الكتاب: فلسفتنا
المؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الجزء:
الوفاة: ١٤٠٢
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع: ١٤٢٥ - ٢٠٠٤م
المطبعة: الأمير
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
ردمك: ٩٦٤-٤٦٥-٠١٣-١
ملاحظات: فلسفتنا : دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيارات الفلسفية وخاصة الفلسفية الإسلامية والمادية الديالكتيكية ( الماركسية )

فلسفتنا
1

بسم الله الرحمن الرحيم
2

فلسفتنا
دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف
التيارات الفلسفية وخاصة الفلسفة الاسلامية والمادية الديالكتيكية
(الماركسية)
محمد باقر الصدر
مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
3

صدر، محمد باقر، 1931 - 1979
فلسفتنا: دراسة موضوعية في معترك الصراع
الفكري القائم... والمادية الديالكتيكية (الماركسية)
محمد باقر الصدر - دار الكتاب الاسلامي، 1413 ق = 1372.
(349) ص
فهرستنويسي براساس اطلاعات فيپا.
عربي.
چاپ دوم: 2002 م = 1423 ق. = 1381 ش.
ISBN: 964 - 465 - 013 - 1
1. اسلام وفلسفه. 2. اسلام - وكمونيسم. الف. عنوان.
8 ف 4 ص / 2 / 232 BP 4814 / 297
كتابخانه ملي إيران 80 / 3022 - 72 م
جميع حقوق الطبع محفوظة ومسجلة للناشر
الكتاب: فلسفتنا
المؤلف: السيد محمد باقر الصدر قدس سره
الناشر: دار الكتاب الاسلامي
الطبعة: الثالثة 1425 ه‍. ق / 2004 م
المطبعة: مطبعة الأمير
عدد النسخ: (2000) نسخة
الترقيم الدولي: 1 - 013 - 465 - 964
ISBN: 964 - 465 - 013 - 1
4

غزا العالم الاسلامي، منذ سقطت الدولة الاسلامية صريعة بأيدي
المستعمرين، سيل جارف من الثقافات الغربية، القائمة على أسسهم
الحضارية، ومفاهيمهم عن الكون، والحياة والمجتمع. فكانت تمد الاستعمار
إمدادا فكريا متواصلا، في معركته التي خاضها للاجهاز على كيان الأمة،
وسر أصالتها، المتمثل في الاسلام.
وفدت بعد ذلك إلي أراضي الاسلام السلبية، أمواج أخرى من تيارات
الفكر الغربي، ومفاهيمه الحضارية، لتنافس المفاهيم التي سبقتها إلى الميدان،
وقام الصراع بين تلك المفاهيم الواردة، على حساب الأمة، وكيانها الفكري
والسياسي الخاص.
وكان لا بد للإسلام أن يقول كلمته، في معترك هذا الصراع المرير،
وكان لا بد أن تكون الكلمة قوية عميقة، صريحة واضحة، كاملة شاملة،
للكون، والحياة، والانسان، والمجتمع، والدولة والنظام، ليتاح للأمة أن
تعلن كلمة (الله) في المعترك، وتنادي بها، وتدعو العالم إليها، كما فعلت في
فجر تاريخها العظيم.
وليس هذا الكتاب، إلا جزء من تلك الكلمة، عولجت فيه مشكلة
الكون، كما يجب أن تعالج في ضوء الإسلام، وتتلوه الأجزاء الأخرى، التي
يستكمل فيها الاسلام علاجه الرائع، لمختلف مشاكل الكون والحياة.
5

فلسفتنا
فلسفتنا هو: مجموعة مفاهيمنا الأساسية عن العالم، وطريقة التفكير فيه.
ولهذا كان الكتاب - باستثناء التمهيد - ينقسم إلى بحثين: أحدهما نظرية
المعرفة، والآخر المفهوم الفلسفي للعالم.
ومسؤولية البحث الأول في الكتاب تتلخص فيما يلي:
أولا: الاستدلال على المنطق العقلي، القائل، بصحة الطريقة العقلية في
التفكير، وان العقل، بما يملك من معارف ضرورية فوق التجربة، هو المقياس
الأول في التفكير البشري، ولا يمكن أن توجد فكرة فلسفية. أو علمية دون
إخضاعها لهذا المقياس العام، وحتى التجربة التي يزعم التجريبيون أنها
المقياس الأول، ليست في الحقيقة إلا أداة لتطبيق المقياس العقلي، ولا غنى
للنظرية التجريبية عن المنطق العقلي.
وثانيا: درس قيمة المعرفة البشرية بالتدليل على أن المعرفة، إنما يمكن
التسليم لها بقيمة على أساس المنطق العقلي لا المنطق الديالكتيكي الذي يعجز
عن إيجاد قيمة صحيحة للمعرفة.
وهدفنا الأساسي من هذا البحث، هو تحديد منهج الكتاب في المسألة
الثانية، لأن وضع مفهوم عام للعالم، يتوقف قبل كل شيء على تحديد الطريقة
الرئيسية في التفكير، والمقياس العام للمعرفة الصحيحة، ومدى قيمتها. ولهذا
كانت المسألة الأولى في الحقيقة بحثا تمهيديا للمسألة الثانية. والمسألة الثانية هي
7

المسألة الأساسية في الكتاب التي نلفت القارئ إلى الاهتمام بها بصورة
خاصة.
والبحث في المسألة الثانية، يتسلسل في حلقات خمس. ففي الحلقة الأولى
نعرض المفاهيم الفلسفية المتصارعة في الميدان، وحدودها. ونقدم بعض
الايضاحات عنها.
وفي الحلقة الثانية نتناول الديالكتيك، بصفته أشهر منطق ترتكز عليه
المادية الحديثة اليوم، فندرسه دراسة موضوعية مفصلة بكل خطوطه العريضة،
التي رسمها هيجل وكارل وماركس، الفيلسوفان الديالكتيكيان.
وفي الحلقة الثالثة ندرس مبدأ العلية وقوانينها التي تسيطر على العالم، وما تقدمه لنا من تفسير فلسفي شامل له، ونعالج عدة شكوك فلسفية، نشأت في ضوء التطورات العلمية الحديثة.
وننتقل بعد ذلك إلى الحلقة الرابعة المادة أو الله، وهو البحث في المرحلة
النهائية من مراحل الصراع بين المادية والإلهية، لنصوغ مفهومنا الإلهي للعالم،
في ضوء القوانين الفلسفية، وفي ضوء مختلف العلوم الطبيعة والانسانية.
وأما الحلقة الأخيرة، فندرس فيها مشكلة من أهم المشاكل الفلسفية،
وهي الادراك، الذي يمثل ميدانا مهما من ميادين الصراع بين المادية
والميتافيزيقية. وقد عولج البحث على أساس فلسفي، وفي ضوء مختلف العلوم
ذات الصلة بالموضوع، من طبيعية وفسيولجية وسيكولوجية.
هذا هو الكتاب في مخطط اجمالي عام، تجده الآن بين يديك، نتيجة جهود
متظافرة طيلة عشرة أشهر، أدب إلى اخراجه كما ترى وكل أملي أن يكون قد
أدى شيئا من الرسالة المقدسة بأمان وإخلاص.
وأرجو من القارئ العزيز، أن يدرس بحوث الكتاب دراسة موضوعية،
بكل إمعان وتدبر، تاركا الحكم له أو عليه، إلى ما يملك من المقاييس
الفلسفية والعلمية الدقيقة، لا إلى الرغبة والعاطفة. ولا أحب له أن يطالع
الكتاب، كما يطالع كتابا روائيا، أو لونا من ألوان الترف العقلي والأدبي.
8

فليس الكتاب رواية ولا أدبا أو ترفا عقليا، وإنما هو في الصميم من مشاكل
الانسانية المفكرة.
وما توفيقي إلا الله عليه توكلت وإليه أنيب.
29 ربيع الثاني 1379 ه‍
محمد باقر الصدر
9

* تمهيد
* المسألة الاجتماعية
مشكلة العالم التي تملأ فكر الانسانية اليوم، وتمس واقعها بالصميم هي مشكلة النظام الاجتماعي التي تتلخص في محاولة اعطاء أصدق إجابة عن السؤال الآتي:
ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية؟
ومن الطبيعي ان تحتل هذه المشكلة مقامها الخطير، وان تكون في تعقيدها وتنوع ألوان الاجتهاد في حلها مصدرا للخطر على الإنسانية ذاتها، لان النظام داخل في حساب الحياة الإنسانية ومؤثر في كيانها الاجتماعي في الصميم.
وهذه المشكلة عميقة الجذور في الأغوار البعيدة من تاريخ البشرية، وقد واجهها الإنسان منذ نشأت في واقع الحياة الاجتماعية، وانبثقت الانسانية الجماعية تتمثل في عدة أفراد تجمعهم علاقات وروابط مشتركة. فان هذه العلاقات التي تكونت تحقيقا لمتطلبات الفطرة والطبيعة في حاجة بطبيعة الحال إلى توجيه وتنظيم، وعلى مدى انسجام هذا التنظيم مع الواقع الإنساني ومصالحه يتوقف استقرار المجتمع وسعادته.
وقد دفعت هذه المشكلة بالإنسانية في ميادينها الفكرية والسياسية إلى خوض جهاد طويل، وكفاح حافل بمختلف ألوان الصراع، وبشتى مذاهب العقل البشري التي ترمي إلى إقامة البناء الاجتماعي وهندسته، ورسم خططه ووضع ركائزه، وكان جهادا مرهقا يضج بالمآسي والمظالم، ويزخر بالضحكات
11

والدموع، وتقترن فيه السعادة مع الشقاء، كل ذلك لما كان يتمثل في تلك الألوان الاجتماعية من مظاهر الشذوذ والانحراف عن الوضع الاجتماعي الصحيح. ولولا ومضات شعت في لحظات من تاريخ هذا الكوكب، لكان المجتمع الانساني يعيش في مأساة مستمرة، وسبح دائم في الأمواج الزاخرة.
ولا نريد ان نستعرض الآن أشواط الجهاد الانساني في الميدان الاجتماعي لأننا لا نقصد بهذه الدراسة ان نؤرخ للانسانية المعذبة، وأجوائها التي تقلبت فيها منذ الآماد البعيدة، وانما نريد ان نواكب الأنانية في واقعها الحاضر، وفي أشواطها التي انتهت إليها، لنعرف الغاية التي يجب أن ينتهي إليها الشوط، والساحل الطبيعي الذي لابد للسفينة ان تشق طريقها اليه، وترسو عنده لتصل إلى السلام والخير، وتؤوب إلى الحياة مستقرة، يعمرها العدل والسعادة، بعد جهد وعناء طويلين وبعد تطواف عريض في شتى النواحي ومختلف الاتجاهات.
* المذاهب الاجتماعية
ان أهم المذاهب الاجتماعية التي تسود الذهنية الانسانية العامة اليوم، ويقوم بينها الصراع الفكري أو السياسي على اختلاف مدى وجودها الاجتماعي في حياة الانسان هي مذاهب أربعة:
1 - النظام الديمقراطي الرأسمالي.
2 - النظام الاشتراكي.
3 - النظام الشيوعي.
4 - النظام الاسلامي.
ويتقاسم العالم اليوم اثنان من هذه الأنظمة الأربعة. فالنظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الأرض، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة أخرى. وكل من النظامين يملك كيانا سياسيا عظيما، يحميه في صراعه مع الآخر، ويسلحه في معركته الجبارة التي يخوضها أبطاله في سبيل الحصول على قيادة العالم، وتوحيد النظام الاجتماعي فيه.
12

وأما النظام الشيوعي والاسلامي فوجودهما بالفعل فكري خالص.
أن النظام الاسلامي مر بتجربة من أروع النظم الاجتماعية وأنجحها، عصفت به العواصف بعد ان خلا الميدان من القادة المبدئين أو كاد، فبقيت التجربة في رحمة أناس لم ينضج الاسلام في نفوسهم، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجوهره فعجزت عن الصمود والبقاء، فتقوض الكيان الاسلامي، وبقي نظام الاسلام فكرة في ذهن الأمة الاسلامية، وعقيدة قلوب المسلمين، وأملا يسعى إلى تحقيقه أبناؤه المجاهدون. وأما النظام الشيوعي فهو فكرة غير مجربة حتى الآن تجربة كاملة، وانما تتجه قيادة المعسكر الاشتراكي اليوم إلى تهيئة جو اجتماعي له بعد أن عجزت عن تطبيقه حين ملكت زمام الحكم فأعلنت النظام الاشتراكي وطبقته كخطوة إلى الشيوعية الحقيقية.
فما هو موضعنا من هذه الأنظمة؟
وما هي قضيتنا التي يجب أن ننذر حياتنا لها، ونقود السفينة إلى موطئها؟
* أولا - الديمقراطية الرأسمالية:
ولنبدأ بالنظام الديمقراطي الرأسمالي. هذا النظام الذي أطاح بلون من الظلم في الحياة الاقتصادية، وبالحكم الدكتاتوري في الحياة السياسية. وبجمود الكنيسة وما إليها في الحياة الفكرية، وهيأ مقاليد الحكم والنفوذ لفئة حاكمة جديدة حلت محل السابقين، وقامت بنفس دورهم الاجتماعي في أسلوب جديد.
وقد قامت الديمقراطية الرأسمالية على الايمان بالفرد ايمانا لا حد له. وبأن مصالحه الخاصة بنفسها تكفل - بصورة طبيعية - مصلحة المجتمع في مختلف الميادين.... وان فكرة الدولة انما تستهدف حماية الأفراد ومصالحهم الخاصة، فلا يجوز أن تتعدى حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عملها.
ويتلخص النظام الديمقراطي الرأسمالي في اعلان الحريات الأربع:
13

السياسية، والاقتصادية، والفكرية، والشخصية.
فالحرية السياسية تجعل لكل فرد كلاما مسموعا، ورأيا محترما في تقرير الحياة العامة للأمة: وضع خططها، ورسم قوانينها، وتعيين السلطات القائمة لحمايتها. وذلك لان النظام الاجتماعي للأمة، والجهاز الحاكم فيها، مسألة تتصل اتصالا مباشرا بحياة كل فرد من أفرادها، وتؤثر تأثيرا حاسما في سعادته أو شقائه، فمن الطبيعي حينئذ ان يكون لكل فرد حق المشاركة في بناء النظام والحكم.
وإذا كانت المسألة الاجتماعية - كما قلنا مسألة حياة أو موت، ومسألة سعادة أو شقاء للمواطنين، الذين تسري عليهم القوانين والأنظمة العامة... فمن الطبيعي، أيضا أن لا يباح الاضطلاع بمسؤولياتها لفرد، أو لمجموعة خاصة من الافراد - مهما كانت الظروف - ما دام لم يوجد الفرد الذي يرتفع في نزاهة قصده ورجاحة عقله، على الأهواء والأخطاء.
فلا بد أذن من اعلان المساواة التامة في الحقوق السياسية بين المواطنين كافة، لأنهم يتساوون في تحمل نتائج المسألة الاجتماعية، والخضوع لمقتضيات السلطات التشريعية والتنفيذية. وعلى هذا الأساس قام حق التصويت ومبدأ الانتخاب العام، الذي يضمن انبثاق الجهاز الحاكم - بكل سلطاته وشعبه - عن أكثرية المواطنين.
والحرية الاقتصادية ترتكز على الايمان بالاقتصاد الحر، وتقرر فتح جميع الأبواب، وتهيئة كل الميادين.. أمام المواطن في المجال الاقتصادي. فيباح التملك للاستهلاك وللإنتاج معا، وتباح هذه الملكية الانتاجية التي يتكون منها رأس المال من غير حد وتقييد، وللجميع على حد سواء. فلكل فرد مطلق الحرية في انتاج أي أسلوب وسلوك أي طريق، لكسب الثروة وتضخيمها. ومضاعفتها، على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصية.
وفي زعم بعض المدافعين عن هذه الحرية الاقتصادية ان قوانين الاقتصاد السياسي، التي تجري على أصول عامة بصورة طبيعية، كفيلة بسعادة المجتمع وحفظ التوازن الاقتصادي فيه... وان المصلحة الشخصية،
التي هي الحافز
14

القوي والهدف الحقيقي للفرد في عمله ونشاطه، هي خير ضمان للمصلحة الاجتماعية العامة وان التنافس الذي يقوم في السوق الحرة، نتيجة لتساوي المنتجين والمتجرين في حقهم من الحرية الاقتصادية، يكفي وحده لتحقيق روح العدل والانصاف، في شتى الاتفاقات والمعاملات. فالقوانين الطبيعة للاقتصاد تتدخل - مثلا - في حفظ المستوى الطبيعي للثمن، بصورة تكاد أن تكون آلية، وذلك ان الثمن إذا ارتفع عن حدوده الطبيعية العادلة، انخفض الطلب بحكم القانون الطبيعي الذي يحكم بأن ارتفاع الثمن يؤثر في انخفاض الطلب، وانخفاض الطلب بدوره يقوم بتخفيض الثمن، تحقيقا لقانون طبيعي آخر، ولا يتركه حتى ينخفض به إلى مستواه السابق ويزول الشذوذ بذلك.
والمصلحة الشخصية تفرض على الفرد دائما التفكير في كيفية إزادة الانتاج وتحسينه، مع تقليل مصارفه ونفقاته. وذلك يحقق مصلحة المجتمع، في نفس الوقت الذي يعتبر مسألة خاصة بالفرد أيضا.
والتنافس يقتضي - بصورة طبيعية - تحديد أثمان البضائع وأجور العمال والمستخدمين بشكل عادل، لا ظلم فيه ولا اجحاف. لأن كل بائع أو منتج يخشى من رفع أثمان
بضائعه، أو تخفيض أجور عماله، بسبب منافسة الآخرين له من البائعين والمنتجين.
والحرية الفكرية تعني ان يعيش الناس أحرارا في عقائدهم وأفكارهم. يفكرون حسب ما يتراءى لهم ويحلو لعقولهم، ويعتقدون ما يصل اليه اجتهادهم أو ما توحيه إليهم مشتهياتهم وأهواؤهم بدون عائق من السلطة. والاعلان عن أفكاره ومعتقداته، والدفاع عن وجهات نظره واجتهاده.
والحرية الشخصية تعبر عن تحرر الانسان في سلوكه الخاص من مختلف ألوان الضغط والتحديد. فهو يملك ارادته وتطويرها وفقا لرغباته الخاصة، مهما نجم عن استعماله لسيطرته هذه على سلوكه الخاص من مضاعفات ونتائج، ما لم تصطدم بسيطرة الآخرين على سلوكهم. فالحد النهائي الذي تقف عنده الحرية الشخصية لكل فرد: حرية الآخرين. فما لم يمسها الفرد بسوء فلا جناح عليه ان يكيف حياته باللون الذي يحلو له ويتبع مختلف العادات والتقاليد
15

والشعائر والطقوس التي يستذوقها، لان ذلك مسألة خاصة تتصل بكيانه وحاضره ومستقبله. وما دام يملك هذا الكيان فهو قادر على التصرف فيه كما يشاء.
وليست الحرية الدينية - في رأي الرأسمالية التي تنادي بها - الا تعبيرا عن الحرية الفكرية في جانبها العقائدي، وعن الحرية الشخصية في الجانب العملي، الذي يتصل بالشعائر والسلوك.
ويتخلص من هذا العرض أن الخط الفكري العريض لهذا النظام - كما المحنا اليه - هو: ان مصالح المجتمع بمصالح الافراد. فالفرد هو القاعدة التي يجب ان يرتكز عليها النظام الاجتماعي، والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يسخر لخدمة الفرد وحسابه، والإدارة القوية لحفظ مصالحه وحمايتها.
هذه هي الديمقراطية الرأسمالية في ركائزها الأساسية، التي قامت من أجلها جملة من الثورات، وجاهد في سبيلها كثير من الشعوب والأمم. في ظل قادة كانوا حين يعبرون عن هذا النظام الجديد ويعدونهم بمحاسنه، يصفون الجنة في نعيمها وسعادتها، وما تحفل به من انطلاق وهناء وكرامة وثراء. وقد أجريت عليها بعد ذلك من التعديلات، غير انها لم تمس جوهرها بالصميم، بل بقيت محتفظة بأهم ركائزها وأسسها.
* لاتجاه المادي في الرأسمالية
ومن الواضح أن هذا النظام الاجتماعي نظام مادي خالص، اخذ فيه الانسان منفصلا عن مبدئه، وآخرته، محدودا بالجانب النفعي من حياته المادية، وافترض على هذا الشكل. ولكن هذا النظام في نفس الوقت الذي كان مشبعا بالروح المادية الطاغية.... لم يبن على فلسفة مادية للحياة وعلى دراسة مفصلة لها. فالحياة في الجو الاجتماعي لهذا النظام، فصلت عن كل علاقة خارجة عن حدود المادة والمنفعة. ولكن لم يهيأ لإقامة هذا النظام فهم فلسفي كامل لعملية الفصل هذه. ولا أعني بذلك ان العالم لم يكن فيه مدارس للفلسفة المادية وأنصار لها، بل كان فيه اقبال على النزعة المادية: تأثرا
16

بالعقلية التجريبية التي شاعت بداية الانقلاب الصناعي (1) وبروح الشك والتبلبل الفكري الذي أحدثه انقلاب الرأي، في طائفة من الأفكار كانت تعد من أوضح الحقائق وأكثرها صحة (2) وبروح التمرد والسخط على الدين المزعوم، الذي كان يجمد الأفكار والعقول، ويتملق للظلم والجبروت. وينتصر للفساد الاجتماعي في كل معركة يخوضها مع الضعفاء والمضطهدين (3).
فهذه العوامل الثلاثة ساعدت على بعث المادية، في كثير من العقليات الغربية...

1 - فان التجربة اكتسبت أهمية كبرى في الميدان العلمي، ووفقت توفيقا لم يكن في الحسبان إلى الكشف عن حقائق كثيرة، وإزاحة الستار عن اسرار مدهشة، أتاحت للانسانية أن تستثمر تلك الاسرار والحقائق في حياتها العملية. وهذا التوفيق الذي حصلت عليه التجربة. أشاد لها قدسية في العقلية العامة، وجعل الناس ينصرفون عن الأفكار العقلية، وعن كل الحقائق التي لا تظهر في ميدان الحس والتجربة، حتى صار الحس التجريبي في عقيدة كثير من التجريبيين الأساس الوحيد لجميع المعارف والعلوم. وسوف نوضح في هذا الكتاب أن التجربة بنفسها تعتمد على الفكر العقلي، وأن الأساس الأول للعلوم والمعارف هو العقل، الذي يدرك حقائق لا يقع عليها الحس كما يدرك الحقائق المحسوسة.
(2) فان جملة من العقائد العامة كانت في درجة عالية من الوضوح والبداهة في النظر العام، مع أنها لم تكن قائمة على أساس من منطق عقلي أو دليل فلسفي، كالايمان بأن الأرض مركز العالم. فلما انهارت هذه العقائد في ظل التجارب الصحيحة، تزعزع الايمان العام، وسيطرت موجة من الشك على كثير من الأذهان، فبعثت السفسطة اليونانية من جديد متأثرة بروح الشك، كما تأثرت في العهد اليوناني بروح الشك الذي تولد من تناقض المذاهب الفلسفية وشدة الجدل بها.
(3) فان الكنيسة لعبت دورا هاما في استغلال الدين استغلالا شنيعا، وجعل اسمه أداة مآربها، وأغراضها وخنق الأنفاس العلمية والاجتماعية، وأقامت محاكم التفتيش، وأعطت لها الصلاحيات الواسعة للتصرف في المقدرات، حتى تولد عن ذلك كله التبرم بالدين والسخط عليه، لان الجريمة ارتكبت باسمه، مع انه في واقعه المصفى وجوهره الصحيح لا يقل عن أولئك الساخطين والمتبرمين ضيقا بتلك الجريمة، واستفظاعا لدوافعها ونتائجها.
17

كل هذا صحيح، ولكن النظام الرأسمالي لم يركز على فهم فلسفي مادي للحياة، وهذا هو التناقض والعجز، فان المسألة الاجتماعية للحياة تتصل بواقع الحياة، ولا تتبلور في شكل صحيح الا إذا أقيمت على قاعدة مركزية، تشرح الحياة وواقعها وحدودها، والنظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة، فهو ينطوي على خداع وتضليل أو على عجلة وقلة أناة، حين تجمد المسألة الواقعية للحياة وتدرس المسألة الاجتماعية منفصلة عنها، مع ان قوام الميزان الفكري للنظام بتحديد نظرته منذ البداية إلى واقع الحياة، التي تمون المجتمع بالمادة الاجتماعية - وهي العلاقات المتبادلة بين الناس - وطريقة فهمه لها، واكتشاف أسرارها وقيمها. فالانسان في هذا الكوكب ان كان من صنع قوة مدبرة مهيمنة، عالمة بأسراره وخفاياه، بظواهره ودقائقه، قائمة على تنظيمه وتوجيهه... فمن الطبيعي ان يخضع في توجيهه وتكييف حياته لتلك القوة الخالقة، لأنها أبصر بأمره وأعلم بواقعه، وأنزه قصدا وأشد اعتدالا منه.
وأيضا، فان هذه الحياة المحدودة ان كانت بداية الشوط لحياة خالدة تنبثق عنها، وتتلون بطابعها، وتتوقف موازينها على مدى اعتدال الحياة الأولى ونزاهتها... فمن الطبيعي ان تنظم الحياة الحاضرة بما هي بداية الشوط لحياة لا فناء فيها، وتقام على أسس القيم المعنوية والمادية معا. واذن فمسألة الايمان بالله وانبثاق الحياة عنه، ليست مسألة فكرية خالصة لا علاقة لها بالحياة، لتفصل عن مجالات الحياة ويشرع لها طرائقها ودساتيرها، مع اغفال تلك المسألة وفصلها، بل هي مسألة تتصل بالعقل والقلب والحياة جميعا.
والدليل على مدى اتصالها بالحياة من الديمقراطية الرأسمالية نفسها
أن الفكرة فيها تقدم على أساس الايمان بعدم وجود شخصية أو مجموعة من الافراد، بلغت من العصمة في قصدها وميلها وفي رأيها واجتهادها، إلى الدرجة التي تبيح ايكال المسألة الاجتماعية إليها، والتعويل في إقامة حياة صالحة للأمة عليها. وهذا الأساس بنفسه لا موضع ولا معنى له، الا إذا أقيم على فلسفة مادية خالصة، لا تعترف بامكان انبثاق النظام الا عن عقل بشري محدود.
18

فالنظام الرأسمالي مادي بكل ما للفظ من معنى، فهو اما ان يكون قد استبطن المادية، ولم يجرأ على الاعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها.
واما ان يكون جاهلا بمدى الربط الطبيعي، بين المسألة الواقعية للحياة ومسألتها الاجتماعية. وعلى هذا فهو يفقد الفلسفة، التي لابد لكل نظام اجتماعي ان يرتكز عليها.
وهو - بكلمة - نظام مادي. وان لم يكن مقاما على فلسفة مادية واضحة الخطوط.
* موضع الاخلاق من الرأسمالية
وكان من جراء هذه المادية التي زخر النظام بروحها ان أقصيت الأخلاق من الحساب، ولم يلحظ لها وجود في ذلك النظام، أو بالأحرى تبدلت مفاهيمها ومقاييسها، وأعلنت المصلحة الشخصية كهدف أعلى، والحريات جميعا كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة. فنشأ عن ذلك أكثر ما ضج به العالم الحديث من محن وكوارث، ومآسي ومصائب.
وقد يدافع أنصار الديمقراطية الرأسمالية، عن وجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصية قائلين ان الهدف الشخصي بنفسه يحقق المصلحة الاجتماعية، وأن النتائج التي تحققها الأخلاق بقيمها الروحية تحقق في المجتمع الديمقراطي الرأسمالي، لكن لا عن طريق الأخلاق بل عن طريق الدوافع الخاصة وخدمتها. فان الانسان حين يقوم بخدمة اجتماعية يحقق بذلك مصلحة شخصية أيضا، باعتباره جزءا للمجتمع الذي سعى في سبيله، وحين ينقذ حياة شخص تعرضت للخطر فقد أفاد نفسه أيضا، لان حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للهيئة الاجتماعية فيعود عليه نصيب منها، واذن فالدافع الشخصي والحس النفعي يكفيان لتأمين المصالح الاجتماعية وضمانها، ما دامت ترجع بالتحليل إلى مصالح خاصة ومنافع فردية.
وهذا الدفاع أقرب إلى الخيال الواسع منه إلى الاستدلال. فتصور بنفسك ان المقياس العملي في الحياة لكل فرد في الأمة، إذا كان هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصة. على أوسع نطاق وأبعد مدى، وكانت الدولة توفر للفرد
19

حرياته وتقدسه بغير تحفظ ولا تحديد. فما هو وضع العمل الاجتماعي من قاموس هؤلاء الأفراد؟ وكيف يمكن ان يكون اتصال المصلحة الاجتماعية بالفرد كافيا لتوجيه الافراد نحو الاعمال التي تدعو إليها القيم الخلقية؟!، مع ان كثيرا من تلك الاعمال لا تعود على الفرد بشيء من النفع، وإذا اتفق ان كان فيها شيء من النفع باعتباره فردا من المجتمع فكثيرا ما يزاحم هذا النفع الضئيل، الذي لا يدركه الانسان الا في نظرة تحليلية، بفوات منافع عاجلة أو مصالح فردية، تجد في الحريات ضمانا لتحقيقها، فيطيح الفرد في سبيلها بكل برنامج الخلق والضمير الروحي.
* مآسي النظام الرأسمالي
وإذا أردنا ان نستعرض الحلقات المتسلسلة من المآسي الاجتماعية التي انبثقت عن هذا النظام المرتجل لا على أساس فلسفي مدروس.
فسوف يضيق المجال المحدود لهذا البحث، ولذا نلمح إليها:
فأول تلك الحلقات: تحكم الأكثرية في الأقلية ومصالحها ومسائلها الحيوية. فان الحرية السياسية كانت تعني أن وضع النظام والقوانين وتمشيتها من حق الأكثرية، ولنتصور ان الفئة التي تمثل الأكثرية في الأمة ملكت زمام الحكم والتشريع، وهي تحمل العقلية الديمقراطية الرأسمالية، وهي عقلية مادية خالصة في اتجاهها، ونزعاتها وأهدافها وأهوائها فماذا يكون مصير الفئة الأخرى؟ أو ماذا ترتقب للأقلية من حياة في ظل قوانين تشرع لحساب الأكثرية ولحفظ مصالحها؟! وهل يكون من الغريب حينئذ إذا شرعت الأكثرية القوانين على ضوء مصالحها خاصة، وأهملت مصالح الأقلية واتجهت إلى تحقيق رغباتها اتجاها مجحفا بحقوق الآخرين؟ فمن الذي يحفظ لهذه الأقلية كيانها الحيوي ويذب عن وجهها الظلم، ما دامت المصلحة الشخصية هي مسألة كل فرد وما دامت الأكثرية لا تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهوما في عقليتها الاجتماعية؟؟ وبطبيعة الحال، ان التحكم سوف يبقى في ظل النظام كما كان في السابق وأن مظاهر الاستغلال والاستهتار بحقوق الآخرين
20

ومصالحهم...
ستحفظ في الجو الاجتماعي لهذا النظام كحالها في الأجواء الاجتماعية القديمة. وغاية ما في الموضوع من فرق: ان الاستهتار بالكرامة الانسانية كان من قبل أفراد بأمة، وأصبح في هذا النظام من الفئات التي تمثل الأكثريات بالنسبة إلى الأقليات، التي تشكل بمجموعها عددا هائلا من البشر.
وليت الامر وقف عند هذا الحد، إذا كانت المأساة هينة، ولكان المسرح يحتفل بالضحكات أكثر مما يعرض من دموع، بل ان الامر تفاقم واشتد حين برزت المسألة الاقتصادية من هذا النظام بعد ذلك، فقررت الحرية الاقتصادية على هذا النحو الذي عرضناه سابقا، وأجازت مختلف أساليب الثراء وألوانه مهما كان فاحشا، ومهما كان شاذا في طريقته وأساليبه، وضمنت تحقيق ما أعلنت عنه. في الوقت الذي كان العالم يحتفل بانقلاب صناعي كبير، والعلم يتمخض عن ولادة الآلة التي قلبت وجه الصناعة وكسحت الصناعات اليدوية ونحوها، فانكشف الميدان عن ثراء فاحش من جانب الأقلية من أفراد الأمة، ممن أتاحت لهم الفرص وسائل الانتاج الحديث وزودتهم الحريات الرأسمالية غير المحدودة بضمانات كافية لاستثمارها واستغلالها إلى أبعد حد، والقضاء بها على كثير من فئات الأمة التي اكتسحت الآلة البخارية صناعتها، وزعزعت حياتها، ولم تجد سبيلا للصمود في وجه التيار، ما دام أرباب الصناعات الحديثة مسلحين بالحرية الاقتصادية وبحقوق الحريات المقدسة كلها، وهكذا خلا الميدان الا من تلك الصفوة من أرباب الصناعة والانتاج، وتضاءلت الفئة الوسطى واقتربت إلى المستوى العام المنخفض، وصارت هذه الأكثرية المحطمة تحت رحمة تلك الصفوة، التي لا تفكر ولا تحسب الا على الطريقة الديمقراطية الرأسمالية. ومن الطبيعي حينئذ ان لا تمد يد العطف والمعونة إلى هؤلاء، لتنتشلهم من الهوة وتشركهم في مغانمها الضخمة. ولماذا تفعل ذلك؟! ما دام المقياس الخلقي هو المنفعة واللذة، وما دامت الدولة تضمن لها مطلق الحرية فيما تعمل، وما دام النظام الديمقراطي الرأسمالي يضيق بالفلسفة المعنوية للحياة ومفاهيمها الخاصة؟!
فالمسألة إذا يجب أن تدرس بالطريقة التي يوحي بها هذا النظام، وهي ان
21

يستغل هؤلاء الكبرياء حاجة الأكثرية إليهم ومقوماتهم المعيشية، فيفرض على القادرين العمل في ميادينهم ومصانعهم، في مدة لا يمكن الزيادة عليها، وبأثمان لا تفي الا بالحياة الضرورية لهم. هذا هو منطق المنفعة الخالص الذي كان من الطبيعي ان يسلكوه، وتنقسم الأمة بسبب ذلك إلى فئة في قمة الثراء، وأكثرية في المهوى السحيق.
وهنا يتبلور الحق السياسي للأمة من جديد بشكل آخر. فالمساواة في الحقوق السياسية بين أفراد المواطنين، وان لم تمح من سجل النظام، غير انها لم تعد بعد هذه الزعازع الا خيالا وتفكيرا خالصا.
فان الحرية الاقتصادية حين تسجل ما عرضناه من نتائج، تنتهي إلى الانقسام الفظيع الذي مر في العرض، وتكون هي المسيطرة على الموقف والماسكة بالزمام، وتقهر الحرية السياسية امامها. فان الفئة الرأسمالية بحكم مركزها الاقتصادي من المجتمع، وقدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية، وتمكنها من شراء الأنصار والأعوان... تهيمن على تقاليد الحكم في الأمة، وتتسلم السلطة لتسخيرها في مصالحها والسهر على مآربها، ويصبح التشريع والنظام الاجتماعي خاضعا لسيطرة رأس المال، بعد أن كان المفروض في المفاهيم الديمقراطية انه من حق الأمة جمعاء. وهكذا تعود الديمقراطية الرأسمالية في نهاية المطاف حكما تستأثر به الأقلية، وسلطانا يحمي به عدة من الافراد كيانهم على حساب الآخرين، بالعقلية النفعية التي يستوحونها من الثقافة الديمقراطية الرأسمالية.
ونصل هنا إلى أفظع حلقات المأساة التي يمثلها هذا النظام، فان هؤلاء السادة الذين وضع النظام الديمقراطي الرأسمالي في أيديهم كل نفوذ، وزودهم بكل قوة وطاقة.... سوف يمدون أنظارهم - بوحي من عقلية هذا النظام - إلى الآفاق ويشعرون بوحي من مصالحهم وأغراضهم انهم في حاجة إلى مناطق نفوذ جديدة وذلك، لسببين:
الأول: ان وفرة الانتاج تتوقف على مدى توفر المواد الأولية وكثرتها، فكل من يكون حظه من تلك المواد أعظم تكون طاقاته الانتاجية أقوى وأكثر. وهذه المواد منتشرة في بلاد الله العريضة. وإذا كان من الواجب الحصول عليها، فاللازم السيطرة على البلاد التي تملك المواد لامتصاصها واستغلالها.
22

الثاني: ان شدة حركة الانتاج وقوتها، بدافع من الحرص على كثرة الربح من ناحية، ومن ناحية أخرى انخفاض المستوى المعيشي لكثير من المواطنين، بدافع من الشره المادي للفئة الرأسمالية، ومغالبتها للعامة على حقوقها بأساليبها النفعية، التي تجعل المواطنين عاجزين عن شراء المنتجات واستهلاكها - كل ذلك يجعل كبار المنتجين في حاجة ماسة إلى أسواق جديدة لبيع المنتجات الفائضة فيها، وايجاد تلك الأسواق يعني التفكير في بلاد جديدة.
وهكذا تدرس المسألة بذهنية مادية خالصة. ومن الطبيعي لمثل هذه الذهنية التي لم يرتكز نظامها على القيم الروحية والخلقية، ولم يعترف مذهبها الاجتماعي بغاية الا إسعاد هذه الحياة المحدودة بمختلف المتع والشهوات... ان ترى في هذين السببين مبررا ومسوغا منطقيا للاعتداء على البلاد الآمنة، وانتهاك كرامتها والسيطرة على مقدراتها ومواردها الطبيعية الكبرى واستغلال ثرواتها لترويج البضائع الفائضة. فكل ذلك أمر معقول وجائز في عرف المصالح الفردية التي يقوم على أساسها النظام الرأسمالي والاقتصاد الحر.
وينطلق من هنا عملاق المادة يغزو ويحارب، ويقيد ويكبل، ويستعمر ويستثمر، ارضاء للشهوات وإشباعا للرغبات.
فانظر ماذا قامت الانسانية من ويلات هذا النظام، باعتباره ماديا في روحه وصياغته وأساليبه وأهدافه، وان لم يكن مركزا على فلسفة مجددة تتفق مع تلك الروح والصياغة، وتنسجم مع هذه الأساليب والأهداف كما ألمعنا اليه؟!
وقدر بنفسك نصيب المجتمع الذي يقوم على ركائز هذا النظام ومفاهيمه من السعادة والاستقرار، هذا المجتمع الذي ينعدم فيه الايثار والثقة المتبادلة، والتراحم والتعاطف الحقيقي، وجميع الاتجاهات الروحية الخيرة، فيعيش الفرد فيه وهو يشعر بأنه المسؤول عن نفسه وحده، وانه في خطر من قبل كل مصلحة من مصالح الآخرين التي قد تصطدم به. فكأنه يحيا في صراع دائم ومغالبة مستمرة، لا سلاح له فيها الا قواه الخاصة، ولا هدف له منها الا مصالحه الخاصة.
23

* ثانيا - الاشتراكية والشيوعية:
في الاشتراكية مذاهب متعددة، وأشهرها المذهب الاشتراكي القائم على النظرية الماركسية والمادية الجدلية، التي هي عبارة عن فلسفة خاصة للحياة وفهم مادي لها على طريقة ديالكتيكية. وقد طبق الماديون الديالكتيكيون هذه المادية الديالكتيكية على التاريخ والاجتماع والاقتصاد. فصارت عقيدة فلسفية في شأن العالم. وطريقة لدرس التاريخ والاجتماع، ومذهبا في الاقتصاد وخطة في السياسة. وبعبارة أخرى: انها تصوغ الانسان كله في قالب خاص. من حيث لون تفكيره ووجهة نظره إلى الحياة وطريقته العملية فيها. ولا ريب في أن الفلسفة المادية، وكذلك الطريقة الديالكتيكية. ليستا من بدع المذهب الماركسي وابتكاراته فقد كانت النزعة المادية تعيش منذ آلاف السنين في الميدان الفلسفي، سافرة تارة ومتوارية أخرى وراء السفسطة والانكار المطلق، كما أن الطريقة الديالكتيكية في التفكير عميقة الجذور ببعض خطوطها في التفكير الانساني, وقد استكملت كل خطواتها على يد (هيجل) الفيلسوف المثالي المعروف. وانما جاء (كارل ماركس) إلى هذا المنطق وتلك الفلسفة فتبناهما. وحاول تطبيقهما على جميع ميادين الحياة. فقام بتحقيقين.
أحدهما: ان فسر التاريخ تفسيرا ماديا خالصا بطريقة ديالكتيكية. والآخر: زعم فيه انه اكتشف تناقضات رأس المال والقيمة الفائضة، التي يسرقها صاحب المال في عقيدته من العامل (1), وأشاد على أساس هذين التحقيقين ايمانه بضرورة فناء المجتمع الرأسمالي، وإقامة المجتمع الشيوعي والمجتمع الاشتراكي، الذي اعتبره خطوة للانسانية إلى تطبيق الشيوعية تطبيقا كاملا.
فالميدان الاجتماعي في هذه الفلسفة ميدان صراع بين المتناقضات، وكل وضع اجتماعي يسود ذلك الميدان فهو ظاهرة مادية خالصة، منسجمة مع

(1) شرحنا هذه النظريات مع دراسة علمية مفصلة في كتاب (اقتصادنا).
24

سائر الظواهر والأحوال المادية ومتأثرة بها، غير انه في نفس الوقت يحمل نقيضة في صميمه، وينشب حينئذ الصراع بين النقائض في محتواه، حتى تتجمع المتناقضات
وتحدث تبدلا في ذلك الوضع وانشاءا لوضع جديد... وهكذا يبقى العراك قائما حتى تكون الانسانية كلها طبقة واحدة، وتتمثل مصالح كل فرد في مصالح تلك الطبقة الموحدة... في تلك اللحظة يسود الوئام، ويتحقق السلام، وتزول نهائيا جميع الآثار السيئة للنظام الديمقراطي الرأسمالي لأنها انما كانت تتولد من تعدد الطبقة في المجتمع، وهذا التعدد انما نشأ من انقسام المجتمع إلى منتج وأجير. وإذا فلابد من وضع حد فاصل لهذا الانقسام، وذلك بالغاء الملكية. وتختلف هنا الشيوعية عن الاشتراكية في بعض الخطوط الاقتصادية الرئيسية، وذلك لأن الاقتصاد الشيوعي يرتكز:
أولا: على الغاء الملكية الخاصة ومحوها محوا تاما من المجتمع، وتمليك الثروة كلها للمجموع وتسليمها إلى الدولة، باعتبارها الوكيل الشرعي عن المجتمع في إدارتها واستثمارها لخير المجموع. واعتقاد المذهب الشيوعي بضرورة هذا التأميم المطلق، وانما كان رد الفعل الطبيعي لمضاعفات الملكية الخاصة في النظام الديمقراطي الرأسمالي. وقد برر هذا التأميم بأن المقصود منه الغاء الطبقة الرأسمالية وتوحيد الشعب في طبقة واحدة ليختم بذلك الصراع، ويسد على الفرد الطريق إلى استغلال شتى الوسائل والأساليب لتضخيم ثروته، اشباعا لجشعه واندفاعا بدافع الأثرة وراء المصلحة الشخصية.
ثانيا: على توزيع السلع المنتجة على حسب الحاجات الاستهلاكية للافراد، ويتلخص في النص الآتي: ((من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته)). وذلك ان كل فرد له حاجات طبيعية لا يمكنه الحياة بدون توفيرها، فهو يدفع للمجتمع كل جهده فيدفع له المجتمع متطلبات حياته ويقوم بمعيشته.
ثالثا: على منهاج اقتصادي ترسمه الدولة، وتوفق فيه بين حاجة المجموع والانتاج في كميته وتنويعه وتحديده، لئلا يمنى المجتمع بنفس الادواء والأزمات التي حصلت في المجتمع الرأسمالي، حينما اطلق الحريات بغير تحديد.
25

* الانحراف عن العملية الشيوعية.
ولكن أقطاب الشيوعية الذين نادوا بهذا النظام، لم يستطيعوا ان يطبقوه بخطوطه كلها حين قبضوا على مقاليد الحكم، واعتقدوا انه لابد لتطبيقه من تطوير الانسانية في أفكارها ودوافعها ونزعاتها، زاعمين ان الانسان سوف يجيء عليه اليوم الذي تموت في نفسه الدوافع الشخصية والعقلية الفردية، وتحيا فيه العقلية الجماعية والنوازع الجماعية، فلا يفكر الا في المصلحة الاجتماعية ولا يندفع الا في سبيلها.
ولأجل ذلك كان من الضروري - في عرف هذا المذهب الاجتماعي - إقامة نظام اشتراكي قبل ذلك، ليتخلص فيه الانسان من طبيعته الحاضرة، ويكتسب الطبيعة المستعدة للنظام الشيوعي. وهذا النظام الاشتراكي أجريت فيه تعديلات مهمة على الجانب الاقتصادي من الشيوعية. فالخط الأول من خطوط الاقتصاد الشيوعي، وهو الغاء الملكية الفردية، قد بدل إلى حل وسط وهو تأميم الصناعات الثقيلة والتجارة الخارجية والتجارات الداخلية الكبيرة، ووضعها جميعا تحت الانحصار الحكومي،
وبكلمة أخرى، الغاء رأس المال الكبير مع اطلاق الصناعات والتجارات البسيطة وتركها للأفراد، وذلك لأن الخط العريض في الاقتصاد الشيوعي اصطدم بواقع الطبيعة الانسانية الذي أشرنا اليه، حيث أخذ الافراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم والنشاط في عملهم، ويتهربون من واجباتهم الاجتماعية، لأن المفروض تأمين النظام لمعيشتهم وسد حاجاتهم كما ان المفروض فيه عدم تحقيق العمل والجهد مهما كان شديدا لأكثر من ذلك. فعلام اذن يجهد الفرد ويكدح ويجد، ما دامت النتيجة في حسابه، هي النتيجة في حالي الخمول والنشاط؟!، ولماذا يندفع إلى توفير السعادة لغيره وشراء راحة الآخرين بعرقه ودموعه وعصارة حياته وطاقاته، ما دام لا يؤمن بقيمة من قيم الحياة الا القيمة المادية الخالصة؟!! فاضطر زعماء هذا المذهب إلى تجميد التأميم المطلق.
كما اضطروا أيضا إلى تعديل الخط الثاني من خطوط الاقتصاد الشيوعي أيضا: وذلك بجعل فوارق بين الأجور. لدفع العمال إلى النشاط والتكامل في
26

العمل، معتذرين بأنها فوارق موقتة سوف تزول حينما يقضي على العقلية الرأسمالية، وينشأ الانسان انشاءا جديدا. وهم لأجل ذلك يجرون التغيرات المستمرة على طرائقهم الاقتصادية وأساليبهم الاشتراكية، لتدارك فشل كل طريقة بطريقة جديدة. ولم يوفقوا حتى الآن للتخلص من جميع الركائز الأساسية في الاقتصاد الرأسمالي. فلم تلغ مثلا القروض الربوية نهائيا، مع انها في الواقع أساس الفساد الاجتماعي في الاقتصاد الرأسمالي.
ولا يعني هذا كله ان أولئك الزعماء مقصرون، أو انهم غير جادين في مذهبهم وغير مخلصين لعقيدتهم... وانما يعني انهم اصطدموا بالواقع حين أرادوا التطبيق، فوجدوا الطريق مليئا بالمعاكسات والمناقضات، التي تضعها الطبيعة الانسانية امام الطريقة الانقلابية للاصلاح الاجتماعي الذي كانوا يبشرون به، ففرض عليهم الواقع التراجع آملين ان تتحقق المعجزة في وقت قريب أو بعيد.
وأما من الناحية السياسية، فالشيوعية تستهدف في نهاية شوطها الطويل إلى محو الدولة من المجتمع، حين تتحقق المعجزة وتعم العقلية الجماعية كل البشر، فلا يفكر الجميع الا في المصلحة المادية للمجموع وأما قبل ذلك، ما دامت المعجزة غير محققة، وما دام البشر غير موحدين في طبقة، والمجتمع ينقسم إلى قوى رأسمالية وعمالية... فاللازم ان يكون الحكم عماليا خالصا، فهو حكم ديمقراطي في حدود دائرة العمال، ودكتاتوري بالنسبة إلى العموم. وقد عللوا ذلك بأن الدكتاتورية العمالية في الحكم ضرورية في كل المراحل، التي تطويها الانسانية بالعقلية الفردية، وذلك حماية لمصالح الطبقة العاملة. وخنقا لأنفاس الرأسمالية.
ومنعا لها عن البروز إلى الميدان من جديد.
والواقع أن هذا المذهب، الذي يتمثل في الاشتراكية الماركسية، ثم في الشيوعية الماركسية.... يمتاز على النظام الديمقراطي الرأسمالي بأنه يرتكز على فلسفة مادية معينة، تتبنى فهما خاصا للحياة، لا يعترف لها بجميع المثل والقيم المعنوية، ويعللها تعليلا لا موضع فيه لخالق فوق حدود الطبيعة، ولا لجزاء
27

مرتقب وراء حدود الحياة المادية المحدودة. وهذا على عكس الديمقراطية الرأسمالية، فإنها وان كانت نظاما ماديا، ولكنها لم تبن على أساس فلسفي محدد فالربط
الصحيح بين المسألة الواقعية للحياة والمسألة الاجتماعية، آمنت به الشيوعية المادية، ولم تؤمن به الديمقراطية الرأسمالية، أو لم تحاول ايضاحه.
وبهذا كان المذهب الشيوعي حقيقا بالدرس الفلسفي، وامتحانه عن طريق اختبار الفلسفة التي ركز عليها وانبثق عنها، فان الحكم على كل نظام يتوقف على مدى نجاح مفاهيمه الفلسفية، في تصوير الحياة وادراكها.
ومن السهل ان ندرك في أول نظرة نلقيها على النظام الشيوعي المخفف أو الكامل، ان طابعه العام هو افناء الفرد في المجتمع، وجعله آلة مسخرة لتحقيق الموازين العامة التي يفترضها. فهو على النقيض تماما من النظام الرأسمالي الحر الذي يجعل المجتمع للفرد ويسخره لمصالحه. فكأنه قد قدر للشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية - في عرف هذين النظامين - ان تتصادما وتتصارعا. فكانت الشخصية الفردية هي الفائزة في أحد النظامين الذي أقام تشريعه على أساس الفرد ومنافعه الذاتية، فمني المجتمع بالمآسي الاقتصادية التي تزعزع كيانه وتشوه الحياة في جميع شعبها. وكانت الشخصية الاجتماعية هي الفائزة في النظام الآخر، الذي جاء يتدارك أخطاء النظام السابق، فساند المجتمع وحكم على الشخصية الفردية بالاضمحلال والفناء فأصيب الافراد بمحن قاسية قضت على حريتهم ووجودهم الخاص، وحقوقهم الطبيعية في الاختيار والتفكير.
* المؤاخذات على الشيوعية:
والواقع ان النظام الشيوعي وان عالج جملة من أدواء الرأسمالية الحرة، بمحوه للملكية الفردية، غير ان هذا العلاج له مضاعفات طبيعية تجعل ثمن العلاج باهظا، وطريقة تنفيذه شاقة على النفس لا يمكن سلوكها الا إذا فشلت سائر الطرق والأساليب. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هو علاج ناقص لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي كله، لأنه لم يحالفه الصواب في
28

تشخيص الداء، وتعيين النقطة التي انطلق منها الشر حتى اكتسح العالم في ظل الأنظمة الرأسمالية. فبقيت تلك النقطة محافظة على موضعها من الحياة الاجتماعية في المذهب الشيوعي. وبهذا لم تظفر الانسانية بالحل الحاسم لمشكلتها الكبرى، ولم تحصل على الدواء الذي يطيب أدواءها ويستأصل أعراضها الخبيثة.
أما مضاعفات هذا العلاج فهي جسيمة جدا: فان من شأنه القضاء على حريات الافراد، لإقامة الملكية الشيوعية مقام الملكيات الخاصة.
وذلك لأن هذا التحويل الاجتماعي الهائل على خلاف الطبيعة الانسانية العامة، إلى حد الآن على الأقل - كما يعترف بذلك زعماؤه - باعتبار ان الانسان المادي لا يزال يفكر تفكيرا ذاتيا، ويحسب مصالحه من منظاره الفردي المحدود. ووضع تصميم جديد للمجتمع يذوب فيه الأفراد نهائيا، ويقضي على الدوافع الذاتية قضاء تاما... موضع التنفيذ، يتطلب قوة حازمة تمسك زمام المجتمع بيد حديدية، وتحبس كل صوت يعلو فيه، وتخنق كل نفس يتردد في أوساطه، وتحتكر جميع وسائل الدعاية والنشر، وتضرب على الأمة نطاقا لا يجوز أن تتعداه بحال، وتعاقب على التهمة والظنة، لئلا يفلت الزمام من يدها فجأة. وهذا أمر طبيعي في كل نظام يراد فرضه على الأمة، قبل أن تنضج فيها عقلية ذلك النظام وتعم روحيته.
نعم لو أخذ الانسان المادي يفكر تفكيرا اجتماعيا، ويعقل مصالحه بعقلية جماعية، وذابت من نفسه جيمع العواطف الخاصة والأهواء الذاتية والانبعاثات النفسية، لأمكن ان يقوم نظام يذوب فيه الافراد، ولا يبقى في الميدان الا العملاق الاجتماعي الكبير. ولكن تحقيق ذلك في الانسان المادي، الذي لا يؤمن الا بحياة محدودة ولا يعرف معنى لها الا اللذة المادية يحتاج إلى معجزة تخلق الجنة في الدنيا، وتنزل بها من السماء إلى الأرض. والشيوعيون يعدوننا بهذه الجنة، وينتظرون ذلك اليوم الذي يقضي فيه المعمل على طبيعة الانسان، ويخلقه من جديد انسانا مثاليا في أفكاره وأعماله، وان لم يكن يؤمن بذرة من القيم المثالية والأخلاقية. ولو تحققت هذه المعجزة فلنا معهم حينئذ كلام.
29

واما الآن، فوضع التصميم الاجتماعي الذي يرومونه، يستدعي حبس الأفراد في حدود فكرة هذا التصميم، وتأمين تنفيذه بقيام الفئة المؤمنة به على حمايته، والاحتياط له بكبت الطبيعة الانسانية والعواطف النفسية. ومنعها من الانطلاق بكل أسلوب من الأساليب. والفرد في ظل هذا النظام وان كسب تأمينا كاملا، وضمانا اجتماعيا لحياته وحاجاته، لأن الثروة الجماعية تمده بكل ذلك في وقت الحاجة.. ولكن أليس من الأحسن بحال هذا الفرد أن يظفر بهذا التأمين دون أن يخسر استنشاق نسيم الحرية المهذبة، ويضطر إلى إذابة شخصه في النار، واغراق نفسه في البحر الاجتماعي المتلاطم؟
وكيف يمكن أن يطمع بالحرية - في ميدان من الميادين - انسان حرم من الحرية في معيشته، وربطت حياته الغذائية ربطا كاملا بهيئة معينة، مع ان الحرية الاقتصادية والمعيشية هي أساس الحريات جميعا.
ويعتذر عن ذلك المعتذرون فيتساءلون: ماذا يصنع الانسان بالحرية والاستمتاع بحق النقد والاعلان عن آرائه، وهو يرزح تحت عبء اجتماعي فضيع؟ وماذا يجديه أن يناقش ويعترض. وهو أحوج إلى التغذية الصحيحة والحياة المكفولة منه إلى الاحتجاج والضجيج الذي تنتجه له الحرية؟!.
وهؤلاء المتسائلون لم يكونوا ينظرون الا إلى الديمقراطية الرأسمالية، كأنها القضية الاجتماعية الوحيدة التي تنافس قضيتهم في الميدان، فانتقصوا من قيمة الكرامة الفردية وحقوقها، لأنهم رأوا فيها خطرا على التيار الاجتماعي العام... ولكن من حق الانسانية ان لا تضحي بشيء من مقوماتها وحقوقها ما دامت غير مضطرة إلى ذلك، وانها انما وقفت موقف التخيير بين كرامة هي من الحق المعنوي للانسانية، وبين حاجة هي من الحق المادي لها. إذا أعوزها النظام الذي يجمع بين الناحيتين ويوفق إلى حل المشكلتين.
ان انسانا يعتصر الآخرون طاقاته، ولا يطمئن إلى حياة طيبة وأجر عادل وتأمين في أوقات الحاجة... لهو انسان قد حرم من التمتع بالحياة، وحيل بينه وبين الحياة
الهادئة المستقرة. كما ان انسانا يعيش مهددا في كل لحظة، محاسبا على كل حركة. معرضا للاعتقال بدون محاكمة. وللسجن والنفي والقتل لأدنى
30

بادرة... لهو انسان مروع مرعوب، يسلبه الخوف حلاوة العيش، وينغص الرعب ملاذ الحياة.
والانسان الثالث المطمئن إلى معيشته، الواثق بكرامته وسلامته، هو حلم الانسانية العذب. فكيف يتحقق هذا الحلم؟ ومتى يصبح حقيقة واقعة؟
وقد قلنا ان العلاج الشيوعي للمشكلة الاجتماعية ناقص مضافا إلى ما أشرنا اليه من مضاعفات. فهو وان كان تتمثل فيه عواطف ومشاعر انسانية. أثارها الطغيان الاجتماعي العام، فأهاب بجملة من المفكرين إلى الحل الجديد، غير انهم لم يضعوا أيديهم على سبب الفساد ليقضوا عليه. وانما قضوا على شيء آخر، فلم يوفقوا في العلاج ولم ينجحوا في التطبيب.
أن مبدأ الملكية الخاصة ليس هو الذي نشأت عنه آثام الرأسمالية المطلقة، التي زعزعت سعادة العالم وهناءه، فلا هو الذي يفرض تعطيل الملايين من العمال في سبيل استثمار آلة جديدة تقضي على صناعاتهم. كما حدث في فجر الانقلاب الصناعي. ولا هو الذي يفرض التحكم في أجور الأجير وجهوده بلا حساب، ولا هو الذي يفرض على الرأسمالي أن يتلف كميات كبيرة من منتوجاته. تحفظا على ثمن السلعة وتفضيلا للتبذير على توفير حاجات الفقراء بها. ولا هو الذي يدعوه إلى جعل ثروته رأس مال كاسب يضاعفه بالربا، وامتصاص جهود المدينين بلا انتاج ولا عمل. ولا هو الذي يدفعه إلى شراء جميع البضائع الاستهلاكية من الأسواق ليحتكرها ويرفع بذلك من أثمانها. ولا هو الذي يفرض عليه فتح أسواق جديدة. وان انتهكت بذلك حريات الأمم وحقوقها وضاعت كرامتها وحريتها...
كل هذه المآسي المروعة لم تنشأ من الملكية الخاصة. وانما هي وليدة المصلحة المادية الشخصية التي جعلت مقياسا للحياة في النظام الرأسمالي، والمبرر المطلق لجميع التصرفات والمعاملات. فالمجتمع حين تقام أسسه على هذا المقياس الفردي والمبرر الذاتي لا يمكن ان ينتظر منه غير ما وقع. فان من طبيعة هذا المقياس تنبثق تلك اللعنات والويلات على الانسانية كلها. لا من مبدأ الملكية الخاصة. فلو ابدل المقياس ووضعت للحياة غاية جديدة مهذبة.
31

تنسجم مع طبيعة الانسان... لتحقق بذلك العلاج الحقيقي للمشكلة الانسانية الكبرى.
* التعليل الصحيح للمشكلة.
ولأجل أن نصل إلى الحلقة الأولى في تعليل المشكلة الاجتماعية.
علينا أن نتساءل عن تلك المصلحة المادية الخاصة التي أقامها النظام الرأسمالي. مقياسا ومبررا وهدفا وغاية، نتسائل: ما هي الفكرة التي صححت هذا المقياس في الذهنية الديمقراطية الرأسمالية وأوحت به؟ فان تلك الفكرة هي الأساس الحقيقي للبلاء الاجتماعي. وفشل الديمقراطية الرأسمالية في تحقيق سعادة الانسان وتوفير كرامته؟ وإذا استطعنا ان نقضي على تلك الفكرة. فقد وضعنا حدا فاصلا لكل المؤامرات على الرفاة الاجتماعي. والالتواءات على حقوق المجتمع وحريته الصحيحة. ووفقنا إلى استثمار الملكية الخاصة لخير الانسانية ورقيها. وتقدمها في المجالات الصناعية وميادين الانتاج.
فما هي تلك الفكر ة؟
ان تلك الفكرة تتلخص في التفسير المادي المحدود للحياة، الذي أشاد عليه الغرب صرح الرأسمالية الجبار. فان كل فرد في المجتمع إذا آمن بأن ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم هو حياته المادية الخاصة، وآمن أيضا بحريته في التصرف بهذه الحياة واستثمارها، وانه لا يمكن ان يكسب من هذه الحياة غاية الا اللذة التي توفرها له المادة... وأضاف هذه العقائد المادية إلى حب الذات، الذي هو من صميم طبيعته، فسوف يسلك السبيل الذي سلكه الرأسماليون وينفذ أساليبهم كاملة، ما لم تحرمه قوة قاهرة من حريته وتسد عليه السبيل.
وحب الذات هو الغريزة التي لا نعرف غريزة أعم منها وأقدم، فكل الغرائز فروع هذه الغريزة وشعبها. بما فيها غريزة المعيشة. فان حب الانسان ذاته - الذي يعني حبه للذة والسعادة لنفسه، وبغضه للألم والشقاء لذاته - هو الذي يدفع الانسان إلى كسب معيشته. وتوفير حاجياته الغذائية والمادية. ولذا
32

قد يضع حدا لحياته بالانتحار، إذا وجد ان تحمل ألم الموت أسهل عليه من تحمل الآلام التي تزخر بها حياته.
فالواقع الطبيعي الحقيقي اذن، الذي يكمن وراء الحياة الانسانية كلها ويوجهها بأصابعه هو حب الذات. الذي نعبر عنه بحب اللذة وبغض الألم. ولا يمكن تكليف الانسان أن يتحمل مختارا مرارة الألم دون شيء من اللذة في سبيل أن يلتذ الآخرون ويتنعموا، الا إذا سلبت منه انسانيته. وأعطي طبيعة جديدة لا تتعشق اللذة ولا تكره الألم.
وحتى الألوان الرائعة من الايثار، التي نشاهدها في الانسان ونسمع بها عن تاريخه.. تخضع في الحقيقية أيضا لتلك القوة المحركة الرئيسية: ((غريزة حب الذات)) فالانسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه، وقد يضحي في سبيل بعض المثل والقيم... ولكنه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحس فيها بلذة خاصة. ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن ايثاره لولده وصديقه. أو تضحيته في سبيل مثل من المثل التي يؤمن بها.
وهكذا يمكننا أن نفسر سلوك الانسان بصورة عامة، في مجالات الأنانية والايثار على حد سواء. ففي الانسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوعة. مادية كالالتذاذ بالطعام والشراب وألوان المتعة الجنسية وما إليها من اللذائذ المادية. أو معنوية. كالالتذاذ الخلقي والعاطفي، بقيم خلقية أو أليف روحي أو عقيدة معينة، حين يجد الانسان ان تلك القيم أو ذلك الأليف أو هذه العقيدة جزء من كيانه الخاص. وهذه الاستعدادات التي تهئ الانسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوعة، تختلف في درجاتها عند الاشخاص، وتتفاوت في مدى فعليتها... باختلاف ظروف الانسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثر فيه. فبينما نجد ان بعض تلك الاستعدادات تنضح عند الانسان بصورة طبيعية، كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلا، نجد أن ألوانا أخرى منها قد لا تظهر في حياة الانسان، وتظل تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتحها.
وغريزة حب الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعا تحدد سلوك الانسان وفقا لمدى نضج تلك الاستعدادات. فهي تدفع انسانا إلى الاستئثار
33

بطعام على آخر وهو جائع، وهي نفسها تدفع انسانا آخر لا يثار الغير بالطعام على نفسه. لأن استعداد الانسان الأول للالتذاذ بالقيم الخلقية والعاطفية الذي يدفعه إلى الايثار كان كامنا، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته. بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية. فأصبح يلتذ بالقيم الخلقية والعاطفية. ويضحي بسائر لذاته في سبيلها.
فمتى أردنا أن نغير من سلوك الانسان شيئا، يجب أن نغير من مفهوم اللذة والمنفعة عنده، وندخل السلوك المقترح ضمن الإطار العام لغريزة حب الذات.
فإذا كانت غريزة حب الذات بهذه المكانة من دنيا الانسان، وكانت الذات في نظر الانسان عبارة عن طاقة مادية محدودة، وكانت اللذة عبارة عما تهيئه المادة من متع ومسرات. فمن الطبيعي أن يشعر الانسان بأن مجال كسبه محدود، وان شوطه قصير وان غايته في هذا الشوط أن يحصل على مقدار من اللذة المادية. وطريق ذلك ينحصر بطبيعة الحال في عصب الحياة المادية وهو المال. الذي يفتح امام الانسان السبيل إلى تحقيق كل أغراضه وشهواته.
هذا هو التسلسل الطبيعي في المفاهيم المادية، الذي يؤدي إلى عقلية رأسمالية كاملة.
أفترى أن المشكلة تحل حلا حاسما إذا رفضنا مبدأ الملكية الخاصة، وأبقينا تلك المفاهيم المادية عن الحياة. كما حاول أولئك المفكرون؟! وهل يمكن أن ينجو المجتمع من مأساة تلك المفاهيم. بالقضاء على الملكية الخاصة فقط. ويحصل على ضمان لسعادته واستقراره؟!، مع أن ضمان سعادته واستقراره، يتوقف إلى حد بعيد على ضمان عدم انحراف المسؤولين عن مناهجهم وأهدافهم الاصلاحية، في ميدان العمل والتنفيذ. والمفروض في هؤلاء المسؤولين أنهم يعتنقون نفس المفاهيم المادية الخالصة، عن الحياة التي قامت عليها الرأسمالية، وانما الفرق ان هذه المفاهيم أفرغوها في قوالب فلسفية جديدة. ومن الفرض المعقول الذي يتفق في كثير من الأحايين، أن تقف المصلحة الخاصة في وجه مصلحة المجموع. وأن يكون
34

الفرد بين خسارة وألم يتحملهما لحساب الآخرين. وبين ربح ولذة يتمتع بهما على حسابهم، فماذا تقدر للأمة وحقوقها. وللمذهب وأهدافه، من ضمان في مثل هذه اللحظات الخطيرة، التي تمر على الحاكمين؟! والمصلحة الذاتية لا تتمثل فقط في الملكية الفردية، ليقضى على هذا الفرض الذي افترضناه، بالغاء مبدأ الملكية الخاصة بل هي تتمثل في أساليب، وتتلون بألوان شتى. ودليل ذلك ما أخذ يكشف عنه زعماء الشيوعية اليوم من خيانات الحاكمين السابقين، والتوائهم على ما يتبنون من أهداف.
ان الثورة تسيطر عليها الفئة الرأسمالية في ظل الاقتصاد المطلق، والحريات الفردية، وتتصرف فيها بعقليتها المادية... تسلم - عند تأميم الدولة لجميع الثروات. والغاء الملكية الخاصة - إلى نفس جهاز الدولة، المكون من جماعة تسيطر عليهم نفس المفاهيم المادية عن الحياة، والتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصية بحكم غريزة حب الذات، وهي تأبى أن يتنازل الانسان عن لذة ومصلحة بلا عوض. وما دامت المصلحة المادية هي القوة المسيطرة، بحكم مفاهيم الحياة المادية، فسوف تستأنف من جديد ميادين للصراع والتنافس، وسوف يعرض المجتمع لاشكال من الخطر والاستغلال.
فالخطر على الانسانية يكمن كله في تلك المفاهيم المادية، وما ينبثق عنها من مقاييس للأهداف والأعمال. وتوحيد الثروات الرأسمالية - الصغيرة أو الكبيرة - في ثروة كبرى يسلم أمرها للدولة، من دون تطوير جديد للذهنية الانسانية... لا يدفع ذلك الخطر. بل يجعل من الأمة جميعا عمال شركة واحدة، ويربط حياتهم وكرامتهم بأقطاب تلك الشركة وأصحابها.
نعم ان هذه الشركة تختلف عن الشركة الرأسمالية في أن أصحاب تلك الشركة الرأسمالية هم الذين يملكون أرباحها. ويصرفونها في أهوائهم الخاصة. وأما أصحاب هذه الشركة فهم لا يملكون شيئا من ذلك. في مفروض النظام. غير أن ميادين المصلحة الشخصية لا تزال مفتوحة. والفهم المادي للحياة - الذي يجعل من تلك المصلحة هدفا ومبررا - لا يزال قائما.
35

* كيف تعالج المشكلة
والعالم أمامه سبيلان إلى دفع الخطر. وإقامة دعائم المجتمع المستقر:
أحدهما: ان يبدل الانسان غير الانسان، أو تخلق فيه طبيعة جديدة تجعله يضحي بمصالحه الخاصة. ومكاسب حياته المادية المحدودة.... في سبيل المجتمع ومصالحه. مع ايمانه بأنه لا قيم الا قيم تلك المصالح المادية ولا مكاسب الا مكاسب هذه الحياة المحدودة. وهذا انما يتم إذا انتزع من صميم طبيعته حب الذات، وأبدل بحب الجماعة، فيولد الانسان وهو لا يحب ذاته، الا باعتبار كونه جزءا من المجتمع، ولا يلتذ لسعادته ومصالحه، الا بما انها تمثل جانبا من السعادة العامة ومصلحة المجموع.
فان غريزة حب الجماعة تكون ضامنة حينئذ للسعي وراء مصالحها وتحقيق متطلباتها. بطريقة ميكانيكية وأسلوب آلي.
والسبيل الآخر، الذي يمكن للعالم سلوكه لدرء الخطر عن حاضر الانسانية ومستقبلها هو ان يطور المفهوم المادي للانسان عن الحياة، وبتطويره تتطور طبيعيا أهدافها ومقاييسها، وتتحقق المعجزة حينئذ من أيسر طريق.
والسبيل الأول هو الذي يحلم أقطاب الشيوعيين بتحقيقه للانسانية في مستقبلها، ويعدون العالم بأنهم سوف ينشؤونها انشاءا جديدا.
يجعلها تتحرك ميكانيكيا إلى خدمة الجماعة ومصالحها. ولأجل ان يتم هذا العمل الجبار، يجب ان نوكل قيادة العالم إليهم. كما يوكل أمر المريض إلى الجراح، ويفوض
اليه تطبيبه وقطع الأجزاء الفاسدة منه، وتعديل المعوج منها. ولا يعلم أحد كم تطول هذه العملية الجراحية التي تجعل الانسانية تحت مبضع جراح. وان استلام الانسانية لذلك لهو أكبر دليل على مدى الظلم الذي قاسته في النظام الديمقراطي الرأسمالي، الذي خدعها بالحريات المزعومة، وسلب منها أخيرا كرامتها، وامتص دماءها، ليقدمها شرابا سائغا للفئة التي يمثلها الحاكمون.
والفكرة في هذا الرأي، القائل بمعالجة المشكلة عن طريق تطوير الانسانية وانشائها من جديد.... ترتكز على مفهوم الماركسية عن حب الذات. فان الماركسية تعتقد ان حب الذات ليس ميلا طبيعيا وظاهرة غريزية في كيان
36

