياة بدون إشباعها (2).
الأساس الثاني للضمان الاجتماعي:
ولكن الدولة لا تستمد مبررات الضمان الاجتماعي الذي تمارسه من مبدأ التكافل العام فحسب، بل قد يمكن ابراز أساس آخر للضمان الاجتماعي كما عرفنا سابقا، وهو حق الجماعة في مصادر الثروة. على أساس هذا الحق تكون الدولة مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين، بقطع النظر عن الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم (3).
وسوف نتحدث أولا عن هذه المسؤولية المباشرة للضمان وحدودها وفقا لنصوصها التشريعية، ثم عن الأساس النظري الذي ترتكز عليه فكرة هذا الضمان. وهو حق الجماعة في ثروات الطبيعة.

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 36، ص 432.
(2) لاحظ أصول من الكافي، ج 2، ص 169.
(3) لاحظ الميزان ج 4، ص 171.
664

أما عن المسؤولية المباشرة للضمان: فإن حدود هذا المسؤولية تختلف عن حدود الضمان، الذي تمارسه الدولة على أساس مبدأ التكافل العام. فإن هذه المسؤولية لا تفرض على الدولة ضمان الفرد في حدود حاجته الحياتية فحسب، بل تفرض عليها ان تضمن للفرد مستوى الكفاية من المعيشة الذي يحياه افراد المجتمع الإسلامي، لأن ضمان الدولة هنا ضمان إعالة. وإعالة الفرد هي القيام بمعيشته وإمداده بكفايته. والكفاية من المفاهيم المرنة، التي يتسع مضمونها كلما ازدادت الحياة العامة في المجتمع الإسلامي يسرا ورخاء. وعلى هذا الأساس يجب على الدولة أن تشبع الحاجات الأساسية لفرد، من غذاء ومسكن ولباس، وان يكون إشباعها غير الحاجات الأساسية من ساير الحاجات، التي تدخل في مفهوم المجتمع الإسلام عن الكفاية تبعا لمدى ارتفاع مستوى المعيشة فيه.
والنصوص التشريعية التي تدل على المسؤولية المباشرة للدولة في الضمان الاجتماعي، واضحة كل الوضوح، في التأكيد على هذه المسؤولية، وعلى ان الضمان هنا ضمان إعالة، أي ضمان مستوى الكفاية من المعيشة.
ففي الحديث عن الإمام جعفر: ((أن رسول الله (ص) كان يقول في خطبته: من ترك ضياعه فعلي ضياعه ومن ترك دينا فعلي دينه، ومن ترك ماله فأكله)) (1).
وفي حديث آخر أن الإمام موسى بن جعفر قال: - محددا ما للإمام وما عليه -: ((أنه وارث من لا وارث له، ويعول من لا حيلة له)) (2).
وفي خبر موسى بن بكر: ان الإمام موسى قال له: ((من طلب هذا الرزق من حله ليعود به على نفسه
وعياله، كان كالمجاهد في سبيل الله، فإن غلب عليه، فليستدن على الله وعلى رسوله ما يقوت به عياله. فإن مات ولم يقضه كان

(1) الوسائل ج 12، ص 92، الحديث 23796.
(2) الوسائل ج 6، ص 365، الحديث 12631.
665

على الإمام قضاؤه. فإن لم يقضه، كان عليه وزره. ان الله عز وجل يقول: ((إما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها...)) (1) الخ، فهو فقير مسكين مغرم)) (2) (3).
وجاء في كتاب الإمام علي إلى واليه على مصر: ((ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين، وأهل البؤس والزمنى فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا: واحتفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد. فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لأحكامك الكثير المهم فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم.
وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه. فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الانصاف من غيرهم. وكل فاعذر إلى الله في تأدية حقه اليه. وتعهد أهل اليتم، وذوي الرقة في السن ممن

(1) التوبة / 60.
(2) الفروع من الكافي ج 5، ص 93، والوسائل ج 12 ص 11، الحديث 21872.
(3) واستشهاد الإمام بهذه الآية الكريمة، لا يعني حصر مسؤولية ولي الأمر في الإعالة والانفاق بمورد معين من بيت المال، وهو الزكاة، وذلك لأن الآية لا تختص بالزكاة، وإنما هي قرر حكما عاما في الصدقة بجميع أقسامها، فتشمل المال الذي تدفعه الدولة إلى العاجز والمعوز لأنه ضرب من الصدقة أيضا. أضف إلى هذا: ان ولي الأمر لا يجب عليه بسط الزكاة، وتقسيمها على الأصناف الثمانية المذكورة في الآية، بل يجوز له انفاقها على بعض تلك الأصناف (*)، مع أن النص في حديث موسى بن بكر يؤكد: أن ولي الأمر إذا لم يقض دين الرجل، وليس هذا إلا لمسؤولية خاصة للدولة في الضمان.
666

لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه)) (1).
فهذه النصوص تقرر بكل وضوح مبدأ الضمان الاجتماعي، وتشرح المسؤولية المباشرة للدولة في إعالة الفرد وتوفير حد الكفاية له.
هذا هو مبدأ الضمان الاجتماعي، الذي تعتبر الدولة مسؤولة بصورة مباشرة عن تطبيقه، وممارسته في المجتمع الإسلامي.
وأما الأساس النظري الذي ترتكز فكرة الضمان في هذا المبدأ عليه، فمن الممكن أن يكون إيمان الإسلام بحق الجماعة كلها في موارد الثروة، لأن هذه الموارد الطبيعية قد خلقت للجماعة كافة، لا لفئة دون فئة (خلق لكم ما في الأرض جميعا) (2) وهذا الحق يعين أن كل فرد من الجماعة لا الحق في الانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها. فمن كان من الجماعة قادرا على العمل في حد القطاعات العامة والخاصة، كان من وظيفة الدولة أن تهئ له فرصة العمل في حدود صلاحيتها. ومن لم تتح له فرصة العمل، أو كان عاجزا عنه.. فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة، بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم.
فالمسؤولية المباشرة للدولة في الضمان، ترتكز على أساس الحق العام للجماعة في الاستفادة من ثروات الطبيعة، وثبوت هذا الحق للعاجزين عن العمل من أفراد الجماعة.
وأما الطريقة التي اتخذها المذهب لتمكين الدولة من ضمان هذا الحق وحمايته للجماعة كلها بما تضم من العاجزين.. فهي إيجاد بعض القطاعات العامة في الاقتصاد الإسلامي، التي تتكون من موارد الملكية العامة، وملكية الدولة، لكي تكون هذه القطاعات - إلى صف فريضة الزكاة - ضمانا لحق الضعفاء من أفراد الجماعة (3)،

(1) نهج البلاغة ص 438، الرسالة 53.
(2) البقرة / 29.
(3) لاحظ الأصول من الكافي ج 1، ص 405، وتفسير القمي ج 1، ص 278، وج 2، ص 276، وجواهر الكلام ج 38، ص 55 و 61.
667

وحائلا دون احتكار الأقوياء للثروة كلها ورصيدا للدولة يمدها بالنفقات اللازمة لممارسة الضمان الاجتماعي، ومنح كل فرد حقه في العيش الكريم من ثروات الطبيعة.
فالأساس على هذا الضوء هو: حق الجماعة كلها في الانتفاع بثروات الطبيعة.
والفكرة التي ترتكز على هذا الأساس هي المسؤولية المباشرة للدولة، في ضمان مستوى الكفاية من العيش الكريم، لجميع الأفراد العاجزين والمعوزين.
والطريقة المذهبية التي وضعت لتنفيذ هذه الفكرة هي: القطاع العام، الذي أنشأه الاقتصاد الإسلام ضمانا لتحقيق هذه الفكرة، في جملة ما يحقق ما أهداف.
وقد يكون أروع نص تشريعي في إشعاعه المحتوى المذهبي للأساس والفكرة، والطريقة جميعا، هو المقطع القرآني في سورة الحشر، الذي يحدد وظيفة الفيء، ودوره في المجتمع الإسلامي بوصفه قطاعا عاما. وإليكم النص:
{وما أفاء الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء، والله على كل شيء قدير. ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فلله، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، كي لا يكون دولة، بين الأغنياء منكم..} (1).
ففي هذا النص القرآني قد نجد إشعاعا بالأساس الذي تقوم عليه فكرة الضمان. وهو حق الجماعة كلها في الثروة. {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}، وتفسيرا تشريع القطاع العام في الفيء، بكونه طريقة لضمانة هذا الحق، والمنع عن احتكار بعض أفراد الجماعة للثروة وتأكيدا على وجوب تسخير القطاع العام لمصلحة اليتامى والمساكين وابن السبيل ليظفر جميع أفراد الجماعة بحقهم في الانتفاع بالطبيعة، التي خلقها الله لخدمة الإنسان (2).

(1) الحشر / 6 و 7.
(2) هناك بعض الروايات يدل على ما يخالف ذلك في تفسير الآية، كالرواية التي تتحدث عن نزول الآيتين في موضوعين مختلفين: فالأولى في الفيء، والثانية في الغنيمة أو في خمس الغنيمة خاصة. ولكن هذه الروايات ضعيفة السند، كما يظهر بتتبع سلسلة روايتها. ولهذا يجب أن نفسر الآيتين في ضوء ظهورهما. ومن الواضح ظهورهما في الحديث عن موضوع واحد وهو الفيء. فالآية الأولى تنفي حق المقاتلين في الفيء لأنه مما لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، والآية الثانية تحدد مصرف الفيء أي الجهات التي يصرف عليها الفيء من الواضح أن كون المساكين وابن السبيل واليتامى مصرفا للفئ لا ينافي كونه ملكا للنبي والإمام باعتبار منصبه كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة.
فالمستخلص من تلك الروايات بعد ملاحظة الآية معهما: أن الفيء ملك المنصب الذي يشغله النبي والإمام. ومصرفه الذي يجب عليه صرفه عليه هو ما يدخل ضمن دائرة العناوين التي ذكرته الآية، من المصالح المرتبطة بالله والرسول وذوي القربى والمساكين وابن السبيل واليتامى. وبتحديد المصرف بموجب الآية الكريمة، يقيد عموم قوله ((يجعله حيث يحب)) في رواية زرارة (*)، فتكون النتيجة، أن الإمام يجعله حيث يحب ضمن الدائرة التي حددتها الآية الكريمة.
668

فالأساس والفكرة والطريقة كلها واضحة، في هذا الضوء القرآني.
وقد أفتى بعض الفقهاء كالشيخ الحر: بأن ضمان الدولة لا يختص بالمسلم. فالذمي الذي يعيش في كنف الدولة
الإسلامية إذا كبير وعجز عن الكسب، كانت نفقته من بيت المال. وقد نقل الشيخ الحر حديثا عن الإمام علي: أنه مر بشيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين ما هذا؟ فقيل له: يا أمير المؤمنين انه نصراني. فقال الإمام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!!. انفقوا عليه من بيت المال (1).

(1) الوسائل ج 11، ص 49، الحديث 19997.
669

2 - التوازن الاجتماعي
حين عالج الإسلام قضية التوازن الاجتماعي، ليضع منه مبدءا للدولة في سياستها الاقتصادية، انطلق من حقيقتين إحداهما كونية. والأخرى مذهبية.
أما الحقيقة الكونية فهي: تفاوت أفراد النوع البشري في مختلف الخصائص والصفات، النفسية والفكرية والجسدية. فهم يختلفون في الصبر والشجاعة، وفي قوة العزيمة والأمل ويختلفون في حدة الذكاء وسرعة البديهة وفي القدرة على الإبداع والاختراع. ويختلفون في حدة الذكاء وسرعة البديهة وفي القدرة على الإبداع والاختراع. ويختلفون في قوة العضلات، وفي ثبات الأعصاب، إلى غير ذلك من مقومات الشخصية الإنسانية التي وزعت بدرجات متفاوتة على الأفراد.
وهذه التناقضات ليست في رأي الإسلام ناتجة عن أحداث عرضية في تاريخ الإنسان، كما يزعم هواة العامل الاقتصادي، الذين يحاولون أن يجدوا فيه التعليل النهائي لكل ظواهر التاريخ الإنساني. فإن من الخطأ محاولة تفسير تلك التناقضات والفروق بين الأفراد، على أساس ظرف اجتماعي معين، أو عامل اقتصادي خاص. لأن هذه العامل أو ذلك الظرف، لأن أمكن أن تفسر على ضوئه الحالة الاجتماعية ككل، فيقال: ان التركيب الطبقي الإقطاعي أو أن نظام الرقيق كان وليد هذا العامل الاقتصادي، كما يصنع أنصار التفسير المادي للتاريخ.. فلا يمكن بحال من الأحوال أن يكون العامل الاقتصادي، أو أي وضع اجتماعي، كافيا لتفسير ظهور تلك الاختلافات والتناقضات الخاصة بين الأفراد. وإلا فلماذا اتخذ هذا الفرد دور
671

الرقيق، وذلك الفرد دور السيد المالك؟!.
ولا جواب على هذا السؤال بدون افتراض الافراد مختلفين في مواهبهم وإمكاناتهم الخاصة، قبل كل تفاوت اجتماعي بينهم في التركيب الطبقي للمجتمع، لكي يفسر تفاوت اجتماعي بينهم في التركيب الطبقي كل فرد بدوره الخاص في هذا التركيب الطبقي، واختصاص كل فرد بدوره الخاص في هذا التركيب، على أساس الاختلاف في مواهبهم وإمكاناتهم فمن الخطأ أقول: بان هذا الفرد أصبح ذكيا لأنه احتل دور السيد في التركيب، لأنه لابد لكي يحتل هذا دور العبد، ويحظى ذلك بدور السيد أن يوجد فارق بينهما مكن السيد بإقناع العبد بتوزيع الأدوار على هذا الشكل. وهكذا ننتهي حتما في التعليل إلى العوامل الطبيعية السيكولوجية التي تنبع منها الاختلافات الشخصية، في مختلف الخصائص والصفات.
فالاختلاف بين الأفراد حقيقة مطلقة وليس نتيجة إطار اجتماعي معين. فلا يمكن لنظرة واقعية تجاهلها، ولا لنظام اجتماعي الغاؤه في تشريع، أو في عملية تغيير لنوع العلاقات الاجتماعية.
هذه هي الحقيقة الأولى.
وأما الحقيقة الأخرى في المنطق الإسلامي لمعالجة قضية التوازن فهي: القاعدة المذهبية للتوزيع القائلة: بأن العمل هو أساس الملكية وما لها من حقوق (1) وقد مرت بنا هذه القاعدة، ودرسنا محتواها المذهبي بكل تفصيل في بحوث التوزيع.
لنجمع الآن هاتين الحقيقتين، لنعرف كيف انطلق الإسلام منهما لمعالجة قضية التوازن؟
إن نتيجة الإيمان بهاتين الحقيقتين هي: السماح بظهور التفاوت بين الأفراد في

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 38 ص 7 و 134.
672

الثروة (1)، فإذا افترضنا جماعة استوطنوا أرضا وعمروها، وأنشأوا عليها مجتمعا، وأقاموا علاقاتهم على أساس أن العمل هو مصدر الملكية، ولم يمارس أحدهم أي لون من ألوان الاستغلال للآخر.. فسوف نجد أن هؤلاء يختلفون بعد برهة من الزمن في ثرواتهم، تبعا لاختلافهم في الخصائص الفكرية والروحية والجسدية.. وهذا التفاوت يقره الإسلام، لأنه وليد الحقيقتين اللتين يؤمن بهما معا. ولا يرى فيه خطرا على التوازن الاجتماعي ولا تناقضا معه. وعلى هذا الأساس يقرر الإسلام أن التوازن الاجتماعي يجب ان يفهم في حدود الاعتراف بهاتين الحقيقتين.
ويخلص الإسلام من ذلك إلى القول: بأن التوازن الاجتماعي هو التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة، لا في مستوى الدخل والتوازن في مستوى المعيشة معناه: أن يكون المال موجودا لدى أفراد المجتمع ومتداولا بينهم، إلى درجة تتيح لكل فرد العيش في المستوى العام، أي أن يحيا جميع الافراد مستوى واحدا من المعيشة، مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة، ولكنه تفاوت درجة، وليس تناقضا كليا في المستوى، كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي (2).
وهذا لا يعني أن الإسلام يفرض إيجاد هذه الحالة من التوازن في لحظة. وإنما يعني جعل التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة، هدفا تسعى الدولة في حدود صلاحياتها إلى تحقيقه والوصول اليه. بمختلف الطرق والأساليب المشروعة التي تدخل ضمن صلاحياتها.
وقد قام الإسلام من ناحيته بالعمل لتحقيق هذا الهدف، بضغط مستوى المعيشة من أعلى بتحريم الإسراف،
وبضغط المستوى من أسفل، بالارتفاع بالأفراد الذين يحيون مستوى منخفضا من المعيشة إلى مستوى أرفع. وبذلك تتقارب المستويات حتى تندمج أخيرا في مستوى واحد، قد يضم درجات ولكنه لا يحتوي على

(1) لاحظ الوسائل ج 6، ص 3.
(2) المصدر السابق.
673

التناقضات الرأسمالية الصارخة في مستويات المعيشة.
وفهمنا هذا لمبدأ التوازن الاجتماعي في الإسلام يقوم على أساس التدقيق في النصوص الإسلامية، الذي يكشف عن إيمان هذه النصوص بالتوازن الاجتماعي كهدف، واعطائها لهذا الهدف نفس المضمون الذي شرحناه وتأكيدها على توجيه الدولة إلى رفع معيشة الأفراد الذين يحيون حياة منخفضة، تقريبا للمستويات بعضها من بعض، بقصد الوصول أخيرا إلى حالة التوازن العام في مستوى المعيشة.
فقد جاء في الحديث: أن الإمام موسى بن جعفر ذكر بشأن تحديد مسؤولية الوالي في أموال الزكاة: ((إن الوالي يأخذ المال فيوجهه الوجه الذي وجهه الله له، على ثمانية أسهم، للفقراء والمساكين. يقسمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم، بلا ضيق ولا تقية. فان فضل من ذلك شيء، رد إلى الوالي. وإن نقص من ذلك شيء وليم يكتفوا به، كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا)) (1).
وهذا النص يحدد بوضوح: أن الهدف النهائي الذي يحاول الإسلام تحقيقه، ويلقي مسؤولية ذلك على ولي الأمر، هو اغناء كل فرد في المجتمع الإسلامي (2).
وهذا ما نجده في كلام الشيباني، على ما حدث عنه شمس الدين السرخسي في المبسوط إذا يقول: (على الإمام أن يتقي الله في صرف الأموال إلى المصارف فلا يدع فقيرا إلا أعطاء حقه من الصدقات حتى يغنيه وعياله. وإن احتاج بعض المسلمين، وليس في بيت المال من الصدقات شيء، اعطى الإمام ما يحتاجون اليه من بيت مال الخراج، ولا يكون ذلك دينا على بيت مال الصدقة لما بينا أن الخراج وما في معناه يصرف إلى حاجة المسلمين)) (3).
فتعميم الغنى هو الهدف الذي تضعه النصوص أمام ولي الأمر. ولكي نعرف المفهوم الإسلام للغنى، يجب أن نحدد ذلك على ضوء النصوص أيضا وإذا رجعنا