الانسان، وانما هو نتيجة للوضع الاجتماعي القائم على أساس الملكية الفردية، فان الحالة الاجتماعية للملكية الخاصة هي التي تكون المحتوى الروحي والداخلي للانسان، وتخلق في الفرد حبه لمصالحه الخاصة ومنافعه الفردية. فإذا حدثت ثورة في الأسس التي يقوم عليها الكيان الاجتماعي، وحلت الملكية الجماعية والاشتراكية محل الملكية الخاصة... فسوف تنعكس الثورة في كل ارجاء المجتمع وفي المحتوى الداخلي للانسان، فتنقلب مشاعره الفردية إلى مشاعر جماعية، ويتحول حبه لمصالحه ومنافعه الخاصة إلى حب لمنافع الجماعة ومصالحها، وفقا لقانون التوافق بين حالة الملكية الأساسية ومجموع الظواهر الفوقية التي تتكيف بموجبها.
والواقع أن هذا المفهوم الماركسي لحب الذات، يقدر العلاقة بين الواقع الذاتي (غريزة حب الذات)، وبين الأوضاع الاجتماعية بشكل مقلوب. والا فكيف نستطيع أن نؤمن بأن الدافع الذاتي وليد الملكية الخاصة. والتناقضات الطبقية التي تنجم عنها؟! فان الانسان لو لم يكن يملك سلفا الدافع الذاتي، لما أوجد هذه التناقضات، ولا فكر في الملكية الخاصة والاستئثار الفردي. ولماذا يستأثر الانسان بمكاسب النظام.
ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخرين، ما دام لا يحس بالدافع الذاتي في أعماق نفسه؟! فالحقيقة بأن المظاهر الاجتماعية للأنانية في الحقل الاقتصادي والسياسي... لم تكن الا نتيجة للدافع الذاتي، لغريزة حب الذات، فهذا الدافع أعمق منها في كيان الانسان، فلا يمكن أن يزول وتقتلع جذوره بإزالة تلك الآثار، فان عملية كهذه لا تعدو أن تكون استبدالا لآثار بأخرى قد تختلف في الشكل والصورة، لكنها تتفق معها في الجوهر والحقيقة.
أضف إلى ذلك، أننا لو فسرنا الدافع الذاتي: ((غريزة حب الذات)) تفسيرا موضوعيا، - بوصفه انعكاسا لظواهر الفردية في النظام الاجتماعي. كظاهرة الملكية الخاصة - كما صنعت الماركسية. فلا يعني هذا ان الدافع الذاتي سوف يفقد رصيده الموضوعي وسببه من النظام الاجتماعي، بإزالة الملكية الخاصة لأنها وان كانت ظاهرة ذات طابع فردي، ولكنها ليست هي الوحيدة من نوعها، فهناك - مثلا - ظاهرة الإدارة الخاصة، التي يحتفظ بها حتى النظام
37

الاشتراكي. فان النظام الاشتراكي وان كان يلغي الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، غير انه لا يلغي إدارتها الخاصة من قبل هيئات الجهاز الحاكم، الذي يمارس دكتاتورية البروليتاريا، ويحتكر الاشراف على جميع وسائل الانتاج وإدارتها. إذ ليس من المعقول ان تدار وسائل الانتاج في لحظة تأميمها إدارة جماعية اشتراكية. من قبل أفراد المجتمع كافة. فالنظام الاشتراكي يحتفظ اذن بظواهر فردية بارزة. ومن الطبيعي لهذه الظواهر الفردية ان تحافظ على الدافع الذاتي. وتعكسه في المحتوى الداخلي للانسان باستمرار، كما كانت تصنع ظاهرة الملكية الخاصة.
وهكذا نعرف قيمة السبيل الأول لحل المشكلة: السبيل الشيوعي الذي يعتبر الغاء تشريع الملكية الخاصة ومحوها من سجل القانون... كفيلا وحده بحل المشكلة وتطوير الانسان.
وأما السبيل الثاني - الذي مر بنا - فهو الذي سلكه الاسلام، ايمانا منه بأن الحل الوحيد للمشكلة تطوير المفهوم المادي للانسان عن الحياة. فلم يبتدر إلى مبدأ الملكية الخاصة ليبطله، وانما غزا المفهوم المادي عن الحياة ووضع للحياة مفهوما جديدا، وأقام على أساس ذلك المفهوم نظاما لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد، بل وضع لكل منهما حقوقه، وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادية معا. فالاسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية، وما اليه من أنظمة.. فمحاها محوا ينسجم مع الطبيعة الانسانية. فان نقطة الارتكاز الأساسية لما ضجت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء وألوان المآسي.. هي النظرة المادية إلى الحياة التي نختصرها بعبارة مقتضبة في افتراض حياة الانسان في الدنيا هي كل ما في الحساب من شيء، وإقامة المصلحة الشخصية مقياسا لكل فعالية ونشاط. ان الديمقراطية الرأسمالية نظام محكوم عليه بالانهيار والفشل المحقق في نظر الاسلام، ولكن لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعي من تناقضات رأس المال بطبيعته، وعوامل الفناء التي تحملها الملكية الخاصة في ذاتها...
38

لان الاسلام يختلف في طريقته المنطقية، واقتصاده السياسي، وفلسفته الاجتماعية... عن مفاهيم هذا الزعم وطريقته الجدلية - كما أوضحنا ذلك في كتابي (اقتصادنا) ويضمن وضع الملكية الفردية في تصميم اجتماعي. خال من تلك التناقضات المزعومة.
بل ان مرد الفشل والوضع الفاجع، الذي منيت به الديمقراطية الرأسمالية في عقيدة الاسلام إلى مفاهيمها المادية الخالصة، التي لا يمكن ان يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها، ويستمد خطوطه العامة من روحها وتوجيهها.
فلا بد اذن من معين آخر - غير المفاهيم المادية عن الكون - يستقي منه النظام الاجتماعي، ولابد من وعي سياسي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقية للحياة، ويتبنى القضية الانسانية الكبرى، ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم. ويدرس مسائل العالم من هذه الزاوية، وعند اكتمال هذا الوعي السياسي في العالم، واكتساحه لكل وعي سياسي آخر، وغزوه لكل مفهوم للحياة لا يندمج بقاعدته الرئيسية.. يمكن ان يدخل العالم في حياة جديدة، مشرقة بالنور عامرة بالسعادة. ان هذا الوعي السياسي العميق هو رسالة الاسلام الحقيقي في العالم وان هذه الرسالة المنقذة لهي رسالة الاسلام الخالدة، التي استمدت نظامها الاجتماعي - المختلف عن كل ما عرضناه من
أنظمة - من قاعدة فكرية جديدة للحياة والكون.
وقد أوجد الاسلام تلك القاعدة الفكرية النظرة الصحيحة للانسان إلى حياته، فجعله يؤمن بأن حياته منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال، وانها اعداد للانسان إلى عالم لا عناء فيه ولا شقاء، ونصب له مقياسا خلقيا جديدا في كل خطواته وأدواره. وهو: رضا الله تعالى. فليس كل ما تفرضه المصلحة الشخصية فهو جائز، وكل ما يؤدي إلى خسارة شخصية فهو محرم وغير مستساغ... بل الهدف الذي رسمه الاسلام للانسان في حياته هو الرضا الإلهي، والمقياس الخلقي الذي توزن به جميع الأعمال انما هو مقدار ما يحصل بها من هذا الهدف المقدس، والانسان المستقيم هو الانسان الذي يحقق هذا
39

الهدف، والشخصية الاسلامية الكاملة هي الشخصية التي سارت في شتى أشواطها على هدي هذا الهدف، وضوء هذا المقياس، وضمن إطاره العام.
وليس هذا التحويل في مفاهيم الانسان الخلقية وموازينه وأغراضه يعني تعيير الطبيعة الانسانية، وانشائها انشاءا جديدا، كما كانت تعني الفكرة الشيوعية. فحب الذات - أي حب الانسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصة - طبيعي في الانسان، ولا نعرف استقراء في ميدان تجريبي. أوضح من استقراء الانسانية في تاريخها الطويل، الذي يبرهن على ذاتية حب الذات. بل لو لم يكن حب الذات طبيعيا وذاتيا للانسان لما اندفع الانسان الأول - قبل كل تكوينه اجتماعية - إلى تحقيق حاجاته، ودفع الاخطار عن ذاته، والسعي وراء مشتهياته.. بالأساليب البدائية التي حفظ بها حياته وأبقى وجوده، وبالتالي خوض الحياة الاجتماعية والاندماج في علاقات مع الآخرين، تحقيقا لتلك الحاجات ودفعا لتلك الاخطار. ولما كان حب الذات يحتل هذا الموضع من طبيعة الانسان. فأي علاج حاسم للمشكلة الانسانية الكبرى يجب أن يقوم على أساس الايمان بهذه الحقيقة. وإذا قام على فكرة تطويرها أو التغلب عليها، فهو علاج مثالي لا ميدان له في واقع الحياة العملية التي يعيشها الانسان.
* رسالة الدين
ويقوم الدين هنا برسالته الكبرى التي لا يمكن أن يضطلع بأعبائها غيره، ولا أن تحقق أهدافها البناءة وأغراضها الرشيدة الا على أسسه وقواعده، فيربط بين المقياس الخلقي الذي يضعه للانسان وحب الذات المتركز في فطرته.
وفي تعبير آخر: ان الدين يوحد بين المقياس الفطري للعمل والحياة، وهو حب الذات. والمقياس الذي ينبغي ان يقام للعمل والحياة، ليضمن السعادة والرفاه والعدالة.
ان المقياس الفطري يتطلب من الانسان ان يقدم مصالحه الذاتية على مصالح المجتمع ومقومات التماسك فيه، والمقياس الذي ينبغي ان يحكم
40

ويسود هو المقياس الذي تتعادل في حسابه المصالح كلها. وتتوازن في مفاهيمه القيم الفردية والاجتماعية.
فكيف يتم التوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين، لتعود الطبيعة الانسانية في الفرد عاملا من عوامل الخير والسعادة للمجموع. بعد ان كانت مثار المأساة والنزعة التي تتفنن في الأنانية وأشكالها؟
ان التوفيق والتوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة. وتتخذ العملية أسلوبين:
الأسلوب الأول:
هو تركيز التفسير الواقعي للحياة، وإشاعة فهمها في لونها الصحيح، كمقدمة تمهيدية إلى حياة أخروية، يكسب الانسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه. في سبيل تحصيل رضا الله. فالمقياس الخلقي - أو رضا الله تعالى - يضمن المصلحة الشخصية، في نفس الوقت الذي يحقق فيه أهدافه الاجتماعية الكبرى. فالدين يأخذ بيد الانسان إلى المشاركة في إقامة المجتمع السعيد والمحافظة على قضايا العدالة فيه. التي تحقق رضا الله تعالى. لأن ذلك يدخل في حساب ربحه الشخصي، ما دام كل عمل ونشاط في هذا الميدان يعوض عنه بأعظم العوض وأجله.
فمسألة المجتمع هي مسألة الفرد أيضا، في مفاهيم الدين عن الحياة وتفسيرها. ولا يمكن أن يحصل هذا الأسلوب من التوفيق في ظل فهم مادي للحياة. فان الفهم المادي للحياة يجعل الانسان بطبيعته لا ينظر الا إلى ميدانه الحاضر وحياته المحدودة، على عكس التفسير الواقعي للحياة الذي يقدمه الاسلام، فإنه يوسع من ميدان الانسان، ويفرض عليه نظرة أعمق إلى مصالحه ومنافعه، ويجعل من الخسارة العاجلة ربحا حقيقيا في هذه النظرة العميقة. ومن الأرباح العاجلة خسارة حقيقية في نهاية المطاف:
{من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها}.
{ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}.
41

{يومئذ يصدر الناس اشتاتا ليروا اعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}.
{ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ، ولا نصب، ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا... الا كتب لهم به عمل صالح، ان الله لا يضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون واديا... الا كتب لهم ليجزيهم أحسن ما كانوا يعملون}.
هذه بعض الصور الرائعة التي يقدمها الدين مثالا على الأسلوب الأول. الذي يتبعه للتوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين فيربط بين الدوافع الذاتية وسبل الخير في الحياة، ويطور من مصلحة الفرد تطويرا يجعله يؤمن بأن مصالحه الخاصة والمصالح الحقيقية العامة للانسانية - التي يحددها الاسلام - مترابطتان (1).
وأما الأسلوب الثاني الذي يتخذه الدين، للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم أو المصالح الاجتماعية فهو التعهد بتربية أخلاقية خاصة، تعني بتغذية الانسان روحيا، وتنمية العواطف الانسانية والمشاعر الخلقية فيه. فان في طبيعة الانسان - كما ألمعنا سابقا - طاقات واستعدادات لميول متنوعة، بعضها ميول مادية تنفتح شهواتها بصورة
طبيعية كشهوات الطعام والشراب والجنس، وبعضها ميول معنوية تنفتح وتنمو بالتربية والتعاهد. ولأجل ذلك كان من الطبيعي للانسان - إذا ترك لنفسه - ان تسيطر عليه الميول المادية لأنها تنفتح بصورة طبيعية. وتظل الميول المعنوية واستعداداتها الكامنة في النفس مستترة. والدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسددة من الله، فهو يوكل أمر تربية الانسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها، فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة. ويصبح الانسان يحب القيم الخلقية والمثل التي يربيه الدين على احترامها ويستبسل في سبيلها، ويزيح عن

(1) انظر اقتصادنا ص 308.
42

طريقها ما يقف أمامها من مصالحه ومنافعه. وليس معنى ذلك ان حب الذات يمحى من الطبيعة الانسانية بل ان العمل في سبيل تلك القيم والمثل تنفيذ كامل لإرادة حب الذات. فان القيم بسبب التربية الدينية تصبح محبوبة للانسان ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبرا عن لذة شخصية خاصة فتفرض طبيعة حب الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخلقية المحبوبة تحقيقا للذة خاصة بذلك.
فهذان هما الطريقان اللذان ينتج عنهما ربط المسألة الخلقية بالمسألة الفردية، ويتلخص أحدهما في اعطاء التفسير الواقعي لحياة أبدية لا لأجل أن يزهد الانسان في هذه الحياة، ولا لأجل أن يخنع للظلم ويقر على غير العدل.... بل لأجل ضبط الانسان بالمقياس الخلقي الصحيح، الذي يمده ذلك التفسير بالضمان الكافي.
ويتلخص الآخر في التربية الخلقية التي ينشأ عنها في نفس الانسان مختلف المشاعر والعواطف، التي تضمن اجراء المقياس الخلقي بوحي من الذات.
فالفهم المعنوي للحياة والتربية الخلقية للنفس في رسالة الاسلام...
هما السببان المجتمعان على معالجة السبب الأعمق للمأساة الانسانية.
ولنعبر دائما عن فهم الحياة على انها تمهيد لحياة أبدية بالفهم المعنوي للحياة. ولنعبر أيضا عن المشاعر والأحاسيس، التي تغذيها التربية الخلقية بالاحساس الخلقي بالحياة.
فالفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي بها، هما الركيزتان اللتان يقوم على أساسهما المقياس الخلقي الجديد، الذي يضعه الاسلام للانسانية وهو: رضا الله تعالى. ورضا الله - هذا الذي يقيمه الاسلام مقياسا عاما في الحياة - هو الذي يقود السفينة البشرية إلى ساحل الحق والخير والعدالة.
فالميزة الأساسية للنظام الاسلامي تتمثل فيما يرتكز عليه من فهم معنوي للحياة واحساس خلقي بها، والخط العريض في هذا النظام هو: اعتبار الفرد والمجتمع معا، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن. فليس الفرد
43

هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم، وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر اليه الدولة وتشرع لحسابه.
وكل نظام اجتماعي لا ينبثق عن ذلك الفهم والاحساس فهو اما نظام يجري مع الفرد في نزعته الذاتية، فتتعرض الحياة الاجتماعية لأقسى المضاعفات وأشد الأخطار، واما نظام يحبس في الفرد نزعته ويشل فيه طبيعته لوقاية المجتمع ومصالحه. فينشأ الكفاح المرير الدائم بين النظام وتشريعاته والافراد ونزعاتهم، بل يتعرض الوجود الاجتماعي للنظام دائما للانتكاس على يد منشئه ما دام هؤلاء ذوي نزعات فردية أيضا، وما دامت هذه النزعات تجد لها - بكبت النزعات الفردية الأخرى وتسلم القيادة الحاسمة - مجالا واسعا وميدانا لا نظير له للانطلاق والاستغلال.
وكل فهم معنوي للحياة واحساس خلقي بها لا ينبثق عنهما نظام كامل للحياة يحسب فيه لكل جزء من المجتمع حسابه، وتعطى لكل فرد حريته التي هذبها ذلك الفهم والاحساس، والتي تقوم الدولة بتحديدها في ظروف الشذوذ عنهما... أقول ان كل عقيدة لا تلد للانسانية هذا النظام فهي لا تخرج عن كونها تلطيفا للجو وتخفيفا من الويلات وليست علاجا محدودا وقضاء حاسما على أمراض المجتمع ومساوئه. وانما يشاد البناء الاجتماعي المتماسك على فهم معنوي للحياة واحساس خلقي بها ينبثق عنهما. يملأ الحياة بروح هذا الاحساس وجوهر ذلك الفهم.
وهذا هو الاسلام في أخصر عبارة وأروعها. فهو عقيدة معنوية خلقية، ينبثق عنها نظام كامل للانسانية، يرسم لها شوطها الواضح المحدد، ويضع لها هدفا أعلى في ذلك الشوط، ويعرفها على مكاسبها منه.
وأما أن يقضي على الفهم المعنوي للحياة، ويجرد الانسان عن احساسه الخلقي بها، وتعتبر المفاهيم الخلقية أوهاما خالصة خلقتها المصالح المادية، والعامل الاقتصادي هو الخلاق لكل القيم والمعنويات وترجى بعد ذلك سعادة للانسانية، واستقرار اجتماعي لها، فهذا هو الرجاء الذي لا يتحقق الا إذا تبدل البشر إلى أجهزة ميكانيكية يقوم على تنظيمها عدة من المهندسين الفنيين.
44

وليست إقامة الانسان على قاعدة ذلك الفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي بها عملا شاقا وعسيرا، فان الأديان في تاريخ البشرية قد قامت بأداء رسالتها الكبيرة في هذا المضمار، وليس لجميع ما يحفل به العالم اليوم من مفاهيم معنوية، وأحاسيس خلقية، ومشاعر وعواطف نبيلة.. تعليل أوضح وأكثر منطقية من تعليل ركائزها وأسسها بالجهود الجبارة التي قامت بها الأديان لتهذيب الانسانية والدافع الطبيعي في الانسان، وما ينبغي له من حياة وعمل.
وقد حمل الاسلام المشعل المتفجر بالنور، بعد أن بلغ البشر درجة خاصة من الوعي، فبشر بالقاعدة المعنوية والخلقية على أوسع نطاق وأبعد مدى، ورفع على أساسها راية انسانية، وأقام دولة فكرية، اخذت بزمام العالم ربع قرن، واستهدفت إلى توحيد البشر كله، وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم أسلوب الحياة ونظامها. فالدولة الاسلامية لها وظيفتان: إحداهما تربية الانسان على القاعدة الفكرية. وطبعه في اتجاهه وأحاسيسه بطابعها. والأخرى مراقبته من خارج، وارجاعه إلى القاعدة إذا انحرف عنها عمليا.
ولذلك فليس الوعي السياسي للاسلام وعيا للناحية الشكلية من الحياة الاجتماعية فحسب، بل هو وعي سياسي عميق، مرده إلى نظرة كلية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع والسياسية والاقتصاد والاخلاق فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الاسلامي الكامل.
وكل وعي سياسي آخر فهو اما ان يكون وعيا سياسيا سطحيا لا ينظر إلى العالم من زاوية معينة، ولا يقيم مفاهيمه على نقطة ارتكاز خاصة أو يكون وعيا سياسيا يدرس العالم من زاوية المادة البحتة، التي تمون البشرية بالصراع والشقاء في مختلف أشكاله وألوانه.
* وأخيرا
وأخيرا، وفي نهاية مطافنا في المذاهب الاجتماعية الأربعة، نخرج بنتيجة هي ان المشكلة الأساسية التي تتولد عنها كل الشرور الاجتماعية وتنبعث
45

منها مختلف ألوان الآثام لم تعالج المعالجة الصحيحة التي تحسم الداء وتستأصله من جسم المجتمع البشري في غير المذهب الاجتماعي للاسلام من مذاهب.
فلابد أن نقف عند المبدأ الاسلامي في فلسفته عن الحياة والكون، وفي فلسفته عن الاجتماع والاقتصاد، وفي تشريعاته ومناهجه لنحصل على المفاهيم الكاملة للوعي الاسلامي، والفكر الاسلامي الشامل مقارنين بينه وبين المبادئ الأخرى فيما يقرر من مناهج ويتبنى من عقيدة.
وبطبيعة الحال أن دراستنا لكل مبدأ تبدأ بدراسة ما يقوم عليه من عقيدة عامة عن الحياة والكون وطريقة فهمهما، فمفاهيم كل مبدأ عن الحياة والكون تشكل البنية الأساسية لكيان ذلك المبدأ. والميزان الأول لامتحان المبادئ هو اختبار قواعدها الفكرية الأساسية التي يتوقف على مدى احكامها وصحتها احكام البنيات الفوقية ونجاحها.
ولأجل ذلك فسوف نخصص هذه الحلقة الأولى من ((كتابنا)) لدراسة البنية الأولى التي هي نقطة الانطلاق للمبدأ وندرس البنيات الفوقية في الحلقات الأخرى ان شاء الله تعالى.
والنظام الرأسمالي الديمقراطي ليس منبثقا من عقيدة معينة عن الحياة والكون ولا مرتكزا على فهم كامل لقيمها التي تتصل بالحياة الاجتماعية وتؤثر فيها. وهو لهذا ليس مبدأ بالمعنى الدقيق للفظ المبدأ، لان المبدأ عقيدة في الحياة ينبثق عنها نظام للحياة.
وأما الاشتراكية والشيوعية الماركسيتان فقد وضعتا على قاعدة فكرية وهي ((الفلسفة المادية الجدلية))، ويختص الاسلام بقاعدة فكرية عن الحياة لها طريقتها الخاصة في فهم الحياة وموازينها المعينة لها.
فنحن اذن بين فلسفتين لابد من دراستها لتتبين القاعدة الفكرية الصحيحة للحياة التي يجب أن نشيد عليها وعينا الاجتماعي السياسي لقضية العالم كله. ومقياسنا الاجتماعي والسياسي الذي نقيس به قيم الأعمال ونزن به أحداث الانسانية في مشاكلها الفردية والدولية.
46

والقاعدة التي يرتكز عليها المبدأ تحتوي على الطريقة والفكرة. أي على تحديد طريقة التفكير وتحديد المفهوم للعالم والحياة. ولما كنا لا نستهدف في هذا الكتاب إلى الدراسات الفلسفية لذاتها وانما نريد دراسة القواعد الفكرية للمبادئ، فسوف نقتصر على درس العنصرين الأساسين لكل قاعدة فكرية ينبثق عنها نظام، وهما: طريقة التفكير، والمفهوم الفلسفي للعالم. فهاتان المسألتان هما مدار البحث في هذا الكتاب. ولما كان من الضروري تحديد الطريقة قبل تكوين المفاهيم فنبدأ بنظرية المعرفة التي تحتوي على تحديد معالم التفكير وطريقته وقيمته، ويتلو بعد ذلك درس المفهوم الفلسفي العام عن العالم بصورة عامة.
ويحسن بالقارئ العزيز أن يعرف قبل البدء أن المستفاد من الاسلام بالصميم انما هو الطريقة والمفهوم، أي الطريقة العقلية في التفكير والمفهوم الإلهي للعالم. وأما أساليب الاستدلال وألوان البرهنة على هذا وذاك فلسنا نضيفها جميعا إلى الاسلام، وانما هي حصيلة دراسات فكرية لكبار المفكرين من علماء المسلمين وفلاسفتهم.
47

1
نظرية المعرفة
49

* 1 - المصدر الأساسي للمعرفة
تدور حول المعرفة الانسانية مناقشات فلسفية حادة تحتل مركزا رئيسيا في الفلسفة وخاصة الفلسفة الحديثة، فهي نقطة الانطلاق الفلسفي لإقامة فلسفة متماسكة عن الكون والعالم، فما لم تحدد مصادر الفكر البشري ومقاييسه وقيمه لا يمكن القيام بأية دراسة مهما كان لونها.
واحدى تلك المناقشات الضخمة هي المناقشة التي تتناول مصادر المعرفة ومنابعها الأساسية بالبحث والدرس، وتحاول أن تستكشف الركائز الأولية للكيان الفكري الجبار الذي تملكه البشرية فتجيب بذلك على هذا السؤال: كيف نشأت المعرفة عند الانسان، وكيف تكونت حياته العقلية بكل ما تزخر به من أفكار ومفاهيم، وما هو المصدر الذي يمد الانسان بذلك السيل من الفكر والادراك؟؟
ان الانسان - كل انسان - يعلم أشياء عديدة في حياته وتتعدد في نفسه ألوان من التفكير والادراك، ولا شك في أن كثيرا من المعارف الانسانية ينشأ بعضها عن بعض، فيستعين الانسان بمعرفة سابقة على تكوين معرفة جديدة. والمسألة هي أن نضع يدنا على الخيوط الأولية للتفكير، على الينبوع العام للادراك بصورة عامة.
ويجب أن نعرف قبل كل شيء ان الأراك ينقسم بصورة رئيسية إلى نوعين، أحدهما التصور وهو الادراك الساذج. والآخر التصديق
وهو الادراك المنطوي على حكم. فالتصور، كتصورنا لمعنى الحرارة أو النور أو الصوت، والتصديق، كتصديقنا بأن الحرارة طاقة مستوردة من الشمس، وان الشمس
51

أنور من القمر وان الذرة قابلة للانفجار (1)
ونبدأ الآن بالتصورات البشرية لدرس أسبابها ومصادرها. وتتناول بعد ذلك التصديقات والمعارف.
* التصور ومصدره الأساسي:
ونقصد بكلمة ((الأساسي)) المصدر الحقيقي للتصورات والادراكات البسيطة. ذلك ان الذهن البشري ينطوي على قسمين من التصورات:
أحدهما المعاني التصورية البسيطة، كمعاني الوجود والوحدة والحرارة والبياض وما إلى ذلك من مفردات للتصور البشري، والقسم الآخر المعاني المركبة أي التصورات الناتجة عن الجمع بين تلك التصورات البسيطة. فقد نتصور (جبلا من تراب) ونتصور (قطعة من الذهب) ثم نركب بين هذين التصورين فيحصل بالتركيب تصور ثالث وهو (تصور جبل من الذهب). فهذا التصور مركب في الحقيقة من التصورين الأولين وهكذا ترجع جميع التصورات المركبة إلى مفردات تصورية بسيطة.
والمسألة التي نعالجها هي محاولة معرفة المصدر الحقيقي لهذه المفردات

(1) ولبعض الفلاسفة الحسيين (كجون ستوارت ميل) نظرية خاصة في التصديق حاولوا بها تفسيره بتصورين متداعيين. فمرد التصديق إلى قوانين تداعي المعاني، وليس المحتوى النفسي الا تصور الموضوع وتصور المحمول، ولكن الحقيقة ان تداعي المعاني يختلف عن طبيعة التصديق كل الاختلاف، فهو قد يتحقق في كثير من المجالات ولا يوجد تصديق، فالرجال التاريخيون الذين تسبغ عليهم الأساطير ألوانا من البطولات يقترن تصورهم في ذهننا بتصور تلك البطولات، وتتداعى التصورات، ومع ذك فقد لا تصدق بشيء من تلك الأساطير. فالتصديق اذن عنصر جديد يمتاز على التصور الخالص، وعدم التمييز بين التصور والتصديق في عدة من الدراسات الفلسفية الحديثة أدى إلى جملة من الأخطاء، وجعل عدة من الفلاسفة يدرسون مسألة تعليل المعرفة والادراك من دون ان يضعوا فارقا بين التصور والتصديق. وستعرف أن النظرية الاسلامية تفصل بينهما وتشرح المسألة في كل منهما بأسلوب خاص.
52

وسبب انبثاق هذه التصورات البسيطة في الادراك الانساني.
وهذه المسألة لها تاريخ مهم في جميع أدوار الفلسفة اليونانية والاسلامية والأوروبية، وقد حصلت عبر تاريخها الفلسفي على عدة حلول تتخلص في النظريات الآتية:
1 - نظريات الاستذكار الأفلاطونية:
وهي النظرية القائلة بأن الادراك عملية استذكار للمعلومات السابقة وقد ابتدع هذه النظرية أفلاطون وأقامها على فلسفته الخاصة عن المثل، وقدم النفس الانسانية، فكان يعتقد ان النفس الانسانية موجودة بصورة مستقلة عن البدن قبل وجوده، ولما كان وجودها هذا متحررا من المادة وقيودها تحررا كاملا أتيح لها الاتصال بالمثل - أي بالحقائق المجردة عن المادة - وأمكنها العلم بها، وحين اضطرت إلى الهبوط من عالمها المجرد للاتصال بالبدن والارتباط به في دنيا المادة، فقدت بسبب ذلك كل ما كانت تعلمه من تلك المثل والحقائق الثابتة، وذهلت عنها ذهولا تاما، ولكنها تبدأ باسترجاع ادراكاتها عن طريق الاحساس بالمعاني الخاصة والأشياء الجزئية، لأن هذه المعاني والأشياء كلها ظلال وانعكاسات لتلك المثل والحقائق الأزلية الخالدة في العالم الذي كانت تعيش النفس فيه. فمتى أحست بمعنى خاص انتقلت فورا إلى الحقيقة المثالية التي كانت تدركها قبل اتصالها بالبدن، وعلى هذا الأساس يكون ادراكنا للانسان العام أي لمفهوم الانسان بصورة كلية عبارة عن استذكار لحقيقة مجردة كنا قد غفلنا عنها، وانما استذكرناها بسبب الاحساس بهذا الانسان الخاص أو ذاك من الافراد التي تعكس في عالم المادة تلك الحقيقة المجردة.
فالتصورات العامة سابقة على الاحساس، ولا يقوم الاحساس الا بعملية استرجاع واستذكار لها، والادراكات العقلية لا تتعلق بالأمور الجزئية التي تدخل في نطاق الحس، وانما تتعلق بتلك الحقائق الكلية المجردة.
وهذه النظرية ترتكز على قضيتين فلسفيتين: إحداهما ان النفس موجودة قبل وجود البدن في عالم أسمى من المادة، والأخرى ان الادراك العقلي عبارة
53

عن ادراك الحقائق المجردة الثابتة في ذلك العالم الأسمى والتي يصطلح عليها أفلاطون بكلمة (المثل).
وكلتا القضيتين خاطئتان كما أوضح ذلك ناقدو الفلسفة الأفلاطونية فالنفس في مفهومها الفلسفي المعقول ليست شيئا موجودا بصورة مجردة قبل وجود البدن، بل هي نتاج حركة جوهرية في المادة، تبدأ النفس بها مادية متصفة بخصائص المادة وخاضعة لقوانينها، وتصبح بالحركة والتكامل وجودا مجردا عن المادة لا يتصف بصفاتها ولا يخضع لقوانينها، وان كان خاضعا لقوانين الوجود العامة. فان هذا المفهوم الفلسفي عن النفس هو المفهوم الوحيد الذي يستطيع ان يفسر المشكلة، ويعطي ايضاحا معقولا عن العلاقة القائمة بين النفس والمادة، بين النفس والبدن واما المفهوم الافلاطوني الذي يفترض للنفس وجودا سابقا على البدن فهو أعجز ما يكون عن تفسير هذه العلاقة، وتعليل الارتباط القائم بين البدن والنفس، وعن ايضاح الظروف التي جعلت النفس تهبط من مستواها إلى المستوى المادي.
كما ان الادراك العقلي يمكن ايضاحه مع ابعاد فكرة المثل عن مجال البحث بما شرحه أرسطو في فلسفته من ان المعاني المحسوسة هي نفسها المعاني العامة التي يدركها العقل بعد تجريدها عن الخصائص المميزة للافراد واستبقاء المعنى المشترك، فليس الانسان العام الذي ندركه حقيقة مثالية سبق ان شاهدناها في عالم اسمى، بل هو صورة هذا الانسان أو ذاك بعد اجراء عملية التجريد عليها واستخلاص المعنى العام منها.
2 - النظريات العقلية:
وهي لعدد من كبار فلاسفة أوروبا ك‍ (ديكارت (1)) و (كانت) وغيرهما.
وتتخلص هذه النظرية في الاعتقاد بوجود منبعين للتصورات: أحدهما الاحساس، فنحن نتصور الحرارة والنور والطعم والصوت لأجل إحساسنا

(1) راجع: مدخل إلى فلسفة ديكارت - سلسلة المكتبة الفلسفية رقم 5 منشورات عويدات.
54

بذلك كله. والآخر الفطرة بمعني أن الذهن البشري يملك معان وتصورات لم تنبثق عن الحس وانما هي ثابتة في صميم الفطرة، فالنفس تستنبط من ذاتها. وهذه التصورات الفطرية عند (ديكارت) هي فكرة (الله والنفس والامتداد والحركة) وما إليها من أفكار تتميز بالوضوح الكامل في العقل البشري. واما عند (كانت) فالجانب الصوري للإدراكات والعلوم الانسانية كله فطري بما يشتمل عليه من صورتي الزمان والمكان والمقولات الاثنتي عشر المعروفة عنه.
فالحس على أساس هذه النظرية مصدر فهم للتصورات والأفكار البسيطة
ولكنه ليس هو السبب الوحيد، بل هناك الفطرة التي تبعث في الذهن طائفة من التصورات.
والذي اضطر العقليين إلى اتخاذ هذه النظرية في تعليل التصورات البشرية
، هو انهم لم يجدوا لطائفة من المعاني والتصورات مبررا لانبثاقها
عن الحس لأنها معان غير محسوسة، فيجب ان تكون مستنبطة للنفس استنباطا ذاتيا من صميمها، ويتضح من هذا أن الدافع الفلسفي إلى وضع النظرية العقلية يزول تماما إذا استطعنا ان نفسر التصورات الذهنية تفسيرا متماسكا من دون حاجة إلى افتراض أفكار فطرية. ولأجل ذلك يمكننا تفنيد النظرية العقلية عن طريقين:
أحدهما: تحليل الادراك تحليلا يرجعه برمته إلى الحس وييسر فهم كيفية تولد التصورات كافة عنه. فان مثل هذا التحليل يجعل نظرية الأفكار الفطرية بلا مبرر مطلقا لأنها كانت ترتكز على فصل بعض المعاني عن مجال الحس فصلا نهائيا، فإذا أمكن تعميم الحس لشتى ميادين التصور لم تبق ضرورة للتصورات الفطرية، وهذا الطريق هو الذي اتخذه (جون لوك) للرد على (ديكارت) ونحوه من العقليين، وسار عليه رجال المبدأ الحسي مثل (باركلي) و (دافيد هيوم) بعد ذلك.
والطريق الآخر:
هو الأسلوب الفلسفي للرد على التصورات الفطرية ويرتكز على قاعدة ان الآثار الكثيرة لا يمكن ان تصدر عن البسيط باعتباره بسيطا، والنفس بسيطة فلا يمكن ان تكون سببا بصورة فطرية لعدة من
55

التصورات والأفكار، بل يجب ان يكون وجود هذا العدد الضخم من الادراكات لدى النفس بسبب عوامل خارجية كثيرة، وهي آلات الحس وما يطرأ عليها من مختلف الأحاسيس (2).
ونقد هذا البرهان بصورة كاملة يتطلب منا أن نشرح القاعدة التي قام على أساسها، ونعطي ايضاحا عن حقيقة النفس وبساطتها، وهذا وما لا يتسع له مجالنا الآن. ولكن يجب ان نشير:
أولا: إلى أن هذا البرهان - إذا أمكن قبوله - فهو لا يقضي على نظرية الأفكار الفطرية تماما لأنه إنما يدلل على عدم وجود كثرة من الادراكات بالفطرة، ولا يبرهن على أن النفس لا تملك بفطرتها شيئا محدودا من التصورات يتفق مع وحدتها وبساطتها، وتتولد عنه عدة أخرى من التصورات بصورة مستقلة عن الحس.
ونوضح ثانيا: أن النظرية العقلية إذا كانت تعني وجود أفكار فطرية بالفعل لدى النفس الانسانية أمكن للبرهان الذي قدمناه ان يرد عليها قائلا ان النفس بسيطة بالذات فكيف ولدت ذلك العدد الضخم من الأفكار الفطرية، بل لو كان العقليون يجنحون إلى الايمان بذلك حقا لكفى وجداننا البشري في الرد على نظريتهم لأننا جميعا نعلم أن الانسان لحظة وجوده على وجه الأرض لا توجد لديه أية فكرة مهما كانت واضحة وعامة في الذهنية البشرية.
{والله الذي أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة لعلكم تشكرون}

(1) وبكلمة أكثر تفصيلا، ان كثرة الآثار تكشف عن أحد أمور: اما كثرة الفاعل، واما كثرة القابل، واما الترتب المنطقي بين الآثار ذواتها، واما كثرة الشرائط، وفي مسألتنا لا شك في ان التصورات التي نبحث عن منشئها كثيرة ومتنوعة مع انه لا كثرة في الفاعل والقابل، لان الفاعل والقابل للتصورات هو النفس والنفس بسيطة، ولا ترتب أيضا بين التصورات فلا يبقى الا أن نأخذ بالتفسير الأخير وهو ان تستند التصورات الكثيرة إلى شرائط خارجية وهي الإحساسات المختلفة المتنوعة.
56

ولكن يوجد تفسير آخر للنظرية العقلية: ويتلخص في اعتبار الأفكار الفطرية موجودة في النفس بالقوة وتكتسب صفة الفعلية بتطور النفس وتكاملها الذهني. فليس التصور الفطري نابعا من الحس وانما يحتويه وجود النفس لا شعوريا وبتكامل النفس يصبح ادراكا شعوريا واضحا كما هو شأن الادراكات والمعلومات التي نستذكرها فنثيرها من جديد بعد أن كانت كامنة وموجودة بالقوة.
والنظرية العقلية على ضوء هذا التفسير لا يمكن ان ترد بالبرهان الفلسفي أو الدليل العلمي السابق ذكرهما.
3 - النظرية الحسية:
وهي النظرية القائلة ان الاحساس هو الممون الوحيد للذهن البشري بالتصورات والمعاني، والقوة الذهنية هي القوة العاكسة للإحساسات المختلفة في الذهن. فنحن حين نحس بالشيء نستطيع ان نتصوره - أي ان نأخذ صورة عنه في ذهننا - وأما المعاني التي يمتد إليها الحس فلا يمكن للنفس ابتداعها وابتكارها ذاتيا وبصورة مستقلة.
وليس للذهن بناء على هذه النظرية الا التصرف في صور المعاني المحسوسة، وذلك بالتركيب والتجزئة بأن يركب بين تلك الصور أو يجزئ الواحدة منها، فيتصور جبلا من ذهب أو يجزئ الشجرة التي تركها؟ إلى قطع وأجزاء. أو بالتجريد والتعميم، بأن يفرز خصائص بصورة ويجردها عن صفاتها الخاصة ليصوغ منها معنى كليا، كما إذا تصور زيدا واسقط من الحساب كل ما يمتاز به عن عمرو، فان الذهن عملية الطرح هذه يستبقي معنى مجردا يصدق على زيدا وعمرو معا.
ولعل المبشر الأول بهذه النظرية الحسية هو (جون لوك) الفيلسوف الانكليزي الكبير الذي بزغ في عصر فلسفي زاخر بمفاهيم (ديكارت) مع الأفكار الفطرية، فبدأ في تفنيد تلك المفاهيم، ووضع لأجل ذلك دراسة مفصلة للمعرفة الانسانية في كتابه (مقالة في التفكير الانساني) يحاول في هذا
57

الكتاب ارجاع جميع التصورات والأفكار إلى الحس، قد شاعت هذه النظرية بعد ذلك بين فلاسفة أوروبا وقضت إلى حد ما على نظرية الأفكار الفطرية، وانساق معها جملة من الفلاسفة إلى ابعد حدودها حتى انتهت إلى فلسفات خطرة جدا كفلسفة (باركلي) و (دافيد هيوم) كما سوف نبين ذلك ان شاء الله تعالى.
والماركسية تبنت هذه النظرية في تعليل الادراك البشري، تمشيا مع رأيها في الشعور البشري وانه انعكاس للواقع الموضوعي، فكل ادراك يرجع إلى انعكاس لواقع معين ويحصل هذا الانعكاس عن طريق الاحساس، وما يخرج عن حدود الانعكاسات الحسية لا يمكن ان يتعلق به الادراك أو الفكر، فنحن لا نتصور الا احساساتنا التي تشير إلى الحقائق الموضوعية القائمة في العالم الخارجي.
قال جورج بوليتزير:
(((ولكن ما هي نقطة البدء في الشعور أو الفكر، انها الاحساس. ثم ان مصدر الإحساسات التي يعالجها الانسان بدافع من احتياجاته الطبيعية)) (1). ((الرأي الماركسي يعني اذن ان محتوى شعورنا ليس له من مصدر سوى الجزئيات الموضوعية التي تقدمها لنا الظروف الخارجية التي نعيش فيها. وتعطى لنا في الإحساسات
وهذا كل ما في الامر)) (2).
وقال ماوتسي تونغ موضحا الرأي الماركسي في المسألة:
((ان مصدر كل معرفة يكمن في احساسات

(1) المادية والمثالية في الفلسفة ص 75.
(2) المصدر السابق ص 71 - 72.
58

أعضاء الحس الجسيمة في الانسان للعالم الموضوعي الذي يحيطه)) (1).
((واذن فالخطوة الأولى في عملية اكتساب المعرفة هي الاتصال الأولي بالمحيط الخارجي مرحلة الأحاسيس.. الخطوة الثانية هي جمع المعلومات التي نحصل عليها من الادراكات الحسية وتنسيقها وترتيبها)) (2).
وتركز النظرية الحسية على التجربة، فقد دللت التجارب العلمية على ان الحس هو الاحساس الذي تنبثق عنه التصورات البشرية. فمن حرم لونا من ألوان الحس فهو لا يستطيع ان يتصور المعاني ذات العلاقة بذلك الحس الخاص.
وهذه التجارب - إذا صحت - انما تبرهن علميا على ان الحس هو الينبوع الأساسي للتصور، فلولا الحس لما وجد تصور في الذهن البشري ولكنها لا تسلب عن الذهن قدرة توليد معان جديدة - لم تدرك بالحس - من المعاني المحسوسة، فليس من الضروري ان يكون قد سبق تصوراتنا البسيطة جميعا الاحساس بمعانيها كما تزعم النظرية الحسية.
فالحس على ضوء التجارب الآنفة الذكر هو البنية الأساسية التي يقوم على قاعدتها التصور البشري، ولا يعني ذلك تجريد الذهن عن الفعالية وابتكار تصورات جديدة على ضوء التصورات المستوردة من الحس.
ويمكننا ان نوضح فشل النظرية الحسية في محاولة ارجاع جميع مفاهيم التصور البشري إلى الحس... على ضوء دراسة عدة من مفاهيم الذهن البشري كالمفاهيم التالية: العلة والمعلول، الجوهر والعرض، الامكان

(1) حول التطبيق ص 11.
(2) حول التطبيق ص 14.
59

والوجوب، الوحدة والكثرة، الوجود والعدم، وما إلى ذلك من مفاهيم وتصورات.
فنحن جميعا نعلم ان الحس انما يقع على ذات العلة وذات المعلول، فندرك ببصرنا سقوط القلم على الأرض إذا سحبت من تحته المنضدة التي وضع عليها، وندرك باللمس حرارة الماء حين يوضع على النار، وكذلك ندرك تمدد الفلزات في جو حار. ففي هذه الأمثلة نحس بظاهرتين متعاقبتين ولا نحس بصلة خاصة بينهما، هذه الصلة التي نسميها بالعلية. ونعني بها تأثير احدى الظاهرتين في الأخرى، وحاجة الظاهرة الأخرى إليها لأجل ان توجد. والمحاولات التي ترمي إلى تعميم الحس لنفس العلية واعتبارها مبدأ حسيا وتقوم على تجنب العمق والدقة في معرفة ميدان الحسن وما يتسع له من معاني وحدود، فمهما نادى الحسيون بأن التجارب البشرية والعلوم التجريبية القائمة على الحس هي التي توضح مبدأ العلية، وتجعلنا نحس بصدور ظواهر مادية معينة من ظواهر أخرى مماثلة، أقول مهما نادوا بذلك فلن يحالفهم التوفيق ما دمنا نعلم ان التجربة العلمية لا يمكن ان تكشف بالحس الا الظواهر المتعاقبة، فنستطيع بوضع الماء على النار ان ندرك حرارة الماء وتضاعف هذه الحرارة وأخيرا بغليان الماء. وأما ان هذا الغليان منبثق عن بلوغ الحرارة درجة معينة فهذا ما لا يوضحه الجانب الحسي من التجربة، وإذا كانت تجاربنا الحسية قاصرة عن كشف مفهوم العلية فكيف نشأ هذا المفهوم في الذهن البشري وصرنا نتصوره ونفكر فيه.
وقد كان (دافيد هيوم) - أحد علماء رجال المبدأ الحسي - أدق من غيره في تطبيق النظرية الحسية، فقد عرف ان العلية بمعناها الدقيق لا يمكن ان تدرك بالحس، فأنكر مبدأ العلية، وأرجعها إلى عادة تداعي المعاني قائلا: اني أرى كرة البلياردو تتحرك فتصادف كرة أخرى فتتحرك هذه، وليس في حركة الأولى ما يظهرني على ضرورة تحرك الثانية. والحس الباطني يدلني على أن حركة الأعضاء في تعقب أمر الإرادة، ولكني لا أدرك به ادراكنا مباشرا علاقة ضرورية بين الحركة والأمر.
60

ولكن الواقع ان انكار مبدأ العلية لا يخفف من المشكلة التي تواجه لنظرية الحسية شيئا، فان انكار هذا المبدأ كحقيقة موضوعية يعني اننا نصدق بالعلية كقانون من قوانين الواقع الموضوعي، ولم نستطع ان نعرف ما إذا كانت الظواهر ترتبط بعلاقات ضرورية تجعل بعضها ينبثق عن بعض، ولكن مبدأ العلية كفكرة تصديقية شيء، ومبدأ العلية كفكرة تصورية شيء آخر، فهب أنا لم نصدق بعلية الأشياء المحسوسة بعضها لبعض ولم نكون عن مبدأ العلية فكرة تصديقية، فهل معنى ذلك أننا لا نتصور مبدأ العلية أيضا؟ وإذا كنا لا نتصوره فما الذي نفاه (دافيد هيوم) وهل ينفي الانسان شيئا لا يتصوره؟
فالحقيقة التي لا مجال لانكارها هي اننا نتصور مفهوم العلية سواء أصدقنا بها أم لا، ولس تصور العلية تصورا مركبا من تصور الشيئين المتعاقبين، فنحن حين نتصور عليه درجة معينة من الحرارة للغليان لا نعني بهذه العلية تركيبا اصطناعيا بين فكرتي الحرارة والغليان بل فكرة ثالثة تقوم بينهما. فمن اين جاءت هذه الفكرة التي لم تدرك بالحس إذا لم يكن للذهن خلاقية لمعان غير محسوسة؟!
ونواجه نفس المشكلة في المفاهيم الأخرى التي عرضناها آنفا، فهي جميعا ليست من المعاني المحسوسة، فيجب طرح التفسير الحسي الخالص للتصور البشري والأخذ بنظرية الانتزاع.
4 - نظرية الانتزاع:
وهي نظرية الفلاسفة الاسلاميين بصورة عامة. وتتلخص هذه النظرية في تقسيم التصورات الذهنية إلى قسمين: تصورات أولية. وتصورات ثانوية. فالتصورات الأولية هي الأساس التصوري للذهن البشري، وتتولد هذه التصورات من الاحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة. فنحن نتصور الحرارة لأننا أدركناها باللمس، ونتصور
اللون لأننا أدركناه بالبصر، ونتصور الحلاوة لأننا أدركناها بالذوق، ونتصور الرائحة لأننا أدركناها بالشم. وهكذا جميع المعاني
61

التي ندركها بحواسنا فان الاحساس بكل واحد منها هو السبب في تصوره ووجود فكرة عنه في الذهن البشري. وتتشكل من هذه المعاني القاعدة الأولية للتصور وينشئ الذهن بناء على هذه القاعدة التصورات الثانوية، فيبدأ بذلك دور الابتكار والانشاء. وهو الذي نصطلح عليه هذه النظرية بلفظ (الانتزاع) فيولد الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الأولية. وهذه المعاني الجديدة خارجة عن طاقة الحس وان كانت مستنبطة ومستخرجة من المعاني التي يقدمها الحس إلى الذهن والفكر.
وهذه النظرية تتسق مع البرهان والتجربة ويمكنها أن تفسر جميع المفردات التصورية تفسيرا متماسكا.
فعلى ضوء هذه النظرية نستطيع أن نفهم كيف انبثقت مفاهيم العلة والمعلول، والجوهر والعرض. والوجود والوحدة، في الذهن البشري. انها كلها مفاهيم انتزاعية يبتكرها الذهن على ضوء المعاني المحسوسة، فنحن نحس مثلا بغليان الماء حين تبلغ درجة حرارته مائة، وقد يتكرر إحساسنا بهاتين الظاهرتين - ظاهرتي الغليان والحرارة - آلاف المرات ولا نحس بعلية الحرارة للغليان مطلقا. وانما الذهن هو الذي ينتزع مفهوم العلية من الظاهرتين اللتين يقدمهما الحس إلى مجال التصور.
ولا نستطيع في مجالنا المحدود ان نعرض لكيفية الانتزاع الذهني وألوانه وأقسامه لأننا لا نتناول في دراستنا الخاطفة هذه الا الإشارة إلى الخطوط العريضة.
* التصديق ومصدره الأساسي
ننتقل الآن من درس الادراك الساذج - التصور - إلى درس الادراك التصديقي الذي ينطوي على الحكم ويحصل به الانسان على معرفة موضوعية.
فكل واحد منا يدرك عدة من القضايا ويصدق بها تصديقا، ومن تلك القضايا ما يرتكز الحكم فيها على حقائق موضوعية جزئية، كما في قولنا: الجو
62

حار، الشمس طالعة وتسمى القضية لأجل ذلك جزئية. ومن القضايا ما يقوم الحكم فيها بين معنيين عامين كما في قولنا الكل أعظم من الجزء، والواحد نصف الاثنين، والجزء الذي لا يتجزأ مستحيل، والحرارة تولد الغليان، والبرودة سبب للتجمد. ومحيط الدائرة أكبر من قطرها، والكتلة حقيقة نسبية، إلى غير ذلك من القضايا الفلسفية والطبيعية والرياضية وتسمى هذه القضايا بالقضايا الكلية والعامة. والمشكلة التي تواجهنا هي مشكلة أصل المعرفة التصديقية والركائز الأساسية التي يقوم عليها صرح العلم الانساني، فما هي الخيوط الأولية التي نسجت منها تلك المجموعة الكبيرة من الاحكام والعلوم، وما هو المبدأ الذي تنتهي اليه المعارف البشرية في التعليل، ويعتبر مقياسا أوليا عاما لتمييز الحقيقة عن غيرها؟
وفي هذا المسألة عدة مذاهب فلسفية تتناول بالدرس منها المذهب العقلي والمذهب التجريبي، فالأول هو المذهب الذي ترتكز عليه الفلسفة الاسلامية، وطريقة التفكير الاسلامي بصورة عامة. والثاني هو الرأي السائد في عدة مدارس للمادية ومنها المدرسة الماركسية.
1 - المذهب العقلي:
تنقسم المعارف البشرية في رأي العقليين إلى طائفتين: إحداهما معارف ضرورية أو بديهية. ونقصد بالضرورة هنا أن النفس تضطر إلى الاذعان بقضية معينة من دون ان تطالب بدليل أو تبرهن على صحتها، بل تجد من طبيعتها ضرورة الايمان بها ايمانا غنيا عن كل بينة واثبات، كإيمانها ومعرفتها بالقضايا الآتية: (النفي والاثبات لا يصدقان معا في شيء واحد) (الحادث لا يوجد من دون سبب)، (الصفات المتضادة لا تنسجم في موضوع واحد). (الكل أكبر من الجزء)، (الواحد نصف الاثنين).
والطائفة الأخرى معارف ومعلومات نظرية. فان عدة من القضايا لا تؤمن النفس بصحتها الا على ضوء معارف ومعلومات سابقة فيتوقف صدور الحكم منها في تلك القضايا على عملية تفكير واستنباط للحقيقة من حقائق أسبق
63

وأوضح منها كما في القضايا الآتية: (الأرض كروية) (الحركة سبب الحرارة)، (التسلسل ممتنع)، (الفلزات تتمدد بالحرارة) (زوايا المثلث تساوي قائمتين)، (المادة تتحول إلى طاقة) وما إلى ذلك من قضايا الفلسفة والعلوم. فان هذه القضايا حين تعرض على النفس لا تحصل على حكم في شأنها الا بعد مراجعة للمعلومات الأخرى. ولأجل ذلك فالمعارف النظرية مستندة إلى المعارف الأولية الضرورية، فلو سلبت تلك المعارف الأولية من الذهن البشري لم يستطع التوصل إلى معرفة نظرية مطلقا - كما سنوضح ذلك فيما بعد ان شاء الله.
فالمذهب العقلي يوضح ان الحجر الأساسي للعلم هو المعلومات العقلية الأولية، وعلى ذلك الأساس تقوم البنيات الفوقية للفكر الانساني التي تسمى بالمعلومات الثانوية.
والعملية التي تستنبط بها معرفة نظرية من معارف سابقة هي العملية التي نطلق عليها اسم الفكر والتفكير. فالتفكير جهد يبذله العقل في سبيل اكتساب تصديق وعلم جديد من معارفه السابقة. بمعنى أن الانسان حين يحاول أن يعالج قضية جديدة كقضية (حدوث المادة) - مثلا - ليتأكد من أنها حادثة أو قديمة يكون بين يديه أمران: أحدهما الصفة الخاصة وهي (الحدوث)، والآخر الشيء الذي يريد أن يتحقق من اتصافه بتلك الصفة وهو (المادة). ولما لم تكن القضية من الأوليات العقلية فالانسان سوف يتردد بطبيعته في اصدار الحكم والاذعان بحدوث المادة، ويلجأ حينئذ إلى معارفه السابقة ليجد فيها ما يمكنه أن يركز عليه حكمه ويجعله واسطة للتعرف على حدوث المادة. وتبدأ بذلك عملية التفكير باستعراض المعلومات السابقة. ولنفترض ان من جملة تلك الحقائق التي كان يعرفها المفكر سلفا هي (الحركة الجوهرية) التي تقرر ان المادة حركة مستمرة وتجدد دائم، فان الذهن سيضع يده على هذه الحقيقة حينما تمر امامه في الاستعراض الفكري ويجعلها همزة الوصل بين المادة والحدوث، لان المادة لما كانت متجددة فهي حادثة حتما لان التغير المستمر يعني الحدوث على طول الخط وتتولد عندئذ معرفة جديدة للانسان وهي ان المادة حادثة لأنها متحركة ومتجددة وكل متجدد حادث.
64

وهكذا استطاع الذهن ان يربط بين الحدوث والمادة وهمزة الربط هي حركة المادة، فان حركتها هي التي جعلتنا نعتقد بأنها حادثة لأننا نعلم أن كل متحرك هو حادث.
ويؤمن المذهب العقلي لأجل ذلك بقيام علاقة السببية في المعرفة البشرية بين بعض المعلومات وبعض، فان كل معرفة انما تتولد عن معرفة سابقة وهكذا تلك المعرفة حتى ينتهي التسلسل الصاعد إلى المعارف العقلية الأولية التي لم تنشأ عن معارف سابقة، وتعتبر لهذا السبب العلل الأولى للمعرفة.
وهذه العلل الأولى للمعرفة على نحوين: أحدهما ما كان شرطا أساسيا لكل معرفة انسانية بصورة عامة. والآخر ما كان سببا لقسم من المعلومات. والأول هو مبدأ عدم التناقض، فان هذا المبدأ لازم لكل معرفة وبدونه لا يمكن التأكد من أن قضية ما ليست كاذبة مهما أقمنا من الأدلة على صدقها وصحتها، لأن التناقض إذا كان جائزا فمن المحتمل أن تكون القضية كاذبة في نفس الوقت الذي نبرهن فيه على صدقها، ومعنى ذلك أن سقوط مبدأ عدم التناقض يعصف بجميع قضايا الفلسفة والعلوم على اختلاف ألوانها. والنحو الثاني من المعارف الأولية هو سائر المعارف الضرورية الأخرى التي تكون كل واحدة منها سببا لطائفة من المعلومات.
وبناء على المذهب العقلي يترتب ما يأتي:
أولا: أن المقياس الأول للتفكير البشري بصورة عامة هو المعارف العقلية الضرورية، فهي الركيزة الأساسية التي لا يستغنى عنها في كل مجال، ويجب أن تقاس صحة كل فكرة وخطأها على ضوئها. ويصبح بموجب ذلك ميدان المعرفة البشرية أوسع من حدود الحس والتجربة، لأنه يجهز الفكر البشري بطاقات تتناول ما وراء المادة من حقائق وقضايا ويحقق للميتافيزيقا والفلسفة العالية امكان المعرفة. وعلى عكس ذلك المذهب التجريبي فإنه يبعد مسائل الميتافيزيقا عن مجال البحث لأنها مسائل لا تخضع للتجربة ولا يمتد إليها الحس العلمي، فلا يمكن التأكد فيها من نفي أو اثبات ما دامت التجربة هي المقياس الأساسي الوحيد، كما يزعم المذهب التجريبي.
65

وثانيا: ان السير الفكري في رأي العقليين يتدرج من القضايا العامة إلى قضايا أخص منها، من الكليات إلى الجزئيات، وحتى في المجال التجريبي الذي يبدو لأول وهلة أن الذهن ينتقل فيه من موضوعات تجريبية جزئية إلى قواعد وقوانين عامة يكون الانتقال والسير فيه من العام إلى الخاص - كما سنوضح ذلك عند الرد على المذهب التجريبي.
ولا بد انك تتذكر ما ذكرنا مثالا لعملية التفكير وكيف انتقلنا فيه من معرفة عامة إلى معرفة خاصة، واكتسبنا العلم بأن (المادة حادثة) من العلم بأن (كل متغير حادث)، فقد بدأ الفكر بهذه القضية الكلية (كل متغير حادث) وانطلق منها إلى قضية أخص منها وهي (أن المادة حادثة). وأخيرا يجب أن ننبه على أن المذهب العقلي لا يتجاهل دور التجربة الجبار في العلوم والمعارف البشرية وما قدمته من خدمات ضخمة للانسانية وما كشفت عنه من اسرار الكون وغوامض الطبيعة، ولكنه يعتقد ان التجربة بمفردها لم تكن تستطيع أن تقوم بهذا الدور الجبار، لأنها تحتاج في استنتاج أية حقيقة علمية منها إلى تطبيق القوانين العقلية الضرورية - أي ان يتم ذلك الاستنتاج على ضوء المعارف الأولية، ولا يمكن أن تكون التجربة بذاتها المصدر الأساسي والمقياس الأول للمعرفة، فشأنها شأن الفحص الذي يجريه الطبيب على المريض، فان هذا الفحص هو الذي يتيح له أن يكشف عن حقيقة المرض وملابساته ولكن هذا الفحص لم يكن ليكشف عن هذا لولا ما يملكه الطبيب قبل ذلك من معلومات ومعارف، فلو لم تكن تلك المعلومات لديه لكان فحصه لغوا ومجردا عن كل فائدة، وهكذا التجربة البشرية بصورة عامة لا تشق الطريق إلى نتائج وحقائق الا على ضوء معلومات عقلية سابقة.
2 - المذهب التجريبي
وهو المذهب القائل أن التجربة هي المصدر الأول لجميع المعارف البشرية، ويستند في ذلك إلى أن الانسان حين يكون مجردا عن التجارب بمختلف ألوانها لا يعرف أية حقيقة من الحقائق مهما كانت واضحة، ولذا يولد
66

الانسان خاليا من كل معرفة فطرية، ويبدأ وعيه وادراكه بابتداء حياته العملية، ويتسع علمه كلما اتسعت تجاربه، وتتنوع معارفه كلما تنوعت تلك التجارب.
فالتجريبيون لا يعترفون بمعارف عقلية ضرورية سابقة على التجربة ويعتبرون التجربة الأساس الوحيد للحكم الصحيح والمقياس العام في كل مجال من المجالات، وحتى تلك الاحكام التي ادعى المذهب العقلي أنها معارف ضرورية لا بد من إخضاعها للمقياس التجريبي والاعتراف بها بمقدار ما تحدده التجربة، لأن الانسان لا يملك حكما يستغني عن التجربة في اثباته، وينشأ من ذلك.
أولا: تحديد طاقة الفكر البشري بحدود الميدان التجريبي ويصبح من العبث كل بحث ميتافيزيقي أو دراسة لمسائل ما وراء الطبيعة، على عكس المذهب العقلي تماما.
وثانيا: انطلاق السير الفكري للذهن البشري بصورة معاكسة لما يعتقده المذهب العقلي، فبينما كان المذهب العقلي يؤمن بأن الفكر يسير دائما من العام إلى الخاص يقرر التجريبيون انه يسير من الخاص إلى العام، ومن حدود التجربة الضيقة إلى القوانين والقواعد الكلية، ويترقى دائما من الحقيقة الجزئية التجريبية إلى المطلق، وليس ما يملكه الانسان من قوانين عامة وقواعد كلية الا حصيلة التجارب، ونتيجة هذا الارتقاء من استقراء الجزئيات إلى الكشف عن حقائق موضوعية عامة.
ولأجل ذلك يعتمد المذهب التجريبي على الطريقة الاستقرائية في الاستدلال والتفكير لأنها طريقة الصعود من الجزئي إلى الكلي، ويرفض مبدأ الاستدلال القياسي الذي يسير فيه الفكر من العام إلى الخاص كما في الشكل الآتي من القياس: (كل انسان فان ومحمد انسان) ف‍
(محمد فان). ويستند هذا الرفض إلى أن هذا الشكل من الاستدلال لا يؤدي إلى معرفة جديدة في النتيجة، مع أن أحد شروط الاستدلال هو أن يؤدي إلى نتيجة جديدة ليست محتواة في المقدمات، واذن فالقياس بصورته المذكورة يقع في مغالطة (المصادرة
67

على المطلوب)، لأننا إذا ما قبلنا المقدمة (كل انسان فان) فانا ندخل في الموضوع - انسان - كل أفراد الناس، وبعدئذ إذا ما عقبنا عليها بمقدمة ثانية (بأن محمدا
انسان) فاما أن نكون على وعي بأن محمدا كان فردا من أفراد الناس الذين قصدنا إليهم في المقدمة الأولى، وبذلك نكون على وعي كذلك بأنه (فان) قبل أن ننص على هذه الحقيقة في المقدمة الثانية، وأما أن لا نكون على وعي بذلك فنكون في المقدمة الأولى قد عممنا بغير حق لأنا لم نكن نعلم الفناء عن كل أفراد الناس كما زعمنا.
هذا عرض موجز للمذهب التجريبي الذي نجد أنفسنا مضطرين إلى رفضه للأسباب الآتية:
الأول: ان نفس هذه القاعدة (التجربة هي المقياس الأساسي لتمييز الحقيقة) هل هي معرفة أولية حصل عليها الانسان من دون تجربة سابقة؟ أو أنها بدورها أيضا كسائر المعارف البشرية ليست فطرية ولا ضرورية؟ فإذا كانت معرفة أولية سابقة على التجربة بطل المذهب التجريبي الذي لا يؤمن بالمعارف الأولية، وثبت وجود معلومات انسانية ضرورية بصورة مستقلة عن التجربة. وإذا كانت هذه المعرفة محتاجة إلى تجربة سابقة فمعنى ذلك انا لا ندرك في بداية الأمر ان التجربة مقياس منطقي مضمون الصدق، فكيف يمكن البرهنة على صحته واعتباره مقياسا بتجربة ما دامت غير مضمونة الصدق بعد؟
وبكلمة أخرى، ان القاعدة المذكورة التي هي ركيزة المذهب التجريبي ان كانت خطأ سقط المذهب التجريبي بانهيار قاعدته الرئيسية، وان كانت صوابا صح لنا ان نتساءل عن السبب الذي جعل التجريبيين يؤمنون بصواب هذه القاعدة، فان كانوا قد تأكدوا من صوابها بلا تجربة فهذا يعني انها قضية بديهية وان الانسان يملك حقائق وراء عالم التجربة، وان كانوا قد تأكدوا من صوابها بتجربة سابقة فهو أمر مستحيل لان التجربة لا تؤكد قيمة نفسها.
الثاني: ان المفهوم الفلسفي الذي يرتكز على المذهب التجريبي يعجز عن اثبات المادة، لان المادة لا يمكن الكشف عنها بالتجربة الخالصة بل كل ما يبدو
68

للحس في المجالات التجريبية انما هو ظواهر المادة وأعراضها وأما نفس المادة بالذات - الجوهر المادي الذي تعرضه تلك الظواهر والصفات - فهي لا تدرك بالحس، فالوردة التي نراها على الشجرة أو نلمسها بيدنا انما نحس برائحتها ولونها ونعومتها. وحتى إذا تذوقناها فإننا نحس بطعمها ولا نحس في جميع تلك الأحوال بالجوهر الذي تلتقي جميع هذه الظواهر عنده، وانما ندرك هذا الجوهر ببرهان عقلي يرتكز على المعارف العقلية الأولية - كما سنشير اليه في البحوث المقبلة - ولأجل ذلك أنكر عدة من الفلاسفة الحسيين التجريبيين وجود المادة. فالسند الوحيد لاثبات المادة هو معطيات العقل الأولية، ولولاها لما كان في طاقة الحس أن يثبت لنا وجود المادة وراء الرائحة الذكية واللون الأحمر والطعم الخاص للوردة.
وهكذا يتضح لنا أن الحقائق الميتافيزيقية ليست هي وحدها التي يحتاج اثباتها إلى اتخاذ الطريقة العقلية في التفكير بل المادة نفسها كذلك أيضا.
وهذا الاعتراض انما نسجله بطبيعة الحال من يؤمن بوجود جوهر مادي في الطبيعة على أسس المذهب التجريبي، وأما من يفسر الطبيعة بمجرد ظواهر تحدث وتتغير دون ان يعترف لها بموضوع تلتقي عنده..
فلا صلة له بهذا الاعتراض.
الثالث:
ان الفكر لو كان محبوسا في حدود التجربة ولم يكن يملك معارف مستقلة عنها لما أتيح له أن يحكم باستحالة شيء من الأشياء مطلقا، لأن الاستحالة - بمعنى عدم امكان وجود الشيء - ليس مما يدخل في نطاق التجربة ولا يمكن للتجربة ان تكشف عنه، وقصارى ما يتاح للتجربة أن تدلل عليه هو عدم وجود أشياء معينة، ولكن عدم وجود شيء لا يعني استحالته، فهناك عدة أشياء لم تكشف التجربة عن وجودها بل دلت على عدمها في نطاقها الخاص، ومع ذلك فنحن لا نعتبرها مستحيلة ولا نسلب عنها امكان الوجود كما نسلبه عن الأشياء المستحيلة، فكم يبدو الفرق جليا بين اصطدام القمر بالأرض أو وجود بشر في المريخ أو وجود انسان يتمكن من الطيران لمرونة خاصة في عضلاته من ناحية، وبين وجود مثلث له أربعة أضلاع ووجود جزء
69

أكبر من الكل ووجود القمر حال انعدامه من ناحية أخرى. فان هذه القضايا جميعا لم تتحقق ولم تقم عليها تجربة. فلو كانت التجربة هي المصدر الرئيسي الوحيد للمعارف لما صح لنا أن نفرق بين الطائفتين لأن كلمة التجربة فيهما معا على حد سواء، وبالرغم من ذلك فنحن جميعا نجد الفرق الواضح بين الطائفتين، فالطائفة الأولى لم تقع ولكنها جائزة ذاتيا، وأما الطائفة الثانية فهي ليست معدومة فحسب بل لا يمكن ان توجد مطلقا، فالمثلث لا يمكن أن يكون له أضلاع أربعة سواء اصطدم القمر بالأرض أم لا.
وهذا الحكم بالاستحالة لا يمكن تفسيره الا على ضوء المذهب العقلي بأن يكون من المعارف العقلية المستقلة عن التجربة.
وعلى هذا الضوء يكون التجريبيون بين سبيلين لا ثالث لهما: فاما ان يعترفوا باستحالة أشياء معينة كالأشياء التي عرضناها في الطائفة الثانية واما أن ينكروا مفهوم الاستحالة من الأشياء جميعا.
فان آمنوا باستحالة أشياء كالتي المحنا إليها كان هذا الايمان مستندا إلى معرفة عقلية مستقلة لا إلى التجربة، لأن عدم ظهور شيء في التجربة لا يعني استحالته.
وان أنكروا مفهوم الاستحالة ولم يقروا باستحالة شيء مهما كان غريبا لدى العقل فلا يبقى على أساس هذا الانكار فرق بين الطائفتين اللتين عرضناهما وأدركنا ضرورة التفرقة بينهما، وإذا سقط مفهوم الاستحالة لم يكن التناقض مستحيلا - أي وجود الشيء وعدمه، وصدق القضية وكذبها في لحظة واحدة - وجواز التناقض يؤدي إلى انهيار جميع المعارف والعلوم وعدم تمكن التجربة من إزاحة الشك والتردد في أي مجال من المجالات العلمية، لأن التجارب والأدلة مهما تضافرت على صدق قضية علمية معينة كقضية (الذهب عنصر بسيط)، فلا يمكننا أن نجزم بأنها ليست كاذبة ما دام من الممكن ان تتناقض الأشياء وتصدق القضايا وتكذب في وقت معا.
الرابع: ان مبدأ العلية لا يمكن اثباته عن طريق المذهب التجريبي فكما ان النظرية الحسية كانت عاجزة عن اعطاء تعليل صحيح للعلية كفكرة
70

تصورية كذلك المذهب التجريبي يعجز عن البرهنة عليها بصفتها مبدأ وفكرة تصديقية. فان التجربة لا يمكنها ان توضح لنا الا التعاقب بين ظواهر معينة، فنعرف عن طريقها ان الماء يغلي إذا صار حارا بدرجة مائة. وانه يتجمد حين تنخفض درجة حرارته إلى الصفر، واما سببية احدى الظاهرتين للأخرى والضرورة القائمة بينهما فهي مما لا تكشفها وسائل التجربة مهما كانت دقيقة ومهما كررنا استعمالها. وإذا انهار مبدأ العلية انهارت جميع العلوم الطبيعية كما ستعرف.
وقد اعترف بعض التجريبيين ك‍ (دافيد هيوم) و (جون ستيوارت
ميل) بهذه الحقيقة، ولذلك فسر (هيوم) عنصر الضرورة في قانون العلة والمعلول بأنه راجع إلى طبيعة العملية العقلية التي تستخدم في الوصول إلى هذا القانون قائلا: ان احدى عمليات العقل إذا كانت تستدعي دائما عملية أخرى تتبعها بدون تخلف فإنه ينمو بين العمليتين بمضي الزمن رابطة قوية دائمة هي التي نسميها رابطة تداعي المعاني، ويصحب هذا التداعي نوع من الالزام العقلي بحيث يحصل في الذهن المعنى المتصل بإحدى العمليتين العقليتين كما حدث المعنى المتصل بالعملية الأخرى، وهذا الالزام العقلي أساس ما نسميه بالضرورة التي ندركها في الرابطة بين العلة والمعلول.
وليس من شك في أن هذا التفسير للضرورة القائمة بين العلة والمعلول ليس صحيحا لما يأتي:
أولا: انه يلزم على هذا التفسير أن لا نصل إلى قانون العلية العام الا بعد سلسلة من الحوادث والتجارب المتكررة التي تحكم الرباط بين فكرتي العلة والمعلول في الذهن، مع انه ليس من الضروري ذلك، فان العالم الطبيعي يستطيع ان يستنتج علاقة علية وضرورة بين شيئين يقعان في حادثة واحدة، ولا يزداد يقينه شيئا عما كان عليه عند مشاهدته الحادثة للمرة الأولى، كما لا تزداد علاقة العلية قوة بتكرار حوادث أخرى يوجد فيها المعلول والعلة نفسها.
ثانيا: لندع الظاهرتين المتعاقبتين في الخارج ولنلاحظ فكرتيهما في الذهن - أي فكرة العلة وفكرة المعلول - فهل العلاقة القائمة بينهما علاقة
71

ضرورية أو علاقة مقارنة كما يقترن تصورنا للحديد بتصورنا للسوق الذي يباع فيه؟ فان كانت علاقة ضرورية فقد ثبت مبدأ العلية واعترف ضمنا بقيام علاقة غير تجريبية بين فكرتين وهي علاقة الضرورة، فان الضرورة سواء أكانت بين فكرتين أم بين واقعين موضوعيين لا يمكن اثباتها بالتجربة الحسية. وان كانت العلاقة مجرد مقارنة فلم يتحقق ل‍ (دافيد) ما أراد من تفسير عنصر الضرورة في قانون العلة والمعلول.
وثالثا: ان الضرورة التي ندركها في علاقة العلية بين علة ومعلول ليس فيها مطلقا أي أثر لالزام العقل باستدعاء احدى الفكرتين عند حصول الفكرة الأخرى فيه، ولذا لا تختلف هذه الضرورة التي ندركها بين العلة والمعلول بين ما إذا كانت لدينا فكرة معينة عن الصلة وما إذا لم تكن، فليست الضرورة في مبدأ العلية ضرورة سيكولوجية بل هي ضرورة موضوعية.
ورابعا: ان العلة والمعلول قد يكونان مقترنين تماما ومع ذلك ندرك علية أحدهما للآخر، كحركة اليد وحركة القلم حال الكتابة، فان حركة اليد وحركة القلم توجدان دائما في وقت واحد، فلو كان مرد الضرورة والعلية إلى استتباع احدى العمليتين العقليتين للأخرى بالتداعي لما أمكن في هذا المثال أن تحتل حركة اليد مركز العلة حركة القلم، لأن العقل قد أدرك الحركتين في وقت واحد فلماذا وضع إحداهما موضع العلة والأخرى موضع المعلول؟
وبكلمة أخرى: ان تفسير العلية بضرورة سيكولوجية يعني أن العلة انما اعتبرت علة لا لأنها في الواقع الموضوعي سابقة على المعلول ومولدة له، بل لأن ادراكها يتعقبه دائما ادراك المعلول بتداعي المعاني فتكون لذلك علة له، وهذا التفسير لا يمكنه أن يشرح لنا كيف صارت حركة اليد علة لحركة القلم مع أن حركة القلم لا تجيء عقب حركة اليد في الادراك، وانما تدرك الحركتان معا فلو لم يكن لحركة اليد سبق واقعي وسببية موضوعية لحركة القلم لما أمكن اعتبارها علة.
وخامسا: ان التداعي كثيرا ما يحصل بين شيئين دون الاعتقاد بعلية أحدهما للآخر، فلو صح ل‍ (دافيد هيوم) ان يفسر العلة والمعلول بأنهما حادثان
72

ندرك تعاقبهما كثيرا حتى تحصل بينهما رابطة تداعي المعاني في الذهن لكان الليل والنهار من هذا القبيل. فكما أن الحرارة والغليان حادثان تعاقبا حتى نشأت بينهما رابطة التداعي كذلك الليل والنهار وتعاقبهما وتداعيهما، مع أن عنصر العلية والضرورة الذي ندركه بين الحرارة والغليان ليس موجودا بين الليل والنهار، فليس الليل علة للنهار ولا النهار علة لليل، فلا يمكن اذن تفسير هذا العنصر بمجرد التعاقب المتكرر والمؤدي إلى تداعي المعاني كما حاوله (هيوم).
ونخلص من ذلك إلى أن المذهب التجريبي يؤدي حتما إلى اسقاط مبدأ العلية، والعجز عن اثبات علاقات ضرورية بين الأشياء، وإذا سقط مبدأ العلية انهارت جميع العلوم الطبيعية باعتبار ارتكازها عليه كما ستعرف.
ان العلوم الطبيعية التي يريد التجريبيون اقامتها على أساس التجربة الخالصة هي بنفسها تحتاج إلى أصول عقلية أولية سابقة على التجارب. ذلك أن التجربة انما يقوم العالم بها في مختبره على جزئيات موضوعية محدودة، فيضع نظرية لتفسير الظواهر التي كشفتها التجربة في المختبر وتعليلها بسبب واحد مشترك، كالنظرية القائلة بأن سبب الحرارة هو الحركة استنادا إلى عدة تجارب فسرت بذلك، ومن حقنا على العالم الطبيعي أن نسأله عن كيفية اعطائه للنظرية بصفة قانون كلي ينطبق على جميع الظروف المماثلة لظروف التجربة، مع أن التجربة لم تقع الا على عدة أشياء خاصة، أفليس هذا التعميم يستند إلى قاعدة وهي أن الظروف المتماثلة والأشياء المتشابهة في النوع والحقيقة يجب أن تشترك في القوانين والنواميس؟ وهنا نتساءل مرة أخرى عن هذه القاعدة، كيف توصل إليها العقل؟ ولا يمكن للتجريبيين هنا أن يزعموا انها قاعدة تجريبية بل يجب أن تكون من المعارف العقلية السابقة على التجربة، لأنها لو كانت مستندة إلى تجربة فهذه التجربة التي ترتكز عليها القاعدة هي أيضا لا تتناول بدورها الا موارد خاصة، فكيف ركزت على أساسها قاعدة عامة؟! فبناء قاعدة عامة وقانون كلي على ضوء تجربة واحدة أو عدة تجارب لا يمكن ان يتم الا بعد التسليم بمعارف عقلية سابقة.
73

وبهذا يتضح ان جميع النظريات التجريبية في العلوم الطبيعية ترتكز على عدة معارف عقلية لا تخضع للتجربة. بل يؤمن العقل بها ايمانا مباشرا وهي:
أولا: مبدأ العلية بمعنى امتناع الصدفة، ذلك أن الصدفة لو كانت جائزة لما أمكن للعالم الطبيعي ان يصل إلى تعليل مشترك للظواهر المتعددة التي ظهرت في تجاربه.
ثانيا: مبدأ الانسجام بين العلة والمعلول الذي يقرر ان الأمور المتماثلة في الحقيقة لابد أن تكون مستندة إلى علة مشتركة.
ثالثا: مبدأ عدم التناقض الحاكم باستحالة صدق النفي والاثبات معا.
فإذا آمن العالم بهذه المعارف السابقة على التجربة ثم اجرى تجاربه المختلفة على أنواع الحرارة واقسامها، استطاع ان يقرر في نهاية المطاف نظرية في تعليل الحرارة بمختلف أنواعها بعلة واحدة كالحركة - مثلا - وهذه النظرية لا يمكن في الغالب تقريرها بشكل حاسم وصورة قطعية، لأنها انما تكون كذلك إذا أمكن التأكد من عدم امكان وجود تفسير آخر لتلك الظواهر وعدم صحة تعليلها بعلة أخرى. وهذا ما لا تحققه التجربة في أغلب الأحيان، ولهذا تكون نتائج العلوم الطبيعية ظنية في أكثر الأحايين، لأجل نقص في التجربة وعدم استكمال الشرائط التي تجعل منها تجربة حاسمة.
ويتضح لنا على ضوء ما سبق ان استنتاج نتيجة علمية من التجربة يتوقف دائما على الاستدلال القياسي، الذي يسير فيه الذهن البشري من العام إلى الخاص، ومن الكلي إلى الجزئي كما يرى المذهب العقلي تماما فان العالم تم له استنتاج النتيجة في المثال الذي ذكرناه بالسير من المبادئ الأولية الثلاثة التي عرضنا (مبدأ العلية) (مبدأ الانسجام) (مبدأ عدم التناقض). إلى تلك النتيجة الخاصة على طريقة القياس.
وأما الاعتراض الذي يوجهه التجريبيون إلى الطريقة القياسية في الاستدلال بان النتيجة فيها ليست الا صدى للكبرى من المقدمتين وتكريرا لها، فهو اعتراض ساقط على أصول المذهب العقلي، لان الكبرى لو كنا نريد
74

اثباتها بالتجربة ولم يكن لنا مقياس غيرها لكان علينا ان نفحص جميع الاقسام والأنواع لنتأكد من صحة الحكم، وتكون النتيجة حينئذ قد درست في الكبرى بذاتها أيضا، وأما إذا كانت الكبرى من المعارف العقلية التي ندركها بلا حاجة إلى التجربة: كالأوليات البديهية والنظريات العقلية المستنبطة منها، فلا يحتاج المستدل لاثبات الكبرى إلى فحص الجزئيات حتى يلزم من ذلك أن تتخذ النتيجة صفة التكرار والاجترار (1).
ومن أخرى نؤكد على أننا لا ننكر على التجربة فضلها العظيم على الانسانية ومدى خدمتها في ميادين العلم، وانما نريد ان يفهم هؤلاء التجريبيون أن التجربة ليست هي المقياس الأول والمنبع الأساسي للأفكار والمعارف الانسانية، بل المقياس الأول والمنبع الأساسي هو المعلومات الأولية العقلية التي نكتسب على ضوئها جميع المعلومات والحقائق الأخرى، حتى ان التجربة بذاتها محتاجة إلى ذلك المقياس العقلي، فنحن والآخرون على حد سواء على ضرورة الاعتراف بذلك المقياس الذي ترتكز عليه أسس فلسفتنا

(1) ومن الغريب حقا ما حاوله الدكتور زكي نجيب محمود. من تركيز الاعتراض السابق الذكر على الاستدلال القياسي كما في قولنا: ((كل انسان فان ومحمد انسان فمحمد فان)) قائلا: ((قد تقول ولكن حين أعمم في المقدمة الأولى لا أريد الناس فردا فردا لان إحصاءهم على هذا النحو مستحيل، انما أريد النوع بصفة عامة، ولكن إذا كان أمرك كذلك فكيف استطعت ان تخصص الحكم على محمد، ان محمدا ليس هو النوع بصفة عامة انما هو فرد متعين متخصص، فحكمك عليه بما حكمت به على النوع بصفة عامة هو في حقيقة الامر قياس باطل)) المنطق الوضعي ص 250.
وهذا خليط عجيب بين المعقول الأول والمعقول الثاني في مصطلح المنطقيين. فان الحكم على النوع بصفة عامة يعني أحد أمرين: أولهما أن يكون الحكم على الانسان باعتبار صفة العموم والنوعية فيه، ومن الواضح ان هذا الحكم لا يمكن ان يخصص على محمد لان محمدا ليس فيه صفة العموم والنوعية. وثانيهما: ان يكون الحكم على ذات الانسان من دون إضافة أي تخصيص اليه. وهذا الحكم يمكن ان نطبقه على محمد لان محمدا انسان، فالحد الأوسط له معنى واحد تكرر في الصغرى والكبرى معا فيكون القياس منتجا.
75

الإلهية، وإذا حاول التجريبيون بعد ذلك أن ينكروا ذلك المقياس ليبطلوا علينا فلسفتنا. فهم ينسفون بذلك الأسس التي تقوم عليها العلوم الطبيعية ولا تثمر بدونها التجارب الحسية شيئا.
وفي ضوء المذهب العقلي نستطيع ان نفسر صفة الضرورة واليقين المطلق التي تمتاز بها الرياضيات على قضايا العلم الطبيعي، فان مرد هذا الامتياز إلى ان القوانين والحقائق الرياضية الضرورية تستند إلى مبادئ العقل الأولي ولا تتوقف على مستكشفات التجربة وعلى العكس من ذلك قضايا العلم فان تمدد الحديد بالحرارة ليس من المعطيات المباشرة لتلك المبادئ وانما يرتكز على معطيات التجربة، فالطابع العقلي الصارم هو سر الضرورة واليقين المطلق في تلك الحقائق الرياضية.
وأما إذا درسنا الفارق بين الرياضيات والطبيعيات في ضوء المذهب التجريبي فسوف لن نجد مبررا حاسما لهذا الفرق ما دامت التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة العلمية في كلا الميدانين.
وقد حاول بعض أنصار المذهب التجريبي تفسير الفرق على أساسه المذهبي عن طريق القول بأن قضايا الرياضيات تحليلية ليس من شأنها ان تأتي بجديد، فعندما نقول 2 + 2 = 4 لم نتحدث بشيء جديد لنفحص درجة يقيننا به فان الأربعة هي نفسها تعبير آخر عن 2 + 2 فالعملية الرياضية الآنفة الذكر في تعبير صريح ليست الا أن أربعة تساوي أربعة وكل قضايا الرياضيات امتداد لهذا التحليل ولكنه امتداد يتفاوت في درجة تعقيده، وأما العلوم الطبيعية فليست كذلك لان قضاياها تركيبية أي أن المحمول فيها يضيف إلى الموضوع علما جديدا أي ينبئ بجديد على أساس التجربة، فإذا قلت ان الماء يغلي تحت ضغط كذا عندما تصبح درجة حرارته مائة مثلا فاني أفيد علما لان كلمة ماء لا تتضمن كلمة حرارة وضغط وغليان ولأجل ذلك كانت القضية العلمية عرضة للخطأ والصواب.
ولكن من حقنا أن نلاحظ على هذه المحاولة لتبرير الفرق بين الرياضيات والطبيعيات، أن اعتبار القضايا الرياضية تحليلية لا يفسر الفرق على أساس
76

المذهب التجريبي فهب أن 2 + 2 = 4 تعبير آخر عن قولنا أربعة هي أربعة فان هذا يعني أن هذه القضية الرياضية تتوقف على التسليم بمبدأ عدم التناقض والا فقد لا تكون الأربعة هي نفسها إذا كان التناقض ممكنا، وهذا المبدأ ليس في رأي المذهب التجريبي عقليا ضروريا لأنه ينكر كل معرفة قبلية وانما هو مستمد من التجربة كالمبادئ التي تقوم على أساسها القضايا العلمية في الطبيعيات، وهكذا تبقى المشكلة دون حل إذا ما دامت الرياضيات والعلوم الطبيعية تتوقف جميعا على مبادئ تجريبية فلماذا تمتاز قضايا الرياضيات على غيرها باليقين الضروري المطلق؟
وبعد فلسنا نقر بأن قضايا الرياضيات كلها تحليلية وامتداد لمبدأ أن أربعة هي أربعة. وكيف تكون الحقيقة القائلة أن القطر اقصر دائما من المحيط قضية تحليلية فهل كان القصر أو المحيط مندمجا في معنى القطر وهل هي تعبير آخر عن القول بأن القطر هو قطر.
ونخلص من هذه الدراسة إلى ان المذهب العقلي هو وحده المذهب الذي يستطيع ان يحل مشكلة تعليل المعرفة ويضع لها مقاييسها ومبادئها الأولية.
ولكن بقي علينا ان ندرس من المذهب العقلي نقطة واحدة وهي: أن المعلومات الأولية إذا كانت عقلية وضرورية، فكيف يمكن ان يفسر عدم وجودها مع الانسان منذ البداية وحصوله عليها في مرحلة متأخرة عن ولادته؟ وبكلمة أخرى ان تلك المعلومات إذا كانت ذاتية للانسان فيجب ان توجد بوجوده ويستحيل ان يخلو منها لحظة من حياته، وإذا لم تكن ذاتية لزم ان يوجد لها سبب خارجي لها وهو التجربة، وهذا ما لا يوافق عليه العقليون.
والواقع ان العقليين حين يقررون ان تلك المبادئ ضرورية في العقل البشري يعنون بذلك ان الذهن إذا تصور المعاني التي تربط بينها تلك المبادئ فهو يستنبط المبدأ الأول دون حاجة إلى سبب خارجي. ولنأخذ
مبدأ عدم التناقض مثالا، ان هذا المبدأ - الذي يعني الحكم التصديقي بأن وجود الشيء وعدمه لا يجتمعان - ليس موجودا عند الانسان في لحظة وجوده الأولي، لأنه يتوقف على تصور الوجود، وتصور العدم، وتصور الاجتماع. وبدون تصور
77

هذه الأمور لا يمكن التصديق بأن الوجود والعدم لا يجتمعان. فان تصديق الانسان بشيء لم يتصوره أمر غير معقول. وقد عرفنا عند محاولة تعليل التصورات الذهنية انها ترجع جميعا إلى الحس وتنبثق عنه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فيجب أن يكتسب الانسان مجموعة التصورات التي يتوقف عليها مبدأ عدم التناقض عن طريق الحس ليتاح له أن يحكم بهذا المبدأ ويصدق به، فتأخر ظهور هذا المبدأ في الذهن البشري لا يعني انه ليس ضروريا وليس منبثقا عن صميم النفس الانسانية بلا حاجة إلى سبب خارجي، بل هو ضروري ونابع عن النفس بصورة مستقلة عن التجربة، ولكن التصورات الخاصة شرائط وجوده وصدوره عن النفس، وإذا شئت فقس النفس والمبادئ الأولية بالنار واحراقها. فكما ان احراق النار فعالية ذاتية للنار ومع ذلك لا توجد هذه الفعالية الا في ظل شروط، أي في ظرف ملاقاة النار لجسم يابس، كذلك الاحكام الأولية فإنها فعاليات ضرورية وذاتية للنفس في الظروف التي تكتمل عندها التصورات اللازمة.
وإذا أردنا ان نتكلم على مستوى ارفع قلنا ان المعارف الأولية وان كانت تحصل للانسان بالتدريج، الا أن هذا التدريج ليس معناه انها حصلت بسبب التجارب الخارجية، لأننا برهنا على ان التجارب الخارجية لا يمكن ان تكون المصدر الأساسي للمعرفة، بل التدرج انما هو باعتبار الحركة الجوهرية والتطور في النفس الانسانية، فهذا التطور والتكامل الجوهري هو الذي يجعلها تزداد كمالا ووعيا للمعلومات الأولية والمبادئ الأساسية فيفتح ما كمن فيها من طاقات وقوى.
وهكذا يتضح ان الاعتراض على المذهب العقلي بأنه: لماذا لم توجد المعلومات الأولية مع الانسان حين ولادته ينبني على عدم الاعتراف بالوجود بالقوة، وباللاشعور الذي تدل عليه الذاكرة بكل وضوح، واذن فالنفس الانسانية بذاتها تنطوي بالقوة على تلك المعارف الأولية، وبالحركة الجوهرية يزداد وجودها شدة، حتى تصبح تلك المدركات بالقوة مدركات بالفعل.
78

* الماركسية والتجربة
ان المذهب التجريبي الذي عرضناه سابقا يطلق على رأيين في مسألة المعرفة. أحدهما الرأي القائل بأن المعرفة كلها تتوفر في المرحلة الأولى أي مرحلة الاحساس والتجارب البسيطة. والآخر الرأي القائل بأن للمعرفة خطوتين: الخطوة الحسية والخطوة العقلية، أو التطبيق والنظرية، أو مرحلة التجربة ومرحلة المفهوم والاستنتاج. فنقطة الانطلاق للمعرفة هي الحس والتجربة، والدرجة العالية لها هي تكوين مفهوم علمي ونظرية تعكس الواقع التجريبي بعمق ودقة.
وهذا الرأي الثاني هو الرأي الذي اتخذته الماركسية في مسألة المعرفة، ولكنها لاحظت ان هذا الرأي سوف ينتهي بها بصورته الظاهرة إلى المذهب العقلي، لأنه يفرض ميدانا ومجالا للمعرفة الانسانية خارج حدود التجربة البسيطة فوضعته على أساس وحدة النظرية والتطبيق. وعدم امكان فصل أحدهما عن الآخر، وبذلك احتفظت للتجربة بمقامها في المذهب التجريبي، واعتبارها المقياس العام للمعارف البشرية.
قال ماوتسي تونغ:
((الخطوة الأولى في عملية اكتساب المعرفة هي الاتصال الأولي بالمحيط الخارجي - مرحلة الأحاسيس - الخطوة الثانية هي جمع المعلومات التي نحصل عليها من الادراكات الحسية وتنسيقها وترتيبها - مرحلة المفاهيم والاحكام والاستنتاجات -، وبالحصول على معلومات كافية كاملة من الادراكات الحسية (لا جزئية أو ناقصة)، ومطابقة هذه المعلومات للوضع الحقيقي (لا مفاهيم خاطئة) عند هذا فقد يصبح في المستطاع ان نصوغ على أساس هذه المعلومات مفهوما ومنطقا صحيحين)) (1)

(1) حول التطبيق ص 14.
79

وقال أيضا:
((ان استمرار التطبيق الاجتماعي يؤدي إلى ان تتكرر مرات متضاعفة في تطبيق الناس أشياء يحسونها وتخلق فيهم انطباعا، وعندها يحدث تغير مفاجئ (طفرة) في العقل البشري خلال عملية اكتساب المعرفة فينتج عند ذلك مفاهيم)) (1).
واليكم هذا النص الذي تؤكد فيه الماركسية على أن النظرية لا يمكن ان تنفصل عن التطبيق أي وحدة النظرية والتطبيق:
((فمن المهم اذن ان نفهم معنى وحدة النظرية والتطبيق...
ومعنى ذلك ان من يهمل النظرية يقع في فلسفة الممارسة فيسلك كما يسلك الأعمى ويتخبط في الظلام، أما ذلك الذي يهمل التطبيق فيقع في الجمود المذهبي ويتحول إلى صاحب مذهب لا أكثر، وصاحب تدليلات عقلية جوفاء) (2).
وبهذا أكدت المارسكية موقفا التجريبي، وان التجربة هي المقياس الذي يجب أن يطبق على كل معرفة ونظرية، ولا توجد معرفة بصورة منفصلة عنه كما صرح بذلك
ماوتسي تونغ فيما يلي:
((ان نظرية المعرفة في المادية الديالكتيكية تضع التطبيق في المقام الأول، فهي ترى ان اكتساب الناس للمعرفة يجب ان لا يفصل بأية درجة كانت عن التطبيق، وتشن نضالا ضد كل النظريات الخاطئة التي تنكر أهمية التطبيق أو تسمح بانفصال المعرفة عن التطبيق)) (3).
ان الماركسية كما يبدو تعترف بوجود مرحلتين للمعرفة البشرية، ومع ذلك

(1) حول التطبيق ص 6.
(2) المادية والمثالية في الفلسفة ص 114.
(3) حول التطبيق ص 4.
80

فإنها لا تريد ان تسلم بوجود معرفة منفصلة عن التجربة، وهذا هو التناقض الأساسي الذي تقوم عليه نظرية المعرفة في المادية الديالكتيكية، ذلك ان العقل لو لم يكن لديه معارف ثابتة بصورة مستقلة عن التجربة لم يستطع ان يضع النظرية على ضوء الادراكات الحسية، وان يكون مفهوما للمعطيات التجريبية. فان استنتاج مفهوم خاص من الظواهر المحسوسة بالتجربة انما يتاح للانسان إذا كان يعرف على الأقل ان ظواهر كهذه تقتضي بطبيعتها مفهوما كذاك، فيركز استنتاجه لنظريته الخاصة على ذلك.
ولأجل ان يتضح هذا يجب أن نعرف ان التجربة، كما تعترف
الماركسية، تعكس ظواهر الأشياء، ولا تكشف عن جوهرها وقوانينها الداخلية التي تهيمن على تلك الظواهر وتنسقها، ومهما كررنا التجربة وأعدنا التطبيق العملي فسوف لا نحصل - على أفضل تقدير - الا على اعداد جديدة من الظواهر السطحية المنفصلة. ومن الواضح ان هذه الادراكات الحسية التي نستحصلها بالتجربة لا تقتضي بذاتها تكوين مفهوم عقلي خاص عن الشيء الخارجي، لأن هذه الادراكات الحسية التي هي الخطوة الأولى من المعرفة قد يشترك فيها افراد عديدون ولا ينتهون جميعا إلى نظرية موحدة ومفهوم واحد عن جوهر الشيء وقوانينه الواقعية، فنعرف من ذلك ان الخطوة الأولى من المعرفة ليست كافية بمفردها لتكوين نظرية أي لنقل الانسان بصورة طبيعية أو ديالكتيكية إلى الخطوة الثانية للمعرفة الحقيقية. فما هو الشيء الذي يجعلنا ننتقل من الخطوة الأولى إلى الخطوة الثانية؟
ان ذلك الشيء هو معارفنا العقلية المستقلة عن التجربة التي يرتكز على أساسها المذهب العقلي، فان تلك المعارف هي التي تتيح لنا ان نعرض عدة من النظريات والمفاهيم ونلاحظ مدى انسجام الظواهر المنعكسة في تجاربنا وحواسنا معها، فنستبعد كل مفهوم لا يتفق مع تلك الظواهر حتى نحصل على المفهوم الذي ينسجم مع الظواهر المحسوسة والتجريبية بحكم المعارف العقلية الأولية، فنضعه كنظرية تفسر جوهر الشيء وقوانينه الحاكمة فيه.
وإذا استبعدنا من أول الأمر المعارف العقلية المستقلة عن التجربة فسوف
81

يتعذر علينا نهائيا ان نتخطى دور الاحساس إلى دور النظرية والاستنتاج، أو أن نتأكد من صحة النظرية والاستنتاج بالرجوع إلى التطبيق وتكرار التجربة.
ونخلص من ذلك إلى ان التفسير الوحيد للخطوة الثانية من المعرفة - الحكم والاستنتاج - هو ما ارتكز عليه المذهب العقلي من القول بأن عدة من قوانين العالم العامة يعرفها الانسان معرفة مستقلة عن التجربة، كمبدأ عدم التناقض، ومبدأ العلية، ومبدأ التناسب بين العلة والمعلول وما إلى ذلك من مبادئ عامة، وحين تقدم له التجربة العلمية ظواهر الطبيعة وتعكسها في احساسه يطبق عليها المبادئ العامة ويحدد مفهومه العلمي عن واقع الشيء وجوهره على ضوء تلك المبادئ، بمعنى انه يستكشف ما وراء الظواهر التجريبية ويتخطى إلى حقائق أعمق بالمقدار الذي يتطلبه تطبيق المبادئ العامة ويكشف عنه، وتضاف هذه الحقائق الأعمق إلى معلوماته السابقة ويكون بذلك أكثر ثروة حينما يحاول ان يحل لغزا جديدا للطبيعة في مجال تجريبي آخر، ولسنا نعني بهذا ان التطبيق والتجربة العلمية ليس لهما دور مهم في المعرفة البشرية للطبيعة وقوانينها. فان دورهما في ذلك لا شك فيه. وانما نريد ان نؤكد على استبعاد كل معرفة منفصلة عن التجربة ورفض المعارف العقلية بصورة عامة... يكون سببا لاستحالة تخطي المرحلة الأولى من الادراك، أي مرحلة الحس والتجربة.
* التجربة والكيان الفلسفي
ولا يقف هذا التناقض المستقطب بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي عند حدود نظرية المعرفة فحسب، بل يمتد اثره الخطير إلى الكيان الفلسفي كله لان مصير الفلسفة بوصفها كيانا أصيلا مستقلا عن العلوم الطبيعية والتجريبية مرتبط إلى حد كبير بطريقة حل هذا التناقض بين المذهبين العقلي والتجريبي، فالبحث في المقياس العام للمعرفة البشرية والمبادئ الأولى لها هو الذي يقدم للفلسفة مبررات وجودها. أو يحكم عليها بالانسحاب والتخلي عن وظيفتها للعلوم الطبيعية.
82

وقد واجه الكيان الفلسفي هذه المحنة أو هذا الامتحان منذ نشأت الطريقة التجريبية وغزت الحقول العلمية بكفاءة ونشاط. واليكم قصة ذلك:
كانت الفلسفة قبل أن يسود الاتجاه التجريبي وفي مطلع فجرها تستوعب تقريبا كل المعارف البشرية المنظمة بشكل عام. فالرياضيات والطبيعيات تطرح على الصعيد الفلسفي كمسائل الميتافيزيقا تماما، وتتحمل الفلسفة بمعناها العام الشامل مسؤولية الكشف عن الحقائق العامة في كل مجالات الكون والوجود، وكانت أداة المعرفة التي تستخدمها الفلسفة في تلك الحقول جميعا هي القياس - الطريقة العقلية في التفكير أو السير الفكري من القضايا العامة إلى قضايا أخص منها.
وظلت الفلسفة تسيطر على الموقف الفكري للانسانية حتى بدأت التجربة تشق طريقها وتقوم بدورها في حقول كثيرة وهي تتدرج في المعرفة من الجزئيات إلى الكليات، من موضوعات التجربة إلى قوانين أعم وأشمل، فكان على الفلسفة ان تنكمش وتقتصر على مجالها الأصيل وتفسح المجال لمزاحمها - العلم - لينشط في سائر المجالات الأخرى وبذلك انفصلت العلوم عن الفلسفة وتحددت لكل منهما أداته الخاصة ومجاله الخاص. فالفلسفة تصطنع القياس أداة عقلية للتفكير، والعلم يستخدم الطريقة التجريبية ويتدرج من الجزئيات إلى قوانين أعلى، كما ان العلم - كل علم - يتناول شعبة من الوجود ونوعا خاصا له يمكن إخضاعه للتجربة فيبحث عن ظواهره وقوانينه في ضوء التجارب التي يمارسها. وأما الفلسفة فتتناول الوجود بصورة عامة دون تحديد أو تقييد وتبحث عن ظواهره وأحكامه التي لا تخضع للتجربة المباشرة.
فبينما يبحث العالم الطبيعي عن قانون تمدد الفلزات بالحرارة، والعالم الرياضي عن النسبة الرياضية بين قطر الدائرة ومحيطها، يدرس الفيلسوف ما إذا كان للوجود مبدأ
أول انبثق مه الكون كله، وما هو جوهر العلاقة بين العلة والمعلول، وهل يمكن ان يكون لكل سبب سبب إلى غير نهاية؟ وهل المحتوى الانساني مادي محض أو مزاج من المادية والروحية؟
واضح من أول نظرة ان محتوى الأسئلة التي يثيرها العالم يمكن إخضاعها
83

للتجربة ففي امكان التجربة ان تقدم الدليل على أن الفلزات تتمدد بالحرارة، وأن القطر مضروبا ب‍ 100 / 3. 14 يساوي محيط الدائرة. وعلى العكس من ذلك المحتوى المباشر للأسئلة الفلسفية فان المبدأ الأول وجوهر العلاقة بين العلة والمعلول، والتصاعد اللانهائي في الأسباب، والعنصر الروحي في الانسان أمور ميتافيزيقية لا يمتد إليها الحس التجريبي ولا يمكن تسليط الأضواء في المعمل عليها.
وهكذا قامت الثنائية بين الفلسفة والعلم على أساس اختلافهما في أداة التفكير وموضوعة، وقد بدت هذه الثنائية أو هذا التوزيع للأعمال الفكرية بين الفلسفة والعلم امرا مشروعا ومقبولا عند كثير من العقليين الذين يؤمنون بالطريقة العقلية في التفكير ويعترفون بوجود مبادئ ضرورية أولى للمعرفة البشرية. وأما أنصار المذهب التجريبي الذين آمنوا بالتجربة وحدها وكفروا بالطريقة العقلية في التفكير فقد كان من الطبيعي لهم أن يوجهوا هجوما عنيفا على الفلسفة بوصفها كيانا مستقلا عن العلم لأنهم لا يقرون كل معرفة ما لم ترتكز على التجربة وما دامت الموضوعات التي تعالجها الفلسفة خارجة عن حدود الخبرة والتجربة فلا أمل في الوصول إلى معرفة صحيحة فيها، فيجب على الفلسفة في رأي المذهب التجريبي ان تتخلى عن وظيفتها وتعترف بتواضع ان المجال الوحيد الذي يمكن للانسانية درسه انما هو مجال التجربة الذي تقاسمته العلوم ولم تدع للفلسفة منه شيئا.
وهكذا نعرف ان شرعية الكيان الفلسفي ترتبط بنظرية المعرفة وما تقرره من الايمان بالطريقة العقلية في التفكير أو رفضها.
وعلى هذا الأساس شجبت عدة من مدارس الفلسفة المادية المحدثة كيان الفلسفة المستقل القائم على أساس الطريقة العقلية في التفكير، وسمحت بقيام فلسفة ترتكز على أساس المحصول الفكري لمجموع العلوم والتجارب الحسية ولا تتميز عن العلم في طريقها وموضوعها، وتستخدم هذه الفلسفة العلمية للكشف عن العلاقات والروابط بين العلوم ولوضع نظريات علمية عامة تعتمد على حصيلة التجربة في مجموع الحقول العلمية كما ان لكل علم فلسفته
84

التي تقرر أساليب البحث العلمي في مجاله الخاص.
وفي طليعة تلك المدارس المادية الوضعية والماركسية.
* المدرسة الوضعية والفلسفة:
أما المدرسة الوضعية في الفلسفة فقد اختمرت بذرتها خلال القرن التاسع عشر الذي ساد فيه الاتجاه التجريبي فنشأت في ظله، ولذلك شنت هجوما عنيفا على الفلسفة بالتهم ومواضيعها الميتافيزيقية، ولم تكتف برمي الميتافيزيقا الفلسفية بالتهم التي يوجهها إليها أنصار المذهب التجريبي عادة، فلم تقتصر على القول بأن قضايا الفلسفة غير مجدية في الحياة العملية ولا يمكن اثباتها بالأسلوب العلمي بل أخذ الوضعيون يؤكدون انها ليست قضايا في العرف المنطقي بالرغم من اكتسابها شكل القضية في تركيبها اللفظي لأنها لا تحمل معنى اطلاقا وانما هي كلام فارغ ولغو من القول وما دامت كذلك فلا يمكن ان تكون موضوعا للبحث مهما كان لونه، لأن الكلام المفهوم هو الجدير بالبحث دون اللغو الفارغ والألفاظ الخاوية. أما لماذا كانت القضايا كلاما فارغا لا معنى له فهذا يتوقف على المقياس الذي وضعته المدرسة الوضعية للكلام المفهوم، فهي تقدر ان القضية لا تصبح كلاما مفهوما وبالتالي قضية مكتملة في العرف المنطقي الا إذا كانت صورة العالم تختلف في حال صدق القضية عنها في حال كذبها، فإذا قلت مثلا (البرد يشتد في الشتاء) تجد ان العالم الواقعي له صورة معينة ومعطيات حسية خاصة في حال صدق هذا الكلام وصورة ومعطيات أخرى في حال كذبه، ولأجل هذا كنا نستطيع ان نصف الظروف الواقعية التي نعرف فيها صدق الكلام أو كذبه ما دام هناك فرق في العالم الواقعي بين أن تصدق القضية وبين أن تكذب. ولكن خذ إليك العبارة الفلسفية التي تقول (ان لكل شيء جوهرا غير معطياته الحسية. فللتفاحة مثلا جوهر هو التفاحة في ذاتها فوق ما نحسه منها بالبصر واللمس والذوق) فإنك لن تجد فرقا في الواقع الخارجي بين ان تصدق هذه العبارة أو تكذب بدليل انك إذا تصورت التفاحة في حال وجود جوهر لها غير ما تدركه
85

منها بحواسك ثم تصورتها في حال عدم وجود هذا الجوهر لم تر فرقا في الصورتين لأنك سوف لن تجد في كلتا الصورتين الا المعطيات الحسية من اللون والرائحة والنعومة... وما دمنا لم نجد في الصورة التي رسمناها لحال الصدق شيئا يميزها من الصورة التي رسمناها لحال الكذب، فالعبارة الفلسفية المذكورة كلام بدون معنى لأنه لا يفيد خبرا عن العالم. وكذلك الأمر في كل القضايا الفلسفية التي تعالج موضوعات ميتافيزيقية فإنها ليست كلاما مفهوما لعدم توفر الشرط الأساسي للكلام المفهوم فيها وهو امكان وصف الظروف التي يعرف فيها صدق القضية أو كذبها، ولذلك لا يصح أن توصف القضية الفلسفية بصدق أو كذب لان الصدق والكذب من صفات الكلام المفهوم، والقضية الفلسفية لا معنى لها لكي تصدق أو تكذب.
ويمكننا تلخيص النعوت التي تضفيها المدرسة الوضعية على القضايا الفلسفية كما يلي:
1 - لا يمكن اثبات القضية الفلسفية لأنها تعالج موضوعات خارجة عن حدود التجربة والخبرة الانسانية.
2 - ولا يمكن ان نصف الظروف التي ان صحت، كانت القضية صادقة والا فهي كاذبة. إذ لا فرق في صورة الواقع بين أن تكذب القضية الفلسفية أو تصدق.
3 - وهي لذلك قضية لا معنى لها، إذ لا تخبر عن العالم شيئا.
4 - وعلى هذا الأساس لا يصح ان توصف بصدق أو كذب.
ولنأخذ الصفة الأولى، وهي أن القضية الفلسفية لا يمكن اثباتها فإنها تكرار لما يردده أنصار المذهب التجريبي عموما، فإنهم يؤمنون بأن التجربة هي المصدر الأساسي والأداة العليا للمعرفة وهي لا تستطيع أن تمارس عملها على المسرح الفلسفي لان موضوعات الفلسفة ميتافيزيقية لا تخضع لأي لون علمي من ألوان التجربة، ونحن إذا رفضنا المذهب التجريبي وأثبتنا وجود معارف قبلية في صميم العقل البشري يرتكز عليها الكيان العلمي في مختلف حقول
86

التجربة نستطيع أن نطمئن إلى امكانات الفكر الانساني وقدرته على درس القضايا الفلسفية وبحثها في ضوء تلك المعارف القبلية على طريقة الاستقراء والهبوط من العام إلى الخاص.
واما الصفة الثانية: وهي أنا لا نستطيع أن نصف الظروف التي ان صحت كانت القضية صادقة والا فهي كاذبة، فلا تزال بحاجة إلى شيء من التوضيح. فما هي هذه الظروف الواقعية أو المعطيات الحسية التي يرتبط صدق القضية بها، وهل تعتبر الوضعية من شرط القضية أن يكون مدلولها بالذات معطى حسيا كما في قولنا (البرد يشتد في الشتاء والمطر يهطل في ذلك الفصل) أو تكتفي بأن يكون للقضية معطيات حسية ولو بصورة غير مباشرة، فان كانت الوضعية تلغي كل قضية ما لم يكن مدلولها معطى حسيا وظرفا واقعيا يخضع للتجربة فهي بذلك لا تسقط القضايا الفلسفية فحسب. بل تشجب أيضا أكثر القضايا العلمية التي لا تعبر عن معطى حسي وانما تعبر عن قانون مستنتج من المعطيات الحسية كقانون الجاذبية. فنحن نحس بسقوط القلم عن الطاولة إلى الأرض ولا نحس بجاذبية الأرض. فسقوط القلم معطى حسي مرتبط بالمضمون العلمي لقانون الجاذبية وليس للقانون عطاء حسي مباشر. وأما إذا اكتفت الوضعية بالمعطى الحسي غير المباشر فالقضايا الفلسفية لها معطيات حسية غير مباشرة كعدة من القضايا العلمية تماما أي توجد هناك معطيات حسية وظروف واقعية ترتبط بالقضية الفلسفية فان صحت كانت القضية صادقة والا فهي كاذبة. خذ إليك مثلا القضية الفلسفية القائلة بوجود علة أولى للعالم، فان محتوى هذه القضية وان لم يكن له عطاء حسي مباشر، غير ان الفيلسوف يمكنه ان يصل اليه عن طريق المعطيات الحسية التي لا يمكن تفسيرها عقليا الا عن طريق العلة الأولى، كما سنرى في بحوث مقبلة من هذا الكتاب.
وهناك شيء واحد يمكن أن تقوله الوضعية في هذا المجال، وهو أن استنتاج المضمون الفكري للقضية الفلسفية من المعطيات الحسية، لا يقوم على أساس تجريبي وانما يقوم على أسس عقلية، بمعنى أن المعارف العقلية هي التي تحتم تفسير المعطيات الحسية بافتراض علة أولى، لا أن التجربة تبرهن على
87

استحالة وجود هذه المعطيات بدون العلة الأولى، وما لم تبرهن التجربة على ذلك لا يمكن ان تعتبر تلك المعطيات عطاء للقضية الفلسفية ولو بصورة غير مباشرة.
وهذا القول ليس الا تكرارا من جديد للمذهب التجريبي. وما دمنا قد عرفنا سابقا ان استنتاج المفاهيم العلمية العامة من المعطيات الحسية مدين لمعارف عقلية قبلية، فلا جناح على القضية الفلسفية إذا ارتبطت مع معطياتها الحسية بروابط عقلية وفي ضوء معارف قبلية.
والى هنا لم نجد في الوضعية شيئا جديدا غير معطيات المذهب التجريبي ومفاهيمه عن الميتافيزيقا الفلسفية. غير أن الصفة الثالثة تبدو لنا شيئا جديدا لأن الوضعية تقرر فيها أن القضية الفلسفية لا معنى لها اطلاقا ولا تعتبر قضية بل هي شبه قضية.
ويمكننا القول بأن هذا الاتهام هو أشد ضربة وجهت إلى الفلسفة من المدارس الفلسفية للمذهب التجريبي، فلنفحص محتواه باهتمام.
ولكي يتاح لنا ذلك يجب ان نعرف بالضبط ماذا تريد الوضعية بكلمة المعنى في قولنا ان القضية الفلسفية لا معنى لها وان أمكن تفسيرها في قواميس اللغة؟
ويجيب على ذلك الأستاذ آير - امام الوضعية المنطقية الحديثة في انكلترا - بأن كلمة معنى في رأي الوضعية تدل على المعنى الذي يمكن التثبت من صوابه أو خطئه في حدود الخبرة الحسية، ونظرا إلى ان القضية الفلسفية لا يمكن فيها ذلك فهي قضية بدون معنى.
وفي هذا الضوء تصبح العبارة القائلة (القضية الفلسفية لا معنى لها) معادلة تماما لقولنا (محتوى القضية الفلسفية لا يخضع للتجربة لأنه يتصل بما وراء الطبيعة) وبذلك تكون الوضعية قد قررت حقيقة لا شك فيها ولا جدال، وهي ان مواضيع الميتافيزيقا الفلسفية ليست تجريبية ولم تأت بشيء جديد الا تطوير كلمة المعنى ودمج التجربة فيها، وتجريد القضية الفلسفية عن
88

المعنى في ضوء هذا التطوير للكلمة لا يتناقض مع التسليم بأنها ذات معنى في استعمال آخر للكلمة لا تدمج فيه التجربة في المعنى.
ولا أدري ماذا يقول الأستاذ آير وأمثاله من الوضعيين عن القضايا التي تتصل بعالم الطبيعة. ولا يملك الانسان القدرة على التثبت من صوابها أو خطئها بالتجربة. كما إذا قلنا (ان الوجه الآخر للقمر الذي لا يقابل الأرض زاخر بالجبال والوديان) فإننا لا نملك وقد لا يتاح لنا في المستقبل أن نملك الامكانات التجريبية لاستكشاف صدق هذه القضية أو كذبها بالرغم من أنها تتحدث عن الطبيعة، فهل يمكن أن تعتبر هذه القضية خاوية لا معنى لها مع اننا نعلم جميعا أن العلم كثيرا ما يطرح قضايا من هذا القبيل على صعيد البحث قبل أن يملك التجربة الحاسمة بصددها ويظل يبحث عن ضوء ليسلطه عليها حتى يجده في نهاية المطاف أو يعجز عن الظفر به، فلماذا كل هذا الجهد العلمي لو كانت كل قضية لا تحمل بيدها دليل صدقها أو كذبها من التجربة خواء ولغوا من القول؟
وتحاول الوضعية في هذا المجال ان تستدرك، فهي تقول ان المهم هو الامكان المنطقي لا الامكان الفعلي، فكل قضية كان ممكنا من الوجهة النظرية الحصول على تجربة هادية بشأنها، فهي ذات معنى وجديرة بالبحث وان لم تملك هذه التجربة فعلا.
ونحن نرى ان هذه المحاولة، ان الوضعية قد استعارت مفهوما ميتافيزيقيا لتكميل بنائها المذهبي الذي شادته لنسف الميتافيزيقا، وذلك المفهوم هو الامكان المنطقي الذي ميزته عن الامكان الفعلي، والا فما هو المعطى الحسي للامكان المنطقي؟ تقول الوضعية ان التجربة ما دامت غير ممكنة في الواقع، فماذا يبقى للامكان النظري من معنى غير مفهومه الميتافيزيقي الذي لا أثر له على صورة الواقع الخارجي ولا تختلف المعطيات الحسية تبعا له، أفلم يصبح مقياس الوضعية للكلام المفهوم ميتافيزيقيا في
نهاية الشوط، وبالتالي كلاما غير مفهوم في رأيها؟
ولنترك الأستاذ آير، ولنأخذ كلمة المعنى بمدلولها المتعارف دون أن ندمج
89

فيه التجربة، فهل نستطيع ان نحكم على القضية الفلسفية بأنها غير ذات معنى؟ كلا طبعا، فان المعنى هو ما يعكسه اللفظ في الذهن من صور، والقضية الفلسفية تعكس في أذهان أنصارها، وخصومها على السواء صورا من هذا القبيل. وما دامت هناك صورة تقذفها القضية الفلسفية إلى أفكارها فهناك مجال للصدق والكذب وبالتالي هناك قضية كاملة جديرة بهذا الاسم في العرف المنطقي، فان الصورة التي تقذفها القضية الفلسفية إلى ذهننا ان كانت تطابق شيئا موضوعيا خارج حدود الذهن واللفظ فالقضية صادقة والا فهي كاذبة. فالصدق والكذب وبالتالي الطابع المنطقي للقضية - ليسا من معطيات التجربة لنقول عن القضية التي لا تخضع للتجربة انها لا توصف بصدق أو كذب، وانما هما تعبيران بشكل ايجابي أو سلبي عن التطابق بين صورة القضية في الذهن وبين أي شيء موضوعي ثابت خارج حدود الذهن واللفظ.
* الماركسية والفلسفة:
وموقف الماركسية من الفلسفة يشبه بصورة جوهرية الموقف الوضعي، فهي ترفض كل الرفض فلسفة عليا تفرض على العلوم ولا تنبثق منها، لأن الماركسية تجريبية في منطقها وأداة تفكيرها، فمن الطبيعي ان لا تجد للميتافيزيقا مجالا في بحوثها، ولهذا نادت بفلسفة علمية وهي المادية الديالكتيكية وزعمت أن فلسفتها هذه ترتكز على العلوم الطبيعية وتستمد رصيدها من التطور العلمي في مختلف الحقول.
قال لينين:
((فالمادية الديالكتيكية لم تعد بحاجة إلى فلسفة توضع فوق العلوم الأخرى وان ما يبقى من الفلسفة القديمة هو نظرية الفكر وقوانينه - المنطق الشكلي والديالكتيك)) (1)

(1) لينين ماركس انجلس والماركسية ص 24.
90

وقال روجيه غارودي:
((سوف تكون مهمة النظرية المادية للمعرفة على وجه التحديد ان لا تقطع ابدا الفكر الفلسفي عن الفكر العالمي ولا عن النشاط العملي التاريخي)) (1).
وبالرغم من اصرار الماركسية على الطابع العلمي لفلسفتها ورفض أي لون من التفكير الميتافيزيقي، نجد ان الماركسية لا تتقيد في فلسفتها بالحدود العلمية للبحث، ذلك ان الفلسفة التي تنبع من الخبرة العلمية يجب ان تمارس مهمتها في الحقل العلمي ولا تتجاوزه إلى غيره، فالمجال المشروع لفلسفة علمية كفلسفة الماركسية في زعمها وان كان أوسع من المجال المنفرد لكل علم لأنها تستهدي بمختلف العلوم، ولكن لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون أوسع، من المجالات العلمية مجتمعة أي المجال العلمي العام وهو الطبيعة التي يمكن إخضاعها للتجربة أو الملاحظة الحسية
المنظمة، فليس من صلاحية الفلسفة العلمية أن تتناول في البحث مسائل ما وراء الطبيعة وتحكم فيها بشيء إيحابي أو سلبي لان رصيدها العلمي لا يمدها في تلك المسائل بشيء، فالقضية الفلسفية القائلة (للعالم مبدأ أول وراء الطبيعة) ليس من حق الفلسفة العلمية ان تتناولها بنفي أو اثبات لان محتواها خارج عن مجال التجربة.
وبالرغم من ذلك نرى ان الماركسية تتدخل في هذا اللون من القضايا وتجيب عليها بالنفي الأمر الذي يجعلها تتمرد على حدود الفلسفة العلمية وتنساق إلى بحث ميتافيزيقي، لأن النفي فيما يتصل بما وراء عالم الطبيعة كالاثبات وكلاهما من الفلسفة الميتافيزيقية وبذلك يبدو التناقض بين الحدود التي يجب أن تقف عندها الماركسية في بحثها الفلسفي بوصفها صاحبة فلسفة علمية وبين انطلاقها في البحث إلى أوسع من ذلك.
وبعد أن ربطت الماركسية فلسفتها بالعلم وآمنت بضرورة تطور المحصول الفلسفي وفقا للعلوم الطبيعية ومشاركة الفلسفة للعلم في نموه وتكامله تبعا

(1) ما هي المادية ص 46.
91

لارتفاع مستوى الخبرة التجريبية وتعميقها على مر الزمن، كان من الطبيعي لها ان ترفض كل مطلق فلسفي فوق العلم.
وقد نشأ هذا من خطأ الماركسية في نظرية المعرفة وإيمانها بالتجربة وحدها، وأما في ضوء المذهب العقلي والايمان بمعارف قبلية فالفلسفة ترتكز على قواعد أساسية ثابتة وهي تلك المعارف العقلية القبلية الثابتة بصورة مطلقة ومستقلة عن التجربة، ولأجل ذلك لا يكون من الحتم ان يتغير المحتوى الفلسفي باستمرار تبعا للاكتشافات التجريبية.
ونحن لا نعني بذلك انقطاع الصلة بين الفلسفة والعلم فان الترابط بينهما وثيق لأن العلم يقدم في بعض الأحايين الحقائق الخاصة إلى الفلسفة لتطبق عليها مبادئها المطلقة فتخرج بنتائج فلسفية جديدة (1).
كما أن الفلسفة تنجد الأسلوب التجريبي في العلوم بمبادئ وقواعد عقلية يستخدمها العالم في سبيل الارتقاء من التجارب المباشرة إلى قانون علمي عام (2). فالعلاقة بين الفلسفة والعلم قوية (3)، غير ان الفلسفة بالرغم من ذلك قد لا تحتاج في بعض

(1) ومثال ذلك ان العلوم الطبيعية تبرهن على امكان تحويل العناصر البسيطة بعضها إلى بعض. فهذه حقيقة علمية تتناولها الفلسفة كمادة لبحثها وتطبق عليها القانون العقلي القائل بان الوصف الذاتي لا يتخلف عن الشيء فنستنتج أن صورة العنصر البسيط كالصورة الذهبية ليست ذاتية لمادة الذهب والا لما زالت عنها وانما هي صفة عارضة. ثم تمضي الفلسفة أكثر من ذلك فتطبق القانون القائل ان لكل صفة عارضة علة خارجية فتصل إلى هذه النتيجة ان المادة لكي تكون ذهبا أو نحاسا أو شيئا آخر بحاجة إلى سبب خارجي فهذه نتيجة فلسفية مستندة إلى ما أدت اليه الطريقة العقلية من قواعد عامة لدى تطبيقها على المادة الخام التي قدمتها العلوم للفلسفة.
(2) كما ضربنا الأمثلة على ذلك آنفا فقد رأينا كيف ان النظرية العلمية القائلة ان الحركة هي سبب الحرارة أو جوهرها تطلبت عدة من المبادئ العقلية القبلية.
(3) حتى يمكن القول في ضوء ما قررناه - خلافا للاتجاه العام الذي واكبناه في الكتاب - بعدم وجود حدود فاصلة بين قوانين الفلسفة وقوانين العلم كالحد الفاصل القائل ان كل قانون قائم على أساس عقلي فهو فلسفي وكل قانون قائم على أساس تجريبي فهو علمي، لأننا عرفنا بوضوح ان الأساس العقلي والتجربة مزدوجان في عدة من القضايا الفلسفية والعلمية فلا القانون العلمي وليد التجربة بمفردها، وانما هو نتيجة تطبيق الأسس العقلية على مضمون التجربة العلمية، ولا القانون الفلسفي في غنى عن التجربة دائما، بل قد تكون التجربة العلمية مادة للبحث الفلسفي أو صغرى في القياس على حد تعبير المنطق الأرسطي، وانما الفارق بين الفلسفة والعلم ان الفلسفة قد لا تحتاج إلى صغرى تجريبية ولا تفتقر إلى مادة خام تستعيرها من التجربة كما سنشير اليه بعد لحظة، واما العلم فهو من كل قوانينه بحاجة إلى الخبرة الحسية المنظمة.
92

الأحيان إلى تجربة اطلاقا بل تستخلص النظرية الفلسفية من المعارف العقلية القبلية (1) ولأجل هذا قلنا ليس من الحتم أن يتغير المحتوى الفلسفي باستمرار تبعا للتجربة، ولا من الضروري ان يواكب الكل الفلسفي قطار العلم في سيره المتدرج.
(1) ومثال ذلك قانون النهاية القائل ان الأسباب لا تتصاعد إلى غير نهاية، فان الفلسفة حين تقرر هذا القانون لا تجد نفسها بحاجة إلى أي تجربة علمية، وانما تستخلصه من مبادئ عقلية أولية ولو بصورة غير مباشرة.
93

* 2 - قيمة المعرفة
كنا ندرس في المسألة السابقة المصادر الأساسية للمعرفة أو للادراك البشري بصورة عامة. والآن نتناول المعرفة من ناحية أخرى لنحدد قيمتها الموضوعية ومدى امكان كشفها عن الحقيقية، فان الطريق الوحيد الذي تملكه الانسانية لاستكناه الحقائق والكشف عن أسرار العالم هو مجموعة العلوم والمعارف التي لديها، فيجب أن نتساءل قبل كل شيء عما إذا كان هذا الطريق موصلا حقا إلى الهدف، وعما إذا كانت الانسانية قادرة على الوصول إلى واقع موضوعي بما تملك من معارف وطاقات فكرية.
والفلسفة الماركسية تؤمن في هذه المسألة بامكان معرفة العالم، وبطاقة الفكر البشري على الكشف عن الحقائق الموضوعية وترفض الشك والسفسطة:
((خلافا للمثالية التي تنكر امكان معرفة العالم وقوانينه، ولا تؤمن بقيمة معارفنا. ولا تعترف بالحقيقة الموضوعية، وتعتبر ان العالم مملوء بأشياء قائمة بذاتها. ولن يتوصل العلم ابدا إلى معرفتها، تقوم المادية الفلسفية الماركسية على المبدأ القائل: انه من الممكن تماما معرفة العالم وقوانينه، وان معرفتنا لقوانين الطبيعة تلك المعرفة التي يحققها العمل والتجربة هي معرفة ذات قيمة ولها معنى حقيقة موضوعية، وأن ليس في العالم أشياء لا تمكن معرفتها، وانما فيه أشياء لا تزال مجهولة وستكشف وتصبح معروفة بوسائل العلم والعمل)) (1)

1 - المادة الديالكتيكية ص 20.
95

((ان أقوى تفنيد لهذا الوهم الفلسفي - أي وهم (كانت) وهيوم وغيره من المثاليين - ولكل وهم فلسفي آخر هو العمل والتجربة والصناعة بوجه خاص، فإذا استطعنا ان نبرهن على صحة فهمنا لظاهرة طبيعية ما بخلقنا هذه الظاهرة بأنفسنا وبأحداثنا لها بواسطة توفر شروطها نفسها. وفوق ذلك إذا استطعنا استخدامها في تحقيق أغراضنا كان في ذلك القضاء المبرم على مفهوم الشيء في ذاته العصي على الادراك الذي أتى به (كانت))) (1)
هذه التصريحات تقرر بوضوح ان الفلسفة الماركسية لم ترض بالوقوف إلى صف السفسطة ومدارس الانكار أو الشك التي أعلنت إفلاسها في المضمار الفلسفي، لأن الصرح الذي تحاول بناءه يجب أن يرتفع على ركائز فلسفية قاطعة وقواعد فكرية جازمة، وما لم تكن الركائز يقينية لا يمكن أن يتماسك ويتركز البناء الفكري القائم عليها.
ونحاول الآن أن نعرف ما إذا كان من حق هذه الفلسفة أن تزعم لنفسها اليقين الفلسفي وتدعي امكان المعرفة الجازمة، بمعنى أن الفلسفة الماركسية التي تفكر. على طريقة ديالكتيكية، هل تستطيع أن تؤمن بمعرفة حقيقة للعالم وقوانينه وتتخلص من قبضة الشك أو السفسطة؟ وفي تعبير آخر هل المعرفة التي يصح للفيلسوف الماركسي أن يتبجح بها هي أعلى قيمة وأرفع شأنا من المعرفة في فلسفة (كانت)؟
أو لدى المثاليين أو الماديين النسبيين من فلاسفة مدارس الشك الذين نقدتهم الماركسية وهاجمتهم؟
ولأجل ان نعرف المشكلة ونتبين مدى امكان حلها على أساس الفلسفة الماركسية ووجهة نظر الفلسفة الاسلامية فيها، يجب أن نشير بصورة سريعة إلى أهم المذاهب الفلسفية التي عالجت هذه المشكلة، حتى يتحدد بجلاء

1 - لودفيج فيورباخ ص 54
96

موقف الماركسية منها، وماذا يجب أن تتخذ من رأي في مسألة المعرفة على ضوء أصولها الرئيسية؟ وما هو حق المشكلة من التحليل والتحقيق؟
1 - آراء اليونان
اجتاحت التفكير اليوناني موجة من السفسطة في القرن الخامس قبل الميلاد، في عصر راجت فيه طريقة الجدل في ميادين الخطابة والمحاماة وتضاربت فيه الآراء الفلسفية والفرضيات غير التجريبية تضاربا شديدا، ولم يكن الفكر الفلسفي قد تبلور ولم يبلغ درجة عالية من الرشد العقلي، فكان هذا الصراع والتضارب بين المتناقضات الفلسفية سببا لبلبلة فكرية وارتياب جذري.
وكانت ملكه الجدل تغذي ذلك بما تلهم ابطالها الجدليين من شبهات وأقيسة خاطئة، أنكروا على أساسها العالم برفض جميع الركائز الفكرية للانسان وانكار المحسوسات والبديهيات.
وقد وضع (غورغياس) - أحد ابطال هذه المدرسة - كتابا في (اللاوجود) وحاول ان يبرهن فيه على عدة قضايا: الأولى، لا يوجد شيء، الثانية، إذا كان يوجد شيء فالانسان قاصر عن ادراكه، الثالثة، إذا فرضنا أن انسانا ادركه فلن يستطيع أن يبلغه لغيره.
وقد عاشت السفسطة ردحا من الزمن تتفنن في عبثها بالفلسفة والعلم حتى بزغ سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، فكانت لهم مواقف جبارة ضدها.
ووضع أرسطو للكشف عن مغالطات السفسطة وتنظيم الفكر الانساني منطقة المعروف، وخلاصة مذهبه في نظرية المعرفة. ان المعلومات الحسية والمعلومات العقلية الأولية أو الثانوية التي تكتسب بمراعاة الأصول المنطقية هي حقائق ذات قيمة قاطعة. ولذا أجاز في البرهان - الدليل القاطع في مصطلحه المنطقي - استعمال المحسوسات والمعقولات معا.
وقامت بعد ذلك محاولة للتوفيق بين الاتجاهين المتعارضين، بين الاتجاه الذي يجنح إلى الانكار القاطع وهو السفسطة، والاتجاه الذي يؤكد على
97

الاثبات وهو اتجاه المنطق الأرسطي. وكانت هذه المحاولة تتمثل في مذهب الشك الذي يعتبر (بيرون) من المبشرين الأساسين به.
وتعرف عن (بيرون) حججه العشر على ضرورة الشك المطلق، فكل قضية في نظره تحتمل قولين. ويمكن ايجابها وسلبها بقوة متعادلة.
ولكن مذهب اليقين سيطر أخيرا على الموقف الفلسفي، وتربع العقل على عرشه الذي أقعده عليه (أرسطو) يحكم ويقرر مقيدا بمقاييس المنطق. وخمدت جذوة الشك طيلة قرون، حتى حوالي القرن السادس عشر إذ نشطت العلوم الطبيعية واكتشفت حقائق لم تكن بالحسبان وخاصة في الهيئة ونظام الكون العام. وكانت هذه التطورات العلمية بمثابة قوة الجدل في العصر اليوناني. فبعثت مذاهب الشك والانكار من جديد، واستأنفت نشاطها بأساليب متعددة، وقام الصراع بين اليقينيين أنفسهم في حدود
اليقين الذي يجب أن يعتمد عليه الانسان.
وفي هذا الجو المشبع بروح الشك والتمرد على سلطان العقل نبغ (ديكارت)، وطلع على العالم بفلسفة يقينية كان لها تأثير كبير في ارجاع التيار الفلسفي حدا ما إلى اليقين.
2 - ديكارت:
وهو من أقطاب الفلاسفة العقليين ومؤسسي النهضة الفلسفية في أوروبا. بدأ فلسفته بالشك، الشك الجارف العاصف، لان الأفكار متضاربة فهي اذن في معرض الخطأ، والاحساسات خداعة في كثير من الأحايين فهي أيضا ساقطة من الحساب، وبهذا وذاك تثور عاصفة الشك فتقتلع العالم المادي والمعنوي معا ما دام الطريق اليهما هو الفكر والاحساس.
ويؤكد (ديكارت) على ضرورة هذا الشك المطلق، ويدلل على منطقيته بأن من الجائز ان يكون الانسان واقعا في رحمة قوة تهيمن على وجوده وعقله وتحاول خداعه وتضليله، فتوحي إليه بأفكار مقلوبة عن الواقع وادراكات
98

خاطئة. ومهما كانت هذه الأفكار والادراكات واضحة فلا نستطيع استبعاد هذا الفرض الذي يضطرنا إلى اتخاذ الشك مذهبا مطردا.
ولكن (ديكارت) يستثني حقيقة واحدة تصمد في وجه العاصفة ولا تقوى على زعزعتها تيارات الشك، وهي: (فكرة). فإنه حقيقة واقعة لا شك فيها ولا يزيدها الشك الا ثباتا ووضوحا، لان الشك ليس الا لونا من ألوان الفكر، وحتى تلك القوة الخداعة لو كان لها وجود فهي لا تستطيع أن تخدعنا في ايماننا بهذا الفكر لأنها انما تخدعنا عن طريق الايحاء بالتفكير الخاطئ الينا، ومعنى ذلك ان التفكير حقيقة ثابتة على كل حال، سواء أكانت مسألة الفكر الانساني مسألة خداع وتضليل أم مسألة فهم وتحقيق.
وتكون هذه الحقيقة في فلسفة (ديكارت) حجر الزاوية ونقطة الانطلاق لليقين الفلسفي، الذي حاول أن يخرج به من التصور إلى الوجود، ومن الذاتية إلى الموضوعية، بل حاول أن يثبت عن طريق تلك الحقيقة الذات والموضوع معا، فبدأ بذاته واستدل على وجودها بتلك الحقيقة قائلا: ((انا أفكر، فأنا اذن موجود))
وقد يلاحظ على ديكارت في هذا الاستدلال انه يحتوي - لا شعوريا على الايمان بحقائق لا زلت حتى الآن في موضع الشك عنده. فان هذا الاستدلال تعبير غير فني عن الشكل الأول من القياس في المنطق الأرسطي، ويرجع فنيا إلى الصيغة الآتية: ((أنا أفكر، وكل مفكر موجود فأنا موجود) ولأجل ان يصح هذا الاستدلال عند ديكارت يجب أن يؤمن بالمنطق، ويعتقد بأن الشكل الأول من القياس منتج وصحيح في انتاجه، مع أنه لا يزال في بداية الشوط الأول، ولا يزال الشك مهيمنا في عقله على جميع المعارف والحقائق ومنها المنطق وقوانينه.
ولكن الواقع الذي يجب ان ننبه عليه هو: ان ديكارت لم يكن يحس بحاجة إلى الايمان بالأشكال القياسية في المنطق حين بدأ المرحلة الاستدلالية من تفكيره ب‍ ((أنا أفكر، فأنا اذن موجود)) بل كان يرى ان معرفة وجوده عن طريق فكره أمر بديهي لا يحتاج إلى تشكيل قياس والتصديق بصغراه وكبراه.
99

ولما كانت هذه القضية صادقة لأنها بديهية بشكل لا يقبل الشك. فكل ما هو على درجتها في البداهة صادق أيضا، وبهذا عطف قضية أخرى على البديهية الأولى وسلم بأنها حقيقة وهي أن الشيء لا يخرج من لا شيء.
وبعد أن آمن بالناحية الذاتية، أخذ في اثبات الواقع الموضوعي فرتب الأفكار الانسانية في ثلاث طوائف:
الأولى: أفكار غريزية أو فطرية، وهي الأفكار الطبيعية في الانسان التي تبدو في غاية الوضوح والجلاء كفكرة: الله والحركة والامتداد والنفس.
الثانية: أفكار غامضة تحدث في الفكر بمناسبة حركات واردة على الحواس من الخارج، وليست لها أصالة في الفكر الانساني.
الثالثة: أفكار مختلفة، وهي الأفكار التي يصطنعها الانسان ويركبها من أفكاره الأخرى، كصورة انسان له رأسان.
وأخذ - أول ما أخذ - فكرة (الله) من الطائفة الأولى، فقرر أنها فكرة ذات حقيقة موضوعية إذ هي في حقيقتها الموضوعية تفوق الانسان المفكر وكل ما فيه من أفكار، لأنه ناقص محدود وفكرة (الله) هي فكرة الكامل المطلق الذي لا نهاية له. ولما كان قد آمن سلفا، بأن الشيء لا يخرج من لا شيء، فهو يعرف ان لهذه الصورة الفطرية في فكره سببا، ولا يمكن ان يكون هو السبب لها لأنها أكبر منه وأكمل والشيء لا يجيء أكبر من سببه والا لكانت الزيادة في المسبب قد نشأت من لا شئ. فيجب ان تكون الفكرة منبثقة عن الكائن اللانهائي الذي يوازيها كمالا وعظمة، وذلك الكائن هو أول حقيقة موضوعية خارجية تعترف بها فلسفة (ديكارت) وهي: (الله).
وعن طريق هذا الكائن الكامل المطلق أثبت ان كل فكر فطري في الطبيعة الانسانية، فهو فكر صادق يحتوي على حقيقة موضوعية، لأن الأفكار العقلية - الطائفة الأولى - صادرة عن الله، فإذا لم تكن صادقة كان تزويد الله للانسان بها خدعة وكذبا، وهو مستحيل على الكامل المطلق.
ولأجل ذلك آمن ديكارت بالمعرفة الفطرية (العقلية) للانسان وأنها معرفة
100

صحيحة وصادقة، ولم يؤمن بغير تلك الأفكار الفطرية من الأفكار التي تنشأ بأسباب خارجية، وكان من نتيجة هذا ان قسم الأفكار عن الماديات إلى قسمين:
أحدهما الأفكار الفطرية، كفكرة الامتداد.
والآخر أفكار طارئة تعبر عن انفعالات خاصة للنفس بالمؤثرات الخارجية كفكرة الصوت. والرائحة، والضوء، والطعم، والحرارة، واللون.
فتلك كيفيات أولية حقيقية، وهذه كيفيات ثانوية لا تعبر عن حقائق موضوعية وانما تتمثل في انفعالات ذاتية، فهي صور ذهنية تتعاقب وتثور في دنيا الذهن بتأثير الأجسام الخارجية، ولا يشابهها شيء من تلك الأجسام.
هذا عرض خاطف جدا لنظرية المعرفة عند ديكارت.
ويجب ان نعرف قبل كل شيء أن القاعدة الأساسية التي أقام عليها مذهبه ويقينه الفلسفي وهي (أنا أفكر فأنا اذن موجود)، قد نقضت في الفلسفة الاسلامية قبل ديكارت بعدة قرون، حين عرضها الشيخ الرئيس ابن سينا ونقدها بأنها لا يمكن ان تعتبر أسلوبا من الاستدلال العلمي على
وجود الانسان المفكر ذاته. فليس للانسان ان يبرهن على وجوده عن طريق فكره، لأنه حين يقول (أنا أفكر فأنا موجود)، ان كان يريد ان يبرهن على وجوده ب‍ (فكره الخاص) فقط، فقد أثبت وجوده الخاص من أول الأمر واعترف بوجوده في نفس الجملة الأولى. وان كان يريد أن يجعل (الفكر المطلق) دليلا على وجوده، فهو خطأ، لأن الفكر المطلق يحكم بوجود مفكر مطلق لا مفكر خاص، واذن فالوجود الخاص لكل مفكر يجب ان يكون معلوما له علما أوليا بصرف النظر عن جميع الاعتبارات بما فيها شكه وفكره.
وبعد ذلك نرى ديكارت يقيم صرح الوجود كله على نقطة واحدة وهي أن الأفكار التي خلقها الله في الانسان تدل على حقائق موضوعية، فلو لم تكن مصيبة في ذلك لكان الله خادعا، والخداع مستحيل عليه.
وبسهولة يمكن ان نتبين الخلط بين المعرفة التأملية والمعرفة العملية في
101

برهانه. فان قضية (الخداع مستحيل) هي الترجمة غير الأمينة لقضية (الخداع القبيح) وهذه القضية ليست قضية فلسفية وانما هي فكرة عملية فكيف شك (ديكارت) في كل شيء ولم يشك في هذه المعرفة العملية، التي جعلها أساسا للمعرفة التأملية الفلسفية؟ ‍
أضف إلى ذلك أن تسلسل المعرفة في مذهب ديكارت ينطوي على دور واضح، فإنه حين آمن بالمسألة الإلهية أقام ايمانه هذا على قضية يفترض صدقها سلفا وهي ان الشيء لا يخرج من لا شيء. وهذه القضية تحتاج بدورها إلى اثبات المسألة الإلهية لتكون مضمونة الصدق، فما لم يثبت ان الانسان محكوم لقوة حكيمة غير مخادعة، لا يجوز لديكارت أن يثق بهذه القضية ويقضي على شكه في سيطرة قوة خداعة للفكر الانساني.
وأخيرا فلسنا بحاجة لتوضيح خلط آخر صدر منه بين (فكرة الله) و (الحقيقة الموضوعية التي تدل عليها) حين آمن باستحالة انبثاق هذه الفكرة عن الانسان لأنها أكبر منه. والحال انها لا تزيد على فكره، وانما يستحيل على الانسان ان يخلق لهذه الفكرة حقيقتها الموضوعية.
وليس هدفنا بالفعل التوسع في مناقشة (ديكارت)، وانما نعني عرض وجهة نظره في قيمة المعرفة الانسانية التي تتلخص في الايمان بالقيمة القاطعة للمعارف العقلية الفطرية خاصة.
2 - جون لوك:
وهو المثل الأساسي للنظرية الحسية والتجريبية كما عرفنا سابقا.
ورأيه في نظرية المعرفة أن المعارف تنقسم كما يأتي:
أ - المعرفة الوجدانية، وهي المعرفة التي لا يحتاج الفكر في سبيل الحصول عليها إلى ملاحظة شيء آخر. كمعرفتنا بان الواحد نصف الاثنين.
ب - المعرفة التأملية. وهي لا تحصل من دون استعانة بمعلومات سابقة، كمعرفتنا بأن مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين.
ج - المعرفة الناشئة من وقوع الحس على المعنى المعلوم.
102

ويعتقد (لوك) أن المعرفة الوجدانية معرفة حقيقية ذات قيمة كاملة من الناحية الفلسفية، وكذلك المعرفة التأملية التي يمكن توضيحها باستدلال صحيح. وأما المعرفة الحسية فلا قيمة لها فلسفيا وان كانت معتبرة في مقاييس الحياة العملية ونظرا لذلك لم يؤمن موضوعيا بجميع خواص المادة المدركة بالحس، بل اعتبر بعضها خواصا حقيقية موضوعية كالشكل والامتداد، والحركة، واعتبر بعضها الآخر انفعالا ذاتيا كاللون والطعم والرائحة وما إليها من صفات.
ونظرية (لوك) هذه في المعرفة ووزنها الفلسفي لا يتفق مع رأيه الخاص في تحليل المعرفة، ذلك ان الادراك في زعم (لوك) يرجع كله إلى الحس والتجربة، وحتى المعارف البديهية - كمبدأ عدم التناقض ونحوه من المبادئ الأساسية في الفكر البشري - لم توجد لدى الانسان الا عن هذا الطريق. وهذا الحس الذي هو المصدر الأساسي لتلك الادراكات ليس ذا قيمة فلسفية قاطعة في نظرية المعرفة عند (لوك)، والنتيجة الطبيعية لذلك هي الشك المطلق في قيمة كل معرفة انسانية لأنها ليست في حقيقتها ونواتها الأساسية الا ادراكا حسيا اكتسب بالتجربة الظاهرية أو الباطنية.
وهكذا يبدو أن تنويعه للمعرفة إلى أقسام ثلاثة، والتفريق بينها من ناحية الاعتبار الفلسفي يتناقض مع الأسس التي أقامها.
كما أن تقسيمه لخواص الأجسام المحسوسة إلى طائفتين - كما فعل ديكارت - ليس منطقيا على أسسه، وان كان منطقيا إلى حد ما على أساس (ديكارت)، ذلك أن (ديكارت) كان يقسم المعرفة إلى عقلية وحسية. ويؤمن باعتبار الأولى من ناحية فلسفية دون الثانية، وقد زعم أن فكرة الانسان عن بعض خواص الجسم من الأفكار العقلية الفطرية، وفكرته عن بعضها الآخر حسية، فصح له بسبب ذلك أن ينوع تلك الخواص إلى أولية وثانوية، ويؤمن بأن الخواص الأولية حقيقية وموضوعية دون الخواص الثانوية. وأما (جون لوك) فقد بدأ بناءه الفلسفي بابعاد الأفكار الفطرية والايمان بسيادة الحس على الادراك كله فخواص الأجسام لا سبيل إلى ادراكها الا
الحس، فما هو الفارق الفلسفي بين بعضها والبعض الآخر.
103

4 - المثاليون:
والمذهب المثالي عميق الجذور في تاريخ الفكر الانساني ومتعدد الأساليب، ولفظ المثالية هو أيضا من الألفاظ التي لعبت أدوارا مهمة عبر التاريخ الفلسفي، وتبلور في عدة مفاهيم فلسفية تبادلت عليه، وأكسبته بسبب ذلك لونا من الغموض والالتباس.
وقد ابتدأت المثالية دورها الأول في المصطلح الفلسفي على يد أفلاطون، حين قال بنظرية خاصة في العقل والعلم الانساني، وسميت تلك النظرية بنظرية (المثل الأفلاطونية)، فقد كان أفلاطون فيلسوفا مثاليا، ولكن مثاليته لم تكن تعني انكار الحقائق المحسوسة وتجريد الادراكات الحسية عن الحقائق الموضوعية المستقلة عن مجال التصور والادراك، بل كان يعتقد بموضوعية الاحساس، غير أنه ذهب إلى أكثر من ذلك فاعتقد بموضوعية الادراكات العقلية التي هي أعلى درجة من الادراكات الحسية مقررا أن الادراك العقلي - وهو أدراك الأنواع العامة كادراك معاني الانسان والماء والنور - ذو حقيقة موضوعية مستقلة عن التعقل، كما سبق ايضاحه في الجزء الأول من هذه المسألة.
وهكذا نعرف ان المثالية القديمة كانت لونا من ألوان الاسراف في الايمان بالواقع الموضوعي، لأنها آمنت بالواقع الموضوعي للاحساس - ادراك المعاني الخاصة بالحس - وللتعقل - ادراك المعاني بصورة عامة - ولم تكن انكارا للواقع أو شكا فيه.
واتخذت المثالية في التاريخ الحديث مفهوما آخر يختلف كل الاختلاف عن المفهوم السابق، فبينما كانت المثالية الأفلاطونية تؤكد على وجود الحقيقة الموضوعية للإدراكات العقلية والحسية معا جاءت المثالية في لونها الحديث لتزعزع أساس الواقع الموضوعي وتعلن عن مذهب جديد في نظرية المعرفة الانسانية تلغي به قيمتها الفلسفية. والمفهوم المثالي الجديد هو الذي يعنينا درسه ومعالجته في بحثنا هذا.
وقد اختلفت على هذا المفهوم ألوان متعددة وصياغات كثيرة، وتوسع
104

بعض كتاب الفلسفات فيه حتى اعتبروا المثالية وصفا لكل فلسفة ترتكز على الشك، أو تنطوي على محاولة لابعاد جانب من الأشياء الموضوعية عن نطاق المعرفة الانسانية أو تؤمن بمبدأ غيبي للعالم.
فالروحانية، واللاأدرية، والتجريبية، والعقلائية، والنقدية والظاهراتية الوجودية، كلها فلسفات مثالية في زعمهم (1).
لأجل أن يتضح دور المثالية في نظرية المعرفة الانسانية نتناول بالدرس الاتجاهات المهمة للمثالية الحديثة وهي: الاتجاه الفلسفي. والاتجاه الفيزيائي، والاتجاه الفسيولوجي.
1 - المثالية الفلسفية:
والممثل الأساسي لها (باركلي) الذي يعد امام المثالية الحديثة، وتعتبر فلسفته نقطة الانطلاق للاتجاه المثالي أو النزعة التصورية في قرون الفلسفة الأخيرة.
وجوهر المثالية في مذهب (باركلي) يتلخص في عبارته المشهورة: (ان يوجد هو: ان يدرك أو أن يدرك)، فلا يمكن أن يقر بالوجود لشيء ما لم يكن ذلك الشيء مدركا أو مدركا، والشيء المدرك هو النفس، والأشياء المدركة هي التصورات والمعاني القائمة في مجال الحس والادراك. فمن الضروري أن نؤمن بوجود النفس ووجود هذه المعاني، وأما الأشياء المستقلة عن حيز الادراك - الأشياء الموضوعية - فليست موجودة لأنها ليست مدركة.
ويتناول (باركلي) في بحثه بعد ذلك الأجسام التي يسميها الفلاسفة بالجواهر المادية ليخفيها عن مسرح الوجود قائلا: اننا لا ندرك من المادة التي يفترضونها الا مجموعة من التصورات الذهنية والظواهر الحسية، كاللون والطعم والشكل والرائحة وما إليها من صفات.