(1) لاحظ الأصول من الكافي ج 1، ص 541.
(2) لاحظ الأصول من الكافي ج 1، ص 314، الحديث 14، والوسائل ج 6، ص 359، الحديث 12610، وص 363، الحديث 12626.
(3) المبسوط للسرخسي، ج 4، ص 18.
674

إليها، وجدنا أن النصوص جعلت من الغنى الحد النهائي لتناول الزكاة، فسمحت باعطاء الزكاة للفقير حتى يصبح غنيا، ومنعت اعطاءه بعد ذلك، كما جاء في الخبر عن الإمام جعفر ((تعطيه من الزكاة اعطاءه حتى تغنيه)) (1). فالغنى الذي جعله حدا فاصلا بين اعطاء الزكاة ومنعها.
ومرة أخرى يجب أن نرجع إلى النصوص، ونفتش عن طبيعة هذا الحد الذي يفصل بين اعطاء الزكاة ومنعها، لنعرف بذلك مفهوم الغنى في الإسلام.
وفي هذه المرحلة من الاستنتاج يمكن الكشف عن طبيعة ذلك الحد، في ضوء حديث أبي بصير، الذي جاء فيه: ((إنه سأل الأمام جعفر الصادق عن رجل له ثمانمائة درهم، وهو رجل خفاف، وله عيال كثير، أله أن يأخذ من الزكاة؟ فقال له الإمام: يا أبا محمد أيربح من دراهمه ما يقوت به عياله ويفضل؟. فقال أبو بصير: نعم. فقال الإمام: إن كان يفضل عن قوته مقدار نصف القوت، فلا يأخذ الزكاة. وإن كان أقل من نصف القوت، أخذ الزكاة. وكما أخذه منها فضة على عياله حتى يلحقهم بالناس)) (2).
ففي ضوء هذا النص نعرف أن الغنى في الإسلام هو انفاق الفرد على نفسه وعائلته، حتى يلحق بالناس. وتصبح معيشته في المستوى المتعارف الذي لا ضيق فيه ولا تقية.
وهكذا نخرج من تسلسل المفاهيم إلى مفهوم الإسلام عن التوازن الاجتماعي، ونعرف أن الإسلام حين وضع مبدأ التوازن الاجتماعي، وجعل ولي الأمر مسؤولا عن تحقيقه بالطرق المشروعة.. شرح فكرته عن التوازن، وبين أنه يتحقق بتوفير الغنى لسائر الأفراد. وقد استخدمت الشريعة مفهوم الغنى هذا بجعله حدا فاصلا بين جواز الزكاة ومنعها. وفسرت هذا الحد الفاصل في نصوص أخرى: بيسر معيشة الفرد إلى

(1) الوسائل ج 6، ص 178، الحديث 11973.
(2) الوسائل ج 6، ص 59، الحديث 11911.
675

درجة تلحقه بمستوى الناس. وبذلك أعطتنا هذه النصوص المفهوم الإسلامي لغنى، الذي عرفنا عن مبدأ التوازن أنه يستهدف توفيره للعموم، ويعتبر تعميمه شرطا في تحقيق التوازن الاجتماعي. وهكذا تكتمل في ذهننا الصورة الإسلامية المحددة لمبدأ التوازن الاجتماعي. ونعلم أن الهدف الموضوع لولي الأمر، هو العمل لإلحاق الافراد المتخلفين بمستوى أعلى على نحو يحقق مستوى عاما مرفها للمعيشة.
وكما وضع الإسلام مبدأ التوازن الاجتماعي وحدد مفهومه، تكفل أيضا بتوفير الإمكانات اللازمة للدولة، لكي تمارس تطبقها للمبدأ في حدود تلك الامكانات.
ويمكن تلخيص هذه الامكانات في الأمور التالية:
أولا: فرض ضرائب ثابتة تؤخذ بصورة مستمرة، وينفق منها لرعاية التوازن العام.
وثانيا: إيجاد قطاعات لملكية الدولة، وتوجيه الدولة إلى استثمار تلك القطاعات، لأغراض التوازن.
وثالثا طبيعة التشريع الإسلامي، الذي ينظم الحياة الاقتصادية في مختلف الحقول.
1 - فرض ضرائب ثابتة:
وهي ضرائب الزكاة والخمس. فان هاتين الفريضتين الماليتين، لم تشرعا لأجل إشباع الحاجات الأساسية فحسب، وإنما شرعتا أيضا لمعالجة الفقر، والارتفاع بالفقير إلى مستوى المعيشة الذي يمارسه الأغنياء، تحقيقا
للتوازن الاجتماعي بمفهومه في الإسلام.
والدليل الفقهي على علاقة هذه الضرائب بأغراض التوازن، وإمكان استخدامها في هذا السبيل، ما يلي من النصوص:
أ - عن إسحاق بن عمار: قال: قلت للإمام جعفر بن محمد أعطي الرجال من الزكاة مئة؟ قال: نعم. قلت: مائتين؟. قال: نعم قلت: ثلاثمائة؟ قال: نعم. قلت: أربعمائة؟ قال نعم. قلت خمسمائة؟ قال: نعم، حتى تغنيه)) (1).

(1) الوسائل ج 6، ص 180، الحديث 11979.
676

ب - عن عبد الرحمن بن حجاج: سألت الإمام موسى بن جعفر (ع): عن الرجل يكون أبوه وعمه أو أخوه يكفيه مؤونته، أيأخذ من الزكاة فيوسع بها، إن كانوا لا يوسعون عليه في كل ما يحتاج اليه؟ فقال: لا بأس)) (1).
ج - - عن سماعة: ((قال: سألت جعفر بن محمد (ع) عن الزكاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم؟ فقال الإمام: نعم)) (2).
د - عن أبي بصير: ((أن الإمام جعفر الصادق (ع) تحدث عمن تجب عليه الزكاة، وهو ليس موسرا. فقال: يوسع بها على عياله في طعامهم وكسوتهم، ويبقى منها شيئا يناوله غيرهم. وما أخذ من الزكاة فضه على عياله حتى يلحقهم بالناس)) (3).
ه - - عن إسحاق بن عمار: ((قال: قلت للصادق (ع) أعطي الرجل من الزكاة ثمانين درهما؟. قال نعم، وزده. قلت: أعطيه مئة؟. قال نعم واغنه، إن قدرت على أن تغنيه)) (4) (5)
و - عن معاوية بن وهب: ((قال: قلت للصادق (ع) يروى عن النبي: أن الصدقة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي. فقال: لا تحل لغني)) (6).
ز - عن أبي بصير: ((قال: قلت للإمام جعفر الصادق (ع) أن شيخا من أصحابنا يقال له عمر، سأل عيسى بن أعين وهو محتاج، فقال له عيسى بن أعين: أما ان عندي من الزكاة، ولكن لا أعطيك منها، لأني رأيتك اشتريت لحما وتمرا. فقال له عمر: إنما ربحت درهما فاشتريت بدانقين لحما وبدانقين تمرا ثم رجعت بدانقين لحاجة.. (وتقول الرواية ان الإمام حينما استمع إلى قصة عمر وعيسى بن أعين، وضع

(1) الوسائل ج 6، ص 163، الحديث 11925.
(2) الوسائل ج 6، ص 161، الحديث 11919.
(3) الوسائل ج 6، ص 159، الحديث 11911.
(4) يلاحظ هنا أن القوة الشرائية للدرهم في عصر تلك النصوص، تزيد كثيرا على القوة الشرائية للعملة النقدية، التي نطلق عليها اسم الدرهم اليوم.
(5) الوسائل ج 6 ص 179 الحديث 11975.
(6) الوسائل ج 6 ص 159 الحديث 11910، مع اختلاف.
677

يده على جبهته ساعة، ثم رفع رأسه) وقال: إن الله تعالى نظر في أموال الأغنياء ثم نظر في الفقراء، فجعل في أموال الأغنياء ما يكتفون به. ولو لم يكفهم لزادهم. بل يعطيه ما يأكل ويشرب ويكتسي ويتزوج ويتصدق ويحج)) (1) (2).
ح - - عن حماد بن عيسى:)) أن الإمام موسى بن جعفر (ع) قال - وهو يتحدث عن نصيب، اليتامى والمساكين وابن السبيل من الخمس -: ان الوالي يقسم بينهم على الكتاب والسنة، ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء، فهو للوالي. فان عجز أو نقص عن استغنائهم، كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به)) (3).
وكتب ابن قدامة يقول: ((قال الميموني: ذاكرت أبا عبد الله فقلت: قد تكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة وهو فقير وتكون له أربعون شاة وتكون له الضيعة لا تكفيه فيعطى من الصدقة؟ قال: نعم، وذكر قول عمر أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا. وقال: في رواية محمد بن الحكم إذا كان له عقار يشغله أو ضيعة تساوي عشر آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه يأخذ من الزكاة. وهذا قول الشافعي) (4).
وقد فسر ابن قدامة ذلك بقوله: (لأن الحاجة هي الفقر والغنى ضدها فمن كان محتاجا فهو فقير يدخل في عموم النص ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة) (5).
فهذه النصوص تأمر باعطاء الزكاة وما إليها، إلى أن يلحق الفرد بالناس، أو إلى

(1) الوسائل ج 6، ص 201، الحديث 12046.
(2) والمرجح في فهم هذه النصوص أنها تستهدف السماح باعطاء الزكاة للفرد في الحدود التي رسمتها بوصفه فقيرا، لا على أساس تطبق سهم سبيل الله عليه. وهي لذلك يمكن أن تعطينا المفهوم الإسلامي للفقير.
(3) الأصول من الكافي ج 1، ص 540.
(4) المغني ج 2، ص 525.
(5) المصدر السابق.
678

أن يصبح غنيا، أو لإشباع حاجاته الأولية والثانوية من طعام وشراب وكسوة وزواج وصدقة وحج، على اختلاف التعابير التي وردت فيها. وكلها تستهدف غرضا واحدا، وهو تعميم الغنى بمفهومه الإسلامي، وإيجاد تستهدف غرضا واحدا، وهو تعميم الغنى بمفهومه الإسلامي، وإيجاد التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة.
وعلى هذا الضوء نستطيع أن نحدد مفهوم الغنى والفقر عند الإسلام بشكل عام. فالفقير هو من لم يظفر بمستوى من المعيشة، يمكنه من إشباع حاجاته الضرورية وحاجاته الكمالية، بالقدر الذي تسمح به حدود الثروة في البلاد. أو هو بتعبير آخر: من يعيش في مستوى تفصله هوة عميق عن المستوى المعيشي للأثرياء في المجتمع الإسلامي. والغني من لا تفصله في مستواه المعيشي هذه الهوة، ولا يعسر عليه إشباع حاجاته الضرورية والكمالية بالقدر الذي يتناسب مع ثروة البلاد، ودرجة رقيها المادي، سواء كان يملك ثروة كبير أم لا.
وبهذا نعرف أن الإسلام لم يعط للفقر مفهوما مطلقا، ومضمونا ثابتا في كل الظروف والأحوال، فلم يقل مثلا: ان الفقر هو العجز عن الإشباع البسيط للحاجات الأساسية. وإنما جعل الفقر بمعنى عدم الالتحاق في المعيشة بمستوى معيشة الناس، كما جاء في النص. وبقدر ما يرتفع مستوى المعيشة يتسع المدلول الواقعي للفقر لأن التخلف عن مواكبة هذا الارتفاع في مستوى المعيشة يكون فقرا عندئذ. فإذا اعتاد الناس مثلا على استقلال كل عائلة بدار، نتيجة لاتساع العمران في البلاد، أصبح عدم حصول عائلة على دار مستقلة لونا من الفقر بينما لم
يكن فقرا، حينما لم تكن البلاد قد وصلت إلى هذا المستوى من اليسر والرخاء
.
وهذه المرونة في مفهوم الفقر، ترتبط بفكرة التوازن الاجتماعي، إذ ان الإسلام لو كان قد أعطى - بدلا عن ذلك - مفهوما ثابتا للفقر، وهو العجز عن الإشباع البسيط للحاجات الأساسية، وجعل من وظيفة الزكاة. وما إليها علاج هذا المفهوم الثابت للفقر، لما أمكن العمل لإيجاد التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة عن طريقها، ولإتسعت الهوة بين مستوى عوائل الزكاة وما إليها، ومستوى المعيشة العام للأغنياء،
679

الذي يزحف ويترفع باستمرار، تبعا للتطورات المدنية في البلاد وزيادة الثروة الكلية. فإعطاء مفاهيم مرنة للفقر والغنى، ووضع نظام الزكاة وما إليها على أساس هذه المفاهيم المرنة هو الكفيل بامكان استخدام الزكاة وغيرها لصالح التوازن الاجتماعي العام.
وليس غريبا إعطاء مفهوم مرن لمدلول تعلق به حكم شرعي، كالفقر الذي ربطت به الزكاة. ولا يعني هذا تغير الحكم الشرعي، بل هو حكم ثابت لمفهوم خاص، والتغير إنما هو في واقع هذا المفهوم، تبعا للظروف.
ونظير هذا مفهوم الطب مثلا، فان الشرع حكم بوجوب تعلم الطب كفاية على المسلمين. وهذا الوجوب حكم ثابت، تعلق بمفهوم خاص وهو (الطب). ولكن ما هو مفهوم الطب؟ وما يعني تعلم الطب؟. إن تعلم الطب هو دراسة المعلومات الخاصة، التي تتوفر في ظروف ما عن الأمراض وطريقة علاجها. وهذه المعلومات الخاصة تنمو على مر الزمن، تبعا لتطور العلم. وتكامل التجربة. فما هي معلومات خاصة بالأمس، لا تعتبر معلومات خاصة اليوم. ولا يكفي في طبيب اليوم أن يتقن ما كان يعرفه الأطباء الحاذقون في عصر النبوة، ليكون ممثلا الشرعي. وإذا كان طبيب اليوم غير طبيب عصر النبوة فمن المعقول أن يكون فقير اليوم في مفهوم الإسلام غير فقير عصر النبوة أيضا.
2 - إيجاد قطاعات عامة:
ولم يكتف الإسلام بالضرائب التي شرعها لأجل إيجاد التوازن، بل جعل الدولة مسؤولية عن الانفاق في القطاع العام لهذا الغرض. فقد جاء في الحدث عن الإمام موسى بن جعفر (ع): أن على الوالي في حالة عدم كفاية الزكاة، أن يمون الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنون (1).
وكلمة: (من عنده) تدل على أن غير الزكاة من موارد بيت المال، يتسع

(1) الأصول من الكافي ج 1، ص 541.
680

لاستخدامه في سبيل إيجاد التوازن، بإناء الفقراء، ورفع مستوى معيشتهم.
وقد شرح القرآن الكريم دور الفيء - الذي هو أحد موارد بيت المال - في إيجاد التوازن، فقال: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} (1).
وقد مر بنا: أن هذه الآية الكريمة تتحدث عن مصرف الفيء، فتضع اليتامى والمساكين وابن السبيل، إلى صف الله والرسول وذي القربى. وهذا يعني: أن الفيء معد للانفاق منه على الفقراء، كما هو معد للانفاق منه على المصالح العامة المرتبطة بالله والرسول. وتدل الآية بوضوح على أن إعداد الفيء للانفاق منه على الفقراء، يستهدف جعل المال متداولا وموجودا لدى جميع أفراد المجتمع، ليحفظ بذلك التوازن الاجتماعي العام، ولا يكون دولة بين الأغنياء خاصة.
والفئ في الأصل: ما يغنمه المسلمون من الكفار بدون قتال. وهو ملك للدولة، أي للنبي والإمام باعتبار المنصب. ولذلك يعتبر الفيء نوعا من الأنفال وهي الأموال التي جعلها الله ملكا للمنصب الذي يمارسه النبي والإمام كالأراضي الموات أو المعادن على قول.
ويطلق الفيء في المصطلح التشريعي على الأنفال بصورة عامة، بدليل ما جاء في حديث محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: ((الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء، وقوم صولحوا أو أعطوا بأيديهم وما كان من أرض حربة، أو بطون أودية، فهو كله من الفيء..)) (2) فان النص واضح في إطلاق اسم الفيء، على غير ما يغنمه المسلمون من أنواع الأنفال. وفي ضوء هذا المصطلح التشريعي، لا يختص الفيء حينئذ بالغنيمة المجردة عن القتال، بل يصب تعبيرا عن جميع القطاع الذي يملكه منصب النبي والإمام (3).