(1) ما هي المادية ص 5
105

ويعقب (باركلي) على مفهومه المثالي عن العالم مؤكدا انه ليس سوفسطائيا ولا شاكا في وجود العالم وما فيه من حقائق وكائنات، بل هو يعترف بوجود ذلك كله من ناحية فلسفية ولا يختلف من هذه الناحية عن سائر الفلاسفة، وانما يتفاوت عنهم في تحديد مفهوم الوجود. فالوجود عند (باركلي) ليس بمعناه عند الآخرين، فما هو موجود في رأيهم يؤمن (باركلي) بوجوده أيضا ولكن على طريقته الخاصة في تفسير الوجود، التي تعني ان وجود الشيء عبارة عن وجوده في ادراكنا - أي ادراكنا له.
ويعترض بعد ذلك سؤال بين يدي (باركلي) هو إذا كانت المادة غير موجودة فمن أين يمكن اذن أن نأتي بالاحساسات التي تنبثق في داخلنا كل لحظة، من دون أن يكون لإرادتنا الذاتية تأثير في انبثاقها وتتابعها؟
والجواب عد (باركلي) جاهز وهو أن الله نفسه يبعث تلك الإحساسات فينا.
وهكذا انتهى (باركلي) من مطافه الفلسفي وقد احتفظ لنفسه بحقيقتين إلى جانب الادراك: إحداهما العقل (الذات المدركة)، والأخرى هي الله (الحقيقة الخلافة لاحساساتنا)
وهذه النظرية تلغي مسألة المعرفة الانسانية ودراسة قيمتها من ناحية موضوعية الغاء تاما، لأنها لا تعترف بموضوعية الفكر والادراك ووجود شيء خارج حدودهما.
وينتاب المفهوم المثالي عند باركلي شيء من الغموض قد يجعل من الممكن ان يقدم له عدة تفسيرات. تتفاوت مفاهيمها في درجة مثاليتها وتعمقها في النزعة التصورية. ونحن نأخذ أعمق تلك المفاهيم في المثالية وهو المفهوم المثالي البحت، الذي لا يعترف بشيء عدا وجود النفس المدركة والاحساسات والادراكات التي تتابع في داخلها،
وهذا المفهوم هو الذي يشع من أكثر بياناته الفلسفية وينسجم مع الأدلة التي حاول اثبات مفهومه المثالي بها، وتتلخص الأدلة على هذا المفهوم فيما يأتي:
106

الدليل الأول: ان جميع الادراكات البشرية ترتكز على الحس وترجع اليه، فالحس هو القاعدة الرئيسية لها، وإذا حاولنا اختبار هذه القاعدة وجدناها مشحونة بالتناقضات والأخطاء. فحاسة البصر تتناقض دائما في رؤيتها للأجسام عند قربها وبعدها، فهي تدركها صغيرة الحجم إذا كانت بعيدة عنها، وتدركها بحجم أكبر إذا كانت قريبة منها، وحاسة اللمس هي أيضا تتناقض، فقد ندرك بها شيئا واحدا إدراكين مختلفين، ويوضح باركلي بعد ذلك فيقول، اغمس يديك في ماء دافئ بعد أن تغمس إحداهما في ماء ساخن والأخرى في ماء بارد، أفلا يبدو الماء باردا لليد الساخنة وساخنا لليد الباردة؟ فهل يجب اذن أن نقول عن الماء انه ساخن وبارد في نفس الوقت؟ أو ليس هذا هو الكلام الفارغ بعينه؟ واذن فلتستنتج معي ان الماء في ذاته لا يوجد كمادة مستقلا عن وجودنا. فهو ليس سوى اسم نطلقه نحن على إحساسنا. فالماء يوجد فينا نحن. وفي كلمة واحدة، المادة هي الفكرة التي نضعها عن المادة. وإذا كانت الإحساسات فارغة عن كل حقيقة موضوعية للتناقضات الملحوظة فيها لم تبق للمعرفة البشرية قيمة موضوعية مطلقا. لأنها ترتكز بصورة عامة على الحس وإذا انهارت القاعدة انهار الهرم كله.
وهذا الدليل لا قيمة له للأسباب الآتية:
أولا: ان المعارف البشرية لا ترتكز كلها على الحس والتجربة، لأن المذهب العقلي الذي درسناه في الجزء السابق من المسألة - المصدر الأساسي للمعرفة - يقرر وجود معارف أولية ضرورية للعقل البشري، وهذه المعارف الضرورية لم تنشأ من الحس ولا يبدو فيها شيء من التناقضات مطلقا، فلا يمكن اقتلاع هذه المعارف بالعاصفة التي تثار على الحس والادراكات الحسية، وما دمنا نملك معارف في منجاة عن العاصفة فمن الميسور ان نقيم على أساسها معرفة موضوعية صحيحة.
وثانيا: أن هذا الدليل يتناقض مع القاعدة الفلسفية المثالية (باركلي) - أي مع النظرية الحسية والمذهب التجريبي، ذلك أن باركلي فيه يعتبر مبدأ عدم التناقض حقيقة ثابتة ويستبعد من بداية الأمر امكان التناقض في
107

الواقع الموضوعي. وترتيبا على ذلك يستنتج من تناقض الادراكات والتجارب الحسية خلوها من الواقع الموضوعي، وغاب عنه ان مبدأ عدم التناقض ليس في المذهب التجريبي الا مبدأ تجريبيا يدلل عليه بالتجربة الحسية، فإذا كانت الادراكات والتجارب متناقضة كيف صح لباركلي ان يؤمن بمبدأ عدم التناقض، ويبرهن عن هذا الطريق على عدم وجود واقع موضوعي؟ ولماذا لا يصح عنده وجود واقع موضوعي تتناقض فيه الظواهر والأشياء والحقيقة ان باركلي استند - لا شعوريا - إلى فطرته الحاكمة بمبدأ عدم التناقض بصورة مستقلة عن الحس والتجربة.
وثالثا: من الضروري ان نميز بين مسألتين: إحداهما مسألة وجود واقع موضوعي للإدراكات والاحساسات، والأخرى مسألة مطابقة هذا الواقع لما يبدو لنا في ادراكنا وحواسنا. وإذا ميزنا بينهما استطعنا ان نعرف ان تناقض الإحساسات لا يمكن ان يتخذ برهانا على عدم وجود واقع موضوعي - كما حاول باركلي - وانما يدل على عدم التكافؤ بين المعنى المدرك بالحس، والواقع الموضوعي في الخارج - أي أن الاحساس لا يجب أن يكون مطابقا كل المطابقة للأشياء الخارجية. وهذا شيء غير ما حاوله باركلي من انكار موضوعية الاحساس، فنحن حين نغمس يدينا بالماء فتحس إحداهما بالحرارة وتحس الأخرى بالبرودة، لا نضطر لأجل استبعاد التناقض ان ننكر موضوعية الاحساس بصورة مطلقة، بل يمكننا أن نفسر التناقض على وجه آخر وهو ان احساساتنا عبارة عن انفعالات نفسية بالأشياء الخارجية، فلابد من شيء خارجي حينما نحس وننفعل. ولكن ليس من الضروري تكافؤ الاحساس مع الواقع الموضوعي لأن الاحساس لما كان انفعالا ذاتيا فهو لا يتجرد عن الناحية الذاتية. ويمكننا على هذا الأساس ان نحكم فورا في شأن الماء الذي افترضه باركلي بأنه ماء دافئ ليس ساخنا ولا باردا، وان هذا الدفء هو الواقع الموضوعي الذي أثار فينا الاحساسين المتناقضين، وقد تناقض الاحساسان بسبب الناحية الذاتية التي نضيفها على الأشياء حين ندركها وننفعل بها.
الدليل الثاني: ان الاعتقاد بوجود الأشياء خارج روحنا وتصورنا انما يقوم على أساس اننا نراها ونلمسها - أي أننا نعتقد بوجودها، لأنها تعطينا
108

احساسات ما، الا أن احساساتنا ليست سوى أفكار تحتويها أرواحنا، واذن فالأشياء التي تدركها حواسنا ليست سوى أفكار، والأفكار لا يمكن ان توجد خارج روحنا.
وباركلي في هذا الدليل يحاول أن يجعل مسألة الايمان بالواقع الموضوعي للأشياء متوقفة على الاتصال بذلك الواقع بصورة مباشرة، وما دام لا يتاح لنا في حال من الأحوال أن نتصل اتصالا مباشرا بالأشياء خارج روحنا، وما دمنا مضطرين إلى ادراكها في تصوراتنا وأفكارنا خاصة.
فلا وجود في الحقيقة الا لهذه التصورات والأفكار. ولو أطحنا بها لم يبق شيء نستطيع ان ندركه، أو أن نعترف بوجوده.
ويجب أن نلاحظ قبل كل شيء أن هذه الحجة التي حاول باركلي ان يبرهن بها على مفهومه المثالي ليست صحيحة، حتى عند باركلي نفسه، فإنه يتفق معنا - بصورة غير شعورية - على دحضها وعدم كفايتها لتبرير المفهوم المثالي، ذلك انها تؤدي إلى مثالية ذاتية تنكر وجود الاشخاص الآخرين كما تنكر وجود الطبيعة على السواء. فان الحقيقة إذا كانت مقتصرة على نفس الادراك والشعور باعتبار أننا لا نتصل بشيء وراء حدود الذهن ومحتوياته الشعورية، فهذا الادراك والشعور هو ادراكي وشعوري أنا، وأنا لا اتصل بادراك الآخرين وشعورهم كما لا اتصل بالطبيعية ذاتها، وهذا يفرض على عزلة عن كل شيء عدا وجودي وذهني فليس لي الحق بالتسليم بوجود الناس الآخرين لأنهم ليسوا الا تصورات ذهني وفكري الذاتي.
وهكذا تنتهي المسألة إلى مثالية فردانية فظيعة، فهل كان يمكن ل‍ (باركلي) ان يندفع مع حجته إلى أقصى مداها ويخرج منها بمثالية كهذه؟ وإذا كان قد حاول شيئا من هذا فسوف يتناقض مع نفسه قبل غيره، والا فمع من كان يتحدث؟ ولمن كان يكتب ويؤلف؟ ولحساب من كان يلقي محاضراته ودروسه؟ أليس ذلك تأكيدا قاطعا من باركلي على الواقع الموضوعي للأشخاص الآخرين؟
وهكذا يتضح ان باركلي نفسه يشاركنا في عدم قبول الحجة التي تبناها والتصديق - ولو لا شعوريا - ببطلانها.
109

ويبقى علينا بعد هذا ان نوضح سر المغالطة في هذا الدليل، لنفهم السبب في عدم حصول القناعة الواقعية به حتى ل‍ (باركلي) نفسه.
وفي هذا الصدد يلزمنا ان نستذكر ما عرفناه في الجزء الأول من المسألة - المصدر الأساسي للمعرفة - من انقسام الادراك البشري إلى قسمين رئيسيين وهما التصديق والتصور. وأن نعرف للتصديق ميزته الأساسية على التصور. هذه الميزة التي تجعل من المعرفة التصديقية همزة الوصل بيننا وبين العالم الخارجي.
وايضاح ذلك، أن التصور عبارة عن وجود صورة لمعنى من المعاني في مداركنا الخاصة، فقد توجد الصورة في حواسنا فيكون وجودها كذلك مكونا للاحساس بها. وقد توجد الصورة في مخيلتنا فيحصل بذلك التخيل، وقد توجد الصورة بمعناها التجريدي العام في الذهن ويسمى وجودها هذا تعقلا. فالاحساس والتخيل والتعقل ألوان من التصور وأنحاء لوجود صور الأشياء في المدارك البشرية. فنحن نتصور التفاحة على الشجرة بالاحساس بها عن طريق الرؤية، ومعنى إحساسنا بها وجود صورتها في حواسنا، ونحتفظ بعد ذلك بهذه الصورة بعد انصرافنا عن الشجرة في ذهننا وهذا الوجود هو التخيل. ويمكننا بعد ذلك أن نسقط من الصورة الخصائص التي تمتاز بها عن التفاحات الأخرى ونستبقي المعنى العام منها - أي معنى التفاحة بصفة كلية، وهذه الصورة الكلية في التعقل، فهذه مراحل ثلاثة من التصور يجتازها الادراك البشري وهو لا يعبر في كل مرحلة الا عن وجود صورة في بعض مداركنا، فالتصور لصفة عامة لا يعدو ان يكون وجودا لصورة شيء ما في مداركنا، سواء كان تصورا واضحا جليا كالاحساس أم باهتا وضئيلا كالتخيل والتعقل، وهو لذلك لا يمكن أن يشق لنا الطريق إلى ما وراء هذه الصورة التي نتصورها في مداركنا، ولا يكفي للانتقال من المجال الذاتي إلى المجال الموضوعي، لأن وجود صورة للمعنى في مداركنا شيء، ووجود ذلك المعنى بصورة موضوعية ومستقلة عنا في الخارج شيء آخر، ولذا قد يجعلنا الاحساس نتصور أمورا عديدة لا نؤمن بأن لها واقعا موضوعيا مستقلا، فنحن نتصور العصا المغموسة في الماء وهي مكسورة، ولكننا نعلم أن العصا لم تنكسر في
110

الماء حقا، وانما نحسها كذلك بسبب انكسار الأشعة الضوئية في الماء. ونتصور الماء الدافئ حارا جدا حين نضع يدنا فيه وهي شديدة البرودة، مع يقيننا بأن الحرارة التي أحسسنا بها ليس لها واقع موضوعي.
وأما التصديق - أي القسم الآخر من الادراك البشري - فهو الذي يصح ان يكون نقطة الانطلاق لنا من التصورية إلى الموضوعية، فلنلاحظ كيف يتم ذلك؟
ان المعرفة التصديقية عبارة عن حكم النفس بوجود حقيقة من الحقائق وراء التصور، كما في قولنا: ان الخط المستقيم اقصر مسافة بين نقطتين. فان معنى هذا الحكم هو جزمنا بحقيقة وراء تصوراتنا للخطوط المستقيمة والنقاط والمسافات، ولذلك يختلف كل الاختلاف عن ألوان التصور الساذج، فهو:
أولا: ليس صورة لمعنى معين من المعاني التي يمكن أن نحسها ونتصورها، بل فعلا نفسيا يربط بين الصور، ولهذا لا يمكن ان يكون واردا إلى الذهن عن طريق الاحساس، وانما هو من الفعاليات الباطنية للنفس المدركة.
ثانيا: يملك خاصة ذاتية لم تكن موجودة في شيء من ألوان التصور وأقسامه، وهي خاصة الكشف عن واقع وراء حدود الادراك، ولذلك كان من الممكن ان نتصور شيئا وأن تحس به ولا تؤمن بوجوده في واقع وراء الادراك والشعور، ولكن ليس من المعقول ان تكون لديك معرفة تصديقية - أي أن تصدق بأن الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين - وتشك مع ذلك في وجود حقيقية موضوعية يحكي عنها إدراكك وشعورك.
وهكذا يتضح ان المعرفة التصديقية هي وحدها التي يمكن ان ترد على حجة باركلي القائلة: أنا لا نتصل بالواقع مباشرة وانما نتصل بأفكارنا فلا وجود الا لأفكارنا. فالنفس وان كانت لا تتصل مباشرة الا بإدراكاتها الا أن هناك لونا من الادراك يكشف بطبيعته كشفا ذاتيا عن شيء خارج حدود الادراك وهو الحكم - أي المعرفة التصديقية. فحجة باركلي كانت تقوم على الخلط بين التصور والتصديق، وعدم ادراك الفوارق الأساسية بينهما.
وعلى هذا الضوء نتبين أن المذهب التجريبي والنظرية الحسية يؤديان إلى
111

النزعة المثالية، فهما مضطران إلى قبول الحجة التي قدمها باركلي، لان النفس البشرية بمقتضى هذين المبدأين لا تملك ادراكا ضروريا أو فطريا مطلقا. وانما تنشأ ادراكاتها جميعا من الحس وترتكز معارفها عليه، والحس ليس الا لونا من ألوان التصور. فمهما كثر وتنوع لا يعدو حدوده التصورية، ولا يمكن أن يخطو به الانسان إلى الموضوعية خطوة واحدة.
الدليل الثالث: ان الادراكات والمعارف البشرية إذا كانت لها خاصة الكشف الذاتي عن مجال وراء حدودها وجب أن تكون جميع العلوم والمعارف صحيحة، لأنها كاشفة بحكم طبيعتها وذاتها، والشيء لا يتخلى عن وصفه الذاتي، مع أن جميع مفكري البشرية يعترفون بأن كثيرا من المعلومات والاحكام التي لدى الناس هي ادراكات خاطئة ولا تكشف شيئا من الواقع، بل قد يجمع العلماء على الاعتقاد بنظرية ما ويتجلى بعد ذلك بكل وضوح انها ليست صحيحة، فكيف يفهم هذا على ضوء ما تزعمه الفلسفة الواقعية - من ان العلم يتمتع بالكشف الذاتي؟ وهل لهذه الفلسفة من مهرب الا التنازل عن منح العلم هذه الصفة؟
وإذا تنازلت عن ذلك كانت المثالية أمرا محتما، لأنا لا نستطيع ان نصل حينئذ إلى الواقع الموضوعي عن طريق أفكارنا ما دمنا قد اعترفنا بأنها لا تملك كشفا ذاتيا عن ذلك الواقع.
ولأجل ان نجيب على هذا الدليل يلزمنا ان نعرف ما هو معنى الكشف الذاتي للعلم؟ ان الكشف الذاتي للعلم معناه ان يرينا متعلقه ثابتا في الواقع الخارج عن حدود إدراكنا وشعورنا. فعلمنا بأن الشمس طالعة وان المثلث غير المربع يجعلنا نرى طلوع الشمس ومغايرة المثلث للمربع ثابتين في واقع مستقل عنا، فهو يقوم بدور المرآة،
واراءته لنا ذلك هي كشفه الذاتي، وليس معنى هذه الاراءة أن طلوع الشمس موجود في الخارج حقا، وأن مغايرة المثلث للمربع ثابتة في الواقع. فان كون الشيء ثابتا في الواقع غير كونه مرئيا كذلك، وبذلك نعرف أن لكشف الذاتي للعلم لا يتخلف عنه حتى في موارد الخطأ والاشتباه، فان علم القدماء بأن الشمس تدور حول الأرض كان له من الكشف الذاتي بمقدار ما لعلمنا بدوران الأرض حول الشمس من كشف - بمعنى انهم كانوا يرون دوران الشمس حول الأرض أمرا ثابتا في
112

الواقع بصورة مستقلة عنهم، فوجود هذا الدوران بصورة موضوعية كان مرئيا لهم أي انهم كانوا يصدقون بذلك وان لم يكن ثابتا في الواقع (1).
فالانسان بطبيعته اذن يخرج من التصورية إلى الموضوعية بالعلم التصديقي لمكان كشفه الذاتي، سواء أكان العلم مصيبا في الواقع أم مخطئا، فإنه علم وكشف على كل تقدير.
الدليل الرابع:
ان المعارف التصديقية إذا كانت قد تخطئ ولم يكن كشفها الذاتي يصونها عن ذلك فلماذا لا يجوز أن تكون جميع معارفنا التصديقية خطأ؟ وكيف يمكننا أن نعتمد على الكشف الذاتي للعلم ما دام هذا الكشف صفة لازمة للعلم في موارد الخطأ والصواب على حد سواء.
وهذه المحاولة تختلف في هدفها عن المحاولة السابقة، ففي تلك المحاولة كانت تستهدف المثالية إلى اعتبار المعارف البشرية أشياء ذاتية لا تشق لنا الطريق إلى الواقع الموضوعي، وقد أحبطنا تلك المحاولة بايضاح ما للمعارف التصديقية من كشف ذاتي تمتاز به على التصور الخالص. وأما هذه المحاولة فهي تقصد إزالة المعارف التصديقية نهائيا من التفكير البشري، لأنها ما دامت قد تخطئ، أو ما دام كشفها الذاتي لا يعني صحتها دائما، فلماذا لا نشك فيها ونتخلى عنها جميعا؟ ولا يوجد لدينا بعد ذلك ما يضمن وجود العالم الموضوعي.
وبطبيعة الحال، ان التفكير البشري لو لم يكن يملك عدة معارف مضمونة الصحة بصورة ضرورية، لكان هذا الشك لازما ولا مهرب عنه، ولما أمكننا أن نعلم بحقيقة مهما كانت ما دام هذا العلم لا يستند إلى ضمان ضروري،

(1) وبالتعبير الفلسفي المصطلح ان التضايف القائم بين الكاشف وهو العلم، والمنكشف بالعرض وهو الشيء الخارج عن حدود العلم، ليس ثابتا بين وجود الكاشف ووجود المنكشف بالعرض، ليمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر، وانما هو بين الكاشفية الذاتية للعلم والمنكشفية بالعرض للشيء الخارج عن حدود العلم، ومن الواضح ان الامرين متلازمتان ولا يمكن انفكاكهما مطلقا.
113

وكان الخطأ محتملا في كل مجال. ولكن الذي يقضي على هذا الشك هو المذهب العقلي - الذي درسناه في الجزء الأول من نظرية المعرفة (المصدر الأساسي للمعرفة) - فهو يقرر وجود معارف ضرورية مضمونة الصحة لا يقع فيها الخطأ مطلقا، وانما يقع أحيانا في طريقة الاستنتاج منها. وعلى هذا تنقسم المعارف البشرية - كما سبق في تلك الدراسة - إلى معارف ضرورية مضمونة تتشكل منها القاعدة الرئيسية للتفكير، ومعارف ثانوية تستنتج من تلك القاعدة وهي التي قد يقع فيها الخطأ.
فنحن اذن مهما شككنا، لا نستطيع أن نشك في تلك القاعدة لأنها مضمونة الصدق بصورة ضرورية.
ونريد أن نتبين الآن ما إذا كان في وسع الفيلسوف المثالي باركلي أن ينكر تلك القاعدة المضمونة، ولا يقر بوجود معارف ضرورية فوق الخطأ والاشتباه أولا؟
ولا شك في أن الجواب هو النفي، فإنه مضطر إلى الاعتراف بوجود معارف مضمونة الصدق ما دام قد حاول الاستدلال على مثاليته بالأدلة السابقة، فان الانسان لا يمكنه أن يستدل على شيء ما لم يركز استدلاله على أصول وقواعد مضمونة الصدق عنده، ونحن إذا لاحظنا أدلة باركلي وجدناه مضطرا إلى الاعتراف:
أولا: بمبدأ عدم التناقض الذي ارتكز عليه الدليل الأول، فان التناقض إذا كان ممكنا، فلا يصح أن يستنتج من تناقض الإحساسات عدم موضوعيتها.
وثانيا: بمبدأ العلية والضرورة، فهو لو لم يكن يعترف بهذا المبدأ لكان استدلاله عبثا، لأن الانسان انما يقيم دليلا على رأيه لايمانه بأن الدليل علة ضرورية للعلم بصحة ذلك الرأي. فإذا لم يكن يعتقد بمبدأ العلية والضرورة جاز ان يكون الدليل صحيحا، ومع ذلك لا يثبت به الرأي المطلوب.
وإذا ثبت وجود معارف مضمونة الصدق في التفكير البشري، فلا شك في
114

أن من تلك المعارف معرفتنا بوجود العالم الموضوعي المستقل عنا، فان العقل يجد نفسه مضطرا إلى التصديق بوجود عالم خارجي على سبيل الاجمال ورفض كل شك في ذلك، مهما وقعت من مفارقات بين حسه والواقع، أو بين فكره والحقيقة، بل يعد التشكيك في وجود العالم المستقل ضربا من الجنون، ونخلص من مناقشاتنا للمثالية الفلسفية إلى أن الواقعية ترتكز على أساسين: الأول، الايمان بوجود كشف ذاتي للمعارف التصديقية، الثاني، الاعتقاد بقاعدة أساسية للمعرفة البشرية مضمونة الصدق بصورة ضرورية. وكلا هذين الأساسين قد وجدنا باركلي مضطرا إلى الاعتراف بهما، فإنه لولا الكشف الذاتي للمعرفة التصديقية لما عرف الاشخاص الآخرين، ولما كيف حياته على أساس وجودهم، ولولا وجود معارف مضمونة الصدق في التفكير البشري لما أمكنه أن يستدل على مزاعمه المثالية.
ب - المثالية الفيزيائية:
كانت الفيزياء قبل قرن من الزمان تفسر الطبيعة تفسيرا واقعيا ماديا تحكمه قوانين الميكانيك العامة. فالطبيعة واقعية عند الفيزيائيين بمعنى أنها موجودة بصورة مستقلة عن الذهن والشعور، وهي مادية أيضا لأن مرد الطبيعة في تحليلهم العلمي إلى جزئيات صلبة صغيرة لا تقبل التغير ولا الانقسام، وهي الجواهر المفردة التي نادى بها ديموقريطس في الفلسفة اليونانية، وهذه الجزئيات أو الكتل الأولية للطبيعة في حركة مستمرة. فالمادة هي مجموع تلك الجزئيات، والظاهرات الطبيعية فيها ناتجة عن انتقال تلك الكتل وحركتها في المكان.
ولما كانت هذه الحركة بحاجة إلى تفسير من العلم فقد فسرتها الفيزياء تفسيرا آليا كما تفسر الحركة في رقاص الساعة أو الأمواج الصوتية. وافترض وجود قوى في الكتل أو علاقات خاصة بين تلك الكتل. لمحاولة تكميل التفسير الآلي لظواهر الطبيعة. وهذه القوى والعلاقات بدورها يجب أن تخضع للتفسير الآلي أيضا فنشأ من ذلك في الفيزياء المفهوم الفرضي ل‍ (الأثير)، وأسندت اليه عدة مهام كانتشار الضوء الذي افترض الأثير حاملا له عند
115

انتقاله من بعض الأجسام إلى بعض، كما يحمل أيضا الحرارة والكهرباء ونحوها من قوى الطبيعة.
ويتخلص هذا العرض في أن الطبيعة واقع موضوعي مادي يحكمه نظام آلي كامل.
ولم يستطع، هذا المفهوم الفيزيائي أن يصمد للكشوف الحديثة التي فرضت على العلماء أن يقلبوا نظرياتهم عن الطبيعة رأسا على عقب. وبرهنت لهم على أن العقل العلمي لا يزال في البداية، وكان من أهم تلك الكشوف العلمية اكتشاف الكهارب الذي دل على وجود بنية مركبة للذرة واكتشاف انحلالها الاشعاعي.
فبينما كانت الذرة هي الوحدة المادية الأساسية التي تأتلف منها الطبيعة عادت بدورها مركبة، ولم تقف القصة عند هذا الحد بل وأصبح من الممكن أن تتبخر كهرباء. وبينما كانت الحركة محدودة في حدود الحركات الميكانيكية التي تتسق مع التفسير الآلي للطبيعة، اكتشفت ألوان أخرى من الحركة. وبينما كان الرأي السائد يزعم أن كتلة المادة - وهي التعبير الرياضي عن الجوهر المادي - دائمة وغير قابلة للتغيير، ثبت في البرهان العلمي انها ليست ثابتة بل هي نسبية ولا تعبر في مفهومها الواقعي الا عن طاقة مكتنزة ولذا تختلف كتلة الجسم باختلاف حركته.
وهكذا بدا للفيزيائيين واضحا ان المادية قد ماتت وأن المفهوم المادي للعالم أصبح يتعارض مع العلم والبراهين التجريبية.
ولأجل ذلك استطاع العلماء ان يكونوا عن العالم مفهوما جوهريا أعمق من المفهوم المادي، وليست المادية الا وجها من وجوه هذا المفهوم الجديد، بل ذهب بعض الفيزيائيين إلى أكثر من ذلك فزعم أن مرد العالم إلى حركة خالصة محاولا الاستغناء عن إضافة أي حقيقة جوهرية إليها
فقد قال (أوزوالد):
((ان العصا التي تضرب (سكابان) لا تنهض على وجود
116

العالم الخارجي، هذه العصا ليست موجودة وليس موجودا الا طاقتها الحركية)).
وقال (كارل بيرسون):
((المادة هي اللامادي الذي هو في حركة))
وفي غمرة هذه الكشوف الجديدة التي زعزعت الكيان المادي وأظهرت ان المادة هي الوهم البشري العام عن العالم لا المفهوم العلمي المطابق للعالم، ظهر الاتجاه المثالي في الفيزياء واستهوى كثيرا من الفيزيائيين، فقالوا: ما دام العلم يقدم في كل يوم براهين جديدة ضد القيمة الموضوعية للمعرفة البشرية، وضد الصفة المادية للعالم، فليست الذرات أو البنيات الأساسية للمادة، بعد أن تبخرت على ضوء العلم، الا طرقا مناسبة للتعبير عن الفكر، واستعارات وإشارات لا تتضمن من الحقيقة الواقعية شيئا.
قال أدينغتون:
((ليس ثمة في منظومة قوانين علم الطبيعة كلها شيء واحد لا يمكن استنتاجه بوضوح من اعتبارات نظرية المعرفة الشاملة المطلقة وتأملاتها، والدماغ الذي يكون غير عالم بكوننا ولكنه يعرف نظام التفكير الذي يفسر بوساطته العقل البشري تجربته الحسية، يكون بمقدوره ان يبلغ جميع معارف علم الطبيعة المحصلة من طريق التجربة، وفي النهاية أقول: ان ما ادركه عن الكون هو تماما وبصورة صحيحة دقيقة الشيء نفسه الذي نضيفه إلى الكون ليصبح مفهوما)).
وأعرب بعد ذلك عن أمله في:
((ان يعرف في السنوات القريبة القادمة ما كان خبيثا في النواة الذرية رغم ما ينشأ في أذهاننا من ظن بأن هذا قد خبئ من قبلنا)).
والواقع ان الاتجاه المثالي عند هؤلاء الفيزيائيين ناتج عن خطأ في التفكير الفلسفي لا عن برهان فيزيائي في المجال العلمي، ذلك ان المسألة الأساسية في
117

الفلسفة التي انقسم الفلاسفة في الجواب عنها إلى مثاليين وواقعيين بدت لهم مغلوطة.
فالمسألة الأساسية هي مسألة ما إذا كان للعالم واقع موضوعي مستقل عن ذهننا وشعورنا، وقد فهمها أولئك الفيزيائيون على أنها لا تقبل سوى إجابتين على الوجه الآتي فقط:
اما أن مرد العالم إلى الذهن والشعور فلا وجود له بصورة موضوعية، واما ان العالم واقع مادي موجود خارج الذهن والشعور.
فإذا استبعدنا الإجابة الثانية بالبراهين والتجارب العلمية التي دلت على أن المادية ليست الا قناعا للحقيقة التي ينطوي عليها العالم، لزمنا الأخذ بالإجابة الأولى والاعتقاد بالمفهوم المثالي البحت للعالم.
ولكن الحقيقة أن الإجابتين لم توضعا وضعا صحيحا فيما سبق ذلك ان تقديم إجابة تناقض الإجابة المثالية لا تحتم علينا الايمان بلزوم الصفة المادية للواقع الموضوعي، فان الواقعية التي تخالف المثالية بصورة متقابلة لا تعني أكثر من الاعتراف بوجود واقع موضوعي مستقل عن الذهن والشعور، وأما أن هذا الواقع الموضوعي المستقل هل هو المادة أو القوة أو الحركة أو الموج الكهربائي.. فذلك سؤال آخر يجب على الواقعية التي آمنت بالعالم الموضوعي ان تجيب عنه على ضوء العلم والاكتشافات التجريبية.
ومتى فرقنا بين المسألتين تفريقا تاما استطعنا ان نرد الاتجاه المثالي السابق الذكر إلى الخطأ الذي يرتكز عليه.
فقد عرفنا أن السؤال الأول هو: هل للعالم واقع مستقل عن الذهن البشري؟
والإجابتان عن هذا السؤال هما للمثالية والواقعية. فالمثالية تجيب بالنفي والواقعية تجيب بالاثبات. وكلتا الإجابتين يجب ارتكازهما على أساس فلسفي بحت ولا كلمة للعلم والتجربة في هذا الموضوع.
والسؤال الآخر، ما هو الواقع الموضوعي المستقل؟ وهل تلزمه خصائص
118

المادة وصفاتها أولا؟ وهذا السؤال انما يتجه إلى الواقعية ولا مجال له على أساس المفهوم المثالي. ويجيب بعض الواقعيين عن هذا السؤال باعطاء المفهوم المادي للواقع الموضوعي المستقل، ويجيب الآخرون باعطاء مفاهيم أخرى، وللعلم في هذه الإجابات كلمته، فالتجارب والكشوف العلمية هي التي تكون المفهوم العلمي للواقعيين عن العالم الموضوعي.
فإذا أبطل العلم المفهوم المادي للعالم فهو لا يعني ان العلم رفض الواقعية وصار مثاليا، لان الكشف العلمي لم يبرهن على عدم وجود الواقع الموضوعي المستقل، وانما دلل على عدم لزوم الصفة المادية له.
فليكن مرد العالم إلى القوة أو إلى الحركة أو إلى أي شيء آخر غير المادة، فان ذلك لا يضر بالواقعية ولا يبرهن على المثالية ما دام لذلك الشيء واقع موضوعي موجود بصورة مستقلة عن الذهن والشعور، فالمادة إذا تبخرت كهرباء على ضوء العلم، والكتلة إذا تحولت إلى طاقة والطاقة إذا تحولت إلى كتلة، والطبيعة إذا كانت تعبر عن حركة خالية من المادة، إذا صح ذلك كله فلن يغير ذلك من موقفنا تجاه السؤال الأول، شيئا، لأننا نؤمن على كل تقدير بأن الحقيقة ليست نتاج الشعور فحسب، بل هي وليدة الواقع المستقل.
وانما يكون لهذه النظريات العلمية تأثير إذا فرغنا عن الإجابة على السؤال الأول، وتناولنا السؤال الثاني لنعرف كيف هو العالم؟
وبهذا نعرف ان كشوف العلم الحديث لا ترد على الواقعية بشيء، وانما ترد على المادية التي تزعم ان المادية هي الوصف اللازم لذلك الواقع بصورة عامة.
ومن الغريب محاولة بعض الماديين الاحتفاظ للمادية بمقامها، والرد على البراهين العلمية والتجريبية بأنها لا تبرهن على سلب الصفة المادية عن العالم، وانما تكون سببا في تعمق فهمنا للمادة وخصائصها.
قال لينين: ((ان تلاشي المادة يعين ان الحد الذي وصلت اليه معرفتنا بالمادة يتلاشى، وان وعينا يتعمق، فثمة خصائص للمادة
119

كعدم قابليتها للاختراق وعدم الحركة والكتلة.. كانت تبدو لنا من قبل مطلقة ثابتة أولية وهي تتلاشى الآن، وقد عرفت بأنها نسبية ملازمة فقط لبعض حالات المادة، ذلك ان الخاصة الوحيدة للمادة. التي يحدد التسليم بها المادية الفلسفية انما هي كونا - أي المادة - حقيقة موضوعية، وانها موجودة خارج وعينا)) (1).
((ان دعائم المفهوم المادي عن العالم لا يمكن أن يزعزها أي تغيير للمفهوم العلمي لخصائص المادة، وليس ذلك لأن المدرك الفلسفي عن المادة يكون دون علاقة المدرك علمي مزعوم، وانما لأن المادة لا يمكن ان تفقد هذه الخاصة الأساسية من خصائصها وهي كونها - أي المادة - حقيقة واقعية موضوعية)) (2).
بهذا أراد لينين أن يزيف المثالية الفيزيائية ويدعم مفهومه المادي.
ويبدو واضحا من كلامه تجاهله لكل فلسفة واقعية عدا الواقعية القائمة على أساس مادي، ولأجل ان يحل التناقض بين المفهوم المادي وحقائق العلم والفيزياء شرح مفهوم المادة شرحا غريبا، وأعطاه من السعة والشمول ما جعله يعبر عن الواقع الموضوعي المستقل بالمادة، محاولا بذلك أن يقدم المادية كحل فلسفي وحيد لمسألة وجود العالم في مقابل المثالية... ومن الواضح ان المادة إذا كانت تعبيرا مساويا للواقع الموضوعي المستقل. وكانت خصيصتها الوحيدة اللازمة لها هي موضوعيتها ووجودها بصور مستقلة عن وعينا، فالفلسفة الميتافيزيقية الإلهية تكون فلسفة مادية تماما باعتبار هذا المفهوم الجديد للمادة، ويرتفع التعارض نهائيا بين الفلسفة الميتافيزيقية والفلسفة المادية ومفهومها عن العالم.

(1) ما هي المادية ص 20 - 21.
(2) المصدر نفسه ص 23.
120

فالفيلسوف الإلهي الذي يؤمن بما وراء الطبيعة يقول نفس الكلمة تماما عن العالم. فالعالم عنده واقع موضوعي مستقل عن وعينا، وليس المبدأ الإلهي الذي تعتقد به الفلسفة الميتافيزيقية الا واقعا موضوعيا مستقلا عن وعينا.
والحقيقة ان التلاعب بالألفاظ لا يجدي شيئا، فتوسعة المفهوم المادي إلى حد ينطبق على المفهوم المعارض له وينسجم معه لا يعني الا تخليه عن واقعه الفلسفي الخاص، وعجزه عن الرد على ما يعارضه من مفاهيم.
أضف إلى ذلك ان المادية الجدلية لا تسمح للينين ان يعترف بحقيقة مطلقة، لأن ذلك يتنافى مع الجدل القائل بتطور جميع الحقائق طبقا للتناقضات المحتواة فيها. فهل الخاصة الأساسية للمادة في مفهومها اللينيني الجديد خاصة مطلقة لا تتطور ولا تخضع لقانون الجدل وتناقضاته، فان كانت كذلك فقد وجدت اذن الحقيقة المطلقة التي يرفضها الديالكتيك ولا يقرها أصول الجدل الماركسي. وان كانت هذه الخاصة خاصة جدلية ومحتوية على التناقضات الدافعة لها إلى التطور والتغير كسائر حقائق العالم، فمعنى ذلك أن المادية تشكو هي أيضا من التناقض وتضطر لأجل ذلك إلى التغير والتبدل ونزع الصفة الأساسية للمادة عنها.
والنتيجة التي نخرج بها هي ان النزعة المثالية عند الفيزيائيين نشأت عن عدم التمييز بين المسألتين الفلسفيتين اللتين شرحناهما، وليست وليدة الأدلة العلمية بصورة مباشرة.
ومع هذا فيجب أن نشير إلى عامر آخر لعب دورا مهما في زعزعة يقين العلماء بالواقع الموضوعي، وهو انهيار المسلمات العلمية في الميدان العلمي الحديث، فبينما كانت تعتبر تلك المسلمات حقائق قاطعة لا تقبل الشك استطاع العلم أن يزيفها ويبرهن على خطأها فذابت، في لحظة ذرات (جون دالتون) وتزعزع قانون عدم فناء
المادة، ودللت التجارب على أن المادة وهم عاش فيه البشر آلاف السنين، فكان رد الفعل لذلك أن ثار الشك من جديد وطغى على أفكار عدة من العلماء، فإذا كانت مسلمات العلم بالأمس أخطاء اليوم فلماذا لا يجوز لنا ان نرتاب في كل حقيقة مهما بدت لنا واضحة، ولماذا
121

نفترض المسألة الأساسية - مسألة وجود الواقع الموضوعي للعالم - فوق الريب والشك؟
وهكذا انبثقت النزعة المثالية أو اللاأدرية لا باعتبار برهنة العلم على صحتها وصوابها، بل باعتبار تزعزع عقيدة العلماء بالعلم وزوال ايمانهم بمسلماته القاطعة، ولكن هذا العامل لا يعدو ان يكون باعثا نفسيا أو أزمة نفسية أوحت بالتمايل نحو المثالية، وتزول هذه الأزمة النفسية بأدنى ملاحظة حين تدرس المسألة دراسة فلسفية، ذلك أن الاعتقاد بوجود الواقع الموضوعي للعالم ليس ناشئا من براهين التجربة والعلم، فقد عرفنا سابقا ان التجارب لا يمكن ان تبعث على هذا الاعتقاد وتخرج الانسان من التصورية إلى الموضوعية، بل هو اعتقاد فطري ضروري في الطبيعة الانسانية ولأجل ذلك فهو عام يشترك فيه الجميع حتى المثاليون المتمردون عليه بلسانهم، فإنهم أيضا يعتقدون هذا الاعتقاد تماما كما تدل عليه حياتهم العملية. وأما المسلمات التي ظهر خطأها فهي تدور كلها حول بنية العالم الموضوعي وتحديد واقعه وعناصره الأساسية، ومن الواضح أن مسلمات كهذه إنما تثبت بالتجربة العلمية، فانهيارها ووضوح خطأها - بسبب نقصان التجارب التي ارتكزت عليها وعدم دقتها، أو عدم صحة الاستنتاج العقلي للنظرية من التجربة - لا يعني بحال من الأحوال أن يجوز الخطأ على المسلمات العقلية الضرورية.
ج - المثالية الفيزيولوجية:
وهذا لون آخر من المثالية يبدو عند بعض علماء الفيزيولوجيا. ويعتمد في زعمهم على الحقائق الفيزيولوجية التي يكشفها العلم. وينطلق هذا الاتجاه المثالي من نقطة لا نقاش فيها. وهي ان الشكل الذاتي للاحساس البشري يتوقف تحديده على تركيب حواسنا وعلى الجهاز العضوي بصورة عامة. فليست طبيعة الاحساس الآتي من العالم الخارجي هي التي تحدد بمفردها شكل الشيء في إحساسنا، بل هو رهين بطبيعة الجهاز العصبي قبل كل شيء. وقد زعموا بناء على ذلك ان الحاسة لا تعطينا أنباء عن العالم الخارجي، وانما هي تنبئنا عن جهازنا العضوي الخاص، وليس معنى ذلك ان الاحساس لا صلة
122

له بالشيء الخارجي، بل الأشياء الخارجية هي ان الأسباب الأولية لإثارة العمليات الحسية في أعضائنا، ولكن طبيعة الجهاز الخاص هي التي تبلور عملية الاحساس في الكيفية التي يعبر بها عن نفسه، ولأجل هذا فالإحساس يمكن ان يعتبر بمثابة رمز وليس بمثابة صورة، ذلك لأن الصورة يتطلب منها بعض الشبه مع الشيء الذي تمثله، واما الرمز فلا يلزم أن يكون له أي شبه مع الشيء الذي يعنيه.
وهذا الاتجاه المثالي من المضاعفات اللازمة للمفهوم المادي للادراك الذي نرفضه كل الرفض، فان الادراك إذا كان عبارة عن عملية فيزيولوجية خالصة، وتفاعل مادي خاص بين الجهاز العصبي والأشياء الموضوعية في الخارج، فيجب أن تكون كيفية هذا العمل الفيزيولوجي هنا مرتبطة بطبيعة الجهاز العصبي، أو بطبيعة الجهاز وطبيعة الشيء الموضوعي معا.
وهذا وان يكن مؤديا إلى مثالية صريحة ونفي لواقع العالم الموضوعي ما دمنا قد احتفظنا للأشياء الخارجية بصفة السببية لعمليات الجهاز العصبي، الا أنه قد يسمح بالتشكيك في مدى مطابقة الاحساس للواقع الموضوعي، والريب في أن لا يكون الادراك مجرد انفعال خاص يدل على سببه بصورة رمزية من دون تشابه في الحقيقة والمحتوى. وسوف نعود إلى هذا المفهوم المثالي الفيزيولوجي عن قريب.
5 - أنصار الشك الحديث:
ومرد هذا الشك الحديث في الحقيقة إلى مذهب الشك القديم، الذي اتخذته المدرسة الشكية الإغريقية وبشر له (بيرون) زاعما عجز الانسان عن اعطاء أي حكم على الأشياء. وقد نشأت الشكية الحديثة في ظروف مشابهة للظروف التي اكتنفت تلك المدرسة القديمة وساعدت على انشائها، فالشكية الإغريقية جاءت كحل وسط للصراع الذي قام على أشده بين السفسطة والفلسفة. فقد كانت السفسطة قد ولدت قبل الشكية بقرون. وتمردت على جميع الحقائق وأنكرت القضايا العلمية والحسية كافة. وقام الفلاسفة في وجهها يظهرون تناقضاتها ويكشفون عن انهيارها بين يدي النقد حتى تضاءلت موجة
123

الانكار، فانبثقت عند ذلك فكرة الشك التي أعلنت عن (لا أدرية) مطلقة، وحاولت تبرير ذلك باظهار تناقضات الحواس وتضارب الأفكار الذي يسلب عنها صفة الوثوق العلمي، فكانت تخفيفا للسفسطة. وكذلك الأمر في الشكية الحديثة، فان أصحابها حاولوا تقديمها كحل للتناقض القائم بين المثالية والواقعية. ان صح ان يعتبر الاستسلام إلى الشك حلا لهذا التناقض وكانت بسبب ذلك صورة مخففة عن المثالية.
ولم تعتمد الشكية الحديثة على اظهار تناقضات الاحساس والادراك فحسب، بل على تحليل المعرفة الذي يؤدي إلى الشك في زعمها. فقد كان (دافيد هيوم) الذي بشر بفلسفة الشك على أثر فلسفة (باركلي)
يرى ان التأكد من القيم الموضوعية للمعرفة البشرية أمر غير ميسور، لأن أداة المعرفة البشرية هي الذهن أو الفكر، ولا يمكن أن يحضر في الذهن سوى ادراكات، ومن الممتنع ان نتصور أو نكون معنى شيء يختلف عن التصورات والانفعالات، فلنوجه انتباهنا إلى الخارج ما استطعنا ولتثب مخيلتنا إلى السماوات أو إلى أقاصي الكون فلن نخطو أبدا خطوة إلى ما بعد أنفسنا. ولهذا فلا يمكن أن نجيب على المسألة الأساسية في الفلسفة التي يتصارع عندها المثاليون والواقعيون. فالمثالية تزعم ان الواقع قائم في الشعور والادراك، والواقعية تؤكد على أنه موجود بصورة موضوعية مستقلة. والشكية ترفض ان تجيب على المسألة لأن الرد عليها مستحيل فلترجأ المسألة إلى الأبد.
والواقع أن (دافيد هيوم) لم يزد على حجج (باركلي) شيئا، وان زاد عليه في الشك والعبث بالحقائق، فلم يقف في شكيته عند المادة الخارجية، بل أطاح بالحقيقتين اللتين احتفظ بهما (باركلي) في فلسفته - وهما النفس والله - تمشيا مع المبدأ الحسي إلى النهاية، فقد اتخذ لذلك نفس أسلوب باركلي وطريقته، فكما ان الجوهر المادي لم يكن في رأي باركلي الا مجموعة من الظواهر المركبة تركيبا صناعيا في الذهن، كذلك النفس ما هي الا جملة من الظواهر الباطنية وعلاقاتها، ولا يمكن اثبات (الأنا) - النفس - بالشعور، لأنني حين انفذ إلى صميم ما اسميه (أنا) أقع على ظاهرة جزئية، فلو ذابت الادراكات جميعا لم يبق شيء أستطيع أن اسميه (أنا).
124

وفكرة (الله) تقوم على مبدأ العلية، ولكن هذا المبدأ لا يمكن التسليم بصحته بزعم (دافيد)، لأن الحس لا يطلعنا على ضرورة بين الظواهر والحوادث، وانما ترجع فكرة العلية إلى مجرد عادة، أو إلى لون من ألوان تداعي المعاني. وهكذا بلغ (دافيد) بالنظرية الحسية والمذهب التجريبي إلى ذروتهما التي يؤديان إليها طبيعيا، وبدلا من أن يبرهن عن هذا الطريق على رفض المبدأ الحسي والتجريبي في الفكر انساق معه حتى انطلق به إلى النهاية المحتومة. ولا نريد أن نناقش (دافيد هيوم) من جديد ما دامت حججه اجترارا من أدلة باركلي وآرائه، وانما نتناول نقطة واحدة وهي العادة التي ارجع إليها مبدأ العلية وكثيرا من العلاقات القائمة بين الأشياء في الفكر، لنتساءل: ما هي العادة؟ فان كانت عبارة عن ضرورة قائمة بين فكرة العلة والمعلول، فهي تعبير آخر عن مبدأ العلية، وان كانت شيئا آخر فهي لا تختلف عن العلية في كونها معنى غيبا ليس لدينا احساس أو انفعال يقابله، فكان يجب عليه رفضه كما رفض جميع الحقائق التي لا يمتد إليها الحس، وقد سبق في نقد المذهب التجريبي الرد على هذا التفسير الفاشل للعلية الذي حاوله (هيوم)، فليلاحظ.
6 - النسبيون:
تعتبر النسبية من المذاهب الفلسفية القائلة بوجود الحقيقة وامكان المعرفة البشرية، ولكن هذه المعرفة أو الحقيقة التي يمكن للفكر الانساني ان يظفر بها هي معرفة أو حقيقة نسبية، بمعنى أنها ليست حقيقة خالصة من الشوائب الذاتية ومطلقة، بل هي مزيج من الناحية الموضوعية للشيء، والناحية الذاتية للفكر المدرك، فلا يمكن ان تفصل الحقيقة الموضوعية في التفكير عن الناحية الذاتية وتبدو عارية عن كل إضافة أجنبية.
وفي النسبية اتجاهان رئيسيان يختلفان في معنى النسبية وحدودها في العلوم البشرية، أحدهما الاتجاه النسبي في فلسفة (عمانوئيل كانت). والآخر الاتجاه
125

النسبي الذاتي لعدة من الفلاسفة الماديين المحدثين الذي مهد للنسبية التطورية التي نادت بها المادية الديالكتيكية.
أ - نسبية كانت:
يجب أن تعرف قبل كل شيء أن الحكم العقلي عند (كانت) على قسمين:
أحدهما الحكم التحليلي، وهو الحكم الذي يستعمله العقل لأجل التوضيح فحسب، كما في قولنا: الجسم ممتد، والمثلث ذو أضلاع ثلاثة. فان مرد الحكم هنا إلى تحليل مفهوم الموضوع (الجسم أو المثلث)، واستخراج العناصر المتضمنة فيه - كالامتداد المتضمن في مفهوم الجسم، والأضلاع الثلاثة المتضمنة في مفهوم المثلث - وردها إلى الموضوع. والاحكام التحليلية لا تتحفنا بمعرفة جديدة للموضوع، ولا تقوم الا بدور التفسير والتوضيح.
والآخر: الحكم التركيبي، وهو الذي يزيد محموله شيئا جديدا على الموضوع، كما في قولنا: الجسم ثقيل، والحرارة تمدد الفلزات، و 2 + 2 = 4 فان الصفة التي نسبغها على الموضوع في هذه القضايا ليست مستخرجة منه بالتحليل، وانما تضاف فتنشأ بسبب ذلك معرفة جديدة لم تكن قبل ذلك. فالأحكام التركيبية، تارة تكون احكاما أولية، وأخرى تكون أحكاما ثانوية. فالأحكام الأولية هي الأحكام الثابتة لدى العقل قبل التجربة، كالأحكام الرياضية نظير قولنا: الخط المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين. وسوف يأتي ما هو السبب في كونها كذلك. والاحكام التركيبية الثانوية هي الاحكام الثابتة في العقل بعد التجربة، نظير الحكم بأن ضوء الشمس يسخن الحجر وان كل جسم له وزن.
وتتلخص نظرية (كانت) عن المعرفة، في تقسيم المعارف أو الأحكام العقلية إلى ثلاث طوائف (1):

(1) ينبغي للقارئ ان يعرف شيئا عن تحليل المعرفة في رأي (كانت) لتتضح له نظريته في قيمة المعرفة وامكانها، فهو يرى ان الحس التجريبي يستورد الموضوعات التجريبية بصورة مشوشة فتنشأ بذلك احساسات متفرقة. فالطعم الذي جاء على اللسان، لا يرتبط بالرائحة التي سلكت عن طريق الانف، ولا باللمعة الخاطفة من الضوء التي أثرت على شبكية العين، ولا بالصوت الذي طرق الاذن. وهذه الأشتات الحسية تتوحد في قالبين موجودين في الحس بالفطرة، وهما قالبا الزمان والمكان، فينتج عن ذلك أدراك حسي أو معرفة حسية لشيء معين، فهذه المعرفة في مادتها مستوردة من التجربة وفي صورتها فطرية ترجع إلى الزمان والمكان.
والادراكات الحسية بدورها هي مواد خام تقدم بين يدي العقل لتتكون منها معرفة عقلية. والعقل بملك عدة قوالب فطرية نظير القوالب التي يملكها الحس، فيصب تلك المواد الخام في هذه القوالب، ويبلورها في تلك الإطارات فتحصل المعرفة العقلية.
وهكذا تكون الأشياء المحسوسة مركبة من مادة أدركت بالحس، وصورة زمانية ومكانية أنشأتها الحساسية الصورية، أي الحساسية التي تخلق الصورة الموحدة للإحساسات المختلفة. وتتألف الأشياء المعقولة أيضا من مادة وهي الظواهر التي تصوغها الحساسية الصورية في اطار الزمان والمكان، وصورة وهي القوالب التي ينشئها الفهم الصوري ويوحد بها تلك الظواهر.
126

الأولى، الرياضيات. والاحكام العقلية فيها كلها أحكام تركيبية أولية سابقة على التجربة، لأنها تعالج موضوعات فطرية في النفس البشرية، فالهندسة تختص بالمكان، والحساب موضوعه هو العدد، والعدد عبارة عن تكرار الوحدة، والتكرار معناه التعاقب والتتابع، وهذا هو الزمن في مفهومه الفلسفي عند (كانت). واذن فالقطبان الرئيسيان اللذان تدور حولهما المبادئ الرياضية هما المكان والزمان. والمكان والزمان في رأي (كانت) صورتان فطريتان في الحساسية الصورية للانسان، أي أن صورتيهما موجودتان في الحس الصوري بصورة مستقلة عن التجربة، وينتج من ذلك أن كل ما نعزوه للأشياء من أحكام متعلقة بمكانها أو زمانها فهو مستمد من فطرتنا، ولم نعتمد فيه على ما أتانا من الخارج بواسطة الحس. وعلى ذلك فكل القضايا الرياضية مشتقة من طبائع عقولنا، بمعنى أننا نحن خلقناها بأنفسنا ولم نستوردها من الخارج، إذ هي تدور حول الزمان والمكان الفطريين. وبهذا تصبح الرياضة والمبادئ الرياضية ممكنة المعرفة، وتصبح الحقائق الرياضية حقائق يقينية مطلقة
127

فلا تتسع في الميدان الرياضي للخطأ أو التناقض، ما دام الميدان الرياضي هو الميدان الفطري للنفس، وما دامت قضاياه منشأة من قبلنا وليست مقتبسة من واقع موضوعي منفصل عنا لنشك في مدى امكان معرفته واستكناه سره.
والثانية: الطبيعيات، أي المعارف البشرية عن العالم الموضوعي الذي يدخل في نطاق التجربة.
ويبدأ (كانت) هنا باستبعاد المادة عن هذا النطاق لأن الذهن لا يدرك من الطبيعة الا ظواهرها. فهي يتفق مع (باركلي) على أن المادة ليست موضوعا للادراك والتجربة، ولكنه يختلف عنه من ناحية أخرى. فهو لا يعتبر ذلك دليلا على عدم وجود المادة ومبررا لنفيها فلسفيا كما زعم باركلي.
وإذا أسقطت المادة من الحساب فلا يبقى للعلوم الطبيعية الا الظواهر التي تدخل في حدود التجربة، فهذه الظواهر هي موضوع هذه العلوم ولذلك كانت الاحكام فيها تركيبية ثانوية لأنها: ترتكز على درس الظواهر الموضوعية للطبيعة، وهذه الظواهر انما تدرك بالتجربة. وإذا أردنا أن نحلل هذه الاحكام التركيبية الثانوية من قبل العقل، وجدناها مركبة في الحقيقة من عنصرين: أحدهما تجريبي، والآخر عقلي.
أما الجانب التجريبي من تلك الأحكام العقلية فهو الإحساسات المستوردة بالتجربة من الخارج، بعد صب الحس الصوري لها في قالبي الزمان والمكان. وأما الجانب العقلي فهو الرابطة الفطرية التي يسبغها العقل على المدركات الحسية، ليتكون من ذلك علم ومعرفة عقلية. فالمعرفة اذن مزيج من الذاتية والموضوعية، فهي ذاتية في صورتها. وموضوعية في مادتها، لأنها نتيجة التوحيد بين المادة التجريبية المستوردة من الخارج، واحدى الصور العقلية الجاهزة فطريا في العقل. فنحن نعرف - مثلا - ان الفلزات تتمدد بالحرارة، وإذا أخذنا هذه المعرفة بشيء من التحليل نتبين ان موادها الخام، وهي ظاهرة التمدد في الفلزات وظاهرة الحرارة، جاءت عن طريق التجربة، ولولاها لما استطعنا أن ندرك هذه الظواهر. وأما الناحية الصورية في المعرفة أي سببية احدى الظاهرتين للأخرى فليست تجريبية. بل مردها إلى مقولة العلية التي هي من
128

مقولات العقل الفطرية، فلو لم نكن نملك هذه الصورة القبلية لما تكونت معرفة. كما أنا لو لم نحصل على المواد بالتجربة لما تحققت لنا معرفة أيضا. فالمعرفة توجد بتكييف العقل للموضوعات التجريبية بإطاراته وقوالبه الخاصة، أي مقولاته الفطرية، لا أن العقل هو الذي يتكيف وأن إطاراته وقوالبه هي التي تتبلور تبعا للموضوعات المدركة. فالعقل في ذلك نظير شخص يحاول أن يضع كمية من الماء في اناء ضيق لا يسعها، فيعمد إلى الماء فيقلل من كميته ليمكن وضعه فيه بدلا عن أن يوسع الاناء ليستوعب الماء كله.
وهكذا يتضح الانقلاب الفكري الذي أحدثه (كانت) في مسألة الفكر الانساني، إذ جعل الأشياء تدور حول الفكر وتتبلور طبقا لإطاراته
الخاصة، بدلا عما كان يعتقده الناس من ان الفكر يدور حول الأشياء ويتكيف تبعا لها.
وعلى هذا الضوء وضع (كانت) حدا فاصلا بين (الشيء في ذاته) و (الشيء لذاتنا). فالشئ في ذاته هو الواقع الخارجي دون أي إضافة من ذاتنا اليه. وهذا الواقع المجرد عن الإضافة الذاتية لا يقبل المعرفة، لأن المعرفة ذاتية وعقلية في صورتها. والشيء لذاتنا هو المزيج المركب من الموضوع التجريبي، والصورة الفطرية القبلية التي تتحد معه في الذهن. ولهذا تكون النسبية مفروضة على كل حقيقة تمثل في إدراكاتنا للأشياء الخارجية، بمعنى ان ادراكنا يدلنا على حقيقة الشيء لذاتنا، لا على حقيقة الشيء في ذاته.
وبذلك تختلف العلوم الطبيعية عن العلوم الرياضية، فان العلوم الرياضية لما كان موضوعها موجودا في النفس بصورة فطرية لم تقم فيها اثنينية بين الشيء في ذاته والشيء لذاتنا، وعلى عكس ذلك العلوم الطبيعية، فإنها تتناول الظواهر الخارجية التي تقع عليها التجربة. وهي ظواهر موجودة بصورة مستقلة عنا ونحن نعلمها في قوالبنا الفطرية، فلا غرو أن يفصل بين الشيء في ذاته والشيء لذاتنا.
الثالثة الميتافيزيقا ويرى (كانت) استحالة التوصل فيها إلى معرفة عن طريق العقل النظري، وان أي محاولة لإقامة معرفة ميتافيزيقية على أساس فلسفي هي محاولة فاشلة ليست لها قيمة، وذلك انه لا يصح في القضايا
129

الميتافيزيقية شيء من الاحكام التركيبية الأولية والاحكام التركيبية الثانوية. اما الاحكام التركيبية الأولية فهي لما كانت احكاما مستقلة عن التجربة، فلا تصح الا على موضوعات مخلوقة للنفس بصورة فطرية وجاهزة في الذهن بلا تجربة، كموضوعي العلوم الرياضية من الزمان والمكان، وليست الأشياء التي تتناولها الميتافيزيقا - وهي الله والنفس والعالم - كذلك، فان الميتافيزيقا لا تعالج أمورا ذهنية، وانما تحاول البحث عن أشياء موضوعية قائمة في نفسها.
وأما الاحكام التركيبية الثانوية فهي الاحكام التي تعالج موضوعات تجريبية، كموضوعات العلوم الطبيعية التي تدخل في الميدان التجريبي. ولذلك صارت ثانوية باعتبار احتياجها إلى التجربة، ومن الواضح ان مواضيع الميتافيزيقا ليست تجريبية فلا يمكن ان يتكون فيها حكم تركيبي ثانوي، ولا يبقى للميتافيزيقا بعد ذلك متسع الا للاحكام التحليلية، أي الشروح والتفاسير للمفاهيم الميتافيزيقية، وهذه الاحكام ليست من المعرفة الحقيقية بشيء، كما عرفنا سابقا.
والنتيجة التي يخلص إليها (كانت) من ذلك:
أولا: ان احكام العلوم الرياضية تركيبية أولية وهي ذات قيمة مطلقة.
ثانيا: ان الاحكام التي تقوم على أساس التجربة في العلوم الطبيعية أحكام تركيبية ثانوية، والحقيقة فيها لا يمكن ان تكون أكثر من حقيقة نسبية.
ثالثا: ان موضوعات الميتافيزيقا لا يمكن ان توجد فيها معرفة عقلية صحيحة، لا على أساس الاحكام التركيبية الأولية ولا على أساس الأحكام التركيبية الثانوية.
والنقطة الرئيسية في نظرية (كانت) هي ان الادراكات العقلية الأولية ليست علوما قائمة بنفسها ذات وجود مستقل عن التجربة، بل هي روابط تساعد على تنظيم الأشياء ووصلها بعضها ببعض. فدورها الوحيد هو انها تجعلنا ندرك الأشياء التجريبية في إطاراتها الخاصة.
ويترتب على ذلك طبيعيا الغاء الميتافيزيقا، لأن تلك الادراكات الأولية
130

ليست علوما بل هي روابط، ولأجل ان تكون علما تحتاج إلى موضوع ينشئه الذهن أو يدركه بالتجربة، والموضوعات الميتافيزيقية ليست من منشآت الذهن ولا من مدركات التجربة، كما يترتب عليه أيضا ان الحقيقة في العلوم الطبيعية نسبية دائما، لان تلك الروابط داخلة في صميم معارفنا عن الظواهر الخارجية، وهي روابط ذاتية
. فيختلف الشيء في ذاته عن الشيء لذاتنا.
وتنطوي نظرية (كانت) هذه على خطأين أساسين:
الأول: انها تعتبر العلوم الرياضية منشئة للحقائق الرياضية ومبادئها، وبهذا الاعتبار ارتفع (كانت) بمبادئ الرياضة وحقائقها عن امكان الخطأ والتناقض، ما دامت مخلوقة للنفس ومستنبطة منها وليست مستوردة من الخارج ليشك في خطأها أو تناقضها.
ولكن الحقيقة التي يجب ان تقوم عليها كل فلسفة واقعية هي ان العلم ليس خلاقا ومنشئا، وانما هو كاشف عما هو خارج حدوده الذهنية الخاصة، ولولا هذا الكشف الذاتي لما أمكن الرد على المفهوم المثالي مطلقا، كما سبق. فعلمنا بأن 2 + 2 = 4 هو علم بحقيقة رياضية معينة، وليس معنى علمنا بها اننا ننشؤها ونخلقها في داخل نفوسنا - كما تحاول المثالية ان تفسر العلم بذلك - بل العلم في طبيعته كالمرآة، فكما ان المرآة تدلل على وجود واقع للصورة المنعكسة فيها خارج حدودها، كذلك العلم يكشف عن حقيقة مستقلة، ولأجل ذلك كان 2 + 2 = 4، سواء أكان يوجد مفكر رياضي على وجه الأرض أم لا، وسواء أدرك هذه الحقيقة انسان أم لا. ومعنى ذلك أن المبادئ والحقائق الرياضية لها واقع موضوعي، فهي قوانين تعمل وتجري، وليست العلوم الرياضية الا انعكاسات لها في الذهن البشري. وعلى هذا تكون كالمبادئ والقوانين الطبيعية تماما من حيث كونها واقعا مستقلا ينعكس في العقل، فنواجه السؤال عن انعاكسها الذهني ومدى صحته ودقته، كما نواجه ذلك السؤال في سائر العلوم. وليس لهذا السؤال الا جواب واحد وهو الجواب الذي يقدمه المذهب العقلي القائل بأن تلك الانعكاسات للمبادئ الرياضية في الذهن البشري لما كانت فطرية وضرورية فهي مضمونة الصحة
131

بصورة ذاتية، فالحقائق الرياضية ممكنة المعرفة لا لأننا نحن نخلقها، بل لأننا نعكسها في علوم فطرية ضرورية.
الثاني: ان (كانت) يعتبر القوانين المتأصلة في العقل البشري قوانين للفكر، وليست انعكاسات علمية للقوانين الموضوعية التي تتحكم في العالم وتسيطر عليه بصورة عامة، بل لا تعدو ان تكون مجرد روابط موجودة في العقل بالفطرة ينظم بها ادراكاته الحسية. وقد سبق ان هذا الخطأ هو الذي نتج عنه القول بنسبية الحقائق المدركة عن عالم الطبيعة، والقول بتعذر درس الميتافيزيقا دراسة عقلية، وعدم امكان اقامتها على أساس تلك الادراكات العقلية الفطرية، لأنها مجرد روابط ينظم العقل بها ادراكاته الحسية، وليست لدينا ادراكات فيما يخص موضوعات الميتافيزيقا لتنظم بتلك الروابط.
والانسياق مع المذهب النقدي هذا يؤدي إلى المثالية حتما، لأن الادراكات الأولية في العقل إذا كانت عبارة عن روابط معلقة تنتظر موضوعا لتظهر فيه، فكيف يتاح لنا ان نخرج من التصورية إلى الموضوعية؟ ‍ وكيف نستطيع أن نثبت الواقع الموضوعي لأحاسيسنا
المختلفة - أي ظواهر الطبيعة التي يعترف بموضوعيتها (كانت)؟ فنحن نعلم ان طريق اثبات الواقع الموضوعي للاحساس هو مبدأ العلية، الذي يحكم بأن كل انفعال حسي لابد ان ينبثق عن سبب أثار ذلك الانفعال الخاص، فإذا رجعت العلية في مفهوم (كانت) إلى رابطة بين الظواهر المحسوسة، فهي عاجزة بطبيعة الحال عن القيام بأي وظيفة أكثر من الربط بين إحساساتنا وما يبدو فيها من ظاهرات، ومن حقنا حينئذ ان نسأل (كانت) عن المبررات الفلسفية في نظره للاعتقاد بواقع موضوعي للعالم المحسوس، ما دمنا لا نملك معرفة فطرية كاملة كمبدأ العلية لنبرهن بها على ذلك الواقع، وانما نملك عدة روابط وقوانين لتنظيم الفكر والادراك.
وعلى هذا، فالواقعية لابد لها ان تعترف بأن الادراكات الفطرية في العقل عبارة عن انعكاسات علمية لقوانين موضوعية مستقلة، وتزول بذلك نسبية (كانت) التي زعمها في معارفنا عن الطبيعة. ذلك ان كل معرفة في
132

العلوم الطبيعية، وان كانت بحاجة إلى ادراك فطري يقوم على أساسه الاستنتاج العلمي من التجربة، ولكن هذا الادراك الفطري ليس ذاتيا خالصا بل هو انعكاس فطري لقانون موضوعي مستقل عن حدود الشعور والادراك.
فمعرفتنا بأن الحرارة سبب لتمدد الفلزات تستند إلى ادراك حسي تجريبي للحرارة والتمدد، وادراك عقلي ضروري لمبدأ العلية، وكل من الادراكين يعكس واقعا موضوعيا، وقد نتجت معرفتنا بتمديد الحرارة للفلزات عن معرفتنا بالواقعين الموضوعين لذينك الادراكين، فليس ما يطلق عليه (كانت) اسم الصورة، صورة عقلية خالصة للعلم، بل هو علم يتمتع بخصائص العلم من الكشف الذاتي وانعكاس واقع مستقل فيه.
وإذا عرفنا ان العقل يملك بصورة فطرية علوما ضرورية بعدة قوانين وحقائق موضوعية، صار باستطاعتنا أن نبني قضايا الميتافيزيقا على أساس فلسفي بدراستها على ضوء تلك العلوم الضرورية، لأنها ليست مجرد روابط خالصة بل هي معارف أولية وفي امكانها ان تنتج للفكر البشري علوما جديدة.
ب - النسبية الذاتية:
يجيء بعد (كانت) دور النسبيين الذاتيين. وهم الذين يؤكدون على الطابع النسبي في جميع الحقائق التي تبدو للانسان، باعتبار الدور الذي يلعبه عقل كل فرد في عملية اكتسابه لتلك الحقائق. فليست الحقيقة - في هذا المفهوم الجديد - الا الامر الذي تقتضيه ظروف الادراك وشرائطه. ولما كانت هذه الظروف والشرائط تختلف في الافراد والحالات المتنوعة. كانت الحقيقة في كل مجال حقيقة بالنسبة إلى ذلك المجال الخاص بما ينطوي عليه من ظروف وشرائط. وليست الحقيقة هي مطابقة الفكرة للواقع لتكون مطلقة بالنسبة إلى جميع الأحوال والاشخاص.
وهذه النسبية وان كانت تحمل شعار الحقيقة، ولكنه شعار مزيف، فليست هي كما يبدو بكل وضوح الا مذهبا من مذاهب الشك والريب في كل واقع موضوعي.
133

ويساند النسبية الذاتية هذه الاتجاه الفيزيولوجي للمثالية القائل ان الاحساس لا يعدو أن يكون رمزا، وان الذي يحدد كيفيته ونوعيته ليس هو الشيء الخارجي بل طبيعة
الجهاز العصبي.
والواقع أن السبب الأصيل الذي أتاح الظهور لهذه النسبية الذاتية هو التفسير المادي للادراك، واعتباره محتوى عملية مادية يتفاعل فيها الجهاز العصبي المدرك والشيء الموضوعي، كالهضم الذي تحققه عملية تفاعل خاص بين الجهاز الهاضم والمواد الغذائية. فكما ان الغذاء لا يتفاعل ولا يهضم الا باجراء عدة تصرفات وتطويرات عليه، كذلك الشيء الذي ندركه لا يتاح لنا ادراكه الا بالتصرف فيه والتفاعل معه.
وتختلف هذه النسبية عن نسبية (كانت) في نقطتين:
الأولى: انها تخضع جميع الحقائق للطابع النسبي الذاتي من دون استثناء، خلافا ل‍ (كانت) إذ كان يعتبر المبادئ والمعارف الرياضية حقائق مطلقة. ف‍ 2 + 2 = 4 حقيقة مطلقة لا تقبل الشك في رأي (كانت)، وأما في رأي النسبيين الذاتيين فيه حقيقة نسبية، بمعنى انها الشيء الذي تقتضيه طبيعة ادراكنا وجهازنا الخاص فحسب.
الثانية: ان الحقيقة النسبية في رأي النسبيين الذاتيين تختلف في الافراد، وليس من الضروري ان يشترك جميع الناس في حقائق معينة.
لأن لكل فرد دورا ونشاطا خاصا. فلا يمكن الحكم بأن ما يدركه فرد هو نفس ما يدركه الفرد الآخر ما دام من الممكن اختلافهما في وسائل الادراك أو طبيعته. واما (كانت) فالقوالب الصورية عنده قوالب فطرية تشترك فيها العقول البشرية جميعا، ولهذا كانت الحقائق النسبية مشتركة بين الجميع. وسوف يأتي في مستقبل دراساتنا الحديث عن التفسير المادي للادراك، الذي ارتكزت عليه النسبية الذاتية وتفنيده.
* الشك العلمي:
رأينا قبل ساعة ان الشك الذي تسرب إلى صفوف العلماء الطبيعيين حين
134

قاموا بفتوحاتهم الكبرى في حقل الفيزياء لم يكن شكا علميا ولا مرتكزا على برهان علمي، وانما هو شك قائم على خطأ فلسفي أو أزمة نفسية.
ولكننا نجد في حقول أخرى نظريات علمية تؤدي حتما إلى الشك والقول بانكار قيمة المعرفة البشرية، بالرغم من ان بعض أصحابها لم يفكروا في الوصول إلى هذه النتيجة بل ظلوا مؤمنين بقيمة المعرفة وموضوعيتها، ولأجل ذلك أطلقنا اسم الشك العلمي على الشك الناتج عن تلك النظريات لأنها علمية أو ذات مظهر علمي على أقل تقدير.
ومن أهم تلك النظريات:
1 - السلوكية التي تفسر علم النفس على أساس علم الفزلجة.
2 - مذهب التحليل النفسي عند فرويد.
3 - المادية التاريخية التي تحدد آراء الماركسية في علم التاريخ.
أما السلوكية فهي احدى المدارس الشهيرة في علم النفس التي تعبر عن الاتجاه المادي فيه، وأطلق عليها اسم السلوكية لأنها اتخذت من سلوك الكائن الحي وحركاته الجسمية التي يمكن إخضاعها للحس العلمي والتجربة موضوعا لعلم النفس. ورفضت الاعتراف بما وراء ذلك من موضوعات غير تجريبية كالعقل والشعور، وحاولت ان تفسر سيكولوجية الانسان وحياته النفسية والشعورية كلها بدون ان تفترض له عقلا وما اليه من المعاني الغيبية لان الباحث النفسي لا يجد ولا يحس علميا حين اجراء تجاربه على الآخرين بعقولهم وانما يحس بسلوكهم وحركاتهم ونشاطهم الفيزيولوجي، فيجب لكي يكون البحث علميا، ان تفسر كل الظواهر السيكولوجية ضمن النطاق المحسوس وذلك بالنظر إلى الانسان بوصفه آله يمكن تفسير كل ظواهرها وحركاتها على الطريقة الميكانيكية وفي ضوء مبدأ العلية بالمنبهات الخارجية التي ترد على الآلة فتؤثر فيها. فلا يوجد لدينا ونحن ندرس الظواهر النفسية من وجهة رأي السلوكية عقل أو شعورا أو ادراكا، وانما نحن امام حركات ونشاطات
مادية فيزيولوجية توجد بأسباب مادية باطنية أو خارجية. فحين نقول، مثلا ان أستاذ التاريخ يفكر في اعداد محاضرة عن تاريخ الملكية
135

الفردية عند الرومان نكون قد عبرنا في الحقيقة عن نشاطات وحركات مادية في جهازه العصبي نشأت ميكانيكيا عن أسباب خارجية أو باطنية كحرارة الموقد الذي جلس أمامه أستاذ التاريخ أو عمليات الهضم التي أعقبت تناوله وجبة الغذاء.
وقد وجدت السلوكية في المنبهات الشرطية القائمة على تجارب بافلوف سندا كبيرا يتيح لها التأكيد على كثرة المنبهات التي يتلقاها الانسان (بسبب نموها وزيادتها عن طريق الاشراط) حتى أصبح بالامكان القول بأن مجموع المنبهات (الطبيعية والشرطية) يتكافأ مع مجموع الأفكار في حياة الانسان. وأما كيف استفادت السلوكية من تجارب بافلوف، وما هي المنبهات الشرطية التي كشفت عنها هذه التجارب فضاعفت من عدد المنبهات التي تفسر السلوكية في ضوئها أفكار الانسان والى أي مدى يمكن لتجارب بافلوف ان تبرهن على وجهة النظر السلوكية، فهذا ما سنجيب عنه في البحث المخصص للادراك من بحوث هذا الكتاب - وهو الجزء الخامس من القسم الثاني في هذا الكتاب - وانما يهمنا الآن ابراز وجهة النظر السلوكية التي تخضع الحياة الفكرية عند الانسان للتفسير الميكانيكي وتفهم الفكر والشعور بوصفه نشاطا فيزيولوجيا تثيره أسباب مادية متنوعة.
ومن الواضح ان أي محاولة لوضع نظرية للمعرفة في ضوء السلوكية هذه يؤدي حتما إلى موقف سلبي تجاه قيمة المعرفة والى عدم الاعتراف بقيمتها الموضوعية، وبالتالي يصبح كل بحث عن صحة هذه الفكرة العلمية أو هذا المذهب الفلسفي أو ذاك الرأي الاجتماعي عبثا لا مبرر له لأن كل فكرة، مهما كان طابعها أو مجالها العلمي أو الفلسفي أو الاجتماعي لا تعبر عن شيء سوى حالات خاصة تحدث في أجسام أصحاب الفكرة أنفسهم. فلا نستطيع ان نتساءل على الصعيد الفلسفي أي الفلسفتين على
صواب: مادية أبيقور أو آلهية أرسطو، ولا أن نتساءل على الصعيد العلمي أيهما على صواب: نيوتن في فكرته القائلة بتفسير الكون على أساس الجاذبية، أو آنشتين في نسبيته العامة، ماركس في تفكيره الاقتصادي، أو ريكاردو مثلا. وهكذا في كل المجالات. لأن تساؤلنا هذا يبدو في ضوء السلوكية شبيها تماما بالتساؤل عن
136

عمليات الهضم عند الباحثين المختلفين وأيهما هو الصحيح، فكما لا يصح ان نتساءل أيهما هو الحقيقة. عمليات الهضم عند أبيقور ونيوتن وماركس أو عند أرسطو وآنشتين وريكاردو. كذلك لا يصح ان نتساءل أي مذاهبهم وأفكارهم هو الحقيقة لأن أفكار هؤلاء المفكرين، كعمليات الهضم المختلفة في معدهم، ليست الا وظائف جسمية ونشاطات عضوية. فمتى أمكن لنشاط المعدة في عمليات الهضم ان يكشف لنا عن نوعية الغذاء ويصف لنا طبيعته يتاح للنشاط العصبي في الدماغ ان يعكس شيئا من الحقائق الخارجية، وما دام لا يجوز لنا ان نتساءل عن نشاط المعدة أهو صادق أو كاذب فكذلك بالنسبة إلى النشاط الفكري.
ونجد أيضا بوضوح ان الفكرة في رأي المدرسة السلوكية مرتبطة بمنبهاتها لا بدليلها. وبذلك تفقد الثقة بكل معرفة بشرية لأن من الجائز ان تتبدل وتعقبها فكرة مناقضة إذا اختلفت المنبهات والشروط الخارجية ويعود من عبث القول مناقشة المفكر في فكرته وأدلتها وانما يجب الفحص عن المنبهات المادية لتلك الفكرة وازالتها. فإذا كانت الفكرة قد نشأت مثلا من حرارة الموقد في الغرفة التي يفكر فيها وعملية الهضم كان السبيل الوحيد للقضاء على الفكرة تغيير جو الغرفة وايقاف عمليات الهضم مثلا، وهكذا تصبح المعرفة البشرية خواء وخلوا من القيمة الموضوعية ومذهب التحليل النفسي عند فرويد يسجل نفس النتائج التي انتهت إليها السلوكية فيما يتصل بنظرية المعرفة، فهو وان كان لا ينكر العقل ولكنه يقسمه إلى فئتين إحداهما العناصر الشعورية وهي مجموعة الأفكار والعواطف والرغبات التي نحس بها في نفوسنا، والآخر العناصر اللاشعورية في العقل أي شهواتنا وغرائزنا المختزلة وراء شعورنا وهي قوى عقلية عميقة الغور في أعماقنا ولا يمكن لنا السيطرة على نشاطها أو التحكم في تكوينها وتطورها، وكل العناصر الشعورية تعتمد على هذه العناصر الخفية التي لا نشعر بها، وليست اعمال الشخص الشعورية الا انعكاسا محرفا لتلك الشهوات والدوافع المختزلة في اللا شعور، فالشعور اذن أتى عن طريق اللا شعور حتى يمكن القول
137

لدى أصحاب التحليل النفسي بأن اللا شعور هو الذي يحدد محتويات الشعور وبالتالي يتحكم في كل أفكار الانسان وسلوكه. وعلى هذا الأساس تصبح شهواتنا الغريزية هي الأساس الحقيقي لما نعتقد بصحته، وليست عمليات الاستدلال التي تهدينا إلى النتائج المفروضة علينا سلفا من قبل شهواتنا وغرائزنا الا اعلاء لتلك الغرائز وتساميا بها إلى منطقة الشعور التي تشكل القسم الاعلى من العقل، بينما تشكل العناصر اللاشعورية والغرائز والشهوات المختزنة الطابق الأرضي أو القسم الأسفل الأساسي.
وبسهولة نستطيع ان ندرك أثر هذا المذهب التحليلي على نظرية المعرفة. فان الفكر في ضوئه ليس أداة لتصوير الواقع والحدس بالحقيقة وانما وظيفته التعبير عن متطلبات اللا شعور، والانتهاء حتما إلى النتائج التي تفرضها شهواتنا وغرائزنا المختزنة في أعماقنا، وما دام العقل آلة طيعة في خدمة غرائزنا والتعبير عنها لا عن الحقيقة والواقع فليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنه يعكس الحقيقة لأن من الجائز ان تكون الحقيقة على خلاف رغباتنا اللاشعورية التي تتحكم في عقلنا. ومن المستحيل أن نفكر في تقديم أي ضمان للتوافق بين قوانا العقلية اللاشعورية وبين الحقيقة لأن هذا التفكير ذاته ينبثق أيضا عن رغباتنا اللاشعورية ويعبر عنها لا عن الواقع والحقيقة.
ويجيء بعد هذا دور المادية التاريخية لتنتهي إلى نفس النتيجة التي أسفرت عنها مذاهب السلوكية والتحليل النفسي بالرغم من ان أصحابها يرفضون كل لون للشك ويؤمنون على الصعيد الفلسفي بقيمة المعرفة وقدرتها على كشف الحقيقة.
والمادية التاريخية تعبر عن المفهوم الكامل للماركسية عن التاريخ والمجتمع وقوانين تركبه وتطوره وهي لذلك تعالج الأفكار والمعارف الانسانية عامة بوصفها جزءا من تركيب المجتمع الانساني فتعطي رأيها في كيفية نشوء سائر الأوضاع السياسية والاجتماعية.
والفكرة الأساسية في المادية التاريخية هي ان الوضع الاقتصادي الذي تحدده وسائل الانتاج هو الأساس الواقعي للمجتمع بكل نواحيه فجميع
138

الظواهر الاجتماعية تنشأ عن الوضع الاقتصادي وتتطور تبعا لتطوره.
ففي بريطانيا مثلا حينما تحول وضعها الاقتصادي من الاقطاع إلى الرأسمالية وحلت الطاحونة البخارية محل الطاحونة الهوائية تبدلت جميع أوضاعها الاجتماعية وتكيفت وفقا للحالة الاقتصادية الجديدة.
ومن الطبيعي للمادية التاريخية، بعد ان آمنت بهذا، أن تربط المعرفة الانسانية عموما بالوضع الاقتصادي أيضا بوصفها جزءا من الكيان الاجتماعي الذي يرتكز كله على العامل الاقتصادي، ولذلك نجد أنها تؤكد على ان المعرفة الانسانية ليست وليدة النشاط الوظيفي للدماغ فحسب، وانما يكمن سببها الأصيل في الوضع الاقتصادي، ففكر الانسان انعكاس عقلي للأوضاع الاقتصادية، وما ينشأ عنها من علاقات وهو ينمو ويتطور طبقا لتلك الأوضاع والعلاقات.
ومن اليسير ان نلاحظ هنا أن القوى الاقتصادية احتلت في المادية التاريخية موضع العناصر اللاشعورية من الغرائز والشهوات في نظرية فرويد، فبينما كان الفكر عند فرويد تعبيرا حتميا عن متطلبات الغرائز والشهوات المكتنزة يصبح في رأي المادية التاريخية تعبيرا حتميا عن متطلبات القوى الاقتصادية والوضع الاقتصادي العام. والنتيجة واحدة في الحالين وهي انعدام الثقة بالمعرفة وفقدانها لقيمتها لأنها أداة لتنفيذ متطلبات قوة صارمة مسيطرة على التفكير هي قوة اللا شعور أو قوة الوضع الاقتصادي، ولا يمكننا أن نعرف ما إذا كان الوضع الاقتصادي يملي في عقولنا الحقيقة أو ضدها، وحتى إذا وجدت هذه المعرفة فهي بدورها أيضا تعبير جديد عن متطلبات الوضع الاقتصادي التي لم نعرف بعد كيف نثق بتطابقها مع الواقع.
وبهذا نعرف ان مذهب الماركسية في التاريخ كان يفرض عليها الشك. غير أنها لم تخضع للشك، وأعلنت في فلسفتها عن ايمانها بالمعرفة وقيمتها. وسوف نعرض فيما بعد لنظرية المعرفة عند الماركسية على الصعيد الفلسفي، وانما نريد أن نشير هنا إلى ان النتائج المحتومة للمذهب الماركسي في التاريخ - أي المادية التاريخية - تناقض
نظرية الماركسية الفلسفية عن المعرفة
139

لأن الربط المحتوم بين الفكر والعامل الاقتصادي في المذهب التاريخي للماركسية يزيل الثقة بكل معرفة بشرية خلافا لنظرية المعرفة الماركسية التي تؤكد على هذه الثقة كما سنرى.
وسوف لن ندخل في نقاش الآن مع هذه النظريات الثلاث (السلوكية واللاشعورية والمادية التاريخية) فإننا ناقشنا السلوكية ورصيدها العلمي المزعوم من تجارب بافلوف في دراستنا للادراك - الجزء الخامس من القسم الثاني لهذا الكتاب - واستطعنا ان نبرهن على أن السلوكية لا تكفي تفسيرا مقبولا للفكر، كما تناولنا في كتاب (اقتصادنا) المادية التاريخية بالدرس والنقد الموسع بوصفها الأساس العلمي للاقتصاد الماركسي، وانتهينا إلى نتائج تدين المادية التاريخية في أرصدتها الفلسفية والعلمية وتبرز ألوان التناقض بينها وبين اتجاه الحركة التاريخية في واقع الحياة. وأما نظرية فرويد في التحليل النفسي فلها موضعها من البحث في كتاب مجتمعنا.
فنحن هنا اذن لسنا بصدد نقاش تلك النظريات في مجالاتها الخاصة. وانما سوف نقتصر على الحديث عنها بالقدر الذي يتصل بنظرية المعرفة.
ففي حدود العلاقة بين تلك النظريات ونظرية المعرفة نستطيع القول بأن البرهنة ضد المعرفة البشرية وقيمتها الموضوعية بنظرية علمية تنطوي على تناقض وبالتالي على استحالة فاضحة لان النظرية العلمية التي تقدم ضد المعرفة البشرية ولإزالة الثقة بها سوف تحكم على ذاتها أيضا وتنسف أساسها وتسقط عن الاعتبار لأنها ليست الا احدى تلك المعارف التي تحاربها وتشك أو تنكر قيمتها، ولذلك كان من المستحيل ان تتخذ النظرية العلمية دليلا على الشك الفلسفي ومبررا لتجريد المعرفة من قيمتها.
فالنظرية السلوكية تصور الفكر باعتباره حالة مادية تحدث في جسم المفكر بأسباب مادية كما تحدث حالة ضغط الدم فيه. ولأجل ذلك تنتهي بتجريده من قيمته الموضوعية، غير ان هذه النظرية ليست هي من وجهة نظر السلوكية نفسها الا حالة خاصة حدثت في أجسام أصحاب النظرية أنفسهم ولا تعبر عن شيء سوى ذلك.
140

كما أن نظرية فرويد جزء من حياته العقلية الشعورية، فإذا صح ان الشعور تعبير محرف عن القوى اللاشعورية ونتيجة محتومة لتحكم تلك القوى في سيكولوجية الانسان فسوف تفقد نظرية فرويد قيمتها لأنها في هذا الضوء ليست أداة للتعبير عن الحقيقة وانما هي تعبير عن شهواته وغرائزه المخبوءة في اللا شعور.
وقل الشيء نفسه عن المادية التاريخية التي تربط الفكر بالوضع الاقتصادي، وبالتالي تجعل من نفسها نتيجة لوضع اقتصادي معين عاشه ماركس وانعكس في ذهنه معبرا عن متطلباته في مفاهيم المادية التاريخية ويصبح من المحتوم على المادية التاريخية أن تتغير وفقا لتغير الوضع الاقتصادي.
* نظرية المعرفة في فلسفتنا
والآن نستطيع ان نستخلص من دراسة المذاهب السابقة ونقدها الخطوط العريضة لمذهبنا في الموضوع وتتلخص فيما يأتي:
الخط الأول: ان الإدارك البشري على قسمين: أحدهما التصور، والآخر التصديق. وليس للتصور بمختلف ألوانه قيمة موضوعية، لأنه عبارة عن وجود الشيء في مداركنا، وهو لا يبرهن - إذا جرد عن كل إضافة - على وجود الشيء موضوعيا خارج الادراك، وانما الذي يملك خاصة الكشف الذاتي عن الواقع الموضوعي هو التصديق أو المعرفة التصديقية. فالتصديق هو الذي يكشف عن وجود واقع موضوعي للتصور.
الخط الثاني: ان مرد المعارف التصديقية جميعا إلى معارف أساسية ضرورية، لا يمكن اثبات ضرورتها بدليل أو البرهنة على صحتها، وانما يشعر العقل بضرورة التسليم والاعتقاد بصحتها، كمبدأ عدم التناقض
ومبدأ العلية والمبادئ الرياضية الأولية، فهي الأضواء العقلية الأولى، وعلى هدي تلك الأضواء يجب ان تقام سائر المعارف والتصديقات، وكلما كان الفكر أدق في تطبيق تلك الأضواء وتسليطها كان أبعد عن الخطأ. فقيمة المعرفة تتبع مقدار
141

ارتكازها على تلك الأسس ومدى استنباطها منها، ولذلك كان من الممكن استحصال معارف صحيحة في كل من الميتافيزيقا والرياضيات والطبيعيات على ضوء تلك الأسس، وان اختلفت الطبيعيات في شيء، وهو ان الحصول على معارف طبيعية بتطبيق الأسس الأولية يتوقف على التجربة التي تهئ للانسان شروط التطبيق، وأما الميتافيزيقا والرياضيات فالتطبيق فيها قد لا يحتاج إلى تجربة خارجية. وهذا هو السبب في ان نتائج الميتافيزيقا والرياضيات نتائج قطعية في الغالب، دون النتائج العلمية في الطبيعيات. فان تطبيق الأسس الأولية في للطبيعيات لما كان محتاجا إلى تجربة تهيئ شروط التطبيق، وكانت التجربة في الغالب ناقصة وقاصرة عن كشف جميع الشروط، فلا تكون النتيجة القائمة على أساسها قطعية.
ولنأخذ لذلك مثالا من الحرارة. فلو أردنا ان نستكشف السبب الطبيعي للحرارة، وقمنا بدراسة عدة تجارب علمية، ووضعنا في نهاية المطاف النظرية القائلة ان (الحركة سبب الحرارة)، فهذه النظرية الطبيعية في الحقيقة نتيجة تطبيق لعدة مبادئ ومعارف ضرورية على التجارب التي جمعناها ودرسناها، ولذا فهي صحيحة ومضمونة الصحة بمقدار ما ترتكز على تلك المبادئ الضرورية. فالعالم الطبيعي يجمع أول الامر كل مظاهر الحرارة التي هي موضوع البحث، كدم بعض الحيوانات والحديد المحمى والأجسام المحترقة وغير ذلك من آلاف الأشياء الحارة، ويبدأ بتطبيق مبدأ عقلي ضروري عليها وهو مبدأ العلية القائل (ان لكل حادثة سببا)، فيعرف بذلك ان لهذه المظاهر من الحرارة سببا معينا، ولكن هذا السبب حتى الآن مجهول ومردد بين طائفة من الأشياء، فكيف يتاح تعيينه من بينها؟ ويستعين العالم الطبيعي في هذه المرحلة بمبدأ من المبادئ الضرورية العقلية. وهو المبدأ القائل (باستحالة انفصال الشيء عن سببه)، ويدرس على ضوء هذا المبدأ تلك الطائفة من الأشياء التي توجد بينها السبب الحقيقي للحرارة، فيستبعد عدة من الأشياء ويسقطها من الحساب، كدم
142

الحيوان - مثلا - فهو لا يمكن أن يكون سببا للحرارة لان هناك من الحيوانات ما دماؤها باردة، فلو كان هو السبب للحرارة لما أمكن أن تنفصل عنه ويكون باردا في
بعض الحيوانات. ومن الواضح أن استبعاد دم الحيوان عن السببية لم يكن الا تطبيقا للمبدأ الآنف الذكر الحاكم بأن الشيء لا ينفصل عن سببه، وهكذا يدرس كل شيء مما كان يظنه من أسباب الحرارة فيبرهن على عدم كونه سببا بحكم مبدأ عقلي ضروري. فان أمكنه ان يستوعب بتجاربه العلمية جميع ما يحتمل ان يكون سببا للحرارة، ويدلل على عدم كونه سببا - كما فعل في دم الحيوان، فسوف يصل في نهاية التحليل العلمي إلى السبب الحقيقي - حتما - بعد اسقاط الأشياء الأخرى من الحساب، وتصبح النتيجة العلمية حينئذ حقيقة قاطعة، لارتكازها بصورة كاملة على المبادئ العقلية الضرورية، وأما إذا بقي في نهاية الحساب شيئان أو أكثر ولم يستطع ان يعين السبب على ضوء المبادئ الضرورية، فسوف تكون النظرية العلمية في هذا المجال ظنية، وعلى هذا نعرف:
أولا: ان المبادئ العقلية الضرورية هي الأساس العام لجميع الحقائق العلمية، كما سبق في الجزء الأول من المسألة.
ثانيا: ان قيمة النظريات والنتائج العلمية في المجالات التجريبية.
موقوفة على مدى دقتها في تطبيق تلك المبادئ الضرورية على مجموعة التجارب التي أمكن الحصول عليها. ولذا فلا يمكن اعطاء نظرية علمية بشكل قاطع الا إذا استوعبت التجربة كل امكانيات المسألة، وبلغت إلى درجة من السعة والدقة بحيث أمكن تطبيق المبادئ الضرورية عليها.
وإقامة استنتاج علمي موحد على أساس ذلك التطبيق.
ثالثا: في المجالات غير التجريبية - كما في مسائل الميتافيزيقا - ترتكز النظرية الفلسفية على تطبيق المبادئ الضرورية على تلك المجالات، ولكن هذا التطبيق قد يتم فيها بصورة مستقلة عن التجربة. ففي مسألة
اثبات العلة الأولى للعالم - مثلا - يجب على العقل ان يقوم بمحاولة
تطبيق مبادئه الضرورية على
143

هذه المسألة، حتى يضع بموجبها نظريته الايجابية أو السلبية، وما دامت المسألة ليست تجريبية فالتطبيق يحصل بعملية تفكير واستنباط عقلي بحت بصورة مستقلة عن التجربة.
وبهذا تختلف مسائل الميتافيزيقا عن العلم الطبيعي في كثير من مجالاتها. ونقول (في كثير من مجالاتها) لأن استنتاج النظرية الفلسفية أو الميتافيزيقية من المبادئ الضرورية في بعض الأحايين يتوقف على التجربة أيضا، فيكون للنظرية الفلسفية حينئذ نفس ما للنظريات العلمية من قيمة ودرجة.
الخط الثالث: عرفنا ان المعرفة التصديقية هي التي تكشف لنا عن موضوعية التصور، ووجود واقع موضوعي للصورة التي توجد في ذهننا. وعرفنا أيضا أن هذه المعرفة التصديقية مضمونة بمقدار ارتكازها على المبادئ الضرورية. والمسألة الجديدة هي مدى التطابق بين الصورة الذهنية - فيما إذا كانت دقيقة وصحيحة - والواقع الموضوعي الذي صدقنا بوجوده من ورائها.
والجواب على هذه المسألة: هو أن الصورة الذهنية التي نكونها عن واقع موضوعي معين فيها ناحيتان: فهي من ناحية صورة الشيء ووجوده الخاص في ذهننا. ولا بد لأجل ذلك ان يكون فيها الشيء متمثلا فيها، والا لم تكن صورة له. ولكنها من ناحية أخرى تختلف عن الواقع الموضوعي اختلافا أساسيا. لأنها لا تملك الخصائص التي يتمتع بها الواقع الموضوعي لذلك الشيء، ولا تتوفر فيها ما يوجد في ذلك الواقع من ألوان الفعالية والنشاط. فالصورة الذهنية التي نكونها عن المادة أو الشمس أو الحرارة مهما كانت دقيقة ومفصلة لا يمكن ان تقوم بنفس الأدوار الفعالة التي يقوم بها الواقع الموضوعي لتلك الصور الذهنية في الخارج.
وبذلك نستطيع ان نحدد الناحية الموضوعية للفكرة، والناحية الذاتية. أي الناحية المأخوذة عن الواقع الموضوعي، والناحية التي ترجع إلى التبلور الذهني الخاص. فالفكرة موضوعية باعتبار تمثل الشيء فيها لدى الذهن، ولكن الشيء الذي يمثل لدى الذهن في تلك الصورة يفقد كل فعالية ونشاط مما كان يتمتع به في المجال الخارجي، بسبب التصرف الذاتي، وهذا الفارق
144

بين الفكرة والواقع هو في اللغة الفلسفية الفارق بين الماهية والوجود، كما سندرس ذلك في المسألة الثانية من هذا الكتاب (1).
* النسبية التطورية:
والآن وقد طفنا على شتى المذاهب الفلسفية في نظرية المعرفة، نصل إلى دور الديالكتيك فيها. فقد حاول الماديون الديالكتيكيون ابعاد فلسفتهم عن الشك والسفسطة، فرفضوا المثالية والنسبية الذاتية، وما انتهت اليه عدة مذاهب من ألوان الشك والارتياب، وأكدوا على امكان المعرفة الحقيقية للعالم. وبذلك ظهرت نظرية المعرفة على أيديهم في اطار من اليقين الفلسفي، المرتكز على أسس النظرية الحسية والمذهب التجريبي. فماذا رصدوا لهذا المشروع الجبار والتصميم الفلسفي الضخم؟ كان رصيدهم هو التجربة لتفنيد المثالية.
وكان رصيدهم هو الحركة لرفض النسبية.
* التجربة والمثالية:
قال انجلز عن المثالية:
((ان أقوى تفنيد لهذا الوهم الفلسفي، ولكل وهم

(1) وهذه الناحية الذاتية التي تنطوي عليها الصور الذهنية في رأينا، تختلف عن الناحية الذاتية التي يقول بها (كانت). والتي ينادي بها النسبيون الذاتيون. فليست الذاتية في رأينا باعتبار الجانب الصوري من العلم كما يزعم (كانت) ولا باعتبار كون الإدارك حصيلة تفاعل مادي، والتفاعل يستدعي التصرف من الجانبين، بل هي على أساس التفرقة بين لوني الوجود: الذهني والخارجي. فالشئ الموجود في الصورة الذهنية هو الشيء الموجود في الخارج خلافا للنسبيين، ولكن لون وجوده في الصورة يختلف عن لون وجوده الخارجي.
145

فلسفي آخر هو العمل والتجربة والصناعة بوجه خاص. فإذا استطعنا أن نبرهن على صحة فهمنا لظاهرة طبيعية ما، بخلقنا هذه الظاهرة بأنفسنا، وأحداثنا لها بواسطة
توفر شروطها نفسها، وفوق ذلك إذا استطعنا استخدامها في تحقيق أغراضنا كان في ذلك القضاء المبرم على مفهوم الشيء في ذاته العصي على الادراك الذي أتى به (كانت) (1).
وقال ماركس:
((ان مسألة معرفة ما إذا كان بوسع الفكر الانساني ان ينتهي إلى حقيقة موضوعية ليس بمسألة نظرية، بل انها مسألة عملية، ذلك انه ينبغي للانسان ان يقيم الدليل في مجال الممارسة على حقيقة فكره)) (2).
وواضح من هذه النصوص ان الماركسية تحاول أن تبرهن على الواقع الموضوعي بالتجربة، وتحل المشكلة الأساسية الكبرى في الفلسفة - مشكلة المثالية والواقعية - بالأساليب العلمية.
وهذا مظهر واحد من مظاهر عديدة وقع فيها الخلط بين الفلسفة والعلوم، فان كثيرا من القضايا الفلسفية حاول بعض دراستها بالأساليب العلمية، كما ان عدة من قضايا العلم درسها بعض المفكرين دراسة فلسفية. فوقع الخطأ في هذه وتلك.
والمشكلة التي يتصارع حولها المثاليون والواقعيون هي من تلك المشاكل التي لا يمكن اعتبار التجربة المرجع الاعلى فيها، ولا اعطاؤها الصفة العلمية، لان المسألة التي يرتكز عليها البحث فيها هي مسألة وجود واقع موضوعي للحس التجريبي. فالمثالي يزعم ان الأشياء لا توجد الا في حسنا وإدراكاتنا

(1) لودفيغ فيورباخ ص 54.
(2) لودفيغ فيورباخ ص 112.
146

التجريبية، والواقعي يعتقد بوجود واقع خارجي مستقل للحس والتجربة. ومن البديهي ان هذه المسألة تضع الحس التجريبي بالذات موضع الامتحان والاختبار، فلا يمكن ان يبرهن على موضوعية التجربة والحس بالتجربة والحس نفسهما، ولا الرد على المثالية بها، مع أنها هي موضع النقاش والبحث بين الفريقين المثاليين والواقعيين.
فكل مشكلة موضوعية انما يمكن اعتبارها علمية، وحلها بأساليب العلم التجريبية، فيما إذا كان من المعترف به سلفا صدق التجربة العلمية وموضوعيتها. فمشكلة حجم القمر، أو بعد الشمس عن الأرض، أو بنية الذرة، أو تركيب النبات، أو عدد العناصر البسيطة، يمكن انتهاج الطرق العلمية في دراستها وحلها. وأما إذا طرحت نفس التجربة على بساط البحث، وثار النقاش حول قيمتها الموضوعية، فلا موضع للاستدلال العلمي في هذا المجال على صدق التجربة وقيمتها الموضوعية بالتجربة نفسها.
فواقعية الحس والتجربة اذن هي الأساس الذي يتوقف عليه كيان العلوم جميعا، ولا تتم دراسة أو معالجة علمية الا بناء عليه، فيجب أن يعالج هذا الأساس معالجة فلسفية خالصة قبل الاخذ بأي حقيقة علمية.
وإذا درسنا المسألة دراسة فلسفية نجد ان الاحساس التجريبي لا يعدو أن يكون لونا من ألوان التصور، فمجموعة التجارب مهما تنوعت انما تمون الانسان بإدراكات حسية متنوعة. وقد مر بنا التحدث عن الإحساسات في دراستنا للمثالية، وقلنا انها ما دامت مجرد تصورات فلا تبرهن على الواقع الموضوعي ودحض المفهوم المثالي.
وانما يجب علينا أن ننطلق من المذهب العقلي لنشيد على أسسه المفهوم الواقعي للحس والتجربة، فنؤمن بوجود مبادئ تصديقية ضرورية في العقل، وعلى ضوء تلك المبادئ نثبت موضوعية أحاسيسنا وتجاربنا.
ولنأخذ لذلك مثالا مبدأ العلية، الذي هو من تلك المبادئ الضرورية. فان هذا المبدأ يحكم بأن لكل حادثة سببا خارجا عنه، وعلى أساسه نتأكد من وجود واقع موضوعي للإحساسات والمشاعر التي تحدث في نفوسنا، لأنها بحاجة
147

إلى سبب تنبثق عنه، وهذا السبب هو الواقع الموضوعي.
وهكذا نستطيع ان نبرهن على موضوعية الحس والتجربة بمبدأ العلية.
فهل يمكن للماركسية ان تتخذ هذا الأسلوب؟ طبعا لا، وذلك:
أولا:
لأنها لا تؤمن بمبادئ ضرورية عقلية، فليس مبدأ العلية في عرفها الا مبدأ تجريبيا تدل عليه التجربة، فلا يصح أن يعتبر أساسا لصدق التجربة وموضوعيتها.
وثانيا:
ان الديالكتيك يفسر تطورات المادة وحوادثها بالتناقضات المحتواة في داخلها. وليست الحوادث الطبيعية في تفسيره محتاجة إلى سبب خارجي، كما سندرس ذلك بكل تفصيل في المسألة الثانية. فإذا كان هذا التفسير الديالكتيكي كافيا لتبرير وجود الحوادث الطبيعية، فلماذا نذهب بعيدا؟ ولماذا نضطر إلى افتراض سبب خارجي وواقع موضوعي لكل ما يثور في نفوسنا من ادراك؟ بل يصبح من الجائز ان تقول المثالية في ظواهر الادراك والحس ما قاله الديالكتيك عن الطبيعة تماما، ويزعم ان هذه الظواهر في حدوثها وتعاقبها محكومة لقانون نقض النقض، الذي يضع رصيد التغير والتطور في المحتوى الداخلي.
وبهذا نعرف ان الديالكتيك لا يحجبنا عن سبب خارج الطبيعة فحسب، بل يحجبنا بالتالي عن هذه الطبيعة بالذات، وعن كل شيء خارج دنيا الشعور والادراك (1).

(1) وقد جاء في كلام انجلز السابق التأكيد على ناحية القيمة الموضوعية لخلق ظاهرة وانشائها، وان في ذلك الرد الحاسم على النزعات المثالية. ولا أظن هذا التأكيد حين يصدر من المدرسة الماركسية ينطوي على معنى فلسفي خاص، وان أمكن للباحث الفلسفي ان يصوغ من ذلك دليلا خاصا على اثبات أن الواقع الموضوعي يرتكز على العلم الحضوري نظرا إلى ان الفاعل يعلم بآثاره، وما يخلق علما حضوريا، والعلم الحضوري بشيء هو نفس وجوده الموضوعي. فالانسان اذن يتصل بالواقع الموضوعي لما يعلمه علما حضوريا. فالمثالية إذا أسقطت من حساب المعرفة الموضوعية العلم الحصولي الذي لا نتصل فيه الا بأفكارنا، كفى للواقعية العلم الحضوري.
ولكن هذا الدليل يقوم على فهم مغلوط للعلم الحضوري، فان أساس معرفتنا للأشياء انما هو العلم الحصولي. واما العلم الحضوري فهو لا يعني أكثر من حضور المعلوم الواقعي لدى العالم، ولذلك كان كل انسان يعلم بنفسه علما حضوريا، مع ان كثيرا من الناس انكر وجود النفس. ولا تتسع حدودنا الخاصة في هذه الدراسة للإفاضة في هذه الناحية.
148

ولنعرض شيئا من النصوص الماركسية التي حاولت معالجة المشكلة بما لا يتفق مع طبيعتها وطابعها الفلسفي:
أ - قال (روجيه غارودي):
((تعلمنا العلوم ان الانسان ظهر على وجه الأرض في زمن متأخر جدا، وكذلك الفكر معه. ولكي نؤكد ان الفكر كان موجودا، متقدما على الأرض، على المادة، يجب اذن التأكد بأن هذا الفكر لم يكن فكر الانسان. ان المثالية في جميع أشكالها لا تستطيع ان تنجو من اللاهوت)) (1).
((لقد وجدت الأرض حتى قبل كل كائن ذي حساسية، قبل كل كائن حي. وما كان لأية مادة عضوية ان توجد على الكرة الأرضية في أول مراحل وجودها. فالمادة غير العضوية سبقت الحياة اذن وكان على الحياة ان تنمو وتتطور خلال آلاف آلاف السنين قبل ان يظهر الانسان ومعه المعرفة.
العلوم تقودنا اذن إلى التأكد بأن العالم قد وجد في حالات لم يكن فيها أي شكل من أشكال الحياة أو الحساسية ممكنا)) (2).
هكذا يعتبر (روجيه) الحقيقة العلمية - القائلة بضرورة تقدم نشأة المادة غير العضوية على المادة العضوية - دليلا على وجود العالم الموضوعي لان المادة العضوية ما دامت نتاجا لتطور طويل
ومرحلة متأخرة من مراحل نمو المادة، فلا

(1) ما هي المادة ص 32.
(2) ما هي المادة ص 4.
149

يمكن ان تكون المادة مخلوقة للوعي البشري، الذي هو متأخر بدوره عن وجود كائنات عضوية حية ذات جهاز عصبي ممركز، فكأنه افترض مقدما ان المثالية تسلم بوجود المادة العضوية، فشاد على ذلك استدلاله، ولكن هذا الافتراض لا مبرر له، لأن المادة بمختلف ألوانها وأقسامها - من العضوية وغيرها - ليست في المفهوم المثالي الا صورا ذهنية، نخلقها في إدراكاتنا وتصوراتنا. فالاستدلال الذي يقدمه لنا (روجيه) ينطوي على مصادرة، وينطلق من نقطة لا تعترف بها المثالية.
ب - قال لينين:
((إذا أردنا طرح المسألة من وجهة النظر التي هي وحدها صحيحة - يعني من وجهة النظر الديالكتيكية المادية - ينبغي أن نتساءل هل الكهارب والأثير... الخ موجوده خارج الذهن البشري، وهل لها حقيقة موضوعية أم لا؟ عن هذا السؤال ينبغي ان يجيب علماء التاريخ الطبيعي. وهم يجيبون دائما ودون تردد بالايجاب، نظرا لأنهم لا يترددون بالتسليم بوجود الطبيعة وجودا أسبق من وجود الانسان، وجود المادة العضوية)) (1).
ونلاحظ في هذا النص نفس المصادر التي استعملها (روجيه)، مع التشدق بالعلم واعتباره الفاصل النهائي في المسألة. فما دام علم التاريخ الطبيعي قد أثبت وجود العالم قبل ظهور الشعور والادراك، فما على المثاليين الا ان يركعوا امام الحقائق العلمية ويأخذوا بها. ولكن علم التاريخ الطبيعي ما هو الا لون من ألوان الادراك البشري. والمثالية تنفي الواقع الموضوعي لكل ادراك مهما كان لونه، فليس العلم في مفهومها الا فكرا ذاتيا خالصا، أفليس العلم حصيلة التجارب المتنوعة؟ أو ليست هذه التجارب والاحساسات التجريبية هي موضع النقاش، الدائرة حول ما إذا كانت تملك واقعا موضوعيا أو لا؟ فكيف يكون للعلم كلمته الفاصلة في الموضوع؟

(1) ما هي المادة ص 21.
150

ج - قال جورج بوليتزير:
((ليس هناك من يشك في أن الحياة المادية للمجتمع توجد مستقلة عن وعي الناس، إذ ليس ثمة من يتمنى الأزمة الاقتصادية، سواء كان رأسماليا أو بروليتاريا، رغم ان هذه الأزمة تحدث حتما)) (1).
وهذا لون جديد يتخذه الماركسيون للرد على المثالية، ف‍ (جورج لا يستند في هذا النص إلى حقائق علمية، وانما يركز استدلاله على حقائق وجدانية، نظرا إلى ان كل واحد منا يشعر بوجدانه انه لا يتمنى كثيرا من الحوادث التي تحدث، ولا يرغب في وجودها، ومع ذلك هي تحدث وتوجد خلافا لرغبته، فلا بد اذن أن يكون للحوادث وتسلسلها المطرد واقع موضوعي مستقل. وليست هذه المحاولة الجديدة بأدنى إلى التوفيق من المحاولات السابقة، لأن المفهوم المثالي - الذي ترجع فيه الأشياء جميعا إلى مشاعر وإدراكات - لا يزعم ان هذه المشاعر والادراكات تنبثق عن اختيار الناس وإرادتهم المطلقة، ولا تتحكم فيها قوانين ومبادئ عامة، بل المثالية والواقعية متفقتان على أن العالم يسير طبقا لقوانين ومبادئ تجري عليه وتتحكم فيه، وانما يختلفان في تفسير هذا العالم واعتباره ذاتيا موضوعيا.
والنتيجة التي تؤكد عليها مرة أخرى هي ان من غير الممكن اعطاء مفهوم صحيح للفلسفة الواقعية، والاعتقاد بواقعية الحس والتجربة الا على أساس المذهب العقلي، القائل بوجود مبادئ عقلية ضرورية مستقلة عن التجربة. وأما إذا بدأنا البحث في مسألة المثالية والواقعية من التجربة أو الحس - اللذين هما مورد النزاع الفلسفي بين المثاليين والواقعيين - فسوف ندور في حلقة مفرغة، ولا يمكن ان نخرج منها بنتيجة في صالح الواقعية الفلسفية.

(1) المادية والمثالية في الفلسفة ص 68.
151

* التجربة والشيء في ذاته:
تحارب الماركسية فكرة الشيء لذاته التي عرضها (كانت)، في بعض أشكالها، كما تحارب الأفكار التصورية المثالية، فلننظر إلى أسلوبها في ذلك.
قال جورج بوليتزير:
((والواقع ان الجدل - وحتى الجدل المثالي عند هيجل - يقول ان التمييز بين صفات الشيء والشيء في ذاته تمييز أجوف، فإذا عرفنا كل صفات شيء ما عرفنا الشيء ذاته، ثم يبقى ان تكون هذه الصفات مستقلة عنا، وفي هذا بالذات يتحدد معنى مادية العالم ولكن ما دمنا نعرف صفات هذا الواقع الموضوعي، فلا يمكن ان يقال عنه انه غير قابل للمعرفة.
فمن السخف ان تقول - مثلا - شخصيتك شيء وصفاتك وعيوبك شيء آخر، وانا اعرف صفاتك وعيوبك ولكني لا اعرف شخصيتك، ذلك لأن الشخصية هي بالضبط مجموع العيوب والصفات، وكذلك فن التصوير هو جماع اعمال الصور، فمن السخف ان نقول هناك اللوحات والرسامون والألوان والأساليب والمدارس، ثم هناك (التصوير) في ذاته معلقا فوق الواقع وغير قابل للمعرفة. فليس هناك قسمان للواقع، بل الواقع كل واحد نكشف بالتطبيق وجوهه المختلفة على التوالي. وقد علمنا الجدل ان الصفات المختلفة للأشياء تكشف عن نفسها بواسطة الصراع الباطن للأضداد، وهو الذي يصنع التغيير، فحالة السيولة في ذاتها هي بالضبط حالة الاتزان النسبي، الذي ينكشف تناقضه الباطن في لحظة التجمد أو الغليان. ومن هنا قال لينين ((لا يوجد ولا يمكن ان يوجد أي فارق مبدئي بين الظاهرة والشيء في ذاته وليس ثمة فرق
بين ما هو معروف
152

وبين ما يعرف بعد)) فكلما ازداد عمق معرفتنا للواقع أصبح الشيء في ذاته تدريجيا شيئا لذاتنا)) (1).
ولأجل ان ندرس الماركسية في هذا النص، يجب ان نميز بين معنيين لفكرة فصل الشيء في ذاته عن الشيء لذاتنا.
الأول: ان العلم البشري لما كان يرتكز - في نظر المبدأ الحسي التجريبي - على الحس، والحس لا يتناول الا ظواهر الطبيعة، ولا ينفذ إلى الصميم والجوهر، فهو مقصور على هذه الظواهر التي يمتد إليها الحس التجريبي، وتقوم بذلك هوة فاصلة بين الظواهر والجوهر. فالظواهر هي الأشياء لذاتنا، لأنها الجانب السطحي القابل للادراك من الطبيعة، والجوهر هو الشيء في ذاته ولا تنفذ اليه المعرفة البشرية.
ويحاول جورج بوليتزير القضاء على هذه الثنائية بحذف المادة أو الجوهر من الواقع الموضوعي، فهو يؤكد على أن الجدل لا يميز بين صفات الشيء والشيء في ذاته، بل يعتبر الشيء عبارة عن مجموعة الصفات والظواهر. ومن الواضح ان هذا لون من ألوان المثالية التي نادى بها (باركلي) حين احتج على اعتقاد الفلاسفة بوجود مادة وجوهر وراء الصفات والظواهر التي تبدو لنا في تجاربنا، وهو لون من المثالية يحتمه المبدأ الحسي والتجريبي. فما دام الحس هو القاعدة الأساسية للمعرفة، وهو لا يدرك سوى الظواهر، فلا بد من اسقاط الجوهر من الحساب. وإذا سقط فلا يبقى في الميدان الا الظواهر والصفات القابلة للادراك.
الثاني: ان الظواهر - التي يمكن ادراكها ومعرفتها - ليست هي في مدراكنا وحواسنا كما هي في واقعها الموضوعي. فالثنائية ليست هنا بين الظاهرة والجوهر، بل بين الظاهرة كما تبدو لنا والظاهرة كما هي موجودة بصورة موضوعية مستقلة.
فهل تستطيع الماركسية أن تقضي على هذه الثنائية؟ وتبرهن على أن الواقع

(1) المادية والمثالية في الفلسفة ص 108 - 109.
153

الموضوعي يبدو لنا في أفكارنا وحواسنا كما هو في مجاله الخارجي المستقل؟
ونجيب بالنفي ما دام الادراك في المفهوم المادي عملا فيزيولوجيا خالصا.
ويلزمنا في هذا الصدد ان نعرف لون العلاقة القائمة بين الادراك أو الفكرة أو الاحساس، والشيء الموضوعي في المفهوم المادي. على أساس المادية الآلية، وعلى أساس المادية الديالكتيكية معا.
أما على أساس المادية الآلية، فالصورة أو الادراك الحسي انعكاس للواقع الموضوعي في الجهاز العصبي انعاكسا آليا، كما تنعكس الصورة في المرآة أو العدسة. فان المادية الآلية لا تعترف للمادة بحركة ونشاط ذاتي، وتفسر جميع الظواهر تفسيرا آليا، ولذلك لا يمكنها ان تفهم علاقات المادة الخارجية بالنشاط الذهني للجهاز العصبي، الا في ذلك الشكل الجامد من الانعكاس.
وتواجه حينئذ السؤالين التاليين: هل يوجد في الاحساس شيء موضوعي، أي شيء ليس متعلقا بالانسان وانما انتقل إلى الحس من الواقع الخارجي للمادة؟
وإذا كان يوجد شيء من هذا القبيل في الاحساس، فكيف انتقل هذا الشيء من الواقع الموضوعي إلى الاحساس؟
والمادية الآلية لا تستطيع ان تجيب على السؤال الأول بالاثبات، لأنها إذا
أثبتت وجود شيء موضوعي في الاحساس لزمها ان تبرر كيفية انتقال الواقع الموضوعي إلى الاحساس الذاتي، أي أن تجيب على السؤال الثاني وتفسر عملية الانتقال، وهذا ما تعجز عنه، ولذا فهي مضطرة إلى ان تضع نظرية الانعكاس، وتفسر العلاقة بين الفكرة والشيء الموضوعي، كما تفسر العلاقة بين صورة المرآة أو العدسة، والواقع الموضوعي الذي ينعكس فيهما.
وأما المادية الديالكتيكية - التي لا تجيز الفصل بين المادة والحركة، وتعتبر كيفية وجود المادة هي الحركة - فقد حاولت ان تعطي تفسيرا جديدا لعلاقة الفكرة بالواقع الموضوعي على هذا الأساس، فزعمت أن الفكرة ليست صورة آلية محضا لذلك الواقع، بل الواقع يتحول إلى فكرة، لان كلا منهما شكل
154

خاص من أشكال الحركة، والفرق الكيفي بين أشكال الحركة وألوانها لا يمنع من تحليل الانتقال من شكل إلى آخر فالمادة الموضوعية لما كانت في كيفية وجودها شكلا خاصا من الحركة، فتتحول هذه الحركة الفيزيائية للشيء إلى حركة نفسية
فيزيولوجية في حواسنا، وتتحول الحركة الفيزيولوجية إلى حركة نفسية للفكرة (1)، فليس موقف الفكر موقفا سلبيا، وليس الانعكاس انعكاسا آليا كما هو مفهوم الفكر لدى المادية الآلية.
وهذه المحاولة من المادية الديالكتيكية لا يمكن ان تنجح في كشف علاقة بين الشيء والفكرة، عدا علاقة سبب بنتيجة، وعلاقة واقع بصورة منعكسة عنه، نظرا إلى أن تحول الحركة الفيزيائية للشيء إلى حركة فيزيولوجية - وبالتالي إلى حركة نفسية - ليس هو المفهوم الصحيح والتفسير المعقول للحس أو الفكر. فان التحول يعني فناء الشكل الأول من الحركة والانتقال إلى شكل جديد، كما نقول في حركة المطرقة على السندان: انها تتحول إلى حرارة. والحرارة والحركة الآلية شكلان من أشكال الحركة. فالقوة التي كانت تعبر عن وجودها في شكل خاص من الحركة - وهو الحركة الآلية - تحولت من ذلك الشكل إلى تعبير جديد لها في شكل جديد، وهو الحرارة. فالحرارة. تحتفظ بنفس مقدار القوة التي كانت تعبر عن وجودها بالحركة الآلية. هذا هو التحول
بمعناه الدقيق للحركة من لون إلى آخر، ولنفترض انه امر معقول، ولكن ليس من المعقول تفسير الحس أو الفكر بعملية تحول كهذه، وذلك لأن الحركة الفيزيائية للواقع الموضوعي المحسوس لا تتحول بالاحساس إلى حركة نفسية، لأن التحول يعني تبدل الحركة من شكل إلى شكل، ومن الواضح ان الحركة الطبيعية أو الفيزيائية للمادة
المحسوسة لا تتبدل هكذا إلى حركة فيزيولوجية أو فكرية، إذ ان معنى تبدلها كذلك زوال الشكل الأول من الحركة، وبالتالي زوال المادة التي تعبر عن وجودها في ذلك الشكل الخاص.

(1) لا حظ (ما هي المادية) ص 48
155

فليست الحركة الموضوعية للشيء المحسوس كحركة المطرقة، وليس الاحساس تحويلا لتلك الحركة الموضوعية - التي هي كيفية وجود المادة - إلى حركة نفسية، كما تتحول حركة المطرقة إلى حرارة، والا لكان الاحساس عملية تبديل للمادة إلى فكرة كما تتبدل الحركة الآلية إلى حرارة.
وعلى هذا فليست مسألة الادراك مسألة تحول الحركة الفيزيائية إلى حركة نفسية، الذي هو بعينه عبارة عن تحول الواقع الموضوعي إلى فكرة، بل يوجد للشيء المحسوس والمدرك واقع موضوعي وللاحساس وجود آخر في نفوسنا، ما دام هناك وجودان وجود ذاتي للاحساس أو الفكر، ووجود موضوعي للشيء المحسوس، فلا نستطيع ان نفهم الصلة بين هذين الوجودين الا كما نفهم الصلة بين سبب ونتيجة، وكما نفهم العلاقة بين واقع وصورة منعكسة عنه، ونواجه عند هذا بكل وضوح المسألة الأساسية التي نحن بصددها، وهي: ان الفكرة ما دامت نتيجة للشيء الموضوعي، وما دامت العلاقة المفهومة بينهما هي علاقة السببية، فلماذا يجب ان نفترض ان هذه النتيجة وسببها يختلفان عن سائر النتائج
وأسبابها ويمتازان عليها بخاصة وهي ان النتيجة تصور لها سببها وتعكسه انعاكسا تاما؟
فهناك كثير من الوظائف الفيزيولوجية هي نتائج أسباب خارجية معينة، ولم نجد في واحدة من النتائج القدرة على تصوير سببها، وانما تدل دلالة غامضة على وجود أسباب لها خارج نطاقها، فكيف نستطيع ان نعترف للفكرة بأكثر من هذه الدلالة الغامضة؟
وهب ان الماركسية نجحت في تفسير الفكر والادراك، بعملية تحول للحركة الفيزيائية إلى حركة نفسية، فهل يعني هذا ان الفكرة تستطيع ان تطابق الواقع الموضوعي بصورة كاملة؟ ان هذا التفسير يجعلنا ننظر إلى الفكرة وواقعها الخارجي كما ننظر إلى الحرارة والحركة الآلية التي تتحول إليها. ومن الواضح ان الاختلاف الكيفي بين شكلي الحركة فيهما يجعلهما غير متطابقين. فكيف نفترض التطابق بين الفكرة وواقعها الموضوعي؟
ويبدو على المدرسة الماركسية لون من الاضطراب والتشويش عند مواجهة
156

هذه المشكلة. ويمكننا ان نستخلص دليلين لها على هذه النقطة من عدة نصوص متفرقة ومشوشة أحدهما، دليل فلسفي، والآخر، دليل بيولوجي علمي.
أما الدليل الفلسفي فيلخصه النص التالي:
((ان الفكر يستطيع ان يعرف الطبيعة معرفة تامة، ذلك لأنه يؤلف جزءا منها، ذلك لأنه نتاجها والتعبير الاعلى عنها.
ان الفكر هو الطبيعة تعي ذاتها في ضمير الانسان. يقول لينين: ((ان الكون هو حركة للمادة تخضع لقوانين ولما لم تكن معرفتنا الا نتاجا أعلى للطبيعة لا يسعها الا ان تعكس هذه القوانين)). ولقد كان أنجلز يبين في كتابه (آنتي دوهرنغ): ان المادية الفلسفية هي وحدها التي تستطيع تأسيس قيمة المعرفة على دعائم متينة. حين يؤخذ الوعي والفكر على انهما شيئان معطيان، كانا في زمان يتعارضان مع الطبيعة ومع الكائن عندئذ يؤدي ذلك بنا حتما إلى ان نجد - رائعا - جدا - كون وعينا للطبيعة وتفكير الكائن وقوانين الفكر متطابقة إلى أبعد حد. ولكن إذا تساءلنا ما هو الفكر؟ وما هو الوعي؟ ومن أين يأتيان؟ وجدنا ان الانسان هو نفسه نتاج للطبيعة، نما في بيئة ومع نمو هذه البيئة، وعندئذ يصبح في غنى عن البيان: كيف ان منتوجات الذهن البشري التي هي أيضا عند آخر تحليل منتوجات الطبيعة ليست في تناقض وانما في توافق مع سائر الطبيعة المتراصة)) (1)
ان الفكر في المفهوم الماركسي جزء من الطبيعة أو نتاج أعلى لها. ولنفترض ان هذا صحيح - وليس هو بصحيح - فهل يكفي ذلك لأجل أن نبرهن على امكان معرفة الطيبعة بصورة كاملة؟!

(3) ما هي المادية - 46 - 47 -.
157

صحيح ان الفكر إذا كان جزءا من الطبيعة ونتاجا لها فهو يمثل بطبيعة الحال قوانينها، ولكن ليس معنى هذا ان الفكر بهذا الاعتبار يصبح معرفة صحيحة للطبيعة وقوانينها.
أو ليس الفكر الميتافيزيقي أو المثالي فكرا، وبالتالي جزءا من الطبيعة ونتاجا لها - في الزعم المادي؟ أو ليست جميع محتويات العمليات الفيزيولوجية ظواهر طبيعية ونتاجا للطبيعة؟
فقوانين الطبيعة اذن تتمثل في تفكير المادي الجدلي وتجري عليه، وفي التفكير المثالي والميتافيزيقي على السواء، كما تتمثل في جميع العمليات والظواهر الطبيعية، فلماذا يكون الفكر الماركسي معرفة صحيحة للطبيعة دون غيره من هذه الأمور؟ مع انها جميعا نتاجات طبيعية تعكس قوانين الطبيعة. وبهذا نعرف ان مجرد اعتبار الفكر ظاهرة للطبيعة ونتاجا منها، لا يكفي لأن يكون معرفة حقيقية للطبيعة، بل لا يضع بين الفكرة وموضوعها الا علاقة السببية الثابتة بين كل نتيجة وسببها الطبيعي وانما تكون الفكرة معرفة حقيقية إذا آمنا فيها بخاصة الكشف والتصوير، التي تمتاز بها على كل شيء آخر.
وأما الدليل البيولوجي على مطابقة الادراك أو الاحساس للواقع الموضوعي، فهو ما يعرضه لنا النص التالي:
((لا تستطيع ان تكون وهي في مستوى الاحساس نافعة بيولوجيا في حفظ الحياة، الا إذا كانت تعكس الواقع الموضوعي)) (1). ((إذا كان صحيحا ان الاحساس ليس الا رمزا دون أيما شبه بالشيء وإذا كان يمكن بالتالي تطابق أشياء عديدة متغايرة، أو أشياء وهمية ومثلها تماما أشياء واقعية، عندئذ يكون التعود البيولوجي على البيئة مستحيلا، إذا افترضنا ان الحواس لا تتيح لنا تعيين اتجاهنا بيقين وسط الأشياء، والرد عليها بفعالية، بيد ان كل النشاط العملي

(4) ما هي المادة ص 62.
158

البيولوجي للانسان والحيوان يدلنا على درجات اكتمال هذا الشعور)) (1).
واضح ان النسبة في الحس لا تعني ان أشياء عديدة ومتغايرة تشترك في رمز حسي واحد، ليسقط هذا الرمز عن القيمة نهائيا، ويعجز عن تعيين الاتجاه الذي يحفظ لنا حياتنا ويحدد موقفنا من الأشياء الخارجية، بل النظرية النسبية الفيزيولوجية تقوم على أساس ان كل لون من الاحساس فهو رمز يختص بواقع موضوعي معين، لا يمكن ان يرمز اليه بلون آخر من ألوان الحس، ويتاح حينئذ لنا ان نحدد موقفنا من الأشياء على ضوء تلك الرموز، ونرد عليها بالفعالية التي تنسجم مع الرمز وتتطلبها طبيعة الحياة تجاهه.
* الحركة الديالكتيكية في الفكر:
وتناولت الماركسية بعد ذلك المذهب النسبي في الحقيقة، فاعتبرته نوعا من السفسطة، لأن النسبة فيه تعني تغير الحقائق من ناحية ذاتية، وقررت النسبية بشكل جديد، أوضحت فيه تغير الحقائق طبقا لقوانين التطور والتغير في المادة الخارجية.
فليست في الفكر الانساني حقائق مطلقة، وانما الحقائق التي ندركها نسبية دائما. وما يكون حقيقة في وقت يكون بنفسه خطأ في وقت آخر. وهذا ما تتفق عليه النسبية والماركسية معا. وتزيد الماركسية بالقول ان هذه النسبية وهذه التغيرات والتطورات، في الحقيقة ليست الا انعكاسا لتغيرات الواقع، وتطورات المادة التي نتمثلها في حقائقنا الفكرية.
فالنسبية في الحقيقة بنفسها نسبية موضوعية، وليست نسبية ذاتية ناشئة من جانب الذات المفكرة، ولذلك فهي لا تعني عدم وجود معرفة حقيقية للانسان، بل الحقيقة النسبية المتطورة التي تعكس الطبيعة في تطورها، هي المعرفة الحقيقية في المنطق الديالكتيكي.

(1) نفس المصدر ص 36.
159

قال لينين:
((ان المرونة التامة الشاملة للمفاهيم، وهي المرونة التي تذهب إلى حد تماثل الأضداد، ذلك جوهر القضية. ان هذه المرونة إذا استخدمت على نحو ذاتي تفضي إلى الانتقائية والسفسطة. والمرونة المستخدمة موضوعيا يعني بكونها تعكس جميع جوانب حركة التطور المادية ووحدتها، انما هي الديالكتيك، وهي الانعكاس الصحيح للتطور الأبدي للعالم. الدفاتر الفلسفية ص 84)) (1).
وقال أيضا.
((نستطيع بانطلاقنا من المذهب النسبي البحت تبرير كل نوع من أنواع السفسطة. الدفاتر الفلسفية ص 328)) (2).
وقال كيدروف:
((ولكن قد توجد ثمة نزعة ذاتية، ليس فقط حينما نعمل على أساس المنطق الشكلي بمقولاته الساكنة الجامدة، وانما أيضا حينما نعمل بواسطة مقولات مرنة متحولة. ففي الحالة الأولى نصل إلى الغيبية، وفي الثانية نصل إلى المذهب النسبي والسفسطائية والانتقائية)) (3).
وقال أيضا:
((يقتضي المنطق الديالكتي الماركسي، ان يطابق انعكاس العالم الموضوعي في ضمير الانسان الشيء المنعكس. وان لا يتضمن شيئا غريبا عنه، شيئا جيء به على نحو ذاتي. ان التفسير الذاتي وفقا لوجهة النظر النسبية ولمرونة المفاهيم، هو

(1) المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي ص 50 - 51.
(2) المرجع ذاته ص 51.
(3) المرجع ذاته ص 50.
160

إضافة غريبة تماما، كمبالغة الغيبية الذاتية في تجريدات المنطق الشكلي)) (1).
هذه النصوص تدل على المحاولة التي اتخذتها الماركسية لترفع على أساسها يقينها الفلسفي. وهي محاولة تطبيق قانون الديالكتيك على الحقيقة.
فالانسان وان لم تكن لديه حقيقة مطلقة في مجموع أفكاره، غير ان سلبية امكان الحقيقة المطلقة عن أفكاره ليس لأجل انها كومة من أخطاء مطلقة تجعل المعرفة الصحيحة مستحيلة على الانسان نهائيا، بل لأن الحقائق التي يملكها الفكر الانساني حقائق تطورية، تنمو وتتكامل على طبق قوانين الديالكتيك، فهي لذلك حقائق نسبية وفي حركة مستمرة. قال لينين:
((يجب ان لا يتصور الفكر (يعني الانسان) الحقيقة في شكل مجرد مشهد (صورة) شاحبة (باهتة). بدون حركة. ان المعرفة هي الاقتراب اللامتناهي الأبدي للفكر نحو الشيء. يجب فهم انعكاس الطبيعة في فكر الانسان ليس كشئ جامد مجرد، بدون حركة، بدون تناقضات، وانما كعملية تطور أبدية للحركة لولادة التناقضات وحل هذه التناقضات.
الدفاتر الفلسفية ص 167 - 168)) (2).
وقال أيضا:
((من المهم في نظرية المعرفة - كما في جميع حقول العلم الأخرى - ان يكون التفكير دائما ديالكتيكيا، أي ان لا يفرض مطلقا كون وعينا ثابتا لا يتطور)) (3).