(1) الحشر / 7.
(2) الوسائل ج 6، ص 368، الحديث 12641.
(3) ولابد أن، يضاف إلى ذلك القول بإلغاء خصوصية المورد في الآية بالفهم العرفي.
681

وعلى هذا الأساس نستطيع أن نستنج: أن الآية حددت حكم الأنفال بصورة عامة - تحت اسم: ألفيء. وبذلك نعرف أن الأنفال تستخدم في الشريعة لغرض حفظ التوازن، وضمان تداول المال بين الجميع، كما تستخدم للمصالح العامة (1).
3 - طبيعة التشريع الإسلامي:
والتوازن العام في المجتمع الإسلامي مدين بعد ذلك لمجموعة التشريعات الإسلامية في مختلف الحقول، فإنها تساهم عند تطبيق الدولة لها، في حماية التوازن.
ولا نستطيع أن نستوعب هنا مجموعة التشريعات ذات الصلة بمبدأ التوازن، ونكشف عن أوجه الارتباط بينها وبينه. وإنما يكفي أن نشير هنا إلى محاربة الإسلام لاكتناز النقود، وإلغائه للفائدة، وتشريعة لأحكام الإرث
وإعطاء الدولة صلاحيات ضمن منطقة الفراغ المتروكة لها في التشريع الإسلامي وإلغاء الاستثمار للثروات الطبيعية الخام، إلى غير ذلك من الأحكام.
فالمنع عن اكتناز النقود وإلغاء الفائدة، يقضي على دور المصارف الرأسمالية في إيجاد التناقض والاخلال بالتوازن الاجتماعي وينتزع منها قدرتها على اقتناص الجزء الكبير من ثروة البلاد الأمر الذي تمارسه تلك المصارف في البلاد الرأسمالية عن طريق تشجيع الناس على الادخار، واغرائهم بالفائدة.
وينتج عن الموقف الإسلامي طبيعيا عدم قدرة رأس المال الفردي غالبا، على التوسع في حقول الإنتاج والتجارة، بالدرجة التي تصر التوازن، لأن توسع الأفراد في مشاريع الإنتاج والتجارة، إنما يعتمد في مجتمع كالمجتمع الرأسمالي على المصارف الرأسمالي، التي تمد تلك المشاريع بحاجتها إلى المال، أن تكدس في خزائنها النقد بشكل هائل، ولا أن تمد المشاريع الفردية بالقروض. فتبقى النشاطات الخاصة على الصعيد

(1) لاحظ الوسائل ج 6، ص 364، وتفسير القمي ج 1، ص 278 وج 2، ص 176.
682

الاقتصادي في الحدود المعقولة التي تواكب التوازن العام. وتترك - طبيعيا - المشاريع الكبرى في الإنتاج إلى الملكيات العامة.
وتشريع أحكام الإرث، الذي تقسم التركة بموجبه عاليا على عدد من الأقرباء الورثة.. يعتبر ضمانا آخر للتوازن، لأنه يفتت الثروات باستمرار ويحول دون تكدسها عن طريق تقسيمها على الأقرباء، وفقا لما تقرره أحكام الميراث. ففي نهاية كل جيل تكون ثروات الأفراد الأغنياء قد قسمت غالبا على مجموعة أكبر عددا منهم وقد يلغ المالكون الجدد للثروة المتروكة أضعاف ملاكها الأولين.
والصلاحيات الممنوحة للدول لملء منطقة الفراغ، لها أثر كبير في حماية التوازن، كما سنجد في البحث المقبل.
وكذلك الغاء الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام، يعبر عن وضع نقطة انطلاق للنشاط الاقتصادي، تؤدي بطبيعتها إلى التوازن، لأن استخدام الثروات الطبيعية هو نقطة الانطلاق الرئيسية في النشاط الاقتصادي.
فإذا وضعت المباشرة شرطا أساسيا، في تملك الثروات الخام من الطبيعة كما يرى بعض الفقهاء، ومنع عن تسخير الآخرين في هذا السبيل... فقد حدد توزيع تلك الثروات بشكل يحقق التوازن، ولم يسمح لنفر قليل بالاستيلاء عليها، عن طريق تسخير الآخرين لخدمتهم في هذا المجال، الأمر الذي يعصف بالتوازن، يضع بذرة التناقض والاختلال منذ البداية.
683

3 - مبدأ تدخل الدولة
تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، يعتبر من المبادئ المهمة في الإقتصاد الإسلامي، التي تمنحه القوة والقدرة على الاستيعاب والشمول.
ولا يقتصر تدخل الدولة على مجرد تطبيق الاحكام الثابتة في الشريعة، بل يمتد إلى ملء منطقة الفراغ من التشريع. فهي تحرص من ناحية على تطبق العناصر الثابتة من التشريع، وتضع من ناحية أخرى العناصر المتحركة وفقا للظروف.
ففي مجال التطبيق تتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، لضمان تطبق أحكام الإسلام، التي تتصل بحياة الأفراد الاقتصادية. فتحول مثلا دون تعامل الناس بالربا، أو السيطرة على الأرض بدون احياء، كما تمارس الدولة نفسها تطبيق الاحكام التي ترتبط بها مباشرة، فتحقق مثلا الضمان الاجتماعي والتوازن العام في الحياة الاقتصادية بالطريقة التي سمح الإسلام باتباعها، لتحقيق تلك المبادئ.
وفي المجال التشريعي تملا الدولة منطقة الفراغ التي تركها التشريع الإسلامي للدولة، لكي تملأها في ضوء الظروف المتطورة، بالشكل الذي يضمن الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي، ويحقق الصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية (1).

(1) لاحظ علل الشرائع ج 1، ص 253 والأصول من الكافي ج 1، ص 314، الحديث 14، والبحار ج 89، ص 196، وتحف العقول ص 347، والمكاسب للأنصاري، ج 1، ص 25.
685

وقد أشرنا في مستهل هذه البحوث إلى منطقة الفراغ هذه، وعرفنا أن من الضروري دراستها خلال علمية الاكتشاف لأن الموقف الإيجابي للدولة من هذه المنطقة، بدخل ضمن الصورة التي نحاول اكتشافها، بوصفه العنصر المتحرك في الصورة الذي يمنحها القدرة على أداء رسالتها، ومواصلة حياتها على الصعيدين النظري والواقعي في مختلف العصور.
لماذا وضعت منطقة فراغ؟
والفكرة الأساسية لمنطقة الفراغ هذه، تقوم على أساس: أن الإسلام لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجا موقوتا، أو تنظيما مرحليا، يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من اشكال التنظيم. وإنما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور. فكان لابد لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب، أن ينعكس تطور العصور فيها، ضمن عنصر متحرك، يمد الصورة بالقدرة على التكيف وفقا لظروف مختلفة.
ولكي نستوعب تفصيلات هذه الفكرة يجب أن نحدد الجانب المتطور من حياة الانسان الاقتصادية، ومدى تأثيره على الصورة التشريعية التي تنظم تلك الحياة.
فهناك في الحياة الاقتصادية علاقات الانسان بالطبيعة، أو الثروة التي تتمثل في أساليب إنتاجه لها، وسيطرته
عليها وعلاقات الانسان بأخيه الانسان، التي تنعكس في الحقوق والامتيازات التي يحصل عليها هذا أو ذاك.
والفارق بين هذين النوعين من العلاقات: أن الانسان يمارس النوع الأول من العلاقات، سواء كان يعيش ضمن جماعة أم كلا منفصلا عنها، فهو يشتبك على أي حال مع الطبيعة في علاقات معينة، يحددها مستوى خبرته ومعرفته، فيصطاد الطير، ويزرع الأرض، ويستخرج الفحم، ويغزل الصوف بالأساليب التي يجيدها. فهذه العلاقات بطبيعتها لا يتوقف قيامها بين الطبيعة والانسان على وجوده ضمن جماعة، وإنما أثر الجماعة على هذه العلاقات، أنها تؤدي إلى تجميع خبرات وتجارب متعددة،
686

وتنمية الرصيد البشري لمعرفة الطبيعة، وتوسعة حاجات الانسان ورغباته تبعا لذلك.
وأما علاقات الانسان بالانسان، التي تحددها الحقوق، والامتيازات والواجبات، فهي بطبيعتها تتوقف على وجود الانسان ضمن الجماعة. فما لم يكن الانسان كذلك، لا يقدم على جعل حقوق له وواجبات عليه. فحق الانسان في الأرض التي أحياها، وحرمانه من الكسب بدون عمل عن طريق الربا، والزامه بإشباع حاجاته.. كل هذه العلاقات لا معنى لها إلا في ظل جماعة.
والإسلام - كما نتصوره - يميز بين هذين النوعين من العلاقات. فهو يرى أن علاقات الانسان بالطبيعة أو الثروة، تتطور عبر الزمن - تبعا للمشاكل المتجددة التي يواجهها الانسان باستمرار وتتابع، خلال ممارسته للطبيعة، والحلول المتنوعة التي يتغلب بها على تلك المشاكل. وكلما تطورت علاقاته بالطبيعة ازداد سيطرة عليها، وقوة في وسائله وأساليبه (1).
وأما علاقات الانسان بأخيه، فهي ليست متطورة بطبيعتها، لأنها تعالج مشاكل ثابتة جوهريا، مهما اختلف إطارها ومظهرها. فكل جماعة تسيطر خلال علاقاتها بالطبيعة على ثروة، تواجه مشكلة توزيعها، وتحديد حقوق الأفراد والجماعة فيها، سواء كان الإنتاج لدى الجماعة على مستوى البخار والكهرباء، أم على مستوى الطاحونة اليدوية.
ولأجل ذلك يرى الإسلام: أن الصورة التشريعية التي ينظم بها تلك العلاقات، وفقا لتصوراته للعدالة.. قابلة للبقاء والثبات من الناحية النظرية لأنها تعالج مشاكل ثابتة. فالمبدأ التشريعي القائل - مثلا -: إن الحق الخاص في المصادر الطبيعية يقوم على أساس العمل. يعالج مشكلة عامة يستوي فيها عصر المحراث البسيط وعصر الآلة المعقدة، لأن طريقة توزيع المصادر الطبيعية على الأفراد، مسألة قائمة في كلا العصرين.

(1) لاحظ الميزان ج 4، ص 121.
687

والإسلام في هذا يخالف الماركسية، التي تعتقد أن علاقات الانسان بأخيه، تتطور تبعا لتطور علاقاته بالطبيعة، وتربط شكل التوزيع بطريقة الإنتاج، وترفض امكان بحث مشاكل الجماعة، إلا في إطار علاقتها بالطبيعة، كما مر بنا عرضه ونقده في بحوث الكتاب الأول من اقتصادنا.
ومن الطبيعي - على هذا الأساس - أن يقدم الإسلام مبادئه النظرية والتشريعية، بوصفها قادرة على تنظيم علاقات الانسان في عصور مختلفة.
ولكن هذا لا يعني جاز إهمال الجانب المتطور، وهو علاقات الانسان بالطبيعة وإخراج تأثير هذا الجانب من الحساب فان تطور قدرة الانسان على الطبيعة، ونمو سيطرته على ثرواتها، يطور وينمي باستمرار خطر الانسان على الجماعة، ويضع في خدمته باستمرار امكانات جديدة للتوسع، ولتهديد الصورة المتبناة للعدالة الاجتماعية.
فالمبدأ التشريعي القائل مثلا: ان من عمل في أرض، وأنفق عليها جهدا حتى أحياها، فهو أحق بها من غيره.. يعتبر في نظر الإسلام عادلا، لأن من الظلم أن يساوى بين العامل الذي أنفق على الأرض جهده، وغيره ممن لم يعمل فيها شيئا. ولكن هذا المبدأ بتطور قدرة الانسان على الطبيعة ونموها، يصبح من الممكن استغلاله. ففي عصر كان يقوم احياء الأرض فيه على الأساليب القديمة، لم يكن يتاح للفرد أن يباشر عمليات الاحياء إلا في مساحات صغيرة. وأما بعد أن تنمو قدرة الانسان، وتتوفر لديه وسائل السيطرة على الطبيعة، فيصبح بإمكان أفراد قلائل ممن تواتيهم ويسيطروا عليها، الأمر الذي يزعزع العدالة الاجتماعية ومصالح الجماعة. فكان لا بد للصورة التشريعية من منطقة فراغ، يمكن ملؤها حسب الظروف. فيسمح بالاحياء سماحا عاما في العصر الأول ويمنع الأفراد في العصر الثاني - منعا تكليفيا - عن ممارسة الاحياء، إلا في حدود تتناسب مع أهداف الاقتصاد الإسلامي وتصوراته عن العدالة.
688

وعلى هذا الأساس وضع الإسلام منطقة الفراغ في الصورة التشريعية التي نظم بها الحياة الاقتصادية، لتعكس العنصر المتحرك وتواكب تطور العلاقات بين الانسان والطبيعة، وتدرأ الأخطار التي قد تنجم عن هذا التطور المتنامي على مر الزمن.
منطقة الفراغ ليست نقصا:
ولا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث. بل تعبر عن استيعاب الصورة. وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة، لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعين نقصا أو اهمالا، وإنما حددت للمنطقة أحكامها يمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصيلة، مع اعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية، حسب الظروف. فاحياء الفرد للأرض مثلا عملية
مباحة تشريعيا بطبيعتها، ولولي الأمر حق المنع عن ممارستها، وفقا لمقتضيات الظروف.
الدليل التشريعي:
والدليل على إعطاء ولي الأمر صلاحيات كهذه، لملء منطقة الفراغ، هو النص القرآني الكريم: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم} (1).
وحدد منطقة الفراغ التي لها صلاحيات أولي الأمر، تضم في ضوء هذا النص الكريم كل فعل مباح تشريعا بطبيعته فأي نشاط وعمل لم يرد نص تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه.. يسمح لولي الأمر باعطائه صفة ثانوية، بالمنع عنه أو الأمر به. فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته، أصبح حراما، وإذا أمر به، أصبح واجبا. وأما الأفعال التي ثبت تشريعيا تحريمها بشكل عام، كالربا مثلا، فليس من حق ولي الأمر، الأمر بها. كما أن الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه، كانفاق الزوج على

(1) النساء / 69.
689

زوجته، لا يمكن لولي الأمر المنع عنه، لأن طاعة أولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامة. فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة الاقتصادية هي التي تشكل منطقة الفراغ (1).
نماذج:
وفي النصوص المأثورة نماذج عديدة، لاستعمال ولي الأمر صلاحياته في حدود منطقة الفراغ. وهذه النماذج تلقي ضوءا على طبيعة المنطقة، وأهمية دورها الايجابي في تنظيم الحياة الاقتصادية. ولهذا نستعرض فيما يلي قيما من تلك النماذج، مدعما بالنصوص:
أ - جاء في النصوص: أن النبي نهى عن منع فضل الماء والكلأ. فعن الإمام الصادق أنه قال: ((قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع فضل ماء وكلاء)) (2).
وهذا النهي نهي تحريم كما يقتضيه لفظ النهي عرفا. وإذا جمعنا إلى ذلك رأي جمهور الفقهاء القائل: بأن منع الانسان غيره من فضل ما يملكه من ماء وكلاء، ليس من المحرمات الأصيلة في الشريعة، كمنع الزوجة نفقتها وشرب الخمر.. أمكننا أن نستنتج: أن النهي من النبي صد عنه، بوصفه ولي الأمر.
فهو ممارسة لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف لأن مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية، فألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلأهم للآخرين، تشجيعا للثروات الزراعية والحيوانية.
وهكذا نرى أن بذل فضل الماء والكلاء فعل مباح بطبيعته وقد ألزمت به الدولة إلزاما تكليفيا، تحقيقا لمصلحة واجبة.

(1) لاحظ الأصول من الكافي ج 1، ص 390 و 405، وعلل الشرائع ج 1، ص 253، وإيصال الطالب ج 7، ص 168 و 204.
(2) الفروع من الكافي ج 5، ص 294، مع اختلاف.
690

ب - ورد عن النبي (ص) النهي عن بيع الثمرة قبل نضجها (1). ففي الحديث عن الصادق (ع): أنه سئل عن الرجل يشتري الثمرة المسماة من أرض، فتهلك ثمرة تلك الأرض كلها؟ فقال: ((قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله (ص)، فكانوا يذكرون ذلك فلما رآهم لا يدعون الخصومة، نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة، ولم يحرمه، ولكنه فعل ذلك من أجل خصومتهم)) (2). وفي حديث آخر: أن رسول الله أحل ذلك فاختلفوا. فقال: لا تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها (3).
فبيع الثمرة قبل بدو صلاحها عملية مباحة بطبيعتها وقد أباحتها الشريعة الإسلامية بصورة عامة. ولكن النبي نهى عن هذا البيع بوصفه ولي الأمر، دفعا لما يسفر عنه من مفاسد وتناقضات.
ج - - ونقل الترمذي عن رافع بن خديج أنه قال: نهانا رسول الله (ص) عن أمر كان لنا نافعا، إذا كانت لأحدنا أرض أن يعطيها ببعض خراجها أو بدراهم، وقال: إذا كانت لأحدكم أرض فليمنحها أخاه أو ليزرعها (4).
ونحن حين نجمع بين قصة هذا النهي، واتفاق الفقهاء على عدم حرمة كراء الأرض في الشريعة بصورة عامة، ونضيف إلى ذلك نصوصا كثيرة واردة عن الصحابة، تدل على جواز إجارة الأرض.. نخرج بتفسير معين النص الوارد في خبر رافع بن خديج وهو أن النهي كان صادرا من النبي بوصفه ولي الأمر وليس حكما شرعيا عاما.
فإجارة الأرض بوصفها عملا من الأعمال المباحة بطبيعتها، يمكن للنبي المنع عنها باعتباره ولي الأمر منعا تكليفيا، وفقا لمقتضيات الموقف.
د - جاءت في عهد الإمام عليه السلام إلى مالك الأشتر أوامر مؤكدة بتحديد الأسعار، وفقا لمقتضيات العدالة. قد تحدث الإمام إلى واليه عن التجار،

(1) لاحظ وسائل ج 13، ص 6، الحديث 23522 و 23523.
(2) الوسائل ج 13 ج 3، الحديث 23510.
(3) الوسائل ج 13، ص 3، الحديث 23512، مع اختلاف.
(4) سنن النسائي ج 7، ص 33، ومختصر سنن أبي داود ج 5، ص 62، الحديث 3254.
691

وأوصاه بهم، ثم عقب ذلك قائلا: ((واعمل - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتكارا للمنافع، وتحكما في البياعات. وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار فان رسول الله (ص) منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين في البائع والمبتاع)) (1).
ومن الواضح فقهيا: أن البائع يباح له البيع بأي سعر أحب، ولا تمنع الشريعة منعا عاما عن بيع المالك للسلعة بسعر مجحف. فأمر الإمام بتحديد السعر، ومنع الاتجار عن البيع بثمن أكبر.. صادر منه بوصفه ولي الأمر
. فهو استعمال لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ، وفقا لمقتضيات العدالة الاجتماعية التي يتبناها الإسلام (2).