(1) المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي ص 51.
(2) المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي ص 10.
(3) المرجع ذاته ص 11.
161

وقال كيدروف:
((اما المنطق الديالكتي فهو لا يواجه هذا الحكم كأنه شيء مكتمل، بل بوصفه تعبيرا عن فكرة قادرة على ان تنمو وان تتحرك. وأيا ما كانت بساطة حكم ما، ومهما بدا عاديا هذا الحكم، فهو يحتوي على بذور أو عناصر تناقضات ديالكتيكية، تتحرك وتنمو - داخل نطاقها - المعرفة البشرية كلها)) (1).
وأشار كيدروف إلى كلمة يحدد فيها لينين أسلوب المنطق الديالكتي في التفكير إذ يقول:
((يقتضي المنطق الديالكتي ان يؤخذ الشيء في تطوره، في نمائه، في تغيره))) وعقب على ذلك بقوله: ((وخلافا للمنطق الديالكتي، يعمد المنطق الشكلي إلى حل مسألة الحقيقة حلا أوليا إلى أبعد حد، بواسطة صيغة (نعم - لا). انه يعلم الإجابة بكلمة واحدة وبصورة قاطعة، على السؤال الظاهرة تلك موجودة أم لا؟ والإجابة مثلا، ب‍ (نعم) على السؤال: هل الشمس موجودة؟ وب‍ (لا) على السؤال: هل الدائرة المربعة موجودة؟ في المنطق الشكلي يقف الانسان عند حد إجابات بسيطة جدا، نعم أو لا، أي عند حد تمييز نهائي بين الحقيقة والخطأ. لهذا السبب تواجه الحقيقة باعتبارها شيئا معطى ساكنا ثابتا نهائيا، ومتعارضا تعارضا مطلقا مع الخطأ)) (2).
تخلص معنا من هذه النصوص الماركسية آراء ثلاثة، يرتبط بعضها ببعض كل الارتباط.

(1) المرجع ذاته ص 20 - 21.
(2) لاحظ (ما هي المادية) ص 48.
162

الأول:
ان الحقيقة في نمو وتطور، يعكس نمو الواقع وتطوره.
الثاني:
ان الحقيقة والخطأ يمكن ان يجتمعا، فتكون الفكرة الواحدة خطأ وحقيقة، وليس هناك تعارض مطلق بين الخطأ والحقيقة، كما يؤمن به المنطق الشكلي، على حد تعبير كيدروف.
الثالث:
ان أي حكم مهما بدت الحقيقية فيه واضحة فهو يحتوي على تناقض خاص، وبالتالي على جانب من الخطأ. وهذا التناقض هو الذي يجعل المعرفة والحقيقة تنمو وتتكامل.
فهل الحقيقة القائمة في فكر الانسان تتطور وتتكامل حقيقة؟
وهل يمكن للحقيقة أن تجتمع مع الخطأ؟
وهل تحتوي كل حقيقة على نقيضها وتنمو بهذا التناقض الداخلي؟
هذا ما نريد ان نتبينه فعلا.
أ - تطور الحقيقة وحركتها:
يجب قبل كل شيء أن نعرف ماذا يراد بالحقيقة القائمة في الفكر الانساني، التي آمنت الماركسية بنموها وتكاملها؟ ان الفلسفة الواقعية تؤمن بواقع خارج حدود الشعور والذهن وتعتبر التفكير أي تفكير كان، محاولة لعكس ذلك الواقع وادراكه. وعلى هذا، فالحقيقة هي الفكرة المطابقة لذلك الواقع والمماثلة له. والخطأ يتمثل في الفكرة أو الرأي أو العقيدة التي لا تطابق الواقع ولا تماثله. فالمقياس الفاصل بين الحق والباطل، بين الحقيقة والخطأ، هو مطابقة الفكرة للواقع.
والحقيقة بهذا المفهوم الواقعي، هي موضوع العراك الفلسفي العنيف بين الواقعيين من ناحية، والتصوريين والسفسطائيين من ناحية أخرى. فالواقعيون يؤكدون على امكانها. والتصوريون أو السفسطائيون ينفونها أو يترددون في القدرة البشرية على الظفر بها.
غير ان لفظ الحقيقة قد استخدمت له عدة معاني أخرى، تختلف كل
163

الاختلاف عن مفهومها الواقعي الآنف الذكر، وابتعد بذلك عن الميدان الأساسي للصراع بين فلسفة اليقين، وفلسفات الشك والانكار.
فمن تلك التطويرات الحديثة التي طرأت على الحقيقة، تطوير النسبية الذاتية الذي شاء ان يضع للفظ الحقيقة مفهوما جديدا. فاعتبر الحقيقة عبارة عن الادراك الذي يتفق مع طبيعة الجهاز العصبي وشروط الادراك فيه. وقد مر حديثنا عن النسبية الذاتية، وقلنا ان اعطاء الحقيقة هذا المفهوم، يعني أنها ليست أكثر من تعبير عن شيء ذاتي، فلا تصبح الحقيقة حقيقة الا من ناحية اسمية فقط. وبذلك تفقد الحقيقة في المفهوم النسبي الذاتي صفتها كموضوع للنزاع والصراع الفلسفي، بين اتجاهات اليقين والشك والانكار في الفلسفة. فالنسبية الذاتية مذهب من مذاهب الشك يتبرقع بستار من الحقيقة.
وهناك تفسير فلسفي آخر للحقيقة، وهو الذي يقدمه لنا (وليم جيمس) في مذهبه الجديد في المعرفة الانسانية (البراجماتزم أو مذهب الذرائع). وليس هذا التفسير بأدنى إلى الواقعية أو أبعد عن فلسفات الشك والانكار من التفسير السابق. الذي حاولته النسبية الذاتية. ويتلخص مذهب (البراجماتزم) في تقديم مقياس جديد، لوزن الأفكار والفصل فيها بين الحق والباطل وهو مقدرة الفكرة المعينة على انجاز اغراض الانسان في حياته العملية. فان تضاربت الآراء وتعارضت، كان أحقها وأصدقها هو أنفعها وأجداها، أي ذلك الذي تنهض التجربة العملية دليلا على فائدته. والأفكار التي لا تحقق قيمة عملية ولا يوجد لها آثار نافعة فيما تصادف من تجارب الحياة، فليست من الحقيقة بشيء، بل يجب اعتبارها الفاظا جوفاء لا تحمل من المعنى شيئا. فمرد الحقائق جميعا في هذا المذهب إلى حقيقة عليا في الوجود، وهي الاحتفاظ بالبقاء أولا، ثم الارتفاع بالحياة نحو الكمال ثانيا. فكل فكرة يمكن استعمالها كأداة للوصول إلى تلك الحقيقة العليا فهي حق صريح وحقيقة يجب تصديقها، وكل فكرة لا تصنع شيئا في هذا المضمار فلا يصح الاخذ بها.
وعلى هذا الأساس عرف (برغسون (1)) الحقيقة بأنها اختراع شيء جديد،

(1) برغسون: حياته، فلسفته، منتخبات - سلسلة: زدني علما رقم 25 - منشورات عويدات
164

وليست اكتشافا لشيء سبق وجوده. وعرفها (شلر) بأنها ما تخدم الانسان وحده. وحدد (ديوي) وظيفة الفكرة قائلا ان الفكرة أداة لترقية الحياة، وليست وسيلة إلى معرفة الأشياء في ذاتها.
وفي هذا المذهب خلط واضح بين الحقيقة نفسها، والهدف الأساسي من محاولة الظفر بها. فقد ينبغي ان يكون الغرض من اكتساب الحقائق، هو استثمارها في المجال العملي والاستنارة بها في تجارب الحياة، ولكن ليس هذا هو معنى الحقيقة بالذات. ونلخص الرد عليه فيما يأتي.
أولا: ان اعطاء المعنى العملي البحت للحقيقة، وتجريدها من خاصة الكشف عما هو موجود وسابق، استسلام مطلق للشك الفلسفي، الذي تحارب التصورية والسفسطة لأجله. وليس مجرد الاحتفاظ بلفظة الحقيقة في مفهوم آخر كافيا للرد عليه أو التخلص منه.
ثانيا: ان من حقنا التساؤل عن هذه المنفعة العملية، التي اعتبرت مقياسا للحق والباطل في (البراجماتزم)، أهي منفعة الفرد الخاص الذي يفكر؟ أو منفعة الجماعة؟ ومن هي هذه الجماعة؟ وما هي حدودها؟ وهل يقصد بها النوع الانساني بصورة عامة؟ أو جزء خاص منه؟ وكل من هذه الافتراضات لا تعطي تفسيرا معقولا لهذا المذهب الجديد. فالمنفعة الشخصية إذا كانت هي المعيار الصحيح للحقيقة، وجب ان تختلف الحقائق باختلاف مصالح الافراد. فتحدث بسبب ذلك فوضى اجتماعية مريعة، حين يختار كل فرد حقائقه الخاصة، دون أي اعتناء بحقائق الآخرين المنبثقة عن مصالحهم. وفي هذه الفوضى ضرر خطير عليهم جميعا. واما إذا كانت المنفعة الانسانية العامة هي المقياس، فسوف يبقى هذا المقياس معلقا في عدة من البحوث والمجالات، لتضارب المصالح البشرية واختلافها في كثير من الأحايين، بل لا يمكن البت حينئذ بحقيقة مهما كانت، ما لم تمر بتجربة اجتماعية طويلة الأمد. ومعنى ذلك ان (جيمس) نفسه، لا يمكنه ان يعتبر مذهبه (البراجماتزم) صحيحا ما لم يمر بهذه التجربة، ويثبت جدارته في الحياة العملية. وهكذا يوقف المذهب نفسه.
165

ثالثا: ان وجود مصلحة للانسان في صدق فكرة ما، لا يكفي لامكان التصديق بها فالملحد لا يمكنه ان يصدق بالدين، ولو آمن بدوره الفعال في تسلية الانسان، وإنعاش آماله ومؤاساته في حياته العملية.
فهذا (جورج سنتيانا) يصف الايمان بأنه غلطة جميلة، أكثر ملاءمة لنوازع النفس من الحياة نفسها. فليس التصديق بفكرة نظير الألوان الأخرى من النشاط العملي. التي يمكن للانسان ان يقوم بها إذا تحقق من فائدتها. وهكذا يقوم (البراجماتزم) على عدم التفرقة بين التصديق - النشاط الذهني الخاص - ومختلف النشاطات العملية، التي يباشرها الانسان على ضوء مصالحه وفوائده.
ونخلص من هذه الدراسة إلى ان المفهوم الوحيد للحقيقة، الذي يمكن للفلسفة الواقعية اتخاذه، هو (الفكرة المطابقة للواقع).
والماركسية التي تنادي بامكان المعرفة الحقيقية وترفض لأجل ذلك النزعات التصورية والشكية والسفسطائية، ان كانت تعني بالحقيقة مفهوما آخر غير مفهومها الواقعي، فهي لا تتعارض مع تلك المذاهب مطلقا، لأن مذاهب الشك والسفسطة انما ترفض الحقيقة بمعنى الفكرة المطابقة للواقع، ولا ترفض لفظ الحقيقة بأي مفهوم كان. فلا يمكن للماركسية ان تبرأ من نزعات الشك والسفسطة، لمجرد اتخاذ لفظ الحقيقة وبلورته في مفهوم جديد.
فيجب اذن لأجل رفض تلك النزعات حقا، ان تأخذ الماركسية الحقيقة بمفهومها الواقعي الذي ترتكز عليه الفلسفة الواقعية، حتى يمكن اعتبارها فلسفة واقعية مؤمنة بالقيم الموضوعية للفكر حقا.
وإذا عرفنا المفهوم الواقعي الصحيح للحقيقة حان لنا ان نتبين ما إذا كان من الممكن للحقيقة بهذا المفهوم الذي تقوم على أساسه الواقعية ان تتطور وتتغير بحركة صاعدة كما تعتقد الماركسية أولا؟
ان الحقيقة لا يمكن ان تتطور وتنمو، وان تكون محدودة في كل مرحلة من مراحل تطورها بحدود تلك المرحلة الخاصة، بل لا تخرج الفكرة - كل فكرة - عن أحد أمرين: فهي اما حقيقة مطلقة واما خطأ.
166

وأنا أعلم ان هذه الكلمات تثير اشمئزاز الماركسيين، وتجعلهم يقذفون الفكر الميتافيزيقي بما تعودوا الصاقه به من تهم، فيقولون ان الفكر الميتافيزيقي يجمد الطبيعة ويعتبرها حالة ثبات وسكون، لأنه يعتقد بالحقائق المطلقة، ويأبى عن قبول مبدأ التطور والحركة فيها، وقد انهار مبدأ الحقائق المطلقة تماما، باستكشاف تطور الطبيعة وحركتها.
ولكن الواقع الذي يجب ان يفهمه قارئنا العزيز ان الايمان بالحقائق المطلقة ورفض التغير والحركة فيها. لا يعني مطلقا تجميد الطبيعة. ولا ينفي تطور الواقع الموضوعي وتغيره. ونحن في مفاهيمنا الفلسفية نعتقد بأن التطور قانون عام في عالم الطبيعة، وان كينونته الخارجية في صيرورة مستمرة، ونرفض في نفس الوقت كل توقيت للحقيقة وكل تغير فيها.
ولنفرض - لايضاح ذلك - ان سببا معينا جعل الحرارة تشتد في ماء خاص. فحرارة هذا الماء بالفعل في حركة مستمرة، وتطور تدريجي. ومعنى ذلك ان كل درجة من الحرارة يبلغها الماء فهي درجة مؤقتة، وسوف يعبرها الماء بصعود حرارته إلى درجة أكبر. فليس للماء في هذا الحال درجة حرارة مطلقة. هذا هو حال الواقع الموضوعي القائم في الخارج، فإذا قسنا حرارته في لحظة معينة، فكانت الحرارة فيه حال تأثر المقياس بها قد بلغت (90) - مثلا -، فقد حصلنا على حقيقة عن طريق التجربة، وهذه الحقيقة هي ان درجة حرارة الماء في تلك اللحظة المعينة كانت (90) وانما نقول عنها انها حقيقة لأنها فكرة تأكدنا من مطابقتها للواقع، أي لواقع الحرارة في لحظة خاصة. ومن الطبيعي ان حرارة الماء سوف لا تقف عند هذه الدرجة، بل انها سوف تتصاعد حتى تبلغ درجة الغليان.
ولكن الحقيقة التي اكتسبناها هي الحقيقة لم تتغير، بمعنى انا متى لاحظنا تلك اللحظة الخاصة التي قمنا حرارة الماء فيها، نحكم - بكل تأكيد - بأن حرارة الماء كانت بدرجة (90) فدرجة (90) من الحرارة التي بلغها الماء وان كانت درجة مؤقتة بلحظة خاصة من الزمان وسرعان ما اجتازتها الحرارة إلى درجة أكبر منها، الا ان الفكرة التي حصلت لنا بالتجربة - وهي ان الحرارة في
167

لحظة معينة كانت في درجة (90) - فكرة صحيحة وحقيقة مطلقة. ولذا نستطيع ان نؤكد صدقها دائما ز ولا نعني بالتأكيد على صدقها بصورة دائمة ان درجة (90) كانت هي الدرجة الثابتة لحرارة الماء على طول الخط، فان الحقيقة التي اكتسبناها بالتجربة لا تتناول حرارة الماء الا في لحظة معينة، فحين نصفها بأنها حقيقة مطلقة. وليست موقتة، نريد بذلك ان الحرارة في تلك اللحظة المعينة قد تعينت في درجة (90) بشكل نهائي، فالماء وان جاز ان تبلغ حرارته درجة (100) مثلا عقيب تلك اللحظة، ولكن من غير الجائز ان يعود ما عرفناه من درجة الحرارة عن تلك اللحظة الخاصة خطأ بعد ان كان حقيقة.
وإذا عرفنا ان الحقيقة هي الفكرة المطابقة للواقع، وتبينا ان الفكرة إذا كانت مطابقة للواقع في ظرف معين، فلا يمكن ان تعود بعد ذلك فتخالف الواقع في ذلك الظرف بالذات. أقول: إذا علمنا ذلك كله يتجلى بوضوح الخطأ في تطبيق قانون الحركة على الحقيقة، لان الحركة تثبت التغير في الحقيقة، وتجعلها دائما حقيقة نسبية وموقتة بمرحلتها الخاصة من التطور، وقد عرفنا انه لا تغير ولا توقيت في الحقائق، كما ان التطور والتكامل في الحقيقة يعني ان الفكرة تصبح بالحركة حقيقية بشكل
أقوى، كما ان الحرارة ترتقي بالحركة إلى درجة أكبر مع ان الحقيقة تختلف عن الحرارة. فالحرارة يمكن ان تشتد وتقوى، واما الحقيقة فهي - كما عرفنا تعبر عن الفكرة المطابقة للواقع ولا يمكن ان تقوى مطابقة الفكرة للواقع وتشتد، كما هو شأن الحرارة، وانما يجوز ان ينكشف للفكر الانساني جانب جديد من ذلك الواقع لم يكن يعلم به قبل ذلك، غير ان هذا لسي تطورا للحقيقة المعلومة سلفا، وانما هو حقيقة جديدة يضيفها العقل إلى الحقيقة السابقة. فإذا كنا نعرف - مثلا - ان ماركس تأثر بمنطق هيجل. فهذه المعرفة هي الحقيقة الأولى التي عرفناها عن علاقة ماركس بفكر هيجل. وحين نطالع بعد ذلك تاريخه وفلسفته نعرف انه كان على النقيض من مثالية هيجل، كما نعرف انه اتخذ جدله فطبقه تطبيقا ماديا على التاريخ والاجتماع إلى غير ذلك من العلاقات الفكرية بين الشخصين. فكل هذه معارف جديدة تكشف عن جوانب مختلفة من الواقع، وليست نموا وتطورا للحقيقة الأولى التي حصلنا عليها منذ البدء.
168

وليس تحمس المدرسة الماركسية لاخضاع الحقيقة لقانون الحركة والتطور، الا لأجل القضاء على الحقائق المطلقة التي تؤمن بها الفلسفة الميتافيزيقية.
وقى فاتها انها تقضي على مذهبها بالحماس لهذا القانون، لأن الحركة إذا كانت قانونا عاما للحقائق فسوف يتعذر اثبات اية حقيقة مطلقة، وبالتالي يسقط قانون الحركة بالذات عن كونه حقيقة مطلقة.
فمن الطريف ان الماركسية تؤكد على حركة الحقيقة وتغيرها طبقا لقانون الديالكتيك، وتعتبر ان هذا الكشف هو النقطة المركزية لنظريتهم في المعرفة، وتتغافل عن ان هذا الكشف بنفسه حقيقة من تلك الحقائق التي آمنوا بحركتها وتغيرها، فإذا كانت هذه الحقيقة تتحرك وتتغير كما تتحرك سائر الحقائق بالطريقة الديالكتيكية، فهي تحتوي على تناقض سوف ينحل بتطورها وتغيرها كما يحتم ذلك الديالكتيك، وإذا كانت هذه الحقيقة مطلقة لا تتحرك ولا تتغير، كفى ذلك ردا على تعميم قوانين الديالكتيك والحركة للحقائق والمعارف وبرهانا على ان الحقيقة لا تخضع لأصول الحركة الديالكتيكية، فالديالكتيك الذي يراد اجراؤه على الحقائق والمعارف البشرية، ينطوي على تناقض فاضح وحكم صريح باعدام نفسه على كلا الحالين. فهو إذا اعتبر حقيقة مطلقة انتقضت قواعده، وتجلى ان الحركة الديالكتيكية لا تسيطر على دنيا الحقائق لأنها لو كانت تسيطر عليها لما وجدت حقيقة مطلقة، ولو كانت هذه الحقيقة هي الديالكتيك نفسه. وإذا اعتبر حقيقة نسبية خاضعة للتطور والحركة بمقتضى تناقضاتها الداخلية، فسوف تتغير هذه الحقيقة ويزول المنطق الديالكتيكي ويصبح نقيضه حقيقة قائمة.
ب - اجتماع الحقيقة والخطأ:
سبق فيما عرضنا من نصوص الماركسية انها تعيب على المنطق الشكلي، على حد تعبيرها، ايمانه بالتعارض المطلق بين الخطأ والحقيقة. مع انهما يجتمعان ما دام الخطأ والحقيقة أمرين نسبيين، وما دمنا لا نملك حقيقة مطلقة.
والفكرة الماركسية القائلة باجتماع الحقيقة والخطأ ترتكز على فكرتين:
169

إحداهما: الفكر الماركسية عن تطور الحقيقة وحركتها، القائلة: ان كل حقيقة تتحرك وتتغير بصورة مستمرة، والأخرى، الفكرة الماركسية على تناقضات الحركة، القائلة ان الحركة عبارة عن سلسلة من التناقضات. فالشئ المتحرك في كل لحظة هو في نقطة معينة وليس هو في تلك النقطة، ولذلك تعتبر الماركسية الحركة نقضا لمبدأ الهوية.
فكان من نتيجة هاتين الفكرتين ان الحقيقة والخطأ يجتمعان وليس بينهما تعارض مطلق، ذلك ان الحقيقة لما كانت في حركة، وكانت الحركة تعني التناقض المستمر فالحقيقة اذن حقيقة وليست بحقيقة بحكم تناقضاتها الحركية.
وقد تبينا فيما قدمناه، مدى خطأ الفكرة الأولى عن حركة الحقيقة وتطورها. وسوف نعرض بكل تفصيل للفكرة الثانية عند تناول الديالكتيك بالدرس المستوعب في المسألة الثانية (المفهوم الفلسفي للعالم) وسوف يزداد وضوحا عند ذاك الخطأ والاشتباه في قوانين الديالكتيك بصورة عامة، وفي تطبيقه على الفكرة بصورة خاصة.
ومن الواضح ان تطبيق قوانين الديالكتيك من التناقض والتطور على الأفكار والحقائق بالشكل المزعوم، يؤدي إلى انهيار القيمة المؤكدة لجميع المعارف والاحكام العقلية مهما كانت واضحة وبدهية. وحتى الاحكام المنطقية أو الرياضية البسيطة تفقد قيمتها، لأنها تخضع بموجب التناقضات المحتواة فيها على الرأي الديالكتيكي - لقوانين
التطور والتغير المستمر، فلا يؤمن على ما ندركه الآن من الحقائق - نظير 2 + 2 = 4 والجزء أصغر من الكل - أن يتغير بحكم التناقضات الديالكتيكية فندركه على شكل آخر (1).

(1) ومن الطريف حقا تلك المحاولات التي تتخذ باسم العلم، لتفنيد البدهيات العقلية، من رياضية ومنطقية، مع أن العلم لا يمكن ان يقوم الا على أساسها. وفيما يلي أمثلة من تلك المحاولات للدكتور نوري جعفر، ذكرها في كتابه فلسفة التربية ص 66: ((وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع ان نقول: ان جميع القوانين العلمية قوانين نسبية، تعمل في مجالات معينة لا تتعداها، ويصدق ما ذكرناه على قوانين الرياضيات وبعض مظاهرها التي تبدو لأول وهلة، كأنها من الأمور البديهية، التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان. فحاصل جمع 2 زائد 2 مثلا لا يساوي 4 دائما. من ذلك - مثلا - اننا إذا جمعنا حجمين من الكحول مع حجمين من الماء، فالنتيجة تكون أقل من 4 حجوم ممزوجة، وسبب ذلك راجع إلى ان السائلين تختلف جزئيات أحدهما في شدة تماسكها عن الآخر فتنفذ عند المزج جزئيات السائل الأكثر تماسكا (الماء) من بين الفراغات النسبية الموجودة بين جزئيات الكحول، وتكون النتيجة مشابهة لخلط مقدار من البرتقال مع مقدار من الرقي حيث ينفذ قسم من البرتقال من بين الفراغات الموجودة في الرقي. وحاصل جمع كالون من الماء مع كالون من حامض الكبريتيك انفجار مرعب، على ان ذلك الجمع إذا تم بدقة علمية وبشكل يتفادى حدوث الانفجار، فان النتيجة مع هذا تكون أقل من كالونين من المزيج. ويكون حاصل جمع 2 + 2 = 2 أحيانا أخرى، فإذا خلطنا غازين درجة حرارة كل منهما درجتان مئويتان، فان درجة حرارة الخليط تبقى درجتين)).
وهذا النص يعرض لنا ثلاث عمليات رياضية:
(أ) ان حجمين من الكحول إذا جمعناهما مع حجمين من الماء فالنتيجة تكون أقل من (4) حجوم. وهذه العملية تنطوي على مغالطة. وهي اننا في الحقيقة لم نجمع بين حجمين وحجمين. وانما خسرنا شيئا في الجمع فظهرت الخسارة في النتيجة. ذلك ان حجم الكحول لم يكن متقوما بالجزئيات فحسب. وانما يتقوم بالجزئيات والفراغ النسبي القائم بينها، فإذا أحضرنا حجمين من الكحول كان هذان الحجمان يعبران عن جزئيات وفراغ بينهما لا عن الجزئيات فحسب. وحين يلقى على الكحول حجمين من الماء وتتسلل جزئيات الماء إلى الفراغ النسبي القائم بين جزئيات الكحول فتشغله نكون قد فقدنا هذا الفراغ النسبي الذي كان له نصيب من حجم الكحول.
فلم نجمع اذن بين حجمين من الكحول وحجمين من الماء, وانما جمعنا بين حجمين من الماء وجزئيات حجمين من الكحول. واما الفراغ النسبي فيها فقد سقط من الحساب. وهكذا يتضح انا إذا أردنا ان ندقق في صوغ العملية الرياضية نقول ان جمع حجمين كاملين من الماء مع حجمين من الكحول. باستثناء الفراغ المتخلل بين جزئياته، يساوي أربعة حجوم باستثناء ذلك الفراغ نفسه. وليست قصة هذه الحجوم الا كآلاف النظائر والأمثلة الطبيعية التي يشاهدها كل الناس في حياتهم الاعتيادية. فماذا نقول في جسم قطني ارتفاعه متر وقطعة من حديد ارتفاعها متر أيضا. لو وضعنا أحد الجسمين على الاخر فهل ينتج عن ذلك ارتفاع مترين؟ وفي تراب ارتفاعه متر وماء ارتفاعه متر. ثم ألقينا الماء على التراب فهل نجني من ذلك ارتفاعا مضاعفا؟ طبعا لا. فهل من الجائز ان نعتبر ذلك دليلا على تفنيد البديهيات الرياضية؟
(ب) ان جمع كالون من الماء مع كالون من حامض الكبريتيك لا ينتج كالونين وانما يحصل من ذلك انفجار مرعب. وهذا أيضا لا يتعارض مع البدهية الرياضية في جمع الاعداد، ذلك ان (1 + 1) انما يساوي اثنين إذا لم يعدم أحدهما أو كلاهما حال الجمع والمزج، والا لم يحصل جمع بين واحد وواحد بمعناه الحقيقي. ففي هذا المثال لم تكن الوحدتان - الكالونان - موجودتين حين اتمام عملية الجمع لينتج اثنين.
(ج) ان جمع غازين درجة حرارة كل منهما درجتان مئويتان، ينتج حرارة الخليط بنفس تلك الدرجة أيضا من دون مضاعفة.
وهذا لون آخر من التمويه لان العملية انما جمعت بين غازين وخلطت بينهما، لا أنها جمعت بين درجتي الحرارة. وانما يجمع بين الدرجتين لو ضوعفت الدرجة في موضوعها. فنحن لم نضف حرارة على حرارة لنترقب حدوث درجة أضخم للحرارة، وانما أضفنا حارا إلى حار وخلطنا بينهما.
وهكذا يتضح ان كل تشكيك أو نقض يدور حول البدهيات العقلية الضرورية، مرده في الحقيقة إلى لون من المغالطة أو عدم إجادة فهم تلك البدهيات وسوف يبدو هذا بكل وضوح عند عرضنا لنقوض الماركسية التي حاولت ان ترد على مبدأ عدم التناقض.
170

....................................................................................................
171

* التعديلات العلمية والحقائق المطلقة:
وقد كتب انجلز ينقد مبدأ الحقيقة المطلقة القائل بسلبية امكان اجتماعها مع الخطأ، عن طريق التعديل الذي يطرأ على النظريات والقوانين العلمية، فقال:
((ولنستشهد على ذلك بقانون (بويل) الشهير، الذي ينص على ان حجوم الغازات تتناسب عكسيا مع الضغط الواقع عليها إذا بقيت درجة حرارتها ثابتة.
وجد (رينو) بأن هذا القانون لا يصح في حالات معينة، ولو كان (رينو) أحد فلاسفة الواقعية لانتهى من ذلك إلى الاستخلاص التالي:
بما أن قانون (بويل) قابل للتغير فهو ليس بحقيقة محضة. أي انه ليس بحقيقة البتة. فهو اذن قانون باطل ولو نهج (رينو) هذا النهج لارتكب خطأ أفظع مما تضمنه
172

قانون (بويل) ولتاهت ذرة الحقيقة المنطوي عليها نقده لهذا القانون، واندفعت بين رمال صحراء الباطل، ولأفضى به الامر أخيرا إلى تشويه النتيجة الصائبة التي أدركها، والى إحالتها إلى نتيجة واضحة الأخطاء إذا ما قورنت مع النتيجة التي أدركها قانون (بويل). الذي يبدو صحيحا رغم ما هو عالق به من أخطاء جزئية)) (1).
ويتخلص هذا النقد في ان الفكر الميتافيزيقي لو كان على صواب فيما يؤمن به للحقائق من اطلاق وتعارض مطلق مع الخطأ، لوجب رفض كل قانون علمي لمجرد وضوح عدم صحته جزئيا، وفي حالات معينة. فقانون (بويل) بحكم الطريقة الميتافيزيقية في التفكير اما أن يكون حقيقة مطلقة. واما ان يكون خطأ محضا. فإذا تبين في الميدان التجريبي عدم صحته أحيانا فيجب ان يكون لأجل ذلك خطأ مطلقا. وان لا يكون فيه شيء من الحقيقة، لأن الحقيقة لا تجتمع مع الخطأ، ويخسر العلم بذلك جانب الحقيقة من ذلك القانون. وأما في الطريقة الديالكتيكية فلا يعتبر ذلك الخطأ النسبي دليلا على سقوط القانون مطلقا، بل هو حقيقة نسبية في نفس الوقت، فان الحقيقة تجتمع مع الخطأ.
ولو كان (انجلز) قد عرف النظرية الميتافيزيقية في المعرفة معرفة دقيقة، وفهم ما تعني من الحقيقة المطلقة لما حاول ان يوجه مثل هذا النقد إليها. ان الصحة والخطأ لم يجتمعا في حقيقة واحدة لا في قانون بويل ولا في غيره من القوانين العلمية. فالحقيقة من ذلك القانون هي حقيقة مطلقة لا خطأ فيها وما هو خطأ منه فهو خطأ محض، والتجارب العلمية التي قام بها (رينو) - والتي أوضحت له - مثلا - ان قانون (بويل) لا يصح فيما إذا بلغ الضغط الحد الذي تتحول فيه الغازات إلى سوائل - لم تقلب الحقيقة إلى خطأ وانما شطرت القانون إلى شطرين، وأوضحت ان أحد هذين الشطرين خطأ محض. فاجتماع الخطأ والحقيقة اجتماع اسمي وليس اجتماعا بمعناه الصحيح.

(1) ضد دوهرنك الفلسفة ص 153.
173

وفي تعبير واضح ان كل قانون علمي صحيح فهو يحتوي على حقائق بعدد الحالات التي يتناولها وينطبق عليها، فإذا أظهرت التجربة خطأه في بعض تلك الحالات، وصوابه في البعض الآخر، فليس معنى ذلك ان الحقيقة نسبية وانها اجتمعت مع الخطأ، بل معنى ذلك ان محتوى القانون يطابق الواقع في بعض الحالات دون بعض. فالخطأ له موضع وهو في ذلك الموضع خطأ محض، والحقيقة لها موضع آخر وهي في ذلك الموضع حقيقة مطلقة.
والفكر الميتافيزيقي لا يحتم على العالم الطبيعي ان يرفض القانون نهائيا إذا ما تبين عدم نجاحه في بعض الحالات، لأنه يعتبر كل حالة تمثل قضية خاصة بها، ولا يجب ان تكون القضية الخاصة بحالة ما خطأ، إذا ما كانت القضية الخاصة بالحالة الأخرى كذلك.
وكان يجب على (انجلز) - عوضا عن تلك المحاولات الصبيانية لتبرير الحقيقة النسبية واجتماعها مع الخطأ - ان يتعلم الفرق بين القضايا البسيطة والقضايا المركبة ويعرف ان القضية البسيطة هي التي لا يمكن ان تنقسم إلى قضيتين، كما في قولنا: مات أفلاطون قبل أرسطو. وان القضية المركبة هي القضية التي تتألف من قضايا متعددة، نظير قولنا: الفلزات تتمدد بالحرارة. فان هذا القول مجموعة من قضايا، ويمكننا ان نعبر عنه في قضايا متعددة فنقول: الحديد يتمدد بالحرارة، والذهب يتمدد بالحرارة، والرصاص يتمدد بالحرارة....
والقضية البسيطة - باعتبارها قضية مفردة - لا يمكن ان تكون حقيقة من ناحية وخطأ من ناحية أخرى، فموت أفلاطون قبل أرسطو اما أن يكون حقيقة واما ان يكون خطأ. واما القضية المركبة فلما كانت في الحقيقة ملتقى قضايا متعددة، فمن الجائز ان توجد الحقيقة في جانب منها والخطأ في جانب آخر، كما إذا افترضنا ان الحديد يتمدد بالحرارة دون الذهب، فان القانون الطبيعي العام وهو الفلزات تتمدد بالحرارة يعتبر صحيحا على ناحية وخطأ من ناحية أخرى. ولكن ليس معنى ذلك ان الحقيقة والخطأ اجتمعا فكانت القضية الواحدة خطأ وحقيقة، بل الخطأ انما يوجد في قضية الحديد يتمدد
174

بالحرارة - مثلا - فلم يكن الخطأ حقيقة ولا الحقيقة خطأ.
وفي عودتنا على الحركة التطورية في الحقيقة والمعرفة، بصفتها جزءا من الديالكتيك - الذي خصصنا لدراسته الجزء الثاني من المسألة الآتية (المفهوم الفلسفي للعالم) - سنستعرض مدارك الماركسية وألوان استدلالها، على تطور الحقيقة والمعرفة، ومدى ضعفها ومغالطتها. وعلى الأخص ما حاولته الماركسية من اعتبار العلوم الطبيعية. في تطورها الرائع على مر الزمن، ونشاطها المتضاعف، وقفزاتها الجبارة، مصداقا للحركة التطورية في الحقائق والمعارف، مع ان تطور العلوم في
تاريخها الطويل لا صلة له بتطور الحقيقة والمعرفة، بمعناه الفلسفي الذي تحاوله الماركسية. فالعلوم تتطور لا بمعنى ان حقائقها تنمو وتتكامل، بل بمعنى ان حقائقها تزداد وتتكاثر، وأخطاءها تقل وتتقلص. ونوكل ايضاح ذلك إلى البحث المقبل في المسألة الثانية.
ويخلص معنا من هذه الدراسة:
أولا: ان الحقيقة مطلقة وغير متطورة، وان كان الواقع الموضوعي للطبيعة متطورا ومتحركا على الدوام.
ثانيا: ان الحقيقة تتعارض تعارضا مطلقا مع الخطأ، فالقضية البسيطة الواحدة لا يمكن ان تكون حقيقة وخطأ.
ثالثا: ان اجراء الديالكتيك على الحقيقة والمعرفة يحتم علينا الشك المطلق في كل حقيقة، ما دامت في تغير وتحرك مستمر، بل يحكم على نفسه بالاعدام والتغير أيضا، لأنه بذاته من تلك الحقائق التي يجب ان تتغير بحكم منطقه التطوري الخاص.
* انتكاس الماركسية في الذاتية:
وفي النهاية يجب ان نشير إلى ان الماركسية بالرغم من اصرارها على رفض النسبية الذاتية بترفع وتأكيدها على الطابع الموضوعي لنسبيتها وأنها نسبية تواكب الواقع المتطور وتعكس نسبيته بالرغم من ذلك كله ارتدت الماركسية
175

مرة أخرى فانتكست في أحضان النسبية الذاتية حين ربطت المعرفة بالعامل الطبقي وقررت ان من المستحيل للفلسفة مثلا أن تتخلص من الطابع الطبقي والحزبي حتى قال موريس كونفررت (كانت الفلسفة دوما تعبر ولا تستطيع الا ان تعبر عن وجهة نظر طبقية (1)، وقال تشاغين: (لقد ناضل لينين بثبات واصرار ضد النزعة الموضوعية في النظرية) (2).
وواضح ان هذا الاتجاه الماركسي يطبع كل معرفة بالعنصر الذاتي ولكنها ذاتية طبقية لا ذاتية فردية كما كان يقرر النسبيون الذاتيون وبالتالي تصبح الحقيقة هي مطابقة الفكرة للمصالح الطبقية للمفكر لأن كل مفكر لا يستطيع ان يدرك الواقع الا في حدود هذه المصالح ولا يمكن لاحد في هذا الضوء ان يضمن وجود الحقيقة في أي فكرة فلسفية أو علمية بمعنى مطابقتها للواقع الموضوعي وحتى الماركسية نفسها لا تستطيع ما دامت تؤمن بحتمية الطابع الطبقي ان تقدم لنا مفهوما عن الكون والمجتمع بوصفه تعبيرا مطابقا للواقع وانما كل ما تستطيع ان تقرره هو انه يعكس ما يتفق مع مصالح الطبقة العاملة من جوانب الواقع (3).

(1) المادية الديالكتيكية ص 32.
(2) الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم ص 70.
(3) لأجل التوضيح راجع كتاب (اقتصادنا) للمؤلف ص 93 - 100.
176

2 _ المفهوم الفلسفي للعالم
177

1
* المفهوم الفلسفي
ان لمسألة تكوين مفهوم فلسفي عام من العالم، مركزا رئيسيا في العقل البشري، منذ حاولت الانسانية تحديد علاقاتها بالعالم الموضوعي وارتباطها به. ولسنا نحاول في دراستنا هذه ان نؤرخ للمسألة في سيرها الفلسفي والديني والعلمي، وتطورها على مر الزمن منذ آمادها البعيدة، وانما نستهدف أن نعرض المفاهيم الأساسية في الحقل الفلسفي الحديث، لنحدد موقفنا منها، وما هو المفهوم الذي يجب ان تتبلور نظرتنا العامة على ضوئه ويرتكز مبدأنا في الحياة على أساسه؟
ومرد مسألتنا هذه إلى مسألتين: إحداهما، مسألة المثالية والواقعية. والأخرى. مسألة المادية والإلهية.
ففي المسألة الأولى يعرض السؤال على الوجه التالي: ان هذه الكائنات التي يتشكل منها العالم، هل هي حقائق موجودة بصورة مستقلة عن الشعور والادراك؟ أو أنها ليست الا ألوانا من تفكيرنا وتصورنا، بمعنى أن الفكر أو الادراك هو الحقيقة، وكل شيء يرجع في نهاية المطاف إلى التصورات الذهنية؟ فإذا أسقطنا الشعور أو ال‍ (أنا) فان الواقع كله يزول. فهذان تقديران للمسألة، والإجابة بالتقدير الأول تلخص الفلسفة الواقعية أو المفهوم الواقعي للعالم، والإجابة بالتقدير الثاني هي التي تقدم المفهوم المثالي للعالم.
وفي المسألة الثانية يوضع السؤال على ضوء الفلسفة الواقعية هكذا: إذا كنا نؤمن بواقع موضوعي للعالم فهل نقف في الواقعية على حدود المادة المحسوسة، فتكون هي السبب العام لجميع ظواهر
الوجود والكون بما فيها من ظواهر
179

الشعور والادراك؟ أو نتخطاها إلى سبب أعمق، إلى سبب أبدي ولا نهائي بصفة المبدأ الأساسي لما ندركه من العالم بكلا مجاليه الروحي والمادي معا؟
وبذلك يوجد في الحقل الفلسفي للواقعية مفهومان: يعتبر أحدهما، ان المادة هي القاعدة الأساسية للوجود، وهو المفهوم الواقعي المادي. ويتخطى الآخر المادة إلى سبب فوق الروح والطبيعة معا، وهو المفهوم الواقعي الإلهي.
فبين يدينا اذن مفاهيم ثلاثة للعالم: المفهوم المثالي، والمفهوم الواقعي المادي، والمفهوم الواقعي الإلهي، وقد يعبر عن المثالية بالروحية نظرا إلى اعتبار الروح، أو الشعور، الأساس الأول للوجود.
* تصحيح أخطاء
وعلى هذا الضوء يجب ان نصحح عدة أخطاء وقع فيها بعض الكتاب المحدثين:
الأول: محاولة اعتبار الصراع بين الإلهية والمادية مظهر من مظاهر التعارض بين المثالية والواقعية، فلم يفصلوا بين المسألتين اللتين قدمناهما، وزعموا أن المفهوم
الفلسفي للعالم أحد أمرين: اما المفهوم المثالي، وأما المفهوم المادي. فتفسير العالم لا يمكن أن يقبل سوى وجهين اثنين، فإذا فسرت العالم تفسيرا تصوريا خالصا، وآمنت بأن التصور أو الأنا هو الينبوع الأساسي، فأنت مثالي وإذا أردت ان ترفض المثالية والذاتية، وتؤمن بواقع موضوعي مستقل عن ال‍ (أنا). فليس عليك الا ان تأخذ بالمفهوم المادي للعالم، وتعتقد ان المادة هي المبدأ الأول وان الفكر والشعور ليس الا انعكاسا لها ودرجة خاصة من تطورها.
وهذا لا يتفق مع الواقع مطلقا كما عرفنا، فان الواقعية ليست وقفا على المفهوم المادي، كما ان المثالية، أو الذاتية، ليست هي الشيء الوحيد الذي يعارض المفهوم المادي، ويقف أمامه على الصعيد الفلسفي. بل يوجد مفهوم آخر للواقعية هو المفهوم الواقعي الإلهي، الذي يعتقد بواقع خارجي للعالم
180

والطبيعة، ويرجع الروح والمادة معا إلى سبب أعمق فوقهما جميعا.
الثاني:
ما اتهم به بعض الكتاب المفهوم الإلهي، من أنه يجمد مبدأ العلمية في دنيا الطبيعة، ويلغي قوانينها ونواميسها التي يكشفها العلم وتزداد وضوحا يوما بعد يوم، فهو في زعمهم يربط كل ظاهرة وكل وجود بالمبدأ الإلهي.
ولقد لعب هذا الاتهام دورا فعالا في الفلسفة المادية، حيث اعتبرت فكرة الله هي فكرة، وضع سبب المعقول لما يشاهده من ظواهر الطبيعة وحوادثها. ومحاولة لتبرير وجودها، فتزول الحاجة إليها تماما حين نستطيع أن نستكشف بالعلم والتجارب العلمية حقيقة الأسباب.
والقوانين الكونية التي تتحكم في العالم، وتتولد باعتبارها الظواهر والحوادث. وساعد على تركيز هذا الاتهام ما كانت تلعبه الكنيسة في بداية النهضة العلمية في أوروبا. من أدوار خبيثة في محاربة التطور العلمي، ومعارضة ما يكشفه العلم من أسرار الطبيعة ونواميسها.
والحقيقة: ان المفهوم الإلهي للعالم لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية، أو التمرد على شيء من حقائق العلم الصحيح وانما هو المفهوم الذي يعتبر الله سببا أعمق، ويحتم على تسلسل العلل والأسباب ان يتصاعد إلى قوة فوق الطبيعة والمادة. وبهذا يزول التعارض بينه وبين كل حقيقة علمية تماما، لأنه يطلق للعلم أوسع مجال لاستكشاف أسرار الطبيعة ونظامها، ويحتفظ لنفسه بالتفسير الإلهي في نهاية المطاف، وهو وضع السبب الأعمق في مبدأ أعلى من الطبيعة والمادة. فليست المسألة الإلهية كما يشاء أن يصورها خصومها، مسألة أصابع تمتد من وراء الغيب., فتقطر الماء في الفضاء تقطيرا، أو تحجب الشمس عنا، أو تحول بيننا وبين القمر، فيوجد بذلك المطر والكسوف والخسوف، فإذا كشف العلم عن أسباب المطر وعوامل التبخير فيه، وإذا كشف عن سبب الكسوف وعرفنا ان الاجرام السماوية ليست متساوية الابعاد عن الأرض، وان القمر أقرب إليها من الشمس، فيتفق أن يمر القمر بين الأرض والشمس فيحجب نورها عنا، وإذا كشف العلم عهن سبب الخسوف وهو وقوع القمر في ظل الأرض، الذي يمتد وراءها إلى مسافة
181

(900) الف ميل تقريبا، أقول إذا كملت هذه المعلومات لدى الانسان، يخيل لأولئك الماديين أن المسألة الإلهية لم يبق لها موضوع، وان الأصابع الغيبية التي تحجب الشمس أو القمر عنا، عوض عنها العلم بالتعليلات الطبيعية. وليس هذا الا لسوء فهم للمسألة الإلهية، وعدم تمييز لموضع السبب الإلهي من سلسلة الأسباب.
الثالث: ان الطابع الروحي غلب على المثالية والإلهية معا، حتى أخذ يبدو أن الروحية في المفهوم الإلهي هي بمعناه في المفهوم المثالي، ونشأت عن ذلك عدة اشتباهات، ذلك ان الروحية قد تعتبر وصفا لكل من المفهومين. ولكننا لا نجيز مطلقا ان يهمل التمييز بين الروحيتين، بل يجب ان نعرف أن الروحية في العرف المثالي، يقصد بها المجال المقابل للمجال المادي المحسوس، أي مجال الشعور والادراك والانا. فالمفهوم المثالي روحي على أساس أنه يفسر كل كائن وكل موجود في نطاق هذا المجال، ويرجع كل حقيقة وكل واقع اليه. فالمجال المادي مرده في الزعم المثالي إلى مجال ورحي، وأما الروحية في المفهوم الإلهي أو العقيدة الإلهية، فهي طريقة للنظر إلى الواقع بصورة عامة، لا مجالا خاصا مقابلا للمجال المادي. فالالهية التي تؤمن بالسبب المجرد الأعمق، تعتقد بصلة كل ما هو موجود في المجال العام - سواء أكان روحيا أم ماديا - بذلك السبب الأعمق، وترى ان هذه الصلة هي التي يجب ان يحدد على ضوئها، الموقف العملي والاجتماعي للانسان، تجاه الأشياء جميعا. فالروحية في العرف الإلهي أسلوب في فهم الواقع، ينطبق على المجال المادي والمجال الروحي - بمعناه المثالي - على السواء.
ويتلخص من العرض السابق ان المفاهيم الفلسفية عن العالم ثلاثة.
وقد درسنا في نظرية المعرفة المفهوم المثالي باعتباره مرتبطا بها كل الارتباط، واستعرضنا أخطاءه، فلنتناول في هذه المسألة دراسة المفهومين الآخرين: المادي والإلهي.
وفي المفهوم المادي اتجاهان: الاتجاه الآلي أو الميكانيكي، والاتجاه الديالكتيكي والتناقض، أو المادية الديناميكية.
182

* ايضاح عدة نقاط عن المفهومين
وقبل أن نعرض للمفهوم المادي بكلا اتجاهيه يجب أن نستوضح عدة نقاط حول المفهوم الإلهي والمادي، وذلك في الأسئلة الآتية:
1 - السؤال الأول: ما هي الميزة الأساسية لكل من الاتجاه المادي (المدرسة المادية للفلسفة)، والاتجاه الإلهي (المدرسة الإلهية) على الآخر؟ وما هو الفارق الرئيسي الذي جعل منهما اتجاهين متعارضين، ومدرستين متقابلتين؟
ونظرة واحدة نلقيها على المدرستين تحدد لنا جوابا واضحا على هذا السؤال، وهو أن المائز الأساسي للمدرسة المادية في الفلسفة، هو النفي أو الناحية السلبية، لما يتراءى انه فوق طاقة العلوم التجريبية، فلا يوجد في الحقل العلمي اذن - أي في النواحي الايجابية للعلم التي تبرهن عليها التجربة - الهي ومادي. فالفيلسوف سواء
أكان إلهيا أم ماديا، يؤمن بالجانب الايجابي من العلم، فهما من الناحية العلمية يسلمان - مثلا - بان (الراديوم) يولد طاقة من الاشعاع نتيجة لانقسام داخلي، وبأن الماء يأتلف من أوكسجين وهيدروجين، وبأن عنصر الهيدروجين هو أخف العناصر في وزنه الذري. ويؤمنان معا بسائر الحقائق الايجابية التي تظهر على الصعيد العلمي. فليس في المسألة العلمية فيلسوف الهي
وآخر مادي، وانما توجد هاتان الفلسفتان وتتعارض المادية مع الإلهية،
حينما تعرض مسالة الوجود فيما وراء الطبيعة، فالإلهي يعتقد بلون من الوجود مجرد عن المادة، أي موجود خارج الحقل التجريبي، وظواهره وقواه. والمادي ينكر ذلك ويقصر الوجود على ذلك الحقل الخاص، ويعتبر الأسباب الطبيعية، التي كشفت عنها التجربة وامتدت إليها يد العلم، هي الأسباب الأولية للوجود، وان الطبيعة هي المظهر الوحيد له.
فبينما يقرر الاتجاه الإلهي ان الروح الانسانية أو ال‍ (أنا)، ذات مجردة عن المادة، وان الادراك والفكر ظواهر مستقلة عن الطبيعة والمادة، ينكر المادي ذلك زاعما انه حلل جسم الانسان، وراقب عمليات الجهاز العصبي، فلم يجد شيئا خارج الحدود الطبيعية والمادية، كما يدعي الإلهيون. وكذلك يؤمن
183

الاتجاه الإلهي بأن التطورات والحركات، التي يكشف عنها العلم - سواء كانت حركات ميكانيكية تخضع لسبب مادي خارجي، أم حركات طبيعية غير ناشئة من مؤثرات مادية معينة بالتجربة - ترجع في النهاية إلى سبب خارجي، وراء سياج الطبيعة والمادة. ويعارض في ذلك المادي زاعما ان الحركة الميكانيكية والحركة الطبيعية. لا تتصلان بسبب مجرد. وان الحركة الطبيعية ديناميكية، فهي تكتفي بنفسها، لان الحقل التجريبي لم يبد فيه ما اعتقده الإلهيون من سبب مجرد.
وهكذا يتضح بكل جلاء ان التعارض بين الإلهية والمادية، ليس في الحقائق العلمية. فان الإلهي كالمادي يعترف بجميع الحقائق العلمية، التي توضحها التجارب الصحيحة عن جسم الانسان وفزلجة أعضائه. وعن التطور والحركة في الطبيعة، وانما يزيد بوضع حقائق أخرى، والاعتراف بها. فهو يبرهن على وجود جانب روحي مجرد للانسان. غير ما ظهر منه في الميدان التجريبي، وعلى سبب مجرد أعلى للحركات الطبيعية والميكانيكية فوق المجال المحسوس.
وما دمنا قد عرفنا ان الميدان العلمي ليس فيه الهي ومادي. نعرف ان الكيان الفلسفي للمادية - باعتبارها مدرسة مقابلة للإلهية - انما يرتكز على نفي الحقائق المجردة، وانكار الوجود خارج حدود الطبيعة والمادة لا على حقائق علمية ايجابية.
2 - السؤال الثاني:
إذا كان التعارض بين الإلهية والمادية. هو تعارض الاثبات والنفي، فأي المدرستين يقع على مسؤوليتها الاستدلال والبرهنة، على اتجاهها الخاص الايجابي أو السلبي؟ وقد يحلو لبعض الماديين في هذا المجال ان يتخلص من مسؤولية الاستدلال، ويعتبر الإلهي هو المسؤول عن التدليل على مدعاه، لأن الآلهي هو صاحب الموقف الايجابي، أي مدعي الثبوت، فيجب عليه أن يبرر موقفه ويبرهن على وجود ما يدعيه.
ولكن الواقع أن كلا منهما مكلف بتقديم الأدلة والمدارك لاتجاهه الخاص
184

، فكما ان الإلهي يجب عليه ان يبرهن على الاثبات، كذلك المادي هو مسؤول أيضا عن الدليل على النفي، لأنه لم يجعل القضية الميتافيزيقية موضع الشك، وانما نفاها نفيا قاطعا، والنفي القاطع كالاثبات القاطع، يفتقر إلى الدليل. فالمادي حين زعم ان السبب المجرد لا وجود له، ادعى في هذا الزعم ضمنا انه أحاط بالوجود كله، ولم يجد فيه موضعا للسبب المجرد، فلابد ان يقدم دليلا على هذه الإحاطة العامة، وتبريرا للنفي المطلق.
ونتساءل هنا من جديد: ما هي طبيعة الدليل الذي يمكن للإلهي أو للمادي ان يقدمه في هذا المجال؟ ونجيب ان دليل الاثبات أو النفي، يجب أن يكون هو العقل، لا التجربة المباشرة خلافا للمادية، التي درجت على اعتبار التجربة دليلا على مفهومها الخاص، زاعمة ان المفهوم الإلهي أو القضايا الميتافيزيقية بصورة عامة لا يمكن اثباتها بالتجربة، وان التجربة هي التي ترد على تلك المزاعم، لأنها تحلل الانسان والطبيعة، وتدلل على عدم وجود أشياء مجردة فيهما ذلك ان التجارب والحقائق العلمية إذا صح للمادية ما تزعمه، من انها لا تقوم دليلا على الاتجاه الإلهي، فهي أيضا لا تصلح دليلا للنفي المطلق، الذي يحدد الاتجاه المادي، فقد عرفنا ان الحقائق العلمية على اختلاف ألوانها ليست موضعا للنقاش بين الإلهية والمادية، وانما النقاش في التفسير الفلسفي لتلك الحقائق، أي في وجود سبب أعلى وراء حدود التجربة، ومن الواضح ان التجربة لا يمكن أن تعتبر برهانا على نفي حقيقة خارج حدودها. فالعالم الطبيعي إذا لم يجد السبب المجرد في مختبره، لم يكن هذا دليلا الا على عدم وجوده في ميدان التجربة. واما نفي وجوده في مجال فوق مجالات التجربة، فلا يمكن ان يستنتج من التجربة ذاتها.
ونؤكد بهذا البيان على أمرين:
(أحدهما)، ان المادية بحاجة إلى دليل على الجانب السلبي، الذي يميزها عن الإلهية، كحاجة الميتافيزيقا إلى برهان على الايجاب والاثبات.
و (الآخر): ان المادية اتجاه فلسفي كالإلهية، ولا توجد لدينا مادية علمية، أي تجريبية، لأن العلم كما عرفنا لا يثبت المفهوم المادي للعالم، لتكون المادية علمية. بل كل ما
185

يكشف عنه العلم من حقائق وأسرار في عالم الطبيعة، يترك مجالا لافتراض سبب أعلى فوق المادة. فالتجربة العلمية - مثلا - لا يمكن ان تدل على أن المادة ليست مخلوقة لسبب مجرد أو على أن أشكال الحركة وألوان التطور، التي استكشفها العلم في شتى جوانب الطبيعة، هي حركات وتطورات مكتفية ذاتيا، وليست منبثقة عن سبب فوق حدود التجربة ومجالاتها. وهكذا كل حقيقة علمية. فالدليل على المادية اذن لا يمكن ان يرتكز على الحقائق العلمية، أو التجارب بصورة مباشرة، وانما
يصاغ في تفسير فلسفي لتلك الحقائق والتجارب، كالدليل على الإلهية تماما. ولنأخذ التطور لذلك مثلا، فالعلم يثبت وجود التطور الطبيعي في عدة من المجالات، ويمكن أن يوضع لهذا التطور تفسيران فلسفيان أحدهما انه منبثق عن صميم الشيء، وناتج عن صراع يفترض فيه بين المتناقضات، وهذا هو تفسير المادية الديالكتيكية. والآخر انه ناتج عن سبب أعلى مجرد، فالطبيعة المتطورة لا تحوي في ذاتها المتناقضات، وانما تنطوي على امكان التطور، وذلك
السبب هو الذي يحقق للامكان الوجود الفعلي، وهذا هو تفسير الفلسفة الإلهية.
فنحن نلاحظ بوضوح ان المفهوم العلمي انما هو وجود التطور الطبيعي، وأما هذان المفهومان عن الحركة فهما مفهومان فلسفيان ولا يمكن ان يتأكد من صحة أحدهما، وخطأ الآخر بالتجربة المباشرة,.
3 - السؤال الثالث: إذا لم تكف التجربة العلمية بذاتها للبرهنة على المفهوم الإلهي والمادي على السواء، فهل يمكن للفكر البشري ان يستدل على أحد المفهومين ما داما معا خارجين عن النطاق التجريبي أو انه يصبح مضطرا إلى الاستسلام للشك، وتجميد مسألة الإلهية والمادية، والانصراف إلى المجال العلمي المثمر؟
والجواب: ان القدرة الفكرية للبشر كافية لدرس هذه المسألة والانطلاق فيها من التجربة ذاتها. ولكن لا على ان تكون التجربة هي الدليل المباشر على المفهوم، الذي نكونه عن العالم، بل تكون التجربة نقطة الابتداء ويوضع المفهوم الفلسفي الصحيح للعالم - وهو المفهوم الإلهي - على ضوء تفسير التجربة والظواهر التجريبية، بالمعلومات العقلية المستقلة.
186

ولابد ان القارئ يتذكر دراستنا - في نظرية المعرفة (المسألة الأولى) - للمذهب العقلي، وكيف أوضحنا بالبرهان وجود معارف عقلية مستقلة، على شكل تبين ان إضافة معارف عقلية إلى التجربة امر ضروري، لا في مسألتنا الفلسفية فحسب، بل في جميع المسائل العلمية. فما من نظرية علمية ترتكز على أساس تجريبي بحت، وانما تقوم على أساس التجربة، وعلى ضوء المعلومات العقلية المستقلة. فلا تختلف قضيتنا الفلسفية التي تتناول البحث عما وراء عالم الطبيعة، عن كل قضية علمية تبحث عن أحد قوانين الطبيعة، أو تكشف شيئا من قواها وأسرارها. فالتجربة في جميع ذلك نقطة الانطلاق، وهي مع ذلك بحاجة إلى تفسير عقلي، لتستنتج منها الحقيقة الفلسفية أو العلمية.
ونخرج من هذه النقاط بالنتائج التالية:
أولا: ان المدرسة المادية تفترق عن المدرسة الإلهية في ناحية سلبية، أي الانكار لما هو خارج الحقل التجريبي.
ثانيا: ان المادية مسؤولة عن الاستدلال على النفي، كما يجب على الإلهية الاستدلال على الاثبات.
ثالثا: ان التجربة لا يمكن ان تعتبر برهانا على النفي، لان عدم وجدان السبب الاعلى في ميدان التجربة لا يبرهن على عدم وجوده في مجال أعلى، لا تمتد اليه يد التجربة المباشرة.
رابعا: ان الأسلوب الذي تتخذه المدرسة الإلهية للاستدلال على مفهومها الإلهي هو نفس الأسلوب الذي نثبت به علميا جميع الحقائق والقوانين العلمية.
* الاتجاه الديالكتيكي للمفهوم المادي
قلنا ان للمادية اتجاهين أحدهما: اتجاه الآلية الميكانيكية، والآخر، اتجاه المادية الديالكتيكية.
187

وقد استعرضنا الاتجاه الأول استعراضا سريعا في الجزء الثاني من نظرية المعرفة، حين تناولنا بالدرس والتمحيص المثالية الفيزيائية التي قامت على حطام المادية الميكانيكية.
واما الاتجاه المادي الآخر، الذي يفسر العالم تفسيرا ماديا بقوانين الديالكتيك، فهو الاتجاه الذي اتخذته المدرس الماركسية، فوضعت مفهومها المادي عن العالم على أساس هذا الاتجاه.
قال ستالين: ((تسير مادية ماركس من المبدأ القائل: ان العالم بطبيعته مادي، وان حوادث العالم المتعددة هي مظاهر مختلفة للمادة المتحركة، وان العلاقات المتبادلة بين الحوادث وتكييف بعضها بعضا بصورة متبادلة، كما تقررها الطريقة الديالكتيكية، هي قوانين ضرورية لتطور المادة المتحركة، وان العالم يتطور تبعا لقوانين حركة المادة، وهو ليس بحاجة لأي عقل كلي)) (1).
ويعتبر المفهوم المادي المادة - الوجود - هو النقطة المركزية في الفلسفة الماركسية، لأنها التي تحدد نظرة الماركسية إلى الحياة، وتنشئ لها فهما خاصا للواقع وقيمه، ومن دونها لا يمكن ان تقام الأسس المادية الخالصة للمجتمع والحياة.
وقد فرضت هذه النقطة على المذهب الماركسي تسلسلا فكريا خاصا. واقتضت منه ان يقيم شتى جوانبه الفلسفية لصالحها.
فلأجل ان تملك الماركسية الحق في تقرير النقطة المركزية تقريرا نهائيا، اختارت ان تكون يقينية، كما عرفنا في نظرية المعرفة، وأعلنت أن لدى الانسان من الطاقات العلمية ما يتيح له الجزم بفلسفة معينة عن الحياة، واستكناه اسرار الوجود والعالم، ورفضت مذهب الشك المطلق، وحتى النسبية الجامدة، وحاولت بذلك ان تعطي صفة قطعية للمحور الرئيسي أي المفهوم المادي.

(1) المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ص 17.
188

ووضعت بعد ذلك المقياس العام للمعرفة والحقيقة في التجربة، واستبعدت المعارف العقلية الضرورية، وأنكرت وجود منطق عقلي مستقل عن التجربة، كل ذلك حذرا من امكان محو النقطة المركزية بالمنطق العقلي، وحدا للطاقة البشرية بالميدان التجريبي خاصة.
وواجهت الماركسية في هذه المرحلة مشكلة جديدة، وهي ان الميزان الفكري للانسان إذا كان هو الحس والتجربة، فلابد ان تكون المعلومات التي يكونها عن طريق الحس والتجربة صحيحة دائما، ليمكن اعتبارها ميزانا أوليا توزن به الأفكار والمعارف. فهل نتائج الحس العلمي كذلك حقا؟ وهل النظريات القائمة على التجربة مضمونة الصدق ابدا؟
وهكذا وقعت الماركسية بين خطرين: فان اعترفت بأن المعلومات القائمة على أساس التجربة ليست معصومة من الخطأ، فقد سقطت التجربة عن كونها ميزانا أوليا للحقائق والمعارف. وان ادعى الماركسيون أن النظرية المستمدة من التجربة والتطبيق فوق الخطأ والاشتباه، اصطدموا بالواقع الذي لا يسع لاحد انكاره، وهو ان كثيرا من النظريات العلمية، بل القوانين التي توصل إليها الانسان عن طريق درس الظواهر المحسوسة، قد ظهر خطأها وعدم مطابقتها للواقع، فسقطت عن عرشها العلمي بعد ان تربعت عليه مئات السنين.
وإذا كانت المفاهيم العلمية التجريبية قد تخطئ. وكان المنطق العقلي ساقطا من الحساب، فكيف يعلن عن فلسفة يقينية؟ أو تشاد مدرسة ذات صفة جزمية في أفكارها؟
وقد أصرت الماركسية على وضع التجربة مقياسا أعلى، وتخلصت من هذا المأزق بوضع قانون الحركة والتطور في العلوم والأفكار، نظرا إلى ان الفكر جزء من الطبيعة، وهو بهذا الاعتبار يحقق قوانين الطبيعة كاملة. فيتطور وينمو كما تتطور الطبيعة. وليس التطور العلمي يعني سقوط المفهوم العلمي السابق، وانما يعبر عن حركة تكاملية في الحقيقة والمعرفة. فالحقيقة والمعرفة هي الحقيقة والمعرفة، غير أنها تنمو وتتحرك وتتصاعد بصورة مستمرة.
وهكذا قضى بذلك على جميع البدهيات والحقائق لأن كل فكر سائر في
189

صراط التطور والتغير، فليست توجد حقيقة ثابتة في دنيا الفكر مطلقا، ولا يؤمن على ما ندركه الآن من البديهيات (نظير ادراكنا: ان الكل أكبر من الجزء، وأن 2 + 2 = 4) أن يكتسب شكلا آخر في حركته التطورية، فندرك الحقيقة عند ذاك على وجه آخر.
ولما كانت الحركة التي وضعتها الماركسية كقانون للفكر، وللطبيعة بصورة عامة، لا تنبثق الا عن قوة وسبب، ولم تكن في العالم حقيقة الا المادة في زعمها، فقد قالت: ان الحركة حصيلة تناقضات في المحتوى الداخلي للمادة، وان هذه المتناقضات تتصارع فتدفع بالمادة وتطورها. ولهذا ألغت الماركسية مبدأ عدم التناقض، واتخذت من الديالكتيك طريقة لفهم العالم، ووضعت مفهومها المادي في إطاره.
وهكذا يتضح ان جميع الجوانب الفلسفية للمادية الديالكتيكية، مرتبطة بالنقطة المركزية (المفهوم المادي)، وقد صيغت لأجل تركيزها والحفاظ عليها. وليس اسقاط البديهيات وجعلها عرضة للتغير، أو الايمان بالتناقض واعتباره قانونا عاما للطبيعة، وما إليها من النتائج الغريبة التي انتهت إليها الماركسية، الا تسلسلا حتميا للانطلاق أي بدأ من المفهوم المادي الماركسي، وتبريرا له في المجال الفلسفي.
190

* - 2 -
الديالكتيك أو الجدل
ان الجدل كان يعني في المنطق الكلاسيكي طريقة خاصة في البحث، وأسلوبا من أساليب المناظرة، التي تطرح فيها المتناقضات الفكرية، ووجهات النظر المتعارضة، بقصد أن تحاول كل واحدة منها أن تظهر ما في نقيضها من نقاط الضعف ومواطن الخطأ، على ضوء المعارف المسلمة والقضايا المعترف بها سلفا. وهكذا يقوم الصراع بين النفي والاثبات في ميدان البحث والجدل، حتى ينتهي إلى نتيجة تتقرر فيها احدى وجهات النظر المتصارعة، أو تنبثق عن الصراع الفكري بين المتناقضات وجهة رأي جديدة، توفق بين الوجهات كلها، بعد اسقاط تناقضاتها، وافراز نقاط الضعف من كل واحدة منها.
ولكن الجدل في الديالكتيك الجديد، أو الجدل الجديد، لم يعد منهجا في البحث وأسلوبا لتبادل الآراء، بل أصبح طريقة لتفسير الواقع. وقانونا كونيا عاما، ينطبق على مختلف الحقائق وألوان الوجود. فالتناقض ليس بين الآراء ووجهات النظر فحسب، بل هو ثابت في صميم كل واقع وحقيقة. فما من قضية الا وهي تنطوي في ذاتها على نقيضها ونفيها.
وكان هيجل أول من أشاد منطقا كاملا على هذا الأساس، فكان التناقض الديالكتيكي هو النقطة المركزية في ذلك المنطق، والقاعدة الأساسية التي يقوم عليها فهم جديد للعالم، وتنشأ به نظرية جديدة نحوه، تختلف كل الاختلاف عن النظرة الكلاسيكية، التي اعتادها البشر منذ قدر له ان يدرك ويفكر.
وليس هيجل هو الذي ابتدع أصول الديالكتيك ابتداعا، فان لتلك الأصول جذورا وأعماقا في عدة من الأفكار، التي كانت تظهر بين حين وآخر
191

على مسرح العقل البشري، غير انها لم تتبلور على أسلوب منطق كامل، واضح في تفسيره ونظرته، محدد في خططه وقواعده، الا على يد هيجل، فقد أنشأ هيجل فلسفته المثالية كلها على أساس هذا الديالكتيك، وجعله تفسيرا كافيا للمجتمع، والتاريخ، والدولة، وكل مظاهر الحياة. وتبناه بعده ماركس فوضع فلسفته المادية في تصميم ديالكتيكي خالص.
فالجدل الجديد في زعم الديالكتيكين قانون للفكر والواقع على السواء. ولذلك فهو طريقة للتفكير، ومبدأ يرتكز عليه الواقع في وجوده وتطوره.
قال لينين: ((فإذا كان ثمة تناقضات في أفكار الناس، فذلك لأن الواقع الذي يعكسه فكرنا يحوي تناقضات. فجدل الأشياء ينتج جدل الأفكار، وليس العكس)) (1)
وقال ماركس: ((ليست حركة الفكر الا انعكاسا لحركة الواقع، منقولة ومحولة في مخ الانسان)) (2).
والمنطق الهيجلي بما قام عليه من أساس الديالكتيك والتناقض، يعتبر في النقطة المقابلة - للمنطق الكلاسيكي. أو المنطق البشري العام - تماما، ذلك ان المنطق العام
يؤمن بمبدأ عدم التناقض، ويعتبره المبدأ الأول الذي يجب ان تقوم كل معرفة على أساسه، والمبدأ الضروري الذي لا يشذ عنه شيء في دنيا الوجود، ولا يمكن ان يبرهن على حقيقة مهما كانت لولاه. ويرفض المنطق الهيجلي هذا المبدأ كل الرفض، ولا يكتفي بالتأكيد على امكان التناقض، بل يجعل التناقض - بدلا عن سلبه - المبدأ الأول لكل معرفة صحيحة عن العالم، والقانون العام الذي يفسر الكون كله بمجموعة من التناقضات، فكل قضية في الكون تعتبر اثباتا، وتثير نفيها في نفس الوقت، ويأتلف الاثبات والنفي في اثبات جديد. فالنهج المتناقض للديالكتيك، أو

(1) المادية والمثالية في الفلسفة ص 83.
(2) المادية والمثالية في الفلسفة ص 83.
192

الجدل، الذي يحكم العالم، يتضمن ثلاث مراحل تدعى: الأطروحة، والطباق، والتركيب، وفي تعبير آخر، الاثبات، والنفي ونفي النفي وبحكم هذا النهج الجدلي يكون كل شيء مجتمعا مع نقيضه، فهو ثابت ومنفي، وموجود ومعدوم، في وقت واحد.
وقد ادعى المنطق الهيجلي انه قضى - بما زعمه للوجود من جدل - على الخطوط الرئيسية للمنطق الكلاسيكي، وهي - في زعمه - كما يأتي:
أولا: مبدأ عدم التناقض. وهو يعني ان الشيء الواحد لا يمكن أن يتصف بصفة، وبنقيض تلك الصفة في وقت واحد.
ثانيا: مبدأ الهوية، وهو المبدأ القائل ان كل ماهية فهي ما هي بالضرورة، ولا يمكن سلب الشيء عن ذاته.
ثالثا: مبدأ السكون والجمود في الطبيعة الذي يرى سلبية الطبيعة وثباتها، وينفي الديناميكية عن دنيا المادة.
فالمبدأ الأول لا موضع له في المنطق الجديد، ما دام كل شيء قائما في حقيقته على التناقض. وإذا ساد التناقض كقانون عام، فمن الطبيعي ان يسقط المبدأ الثاني للمنطق الكلاسيكي أيضا، فان كل شيء تسلب عنه هويته في لحظة الاثبات بالذات، لأنه في صيرورة مستمرة، وما دام التناقض هو الجذر الأساسي لكل حقيقة، فلا غرو فيما إذا كانت الحقيقة تعني شيئين متناقضين على طول الخط. ولما كان هذا التناقض المركز في صميم كل حقيقة مثيرا لصراع دائم في جميع الأشياء، والصراع يعني الحركة والاندفاع، فالطبيعة في نشاط وتطور دائم، وفي اندفاعه وصيرورة مستمرة.
هذه هي الضربات التي زعم المنطق الديالكتيكي انه سددها إلى المنطق الانساني العام، والمفهوم المألوف للعالم، الذي ارتكزت عليه الميتافيزيقية آلاف السنين.
وتتلخص الطريقة الجديدة لفهم الوجود في افتراض قضية أولى، وجعلها أصلا، ثم ينقلب هذا الأصل إلى نقيضه، بحكم الصراع في المحتوى الداخلي
193

بين المتناقضات، ثم يأتلف النقيضان في وحدة، وتصبح هذه الوحدة بدورها أصلا ونقطة انطلاق جديد. وهكذا يتكرر هذا التطور الثلاثي تطورا لا نهاية له ولا حد، يتسلسل مع الوجود، ويمتد ما امتدت ظواهره وحوادثه.
وقد بدأ هيجل بالمفاهيم والمقولات العامة، فطبق عليها الديالكتيك، واستنبطها بطريقة جدلية قائمة على التناقض، المتمثل في الأطروحة، والطباق، والتركيب. وأشهر ثواليثه في هذا المجال وأولها هو: الثالوث
الذي يبدأ من أبسط تلك المفاهيم وأعمقها. وهو مفهوم الوجود. فالوجود موجود. وهذا هو الاثبات أو الأطروحة، بيد أنه ليس شيئا، لأنه قابل لأن يكون كل شيء. فالدائرة وجود. والمربع، والأبيض، والأسود، والنبات، والحجر، كل هذا هو موجود. فليس اذن شيئا محددا، وهو بالتالي ليس موجودا، وهذا هو الطباق الذي أثارته الأطروحة، وهكذا حصل التناقض في مفهوم الوجود، ويحل هذا التناقض في التركيب بين الوجود واللاوجود. الذي ينتج موجودا لا يوجد على التمام. أي صيرورة وحركة، وهكذا ينتج ان الوجود الحق هو الصيرورة.
هذا مثال سقناه لنوضح كيف يتسلسل أبو الجدل الحديث في استنباط المفاهيم العامة. من الأعم إلى الأخص، ومن الأكثر خواء وضعفا، إلى الأكثر ثراء والأقرب إلى الواقع الخارجي.
وليس هذا الجدل في استنباط المفاهيم عنده الا انعاكسا لجدل الأشياء بذاتها في الواقع، فإذا استثارت فكرة من الأفكار فكرة مقابلة لها، فلان الواقع الذي تمثله هذه الفكرة يتطلب الواقع المضاد.
ونظرة بسيطة على الأطروحة، والطباق والتركيب في قضية الوجود، التي هي أشهر ثواليثه، تدلنا بوضوح على أن هيجل لم يفهم مبدأ عدم التناقض حق الفهم حين ألغاه ووضع موضعه مبدأ التناقض. ولا أدري كيف يستطيع هيجل أن يشرح لنا التناقض، أو النفي والاثبات، المجتمعين في مفهوم الوجود؟ ان مفهوم الوجود مفهوم عام دون شك، وهو لذلك قابل لأن يكون كل شيء، قابل لان يكون نباتا أو جمادا، أبيض أو أسود، دائرة أو
194

مربعا. ولكن هل معنى هذا ان هذه الأضداد والأشياء المتقابلة مجتمعة كلها في هذا المفهوم، ليكون ملتقى للنقائض والأضداد، طبعا لا، فان اجتماع الأمور المتقابلة في موضوع واحد شيء. وامكان صدق مفهوم واحد عليها شيء آخر. فالوجود مفهوم ليس فيه من نقاط السواد والبياض، أو النبات والجماد شيء. وانما يصح أن يكون هذا أو ذاك. لا أنه هو هذا وذاك معا في وقت واحد (1).
ولندع مقولات هيجل، لندرس الجدل الماركسي، في خطوطه العريضة التي وضع تصميمها الأساسي هيجل نفسه.
والخطوط الأساسية أربعة، وهي حركة التطور، وتناقضات التطور، وقفزات التطور، والاقرار بالارتباط العام.