(1) نهج البلاغة ص 438، الرسالة 53.
(2) لاحظ الحدائق الناضرة ج 20، ص 80، والوسائل ج 12، ص 311.
692

الملاحق
693

(1)
بحث في استثناءات من ملكية المسلمين لأراضي الفتح
حكم الأرض العامرة بعد تشريع حكم الأنفال:
في الأوساط الفقهية رأي يميز بين نوعين من الأرض العامرة حال الفتح:
أحدهما: الأرض التي كان اعمار الكفار لها متقدما زمنيا على تشريع ملكية الإمام للأنفال بما فيها الأرض الميتة، كما إذا كانت الأرض معمورة منذ الجاهلية.
والآخر الأرض التي يرجع عمرانها حال الفتح إلى تاريخ متأخر عن زمان ذلك التشريع، كما إذا فتح المسلمون أرضا عامرة في سنة خمسين للهجرة، وكان بدء عمرانها بعد نزول سورة الأنفال، أو بعد وفاة النبي (ص) مثلا.
فالنوع الأول من الأرض العامرة حال الفتح، يملكه المسلمون ملكية عامة. وأما النوع الثاني، فلا يملكه المسلمون، وإنما هو ملك للإمام.
قال الفقيه المحقق صاحب الجواهر في بحوث الخمس من كتابه: ((إطلاق الأصحاب والأخبار، ملكية عامر الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين يراد به ما أحياه الكفار من الموات قبل أن يجعل الله الأنفال لنبيه (ص)، وإلا فهو له أيضا، وإن كان معمورا وقت الفتح)). وخالف ذلك
695

في بحوث احياء الموات من كتابه (1).
والباعث على التمييز فقهيا بين هذين النوعين من الأرض العامرة حال الفتح، هو التسليم المسبق بنقطتين، وهما كما يلي:
(أ) أن الكافر لا يملك الأرض بالاحياء، بعد تشريع حكم الأنفال، لأن الأرض تصبح بموجب هذا التشريع ملكا للإمام، وهو لم يأذن للكافر بالإحياء لكي يملك الأرض التي يحييها.
(ب) أن المسلمين إنما يغنمون ويملكون شرعا بالفتح أموال الكفار، لا أموال الإمام التي في سيطرتهم.
ويستخلص من ذلك: أن الأرض التي أحياها الكافر بعد تشريع حكم الأنفال، تظل ملكا للإمام، ولا يملكها الكافر بالاحياء كما تقرره النقطة الأولى، فإذا فتحها المسلمون لم يملكوها، لأنها ليست من أموال الكافر، بل من أموال الإمام، وهم إنما يملكون ما يغنمونه من الكفار، كما مر في النقطة الثانية.
وهذا الرأي الذي يستهدف التمييز بين هذين النوعين، يحتاج إلى شيء من التمحيص، لأننا إذا در [NOOR 1] سنا النصوص التشريعية التي تمنح المسلمين الأموال التي أخذوها بالسيف من الكفار، بما فيها الأرض.. نجد أنفسنا بين فرضيتين: إحداهما: أن تكون الأموال الممنوحة للمسلمين بالفتح في هذه النصوص: كل مال كان ملكا أو حقا في الدرجة السابقة للكافر. والأخرى: أن تكون الأموال الممنوحة في تلك النصوص: كل مال أخذ من الكافر وانتزع من سيطرته بالفتح بقطع النظر عن طبيعة العلاقة الشرعية للكافر بالمال.
فعلى الفرضية الأولى في فهم تلك النصوص، يجب - لكي يتاح تطبقها على مال من الأموال المغتنمة - أن نثبت بصورة مسبقة أن هذا المال كان ملكا أو حقا للكافر لكي يحصل المسلمون على ملكيته بالفتح.
وخلافا للنقطة الأولى، التي نفت حق الكافر فيما يحييه من الأرض بعد تشريع

(1) جواهر الكلام ج 16، ص 118 وج 38، ص 17.
696

حكم الأنفال. نعتقد أن إحياء الكافر للأرض يورثه حقا فيها كالمسلم وإن ظلت رقبة الأرض ملكا للإمام، وفقا للنص القائل: من أحيى أرضا فهو أحق بها، دون تمييز بين المسلمين وغيره.
وعلى هذا الضوء يصبح فتح المسلمين للأرض سببا في انتقال هذا الحق من الكافر إلى الأمة، فتكون الأرض حقا عاما للمسلمين، ورقبتها تظل ملكا للإمام، ولا تعارض بين الأمرين.
وأما إذا أخذنا بالفرضية الثانية في تفسير نصوص الغنيمة فسوف تكون هذه النصوص شاملة للأرض التي يغنمها المسلمون من الكافر، ولو لم تكن ملكا أو حقا للكافر قبل الفتح، لأن أساس تملك المسلمين على هذا الضوء، وهو انتزاع المال من سيطرة الكافر خارجا، وهذا حاصل.
وسوف يؤدي بنا هذا أن إلى مواجهة التعارض بين إطلاق نصوص الغنيمة، وإطلاق دليل ملكية الإمام، لأن الأرض التي أحياها الكافر بعد تشريع حكم الأنفال ثم فتحها المسلمون، تعتبر - بوصفها مالا منتزعا من الكافر بالفتح - مندرجة في نصوص الغنيمة، وبالتالي ملكا عاما للمسلمين وتعتبر - بوصفها أرضا ميتة حين تشريع حكم الأنفال - مندرجة في دليل ملكية الإمام للأرض الميتة وبالتالي ملكا له.
ومن الضروري - فقهيا - في أمثال هذه الحالة، التدقيق في تحديد ما هو القدر الذي مني بالمعارضة من مدلول النصوص، لنتوقف عن الأخذ به نتيجة للتعارض، مع الأخذ بسائر الأجزاء المدلول.
ونحن إذا لاحظنا المعارضة هنا، وجدنا أن نقطة ارتكازها هي اللام في قولهم: ((كل أرض ميتة للإمام)) وقولهم - مثلا -: ما أخذ بالسيف للمسلمين واللام بطبيعتها لا تدل على الملكية، بلى على الاختصاص، وإنما
تدل على الملكية بالاطلاق. وهذا يعني أن التعارض بن إطلاقي اللامين، لأنهما تؤديان إلى ملكيتين مختلفتين، فيسقط الاطلاقان، وتبقى الدلالة على أصل الاختصاص ثابتة، إذ لا مانع من افتراض
697

إختصاصين بالأرض التي أحياها الكافر بعد تشريع حكم الأنفال ثم فتحها المسلمون:
أحدهما: اختصاص الإمام على مستوى الملكية، والآخر اختصاص المسلمين على مستوى الحق (1).
وبهذا ننتهي إلى نفس النتيجة التي انتهينا إليها على أساس الفرضية الأولى. ويمكننا أن نعمم هذه النتيجة على جميع الأراضي العامرة المفتوحة عنوة حتى ما كان منها قد عمره الكافر وأحياه قبل زمن نزول آية الأنفال، لأن آية الأنفال جاءت على سؤال عن الحكم الشرعي للأنفال فهي جملة خبرية والجملة

(1) وبتعبير آخر: ان التعارض في الحقيقة ليس بين اطلاق عنوان (الغنيمة) في نصوص ملكية المسلمين، واطلاق عنوان (الأرض الميتة) في نصوص ملكية الإمام.. ليتعين الالتزام بخروج مادة التعارض - وهي الأرض التي نتكلم عنها -، أما عن هذه النصوص رأسا، وأما عن تلك كذلك. وإنما التعارض في الحقيقة بين اطلاق اللام في هذه النصوص، واطلاقها في تلك، لأن هذين الاطلاقين هما اللذان يؤديان إلى اجتماع الملكيتين على مملوك واحد وقانون المعارضة يقتضي التساقط بمقدارها لا أكثر، فيسقط اطلاق اللام المفيد للملكية في كل من الطائفتين، ويبقى أصل اللام الدال على مطلق الاختصاص. وحينئذ نثبت اختصاص المسلمين بالأرض التي وقعت مادة التعارض بنفس اللام في نصوص الغنيمة، لأن هذا المقدار لم يكن له معارض. ونثبت اختصاص الإمام بتلك الأرض، اختصاصا ملكيا، بالعموم الفوقي الدال على أن الأرض كلها للإمام، لأن العام يكون مرجعا بعد تساقط الخاصين.
وقد يتوهم خلافا لما قلناه: أن المتعين عند المعارضة بين الطائفتين تقديم دليل ملكية الإمام، لأن الاستيعاب في بعض نصوص بأداة العموم، كما في قوله: ((كل أرض ميتة للإمام)). دون أخبار الأرض الخراجية، فان دلالتها على الاستيعاب بالاطلاق.
والجواب أن اطلاق أخبار الأراضي الخارجية، لا يعارض العموم الافرادي في قوله: (كل أرض ميتة)، وإنما يعارض اطلاقه الأزماني لما بعد الفتح، بمعنى أن الأرض العامرة المفتوحة، كانت إلى حين الفتح داخلة في دليل ملكية الإمام بلا معارض. فطرف المعارض إذن هو الاطلاق الأزماني في دليل ملكية الإمام، لا العموم الافرادي الذي هو بالوضع وحتى الاطلاق الأزماني، قد عرفت أن مرجع طرفيته للمعارضة بالدقة إلى كون اطلاق اللام طرفا للمعارضة ولهذا لو فرض عدم وجود اطلاق في اللام يدل على الملكية لما بقيت معارضة، لا مع العموم الافرادي، ولا مع الاطلاق الأزماني.
698

الخبرية بمدلولها يمكن أن تعقب عن قضية كلية تشمل الأفراد السابقة والحاضرة والمستقبلة.
وبكلمة أخرى إن دليل ملكية المنصب الإلهي للأنفال لو كان لسانه لسان إنشاء الملكية وجعلها فلا يمكن للملكية المجعولة بهذا الدليل أن يكون لها وجود سابق على ذلك الدليل واما إذا كان سياقه سياق الجملة الخبرية فبالإمكان أن يكون أخبارا عن ثبوت ملكية المنصب لكل أرض ميته على نحو تكون كل أرض يحييها الكافر ملكا للإمام ويكسب الكافر حق الإحياء فيها فإذا فتحت عنوة غنم المسلمون حق الكافر وتحول إلى حق عام مع بقاء الرقبة ملكا للإمام، وهذا ما يناسب العموم في رواية الكابلي وغيرها الدليل على أن الأرض كلها للإمام.
هل يستثنى الخمس من الأرض المفتوحة؟
بقي علينا أن نعرف أن الأرض هل تشملها فريضة الخمس، أو يحكم بملكية المسلمين لها جميعا، دون استثناء الخمس.
ولعل كثير من الفقهاء يذهبون إلى ثبوت الخمس، تمسكا باطلاقات أدلة خمس الغنيمة، التي تقتضي شمولها الغير المنقول من الغنائم أيضا.
وخلافا لذلك، يذهب جملة من الفقهاء إلى نفي الخمس بدعوى: ان إطلاق أدلة خمس الغنيمة لابد من الخروج عنها، بلحاظ إطلاق دليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة، المقتضي لنفي الخمس فيها (1).
والتحقيق: أن مقصود النافين من التمسك باطلاق دليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة.. اما أن يكون هو تقديم هذا الدليل على إطلاق أدلة خمس الغنيمة، أو مجرد إيقاع المعارضة بين إطلاقي الدليلين، والاكتفاء بتساقط الاطلاقين في مقام نفي ثبوت الخمس.

(1) لاحظ الحدائق الناضرة ج 12، ص 325، والمنتهى ج 1، ص 566، وتحرير الوسيلة ج 1 ص 352.
699

فان أريد الأول، فهو يتوقف على كون دليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة، أخص من أدلة خمس الغنيمة ليقدم عليها بالتخصيص. وهذه الأخصية فيها بحث، لأن الملاك في تشخيص الأخص، إن كان أخصية الموضوع الرئيسي في أحد الدليلين من الموضوع الرئيسي في الآخر. فالأخصية في المقام ثابتة، لأن الموضوع الرئيسي في دليل ملكية المسلمين هو الأرض المفتوحة والموضوع الرئيسي في أدلة خمس الغنيمة هو الغنيمة، ومن المعلوم أن الأرض المفتوحة أرض من طبيعي الغنيمة، لأنها نوع خاص منها. وإن كان الملاك في الأخصية ملاحظة ومجموع الجهات والقيود الدخيلة في الحكم، فالنسبة في المقام بين الدليلين العموم من وجه، لأنها تلاحظ حينئذ بين عنوان خمس الغنيمة وعنوان الأرض المغنومة، ومادة الاجتماع حينئذ بين عنوان خمس الغنيمة وعنوان الأرض المغنومة، ومادة الاجتماع بينهما خمس الأرض المغنومة، ومادتا الافتراق هما خمس غير الأرض من طرف، وغير الخمس من بقية الأرض المغتنمة من طرف آخر. والظاهر أنه ليس هناك ميزان كلي في تشخيص الأخصية، بل يختلف الحال باختلاف الموارد عرفا كما فصلنا في الأصول.
وإن أريد الثاني - أي إيقاع المعارضة بين اطلاقي الدليلين والالتزام بالتساقط مع الاعتراف بعدم الأخصية - فيرد عليه: أنه لو سلم التعارض، فيمكن أن يقال بتقديم إطلاق أدلة خمس الغنيمة، على إطلاق دليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة بوجهين:
أحدهما: أن في أدلة خمس الغنيمة الآية الكريمة، الواردة في الخمس، وقد حققنا في محله: ان المعارض للكتاب بنحو العموم من وجه يسقط عن الحجية في مادة الاجتماع، ويتقدم عليه العام أو المطلق القرآني، وفقا للنصوص الآمرة بطرح ما خالف الكتاب.
والوجه الآخر: ان شمول دليل ملكية المسلمين لمادة الاجتماع بالإطلاق ومقدمات الحكمة، وشمول جملة من أدلة خمس الغنيمة للأرض المفتوحة بالعموم، كرواية أبي بصير: ((كل شيء قوتل عليه، على شهادة أن لا إله إلا الله ففيه
700

الخمس)) (1). وكذلك الآية الكريمة. أما الرواية فإنها مصدرة بأداة العموم، وهي (كل)، وأما الآية فهي وإن لم تشتمل على أداة العموم، ولكن كلمة (من شيء) في قوله ((واعلموا انما غنمتم من شيء)) (2) تقوم مقام العموم في الدلالة عرفا، على تصدي الآية للاستيعاب بمدلولها اللفظي. والعموم اللفظي يقدم في مورد المعارضة على الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة.
وهكذا نعرف: أن الجواب عن التمسك باطلاقات أدلة خمس الغنيمة، يحتاج إلى تقريب آخر.
والتحقيق: عدم ثبوت الخمس في الأرض المفتوحة (3)، كما بنينا عليه في بحوث الكتاب، وذلك لأن روايات الغنيمة ليس فيها ما يصلح للاستدلال بإطلاقه على ثبوت الخمس في الأرض المفتوحة، إلا رواية أبي بصير
المتقدمة، لأن غيرها بين ما يكون ضعيف السند في نفسه، كروايات حصر الخمس في خمسة، أو ساقطا بالمعارضة، كرواية ابن سنان ((لا خمس إلا في الغنائم خاصة)) (4) أو محفوظا بالقرينة على الاختصاص بغير الأرض من الغنائم، كالروايات الدالة على إخراج خمس الغنيمة، وتقسيم الباقي على المقاتلين فان التقسيم قرينة على أن موردها الغنائم المنقولة.
وهكذا نعرف أن الاطلاق ينحصر في رواية أبي بصير، مضافا إلى إطلاق الغنيمة في الآية الكريمة، فهذان الاطلاقان هما عمدة الدليل على ثبوت الخمس، ولا يتم شيء منهما بعد التدقيق.
أما الآية فلأن عنوان الغنيمة فيها قد فسر - في صحيحة ابن مهزيار - بالفائدة التي يستفيدها المرء، وعلى ضوء هذا التفسير يكون الموضوع في الآية عبارة عن الفوائد

(1) لاحظ الوسائل ج 6، ص 339، الحديث 12553.
(2) الأنفال / 41.
(3) لاحظ الحدائق الناضرة ج 12، ص 325.
(4) الوسائل ج 6، ص 338، الحديث 12548.
701

المالية الشخصية. ودليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة، يخرجها عن كونها فائدة شخصية، فلا يصدق عليها عنوان الغنيمة بالمعنى المفسر في الصحيحة، فلا يبقى للآية إطلاق يشمل الأرض المفتوحة عنوة.
وأما رواية أبي بصير، فالجواب عنها من وجهين:
الأول: إن الآية الكريمة بلحاظ صحيحة ابن مهزيار التي فسرتها، تكون مقيدة لرواية أبي بصير، بما إذا صدق على المال عنوان الفائدة الشخصية وذلك لأن الآية تقضي أن خمس الغنيمة ثابت بعنوان الفائدة، ورواية أبي بصير تقتضي أنه ثابت بعنوان كون المال مما قوتل عليه، بل دخل لعنوان الفائدة في ذلك، فكل منهما يدل - بمقتضى إطلاقه - على أن العنوان المأخوذ فيه هو تمام الموضوع لخمس الغنيمة. ومع دورات الأمر بين الاطلاقين، يتعين رفع اليد عن الاطلاق في رواية أبي بصير، وتقييدها بعنوان الفائدة. وذلك لأن التحفظ على الاطلاق فيها، والالتزام بعدم دخل عنوان الفائدة رأسا في موضوع خمس الغنيمة يؤدي: عما إلى إخراج خمس الغنيمة عن إطلاق الآية، وصرفها إلى بقية موارد الخمس، أو إلى الالتزام بأن الآية، وصرفها إلى بقية موارد الخمس، أو إلى الالتزام بأن الآية، وإن كانت شاملة لخمس الغنيمة، إلا أن العنوان المأخوذ فيها وهو الفائدة لا دخل له في موضوع هذا الخمس أصلا، وكلا الأمرين باطل.
أما إخراج خمس الغنيمة عن إطلاق الآية، فلوضوح أن خمس الغنيمة هو القدر المتيقن من الآية، لأنه مورد عمل النبي بالآية وتطبيقه لها، فلا يمكن الالتزام بخروجه. وأما إلغاء العنوان المأخوذ في موضوع الآية - أي الغنيمة بمعنى الفائدة الشخصية - فهو غير صحيح أيضا، لأنه متى دار الأمر بين الغاء العنوان المأخوذ في أحد الدليلين عن الموضوعية رأسا، وبين تقييد العنوان المأخوذ في الدليل الآخر، تعين الثاني. وفي المقام الامر كذلك، فلا محيص عن الالتزام بتقييد موضوع روية أبي بصير بعنوان الفائدة.
فإن قيل: إن هذا يلزم منه أيضا إلغاء العنوان المأخوذ في موضوع رواية أبي بصير، أي عنوا ما قوتل عليه، لأن الفائدة بنفسها ملاك للخمس، حتى في غير مود القتال.
702