(1) أضف إلى ذلك ان هذا التناقض المزعوم في ثالوث الوجود. يرتكز على خلط آخر بين فكرة الشيء. والواقع الموضوعي لذلك الشيء. فان مفهوم الوجود ليس الا عبارة عن فكرة الوجود في أذهاننا. وهي غير الواقع الموضوعي للوجود. وإذا ميزنا بين فكرة الوجود وواقع الوجود زال التناقض. فان واقع الوجود معين ومحدود لا يمكن سلب صفة الوجود عنه مطلقا. واما فكرتنا عن الوجود فهي ليست وجودا واقعيا. وانما هي المفهوم الذهني المأخوذ عنه.
195

* 1 - حركة التطور
قال ستالين:
((ان الديالكتيك خلافا للميتافيزية، لا يعتبر الطبيعة حالة سكون وجمود، حالة ركود واستقرار، بل يعتبرها حالة حركة وتغير دائمين، حالة تجدد وتطور لا ينقطعان.
ففيها دائما شيء يولد ويتطور وشئ ينحل ويضمحل. ولهذا نريد الطريقة الديالكتيكية ان لا يكتفى بالنظر إلى الحوادث من حيث علاقات بعضها ببعض. ومن حيث تكييف بعضها لبعض بصورة متقابلة، بل أن ينظر إليها أيضا من حيث حركتها، من حيث تغيرها وتطورها، من حيث ظهورها واختفائها)) (1).
وقال أنجلز:
((ينبغي لنا ألا ننظر إلى العالم وكأنه مركب من أشياء ناجزة، بل ينبغي ان ننظر اليه وكأنه مركب في أدمغتنا. ان هذا المرور ينم عن تغير لا ينقطع من الصيرورة والانحلال. حيث يشرق نهار النمو المتقدم في النهاية، رغم جميع الصدف الظاهرة والعودات إلى الوراء)) (2).
فكل شيء خاضع لقوانين التطور والصيرورة، وليس لهذا التطور أو الصيرورة حد يتوقف عنده، لأن الحركة هي المسألة اللامتناهية للوجود كله.

(1) المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ص 7.
(2) هذه هي الديالكتيكية ص 97 - 98.
197

ويزعم الديالكتيكيون انهم وحدهم الذين يعتبرون الطبيعة حالة حركة وتغير دائمين. وينعون على المنطق الميتافيزيقي والأسلوب التقليدي للتفكير طريقة دراسته للأشياء وفهمها. إذ يفترض الطبيعة في حالة سكون وجمود مطلقين، فهو لا يعكس الطبيعة على واقعها المتطور المتحرك. فالفرق بين المنطق الجدلي الذي يعتقد في الطبيعة حركة دائمة وصاعدة أبدا، والمنطق الشكلي - في زعمهم - كالفرق بين شخصين أرادا أن يسيرا أغوار كائن حي في شتى أدواره، فأجرى كل منهما تجاربه عليه، ثم وقف أحدهما يراقب تطوره وحركته المستمرة، ويدرسه على ضوء تطوراته كلها، واكتفى الآخر بالتجربة الأولى، معتقدا ان ذلك الكائن جامد في كيانه، ثابت في هويته وواقعه. فالطبيعة برمتها شأنها شأن هذا الكائن الحي، من النبات أو الحيوان، في تطوره ونموه، فلا يواكبها الفكر الا إذا جاراها في حركتها وتطورها.
والواقع ان قانون التطور الديالكتيكي الذي يعتبره الجدل الحديث من مميزاته الأساسية، ليس شيئا جديدا في الفكر الانساني، وانما الجديد طابعه الديالكتيكي الذي يجب نزعه عنه. كما سنعرف. فهو في حدوده الصحيحة ينسجم مع المنطق العام، ولا صلة له بالديالكتيك، ولا فضل للديالكتيك في اكتشافه، فليس علينا لأجل ان نقبل هذا القانون، ونعرف سبق الميتافيزيقا اليه، الا ان نجرده عن قالب التناقض، وأساس الجدل القائم عليه في عرف الديالكتيك.
ان الميتافيزيقي في زعم الديالكتيكي يعقتد ان الطبيعة جامدة يخيم عليها السكون، وأن كل شيء فيها ثابت لا يتغير ولا يتبدل، كأن الميتافيزيقي المسكين قد حرم من كل ألوان الادراك، وسلب منه الشعور والحس معا، فأصبح لا يحس ولا يشعر بما يشعر به جميع الناس وحتى الأطفال، من ضروب التغير والتبدل في دنيا الطبيعة.
ومن الواضح لدى كل أحد، ان الايمان بوجود التغير في عالم الطبيعة مسألة لا تحتاج إلى دراسات علمية سابقة، وليست موضعا لخلاف أو نقاش، وانما الجدير بالدرس هو ماهية هذا التغير، ومدى عمقه وعمومه. فان التغير نحوان: أحدهما التعاقب البحت، والآخر الحركة. والتاريخ الفلسفي يروي
198

صراعا حادا، لا في مسألة التغير بصورة عامة، بل في كنهه وتفسيره الفلسفي الدقيق. ويدور الصراع حول الجواب عن الأسئلة التالية:
هل التغير الذي يطرأ على الجسم حين يطوي مسافة ما، عبارة عن وقفات متعددة في أماكن متعددة، تعاقبت بسرعة، فتكونت في الذهن فكرة الحركة؟ أو أن مرد هذا التغير إلى سير واحد متدرج، لا وقوف فيه ولا سكون؟ وهل التغير الذي يطرأ على الماء حين تتضاعف حرارته وتشتد، يعني مجموعة من الحرارات المتعاقبة، يتلو بعضها بعضا؟ أو أنه يعبر عن حرارة واحدة تتكامل وتتحرك وتترقى درجتها؟
وهكذا نواجه هذا السؤال في كل لون من ألوان التغير، التي تحتاج إلى شرح فلسفي بأحد الوجهين الذين يقدمهما السؤال.
والتاريخ الإغريقي يحدث عن بعض المدارس الفلسفية، انها أنكرت الحركة، وأخذت بالتفسير الآخر للتغير، الذي يرد التغير إلى تعاقب أمور ساكنة، ومن رجالات تلك المدرسة (زينون)، الذي أكد على ان حركة المسافر من أقصى الأرض إلى أقصاها، ليست الا سلسلة من سكنات متعاقبة. فهو لا يتصور التدرج في الوجود والتكامل فيه، بل يرى كل ظاهرة ثابتة، وان التغير يحصل بتعاقب الأمور الثابتة، لا بتطور الامر الواحد وتدرجه. وعلى هذا تكون حركة الانسان في مسافة ما، عبارة عن وقوفه في النقطة الأولى من تلك المسافة. فوقوفه في النقطة الثانية، ففي الثالثة. وهكذا... فإذا رأينا شخصين أحدهما واقف في نقطة معينة والآخر يمشي نحو اتجاه خاص، فكلاهما في رأي (زينون) واقف ساكن، غير ان الأول ساكن في نقطة معينة على طول الخط، وأما الآخر فله سكنات متعددة، لتعدد النقاط التي يطويها، وله في لحظة مكانية خاصة. وهو في كل تلك اللحظات لا يختلف مطلقا عن الشخص الأول الواقف في نقطة معينة. فهما معا ساكنان، وان كان سكون الأول مستمرا وسكون الثاني يتبدل بسرعة إلى سكون آخر، في نقطة أخرى من المسافة. فالاختلاف بينهما هو الاختلاف بين سكون قصير الأمد وسكون طويل الأمد.
هذا ما كان يحاوله (زينون) وبعض فلاسفة الإغريق. وقد برهن على وجه
199

نظره بالأدلة الأربعة المشهورة عنه، التي لم يقدر لها النجاح والتوفيق في الميدان الفلسفي، لأن مدرسة أرسطو - وهي المدرسة الفلسفية الكبرى في العهد الإغريقي - آمنت بالحركة، وردت التي تلك الأدلة وزيفتها، وبرهنت على وجود الحركة والتطور في ظواهر الطبيعة وصفاتها. بمعنى ان الظاهرة الطبيعية قد لا توجد على التمام في لحظة، بل توجد على التدريج وتستنفذ امكاناتها شيئا فشيئا، وبذلك يحصل التطور ويوجد التكامل. فالماء حين تتضاعف حرارته، لا يعني ذلك انه في كل لحظة يستقبل حرارة بدرجة معينة، توجد على التمام ثم تفنى وتخلق من جديد حرارة أخرى بدرجة جديدة، بل محتوى تلك المضاعفة ان حرارة واحدة وجدت في الماء، ولكنها لم توجد على التمام، بمعنى انا لم تستنفذ في لحظتها الأولى كل طاقاتها وامكاناتها، ولذلك أخذت تستنفذ امكاناتها بالتدريج، وتترقى بعد ذلك وتتطور. وبالتعبير الفلسفي انها حركة مستمرة متصاعدة. ومن الواضح ان التكامل - أو الحركة التطورية - لا يمكن ان يفهم الا على هذا الأساس، واما تتابع ظواهر متعددة يوجد كل واحدة منها بعد الظاهرة السابقة، وتفسح المجال بفنائها لظاهرة جديدة، فليس هذا نموا وتكاملا، وبالتالي ليس حركة وانما هو لون من التغير العام.
فالحركة سير تدريجي للوجود، وتطور للشيء في الدرجات التي تتسع لها امكاناته. ولذلك حدد المفهوم الفلسفي للحركة بأنها خروج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجيا
(1).
ويتركز هذا التحديد على الفكرة التي قدمناها عن الحركة، فان الحركة - كما عرفنا - ليست عبارة عن فناء الشيء فناء مطلقا ووجود شيء آخر جديد، وانما هي تطور الشيء في درجات الوجود. فيجب اذن ان تحتوي كل حركة على وجود واحد مستمر. منذ تنطلق إلى ان تتوقف وهذا الوجود هو الذي يتحرك، بمعنى انه يتدرج ويثرى بصورة مستمرة، وكل درجة تعبر عن مرحلة من مراحل ذلك الوجود الواحد، وهذه المراحل انما توجد بالحركة فالشئ المتحرك أو الوجود المتطور لا يملكها قبل الحركة والا لما وجدت حركة. بل هو

(1) القوة عبارة عن امكان الشيء، والفعل عبارة عن وجوده حقيقة.
200

في لحظة الانطلاق يتمثل لنا في قوى وامكانات. وبالحركة تستنفذ تلك الامكانات، ويستبدل في كل درجة من درجات الحركة الامكان بالواقع والقوة بالفعلية. فالماء قبل وضعه على النار لا يملك من الحرارة المحسوسة الا امكانها، وهذا الامكان الذي يملكه ليس امكانا لدرجة معينة من الحرارة بل هي بجميع درجاتها - التي تؤدي إلى الحالة الغازية في النهاية - ممكنة للماء وحين يبدأ بالانفعال والتأثر بحرارة النار تبدأ حرارته بالحركة والتطور، بمعنى ان القوى والامكانات التي كانت تملكها تتبدل إلى حقيقة، والماء في كل مرحلة من مراحل الحركة يخرج من امكان إلى فعلية، ولذلك تكون القوة والفعلية متشابكتين في جميع أدوار الحركة. وفي اللحظة التي تستنفذ جميع الامكانات تقف الحركة. فالحركة اذن في كل مرحلة ذات لونين: فهي من ناحية فعلية وواقعية، لأن الدرجة التي تسجلها المرحلة موجودة بصورة واقعية وفعلية ومن ناحية أخرى هي امكان وقوة للدرجات الأخرى الصاعدة، التي ينتظر من الحركة، ان تسجلها في مراحلها الجديدة. فالماء في مثالنا إذا لاحظناه في لحظة معينة من الحركة، نجد انه ساخن بالفعل بدرجة ثمانين مثلا، ولكنه في نفس الوقت ينطوي على امكان تخطي هذه الدرجة، وقوة تطور للحرارة إلى أعلى. ففعلية كل درجة في مرحلتها الخاصة مقارنة لقوة فنائها. ولنأخذ مثالا أعمق للحركة، وهو الكائن الحي الذي يتطور بحركة تدريجية، فهو بويضة فنقطة، فجنين، فطفل، فمراهق، فراشد. ان هذا الكائن في مرحلة محدودة من حركته هو نطفة بالفعل، ولكنه في نفس الوقت شيء آخر مقابل للنطفة، وأرقى منها فهو جنين بالقوة، ومعنى هذا ان الحركة في هذا الكائن قد ازدوجت فيها الفعلية والقوة معا. فلو لم يكن في الكائن الحي قوة درجة جديدة وامكاناتها لما وجدت حركة، ولو لم يكن شيئا من الأشياء بالفعل لكان عدما محضا، فلا توجد حركة أيضا. فالتطور يأتلف دائما من شيء بالفعل وشئ بالقوة. وهكذا تستمر الحركة ما دام الشيء يحتوي على الفعلية والقوة معا، على الوجود والامكان معا، فإذا نفذ الامكان، ولم تبق في الشيء طاقة على درجة جديدة، انتهى عمر الحركة. هذا هو معنى خروج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجيا، أو تشابك القوة
201

والفعل أو اتحادهما في الحركة.
وهذا هو المفهوم الفلسفي الدقيق الذي تعطيه الفلسفة الميتافيزيقية للحركة. وقد أخذته المادية الديالكتيكية فلم تفهمه ولم تتبينه على وجهه الصحيح. فزعمت ان الحركة لا تتم الا بالتناقض، التناقض المستمر في صميم الأشياء. كما سوف نعرف عن قريب.
وجاء بعد ذلك دور الفلسفة الاسلامية. على يد الفيلسوف الاسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي فوضع نظرية الحركة العامة، وبرهن فلسفيا على ان الحركة بمفهومها الدقيق الذي عرضناه، لا تمس ظواهر الطبيعة وسطحها العرضي فحسب، بل الحركة في تلك الظواهر ليست الا جانبا من التطور يكشف عن جانب أعمق، وهو التطور في صميم الطبيعة وحركتها الجوهرية. ذلك ان الحركة السطحية في الظواهر، لما كان معناها التجدد والانقضاء، فيجب لهذا ان تكون علتها المباشرة أمرا متجددا، غير ثابت الذات أيضا، لان علة الثابت ثابتة، وعلة المتغير المتجدد متغيرة متجددة، فلا يمكن أن يكون السبب المباشر للحركة أمرا ثابتا والا لم تنعدم أجزاء الحركة، بل تصبح قرارا وسكونا (1).

(1) ويتخلص الاستدلال الرئيسي على الحركة الجوهرية بالامرين التاليين: الأول ان العلة المباشرة للحركات العرضية والسطحية في الأجسام - من الميكانيكية والطبيعية - قوة خاصة قائمة بالجسم. وهذا المعنى صادق حتى على الحركات الآلية. التي يبدو لأول وهلة انها منبثقة عن قوة منفصلة. كما إذا دفعت بجسم في خط أفقي، أو عمودي، فان المفهوم البدائي من هذه الحركة انها معلولة للدفعة الخارجية. والعامل المنفصل، ولكن الواقع غير هذا، فان العامل الخارجي لم يكن الا شرطا من شروط الحركة، واما المحرك الحقيقي فهو القوة القائمة بالجسم، ولاجل ذلك كانت الحركة تستمر بعد انفصال الجسم المتحرك عن الدفعة الخارجية، والعامل المنفصل. وكان الجهاز الميكانيكي المتحرك يسير مقدارا ما بعد بطلان العامل الآلي المحرك، وعلى هذا الأساس وضع الميكانيك الحديث قانون القصور الذاتي، القائل: ان الجسم إذا حرك استمر في حركته. ما لم يمنعه شيء خارجي عن مواصلة نشاطه الحركي، غير ان هذا القانون أسئ استخدامه، إذ اعتبر دليلا على ان الحركة حين تنطلق لا تحتاج بعد ذلك إلى سبب خاص وعلة معينة، واتخذ أداة للرد على مبدأ العلية وقوانينها. ولكن الصحيح ان التجارب العلمية في الميكانيك الحديث، انما تدل على ان العامل الخارجي المنفصل ليس هو العلة الحقيقية للحركة. والا لما استمرت حركة الجسم بعد انفصال الجسم المتحرك عن العامل الخارجي المستقل ويجب لهذا ان تكون العلة المباشرة للحركة قوة قائمة بالجسم، وان تكون العوامل الخارجية شرائط ومثيرات لتلك القوة.
الثاني: ان المعلول يجب ان يكون مناسبا للعلة في الثبات والتجدد، فإذا كانت العلة ثابتة كان المعلول ثابتا، وإذا كان المعلول متجددا ومتطورا كانت العلة متجددة ومتطورة. ومن الضروري على هذا الضوء ان تكون علة الحركة متحركة ومتجددة، طبقا لتجدد الحركة وتطورها نفسها، إذ لو كانت علة الحركة ثابتة ومستقرة، لكان كل ما يصدر منها ثابتا ومستقرا، فتعود الحركة سكونا واستقرارا، وهو يناقض معنى الحركة والتطور، وعلى أساس هذين الامرين نستنتج:
أولا: ان القوة القائمة بالجسم والمحركة له قوة متحركة ومتطورة ' فهذه القوة بسبب تطورها تكون علة للحركات العرضية والسطحية جميعا، وهي قوة جوهرية - إذ لابد ان تنتهي إلى قوة جوهرية لان العرض يتقوم بالجوهر - وهكذا ثبتت الحركة الجوهرية في الطبيعة.
ثانيا: ان الجسم يأتلف دائما من مادة تعرضها الحركات، وقوة جوهرية متطورة، وبسببها تحصل الحركة السطحية في ظواهر الجسم واعراضه.
وليس في المستطاع الآن ان نعرض الحركة الجوهرية وبراهينها بأكثر من هذه اللمحة.
202

ولم يبرهن الفيلسوف الشيرازي على الحركة الجوهرية فحسب, بل أوضح ان مبدأ الحركة في الطبيعة من الضرورات الفلسفية للميتافيزيقية. وفسر على ضوئه صلة الحادث بالقديم (1) وعدة من المشاكل الفلسفية الأخرى، كمشكلة

(1) والمشكلة في صلة الحادث بالقديم هي: ان العلة باعتبارها قديمة وأزلية يجب ان تكون علة لما يناسبها، ويتفق معها في القدم والأزلية، وعلى هذا الأساس خيل لعدة من الميتافيزيقيين، ان الايمان بالخالق الأزلي يحتم من ناحية فلسفية الاعتقاد بقدم العالم وأزليته، لئلا ينفصل المعلول عن علته، وقد حل الشيرازي هذه المشكلة على ضوء الحركة الجوهرية، القائلة: ان عالم المادة في تطور وتجدد مستمر. فان حدوث العالم على هذا الأساس كان نتيجة حتمية لطبيعته التجددية، ولم يكن لأجل حدوث العلة وتجدد الخالق الأول.
203

الزمان (1) ومسألة التجرد المادة وعلاقة النفس والجسم (2).
فهل يصح بعد هذا كله اتهام الإلهية أو الميتافيزيقية، بأنها تؤمن بجمود الطبيعة وسكونها؟
والحقيقة ان هذا الاتهام لا مبرر له الا سوء فهم المادية الديالكتيكية للحركة، بمعناها الفلسفي الصحيح.
فما هو الفارق بين الحركة وقانونها العام في فلسفتنا، ونظرية الحركة الديالكتيكية في المادية الجدلية؟
ان الاختلاف بين الحركتين يتلخص في نقطتين أساسيتين:
النقطة الأولى:
ان الحركة في مفهومها الديالكتيكي، تقوم على أساس التناقض والصراع بين المتناقضات. فهذا التناقض والصراع هو القوة الداخلية، الدافعة للحركة والخالقة للتطور. وعلى عكس ذلك في مفهومنا الفلسفي عن الحركة فإنه يعتبر الحركة سيرا من درجة إلى درجة مقابلة، من دون ان تجتمع تلك الدرجات المتقابلة في مرحلة واحدة من مراحل الحركة.
ولأجل ان يتضح ذلك يجب ان نميز بين القوة والفعل. ونحلل المغالطة الماركسية التي ترتكز على اعتبار القوة والفعل وحدة متناقضة. ان الحركة مركبة من قوة وفعل. فالقوة والفعل متشابكان في جميع أدوار الحركة، ولا يمكن ان توجد ماهية الحركة دون أحد هذين العنصرين، فالوجود في كل دور من أدوار سيره التكاملي، يحتوي
على درجة معينة بالفعل، وعلى درجة أرقى منها بالقوة. فهو في اللحظة التي يتكيف فيها بتلك الدرجة يسير في اتجاه متصاعد ويتخطى درجته الحاضرة.
وقد خيل للماركسية أن هذا لون من التناقض، وأن الوجود المتطور

(1) فقد قدم الشيرازي تفسيرا جديدا للزمان، يرده فيه إلى الحركة الجوهرية للطبيعة، وبهذا أصبح الزمان في مفهومه الفلسفي هذا مقوما للجسم، ولم يعد شيئا مجردا مستقلا عنه.
(2) سوف نعرض لتجرد المادة، وعلاقة النفس بالجسم، في الجزء الأخير من هذه المسألة.
204

يحتوي على الشيء ونقيضه، وان هذا الصراع بين النقيضين هو الذي يولد الحركة.
قال أنجلز:
((ان الوضع يختلف كل الاختلاف، إذ ننظر إلى الكائنات وهي في حالة حركتها، في حالة تغيرها، في حالة تأثيراتها المتبادلة على بعضها البعض، حيث نجد أنفسنا بدء هذه النظرة بأننا مغمورون في التناقضات، فالحركة نفسها هي تناقض ان أبسط تغير ميكانيكي في المكان لا يمكن ان يحدث الا بواسطة كينونة جسم ما، في مكان ما، في لحظة ما، وفي نفس تلك اللحظة كذلك، في غير ذلك المكان، أي كينونته وعدم كينونته معا في مكان واحد، في نفس اللحظة الواحدة، فتتابع هذا التناقض تتابعا مستمرا، وحل هذا التناقض حلا متواقتا مع هذا التتابع، هو ما يسمى بالحركة)) (1).
انظروا ما أسخف مفهوم الحركة في المادية الجدلية، هذا المفهوم الذي يشرحه أنجلز على أساس التناقض، وهو لا يعلم أن درجتين من الحركة لو كانتا موجودتين بالفعل، في مرحلة معينة منها، لما أمكن التطور، وبالتالي لجمدت الحركة، لأن الحركة انتقال للموجود من درجة إلى درجة، ومن حد إلى حد، فلو كانت الحدود والنقاط كلها مجتمعة بالفعل، لما وجدت حركة، فمن الضروري ان لا تفسر الحركة الا على ضوء مبدأ عدم التناقض، والا - لو جاز التناقض - فمن حقنا أن نتساءل هل ان الحركة تنطوي على التغير في درجات الشيء المتطور، والتبدل في حدوده ونوعيته أو لا؟ فان لم يكن فيها شيء من التغير والتجدد فليست هي حركة، بل هي جمود وثبات. وان اعترفت الماركسية بالتجدد والتغير في الحركة، فلماذا هذا التجدد، إذا كانت المتناقضات كلها موجودة بالفعل. ولم يكن بينها تعارض؟ ان أبسط تحليل للحركة يطلعنا على أنها مظهر من مظاهر التمانع، وعدم إمكان

(1) ضد دوهرنك الفلسفة ص 202.
205

الاجتماع بين النقائض والمتقابلات، الذي يفرض على الموجود المتطور، التغير المستمر لدرجته وحده. وليس التناقض أو الديالكتيك المزعوم في الحركة، الا باعتبار الخلط بين القوة والفعل.
فالحركة في كل مرحلة لا تحتوي على درجتين، أو فعلتين متناقضتين، وانما تحتوي على درجة خاصة بالفعل، وعلى درجة أخرى بالقوة، ولذلك كانت الحركة خروجا تدريجيا من القوة إلى الفعل.
ولكن عدم الوعي الفلسفي الكامل، هو الذي صار سببا في تزوير مفهوم الحركة.
وهكذا يتضح ان قانون نقض النقض. وتفسير الحركة به، وكل ما أحيط به ذلك، من ضوضاء وضجيج وصخب وسخرية بالأفكار الميتافيزيقية، التي تؤمن بمبدأ عدم التناقض، ان كل ذلك مرده إلى المفهوم الفلسفي الذي عرضناه للحركة. والذي أساءت الماركسية فهمه، فاعتبرت تشابك القوة والفعل أو اتحادهما، في جميع مراحل الحركة، عبارة عن اجتماع فعليات متقابلة. وتناقض مستمر، وصراع بين المتناقضات فرفضت لأجل ذلك مبدأ عدم التناقض، وأطاحت بالمنطق العام كله. وليست هذه المحاولة الماركسية هي الأولى في بابها. فان بعض المفكرين الميتافيزيقيين حاولوا شيئا من ذلك، في التاريخ الفلسفي القديم مع فارق واحد، وهو ان الماركسية أرادت ان تبرر التناقض بهذه المحاولة، واما أولئك فحاولوا ان يبرهنوا على سلبية امكان الحركة، باعتبار انطوائها على التناقض. وللفخر الرازي محاولة من هذا القبيل أيضا، ذكر فيها ان الحركة عبارة عن التدرج، أي وجود الشيء على سبيل التدريج، وزعم ان التدرج في الوجود غير معقول، لأنه يؤدي إلى لون من التناقض. وقد أوضح المحققون من الفلاسفة أنها نشأت من عدم الوعي الصحيح لمعنى التدرج والوجود التدريجي.
ولما كنا نعرف الآن بكل وضوح، ان الحركة ليست صراعا بين فعليات متناقضة دائما، بل هي تشابك بين القوة والفعل، وخروج تدريجي للشيء من أحدهما إلى الآخر، نستطيع ان ندرك ان الحركة لا يمكن أن تكتفي ذاتيا عن
206

السبب، وان الوجود المتطور لا يخرج من الفعل الا لسبب خارجي، وليس صراع بين التناقضات هو العلة الداخلية لذلك إذ ليست في الحركة وحدة للتناقضات والأضداد لتنجم الحركة عن الصراع بينها. فما دام الوجود المتطور في لحظة انطلاق الحركة خاليا من الدرجات أو النوعيات، التي سوف يحصل عليها في مراحل الحركة، ولم يكن في محتواه الداخلي الا امكان تلك الدرجات. والاستعداد لها. فيجب ان يوجد سبب لاخراجه من القوة إلى الفعل، لتبديل الامكان الثابت في محتواه الداخلي إلى حقيقة.
وبهذا نعرف ان قانون الحركة العامة في الطبيعة يبرهن بنفسه على ضرورة وجود مبدأ خارج حدودها المادية، ذلك ان الحركة بموجب هذا القانون هي كيفية وجود الطبيعة. فوجود الطبيعة عبارة أخرى عن حركتها وتدرجها. وخروجها المستمر من الامكان إلى الفعلية. وقد انهارت لدينا نظرية الاستغناء الذاتي للحركة بتناقضاتها الداخلية، التي تنبثق الحركة عن الصراع بينها - في زعم الماركسيين - إذ لا تناقض ولا صراع، فيجب ان يوجد التعليل، وان يكون التعليل بشيء خارج حدود الطبيعة، لأن أي شيء موجود في الطبيعة فوجوده حركة وتدرج، إذ لا ثبات في عالم الطبيعة بموجب قانون الحركة العامة، فلا يمكن ان نقف التعليل عند شيء طبيعي.
النقطة الثانية:
ان الحركة في الرأي الماركسي لا تقف عند حدود الواقع الموضوعي للطبيعة. بل تعم الحقائق والأفكار البشرية أيضا. فكما يتطور الواقع الخارجي للمادة وينمو، كذلك تخضع الحقيقة الادراكات الذهنية لنفس قوانين التطور والنمو، التي تجري على دنيا الطبيعة، وعلى هذا الأساس لا توجد في المفهوم الماركسي للفكرة حقائق مطلقة.
قال لينين:
((فالديالكتيك هو اذن - في نظر ماركس - علم القوانين العامة للحركة، سواء في العالم الخارجي أم الفكر البشري)) (1).

(1) ماركس انجلس والماركسية ص 24.
207

وعلى العكس من ذلك قانون الحركة العامة، في رأينا، فإنه قانون طبيعي يسود عالم المادة، ولا يشمل دنيا الفكر والمعرفة. فالحقيقة أو المعرفة لا يوجد فيها، ولا يمكن ان يوجد فيها، تطور بمعناه الفلسفي الدقيق، كما أوضحنا ذلك بكل جلاء، في المسألة الأولى (نظرية المعرفة).
وما نرمي اليه الآن من درس الحركة الديالكتيكية المزعومة في المعرفة أو الحقيقة، هو استعراض المحاولات الرئيسية التي اتخذتها الماركسية، للاستدلال على ديالكتيك الفكر وحركته. وتتلخص في ثلاث محاولات: المحاولة الأولى: ان الفكر أو الادراك انعكاس للواقع الموضوعي ولأجل ان يكون مطابقا له يجب ان يعكس قوانينه وتطوره وحركته.
فالطبيعة تتطور وتتغير باستمرار، طبقا لقانون الحركة، ولا يمكن
للحقيقة ان تصورها في الذهن البشري إذا كانت مجمدة ساكنة، وانما توجد الحقيقة في أفكارنا، إذا اخذت هذه الأفكار على اعتبار انها تنمو وتتطور ديالكتيكيا، لتكون مفاهيمنا عن الأشياء مواكبة للأشياء ذاتها.
ويحسن ان نلاحظ في هذا المجال النصوص الآتية:
((ان الواقع ينمو، والمعرفة التي تنشأ من هذا الواقع تعكسه وتنمو مثله، وتصبح عنصرا فعالا من عناصر نموه. ان الفكر لا يحدث موضوعه، وانما الفكر يعكس الواقع الموضوعي ويصوره، باكتشاف قوانين نموه)) (1).
((ان الفرق بين المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي، ينحصر في واقع انهما يواجهان بصورة مختلفة، المسألة الأساسية للمنطق، وهي مسألة الحقيقة. فمن وجهة نظر المنطق الديالكتي ليست الحقيقة شيئا معطى مرة واحدة لا غير، ليست شيئا مكتملا محددا مجمدا ساكنا، بل الامر خلاف

(1) ما هي المادية ص 56.
208

ذلك. فالحقيقة هي عملية نمو معرفة الانسان للعالم الموضوعي)) (1).
((يتناول المنطق الديالكتي الماركسي، الشيء الذي يدرسه من وجهة نظر تاريخية، من حيث هو عملية نمو تطورية، انه يطابق التاريخ العام للمعرفة، يطابق تاريخ العلوم)) (2).
ولا ريب ان الفكر والادراك يصور الواقع الموضوعي لونا من ألوان التصوير، ولكن هذا لا يعني ان تنعكس فيه حركة الواقع الموضوعي، فينمو ويتحرك تبعا له، وذلك:
أولا: ان عالم الطبيعة - عالم التغير، والتجدد، والحركة - يحتوي حتما على قوانين عامة ثابتة. وهذا ما لا يمكن لأي منطق انكاره، الا إذا انكر نفسه، لأن المنطق لا يمكن ان يكون منطقا، الا إذا أقام طريقته في التفكير وفهم العالم على قوانين معينة ثابتة. وحتى الديالكتيك نفسه، يعتبر عدة قوانين تسيطر على الطبيعة وتتحكم فيها بصورة دائمة، ومنها قانون الحركة. فعالم الطبيعة اذن سواء صح عليه المنطق البشري العام. أم منطق الديالكتيك والجدل، توجد فيه قوانين ثابتة تعكس حقائق ثابتة، في دنيا الفكر وحقل المعرفة البشرية.
والديالكتيكيون إزاء هذا الاعتراض بين أمرين: اما ان يعتبروا قانون لحركة ثابتا ودائما، فقد وجدت الحقيقة الدائمة اذن. واما أن يكون نفس هذا القانون متغيرا، فمعنى هذا ان الحركة ليست دائمة، وانها قد تتبدل إلى ثبات، وتعود الحقائق ثابتة بعد ان كانت متحركة. ومن كلا الحالين يكون الديالكتيك مرغما على الاعتراف بوجود حقيقة ثابتة.
ثانيا: ان الفكر أو الادراك أو الحقيقة لا تعكس الخصائص الواقعية للطبيعة. فقد سبق ان أوضحنا في (نظرية المعرفة)، ان الذهن البشري يدرك

(1) المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي ص 9.
(2) المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي ص 12.
209

من الأشياء الموضوعية، مفاهيمها وماهياتها، والمفهوم الذي ينعكس فيه عن تلك الأشياء يختلف عن الواقع الخارجي، في الوجود والخصائص. فالعالم يمكنه ان يكون فكرة علمية دقيقة عن الميكروب وتركيبه، ونشاطه الخاص وتفاعلاته مع جسم الانسان، ولكن الفكرة مهما كانت دقيقة ومفصلة، لا توجد فيها خواص الميكروب الخارجي، ولا يمكنها ان تؤدي نفس الدور الذي يؤديه واقعها الموضوعي. والفيزيائي قد يكتسب مفهوما علميا دقيقا عن ذرة الراديوم، ويحدد وزنها الذري، وعدد ما تحويه من كهارب، وشحنات سالبة وموجبة، وكمية الاشعاع الذي ينبثق عنها، ونسبته العلمية الدقيقة إلى الاشعاع الذي ترسله ذرات الأورانيوم، إلى غير ذلك من المعلومات والتفاصيل... غير أن هذا المفهوم مهما تعمقنا فيه، أو تعمق في الكشف عن اسرار عنصر الراديوم، لن يكتسب خواص الواقع الموضوعي، أي خواص الراديوم، ولن يشع الاشعاع الذي تولده ذرات هذا العنصر، وبالتالي لن يتطور مفهومنا عن الذرة إلى إشعاع، كما تتطور بعض الذرات في المجال الخارجي.
وهكذا يتضح ان قوانين الواقع الموضوعي وخواصه، لا توجد في الفكرة ذاتها. ومن تلك القوانين والخواص الحركة. فهي وان كانت من الخواص العامة للمادة، ومن قوانينها الثابتة. ولكن الحقيقة في ذهننا، أو الفكرة التي تعكس الطبيعة، لا توجد فيها تلك الخاصية، فلا يجب في الفكرة الصحيحة ان تعكس الواقع الموضوعي، بخصائصه وألوان نشاطه المختلفة، والا لم نكن نملك فكرة حقيقية في جميع أفكارنا.
فالميتافيزيقية مع ايمانها بان الطبيعة هي عالم الحركة والتطور الدائم، تختلف عن الديالكتيك، وترفض عموم قانون الحركة للمفاهيم الذهنية، لأنها لا يمكن ان تتوفر فيها جميع خصائص الواقع الموضوعي. وليس معنى هذا أن الميتافيزيقيين إذا كونوا مفهوما عن الطبيعة في مرحلة من مراحلها جمدوا أفكارهم، وأوقفوا بحوثهم، واعتبروا
ذلك المفهوم كافيا لاستكناه اسرار الطبيعة، في شتى مراحلها، فلا نعرف عاقلا يكتفي مثلا بالمفهوم العلمي، الذي يكونه عن البويض، فلا يتابع سير الكائن الحي في المرحلة الثانية،
210

ويكتفي بما كونه من المفهوم العلمي عنه في تلك المرحلة المعينة.
فنحن اذن نؤمن بتطور الطبيعة، ونرى من الضروري دراستها في كل دور من أدوار نموها وحركتها، وتكوين مفهوم عنه. وليس هذا من مختصات الديالكتيك. وانما الذي يرفضه التفكير الميتافيزيقي. هو وجود حركة ديناميكية طبيعية في كل مفهوم ذهني. فالميتافيزيقية تطالب بالتمييز بين البويض. ومفهومنا العلمي عنه. فالبويض يتطور وينمو طبيعيا، فيغدو نطفة ثم جنينا وأما مفهومنا الذهني عنه، فهو مفهوم ثابت، لا يمكن ان ينمو ويصير نطفة في حال من الأحوال وانما يجب لأجل معرفة ما هي النطفة، ان نكون مفهوما آخر على ضوء مراقبة البويض في مرحلة جديدة. فمثل التفكير في ذلك كمثل الشريط السينمائي، الذي يلتقط عددا من الصور المتلاحقة. فليست الصورة الأولى في الشريط هي التي تتطور وتتحرك، وانما التتابع بين الصور هو الذي يشكل الشريط السينمائي.
وعلى هذا فالادراك البشري لا يعكس الواقع، الا كما يعكس الشريط ألوان الحركة والنشاط، التي يحفل بها الفيلم السينمائي. فالادراك لا يتطور ولا ينمو ديالكتيكيا تبعا للواقع المنعكس، وانما يجب تكون ادراك ثابت في كل مرحلة من مراحل الواقع.
ولنأخذ مثالا آخر من عنصر (اليورانيوم)، الذي يشع بأشعة (ألفا) و (بيتا) و (جاما) ويتحول بالتدريج إلى عنصر آخر، أخف منه في وزنه الذري، وهو عنصر (الراديوم)، الذي يتحول بدوره وبالتدريج إلى عنصر أخف منه، ويمر في أدوار حتى ينتهي إلى الرصاص. فهذا واقع موضوعي يشرحه العلم، ونكون على ضوئه مفهومنا الخاص عنه، فماذا تعني الماركسية بتطور المفهوم الذهني أو الحقيقة ديالكتيكيا طبقا لتطور الواقع؟ فان كانت تعني بذلك أن نفس مفهومنا العلمي عن (اليورانيوم)، يتطور تطورا ديالكتيكيا وطبيعيا، تبعا لتطور اليورانيوم نفسه، فيشع أشعته الخاصة، ويتحول في نهاية المطاف إلى رصاص. فهذا أقرب إلى حديث الظرف والفكاهة، منه إلى الحديث الفلسفي المعقول.
وان أرادت الماركسية، ان الانسان يجب أن لا
211

ينظر إلى اليورانيوم، كعنصر جامد لا يتحرك. بل يتابع سيره وحركته، ويكون مفهوما عنه في كل مرحلة من مراحله، فليس في ذلك موضع للنقاش، ولا يعني حركة ديالكتيكية في الحقائق والمفاهيم، فان كل مفهوم نكونه عن مرحلة معينة من مراحل تطور اليورانيوم، ثابت ولا يتطور ديالكتيكيا إلى مفهوم آخر، وانما يضاف اليه مفهوم جديد. وفي نهاية المطاف نملك عدة من المفاهيم والحقائق الثابتة، يصور كل منها درجة خاصة، من الواقع الموضوعي، فأين الجدل والديالكتيك في الفكر؟ وأين ذلك المفهوم الذي يتطور طبيعيا تبعا لتطور الواقع الخارجي؟
هذا كل ما يتصل بالمحاولة الماركسية الأولى وتفنيدها.
المحاولة الثانية: التي اتخذتها الماركسية للتدليل على ديالكتيك الفكر وتطوره هي أن الفكر أو الادراك ظاهرة من ظواهر الطبيعة، ونتاج عال للمادة، وبالتالي جزء من الطبيعة، فتحكمه نفس القوانين التي تسيطر على الطبيعة، ويتحرك وينمو ديالكتيكيا، كما تتحرك وتنمو جميع ظواهر الطبيعة.
ويلزمنا ان ننبه على أن هذا الدليل يختلف عن الدليل السابق. ففي المحاولة السابقة كانت الماركسية تبرهن على وجود الحركة في الفكر، عن طريق كونه انعاكسا للواقع المتحرك، والانعكاس لا يحصل بصورة تامة، إذا لم ينعكس الواقع المتحرك في الفكر على حركته ونموه. واما في هذه المحاولة فتستدل الماركسية على الحركة الديالكتيكية في الفكر، باعتباره جزءا من الطبيعة، فقوانين الديالكتيك تجري على المادة والادراك معا، وتشمل الواقع والفكر على السواء لان كلا منهما جانب من الطبيعة. فالفكرة أو الحقيقة متطورة ونامية، لا لأنها تعكس واقعا متطورا وناميا فحسب. بل لأنها هي بذاتها جزء من العالم المتطور طبقا لقوانين الديالكتيك. فالديالكتيك كما ينص على وجود الحركة الديناميكية القائمة على أساس التناقض الداخلي، في محتوى كل ظاهرة موضوعية من ظواهر الطبيعة. كذلك ينص عليها في ظواهر الفكر والادراك جميعا.
ولنقرأ فيما يتصل بالموضوع في هذا النص:
212

((ان الكون هو حركة للمادة، تخضع لقوانين. ولما لم تكن معرفتنا الا نتاجا أعلى للطبيعة، لا يسعها الا أن تعكس هذه القوانين)) (1)
((إذا تساءلنا ما هو الفكر؟ وما هو الوعي؟ ومن أين يأتيان؟، وجدنا ان الانسان هو نفسه نتاج للطبيعة، نما في بيئة، ومع نمو هذه البيئة. وعندئذ يصبح في غنى عن البيان، كيف ان منتوجات الذهن البشري، التي هي أيضا عند آخر تحليل منتوجات للطبيعة ليست في تناقض وانما في توافق مع سائر الطبيعة المترابطة؟)) (2).
والنقطة الأساسية التي يرتكز عليها هذا الاستدلال. هي الاخذ بالتفسير المادي البحت للادراك. الذي يفرض اشتراكه مع الطبيعة في جميع قوانينها ونواميسها. بما فيها قانون الحركة. وسوف نقوم بتحليل تلك النقطة الأساسية في جزء مستقل من هذه المسألة.
ولكنا نحاول ان نتساءل هنا من الماركسيين: هل التفسير المادي للفكر أو الادراك، يختص بأفكار الديالكتيكيين خاصة؟ أو يعم أفكار غيرهم ممن لا يؤمن بالديالكتيك أيضا؟ فان كان يعم الأفكار كافة - كما تحتمه الفلسفة المادية - وجب أن تخضع جميعا لقوانين التطور العام في المادة. ويبدو لأجل ذلك من التناقض الطريف. ان تتهم الماركسية الأفكار الأخرى بالجمود والقرار. وتعتبر فكرها وحده هو الفكر المتطور النامي. باعتباره جزءا من الطبيعة المتطورة. مع ان الأفكار البشرية جميعا في
المفهوم المادي ليست الا نتاجا طبيعيا، وقصارى ما في الموضوع ان أصحاب المنطق العام أو الشكلي - كما يزعمون - لا يؤمنون بتطور الأفكار ديالكتيكيا، كما يؤمن الماركسيون. ولكن متى كان الايمان بقانون من قوانين الطبيعة، شرطا من شرائط وجوده؟ أليس جسم (باستور) المكتشف للميكروب. وجسم (ابن سينا)، الذي لم يكن يعرف عنه شيئا يشتركان معا في التفاعل مع تلك

(1) راجع صفحة 172.
(2) راجع صفحة 172.
213

الجراثيم، طبقا لقوانينها الطبيعة الخاصة؟ وهكذا الشأن في كل قانون طبيعي. فإذا كان الديالكتيك قانونا طبيعيا، يعم الفكر والمادة معا، فهو يسري على الأفكار البشرية على السواء. وان كان في اكتشافه شيء فهو الاسراع بحركة التطور فحسب.
المحاولة الثالثة: استغلال التطور والتكامل العلمي في شتى الميادين، واعتباره دليلا تجريبيا على ديالكتيكية الفكر وتطوره. فتاريخ العلوم - في الزعم الماركسي - هو بنفسه تاريخ الحركة الديالكتيكية في التفكير البشري، المتكامل على مر الزمن.
قال كيدروف:
((والحقيقة المطلقة، الناتجة من حقائق نسبية هي حركة تطور تاريخية، هي حركة المعرفة. ولهذا السبب بالضبط يتناول المنطق الديالكتي الماركسي. الشيء الذي يدرسه من وجهة نظر تاريخية، من حيث هو عملية نمو تطورية. انه يطابق التاريخ العام للمعرفة، يطابق تاريخ العلوم، ولينين إذ يبين في الوقت نفسه، باستخدامه مثل العلوم الطبيعية والاقتصاد السياسي والتاريخ. ان الديالكتيك يستمد استنتاجاته من تاريخ الفكر، يؤكد ان على تاريخ الفكر في المنطق ان يطابق جزئيا وكليا قوانين الفكر)) (1).
أما ان تاريخ المعارف والعلوم الانسانية زاخر بتقدم العلم وتكامله في شتى الميادين. ومختلف أبواب الحياة والتجربة، فهذا ما لا يختلف فيه اثنان، ونظرة واحدة نلقيها على العلم في يومه وأمسه. تجعلنا نؤمن كل الايمان بمدى التطور السريع والتكامل الرائع، الذي حصل عليه في أشواطه الأخيرة. ولكن هذا التطور العلمي ليس من ألوان الحركة بمفهومها الفلسفي، الذي تحاوله الماركسية بل لا يعدو أن يكون تقلصا كميا في الأخطاء، وزيادة كمية في

(1) المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي ص 12 - 13.
214

الحقائق. فالعلم يتطور لا بمعنى أن الحقيقة العلمية تنمو وتتكامل، بل بمعنى ان حقائقه تزيد وتتكاثر، وأخطاءه تقل وتتناقص، تبعا لتوسع النطاق التجريبي، والتعمق في التجربة وتدقيق وسائلها. ومن الضروري لايضاح ذلك ان نعطي فكرة عن سير التطور العلمي، وأسلوب التدرج والتكامل في النظريات والحقائق العلمية، لنتبين مدى الفرق بين ديالكتيك الفكر المزعوم من ناحية، والتطور التاريخي للعلوم البشرية من ناحية أخرى.
ان الحقائق العلمية تبدأ بأسلوب نظري، كافتراض بحت، يخطر على ذهن العالم الطبيعي، بسبب عدة من المعلومات السابقة، والمشاهدات العلمية أو البسيطة, فالفرضية هي المرحلة الأولى، التي تمر بها النظرية العلمية في سيرها التطوري، ثم يشرع العالم في بحث علمي، ودراسة تجريبية لتلك الفرضية، فيقوم بمختلف ألوان الفحص، عن طريق المشاهدات العلمية الدقيقة والتجارب المتنوعة، في الحقل الذي يخص الفرضية، فإذا جاءت نتائج المشاهدات أو التجربة، مؤيدة للفرضية. ومنسجمة مع طبيعتها وطبيعة آثارها، اكتسبت الفرضية طابعا جديدا. وهو طابع القانون العلمي، وتدخل النظرية المرحلة الثانية من سيرها العلمي. ولكن هذا التطور الذي ينقل النظرية من درجة الفرضية، إلى درجة القانون، ليس معناه أن الحقيقة العلمية أخذت بالنمو والحركة. وانما معناه ان فكرة معينة كان مشكوكا فيها، فبلغت درجة الوثوق أو اليقين العلمي. فنظرية (باستور) عن الكائنات الحية الميكروبية، التي وضعها على أساس حدسي، ثم أيدتها المشاهدات الدقيقة بالوسائل العلمية الحديثة، ونظرية الجاذبية العامة التي أثار افتراضها في ذهن (نيوتن) مشهد بسيط، مشهد سقوط تفاحة على الأرض، جعله يتساءل: لماذا لا تكون القوة التي جعلت التفاحة تسقط على الأرض، هي بعينها التي تحفظ للقمر توازنه، وترسم له حركته؟ ثم أيدت التجارب أو المشاهدات العلمية بعد ذلك، تعميم الجاذبية للأجرام السماوية، واعتبارها قانونا عاما قائما على نسبة معينة. والنظرية القائلة بأن مرد اختلاف الأجسام في سرعة سقوطها، إلى مقاومة الهواء، لا إلى اختلاف كتلتها... التي ولدت كحدس علمي، ثم استطاع العلم أن يوضح صدقها بالتجارب، التي أجريت على الأجسام
215

المتنوعة، في مكان خال من الهواء. فدلت على انها تشترك جميعا في درجة معينة من السرعة. أقول: ان هذه النظريات وآلاف النظريات الأخرى، التي مرت كلها بالمرحلة التي أشرنا إليها من التطور، باجتيازها درجة الفرضية إلى درجة القانون، لا تعبر في اجتيازها وتطورها هذا، عن نمو في نفس الحقيقة، بل عن الاختلاف في درجة التصديق العلمي بها. فالفكرة هي الفكرة، غير انها نجحت في الامتحان العلمي، وانكشفت لذلك انها حقيقة، بعد ان كان مشكوكا فيها.
ثم ان هذه النظرية بعد ان تحتل موضعها من القوانين العلمية، تأخذ مجالها في التطبيق. وتكسب صفتها كمرجع علمي لتفسير ظواهر الطبيعة، التي تبدو لدى المشاهدة أو التجربة، واستكشاف حقائق وأسرار جديدة. ومهما استطاعت ان تستكشف مزيدا من الحقائق المجهولة، ثم تؤكد التجربة بعد ذلك صحة استكشافها، ازدادت رسوخا ووضوحا في الذهنية العلمية. ولذلك عد من الانتصارات الكبرى لقانون الجاذبية العامة، ان استكشف العلماء كوكب (نبتون)، على ضوء قانون الجاذبية، ومعادلاته الرياضية. ثم أيدت وجوده المشاهدات العلمية بعدئذ. وهذا أيضا ليس الا لونا من ألوان شدة الوثوق العلمي. بصحة النظرية وصوابها.
ثم ان حالف التوفيق النظرية في المجال العلمي على طول الخط، ثبتت نهائيا. وأما إذا بدأت تضيق عن الانطباق على الواقع المدروس علميا. بعد تدقيق الأجهزة والوسائل. وتعميق الملاحظة والفحص، فتبدأ النظرية عند ذاك مرحلة التعديل والتجديد، وفي هذه المرحلة قد تضطر المشاهدات والتجارب الجديدة، إلى تكميل النظرية العلمية السابقة، بمفاهيم جديدة، تضاف إلى النظرية السالفة، ليتم بذلك تفسير موحد للواقع التجريبي كله. وقد تكشف الدلائل العلمية عن خطأ النظرية السابقة، فتنهار ويعوض عنها بنظرية أخرى، على ضوء التجارب والمشاهدات.
وفي كل ذلك لا يمكن ان نفهم التطور العلمي فهما ديالكتيكيا، أو ان نتصور الحقيقة كما يفترضها الجدل، تنمو وتتحرك بموجب التناقضات المحتواة
216

في داخلها، فتتخذ في كل دور شكلا جديدا، وهي في تلك الاشكال جميعا حقيقة علمية متكاملة. فان هذا بعيد كل البعد عن الواقع العلمي للتفكير البشري. بل الشيء الذي يحدث في مجال التعديل العلمي، هو الظفر بحقائق جديدة تضاف إلى الحقيقة العلمية الثابتة، أو انكشاف خطأ النظرية السابقة، وصحة فكرة أخرى لتفسير الواقع.
فمن قبيل الأول: (الظفر بحقائق جديدة تضاف إلى الحقيقة العلمية الثابتة) ما وقع للنظرية الذرية (نظرية اتميسم) فإنها كانت فرضية، ثم صارت قانونا علميا بموجب التجارب، وبعد ذلك استطاعت الفيزياء، أن تتوصل على ضوء التجارب، إلى ان الذرة ليست هي الوحدة الأولية في المادة، بل هي تأتلف أيضا من اجزاء. وهكذا كملت النظرية الذرية بمفهوم علمي جديد، عن النواة والكهارب التي تتركب منها الذرة، فلم تنم الحقيقة وانما زادت الحقائق العلمية، والزيادة الكمية غير النمو الديالكتيكي والحركة الفلسفية في الحقيقة.
ومن قبيل الثاني: (انكشاف خطأ النظرية السابقة وصحة فكرة أخرى) ما حصل في قانون الجاذبية العامة، أي التفسير الميكانيكي الخاص للعالم في نظريات (نيوتن). فان هذا التفسير قد لوحظ عدم اتفاقه مع عدة من الظواهر الكهربائية والمغناطيسية، وعدم صلاحيته لتفسير كيفية صدور النور وانتشاره، إلى غير ذلك مما قام دليلا عند جملة من الفيزيائيين المتأخرين، على خطأ المفهوم (النيوتني) للعالم. وعلى هذا الأساس وضع (آنشتين) نظريته النسبية، التي صبها في تفسير رياضي للعالم، يختلف كل الاختلاف عن تفسير (نيوتن)، فهل يمكننا ان نقول ان نظرية (نيوتن)، ونظرية (آنشتين) في تفسير العالم، نظريتان حقيقيتان معا، وان الحقيقة تطورت ونمت، فأصبحت في قالب النظرية النسبية، بعد ان كانت في قالب الجاذبية العامة؟ وهل الزمان والمكان والثقل، هذا الثالوث الثابت المطلق في تفسير (نيوتن)، هو الحقيقة العلمية التي نمت وتحركت، طبقا لقانون التطور الديالكتيكي فتبدلت إلى نسبية في الزمان والمكان والثقل؟ أو هل القوة الجاذبية في نظرية (نيوتن) تطورت إلى انحناء في الفضاء، فأصبحت القوة الميكانيكية بالحركة خاصة هندسة للعالم
217

، تفسر بها حركة الأرض حول الشمس، وسائر الحركات الأخرى، كما يفسر بها انحراف الأشعة النووية؟
ان الشيء الوحيد المعقول، هو أن دقة التجارب أو تضافرها، أدى إلى ظهور خطأ النظرية السابقة، وعدم تمثل الحقيقة فيها. والتدليل على تمثل الحقيقة في تفسر آخر جديد (1).
وهكذا يتضح في النهاية ما أكدنا عليه، من أن التطور العلمي لا يعني ان الحقيقة تنمو وتتدرج، وانما معناه تكامل العلم، باعتباره كلا، أي باعتباره مجموعة نظريات وقوانين. ومعنى تكامله كذلك زيادة حقائقه وقلة أخطائه كميا.
وأخيرا نريد ان نعرف ماذا تستهدف الماركسية من تطور الحقيقة؟ ان الماركسية ترمي من وراء القول بتطور الحقيقة، وتطبيق الديالكتيك عليها إلى أمرين:
أولا: نفي الحقيقة المطلقة. لأن الحقيقة إذا كانت في حركة ونمو دائمين، فلا توجد حقائق ثابتة باشكال مطلقة، وبالتالي تتهدم الحقائق الثابتة الميتافيزيقية التي تدين بها الإلهية.
ثانيا: نفي الخطأ المطلق في سير التطور العلمي. فالتطور العلمي
في عرف الديالكتيك لا يعني ان النظرية السابقة خطأ بصورة مطلقة، بل هي حقيقة نسبية. أي انها حقيقة في مرحلة خاصة من التطور والنمو. وبهذا وضعت الماركسية ضمانات الحقيقة في مختلف أدوار التكامل العلمي.
وينهار كلا هذين الامرين، على ضوء التفسير الصحيح المعقول للتطور العلمي، بالمعنى الذي شرحناه. فهو بموجب هذا التفسير ليس نموا لحقيقة

(1) قارن ما ذكرناه، بالتفسير الماركسي للتحول في علم الميكانيك، الذي قدمه الدكتور (تقي آرني)، في كتابه (ماتريالسيم ديالكتيك) ص 23. إذ أقامه على أساس وجود الحقيقة في ميكانيك (نيوتن)، والميكانيك النسبي معا، وتطورها فيهما طبقا للديالكتيك.
218

معينة، بل انكشافات جديدة لحقائق لم تكن معلومة، وتصحيحات لأخطاء سابقة، وكل خطأ يصحح هو خطأ مطلق، وكل حقيقة تستكشف هي حقيقة مطلقة.
أضف إلى ذلك ان الماركسية وقعت في خلط أساسي، بين الحقيقة بمعنى الفكرة، والحقيقة بمعنى الواقع الموضوعي المستقل. فالميتافيزيقا تعتقد بوجود حقيقة مطلقة بالمعنى الثاني، فهي تؤمن بواقع موضوعي ثابت وراء حدود الطبيعة، ولا يتنافى هذا مع عدم ثبات الحقيقة بالمعنى الأول، وتطورها المستمر، فهب ان الحقيقة في ذهن الانسان، متطورة ومتحركة أبدا ودائما. فأي ضرر يلحق من ذلك بالواقع الميتافيزيقي المطلق الذي تعتقد به الإلهية، ما دمنا نقبل امكان وجود واقع موضوعي. مستقل عن الشعور والادراك؟ وانما يتم للماركسية ما تريد إذا أخذنا بالفلسفة المثالية، وقلنا: أن الواقع هو الحقيقة الموجودة في ذهننا فحسب، فإذا كانت الحقيقة في فكرنا متطورة ومتغيرة، فلا متسع للايمان بواقع مطلق، وأما إذا فرقنا بين الفكرة والواقع، وآمنا بامكان وجود واقع بصورة مستقلة عن الوعي والتفكير، فلا ضير في أن يوجد واقع مطلق خارج حدود الادراك، وان لم توجد حقيقة مطلقة في أفكارنا.
* 2 - تناقضات التطور
قال ستالين: ((ان نقطة الابتداء في الديالكتيك، خلافا للميتافيزية، هي وجهة النظر القائمة، على ان كل أشياء الطبيعة وحوادثها، تحوي تناقضات داخلية، لأن لها جميعها، جانبا سلبيا، وجانبا ايجابيا، ماضيا وحاضرا. وفيها جميعا عناصر تضمحل أو تتطور. فنضال هذه المتضادات هو المحتوي
219

الداخلي. لتحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية)) (1).
وقال ماوتسي تونغ:
((ان قانون التناقض في الأشياء، أي قانون وحدة الأضداد، وهو القانون الأساسي الأهم في الديالكتيك المادي)).
قال لينين: ((الديالكتيك بمعناه الدقيق، هو دراسة التناقض في صميم جوهر الأشياء)).
((وكثيرا ما كان لينين يدعو هذا القانون، بجوهر الديالكتيك، كما كان يدعوه بلب الديالكتيك)) (2).
هذا هو القانون الأساسي، الذي يزعمه الديالكتيك صالحا لتفسير الطبيعة والعالم، وتبرير الحركة الصاعدة، وما تزخر به من تطورات وقفزات. فهو حين أقصى من فلسفته مفهوم المبدأ الأول، واستبعد بصورة نهائية افتراض السبب الخارجي الأعمق، وجد نفسه مضطرا إلى اعطاء تبرير وتفسير، للجريان المستمر، والتغير الدائم في عالم المادة، ليشرح كيف تتطور المادة وتختلف عليها الألوان؟ أي ليحدد رصيد الحركة، والسبب الأعمق لظواهر الوجود، فافترض ان هذا الرصيد، يوجد في المحتوى الداخلي للمادة. فالمادة تنطوي على التموين المستمر للحركة. ولكن كيف تملك المادة هذا التموين؟ وهذا هو السؤال الرئيسي في المشكلة، التي تجيب عنه المادية الديالكتيكية، بأن المادة وحدة اضداد، ومجتمع نقائض. وإذا كانت الأضداد والنقائص كلها تنصهر في وحدة معينة، فمن الطبيعي أن يقوم بينها الصراع لكسب المعرفة. وينبثق التطور والتغير عن هذا الصراع، وبالتالي تحقق الطبيعة مراحل تكاملها عن هذا الطريق. وعلى هذا الأساس تخلت الماركسية عن مبدأ

(1) المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ص 12.
(2) حول التناقض ص 4.
220

عدم التناقض، واعتبرته من خصائص التفكير الميتافيزيقي، ومن أسس المنطق الشكلي، المتداعية بمعول الجدل القوي، كما يقرر كيدروف قائلا:
((نفهم بكلمة المنطق الشكلي المنطق الذي يرتكز فقط على قوانين الفكر الأربعة: الهوية، والتناقض، والعكس، والبرهان. والذي يقف عند هذا الحد. اما المنطق الديالكتي، فنحن نعتبر انه علم الفكر. الذي يرتكز على الطريقة الماركسية، المميزة بهذه الخطوط الأساسية الأربعة: الاقرار بالترابط العام، وبحركة التطور، وبقفزات التطور، وبتناقضات التطور)) (1).
هكذا نرى ان الديالكتيك، أقصى عن ميدانه أكثر الأفكار البشرية بدهية. فأنكر مبدأ عدم التناقض، وافترض التناقض - عوضا عنه - قانونا عاما للطبيعة والوجود. وهو في هذا الانكار والافتراض. يطبق مبدأ عدم التناقض بصورة لا شعورية، فان الجدلي حين يؤمن بالتناقضات الجدلية، وبالتفسير الديالكتي للطبيعة، يجد نفسه مضطرا إلى رفض مبدأ عدم التناقض، والتفسير الميتافيزيقي لها. ومن الواضح ان هذا ليس الا لأجل ان الطبيعة البشرية لا يمكن، ان توفق بين السلب والايجاب معا، بل تشعر ذاتيا بالتعارض المطلق بينهما، والا فلماذا رفضت الماركسية مبدأ عدم التناقض، واعتقدت ببطلانه؟ أليس ذلك لأنها آمنت بالتناقض، ولا يسعها أن تؤمن بعدمه، ما دامت آمنت بوجوده، وهكذا نعرف ان مبدأ عدم التناقض. هو المبدأ الأساسي العام، الذي لم يتجرد عنه التفكير البشري. حتى في لحظة التحمس للجدل والديالكتيك.
وقد كان من نتاج التناقض الديالكتيكي، ان اسقط مبدأ الهوية (أ هي أ) من قاموس الجدل أيضا، وأجيز ان يكون الشيء غير نفسه، بل التناقض الديالكتيكي العام يحتم ذلك، لأن كل شيء متضمن لنقيضه، ومعبر عن نفيه

(1) المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي ص 9.
221

في لحظة اثباته، فليست (أ هي أ) بصورة مطلقة، بل كل كائن هو نقيض ذاته ونفيها، كما يكون اثباتا لها، لأن كيانه متناقض بالصميم، ويحتوي على النفي والاثبات المتصارعين دائما، والمفجرين للحركة بهذا الصراع. ولم يحاول الماركسيون ان يبرهنوا على تناقضات الأشياء، أي على قانون الديالكتيك وأساسه الجدلي، الا بحشد من الأمثلة والظواهر، التي حاولوا ان يبرزوا بها تناقضات الطبيعة وجدلها. فالتناقض انما كان من قوانين المنطق الديالكتيكي، لان الطبيعة بنفسها متناقضة وديالكتيكية. بدليل ما يقدم لنا الحس، أو يكشف عنه العلم، من ضروب التناقض، التي تطيح بمبدأ عدم التناقض، وتجعله غير منسجم مع واقع الطبيعة وقوانينها، الحاكمة في مختلف ميادينها ومجالاتها.
وقد ألمعنا سابقا، إلى أن الماركسية لم تجد سبيلا لديناميكية الطبيعة، وجعل القوى الفعالة للحركة، محتوى داخليا لنفس المادة المتطورة، الا بأن تنطلق من التناقض، وتؤمن باجتماع النقائض في وحدة متطورة، تبعا لنضال تلك النقائض وصراعها.
فالمسألة في نظر الماركسية ذات حدين لا ثالث لهما: فاما ان نصوغ فكرتنا عن العالم، على المبدأ القائل بعدم التناقض، فلا يوجد النفي والاثبات، في صميم الأشياء، ولا يقوم فيها صراع المتناقضات. وبالتالي يتعين أن نفحص عن رصيد الحركة والتطور. في سبب أعلى من الطبيعة وتطوراتها. واما أن نشيد منطقنا على الاعتقاد بنفوذ التناقض، إلى صميم الأشياء، وتوحد الأضداد أو النفي والاثبات (1)، في كل كائن فتكون بذلك قد وجدنا سر التطور في التناقض الداخلي.