قلنا: لا يلزم ذلك، بل يبقى عنوان القتال دخيلا في موضوع خمس الغنيمة، على حد دخالة عنوان المعدنية في موضوع خمس المعدن. وأثره هو ثبوت الخمس في تمام المال من دون استثناء المؤنة، بخلاف عنوان الفائدة بمفرده، فإنه ملاك للخمس بعد الاستثناء لا في التمام.
فاتضح أن التحفظ على الإطلاق في الرواية، الذي يقتضي كون العنوان المأخوذ فيها تمام الموضوعة.. يوجب الغاء العنوان المأخوذ في الآية، بالنسبة إلى خمس الغنيمة رأسا وأما تقييد إطلاق الرواية بالآية بعد تفسيرها، والالتزام بأن خمس الغنيمة موضوعه مركب من القتال وصدق عنوان الفائدة فليس فيه محذور الغاء العنوان رأسا.
وإذا ثبت ذلك سقط الاستدلال بالرواية، لأن عنوان الفائدة الشخصية لا يصدق على الأرض، بعد فرض كونها وقفا عاما على نوع المسلمين إلى يوم القيامة.
هذا كله في الوجه الأول للجواب عن الاستدلال برواية أبي بصير.
وأما الوجه الثاني في الجواب فحاصله: أن اطلاق رواية أبي بصير معارض بالروايات الدالة باطلاقها على ملكية المسلمين لتمام الأرض المفتوحة، وهي قسمان: أحدهما: أخذ فيه عنوان الأرض المأخوذة بالسيف، والآخر أخذ فيه عنوان أرض السواد.
أما القسم الأول: فهو على فرض كون النسبة بينه وبين روية أبي بصير العموم من وجه، محكوم له، ولا يمكن أن يعارضه، لأن الاطلاق فيه بمقدمات الحكمة، والعموم في رواية أبي بصير وضعي.
وأما القسم الثاني، فحيث أن العنوان فيه أرض السواد، وهو علم لأرض كانت محدودة في الخارج، فيكون شموله بالظهور اللفظي، لا بمقدمات الحكمة، وحينئذ يصلح لمعارضة رواية أبي بصير. ومعنى هذا: أن رواية أبي بصير إنما تقع طرفا للمعارضة في المرتبة الأولى مع القسم الثاني خاصة وبعد تساقط الطرفين تصل النوبة إلى القسم الأول بلا معارض، لأن القسم الأول باعتبار كونه محكوما في نفسه، لأصالة العموم في رواية أبي بصير.. يستحيل أن
703

يقع طرفا للمعارضة معها في المرتبة الأولى، لكي يسقط مع سقوطها.
وقد يناقش في دلالة خبر أبي بصير بطريقة أخرى كما في تعليقة المحقق الأصفهاني، وهي المنع عن عمومها
للأرض بقرينة ما جاء عقيب فقرة الاستدلال المتقدمة وهو قوله (ولا يحل لأحد أن يشتري من الخمس شيئا حتى يصل الينا حقنا) فان هذا قرينة على أن المقصود بالغنيمة الأموال المنقولة لأنها هي التي يمكن أن تباع وأما الأرض المفتوحة عنوة فلا تباع ولا تشترى.
وهذه المناقشة ليست واردة، وذلك: لأن الغاية المتمثلة في قوله (حتى يصل الينا حقنا) إذا قيل بأن لها مفهوما دال على انتفاع طبيعي الحكم في المغيى بتحقق الغاية تكون دالة على جواز البيع إذا وصل إليهم حقهم وهذا يعني أن مورد الكلام غنيمة يجوز بيعها في نفسها فتم القرينة المذكورة، وأما إذا أنكرنا مفهوم الغاية - كما هو المختار في علم الأصول - وقلنا ان الغاية إنما تدل على انتفاع شخص الحكم المغيى عند وجودها، فالفقرة المشار إليها إنما تدل على أنه بوصول حقهم إليها إنما تدل على أنه بوصول حقهم إليهم تزول حرمة البيع الناشئة من ثبوت حقهم ولا ينافي ذلك ثبوت حرمة أخرى أحيانا بسبب الحق العام للمسلمين كما في الأرض.
- 2 -
بحث في شمول حكم الأرض الخراجية لموات الفتح
قد يقال - كما في الرياض -: ان النصوص الدالة على أن الأرض الميتة من الأنفال وملك للإمام، معارضة - على نحو العموم من وجه - بالنصوص المتقدمة الدالة على أن الأرض المأخوذة بالسيف للمسلمين. وملتقى المعارضة هو الأرض الميتة المفتوحة عنوة، لأنها بوصفها ميتة تشملها نصوص ملكية الإمام، وبوصفها مفتوحة عنوة تندرج في نصوص ملكية المسلمين للأرض الخراجية، القائلة: ان ما أخذ
704

بالسيف للمسلمين (1). فما هو المبرر فقهيا للأخذ بنصوص ملكية الإمام وتطبيقها على الأرض المفتوحة إذا كانت ميتة، وإهمال نصوص ملكية المسلمين وإطلاقها؟!.
وقد يجاب عن هذا الاعتراض: بأن نصوص ملكية المسلمين موضوعها ما يغتنم من الكفار، والمغتنم من الكفار هو أموالهم المملوكة لهم والأراضي الموات ليست مملوكة لأحد منهم، وإنما يملكون الأراضي التي يعمرونها. فالموات إذن خارجة عن موضوع تلك النصوص.
وهذا الجواب إنما يصح على أساس الفرضية الأولى من الفرضيتين، اللتين سبقتا في الملحق الأول بشأن موضوع نصوص الغنيمة، وأما إذا أخذنا بالفرضية الثانية، وقلنا: ان الغنيمة ما أخذ بالسيف من الكفار خارجا، فلا يتوقف عندئذ صدق الموضوع في نصوص الغنيمة، على أن يكون المال المغتنم ملكا للكافر. وإنما يكفي في صدقه كون المال تحت استيلاء الكفار، لكي يصدق أخذه منهم.
فكل مال انتزع من سيطرة الكفار بالحرب فهو غنيمة، سواء كان ملكا لواحد معين من الأعداء. فالمعارضة بنحو العموم من وجه ثابتة.
ولكن تقدم مع ذلك نصوص ملكية الإمام، لأحد الأسباب الفنية الآتية:
أولا: إن نصوص ملكية الإمام يمكن تصنيفها إلى مجموعتين:
إحداهما: جاءت بهذا النص ((الأرض الميتة أو الخربة للإمام)) 02). والأخرى جاءت بنص آخر وهو ((أن الأرض التي لا رب لها للإمام)) (3).
ومن الواضح أن المجموعة الثانية من نصوص ملكية الإمام، لا يمكن أن تعارض نصوص الأرض الخراجية الدالة على ملكية المسلمين، في مستوى المجموعة الأولى

(1) لاحظ الرياض ج 1، ص 469.
(2) لاحظ الوسائل ج 6، ص 364، الباب الأول من أبواب الأنفال.
(3) المصدر السابق.
705

، لكي تسقط المجموعتان - في محل التعارض - في درجة واحدة. وذلك لأن نصوص الأرض الخراجية الدالة على ملكية المسلمين للأرض المفتوحة، حاكمة بحد نفسها على المجموعة الثانية، إذ تخرج الأرض عن كونها مما لا رب لها، وتجعل المسلمين ربا لها فالمجموعة الثانية إذن يستحيل أن تقع طرفا للمعارضة مع أخبار ملكية المسلمين، لأن المحكوم لا يعارض الدليل الحاكم. ونتيجة ذلك: أن التعارض في الدرجة الأولى يتركز بين نصوص ملكية المسلمين، والمجموعة الأولى من نصوص ملكية الإمام. وبعد التساقط نصل إلى المجموعة الثانية من نصوص ملكية الإمام. بدون معارض، ولو بضم الاستصحاب الموضوعي، الذي ينقح موضوعها، وهو عدم وجود رب للأرض.
وثانيا: أن في نصوص ملكية الإمام ما يدل على الاستيعاب بالعموم، نحو قوله: ((كل أرض ميتة فهي للإمام)) وأما نصوص الأرض الخراجية فهي بالاطلاق. والعام يقدم على المطلق حين تعارضهما بنحو العموم من وجه.
وثالثا: أنا لو سلمنا تساقط الطرفين بالمعارضة، تعين الرجوع إلى العام الفوقي الدال على: أن الأرض كلها ملك للإمام، فان هذا العام يصلح للمرجعية بعد تساقط النصوص المتعارضة.
ورابعا: انه لو تساقطت الطائفتان، وقطعنا النظر عن المرجع الفوقي، أمكن الرجوع إلى الاستصحاب، لأن الأرض الميتة قبل فتحها إسلاميا ملك للإمام، وفقا لنصوص مالكية الإمام للأراضي الموات، وإنما يحتمل مالكية المسلمين لها بالفتح. ففي فرض تساقط اطلاق النصوص بالمعارضة، تستصحب مالكية الإمام. وهذا الوجه إنما يتم في الأرض التي فتحت بعد تشريع مالكية الإمام للموات، ليكون هناك يقين سابق بمالكيته حتى يستصحب كما ان بعض الوجوه السابقة لا تتم أيضا إلا في بعض الفروض التي يختلف الحال فيها باختلاف
التوقيت التاريخي لتشريع مالكية الإمام للأنفال، وتشريع مالكية المسلمين للأرض المفتوحة، وتحقق الفتح خارجا مما لا يسع المقام لتفصيله.
706

(3)
أثر التحجير شرعا
يرى كثي من الفقهاء: أن التحجير يعتبر سببا لوجود حق خاص للفرد المحتجز في الأرض التي أحتجزها وحجرها (1)، ويستندون في ذلك إلى روايات غير صحيحة من ناحية السند، ولذلك لا يمكن القول: بأن التحجير لا يعتبر سببا للحق الخاص، بوصفه علمية مستقلة منفصلة، وإنما يعتبر كذلك بوصفه شروعا في الإحياء، وبداية لعملية عمران الأرض وإحيائها.
- 4 -
بحث في ان اثر احياء الأرض هو الملكية أو الحق
وخلافا لهذه الطائفة من النصوص، الدالة - بصراحة - على بقاء الأرض المحياة ملكا للإمام وحقه في الخراج.. توجد طائفتان، تدلان على تملك المحيي للأرض التي أحياها، وعدم كونه مسؤولا عنها بشيء.. إحداهما تعطي هنا المعنى على مستوى الظهور، والأخرى تدل عليه بصراحة.
أما الطائفة الأولى: فهي نظير ما جاء في رواية محمد بن مسلم عن أهل البيت (ع): ((أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض فهم أحق بها وهي لهم)) (2). لأن اللام في كلمة (لهم) تدل على الاختصاص، وظاهر إطلاقها الاختصاص بنحو الملكية.

(1) لاحظ المهذب ج 2، ص 32، والتذكرة ج 2، ص 410، كتاب إحياء الموات الفصل الثاني، الشرط الرابع، ومجمع الفائدة والبرهان ج 7، ص 492.
(2) الوسائل ج 17، ص 327، الحديث 32223.
707

وأما الطائفة الثانية: فهي نظير خبر عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: ((سئل وأنا حاضر عن رجل أحيى أرضا مواتا فكري فيها نهرا، وبنى فيها بيوتا، وغرس نخلا وشجرا. فقال: هي له، وله أجر بيوتها، وعليه فيها العشر (أي الزكاة) (1) فان اقتصاده على ذكر الزكاة في مقام تحديد ما عليه، كالصريح في نفي الخراج، وانقطاع صلة الإمام برقبة الأرض. ولابد للمعارضة بين هاتين الطائفتين، وبين الطائفة المشار إليها في المتن، الدالة على بقاء الأرض على ملكية الإمام بعد الإحياء.. من علاج.
قد يقال: إن هذه الطائفة مما لا محصل لها بعد استقرار السيرة القطعية على عدم إعطاء المحيي للخراج، منذ زمان الأئمة إلى زماننا هذا، كما لا معنى لحملها على زمان ظهور الحدة، فلا بد من رفع اليد عنها.
ونجيب على ذلك بمنع جدوى السيرة المشار إليها لأنه إن أريد سيرة المتعبدين بنصوص أهل البيت، فلعل عدم إعطائهم للأجرة بلحاظ أخبار التحليل لا باعتبار انقطاع صلة الأرض بالإمام رأسا بعد الاحياء. وان أريد سيرة غيرهم من المسلمين، فإن ذلك لأجل مشيهم على أساس فقهي آخر.
وقد يقال: إن هذه الطائفة - الدالة على بقاء ملكية الإمام - قد اعرض عنها الأصحاب، فتسقط عن الحجية.
الجواب أولا: أن العارض الجميع غير ثابت وتسالم الجميع على عدم وجوب الطسق بالفعل لجل أخبار التحليل، لا يدل على العارض الجميع عن مفادها.
وثانيا: أنه لو سلم إعراضهم عن مفادها فلعله لإعمال قواعد باب التعارض وترجيح المعارض، لا لخلل خاص فيها.
وعلى هذا فلابد من حل للتعارض، ويتصور لذلك وجوه:
الأول: حمل الطائفة الآمرة بالخراج على الاستحباب، جمعا بينها وبين ما هو كالصريح في عدم وجوبه.

(1) المصدر السابق، الحديث 32227.
708

ويرد عليه: ان هذا خلط بين الأحكام التكليفية والوضعية، لأن هذا الجمع إنما يصح في الأحكام التكليفية، حيث يحمل الأمر فيها إذا وردت الرخصة على الاستحباب، دون الأحكام الوضعية، لأن نكتة صحة الجمع هناك غير موجودة هنا. فان الوجه في حمل دليل الأمر التكليفي على الاستحباب، بعد مجيء الرخصة: أما بناء على مبنى المحقق النائيني في دلالة الأمر على الوجوب، فلأن الوجوب والاستحباب على هذا المبنى ليس مدلولين للفظ، إنما ينتزع الوجوب من حكم العقل بلزوم إيجاد مطلوب المولى، ما لم ترد الرخصة منه، فإذا جاءت الرخصة ارتفع موضوع الوجوب حقيقة، وثبت بضمها إلى جامع الطلب، المدلول للفظ الاستحباب. واما بناء على كون الوجوب ثابتا بإطلاق مدلول الأمر، فيرجع الحمل على الاستحباب، إلى التقييد الإطلاق الذي هو منشأ الوجوب، والتقييد على مقتضى القاعدة. واما بناء على كون الوجوب مدلولا وضعيا بنحو، الانحاء، فالحمل على الاستحباب يتوقف على دعوى وجود ظهور ثانوي للصيغة في الاستحباب، تصل النوبة اليه، بعد رفع اليد عن ظهورها الأولي في الوجوب، ليكون الاستحباب ثابتا بالظهور لا بالتأويل.
وكل هذه الوجوه لا تتم في الأمر الظاهر في بيان حكم وضعي، كما في المقام. حيث ان قوله: (فليؤد طسقها أو فعليه طسقها) بيان عرفا للاستحقاق الوضعي للإمام وليس مجرد طلب تكليفي صرف فلا يتجه الحمل على الاستحباب.
الثاني: إن الطائفة والدالة بالصراحة على بقاء مالكية الإمام، تسقط بالمعارضة مع الطائفة الصريحة في ارتفاعها، وتنتهي النوبة إلى الطائفة الأخرى الظاهرة في ارتفاعها، وتملك المحيي للرقبة بالإطلاق.
والوجه في ذلك: أن هذه الطائفة الظاهرة، لا يعقل أن تكون طرفا للمعارضة مع الطائفة الصريحة في بقاء
مالكية الإمام، لأن الظهور الإطلاقي لا يعارض الصراحة، بل يكون الصريح مقيدا له.
وعليه فالمعارضة في المرتبة السابقة تقع بين الصريحين، وتصل النوبة إلى الظهور الإطلاقي بلا معارض.
709

وتقوم الكفرة في هذا البيان على قاعدة عامة في باب التعارض وهي: أنه متى تعارضت طائفتان من الأخبار، وكان إحداهما صريحة كلها في النفي مثلا، وكان في الطائفة الأخرى ما هو صريح في الإثبات وما هو ظاهر فيه.. فلا يلتزم بسقوط الجميع في درجة واحدة، لأن ما هو ظاهر في الإثبات لا يمكن أن يعارض ما هو صريح في النفي، إذا كانت الصراحة بدرجة تصلح للقرينية عرفا. فالصريح في النفي يعارض الصريح في الإثبات فقط، وبعد التساقط يرجع إلى الظاهر في النفي، بدون معارض في درجته.
وهذه القاعدة العامة وإن لم تكن مقررة عمليا عند الفقهاء، ولكنها في الحقيقة تمديد لقاعدة مقررها عندهم نظريا وعمليا، وهي اللا رجوع إلى العام الفوقي بعد تساقط الخاصين، فإن نفس الفكرة التي تبرهن على أن العام لا يقع طرفا للمعارضة في مستوى الخاصين، تدل على ذلك بالنسبة إلى أمثال المقام.
وهذا الوجه يتوقف على تعيين تساقط الصريحين، وعدم ترجيح أحدهما وسيأتي بيان المرجح.
الثالث: مبني على انقلاب النسبة، بدعوة: أن النصين متعارضان بنحو التباين، وأخبار التحليل تقيد النص الدال على عدم تملك المحيي وثبوت الخراج عليه، وتخرج عن تحته الأفراد الذين شملهم التحليل، فيصبح النص بسبب ذلك أخص مطلقا من النص النافي للخراج مطلقا، وترتفع المعارضة بالتخصيص.
ويرد عليه - مضافا إلى الإشكال في كبرى انقلاب النسبة - أن انقلاب النسبة بين العامين المتباينين إنما يتم، إذا ورد خاص موافق لأحدهما مخالف للآخر ليحمل العام الموافق على مورد الخاص. وفي المقام أخبار التحليل وإن كانت مخالفة أو مخصصة لما دل على ثبوت الخراج، إلا أنها ليست موافقة العام النافي للخراج، والدال على تملك المحيي لرقبة الأرض، لأن ظاهر العام النافي هو بيان الحكم الإلهي الكلي لا التحليل المالكي كما هو مفاد أخبار التحليل.
ويؤيد ذلك ورود بعض روايات الطائفة النافية في مورد اليهودي والنصراني،
710

الذي لا يشمله التحليل المالكي المجعول في أخبار التحليل قطعا، الأمر الذي يدل على أن الطائفة النافية بصدد بيان حكم إلهي لا إذن شخصي مالكي فلا يمكن حملها على مورد أخبار التحليل بانقلاب النسبة.
الرابع: إن النصين متعارضان، ويرجح النص الدال على تملك المحيي لرقبة الأرض: أما للشهرة، وإما لموافقته لعمومات السنة القطعية، حيث ان جملة (من أحيى أرضا فهي له) متواترة إجمالا عنهم عليهم السلام، وهي دالة بإطلاق اللام على الملكية فتكون مرجحا للنص الدال على تملك المحيي للأرض.
والجواب ما ذكرناه في الأصول: من أن شهرة الخبر، بالدرجة التي لا تؤدي إلى القطع بصدوره. ليست مرجحة، وكذلك موافقة السنة القطعية، مضافا إلى أن السنة لم تصل إلى حد التواتر في المقام.
الخامس: إن النص الدال على عدم تملك المحيي للرقبة، وبقائها على ملكية الإمام.. هو المرجح في مقام التعارض، وذلك لأن النص الآخر المعارض له، مخالف لعموم الكتاب ومظنة للتهمة. أما العموم الكتابي فهو قوله تعالى ((لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض)) (1) فان هذه الآية حكمت بأن كل سبب للتملك والأكل باطل، إلا التجارة عن تراض. ومن الواضح أن تملك مال الإمام بالإحياء ليس تجارة عن تراض، فهو باطل باطلاق الآية الكريمة. فيكون ما دل على عدم تملك المحيي لرقبة الأرض موافقا لإطلاق الكتاب، فيقدم. كما أن أصالة الجهة فيه قطعية، دون ما دل على تملك المحيي فتدبر جيدا.
السادس: إن رواية عبد الله بن سنان صريحة في نفس الخراج وظاهرة في أن هذا النفي حكم شرعي وليس نفيا ناشئا من الاسقاط والتحليل من صاحب الحق، لأن ظهور رجوع السائل إلى الإمام وهو غير مبسوط اليد رجوعه اليه بما هو مفت لا بما هو ولي الأمر. والطائفة الأخرى صريحة في عدم النفي الشرعي وظاهرة في عدم الاسقاط من قبل صاحب الحق والتعارض إنما هو بين ظهور رواية ابن سنان

(1) النساء / 29.
711

وأمثالها في النفي الشرعي للخراج وصراحة الطائفة الأخرى في ثبوته الشرعي، ومقتضى الجمع العرفي حينئذ بقرينة أظهرية هذه الطائفة في الثبوت الشرعي للخراج حمل النفي في أمثال رواية ابن سنان على نفي فعلية الخراج المناسب مع الإسقاط أيضا.
- 5 -
بحث في جواز بيع الأرض المحياة على رأي الشيخ الطوسي
قد يقال: ان هذا الرأي الفقهي الذي ينكر تملك الفرد لرقبة الأرض التي أحياها يعجز عن تفسير بيعه لها فقهيا، لأن الفرد على أساس هذا الرأي لا يملك رقبة الأرض، فلا يجوز له بيعها، وإنما له حق فيها. مع أن جواز بيع كل فرد لما أحياه من الأرض ثابت بديهيا في الشريعة.
والجواب: أن البيع يتكفل منح المشتري نفس العالقة التي كانت تربط المال بالبائع، في مقابل حصول البائع على نفس العلاقة التي كانت تربط الثمن بالمشتري، سواء كانت العالقة على مستوى ملكية، أو على مستوى حق. فالفرد الذي أحيى أرضا يجوز له بيعها، لأنه يتمتع بعلاقة خاصة بالأرض، وهي ما نصطلح عليه باسم الحق، فيكون بإمكانه بيع الأرض، بمعنى منح هذه العلاقة للمشتري، في مقابل حصلوه على علاقة المشتري بالثمن.
وبذلك يصبح المشتري صاحب الحق في الأرض، بدلا عن البائع الذي كان له الحق بسبب الإحياء، ويصبح البائع، مالكا للثمن، الذي كان يملكه المشتري قبل البيع.
وقد يفسر بيع افرد للأرض التي أحياها على وجه آخر وهو: أن المحيي يبيع حقه في الأرض لا نفس الأرض. ولكن هذا التفسير يمكن أن يعترض عليه بأن بيع شيء يعني منح البائع العلاقة الاعتبارية التي تربطه بذلك الشيء للمشتري فلابد إذن من
712

افتراض علاقة اعتبارية تربط المبيع بالبائع، ليمنحها البائع إلى المشتري. والحق حكم شرعي، وليس لصاحب الأرض علاقة اعتبارية مع الحكم كعلاقته مع سائر أمواله، فهو لا يملك الحكم الشرعي مثلا. وبتعبير آخر: إن الحكم الشرعي لا يمكن أن يكون مبيعا، لعدم وجود إضافة وعلاقة اعتبارية له بالبائع، والحق ليس إلا حكما شرعيا فلا يجوز بيعه.
أضف إلى ذلك: أن نتيجة بيع الحق - لو أمكن - هو أن يتملكه المشتري، لا أن يكون المشتري صاحب الحق، كما هو المقصود، بمعنى أن حق البائع في الأرض لو افترضناه شيئا مملوكا للبائع كسائر أمواله فبيعه يؤدي إلى تملك المشتري حق البائع، لا إلى اكتسابه هذه الحق وكم فرق بين أن يملك المشتري حق البائع وبين أن يثبت له ذلك الحق؟
والذي يبدو أن هذا الاعتراض ليس متجها وان تفسير بيع الفرد للأرض على أساس أن المحيي يبيع حقه في الأرض أمر مقبول وذلك لأن دعوة عدم تعقل بيع الحق إن كانت تقوم على أساس أن الحق ليس مضافا إلى صاحبه بعلاقة اعتبارية ولا بد في المبيع من علاقة اعتبارية تربطه بالبائع. فالجواب عنها: إن الحق مضاف إلى صاحبه إضافة حقيقية لأن الحق حقه واقعا والإضافة الحقيقية مصححة للنقل والتمليك كما في تمليك الأجير الحر لعمله مع أن عمله ليس مملوكا له بالملكية الاعتبارية بل بنحو من الإضافة الواقعية.
713

وإن كانت الدعوى المذكورة تقوم على أساس أن المبيع لابد أن يكون محفوظا بعد البيع وهذا إنما يصدق على الأرض وأما حق المحيي في الاحياء فيسقط وينشأ بدلا عنه حق المشتري في الأرض المحياة، وذلك لأن الحق يتشخص بطرفه ومع تبدل الطرف يستحيل بقاء الحق بشخصه. فالجواب عنها: ان الحق من الناحية التكوينية وإن كان كذلك لأنه اعتبار والاعتبار بتشخص بطرفه لكن بالنظر العرفي الذي يراه مالا نجد له جانبا موضوعيا قابلا للانتقال على حد انتقال سائر الأموال ولهذا يقال عرفا: انتقل حق الشفعة مثلا من فلان إلى وارثه بدون عناية.
وإن كانت الدعوة المذكورة تقوم على أساس أن البيع لا يصدق إلى حيث يكون المبيع عينا خارجية والحق ليس عينا خارجية. فالجواب عنها: إن اعتبار كون المبيع عينا خارجية في صدق البيع لو سلم فهذا إنما ينفي صفة البيع الحقيقي عن تمليك المحيي لحقه في الأرض بعوضه ولا ينفي صحة هذا المعاملة بعمومات الامضاء والصحة. هذا على أن اعتبار كون المبيع عينا قد لا يكون إلا بمعنى كون ما بإزاء المبيع خارجيا عينا خارجية وهذا حاصل في المقام وإن كان المبيع الحق لا العين فان حصيلة نقل هذا الحق هي تسلم المشتري للأرض ويكفي ذلك في صدق البيع.
- 6 -
لا تمييز بين أنواع الأرض التي أسلم عليها أهلها
يمكن لأحد أن يتصور إمكان التمييز بين نوعين من الأرض، التي أسلم عليها أهلها وهي عامرة، أحدهما: ما كان العمران فيه ممتدا تاريخيا إلى ما قبل تشريع ملكية الإمام للأرض الميتة. والنوع الآخر: الأراضي التي كانت ميتة، عند تشريع ملكية الإمام للموات، ثم عمرها الكفار وأسلموا بعد ذلك عليها طوعا.
فكل أرض من النوع الأول تعتبر ملكا لأصحابها، ولا تندرج في ملكية الإمام، لأنها لم تكن مواتا عند تشريع ملكية الإمام لموات، وبإسلام أصحابها عليها تحفظ لهم، لأن الإسلام يحقن الدم والمال.
وأما الأراضي من النوع الثاني فهي ملك للإمام، نظرا إلى أنها كانت ميتة عند تشريع ملكية الإمام للموات، فاندرجت في نطاق ملكيته. وإحياؤها من قبل الكافر بعد ذلك، لا يوجب انتزاع ملكيتها من الإمام، وإنما يؤدي إلى ثبوت حق لهم في الأرض. فإذا أسلموا على الأرض حفظ لم هذا الحق دون أن تصح رقبة الأرض ملكا لهم،
714

لأن الإسلام يحقن المال ويحفظ، ولا يزيد المال، أو يجعل غير المالك مالكا.
ونتيجة ذلك: أن الأرض التي أسلم صاحبها عليها تكون ملكا له إذا كان عمرانها قبل تشريع ملكية الإمام للموات، ولا يملكها إذا كان العمران بعد ذلك، وإن كان يحتفظ لنفسه بحق خاص فيها. وهذا التفصيل يشابه التفصيل الذي اختاره صاحب الجواهر في أراضي الفتح العامرة، كما مر بنا في الملحق، حيث ذكر: أن عمرانها إذا كان قبل تشريع ملكية الإمام للموات فهي للمسلمين، وإلا فهي ملك للإمام ولا يملكها المسلمون.
ومبررات التفصيل في الأراضي التي أسم عليها أهلها طوعا، أن الأرض الميتة في عصر التشريع، يشملها مبدأ ملكية الإمام، ولا دليل على أنها تصبح بعد ذلك ملكا لمن عمرها من الكفار وأسلم عليها طوعا، لا بسبب الاعمار، ولا بسبب الإسلام. أما الاعمار فهو لا يمنح المحيي ملكية رقبة الأرض، بناء على أن الاحياء يفيد
الاختصاص فقط. وأما الإسلام، فلا نجد ما يدل على أنه سبب في تملك الشخص للأرض التي أسلم عليها، وجميع ما يقدم من أدل على ذلك يمكن أن يناقش فيه:
أ - فقد يستدل على تملك الفرد للأرض، بسبب إسلامه عليها طوعا... بإطلاق النصوص التي تقول: ان الأرض إذا أسلم عليها أهلها طوعا تركت في أيديهم وكانت لهم (1)، وهي لإطلاقها تستوعب ما كان عامرا منها قبل تشريع ملكية الإمام للأرض الميتة، وما عمر بعد ذلك.
والجواب: أن هذه النصوص تتحدث عن السيرة المتبعة في الأرض التي أسلم أصحابها عليها وأنها تترك في أيديهم في مقابل الأرض المفتوحة عنوة التي ينتزعها الإمام فلا يدل الترك على تملكهم للرقبة بل على اقرار عنوة التي ينتزعها الإمام فلا يدل الترك على تملكهم للرقبة بل على اقرار ما هو ثابت قبلا من علاقة لهم بالأرض هي علاقة تقوم على أساس حق الإحياء.
ب - وقد يستدل بالنصوص العامة، الدالة على أن إسلام الشخص يحقن الدم والمال (2)

(1) لاحظ الوسائل ج 11، ص 120، الحديث 20206.
(2) لاحظ الأصول من الكافي ج 2، ص 24، الحديث 1.
715

ومن مظاهر حق الإسلام للمال، منح الأرض لصاحبها إذا أسلم عليها طوعا.
والجواب: أن المفهوم من هذه النصوص هو: أن إسلام الشخص يحقن من ماله ويحرم منه، ما كان يباح لولا إسلامه، لأن هذا الجانب من النصوص يوازي الجانب الآخر، الذي يشرح أحكام الكافر الحربي وكلا الجانبين - ككل - يوضح: ان الكافر إذا حارب الدعوة، أبيحت أرضه وأمواله ودمه، وإذا أسلم، ماذا يحقن له، وعى أي شيء يحصل؟ يجب أن نعرف أنه إذا لم يسلم وحارب الدعوة، فماذا سوف يباح من ماله ويمنح للمسلمين.
وبهذا الصدد لا بد أن نستذكر ما مر بنا في الملحق (1)، من أن الأرض التي لا يسلم عليها أهلها بل تفتح عنوة، إذا كانت معمورة قبل تشريع ملكية الإمام للأرض الميتة فهي ملك المسلمين، وإذا كان عمرانها بعد ذلك، فلا يتاح للمسلمين تملكها، لأنها لم تكن قبل الحرب ملكا للكافر، وإنما هي ملك للإمام، وكان للكافر قبل الحرب حق فيها، بسبب الإحياء، فينقل هذا الحق للمسلمين.
وعلى هذا الضوء نعرف في المقام: أن الأرض التي أسلم عليها أهلها طوعا، لا يملكونها إلا إذا كان عمرانها قبل تشريع ملكية الإمام للأرض الميتة، لأن المسلمين لا يملكونها على تقدير الحرب إلى في هذا الفرض.
وعلى الجملة: إذا عرفنا أن الموضوع الذي يحقن بالإسلام هو نفس ما يغنم بالحرب، نظرا إلى أن حقن الدم والمال بالإسلام في النصوص، يوازي إباحتهما للمسلمين على تقدير الحرب.. وجمعنا إلى ذلك: أن الأرض المفتوحة عنوة لا يباح للمسلمين تملك رقبتها، إذا كان عمرانها بعد تشريع ملكية الإمام، وإنما يباح لهم نفس الحق الذي كان الكافر قد اكتسبه بسبب الإحياء.. فنخرج من ذلك بالتفصيل المدعى في المقام، وهو: أن من يسلم على أرضه التي عمرت بعد تشريع ملكية الإمام للموات، يحقن بإسلامه حقه الذي كان المفروض، أن ينتقل إلى المسلمين لو حارب،
716

ولا يتملك الأرض، وإنما يتملكها إذا كان عمرانها قبل عصر التشيع.
وبكلمة أخرى أن مبدأ حقن الإسلام للمال لا يزيد من حق الشخص، ولا يمنحه ملكية جديدة لم تكن له، وإنما يحفظ له ما كان يتمتع به من حقوق أو ملكيات. وحيث إن الأرض التي يعمرها الكافر بعد تشريع ملكية الإمام للموات، لا يملكها الكافر، وإنما يكتسب حقا فيها مع كونها ملكا للإمام، فباسلامه طوعا يحفظ حقه، ويبقى كما كان.
ج - - وقد يستدل بالسيرة النبوية، لأن سيرة النبي (ص) جرت على: ترك الأرض بيد أهلها إذا أسلموا عليها طوعا، وعدم مطالبتهم بالطسق، دون تدقيق في تاريخ عمارة الأرض (1). الأمر الذي يدل على أن الإسلام يمنح - دائما - ملكية الأرض، لمن أسلم عليها طوعها.
والجواب: أن هذه السيرة الشريفة ثابتة بلا شك، ولكنها لا تبرهن على أن رقبة الأرض ملك لمن أسلم عليها طوعا، وخارجة عن نطاق ملكية الإمام. لأن الفارق العملي بين ملكية الأرض لمن أسلم عليها طوعا، وبين كونها ملكا للإمام، مع وجود حق خاص لمن أسلم عليها.. إنما يظهر في فرض الخراج. لأن الأرض إذا كانت ملكا لمن أسلم عليها من أصحابها فلا مبرر لفرض الخراج عليها، وإذا كانت حقا لهم مع بقائها على ملكية الإمام، فله فرض الطسق عليهم. وهذا الفارق العملي لا موضع له في السيرة النبوية، لأن النبي (ص) كان يعفو عن الطسق فلا يمكن أن يعتبر عدم أخذ الطسق، دليلا على الملكية الخاصة لرقبة الأرض.
وهكذا يتضح: أن هذا التفصيل في الأرض، التي أسلم عليها أهلها طوعا: بين العامر قبل تشريع ملكية الإمام، وبين العامر بعده. وإن كان لا يخلو عن وجاهة من ناحية فقهية، إذا لم يحل دون الأخذ به الإجماع على خلافه.
بل بالامكان توسيع نطاق الفكرة في هذا التفصيل - إذا صحت - وتعميمها على كل الأراضي التي أسلم عليها أهلها وذلك بناء على ما تقدم في الملحق الأول
717

من أن دليل ملكية الإمام للموات والأنفال يكشف عن ثبوت ملكية الإمام لما كان مواتا قبل ورود الدليل أيضا فإن هذا يعني أن أي أرض يحييها الكافر تعتبر رقبتها ملكا للإمام، وللمحيي فيها حق الاحياء وأدلة حفظ الإسلام للمال لا يقتضي حقا جديدا لمن أسلم على أرضه بل احتفاظه بالحق السابق (1).
- 7 -
حكم العيون النابعة في الأرض المملوكة
الرأي الفقهي المشهور يرى، أن العيون النابعة بطبيعتها في أرض شخص تعتبر ملكا له لأنها نماء في ملكه. ولأجل ذلك عد الشيخ الطوسي هذا القسم من المصادر الطبيعية المكشوفة للماء، موضعا للخلاف، فقال، ((وأما المختلف في كونه مملوكا، فهو كل ما نبيع في ملكه من بئر أو عين، فقد اختلف فيه على وجهين، أحدهما: أنه مملوك، والثاني، انه ليس مملوكا.)) (2)
والواقع انا لا نجد دليلا من نصوص الكتاب والسنة على الملكية - ولعل أقوى ما يستدل به أنصار القول بالملكية هو، أن العين نماء في ملكه، والنصوص الشرعية تدل على أن نماء المال يتبع أصله في الملكية.
والجواب على هذا الدليل أن العين ليست في الحقيقة نماء في ملكه، بمعنى كونها ثمرة لمال يملكه، ليملك الثمرة بملكيته للأصل. وإنما هي ثروة في جوف ثروة، فحالها حال الظرف والمظروف، لا الشجرة والثمرة وملكية الظرف لا تستدعي ملكية المظروف.

(1) لاحظ جواهر الكلام ج 16، ص 3، وج 38، ص 9 و 31.
(2) المبسوط ج 3، ص 282، ولاحظ أيضا السرائر ج 2، ص 385، وجواهر الكلام ج 38، ص 121.
718

وعلى هذا الضوء نعرف، أن الرأي الفقهي المشهور القائل بالملكية، إنما يجب الأخذ به، إذا دعمه دليل لبي، من إجماع تعبدي أو سيرة عقلائية، تتوفر فيها الشروط التي أوضحناها في بحث سابق من هذا الكتاب. وأما إذا لم يدعم بشيء من هذا القبلي، فلا يوجد في أدلته الخاصة ما يبرر الأخذ به.
- 8 -
بحث في تملك الفرد للعين التي يستنبطها
ما مر في هذا الكتاب، من أن الفرد إذا استنبط عينا بالحفر لا يملكها.. كان يقوم على أساس وجه يخالف الرأي المشهور القائل، بأنه يملكها، ويختص بها اختصاصا ملكيا، لا حقا فحسب (1).
وهذا الرأي المشهور، يجب الأخذ به إذا تم اجماع تعبدي عليه. وإذا لم يتم كذلك، فبالإمكان فقهيا المناقشة في الأدلة، التي سيقت لإثباته وهي متعددة كما يلي:
(أ) - أن العين نماء ملكه، فالإنسان إذا حفر أرضا فاكتشف فيها عينا، كانت العين ملكا له شرعا، لأنها نماء الأرض، وما دامت الأرض له، فيكون نماؤها له أيضا.
والجواب: ان عين الماء لا تعتبر من نماء الأرض، وإنما هي ثروة موجودة فيها، فالعلاقة بينهما علاقة المظروف والظرف، فلا تقاس بالثمرة الطبيعية، التي دلت القواعد الشعرية على تملكها، تعبها لملكية أصلها، كالبيضة بالإضافة إلى الدجاجة، والزرع بالإضافة إلى البذر.
(ب) - فحوى النصوص: الدالة على جواز بيع الشرب، كرواية سعيد الأعرج، التي أجاز فيها الإمام بيع القناة (2). ولو لم تكن ملكا لما جاز بيعها.

(1) لاحظ المبسوط ج 3، ص 282، ومفتاح الكرامة ج 7، ص 51.
(2) لاحظ الوسائل ج 17، ص 332، الحديث 32238.
719

والجواب: أن جواز البيع أعم من الملكية، لأن الحقية تكفي لتصحيح البيع فقد يكون بيعها بلحاظ الحق، الذي يكون للفرد في القناة، بحيث ينتقل هذا الحق بالبيع إلى المشتري، فيصبح أولى بالقناة من غيره، كما البيع سواء كان في موارد الحق، أو الملكية.. إنما يتعلق بالمستحق والمملوك، لا بنفس الحق والملكية، كما هو واضح. وروايات جواز بيع القناة إذا تمت في نفسها لا تدل على أكثر من الحقية.
(ج -) - إن كشف العين، إحياء للأرض بالسراية.
ويرد عليه: إن نصوص من أحيى أرضا فهي له، إنما تدل على كون الإحياء سببا لاختصاص المحيي بالأرض، لا بما تضم من ثروات لا يصدق عليها اسم الأرض كالماء. أضف إلى ذلك: أنها لا تفيد أكثر من منح المحيي حقا في الأرض، على رأي الشيخ الطوسي كما عرفت سابقا.
(د) إن كشف أعين حيازة لها وكل مال طبيعي يمتلك بالحيازة.
والجواب: هو عدم وجود نص صحيح، يدل على أن كل حيازة سبب للملكية.
(ه -) السيرة العقلائية على ذلك.
والجواب أن بالإمكان منع قيام السيرة في أيام الأئمة (ع)، على أكثر من الأحقية والأولوية، ولا أقل من الشك في ذلك. أضف إلى هذا: ان من السيرة ليست حجة بذاتها وإنما هي حج باعتبار كشفها عن امضاء الشارع لها. ولا طريق لاكتشاف امضاء الشارع عادة، إلا من ناحية عدم الردع، حيث يقال: بأنه لو لم يمضها لردع عنها. فلابد إذن - لدى الاستدلال بالسيرة العقلائية - من الجزم بعدم صدور الردع، ليتحقق العلم بالامضاء. والجزم بعدم صدور الردع لا يتحقق مع وجود ما يحتمل دلالته في الأخبار على الردع، ولو لم يكن تاما سندا، لأن مجرد احتمال وروده بنحو الردع من الشاعر، يكفي لعدم حصول الجزم بالإمضاء. فالخبر الضعيف وإن لم يكن حجة، ولكنه يكفي - في جملة من الموارد - لإسقاط حجية السيرة، والمنع عن الجزم بالإمضاء. وهذه نكتة عامة يجب أن تلاحظ في جملة من موارد الاستدلال بالسيرة العقلائية.
720

وبناء عليها نقول في المقام: ان الروايات العديدة، الواردة تارة: بلسان أن الناس شركاء في الماء، وأخرى: بلسان النهي عن منع فضل الماء، وثالثة بلسان النهي عن بيع القناة بعد الاستغناء عنها. تؤدي على أقل تقدير إلى احتمال ورود الردع الاختصاص المطلق، المسمى بالملكية.
- 9 -
بحث في وجوب إعارة القناة عند الاستغناء عنها
وهناك من يوقع المعارضة بين هذه الطائفة، وبين ما دل على جواز بيع القناة، كخبر الكاهلي قال: ((سأل رجل أبا عبد الله وأنا عنده، عن قناة بين قوم، لكل رجل منهم شرب معلوم، فاستغنى رجل منهم عن شربه، أيبيع بحنطة أو شعير؟. قال: يبيعه بما شاء، هذا مما ليس فيه شيء)) (1). وبعد إيقاع المعارضة، يجمع بينهما بحمل الروايات الناهية على الكراهة.
ولكن التحقيق: أن هذا الجمع غير تام إذ لو فرض التعارض بينهما، وورودهما في موضوع واحد، فكيف يوفق بين النهي ولو بمعنى الكراهة، وبين قوله: هذا مما ليس فيه شيء، الظاهر جدا في خلوه من كل حزازة وشبهة؟!.
والتحقيق في الجمع بين الطائفتين: أن الطائفة الناهية، كموثقة أبي بصير المذكورة في المتن، تدل على أمرين: أحدهما: وجوب الإعارة وبذلك القناة مجانا لأجل أن ينتفع بها المستعير عند إشباع صاحب القناة حاجته. آنفا، لا تنافي الأمر الأول بوجه، لأنها لا تدل على عدم وجوب إعارة القناة للغير، وإنما تدل على جواز بيعها. وجواز بيعها لا يستلزم عدم وجوب إعارتها.

(1) الوسائل ج 17، ص 332، الحديث 32238.
721

ولا يتوهم في المقام: الملازمة، بدعوة. أنه لو كان يجب اعارتها مجانا لما كان هناك داع لاشترائها، ولم يبق موضع لبيعها، لأن من يريد اشتراءها يمكنه الاستغناء عن شرائها باستعارتها مجانا، ما دام صاحب القناة ملزما بإعارتها مجانا. فنفس فرض البيع والحكم بجوازه، ملازم مع عدم وجوب الإعارة، لكي يتحقق الداعي العقلائي للشراء. فإنه يندفع هذا التوهم، بان وجوب الإعارة لا يجعل الاشتراء لغوا لأن الشخص قد لا يكتفي بمجرد الانتفاع المبذول له مجانا بالإعارة، بل يريد أن يكون له حق الأولوية في القناة، كما كان لصاحبها الذي استغنى عنها. وهذا الحق إنما ينقل بالبيع والشراء.
وعليه: فالطائفة الدالة على جواز البيع، لا تنافي وجوب الإعارة أصلا. نعم تقع المعارضة بين هذه الطائفة، الدالة على جواز البيع، وبين الطائفة الناهية بلحاظ مدلولها الثاني، وهو النهي عن بيع القناة وحل هذه المعارضة. إن الطائفة الناهية عن البيع، والآمرة بالإعارة.. يحتمل في نهيها عن البيع وجهان. أحدهما. أنه نهي حقيقي عن البيع بقول مطلق. وثانيهما. أنه نهي عن البيع في قبال الإعارة، بمعنى أن يستعير منك القناة لا تضطره إلى الشراء، ولا تبعها عليه، بل أعره إياها مجانا فهو نهي عن البيع في مورد طلب الإعارة، لا نهي عن البيع مطلقا، حتى فيما إذا كان مقصود المشتري أن يكتسب حق الاختصاص بها، كما يقربه جعله في قبال الإعارة. فان كان النهي بالمعنى الأول، وقت المعارضة بينها وبين الطائفة الدالة على جواز البيع وإن كان بالمعنى الثاني فلا معارضة.
وحينئذ ينبغي أن يقال: أن ظهور الدالة على الجواز، أقوى من ظهور النهي عن البيع في الطائفة الأخرى في المعنى الأول، لو كان له ظهوره في ذلك ولم نقل بتردده بين المعنيين، أو ظهوره في الثاني، فيقدم ظهور الجواز. وينتج من مجموع الطائفتين وجوب إعارة الزائد على الحاجة من القناة مجانا للآخرين، وجواز بيعها، المنتج لانتقال حق الاختصاص والأولوية إلى المشتري.
722

(10)
الحاق المعدن بالأرض
نعني بذلك. أن المعدن كالأرض من هذه الناحية، لأن دليل الحق أو التملك الثابت في المعدن لبي، فلا يمكن التمسك باطلاقه، والاستصحاب يمكن منع جريانه، لكثر من وجه واحد.
فان قيل ان الأخبار الواردة في خمس المعدن، التي تأمر المستخرج للمعدن بدفع الخمس.. تدل بالاطلاق أو الالتزام على كون المستخرج مالكا لغي الخمس من المعدن، وعليه. يكون الدليل على تملك الفرد المعدن لفظيا لا لبيا.
قلنا. إن تلك الأخبار ليست في مقام البيان من ناحية حكم المعدن، وحق الشخص المستخرج فيه، ليتمسك بها لإثبات ذلك الحق في موارد الشك في ثبوته، وإنما هي بصدد بيان ثبوت الخمس، في مورد يملك الفرد فيه المعدن بالاستخراج، فلا يمكن اثبات نفس الملكية بقاء أو حدوثا في مورد الشك بها ومورد الكلام فيها المادة المستخرجة لا رقبة المعدن.
- 11 -
الطير يملك بالصيد وان لم تم حيازته
إن إطلاق قول الإمام الرضا (ع) في الصحيح: ((من صاد ما هو مالك لجناحيه، لا يعرف له طالبا فهو له)) (1). يدل على ما تقدم في الكتاب، لأنه يقرر: أن الطير

(1) الوسائل ج 16، ص 295، الحديث 29816.
723

يحكم به للصائد، بمجرد تحقق عنوان الصيد، سواء تحققت الحيازة أو لا. فيشمل صورة انفكاك الصيد عن الحيازة، كما في الفرضية التي بيناها في الكتاب. ومدلول ذلك أن الصيد بنفسه سبب كالحيازة. ومرد هذا من الناحية النظرية إلى تملك الصياد للفرصة التي خلقها عمله.
- 12 -
الفرق بين التملك بالصيد والتملك بالحيازة
والدليل الفقهي على ذلك اطلاق قول الإمام الصادق (ع) في الصحيح: ((إذا ملك الطائر جناحيه فهو لمن أخذه)). فان هذا الاطلاق يشمل ما إذا كان هذا الطائر المالك لجناحيه، قد استحقه قبل ذلك شخص آخر بالصيد، ثم استرد امتناعه وطار.
فان قيل: إن هذا الاطلاق مقيد بما جاء في رواية محمد بن الفضيل وغيرها. ((قال سألته عن صيد الحمامة تساوي نصف درهم أو درهما قال: إذا عرفت صاحبه فرده عليه)).
قلنا: إن هذا النص وأمثاله، وإن كان مقيدا للمطلق السابق، ولكن مورده هو ما إذا كان الطير قد دخل في حيازة صاحبه السابق، وذلك بقرينة قوله. (رده عليه). فان الأمر بالرد ظاهر في: أن المفروض هو العلم بسبق يد الغير عليه. وأما فرض الاستحقاق بمجرد الصيد، دون الحيازة، كما في الصورة التي بيناها.. فلا ينطبق عليه النص الوارد في رواية محمد بن الفضيل، لعدم صدق عنوان الرد. وعليه: فينتج - بعد ملاحظة المطلق مع رواية ابن الفضيل - التفصيل بين ما إذا كان الطير المالك لجناحيه

(1) الوسائل ج 16، ص 296، الحديث 29820.
(2) الوسائل ج 16، ص 295، الحديث 29817.
724

قد حازه شخص سابقا وملكه بالحيازة، وبين ما إذا كان قد ملكه واستحقه بمجرد الصيد. ففي الأول لا يحل الطير لمن يصطاده ثانيا، وفي الثاني يحل.
- 13 -
بحث في تملك الشخص لما يحوزه المتبرع أو الوكيل أو الأجير
يمكن تصنيف البحث إلى جهات ثلاث:
الجهة الأولى: فيما إذا حاز الفرد لآخر تبرعا، دون وكالة أو إجارة، فهل يملك الآخر أو لا؟
والجواب على هذا يجب أن يكون، بعد الفراغ عن تعقل إضافة الحيازة بوجه ما إلى غير المباشر، وذلك بأن يقصد المباشر الاستيلاء على مال، تمهيدا لاستيلاء الغير وانتفاعه به، فتكون حيازة المباشر للمال ذات إضافة إلى ذلك الشخص تجعله يوصف بأنه محاز له، فيتجه السؤال عن تملك المحاز له للمال المحاز.
والجواب: بالنفي، وذلك لعدم وجود شيء من العناصر، التي يحتمل فقهيا، أنها تبرر تملك غير الحائز لما يجوزه من أموال بلا عقد إجارة ولا وكالة ونفس الحيازة إنما تبرر ملكية الحائز لا غيره، ولا محاز له ليس حائزا فلا يوجد بالإضافة اليه سبب الملكية، سواء كان السبب مجرد ممارسة علمية الحيازة، أي المظهر المادي لها، أو الحيازة التي يمارسها الحائز بشكل هادف وبقصد الانتفاع بما يحوز. فعلى كلا التقديرين لا يوجد مبرر لتملك المحاز له تلك الثروة التي حازها غيره.
أما على الأساس الأول، الذي يجعل من الجانب المادي للحيازة سببا كافيا للملكية.. فلأن المحاز له لم يصدر منه أي استيلاء، ليكتسب عن طريقه الملكية. وأما على الأساس الثاني، فكذلك أيضا، لأن الاستيلاء عنصر أساسي في السبب المملك على أي حال، وهو لا يوجد في المحاز له.
725

وقصارى الفرق بين الأساسين: أن الحائز المباشر، الذي قصد بالحيازة غيره.. يملك المال المحاز على الأساس الأول، لأن الجانب المادي من الحيازة قد تحقق منه، وأما على الأساس الثاني فلا يملكه.
الجهة الثانية: فيما إذا وكل فرد غيره في الحيازة له، فحاز الوكيل لموكله وهذا هو نفس الفرض السابق، مع زيادة فرض الوكالة. فبعد الفراغ عن عدم التملك المحاز له في الفرض السابق، يتركز الكلام هنا في سببية الوكالة، لتملك الموكل لما يحوزه الوكيل من ثروات الطبيعة.
وما يمكن أن يقال في تبرير هذه السببية هو: أن فعل الوكيل ينتسب بالوكالة إلى الموكل، فتكون حيازة الوكيل حيازة للموكل، كما يكون بيع الوكيل بيعا لموكله، فيتم بذلك سبب الملكية بالنسبة إلى الموكل.
والجواب على هذا البيان: أن انتساب فعل الوكيل إلى الموكل، إنما هو في الأمور الاعتبارية كالبيع والهبة والإجارة لا في الأمور التكوينية، الآتي يكون انتسابها تكوينيا. فبالوكالة يصدق على الموكل أنه باع كتابه، إذا باعه وكيله، ولكن لا يصدق عليه أنه زار فلانا، إذا وكل شخصا في زيارته. لأن انتساب الزيارة لزائر تكويني، بخلاف انتساب البيع إلى البائع، فإنه اعتباري قابل للتوسعة عرفا بالوكالة. والحيازة بوصفها استيلاء خارجيا، هي من نوع الزيارة، التي لا تنتسب إلى غير الزائر بمجرد الوكالة وليست من قبيل البيع والهبة.
وعلى هذا الأساس نقول: ان صحة الوكالة في الأمور الاعتبارية المشروعة بأدلتها، كالبيع ونحوه من المعاملات.. على وفق القاعدة، ويكفي فيها نفس الأدلة الأولية العامة كدليل صحة البيع من المالك مثلا. لأن الوكالة - نظرا إلى أنها تؤدي إلى انتساب بيع الوكيل إلى الموكل - تحقق بذلك مصداقا لإطلاق الدليل الأولي، الدال، على صحة البيع بلا حاجة إلى دليل شرعي خاص يدل على صحة الوكالة.
وأما في غير الأمور الاعتبارية، فحيث أن مجرد الوكالة لا يحقق توسعة في
726

الانتساب التكويني، فتحتاج صحة الوكالة وتنزيل عمل الوكيل منزلة علم الموكل في الآثار الشرعية التدليل خاص، ولا يكفي الدليل الأولي، الدال على ترتب تلك الآثار على أسبابها.
وحيث انه لا إطلاق في أخبار الوكالة، فالأصل يقتضي عدم ترتب آثار فعل الموكل على فعل الوكيل في الأمور
التكوينية، ما لم يقم دليل خاص على التنزيل التعبدي من قبل الشاعر. وفي باب الحيازة لم يقم دليل خاص من هذا القبيل، فتلغوا بالوكالة فيها (1).

(1) فان قيل: إن مرد الوكالة في جميع الأمور الاعتبارية، إلى تنزيل فعل الوكيل منزلة على الموكل. واسناد بيع الوكيل إلى الموكل، إنما هو باعتبار هذا النزيل. فتتوقف دليل على التنزيل الشرعي الابتدائي أو التنزيل العقلائي الممضي شرعا. ولا يكفي التمسك بنفس الأدلة الأولية، الدالة على صحة بيع المالك، أو على التملك بالحيازة. فلا فرق - إذن - بين الأمور الاعتبارية والتكوينية، من حيث الاحتياج إلى دليل آخر، على ثبوت النزيل الشرعي تأسيسا أو امضاء.
قلنا: إن تصحيح الوكالة في موارد الأمور الاعتبارية والانشائية، كالبيع ونحوه، ليس بملاك تنزيل فعل الوكيل وبيعه منزلة فعل الموكل وبيعه وذلك لأننا في موارد الوكالة في زيد من قبل وكيله، صح لزيد أن يقول: بعت داري، ولنا أن نقول: زيد باع داره. ومن الواضح: أن تنزيل فعل الوكيل منزلة فعل الموكل، غاية أثره أن يكون حاكما على الدليل الأولي، الدال على صحة بيع المالك، وموسعا لموضوعه، ومدرجا لبيع الوكيل فيه بالتعبد والحكومة، ولا يود بصحة اسناد البيع إلى المالك، وموسعا لموضوعه، ومدرجا لبيع الوكيل فيه دائرة الحكم غير باب التوسعة في دائرة الاسناد والاستعمال، كما هو الحال في سائر موارد الأدلة الحاكمة. فالدليل الدال على تنزيل الاحتمال منزلة العلم - مثلا - لا يصح اسناد العلم إلى الشاك حقيقة. وإن أوجب توسعة دائرة أحكام العلم..
وهكذا نعرف: أن تصحيح الوكالة في الأمور الاعتبارية ليس من باب التنزيل، لأن التنزيل لا يصحح الاسناد والتوسعة في دائرة الاستعمال حقيقة، فلابد من الالتزام بوجه في معنى الوكالة في الأمور الاعتبارية، يلتئم مع ما هو المرتكز عرفا من صحة اسناد بيع الوكيل إلى المالك حقيقة. وهذا الوجه هو: أن يكون مرد التوكيل - بالارتكاز العرفي - إلى انشاء مضمون المعاملة على سبيل التعليق.
فتوكيل المالك في بيع داره، معناه: انشاء بيعها على تقدير بيع الوكيل للدار، بحيث يكون انشاء المالك للبيع فعليا، ومتضمنا في نفس انشاء التوكيل بالارتكاز، ويكون المنشأ معلقا على حصول البيع من الوكيل. فعلى هذا يصح اسناد البيع حينئذ إلى المالك حقيقة، عند حصول البيع من الوكيل.
فان قيل: إن التعليق في المنشأ يوجب البطلان، ليس له دليل لفظي، وإنما دليله أحد أمرين: إما الاجماع التعبدي على ذلك، وإنما أن المعاملة في مقام الانشاء مخالفة للارتكاز العرفي، الذي يصبح سببا في انصراف المطلقات نظير - (أحل الله البيع) - عنها. وكلا الأمرين غير موجود في هذا التعليق، الذي فسرنا به الوكالة. أما الاجماع، فهو منعقد على صحة الوكالة بمعناها الارتكازي، والمفروض أن المعنى الارتكازي يتضمن التعليق. وأما الارتكاز فهو على طبقه لا على خلافه في المقام. وإذا اتضح معنى التوكيل بالنحو الذي قررناه، تبين أن الصحيح ما ذكرناه. من أن صحة الوكالة في الأمور الاعتبارية يكفي فيها التمسك بنفس الأدلة الأولية، الدالة على صحة بيع المالك ونحوه. دون حاجة إلى دليل خاص على الصحة أو التنزيل. وخلافا لذلك الوكالة في الأمور التكوينية. كالحيازة مثلا. فان الأمر التكويني حيث انه ليس انشائيا ولا يتصور فيه تكفيك الإنشاء عن المنشأ.. فلا يتصور صدوره من نفس الموكل. بأي وجه من الوجوه. وحينئذ فنحتاج في ترتيب آثار فعل الشخص وحيازته على فعل وكيله وحيازته.. إلى دليل خاص على التنزيل.
727

الجهة الثالثة: فيما إذا استأجر فرد غيره لحيازة المباحات فهل يملك المستأجر ما يحوزه الأجير أو لا؟
أحدهما: فيما إذا تعلقت الإجارة بحصة خاصة من الحيازة، وهي حيازة الأجير للمستأجر، بحيث يملك المستأجر على الأجير هذه الحصة من العمل.
والفرع الآخر: ما إذا تعلقت الإجارة بطبيعي الحيازة.
أما الفرع الأول، وهو ما إذا تعلقت الإجارة بالحيازة للمستأجر، فتارة. يفرض أن الأجير يحقق حصة أخرى من الحيازة، كما إذا حاز لنفسه. وأخرى. يفرض أنه يجوز للمستأجر وفقا لما استأجره عليه.
ففي الفرض الأول لا ريب في عدم تملك المستأجر لما حازه الأجير، لأن الحيازة
728

التي وقعت منه ليست مملوكة له، ولا مستندة إلى عقد الإجارة، ليتوهم ملكيته لنتائجها.
وأما الفرض الثاني من الفرع الأول وهو ما إذا حاز الأجير للمستأجر، وفقا للعقد الإجارة.. فليس هناك ما يميزه بالبحث فقهيا عن الفرع الثاني، وهو ما إذا تعلقت الإجارة بطبيعي الحيازة. إذ لا يوجد فيها ما يحتمل كونه مبررا لتملك المستأجر للثروة التي يحوزها الأجير، إلا عقد الإجارة، فلو قبل في هذا الفرض بأن المستأجر يملك ما يحوزه أجيره، فإنما ذلك على أساس عقد الإجارة. وهذا الأساس بنفسه ثابت في الفرع الثاني أيضا.
وهكذا يجب تركيز البحث عن الفرض الثاني من الفرع الأول، وعن الفرع الثاني في هذه النقطة، وهي: أن عقد الإجارة هل يكون سببا لتملك المستأجر الثروة الطبيعية التي يحوزها أجيره؟.
ومن الواضح فقهيا: أن المدلول الابتدائي لعقد الإجارة ودوره الأصيل هو. منح المستأجر ملكية منفعة العين المستأجرة، كالسكنى في إجارة الدار، ومنفعة الأجير في استئجار العامل. ومنفعة الأجير. هي عمله بما هو حيثية قائمة به، كقيام حيثية الانتفاع بالسكنى بالدار المستأجرة. وهذا يعين في موضوع البحث: أن ما يملكه المستأجر بصورة رئيسية، إنما هو فعل الأجير، أي حيازته بما هي منفعة قائمة به. وأما موضوع الحيازة - أي الثروة المحازة -. فهو ان كان يملكه المستأجر، فليس ذلك مدلولا مباشرا لعقد الإجارة، بل لا بد أن يكون نتيجة لتملكه للحيازة، كما إذا افترضنا أن تملك الحيازة يلزم منه فقهيا تملك موضوعها، أي المال المحاز.
وهكذا يتعين علنيا أن نبحث هذه الناحية فقهيا، لكي نرى أن تملك الحيازة هل يكون سببا أو ملازما بلون من الألوان لتملك المال المحاز؟.
وعلى الصعيد الفقهي عدة أمور يمكن الاستناد إليها في تبرير هذه
729

السببية والاستدلال على أن ملكية المستأجر لحيازة الأجير، سبب في تملكه لما يحوزه الأجير من أموال وهي كما يلي:
الأول: ما هو المعروف في كتاب الجواهر وغيره. من أن المحاز نتيجة للحيازة التي يملكها المستأجر، فيملك المال المحاز بتبع ملكيته للحيازة، لأن الذي يملك الأصل يملك نتائجه.
وهذا الدليل يبين ببيانين.
أحدهما: أن المال المحاز نماء لعمل الحيازة المملوك للمستأجر، فهو كنماء الشجرة، فكما أنما مالك الشجرة يملك ثمرتها بسبب ملكيته للشجرة، كذلك المستأجر يملك الخشب الذي حازه أجيره من الغابة، بسبب ملكيته للحيازة التي مارسها الأجير.
والآخر: أن الحيازة كالخياطة، فكما أن أثر الخياطة مملوك بملك الخياطة كذلك أثر الحيازة بعد جعل الشارع لها سببا مملوك يملك الحيازة. وكون الأثر تارة. هيئة، وأخرى. هينا.. غير فارق، لأن منفعة كل شيء بحسبه.
أما البيان الأول، فهو غير صحيح، لوضوح الفرق بين نسبة المال المحاز إلى الحيازة ونسبة الثمرة إلى الشجرة. فان الثمرة نماء طبيعي للشجرة، وأما الخشب المحاز فهو ليس نماء للحيازة بوجه من الوجوه، وإنما الذي ينتج عن الحيازة وقوع الخشب تحت السيطرة، لا الخشب نفسه والدليل إنما دل على أن من يملك شيئا يملك نماءه الطبيعي، كثمر الأشجار وبيض الدجاج، وأما النماء بالمعنى المجازي، الذي قد يطلق هنا على الخشب الحاز. فلا دليل على تملكه الحيازة.
وأما البيان الثاني فيرد عليه أولا. أن أثر الخياطة ليس مملوكا بنفس عقد الإجارة. فلو أن شخصا استأجر الخياط لخياطة قطعة من الصوف قميصا له، فهو لا يملك أثر الخياطة، وهو الهيئة الخاصة التي بها يكون الصوف قميصا بسبب عقد الإجارة، وإنما يملك الهيئة بنفس ملكيته للصوف الثابتة قبل عقد الإجارة، لأن
730

ملكية المادة في الشرع هي ملكية لجميع ما يطرأ عليها من هيئات محضة، وليس للهيئة ملكية مستقلة.
ولهذا لو افترضنا أن قطعة الصوف ليس للمستأجر، وإنما هي لشخص آخر، أباح له التصرف فيها.. لم يكن المستأجر يملك بعقد الإجارة هيئة الثوبية. وهذا يعني أن أثر عمل الأجير - كهيئة الثوب مثلا - إنما يكون ملكا للمستأجر، إذا حصل في مادة مملوكة له، في الدرجة السابقة على عقد الإجارة. وفي موضع البحث، حيث
ان الخشب المحاز لم يكن مملوكا للمستأجر قبل الإجارة، بل هو من المباحات العامة، فقياسه باثر الخياطة باطل لوجود الفارق.
وثانيا: أن أثر الحيازة المقابل للهيئة الناتجة عن الخياطة، ليس هو نفس الخشب، بل ملكية الخشب المترتبة شرعا على الحيازة. فملكية المال المحاز في موارد الحيازة، هي التي تقابل نفس الهيئة الحاصلة من الخياطة. فلو أريد قياس الحيازة بالخياطة، وقطعنا النظر عن الاعتراض الأول، لكانت نتيجة ذلك أن يملك المستأجر ملكية الخشب، لا نفس الخشب وهذا لا معنى له.
الثاني: أن حيازة الأجير لما كانت مملوكة للمستأجر، فهي حيازته في الحقيقة. فالمستأجر يملك الخشب المحاز، بوصفه حائزا له بنفس حيازة أجيره.
واعتراضنا على هذا الوجه:
أولا: إن ملكية المستأجر لحيازة الأجير تحقق إضافة الحيازة إلى المستأجر بإضافة الملكية، لا على حد إضافة الفعل إلى فاعله، بحيث يكون المستأجر حائزا بحيازة أجيره. وما هو سبب تملك فرد للمال إنما هو كونه حائزا بحيازة أجيره. وما هو سبب تملك فرد للمال، إنما هو كونه حائزا له لا كونه مالكا لحيازته.
وثانيا: لو سمنا انتساب نفس الفعل - وهو الحيازة - إلى المستأجر، بسبب ملكيته له.. فلا يجدي أيضا، لأن دليل التملك بالحيازة ليس دليلا لفظيا له اطلاق، ليتمسك باطلاقه، وإنما هو دليل لبي، يقتصر فيه على القدر المتيقن.
731

وأما دعوى الإجماع على أن المستأجر يملك ما يحوزه أجيره.. فهي دعوى غير مقطوع بصحتها. ولو سلمناها لما كفى الاجماع المذكور لإثبات الملكية في موضوع البحث، لأن من المحتمل استناد كثير من المجمعين إلى الاعتقاد بأن قواعد الإجارة تقتضي ذلك، إيمانا منهم بالملازمة بين ملكية الحيازة وملكية موضوعها. وحيث ان لا نقر هذا الأساس، فلا يكون الاجماع بالنسبة الينا تعبديا.
الثالث: إن السيرة العقلائية - أو العرف العام - قائمة على تملك المستأجر لما يحوزه الأجير من أموال.
ويمكن لأحد أن يقول /: ان هذه السيرة لم تتوفر لدينا الأسباب التي تكفي للعمل بوجودها وامتدادها وانتشارها في عصر التشريع، إلى درجة يستكشف امضاؤها من عدم وصول الردع عنها.
وإذا اعترفنا بهذه السيرة، ووجاهة الاستدلال بها فهي إنما تدل في الموارد التي يعلم بشمول السيرة لها، لأنها دليل لبي. فلا يمكن الاستدلال بها - حينئذ - إلا فيما إذا قصد الأجير بالحيازة تملك المستأجر، ولا تشمل صورة ما إذا لم يحز الأجير بنية المستأجر، لأن هذه الصورة ليست متيقنة من السيرة جزما.
الرابع: دعوة دلالة عمومات وإطلاقات صحة الإجارة على المطلوب، وذلك لأنها تدل على صحة الإجارة في موضع البحث بالمطابقة، وتدل على تملك المستأجر لما يحوزه الأجير بالالتزام، وإلا لكانت الإجارة لغوا وبلا منفعة عائدة إلى المستأجر وكانت لأجل ذلك باطلة. فصحتها ملازمة مع تملك المستأجر للمال المحاز.
ويرد عليه: أولا: إن انتفاع المستأجر بعمل الأجير لا ينحصر بتملكه للمال المحاز، بل قد يتعلق غرض عقلائي بنفس الحيازة، واقتطاع الخشب من الغابة أو بتملك الأجير نفسه. فالإجارة ليست سفهية على أي حال.
وثانيا: أنه لو سلم كون الإجارة، فلا يصح التمسك بهذه الأدلة
732

لإثبات صحتها، فضلا عن إثبات تملك المستأجر للمال المحاز، لأنه من التمسك بالعام أو المطلق في الشبهة المصداقية.
أضف إلى ذلك إمكان التشكيك في وجود إطلاقات في أدلة الإجارة، لأن أخبار الباب الصحيحة ليس فيها ما يكون مسوقا لبيان أصل صحة الإجارة بقول مطلق، ليتمسك باطلاقها. وآية ((أوفوا بالعقود)) (1) تدل على اللزوم، ولا تدل على الصحة، لا مطابقة ولا التزاما. وقوله ((الا أن تكون تجارة عن تراض)) (2)، مختص بالتجارة، وهي ظاهرة في البيع والشراء، ولا تشمل مطلق العقود التمليكية.
الخامس: ما جاء عن الإمام الصادق (ع) من أنه قال: ((من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق)) (3).
وهذا يدل على أن المستأجر يملك ما يحوزه أجيره، وإلا لما صح هذا الكلام على الاطلاق، ولما صدق على من آجر نفسه للحيازة ونحوها. فاطلاق النص وشموله لكل أجير، دليل على أن المال المحاز يملكه المستأجر لا الأجير.
ويرد عليه: - إضافة إلى إمكان المناقشة في دلالة النص -: إن هذا النص لم يرد بسند صحيح، وطرقه كلها غير صحيحة فيما أعلم، فلا يمكن الاعتماد عليه.
وهكذا نعرف - على ضوء جميع هذه المناقشات -: أن ملكية المستأجر لحيازة الأجير، ليست سببا في تملكه للأموال التي يحوزها أجيره)) (4).

(1) المائدة / 1.
(2) النساء / 29.
(3) الوسائل ج 13، ص 243، الحديث 24243.
(4) وقد يلاحظ على ما سبق. أن تملك المستأجر للثروة التي يحوزها أجيره، يكفي في ثبوته فقهيا عدم توفر دليل على تملك الأجير الممارس للحيازة لها، لأن الأجير وإن باشر الحيازة ولكن الدليل على أن الحيازة سبب للملكية، ليس إلا السيرة العقلائية - لضعف الاخبار الواردة في هذا الباب دلالة وسندا - ولا نعلم أن السيرة العقلائية في عصر التشريع كانت تمنح الأجير ملكية الثروة المحازة، فإذا لم يثبت تملك الأجير للثروة، تعين أن يكون المستأجر هو المالك.
ولكن هذه الملاحظة لا تبرر ملكية المستأجر للثروة حتى إذا تمت وسلمنا معها بعدم وجود دليل على ملكية الأجير.. فان عدم توفر هذا الدليل لا يعني توفره من الناحية المقابلة.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك:
إن هذه الملاحظة لا تطرد في موارد الاحياء. التي جاء فيها النص القائل ((من أحيا أرضا فهي له)) لأنه الذي مارس علمية الاحياء. فيكون الحق له بموجب اطلاق النص فتأمل.
733

(14)
بحث في أن المالك بالحيازة هو المحاز له لا الحائز
قد يكون من الأفضل القول: بأن الثروة الطبيعة إذا حازها الشخص لفرد آخر ملكها ذلك الفرد المحاز له، لا
على أساس أن المباشر للحيازة وكيل عنه أو أجير له. بل مجرد كونه محازا له هو السبب في تملكه. لأن الدليل على التملك بالحيازة إنما هو السيرة التي يمكن أن يقال: انها قائمة على تملك المحاز له، سواء كان هو الحائز أم غيره. فتملك المحاز له ليس بوصفه حائزا. ليعترض عليه بما تقدم - في الجهة الأولى من الملحق السابق - من أن المحاز له ليس حائزا بوصفه موكلا أو مستأجرا، ليعترض عليه بما مر - في الجهتين الأخيرتين من الملحق السابق - من أن عقد الوكالة أو عقد الإجارة لا يقتضي ذلك.
وإذا تم هذا فمعناه أن غير الممارس للحيازة إنما يملك الثروة المحازة في صورة واحدة، وهي: ما إذا قصد الممارس أن يحوز له. وأما في غير هذه الصورة فلا يملك غير الممارس الثروة المحازة، ولا يبرر تملكه لها كون المباشر وكيلا عنه، أو أجيرا له. لأنه عرفنا في الملحق السابق أن صحة الوكالة في الأمور التكوينية تحتاج إلى دليل خاص، وهو ليس موجودا. وإن عقد الإجارة إنما يقتضي تملك المستأجر لحيازة الأجير، بما هي علم من أماله، لا لموضوع الحيازة أي الثروة المحازة (1).

(1) لاحظ مستمسك العروة للإمام الحكيم ج 11، ص 108.
734

(15)
ملاحظة حول نص خاص
قد يقال: ان التعليل الوارد في النص: بأن هذا مضمون وذاك غير مضمون.. يفيد أن الكسب بدون عمل سابق لا يجوز إذا كان مضمونا، كالتفاوت بين الجرتين. وأما إذا لم يكن مضمونا فهو جائز، كالتفاوت بين الأجرة التي يدفعها الوسيط إلى المالك، والنسبة المئوية التي يتسلمها من المزارع، إذا اتفق أن زادت على تلك الأجرة.
وهذا القول إنما يصح على بعض التقادير في تفسير التعليل، ولاستيعاب مناحي البحث في مجال آخر.
735