(1) يلاحظ في جميع النصوص الماركسية، انها تسيء استعمال كلمتي التناقض والتضاد، فتعتبرهما بمعنى واحد، مع ان الكلمتين ليستا مترادفتين في المصطلحات الفلسفية، فان التناقض هي حالة النفي والاثبات. والتضاد يعني إثباتين متعاكسين. فاستقامة الخط وعدم استقامته نقيضان، لأنهما من النفي والاثبات. واما استقامة الخط وانحناؤه فهما ضدان، ولا يصدق عليهما التناقض بمفهومه الفلسفي، لان كلا من الاستقامة والانحناء، ليس نفيا للآخر، وانما هو اثبات يقابل اثبات الآخر، وكذلك اساءت الماركسية فهم التضاد، أو استعمال كلمة التضاد، فاعتبرت الشيء المختلف عن الآخر ضدا له. فالفرخ ضد البيضة، والدجاجة ضد الفرخ، مع ان التضاد في المصطلحات الفلسفية، ليس مجرد اختلاف بين الأشياء فحسب. بل الضد هو الوصف الذي لا يمكن ان يجتمع مع الوصف الآخر في شيء واحد، ونحن نجري في الكتاب طبقا للاستعمالات الماركسية، لأجل التسهيل والتوضيح.
222

ولما كانت طبيعة في زعم الماركسية، تقدم الشواهد والدلائل في كل مجال وميدان، على ثبوت التناقض واجتماع النقائض والأضداد، فيجب الاخذ بوجهة النظر الثانية.
والواقع أن مبدأ عدم التناقض هو أعم القوانين، وأكثرها شمولا لجميع مجالات التطبيق، ولا تشذ عنه ظاهرة من ظواهر الوجود والكون مطلقا. وكل محاولة ديالكتيكية تستهدف الرد عليه، أو اظهار الطبيعة بمظهر تناقض، فهي محاولة بدائية، قائمة على سوء فهم لمبدأ عدم التناقض، أو على شيء من التضليل. فلنشرح قبل كل شيء مبدأ عدم التناقض بمفهومه الضروري، الذي اعتبره المنطق العام قاعدة رئيسية للفكر البشري، ونتناول بعد ذلك مظاهر التناقض المزعوم في الطبيعة والوجود، التي تستند إليها الماركسية في تركيز منطقها الديالكتي والإطاحة بمبدأي عدم التناقض والهوية. فنوضح انسجام تلك الظواهر معهما، وخلوهما عن التناقضات الديالكتيكية، وبذلك يفقد الديالكتيك سنده من الطبيعة، ودليله المادي، وبالتالي نقرر مدى عجزه عن تفسير العالم، وتبرير وجوده.
* 1 - ما هو مبدأ عدم التناقض؟
اما مبدأ عدم التناقض، هو المبدأ القائل بأن التناقض مستحيل، فلا يمكن ان يتفق النفي والاثبات، في حال من الأحوال. وهذا واضح. ولكن ما هو هذا التناقض الذي يرفضه هذا المبدأ. ولا يمكن للعقل قوله؟ فهل هو كل
223

نفي واثبات؟ كلا. فان كل نفي لا يناقض أي اثبات، وكل اثبات لا يتعارض مع كل نفي، وانما يتناقض الاثبات مع نفيه بالذات لا مع
نفي اثبات آخر، ووجود الشيء يتعارض بصورة أساسية مع عدم ذلك الشيء، لا مع عدم شيء آخر. ومعنى تعارضهما انهما لا يمكن ان يتوحدا أو يجتمعا. فالمربع ذو أربعة أضلاع، وهذه حقيقة هندسية ثابتة، والمثلث ليس له أربعة أضلاع، وهذا نفي صحيح ثابت أيضا، ولا تناقض مطلقا بين هذا لنفي وذاك الاثبات، لأن كلا منهما يتناول موضوعا خاصا، يختلف عن الموضوع الذي يتناوله الآخر. فالأضلاع الأربعة ثابتة في المربع، ومنفية في المثلث فلم تنف ما أثبتنا أو نثبت ما نفينا. وانما يوجد التناقض إذا كنا نثبت للمربع أضلاعا أربعة، وننفيها عنه أيضا، أو نثبتها للمثلث وننفيها عنه في نفس الوقت.
وبهذا الاعتبار نص المنطق الميتافيزيقي، على ان التناقض انما يكون بين النفي والاثبات الموحدين في ظروفهما. فإذا اختلفت ظروف النفي مع ظروف الاثبات، لم يكن الاثبات والنفي متناقضين. ولنأخذ عدة أمثلة للنفي والاثبات المختلفين في ظروفهما:
أ - الأربعة زوج. الثلاثة ليست زوجا. فالنفي والاثبات في هاتين القضيتين، لا تناقض بينهما، لاختلاف كل منهما عن الآخر بالموضوع، الذي يعالجه. فالاثبات تعلق بالأربعة، والنفي تعلق بالثلاثة.
ب - الانسان سريع التصديق حال الطفولة، الانسان ليس سريع التصديق في دور الشباب والنضح. فقد تعلق النفي والاثبات في هاتين القضيتين بالانسان، ولكن كلا منهما له زمانه الخاص، الذي يختلف عن زمان الآخر، فلا يوجد تناقض بين النفي والاثبات.
ج - الطفل ليس عالما بالفعل. الطفل عالم بالقوة، أي يمكن ان يكون عالما, وهنا أيضا نواجه نفيا واثباتا غير متناقضين. لأننا في القضية الأولى لم ننف نفس الاثبات، الذي تحتويه القضية الثانية، فالقضية الأولى تنفي وجود صفة العلم لدى الطفل، والقضية الأخرى لا تثبت وجود الصفة. وانما تثبت
224

امكانها. أي قابلية الطفل واستعداده الخاص لاكتسابها. فقوة العلم هي التي تثبتها هذه القضية للطفل، لا وجود العلم له فعلا.
وهكذا نعرف ان التناقض بين النفي والاثبات، انما يتحقق فيما إذا اشتركا في الموضوع الذي يتناولانه، واتفقا في الشروط والظروف المكانية والزمانية وغيرها. واما إذا لم يتحد النفي والاثبات في كل هذه الشروط والظروف. فليس بينهما تناقض. ولا يوجد الشخص أو المنطق الذي يحكم باستحالة صدقهما في هذا الحال.
* - كيف فهمت الماركسية التناقض؟
بعد أن درسنا مفهوم التناقض. ومحتوى المبدأ الأساسي للمنطق العام (مبدأ عدم التناقض)، يجب أن نلقي ضوءا على فهم الماركسية لهذا المبدأ. والمبررات التي استندت إليها في الرد عليه.
وليس من الصعب أن يدرك الانسان ان الماركسية لم تستطع، أو لم تشأ أن تعي هذا المبدأ بمفهومه الصحيح، فأنكرته تحقيقا لماديتها.
وحشدت عددا من الأمثلة التي لا تنسجم معه. في زعمها، وبالتالي وضعت التناقض والصراع بين النقائض والأضداد قاعدة لمنطقها الجديد. وملأت الدنيا ضجيجا بهذه القاعدة وتبجحا على المنطق البشري العام بابتكارها أو اكتشافهما.
ولأجل أن نتبين مدى الخطأ الذي وقعت فيه الماركسية. والذي دفعها إلى رفض مبدأ عدم التناقض. وما يقوم عليه من مبادئ عامة للمنطق الميتافيزيقي، يجب أن نفرق بوضوح بين أمرين، أحدهما الصراع بين أضداد ونقائض خارجية. والآخر الصراع بين أضداد ونقائض مجتمعة في وحدة معينة. فالثاني هو الذي يتنافى مع مبدأ عدم التناقض. واما الأول فلا علاقة له بالتناقض مطلقا. لأنه لا يعني اجتماع النقيضين أو الضدين. بل مرده إلى وجود كل منهما بصورة مستقلة. وقيام كفاح بينهما يؤدي إلى نتيجة معينة. فشكل الشاطئ - مثلا - نتج عن فعل متبادل بين أمواج الماء وتياراته.، التي
225

تصطدم بالأرض فتقرض الضفة
من ناحية. وصمود الأرض في وجه التيار، ودفعها لتلك الأمواج إلى
درجة معينة من ناحية أخرى. وشكل الاناء من الخزف نتج عن عملية قامت بين كتلة من الطين، ويد الخزاف.
فان كانت المادية الديالكتيكية، تعني هذا اللون من الصراع بين الأضداد الخارجية، فهذا لا يتعارض مطلقا مع مبدأ عدم التناقض، ولا يدعو إلى الايمان بالتناقض. الذي قام الفكر البشري منذ نشأ على رفضه، لان الأضداد لم تجتمع في وحدة، وانما وجد كل منهما بوجود مستقل في مجاله الخاص، واشتركا في عمل متبادل، حصلا به على نتيجة معينة، وأيضا فهو لا يبرر الاكتفاء الذاتي، والاستغناء عن سبب خارجي. فشكل الشاطئ أو شكل الاناء، لم يتحدد ولم يوجد بتطور، قائم على أساس التناقضات الداخلية، وانما حصل بعملية خارجية. حققها ضدان مستقلان. وهذا النحو من الصراع بين الأضداد الخارجية، وعملياتها المشتركة، ليس من مستكشفات المادية أو الديالكتيك، بل هو أمر واضح يقره كل منطق وكل فيلسوف - سواء كان ماديا أم كان إلهيا - منذ أبعد عصور الفلسفة المادية والإلهية، والى اليوم. ولنأخذ مثلا على ذلك أرسطو، امام المدرسة الميتافيزيقية في فلسفة اليونان، وانما نأخذه بالخصوص لا لأنه فيلسوف الهي فحسب، بل لأنه واضع قواعد المنطق العام - الذي يسميه الماركسيون بالمنطق الشكلي - ومبادئه وأسسه. فهو يؤمن بالصراع بين الأضداد الخارجية، مع اقامته للمنطق على مبدأ عدم التناقض، ولم يخطر على فكره أن شخصا سينبغ بعد مئات السنين، فيعتبر ذلك الصراع دليلا على سقوط هذا المبدأ الضروري. وفيما يلي شيء من نصوص أرسطو، في شأن الصراع بين الأضداد الخارجية: ((وعلى جملة من القول، ان شيئا مجانسا يمكن ان يقبل فعلا من قبل الشيء المجانس. والسبب فيه ان جميع الأضداد هي في جنس واحد، وان الأضداد تفعل بعضها في بعض، وتقبل بعضها من قبل البعض الآخر)) (1)

(1) الكون والفساد: ص 168 - 169.
226

((فبحسب الصورة قد انضم شيء ما لكل جزء كيف ما اتفق، ولكن لا بحسب المادة. ومع ذلك فان الكل صار أعظم، لان شيئا جاء وانضم اليه وهذا الشيء يسمى
الغذاء، ويسمى أيضا الضد، ولكن هذا الشيء لا يزيد من أن يتغير في النوع بعينه، كمثل ما يأتي الرطب ينضم إلى اليابس، وبانضمامه اليه يتغير، بأن يصير هو نفسه يابسا، وفي الواقع يمكن معا أن الشبيه ينمو بالشبيه، وبجهة أخرى ان يكون ذلك باللاشبيه)) (1).
وهكذا يتضح ان العمليات المشتركة للأضداد الخارجية، ليست كشفا للديالكتيك، ولا نقضا للمنطق الميتافيزيقي، ولا شيئا جديدا في الميدان الفلسفي وانما هي حقيقة مقررة بكل وضوح في مختلف الفلسفات. منذ فجر التاريخ الفلسفي، وليس فيها ما يحقق أغراض الماركسية الفلسفية، التي تستهدف تحقيقها على ضوء الديالكتيك.
وأما إذا كانت الماركسية تعني بالتناقض، مفهومه الحقيقي، الذي يجعل للحركة رصيدا داخليا، ويرفضه المبدأ الأساسي في منطقنا. فهذا ما لا يمكن لفكر سليم قبوله، ولا تملك الماركسية شاهدا عليه من الطبيعة، وظواهر الوجود مطلقا. وكل ما تعرض لنا الماركسية من تناقضات الطبيعة المزعومة، فهو لا يمت إلى الديالكتيك بصلة.
ولنعرض عدة من تلك الشواهد، التي حاولت أن تبرهن بها على منطقها الديالكتيكي، لنتبين مدى عجز الماركسية وفشلها، في الاستدلال على منطقها الخاص:
1 - تناقضات الحركة. قال هنري لوفافر:
((حين لا يجري شيء، فليست ثمة مناقضة. ومن ناحية مقابلة، حين لا يكون ثمة مناقضة لا يحدث شيء، ولا

(1) الكون والفساد ص 154.
227

يوجد أي شيء ولا يلاحظ ظهور أي نشاط، ولا يظهر شيء جديد.
وسواء أكان الأمر يتعلق بحال من الركود، أم التوازن المؤقت، أم بلحظة من الازدهار، فان الكائن أو الشيء غير المتناقض في ذاته، يكون في مرحلة ساكنة موقتا)) (1).
وقال ماوتسي تونغ:
((لقضية عمومية التناقض، أو الوجود المطلق للتناقض، معنى مزدوج. الأول هو ان التناقض قائم في عملية تطور كافة الأشياء. والثاني هو انه في عملية تطور كل شيء، تقوم حركة اضداد من البداية حتى النهاية. يقول انجلز: ان الحركة نفسها تناقض)) (2).
وهذه النصوص توضح أن الماركسية تؤمن بوجود تعارض بين قانون التطور والتكامل، وقانون عدم التناقض, وتعتقد ان التطور والتكامل لا يتحقق، الا على أساس تناقض مستمر. وما دام التطور أو الحركة محققين في دنيا الطبيعة، فيجب طرح فكرة عدم التناقض، والاخذ بالديالكتيك، ليفسر لنا الحركة بمختلف أشكالها وألوانها.
وقد ألمعنا سابقا - عند درس حركة التطور - إلى ان التطور والتكامل لا يتنافى مع مبدأ عدم التناقض، وان الفكرة القائلة بوجود التنافي بينهما، تقوم على أساس الخلط بين القوة والفعل. فالحركة هي في كل درجة اثبات بالفعل ونفي بالقوة. فالكائن الحي حينما تتطور جرثومته في البيض، حتى تصبح فرخا، ويصبح الفرخ دجاجة، لا يعني هذا التطور ان البيضة لم تكن في دورها الأول بيضة بالفعل، بل هي بيضة في الواقع، ودجاجة بالقوة، أي يمكن ان تصبح دجاجة. فقد اجتمع في صميم البيضة، امكان الدجاجة وصفة البيضة. لا صفة البيضة وصفة الدجاجة معا. بل قد عرفنا أكثر من ذلك، عرفنا ان الحركة التطورية لا يمكن فهمها، الا على ضوء مبدأ عدم

(1) كارل ماركس: ص 58.
(2) حول التناقض: ص 13.
228

التناقض. فان المتناقضات لو كان من الممكن ان تجتمع حقا في صميم الشيء، لما حصل تغير، ولما تبدل الشيء من حالة إلى حالة، ولما وجد بالتالي تغير وتطور.
وإذا كانت الماركسية تريد أن تدلنا على تناقض في عملية الحركة. يتنافى مع مبدأ عدم التناقض حقا، فلتقدم مثالا للتطور توجد فيه حركة ولا توجد، أي يصح فيه النفي والاثبات على التطور معا. فهل يجوز في مفهومها بعد ان أسقطت مبدأ عدم التناقض، ان يتطور الشيء ولا يتطور في وقت معا؟ فان كان هذا جائزا فلتدلنا على شاهد له في الطبيعة والوجود، وان لم يجز فليس ذلك الا اعترافا بمبدأ عدم التناقض وقواعد المنطق الميتافيزيقي.
2 - تناقضات الحياة، أو الجسم الحي. قال هنري لوفافر:
((ورغم ذلك أفليس من الواضح ان الحياة هي الولادة والنمو والتطور؟ غير ان الكائن الحي لا يمكن ان ينمو، دون ان يتغير ويتطور، يعني دون ان يكف عن كونه ما كان. وكي يصير رجلا عليه ان يترك الصبا ويفقده، وكل شيء يلازم السكون ينحط ويتأخر... إلى ان يقول " فكل كائن حي اذن يناضل الموت، لأنه يحمل موته في طوية ذاته)) (1)
وقال أنجلز:
((رأينا فيما سبق بأن قوام الحياة، هو ان الجسم الحي في كل لحظة هو هو نفسه، وفي عين تلك اللحظة هو ليس إياه، هو شيء آخر سواه. فالحياة اذن هي تناقض مستحكم، في الكائنات والعمليات ذاتها)) (2).
لاشك في أن الكائن الحي يحتوي على عمليتين - حياة وموت - متجددتين، وما دامت هاتان العمليتان تعملان عملهما فالحياة قائمة

(1) كارل ماركس: ص 60.
(2) ضد دوهرنك: ص 203.
229

. ولكن ليس في ذلك شيء من التناقض، لأننا إذا حللنا هاتين العمليتين، اللتين نضيفهما بادئ الامر إلى كائن حي واحد، نعرف ان عملية الموت وعملية الحياة لا تتفقان في موضوع واحد. فالكائن الحي يستقبل في كل دور خلايا جديدة. ويودع خلايا بالية. فالموت والحياة يتقاسمان
الخلايا، والخلية التي تفنى في لحظة. غير الخلية التي توجد وتحيا في
تلك اللحظة. وهكذا يبقى الكائن الحي الكبير متماسكا، لان عملية الحياة تعوضه عن الخلايا، التي ينسفها الموت بخلايا جديدة، فتستمر الحياة حتى تنتهي امكاناته. وتنطفئ شعلة الحياة منه. وانما يوجد التناقض لو ان الموت والحياة استوعبا في لحظة خاصة، جميع خلايا الكائن الحي. وهذا ما لا نعرفه من طبيعة الحياة، والاحياء. فان الكائن الحي لا يحمل في طياته الا امكان الموت، وامكان الموت لا يناقض الحياة، وانما يناقضها الموت بالفعل.
3 - التناقض في مقدرة الانسان على المعرفة، قال انجلز يعرض مبدأ التناقض في الديالكتيك: ((كما رأينا بأن التناقض مثلا، بين مقدرة الانسان على المعرفة مقدرة متأصلة ولا محدودة، وبين تحقيق هذه المقدرة تحققا فعليا في البشر، الذين هم مقيدون بظروفهم الخارجية، وبقابلياتهم الذهنية، يجد حلوله في تعاقب الأجيال تعاقبا لا محدودا، في التقدم اللامتناهي، بالنسبة لنا على الأقل، وبحسب وجهة النظر العملية)) (1).
نجد في هذا مثالا جديدا، لا على مبدأ التناقض، بل على عدم إجادة الماركسية فهم مبدأ عدم التناقض. فإنه إذا كان من الصحيح أن البشرية قادرة على المعرفة الكاملة، وأن كل بشر غير قادر على اكتساب تلك المعرفة بمفرده، فليس هذا مصداقا للديالكتيك، ولا ظاهرة شاذة عن المنطق الميتافيزيقي، ومبدئه الأساسي، بل هو نظير تأكيدنا على أن الجيش قادر على الدفاع عن

(1) ضد دوهرنك: ص 203 - 204.
230

البلد، وأن كل فرد منهم لا يملك هذه القدرة. فهل هذا هو التناقض؟ وهل هذا هو الذي ارتكز المنطق الميتافيزيقي على رفضه؟ كلا. فان التناقض انما يقوم بين النفي والاثبات، فيما إذا تناولا موضوعا واحدا. وأما إذا تناول الاثبات البشرية بمجموعها، وتناول النفي كل فرد بصورة مستقلة - كما في المثال الذي عرضه أنجلز - فلا يوجد عندئذ تعارض بين النفي والاثبات.
4 - التناقض في الفيزياء، بين الكهربائية الموجبة والسالبة (1). وهذا التناقض المزعوم، ينطوي على خطأين:
الأول: اعتبار الشحنة الموجبة والسالبة، من قبيل النفي والاثبات، والسلب والايجاب، نظرا إلى التعبير العلمي عن إحداهما بالموجبة، وعن الأخرى بالسالبة، مع أنا جميعا نعلم أن هذا التعبير، مجرد اصطلاح فيزيائي، ولا يعني أنهما نقيضان حقيقة، كما يتناقض النفي والاثبات، أو السلب والايجاب. فالكهربائية الموجبة هي المماثلة للكهربائية المتولدة في القضيب الزجاجي. المدلوك بقطعة من الحرير. والكهربائية السالبة هي المماثلة للكهربائية المتولدة على الأيونين، المدلوك بجلد الهر. فكل من الكهربائيتين نوع خاص من الشحنات الكهربائية، وليست إحداهما وجود الشيء، والأخرى عدما لذلك الشيء.
الثاني:
اعتبار التجاذب لونا من الاجتماع. وعلى هذا الأساس فسرت علاقة التجاذب القائمة بين الشحنة الموجبة، والشحنة السالبة بالتناقض، واعتبر هذا التناقض، مظهرا من مظاهر الديالكتيك، مع أن الواقع أن االسلبية والايجابية الكهربائيتين، لم تجتمعا في شحنة واحدة، وانما هما شحنتان مستقلتان تتجاذبان، كما يتجاذب القطبان المغناطيسيان المختلفان، من دون أن يعني ذلك وجود شحنة واحدة موجبة وسالبة في وقت واحد، أو وجود قطب مغناطيسي شمالي وجنوبي معا. فالتجاذب بين الشحنات المتخالفة، لون من ألوان التفاعل بين الأضداد الخارجية، المستقل بعضها في الوجود عن بعض.

(1) حول التناقض: ص 14.
231

وقد عرفنا فيما سبق، ان التفاعل بين الأضداد الخارجية ليس من الديالكتيك بشيء، ولا يمت إلى التناقض الذي يرفضه المنطق الميتافيزيقي بصلة، فالمسألة مسألة قوتين، تؤثر إحداهما في الأخرى، لا مسألة قوة تتناقض في محتواها الداخلي، كما يزعم الديالكتيك.
5 - تناقض الفعل، ورد الفعل في الميكانيك (1). فالقانون الميكانيكي - القائل ان لكل فعل رد فعل، يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه - مظهر من مظاهر التناقض الديالكتي، في زعم الماركسية.
ومرة أخرى نجد أنفسنا، مضطرين إلى التأكيد، على أن قانون نيوتن هذا، لا يبرر التناقضات الديالكتيكية، بلون من الألوان، لان الفعل ورد الفعل، قوتان قائمتان بجسمين، لا نقيضان مجتمعان في جسم واحد. فعجلتا السيارة الخلفيتان، تدفعان الأرض بقوة، وهذا هو الفعل. والأرض تدفع عجلتي السيارة بقوة أخرى، مساوية في المقدار ومعاكسة في الاتجاه للأولى، وهذا هو رد الفعل، وبسببه تتحرك السيارة، فلم يحتو الجسم الواحد على دفعين متناقضين. ولم يقم في محتواه الداخلي، صراع بين النفي والاثبات، بين النقيض والنقيض، بل السيارة تدفع الأرض من ناحية، والأرض تدفع السيارة من ناحية أخرى، والديالكتيك انما يحاول أن يشرح كيفية نمو الأشياء وحركتها، باحتوائها داخليا على قوتين متدافعتين، ونقيضين متخاصمين، يصارع كل منهما الآخر لينتصر عليه، ويبلور الشيء تبعا له، وأين هذا من قوتين خارجيتين، يتولد من إحداهما فعل خاص، ومن الأخرى رد الفعل. ونحن نعرف جميعا ان الزخمين المتعاكسين، اللذين يولدهما الفعل ورد الفعل، يقومان في جسمين، ولا يمكن ان يكونا في جسم واحد، لأنهما متعاكسان ومتنافيان، وليس هذا الا لأجل مبدأ عدم التناقض.
6 - تناقضات الحرب، التي يعرضها ماوتسي تونغ في قوله:
((والواقع ان الهجوم والدفاع في الحرب، والتقدم والتراجع، والنصر والهزيمة، كلها ظواهر متناقضة، ولا وجود

(1) حول التناقض: ص 14 - 15.
232

للواحدة من دون الثانية. وهذان الطرفان يتصارعان، كما انهما يتحدان ببعضهما فيؤلفان مجموع الحرب ويفرضان تطورهما، ويحلان مشكلاتها)) (1).
وفي الواقع ان هذا النص أكثر النصوص السابقة غرابة، إذ يعتبر فيها ماوتسي تونغ الحرب، كائنا حقيقيا ينطوي على النقيضين، على النصر والهزيمة، مع ان هذا المفهوم عن الحرب، لا يصح الا في ذهنية بدائية، تعودت على أخذ الأشياء، في إطارها العام. فالحرب في التحليل الفلسفي، عبارة عن كثرة من الحوادث، لم تتوحد الا في أسلوب التعبير، فالنصر غير الهزيمة، والجيش المنتصر غير الجيش المنهزم، والوسائل أو نقاط القوة، التي مهدت للانتصار، غير الوسائل أو نقاط الضعف، التي أدت إلى الهزيمة. والنتائج الحاسمة، التي أدت إليها الحرب، لم تكن بسبب صراع ديالكتيكي، وتناقضات موحدة، بل بسبب الصراع بين قوتين خارجيتين، وغلبة إحداهما على الأخرى.
7 - تناقضات الحكم، كما يتحدث عنها كيدروف قائلا.
((أيام كانت بساطة حكم، ومهما بدا عاديا هذا الحكم، فهو يحتوي على بذور، أو عناصر تناقضات ديالكتية، تتحرك وتنمو، داخل نطاق المعرفة البشرية كلها)) (2).
ويؤكد على ذلك لينين في قوله:
((البدء بأية قضية كانت، بأبسط القضايا، وأكثرها عادية وشيوعا... الخ... أوراق الشجر خضراء، إيفان هو رجل: (جوتشكا) هي كلبة الخ.. فحتى هنا أيضا... ديالكتيك. فالخاص هو عام... يعني أن الأضداد - والخاص هو ضد العام - هي متماثلة.... وحتى هنا أيضا ثمة مبادئ أولية، ثمة مفاهيم ضرورة ثمة صلة موضوعية للطبيعة

(1) حول التناقض: ص 14 - 15.
(2) المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي ص 20 - 21.
233

الخ.. فالعرضي والضروري، والظاهر، والجوهر، موجودة هنا. فأنا إذ أقول: إيفان هو رجل، وجوتشكا هي كلبة، وهذه ورقة شجر الخ.. انما أنبذ سلسلة من الرواميز، باعتبارها عرضية وأفصل الجوهري عن السطحي، وأثبت التعارض بينهما. وهكذا في كل قضية - كما في كل خلية - نستطيع أن نكشف بذور جميع عناصر الديالكتيك)) (1).
ولكن من حقنا ان نسأل لينين، عن صفة العموم، التي أسبغها على مدلول كلمة رجل، فهل هي صفة للفكرة، التي نكونها في ذهننا عن كلمة رجل، أو للواقع الموضوعي لهذه الكلمة؟ ولا يحتاج هذا السؤال إلى مزيد من التأمل، ليحصل على الإجابة الصحيحة. وهي أن العموم صفة الفكر لا صفة الواقع: ففكرتنا عن كلمة رجل تكون مفهوما عاما، يعبر عن مسميات جزئية كثيرة، فايفان رجل، وكيدروف رجل، ولينين رجل، بمعنى ان الفكرة التي نملكها عن لفظ الرجل، هي الحصيلة الذهنية المشتركة لتلك الافراد، وأما الواقع الموضوعي للرجل فهو شيء معين محدود دائما. وإذا أخذنا هذه الملاحظة، بعين الاعتبار، استطعنا ان نعرف، ان التناقض في قولنا إيفان رجل، انما يوجد إذا أردنا ان نحكم على فكرتنا الخاصة عن إيفان، بأنها نفس الفكرة العامة، التي نملكها
عن الرجل، فان هذا تناقض واضح، وهو لا يصح مطلقا، لأن الفكرة الخاصة عن إيفان، لا يمكن ان تكون هي نفس الفكرة العامة عن الرجل، والا لكان العام والخاص شيئا واحدا، كما حاوله لينين:
فنحن اذن إذا أخذنا إيفان كفكرة خاصة، ورجل كفكرة عامة، فسوف نجد أنفسنا في تناقض، حين نحاول ان نوحد بين الفكرتين، ولكن قولنا إيفان رجل، لا يعني في الواقع التوحيد بين الفكرتين، بل التوحيد بين الواقع الموضوعي، لكلمة إيفان، والواقع الموضوعي، لكلمة رجل، بمعنى ان اللفظين واقعا موضوعيا واحدا، ومن الواضح أن واقع رجل لا يناقض الواقع الخارجي لإيفان، بل هو نفسه بالذات - فلا ينطوي التوحيد بينهما على تناقض، وهكذا

(1) المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي ص 20 - 21.
234

يتضح ان التناقض - الذي زعمته الماركسية في قضية (إيفان رجل) - يقوم على أساس تفسير خاطئ للقضية، يعتبرها توحيدا بين فكرتين إحداهما عامة والأخرى خاصة، لا بين واقعين موضوعيين.
ومرة أخرى نسأل عن هذا التناقض المزعوم، في قضية (إيفان رجل)، ما هي حصيلته؟ وما هو الصراع الذي ينتج عن هذا التناقض؟ وما هو التطور المنبثق عنه؟ فان التناقضات الداخلية تشعل - في رأي الماركسية - الصراع، وتعتبر وقودا للتطور، فكيف تستطيع الماركسية ان تشرح لنا، كيف تتطور قضية (إيفان رجل)، وهل تعود بسبب تناقضاتها على شكل آخر؟
ونخلص من دراستنا للتناقضات الديالكتيكية المزعومة، إلى نتيجة وهي ان كل ما عرضته الماركسية من تناقضات، في الحقل الفلسفي أو العلمي، أو المجالات الاعتيادية العامة، ليست من التناقض، الذي يرفضه المبدأ الأساسي للمنطق الميتافيزيقي, ولا يمكن ان تعتبر دليلا على تفنيد هذا المبدأ. بل لا تعدو ان تكون كمعارضات (أوبوليدس) الملطي قبل الفي سنة، لمبدأ عدم التناقض. فقد كان يرد على هذا المبدأ قائلا: إذا تقدم أبوك إليك، وكان مقنعا فإنك لا تعرفه. اذن أنت تعرف أباك، ولا تعرفه في آن واحد. ومن البدهي ان هذه الألوان من المعارضة الساذجة، لا يمكن ان تحطم الضروري العام، في التفكر البشري، مبدأ عدم التناقض.
والحقيقة التي تبيناها في عدة من أمثلة التناقض الديالكتي. هي الصراع والتفاعل بين الأضداد الخارجية، وقد عرفنا فيما سبق ان هذا اللون من التفاعل بين الأضداد، ليس من مميزات الديالكتيك، بل هو من مقررات الميتافيزيقية، كما عرفناها في نصوص أرسطو.
ولو أردنا أن نقطع النظر، عن أخطاء الماركسية في فهم التناقض، وفشلها في محاولات الاستدلال، على قانون الديالكتيك، فسوف نجد مع ذلك. أن التناقض الديالكتي، لا يقدم لنا تفسيرا مقبولا للعالم، ولا يمكن فيه التعليل الصحيح، كما سوف نتبين ذلك في الجزء الرابع من هذه المسألة (المادة والله).
ومن الطريف ان نشير إلى مثل للتناقض قدمه أحد الكتاب المحدثين (1)

(1) محمد عبد الرحمن مرحبا، المسألة الفلسفية ص 103.
235

لتزييف مبدأ عدم التناقض قائلا ان مبدأ عدم التناقض يقرر ان كل كمية اما ان تكون متناهية أو غير متناهية ولا يمكن ان تكون متناهية وغير متناهية في وقت واحد لاستحالة التناقض، فإذا كان الامر كذلك فان نصف كمية متناهية يجب ان تكون متناهية دائما، انها لا يمكن ان تكون لا متناهية، والا كان مجموع كميتين لا متناهيتين متناهيا وهذا خلف، ففي السلسلة المحتوية على الكميات.
1، 1 / 2، 1 / 4، 1 / 8، 1 / 16، 1 / 32.
التي لكل واحدة منها نصف الكمية السابقة يجب ان يكون كل جزء منها متناهيا مهما امتدت السلسلة، فإذا استمرت إلى غير نهاية كان لدينا تتابع لا متناه من كميات كل واحدة منها متناهية فمجموع أجزاء السلسلة هو الآن مجموع عدد لا متناه لكميات متناهية، وهكذا فلا بد ان يكون لا متناهيا، ولكن قليلا من علم الحساب يظهر لنا انه
متناه إذ هو (2).
وهكذا يريد الكاتب ان يستنتج ان التناقض بين المتناهي وغير المتناهي سمح للقطبين المتناقضين ان يجتمعا في كمية واحدة، ولكن فاته ان الكمية التي ليست متناهية في مثاله هي غير الكمية المتناهية فلا تناقض لا ان كمية واحدة هي متناهية وغير متناهية بالرغم من مبدأ عدم التناقض، كما يحاول ان يستنتج.
وذلك ان هذه الكميات التي افترضها في السلسلة وكان لكل واحدة منها نصف الكمية السابقة، يمكننا ان نأخذها بما هي وحدات لنعدها كما نعد وحدات الجوز أو كما نعد حلقات سلسلة حديدية طويله. وفي هذه الحالة سوف نواجه عددا لا يتناهى من الوحدات، فالعدد الصحيح (1) هو الوحدة الأولى والكسر 1 / 2 هو الوحدة الثانية والكسر 1 / 4 هو الوحدة الثالثة. وهكذا
236

يزيد المجموع واحدا بعد واحد إلى غير نهاية فليس امامنا ونحن نجمع تلك الاعداد كوحدات (2) وانما نواجه عددا هائلا لا ينتهي، وأما إذا أردنا ان نجمع الكميات التي ترمز إليها تلك الاعداد فسوف نحصل على (2) فقط لأن المجموع الرياضي لتلك الكميات المتناقصة هو ذلك، فغير المتناهي اذن هو كمية نفس الاعداد المتعاطفة بما هي وحدات نجمع بعضها إلى بعض كما نجمع قلما إلى قلم أو جوزة إلى جوزة، والمتناهي ليس هو كمية الاعداد المتعاطفة بوصفها وحدات وأشياء يمكن جمعها بل الكميات التي ترمز إليها تلك الاعداد، وبكلمة أخرى هناك كميتان إحداهما كمية نفس الاعداد بما هي وحدات، والأخرى كمية مدلولاتها الرياضية باعتبار ان كل عدد في السلسلة يرمز إلى كمية معينة، والأولى غير متناهية ومن المستحيل ان تتناهى والثانية متناهية ومن المستحيل ان تكون غير متناهية.
* الهدف السياسي من الحركة التناقضية
الحركة والتناقض - وهما الخطان الجدليان، اللذان نقدناهما بكل تفصيل - يشكلان معا قانون الحركة الديالكتيكية، أو قانون التناقض الحركي، المتطور على أسس الديالكتيك، أبدا ودائما.
وقد تبنت الماركسية هذا القانون، بصفته الناموس الأبدي للعالم. واستهدفت من ورائه ان تستثمره في الحقل السياسي لصالحها الخاص. فكان العمل السياسي هو الهدف الأول، الذي فرض على الماركسية أن تصبه في قالب فلسفي، يساعدها على انشاء سياسي جديد للعالم كله. وقد قالها ماركس في شيء من التلطيف:
((ان الفلاسفة لم يفعلوا شيئا. غير تأويل العالم، بطرق مختلفة، بيد أن الامر هو أمر تطويره)) (1)

(1) كارل ماركس ص 21، وهذه هي الديالكتيكية ص 78.
237

فالمسألة اذن هي مسألة التطوير السياسي المقترح، الذي لا بد ان يجد منطقا مبررا له، وفلسفة يرتكز على قوائمها، ولذلك كانت الماركسية تضع القانون، الذي يتفق مع مخططاتها السياسية، ثم تفتش في الميادين العلمية عن دليله، مؤمنة سلفا - وقبل كل دليل - بضرورة تبني ذلك القانون، ما دام يلقي شيئا من الضوء على طريق العمل والكفاح. ويحسن بنا ان نستمع بهذه المناسبة لا نجلز، وهو يحدث عن بحوثه التي قام بها في كتابه ضد دوهرنك:
((وغني عن البيان، بأنني كنت قد عمدت إلى سرد المواضيع،
في الرياضيات والعلوم الطبيعية. (سردا عاجلا) وملخصا، بغية أن أطمئن تفصيلا - إلى ما لم أكن في شك منه بصورة عامة - إلى أن نفس القوانين الديالكتيكية للحركة، التي تسيطر على العفوية الظاهرة للحوادث في التاريخ، تشق طريقها في الطبيعة)) (1).
ففي هذا النصر، تلخص الماركسية لنا أسلوبها، في محاولاتها الفلسفية، وكيف وثقت كل الوثوق، باستكشاف قوانين العالم، وآمنت بصحتها، قبل ان تتبين مدى واقعيتها، في المجالات العلمية والرياضية، ثم حرصت بعد ذلك على أن تطبقها على تلك المجالات، وتخضع الطبيعة للديالكتيك في ((سرد عاجل)) - على حد تعبير أنجلز - مهما كلفها الأمر، ولو أثار ذلك احتجاج علماء الرياضيات أو الطبيعيات أنفسهم، كما يعترف بذلك أنجلز في عبارة قريبة من النص الذي نقلناه.
ولما كان الغرض الأساسي من انشاء هذا المنطق الجديد، ايجاد سلاح فكري للماركسية في معركتها السياسية، فمن الطبيعي اذن ان تبدأ - أولا وقبل كل شيء - بتطبيق القانون الديالكتيكي، على الحقل السياسي والاجتماعي. فقد فسرت المجتمع بكل أجزائه، طبقا لقانون الحركة التناقضية، أو التناقض الحركي وأخضعته للديالكتيك، الذي هو في زعمها قانون الفكر والعالم

(1) ضد دوهرنك: الاقتصاد السياسي ص 193.
238

الخارجي معا. فافترضت ان المجتمع يتطور ويتحرك، طبقا للتناقضات الطبقية المحتواة في داخله، ويتخذ في كل دور من أدوار التطور شكلا اجتماعيا جديدا، ينسجم مع الوجود الطبقي الغالب في المجتمع، ويبدأ الصراع بعد ذلك من جديد، على أساس
التناقضات المحتواة في ذلك الشكل. وترتيبا على ذلك استنتجت الماركسية ان المحتوى التحليلي للمجتمع الرأسمالي، هو الصراع بين التناقضات، التي ينطوي عليها، بين الطبقة العاملة من ناحية، والطبقة الرأسمالية من ناحية أخرى. وان هذا الصراع يمد المجتمع بالحركة التطورية، التي سوف تحل التناقض الرأسمالي، حين تسلم القيادة إلى الطبقة العاملة، المتمثلة في الحزب القائم، على أساس المادية الديالكتيكية، والذي يستطيع أن يتبنى مصالحها بأسلوب علمي رصين.
ونحن لا نريد - الآن - ان نناقش الماركسية في تفسيرها الديالكتيكي للمجتمع وتطوراته، هذا التفسير الذي ينهار طبيعيا، بنقد الديالكتيك، كمنطق عام وتزييفه، كما حققناه في دراستنا هذه، فان المادية التاريخية، سوف نخصها بدراسة نقدية مفصلة في كتاب مجتمعنا أو اقتصادنا (1). وانما نرمي الآن إلى توضيح نقطة مهمة، في هذا التطبيق الاجتماعي للديالكتيك، يمس المنطق الديالكتي نفسه بصورة عامة، وهذه النقطة هي ان التطبيق الاجتماعي والسياسي للديالكتيك، على النحو الذي تقوم به الماركسية، يؤدي إلى نقض الديالكتيك رأسا. فان الحركة التطورية للمجتمع، إذا كانت تستمد وقودها الضروري من الصراع الطبقي بين المتناقضات، التي يضمها الهيكل الاجتماعي العام. وإذا كان هذا التعليل التناقضي للحركة، هو التفسير الوحيد للتاريخ والمجتمع، فسوف تسكن الحركة في نهاية المطاف حتما، وتصبح فوارق
التناقضات، وحياتها الحركية سكونا وجمودا. ذلك ان الماركسية تعتبر المرحلة التي تتوفر على انشائها، وتحاول ايصال الركب البشري إليها، هي المرحلة التي تنعدم فيها الطبقية، ويعود المجتمع فيها مجتمع الطبقة الواحدة.

(3) وقد صدر كتاب (اقتصادنا) وهو يستوعب أوسع دراسة للمادية التاريخية في ضوء الأسس الفلسفية وفي ضوء المجرى العام لتاريخ الانسانية في واقع الحياة.
239

وإذا قضي على التنوع الطبقي في المجتمع الاشتراكي المقترح، انطفأت شعلة الصراع، وتلاشت الحركات التناقضية نهائيا، وجمد المجتمع على شكل ثابت لا يحيد عنه، لأن الوقود الوحيد للتطور الاجتماعي - في رأي الماركسية - هو أسطورة التناقض الطبقي، التي اخترعها، فإذا زال هذا التناقض، كان معنى ذلك تحرر المجتمع من أسر الديالكتيك، فيتنحى الجدل عن مقام السيطرة والتحكم في العالم.
وهكذا نعرف ان تفسير الماركسية للتطور الاجتماعي، على أساس التناقض الطبقي، والأصول الديالكتيكية، يؤدي إلى فرض حد نهائي لهذا التطور. وعلى العكس من ذلك ما إذا وضعنا جذوة التطور. أو وقود الحركة في الوعي أو الفكر، أو أي شيء غير التناقض الطبقي، الذي تتخذه الماركسية رصيدا عاما، لجميع التطورات والحركات.
أفليس من الجدير بعد هذا، ان ننعت التفسير الديالكتي للتاريخ والمجتمع، بأنه هو وحده التفسير الذي يحتم على البشرية الجمود والثبات، دون التفسير الذي يضع رصيد التطور في معين لا ينضب.
وهو الوعي بمختلف ألوانه؟
ودع عنك بعد هذا ما مني به التطور الديالكتي، للفكر البشري، الذي تتشدق به الماركسية، من تجميد على يد الماركسية نفسها، حين اتخذ الديالكتيك حقيقة مطلقة، ولا نهائية للعالم، وتبنته الدولة مذهبا رسميا، فوق كل بحث وجدال ومرجعا أعلى يجب إخضاع كل علم ومعرفة له، وتحجير كل فكر أو جهد ذهني، لا ينسجم معه ولا ينطلق من عنده فعادت الأفكار البشرية في مختلف مجالات الحياة أسيرة منطق خاص، وأصبحت المواهب والامكانات الفكرية، مضغوطة كلها في الدائرة التي رسمها للبشرية فلاسفة الدولة الرسميون.. اما كيف ندحض أسطورة التناقض الطبقي؟ وكيف نكشف الستار عن مغالطات الجدل الماركسي، في تعيين تناقضات الملكية، وكيف نقدم التفسير
240

الصحيح للمجتمع والتاريخ؟ فهذا ما نقوم به في حلقات قادمة ان شاء الله تعالى (1)
(4) لاحظ كتاب (اقتصادنا) للمؤلف.
* 3 - قفزات التطور
قال ستالين:
((ان الديالكتيك خلافا للميتافيزيقية لا يعتبر حركة التطور حركة نمو بسيطة، لا تؤدي التغيرات الكمية فيها، إلى تغيرات كيفية - بل يعتبرها تطورا ينتقل من تغيرات كمية ضئيلة، وخفية، إلى تغيرات ظاهرة وأساسية، أي إلى تغيرات كيفية. وهذه التغيرات الكيفية ليست تدريجية، بل هي سريعة فجائية، وتحدث بقفزات، من حالة إلى أخرى. وليست هذه التغيرات جائزة الوقوع، بل هي ضرورية، وهي نتيجة تراكم تغيرات كمية غير محسوسة، وتدريجية. ولذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية، أن من الواجب فهم حركة التطور، لا من حيث هي حركة دائرية، أو تكرار بسيط للطريق ذاته، بل من حيث هي حركة تقدمية صاعدة، وانتقال من الحالة الكيفية القديمة إلى حالة كيفية جديدة)) (2).
يقرر الديالكتيك في هذا الخط، ان التطور الديالكتيكي للمادة لونان:
أحدهما تغير كمي تدريجي، يحصل ببطء، والآخر تغير نوعي فجائي، يحصل بصورة دفعية، نتيجة للتغيرات الكمية المتدرجة، بمعنى أن التغيرات الكمية - حين تبلغ نقطة الانتقال - تتحول من كمية إلى كيفية جديدة.

(1) لاحظ كتاب (اقتصادنا) للمؤلف
(2) المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية: ص 8 - 9.
241

وليس هذا التطور الديالكتي حركة دائرية للمادة، ترجع فيها إلى نفس مبدئها، بل هي حركة تكاملية صاعدة أبدا ودائما.
وحين يعترض على الماركسية هنا، بأن الطبيعة قد تتحرك حركات دائرية. كما في الثمرة التي تتطور إلى شجرة، ثم تعود بالتالي إلى ثمرة كما كانت، تجيب بأن هذه الحركة هي أيضا تكاملية، وليست دائرية، كالحركات التي يرسمها الفرجال، غير ان مرد التكامل فيها إلى الناحية الكمية لا الكيفية، فالثمرة ان عادت في نهاية شوطها الصاعد ثمرة أيضا، غير انها تكاملت تكاملا كميا، لان الشجرة - التي انبثقت عن ثمرة واحدة - أفرعت عن مئات الثمرات، فلم يتحقق رجوع للحركة أبدا.
وقبل كل شيء يجب ان نلاحظ الهدف الكامن وراء هذا الخط الديالكتي الجديد. فقد عرفنا ان الماركسية تضع الخطة العملية، للتطوير السياسي المطلوب، ثم تفتش عن المبررات المنطقية والفلسفية لتلك الخطة، فما هو التصميم الذي أنشئ هذا القانون الديالكتي لحسابه؟
ومن الميسور جدا الجواب على هذا السؤال، فان الماركسية رأت ان الشيء الوحيد الذي يشق الطريق إلى سيطرتها السياسية، أو إلى السيطرة السياسية للمصالح التي تتبناها، هو الانقلاب. فذهبت تفحص عن مستمسك فلسفي لهذا الانقلاب فلم تجده في قانوني الحركة والتناقض، لان هذين القانونين انما يحتمان على المجتمع أن يتطور، تبعا للتناقضات المتوحدة فيه. وأما طريقة التطور ودفعيته، فلا يكفي مبدأ الحركة التناقضية لايضاحها. ولذلك صار من الضروري أن يوضع قانون آخر، ترتكز عليه فكرة الانقلاب. وكان هذا القانون هو قانون قفزات التطور، القائل بتحولات دفعية للكمية إلى كيفية. وعلى أساس هذا القانون لم يعد الانقلاب جائزا فحسب، بل يكون ضروريا وحتميا، بموجب القوانين الكونية العامة. فالتغيرات الكمية التدريجية في المجتمع تتحول، بصورة انقلابية في منعطفات تاريخية كبرى إلى تغير نوعي. فيتهدم
الشكل الكيفي القديم للهيكل الاجتماعي العام، ويتحول إلى شكل جديد.
242

هكذا يصبح من الضروري - لا من المستحسن فقط - أن تنفجر تناقضات البناء الاجتماعي العام، عن مبدأ انقلابي جاف، تقصى فيه الطبقة المسيطرة سابقا، التي أصبحت ثانوية في عملية التناقض، ويحكم بإبادتها، ليفسح مجال السيطرة للنقيض الجديد، الذي رشحته التناقضات الداخلية، ليكون الطرف الرئيسي في عملية التناقض، قال ماركس وأنجلز:
((ولا يتدنى الشيوعيون إلى اخفاء آرائهم، ومقاصدهم، ومشاريعهم، يعلنون صراحة ان أهدافهم لا يمكن بلوغها وتحقيقها، الا بهدم كل النظام الاجتماعي التقليدي، بالعنف والقوة)) (1)
وقال لينين:
((ان الثورة البروليتارية غير ممكنة بدون تحطيم جهاز الدولة البورجوازي بالعنف)) (2).
وما على الماركسية بعد أن وضعت قانون القفزات التطورية، الا ان تفحص عن عدة أمثلة (فتسردها سردا عاجلا، على حد تعبير أنجلز) للتدليل بها على القانون المزعوم، بعمومه وشموله. وهذا ما قامت به الماركسية تماما، فقدمت لنا عددا من الأمثلة، وأقامت على أساسها قانونها العام.
ومن هاتيك الأمثلة التي ضربتها عليه، هو مثال الماء، حين يوضع على النار، فترتفع درجة حرارته بالتدريج، وتحدث بسبب هذا الارتفاع التدريجي، تغيرات كمية بطيئة، ولا يكون لهذه التغيرات في بادئ الامر، تأثير في حالة الماء، من حيث هو سائل، ولكن إذا زيدت حرارته إلى درجة (100) فسوف ينقلب في تلك اللحظة، عن حالة السيلان إلى الغازية، وتتحول الكمية إلى كيفية، وهكذا الامر إذا هبطت درجة حرارة الماء إلى الصفر، فان الماء سوف يتحول في آن واحد ويصبح جليدا (3).

(1) البيان الشيوعي: ص 8.
(2) أسس اللينينية: ص 66.
(3) ضد دوهرنك: ص 211 - 212 المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية: ص 10.
243

ويستعرض أنجلز أمثلة أخرى على قفزات الديالكتيك من الحوامض العضوية في الكيمياء، التي تختص كل واحدة منها بدرجة معينة، لانصهارها أو غليانها، وبمجرد بلوغ السائل تلك الدرجة، يقفز إلى حالة كيفية جديدة. فحامض النمليك - مثلا - درجة غليانه (100)، ودرجة انصهاره (15). وحامض الخليك نقطة غليانه (118)، ونقطة انصهاره (17) وهكذا... (1) فالمركبات (الهيدروكاربونية)، تجري طبقا لقانون القفزات، والتحولات الدفعية، في غليانها وانصهارها.
ونحن لا نشك في أن التطور الكيفي، في جملة من الظواهر الطبيعية، يتم بقفزات ودفعات آنية. كتطور الماء في المثال المدرسي السابق الذكر، وتطور الحوامض العضوية (الكربونية) في حالتي الغليان والانصهار وكما في جميع المركبات، التي تكون طبيعتها وخواصها متعلقة بالنسبة التي يتألف بحسبها كل منها. ولكن ليس معنى ذلك، أن من الضروري دائما، وفي جميع المجالات، ان يقفز التطور في مراحل معينة، ليكون تطورا كيفيا. ولا تكفي عدة أمثلة للتدليل العلمي أو الفلسفي، على حتمية هذه القفزات في تاريخ التطور، وخصوصا حين تنتقيها الماركسية انتقاء، وتهمل الأمثلة التي كانت تستعملها لايضاح قانون آخر من قوانين الديالكتيك، لا لشيء الا لأنها لا تنفق مع هذا القانون الجديد. فقد كانت الماركسية تمثل لتناقضات التطور، بالجرثومة الحية في داخل البيضة. التي تجنح إلى أن تكون فرخا (2) وبالبذرة التي تنطوي على نقيضها، فتتطور بسبب الصراع في محتواها الداخلي، فتكون شجرة، أفليس من حقنا أن نطالب الماركسية بإعادة النظر في هذه الأمثلة. لكي نعرف كيف تستطيع أن تشرح لنا قفزات التطور فيها؟ فهل صيرورة البذرة شجرة، أو الجرثومة فرخا (تطور تزالي آنتي تز)، أو صيرورة الفرخ دجاجة (تطور آنتي تز إلى سنتز)، تتأتى بقفزة من قفزات التطور الديالكتيكية، فتتحول الجرثومة في آن واحد إلى فرخ، والفرخ إلى دجاجة، والبذرة إلى شجرة. وان هذه

(1) ضد دوهرنك: ص 214.
(2) هذه هي الديالكتيكية: مبادئ الفلسفة الأولية، لجورج بوليتزر ص 10.
244

الصيرورات تحصل بحركة تدريجية متصاعدة. وحتى في المواد الكيماوية القابلة للانصهار، نجد اللونين من التطور معا. فكما يحصل فيها التطور بقفزة، كذلك قد يحصل بصورة تدريجية. فنحن نعلم - مثلا - ان المواد المتبلورة تتحول من حال الصلابة، إلى حالة السيولة بصورة فجائية، كالجليد الذي تساوي حرارة انصهاره (80) سعرة، فتتحول عند ذاك دفعة واحدة إلى سائل. وعلى عكس ذلك المواد غير المتبلورة، كالزجاج وشمع العسل، فإنها لا تنصهر ولا تتحول كيفيا، بصورة دفعية، وانما يتم انصهارها،
تدريجيا. فالشمع - مثلا - ترتفع حرارته أثناء عملية الانصهار، حتى
حتى إذا بلغت درجة معينة خفت فيه صلابة الشمع، وبدأ يلين ويسترخي بصورة تدريجية، مستقلة عن سائر الأشياء الأخرى، ويتدرج في حالة الليونة فلا هو بالصلب ولا هو بالسائل، حتى يستحيل مادة سائلة.
ولنأخذ مثلا آخر من الظواهر الاجتماعية وهو اللغة بوصفها ظاهرة تتطور وتتحول ولا تخضع لقانون الديالكتيك فان تاريخ اللغة لا يحدثنا عن تحولات كيفية آنية في سيرها التاريخي وانما يعبر عن تحولات تدريجية في اللغة من الناحية الكمية والكيفية فلو كانت اللغة خاضعة لقانون القفزات وتحول التغيرات الكمية التدريجية إلى تغير دفعي حاسم لكنا نستطيع أن نضع أصابعنا على نقاط فاصلة في حياة اللغة، تتحول فيها من شكل إلى شكل نتيجة للتغيرات الكمية البطيئة، وهذا ما لا نجده في كل اللغات التي عاشها الانسان واستخدمها في حياته الاجتماعية.
فنستطيع أن نعرف اذن، على ضوء مجموعة ظواهر الطبيعة، ان القفزة والدفعية ليستا ضروريتين للتطور الكيفي، وان التطور كما يكون دفعيا، يكون تدريجيا أيضا.
ولنأخذ بعد ذلك المثال المدرسي السابق، مثال الماء، في انجماده وغليانه، فنلاحظ عليه:
أولا: ان الحركة التطورية التي يحتويها المثال، ليست حركة ديالكتيكية لان التجربة لا تبرهن على انبثاقها، عن تناقضات المحتوى الداخلي للماء، كما
245

تفرضه تناقضات التطور في الديالكتيك. فنحن جميعا نعلم ان الماء لولا الحرارة الخارجية، لبقي ماء، ولما تطور إلى غاز، فلم يتم التطور الانقلابي للماء اذن بصورة ديالكتيكية، فإذا أردنا أن نعتبر القانون، الذي يتحكم في الانقلابات الاجتماعية هو نفس القانون الذي تم بموجبه الانقلاب الدفعي في الماء، أو في سائر المركبات الكيماوية - كما تحاول الماركسية - لأدى ذلك إلى نتيجة مغايرة لما رمت اليه، إذ تصبح القفزات التطورية في النظام الاجتماعي، انقلابات منبثقة عن عوامل خارجية، لا عن مجرد التناقضات المحتواة في نفس النظام، وتزول صفة الحتمية عن تلك القفزات، وتكون غير ضرورية إذا لم تكتمل العوامل الخارجية.
ومن الواضح اننا كما يمكننا ان نتحفظ على حالة السيلان للماء، ونبعده عن العوامل التي تجعله يقفز إلى حالة الغازية، كذلك يصبح بالامكان الحفاظ على النظام الاجتماعي، والابتعاد به عن الأسباب الخارجية، التي تكتب عليه الفناء. وهكذا يتضح ان تطبيق قانون ديالكتي واحد، على التطورات الدفعية للماء، في غليانه وتجمده، وعلى المجتمع في انقلاباته، يسجل نتائج معكوسة لما يترقب الديالكتيك.
ثانيا: ان الحركة التطورية في الماء ليست حركة صاعدة، بل هي حركة دائرية، يتطور فيها الماء إلى بخار، ويعود البخار كما كان. دون أن ينتج عن ذلك تكامل كمي أو كيفي، فإذا اعتبرت هذه الحركة ديالكتيكية، كان معناه انه ليس من الضروري، ان تكون الحركة صاعدة وتقدمية دائما، ولا من المحتوم ان يكون التطور الديالكتي، في ميادين الطبيعة، أو الاجتماع تكامليا وارتقائيا.
ثالثا: ان نفس القفزة التطورية للماء إلى غاز، التي حققها بلوغ الحرارة درجة معينة، لا يجب ان تستوعب الماء كله في وقت واحد. فان كل انسان يعلم ان البحار والمحيطات، تتبخر كميات مختلفة من مياهها تبخرا تدريجيا، ولا تقفز بمجموعها مرة واحدة إلى الحالة الغازية، وهذا ينتج ان التطور الكيفي - في المجالات التي يكون فيها دفعيا - لا يتحتم ان يتناول الكائن
246

المتطور ككل، بل قد يبدأ بأجزائه فيقفز بها إلى حالة الغازية، وتتعاقب القفزات وتتكرر الدفعات، حتى يتحول المجموع. وقد لا يستطيع التحول الكيفي أن يشمل المجموع، فيبقى مقصورا على الاجزاء، التي توفرت فيها الشروط الخارجية للانقلاب. وإذا كان هذا هو كل ما يعنيه القانون الديالكتي بالنسبة إلى الطبيعة، فلماذا يجب أن تفرض القفزة في الميدان الاجتماعي على النظام ككل؟ ولماذا يلزم في الناموس الطبيعي للمجتمعات، أن يهدم الكيان الاجتماعي في كل مرحلة بانقلاب دفعي شامل؟. ولماذا لا يمكن أن تتخذ القفزة الديالكتيكية المزعومة في الحقل الاجتماعي، نفس أسلوبها في الحقل الطبيعي، فلا تمس الا الجوانب التي توفرت فيها شروط الانقلاب، ثم تندرج حتى يتحقق التحول العام في نهاية الامر؟
وأخيرا فان تحول الكمية إلى كيفية لا يمكن أن نطبقه بأمانة على مثال الماء، الذي يتحول إلى غاز أو جليد وفقا لصعود درجة الحرارة فيه وهبوطها كما صنعت الماركسية، لان الماركسية اعتبرت الحرارة كمية والغاز أو الجليد كيفية، فقررت ان الكمية في المثال تحولت إلى كيفية وهذا المفهوم الماركسي للحرارة أو للغاز والجليد لا يقوم على أساس، لان التعبير الكمي عن الحرارة الذي يستعمله العلم حين يقول ان درجة حرارة الماء مئة أو خمسة ليس هو جوهر الحرارة، وانما هو مظهر للأسلوب العلمي في رد الظواهر الطبيعية إلى كميات ليسهل ضبطها وتحديدها. فعلى أساس الطريقة العلمية في التعبير عن الأشياء، يمكن ان تعتبر الحرارة كمية، غير ان الطريقة العلمية لا تعتبر الحرارة ظاهرة كمية فحسب بل ان تحول الماء إلى بخار مثلا، يتخذ تعبيرا كميا أيضا، فهو ظاهرة كمية في اللغة العلمية كالحرارة تماما، لان العلم يحدد الانتقال من الحالة السائلة إلى الغازية بضغط يمكن قياسه كميا، أو بعلاقات وفواصل بين الذرات تقاس كميا كما تقاس الحرارة، ففي المنظار العلمي اذن لا توجد في المثال الا كميات تتحول بعضها إلى بعض، وأما في المنظار الحسي أي في مفهومنا الذي يوحي به إحساسنا بالحرارة حين نغمس يدنا في الماء. أو إحساسنا بالغاز حين نرى الماء يتحول بخارا، فالحرارة كالغاز حالة كيفية وهي
247

الحالة التي تبعث في نفوسنا شيئا من الانزعاج حين تكون الحرارة شديدة فالكيفية تتحول إلى كيفية.
وهكذا نجد ان الماء في حرارته وتبخره لا يمكن ان يعطي مثالا لتحول الكمية إلى كيفية، الا إذا تناقضنا فنظرنا إلى الحرارة بالمنظار العلمي والى الحالة الغازية بمنظار حسي.
ويحسن بنا أخيرا ان نختم الحديث عن قفزات التطور. بما أتحفنا به ماركس _ مثالا له - في كتابه رأس المال. فقد ذكر أنه ليس كل مقدار من النقود قابلا للتحويل إلى رأسمال اعتباطا، بل لا بد لحدوث هذا التحويل، من أن يكون المالك الفردي للنقد، حائزا قبل ذلك على حد أدنى من النقود، يفسح له معيشة مضاعفة عن مستوى معيشة العامل الاعتيادي. ويتوقف ذلك على أن يكون في امكانه تسخير ثمانية عمال.
وأخذ في توضيح ذلك على أساس مفاهيمه الاقتصادية الرئيسية من القيمة الفائضة، والرأسمال المتحول، والرأسمال الثابت. فاستشهد بقضية العامل، الذي يشتغل ثماني ساعات لنفسه، أي في انتاج قيمة أجوره ويشتغل الساعات الأربع التالية للرأسمالي، في انتاج القيمة الزائدة، التي يربحها صاحب المال. ومن المحتم على الرأسمالي في هذه الحالة، أن يكون تحت تصرفه مقدار من القيم، يكفي لتمكينه من تزويد عاملين بالمواد الخام، وأدوات العمل، والأجور، بغية ان يمتلك يوميا قيمة زائدة، تكفي لتمكينه من ان يقتات بها، كما يقتات أحد عامليه. ولكن بما ان هدف الرأسمالي ليس هو مجرد الاقتيات، بل زيادة الثروة، فان منتجنا هذا سيظل - بعامليه هذين ليس برأسمالي. ولكيما يتسنى له أن يعيش عيشة، تكون في مستواها ضعف عيشة العامل الاعتيادي، مع تحويل نصف القيمة الزائدة المنتجة إلى رأسمال، يتحتم عليه ان يكون متمكنا من تشغيل ثمانية عمال.
وأخيرا علق ماركس على ذلك قائلا: وفي هذا كما في العلم الطبيعي تتأيد صحة القانون، الذي اكتشفه هيجل، قانون تحول التغيرات الكمية إذ تبلغ
248

حدا معينا، إلى تغيرات نوعية (1).
وهذا المثال الماركسي يدلنا بوضوح، على مدى التسامح الذي تبديه الماركسية، في (سرد الأمثلة سردا عاجلا)، على قوانينها المزعومة. ولئن كان التسامح في كل مجال خيرا وفضيلة، فهو في المجال العلمي وخاصة عندما يراد استكشاف اسرار الكون، لانشاء عالم جديد، على ضوء تلك الاسرار والقوانين - تقصير لا يغتفر.
ولا نريد الآن بطبيعة الحال، ان نتناول فعلا المسائل الاقتصادية، التي يرتكز عليها المثال، مما يتصل بالقيمة الزائدة، ومفهوم الربح الرأسمالي لدى ماركس وانما يهمنا التطبيق الفلسفي، لقانون القفزة، على رأس المال. فلنقطع النظر عن سائر النواحي، ونتيجة إلى درس هذه الناحية. فان ماركس يذهب إلى ان النقد يمر، بتغيرات كمية بسيطة، تحصل بالتدريج، حتى إذا بلغ ربحه حدا معينا، حصل الانقلاب النوعي، والتحول الكيفي، بصورة دفعية، وأصبح النقد رأسمالا. وهذا الحد هو ضعف معيشة العامل الاعتيادي، بعد تحويل النصف إلى رأسمال من جديد. وما لم يبلغ هذه الدرجة، لا يوجد فيه التغير الكيفي الأساسي، ولا يكون رأسمالا. فرأس المال اذن، لفظ يطلقه ماركس على مقدار معين من النقود. ولكل انسان مطلق الحرية في اطلاقاته ومصطلحاته،
فلتكن هذه التسمية صحيحة، ولكن ليس من الصحيح، ولا من المفهوم فلسفيا، ان يعتبر بلوغ النقد هذا الحد الخاص، تحولا كيفيا له، وقفزة من نوع إلى نوع. فان بلوغ النقد إلى هذا الحد، لا يعني الا زيادة كمية، ولا ينتج عنها تحول كيفي في النقد، غير ما كان ينتج عن الزيادات الكمية التدريجية، على طول الخط. وإذا شئنا فلنرجع إلى المراحل السابقة، من تطور النقد، لعناصره، في تغيراته الكمية المتتالية. فلو ان المالك الفردي كان يملك النقد، الذي يتيح له أن يجهز سبعة عمال، بأدواتهم وأجورهم، فماذا كان يربح على زعم ماركس؟ انه كان يربح قيمة فائضة، تعادل أجور

(7) ضد دوهرنك ص 210.
249

ثلاثة عمال ونصف، أي ما يعادل (28) ساعة من العمل في الحسابات الماركسية، ولأجل هذا فهو ليس رأسماليا، لأن القيمة الفائضة إذا حول نصفها إلى رأس مال، لا يبقى منها ما يضمن له معيشة عامل مضاعفة، فلو افترضنا زيادة كمية بسيطة في النقد، الذي يملكه، بحيث أصبح في امكان المالك ان يشتري - مضافا إلى ما كان يملك - جهود نصف يوم لعامل، أخذ يعمل له ست ساعات ولغيره ست ساعات أخرى فهو سوف يربح من هذا العامل، نصف ما يربحه من عمل كل واحد من العمال السبعة الآخرين، ومعنى هذا أن ربحه سوف يعادل (30) ساعة من العمل، وانه سيمكنه من معيشة أفضل مما سبق. وهنا نكرر الافتراض، فان في إمكاننا أن نتصور المالك، وهو يستطيع على أثر زيادة كمية جديدة، في نقده، أن يشتري من العامل الثامن، ثلاثة أرباع، ولا يبقى للعامل صلة بمحل آخر، الا بمقدار ثلاث ساعات فهل نواجه، عند هذا، غير ما واجهناه عند حدوث التغير الكمي السابق، من زيادة كمية في الربح وفي مستوى معيشة المالك. فهب ان المالك استطاع تضخيم نقده، بزيادة كمية جديدة، أتاحت له ان يشتري من العامل الثامن، كل جهده اليومي. فماذا سوف يحدث، غير ما كان يحدث على أثر الزيادات الكمية السابقة، من زيادة في القيمة الفائضة، وفي مستوى المعيشة؟ نعم يحدث للنقد شيء واحد، لم يكن قد حدث في المرات السابقة، شيء يتصل بالناحية اللفظية فقط، وهو أن هذا النقد لم يكن يتفضل عليه ماركس، باطلاق لفظ رأس المال، واما الآن فيصح أن يسمى بهذا اللفظ. أفهذا هو التغير النوعي والتحول الكيفي الذي يطرأ على النقد. وهل كل امتياز هذه المرحلة من النقد، عن المراحل السابقة، ناحية لفظية خالصة بحيث لو كنا نطلق لفظ رأس المال، على مرحلة سابقة لحدث التغير الكيفي في زمان أسبق؟
250

* 4 - الارتباط العام
قال ستالين:
((ان الديالكتيك خلافا للميتافيزية، لا يعتبر الطبيعة تراكما عرضيا للأشياء، أو حوادث بعضها منفصل عن بعض، أو أحدهما منعزل مستقل عن الآخر. بل يعتبر الطبيعة كلا واحدا متماسكا، ترتبط فيه الأشياء والحوادث فيما بينها، ارتباطا عضويا، ويتعلق أحدهما بالآخر. ويكون بعضها شرطا لبعض بصورة متقابلة)) (1).
فالطبيعة بأجزائها المتنوعة، لا يمكن أن تدرس على الطريقة الديالكتيكية حال فصل بعضها عن الآخر. وتجريده عن ظروفه وشروطه. وعما يرتبط بواقعه من ماض وحاضر، كما هو شأن الميتافيزيقية، التي لا تنظر إلى الطبيعة باعتبارها شبكة ارتباط واتصال، بل نظرة تجريدية خالصة. فكل حادثة لا يكون لها معنى في المفهوم الديالكتي، إذا عزلت عن الحوادث الأخرى المحيطة بها، ودرست بصورة ميتافيزيقية تجريدية.
والواقع انه لو كان يكفي لاسقاط فلسفة ما، الصاق التهم بها دون مبرر، لكانت الاتهامات التي تكيلها الماركسية - في خطها الجديد هذا - للمتيافيزيقية، كافية لدحضها، وتفنيد نظرتها الانعزالية إلى الطبيعة، المناقضة لروح الارتباط المكين، بين أجزاء الكون. ولكن لتقل لنا الماركسية من كان يشك في هذا الارتباط؟ وأي ميتافيزيقية هذه التي لا تقره، إذا أفرزت منه نقاط الضعف، التي تمثل الطابع الديالكتي له،
وأقيم على أساس فلسفي متين من مبدأ العلية وقوانينها (التي خصصنا الجزء الثالث من هذه المسألة لدراستها)؟ فان الحوادث في النظرة العامة للكون، لا تعدو أحد

(1) المادية الديالكتيكيه والمادية التاريخية: ص 6.
251

اشكال ثلاثة: فاما ان تكون مجموعة من الصدف المتراكمة، بمعنى ان كل حادثة توجد باتفاق بحت، دون ان تكون هناك
أي ضرورة تدعو إلى وجودها. وهذه هي النظرة الأولى. واما ان تكون اجزاء الطبيعة ضرورية، ضرورة ذاتية، فكل واحد منها يوجد بسبب من ضرورته الذاتية، دون احتياج إلى شيء خارجي، أو تأثر به. وهذه هي النظرة الثانية. وكلتا هاتين النظرتين لا تنسجمان مع مبدأ العلية القائل: ان كل حادثة ترتبط في وجودها بأسبابها، وشروطها الخاصة. لأن هذا المبدأ يرفض الصدفة والاتفاق، كما يرفض الضرورة الذاتية للحوادث. وبالتالي يعين نظرة أخرى نحو العالم، وهي النظرة التي يعتبر فيها العالم مرتبطا ارتباطا كاملا، طبقا لمبدأ العلية وقوانينها، ويحتل كل جزء منه موضعه الخاص من الكون، الذي تحتمه شرائط وجوده وقافلة أسبابه. وهذه هي النظرة الثالثة، التي تقيم الميتافيزيقية على أساسها فهمها للعالم. ولأجل ذلك كان سؤال: لماذا وجد؟ أحد الأسئلة الأربعة (1)، التي يعتبر المنطق الميتافيزيقي
الإحاطة العلمية بشيء، مرهونة بمدى الجواب عليها، فهذا يعني بكل وضوح أن الميتافيزيقية لا تقر مطلقا امكان عزل الحادثة عن محيطها وشروطها، وتجميد السؤال عن علاقاتها بالحوادث الأخرى.

(2) والأسئلة الأربعة هي كما يلي: ما هو؟ وهل هو موجود؟ وكيف هو؟ ولماذا وجد؟ ولاجل الايضاح نطبق هذه الأسئلة على احدى الظواهر الطبيعية، فلنأخذ الحرارة، لمواجهة هذه الأسئلة فيها: ما هي الحرارة؟ ونعني بهذا السؤال محاولة شرح مفهومها الخاص، فنجيب على ذلك - مثلا -: ان الحرارة نوع من أنواع الطاقة، وهل الحرارة موجودة في الطبيعة؟ ونجيب بالايجاب طبعا. وكيف هي، أي ما هي ظواهرها وخواصها؟ وهذا ما تجيب عنه الفيزياء، فيقال - مثلا - بأن من خواصها التسخين، والتمديد، والتقليص، وتغيير بعض الصفات الطبيعية للمادة الخ... وأخيرا فلماذا وجدت الحرارة؟ ومرد هذا السؤال إلى الاستفهام عن عوامل الحرارة وعللها، والشروط الخارجية التي ترتبط بها، فيجاب عنه - مثلا - ان الطاقة الحرارية تستوردها الأرض من الشمس، وتنبثق عنها الخ:
وبهذا تعرف ان المنطق الميتافيزي، وضع مسألة ارتباط الشيء بأسبابه وظروفه في مصاف المسائل الرئيسية الأخرى، التي تتناول حقيقته ووجوده وخواصه.
252

فليس الاعتقاد بالارتباط العام اذن، وقفا على الديالكتيك، بل هو مما تؤدي اليه حتما الأسس الفلسفية، التي شيدتها الميتافيزية، في بحوث العلية وقوانينها.
وأما مخططات هذا الارتباط، القائم بين اجزاء الطبيعة، والكشف عن تفاصيله وأسراره، فذلك ما توكله الميتافيزية إلى العلوم، على اختلاف ألوانها. فان المنطق الفلسفي العام للعالم، انما يضع الخط العريض. ويقيم نظريته الارتباطية، على ضوء العلية وقوانينها الفلسفية. ويبقى على العلم بعد ذلك، أن يشرح التفاصيل في الميادين، التي تتسع لها الوسائل العلمية، ويوضح الألوان الواقعية للارتباط، وأسرارها، ويضع فيها النقاط على الحروف.
وإذا أردنا أن ننصف الديالكتيك والميتافيزية حقهما معا، كان علينا ان نسجل أن الشيء الجديد، الذي جاء به الديالكتيك الماركسي. ليس هو نفس قانون الارتباط العام، الذي سبقت اليه الميتافيزية، بطريقتها الخاصة، والذي هو في نفس الوقت واضح لدى الجميع، وليس موضع النقاش... وانما سبقت الماركسية إلى الاغراض السياسية، أو بالأحرى إلى التطبيقات السياسية الخاصة، لذلك القانون، التي توفر لها امكان تنفيذ خططها وخرائطها. فنقطة الابتكار تتصل بالتطبيق، لا بالقانون، من حيث وجهته المنطقية والفلسفية. ولنقرأ بهذه المناسبة ما سجله الكاتب الماركسي (أميل برنز) عن الارتباط في المفهوم الماركسي، إذ كتب يقول: ((ان الطبيعة أو العالم. وبضمنه المجتمع الانساني، لم تتكون من أشياء متمايزة مستقلة، تمام الاستقلال عن بعضها البعض وكل عالم يعرف ذلك، ويجد صعوبة قصوى في تحديد التقديرات، حتى لأهم العوامل التي قد تؤثر في الأشياء الخاصة، التي يدرسها. ان الماء ماء، ولكن إذا زيدت حرارته إلى درجة معينة، تحول إلى بخار، وإذا انخفضت حرارته، استحال ثلجا. كما ان هناك عوامل أخرى تؤثر عليه. ويدرك كل شخص عامي أيضا: إذا ما خبر الأشياء، انه لا يوجد
253

شيء مستقل بذاته كل الاستقلال، وان كل شيء يتأثر بالأشياء الأخرى)).
((وقد يبدو هذا الترابط بين الأشياء بديهيا، إلى درجة يظهر معها أي سبب لألفات النظر اليه، ولكن الحقيقة هي: أن الناس لا يدركون الترابط بين الأشياء دائما، ولا يدركون أن ما هو حقيقي في ظروف معينة، قد لا يكون حقيقيا في ظروف أخرى، وهم دائما يطبقون أفكارا تكونت في ظروف خاصة، على ظروف أخرى، تختلف عنها تمام الاختلاف. وخير مثل يمكن أن يضرب في هذا الصدد، هو وجهة النظر حول حرية الكلام. ان حرية الكلام بصورة عامة تخدم الديمقراطية، وتفيد إرادة الشعب في الاعراب عن نفسها، ولذلك فهي مفيدة لتطور المجتمع، ولكن حرية الكلام للفاشية (المبدأ الأول الذي يحاول قمع الديموقراطية) أمر يختلف كل الاختلاف، إذ انه يوقف تطور المجتمع. ومهما تكرر النداء بحرية الكلام، فان ما يصح عنه في الظروف الاعتيادية، بالنسبة للأحزاب التي تهدف إلى الديموقراطية، لا يصح بالنسبة للأحزاب الفاشية)) (1).
هذا النص الماركسي يعترف، بأن الارتباط العام مفهوم لكل عالم، بل كل عامي خبر الأشياء - على حد تعبير (أميل برنز) - وليس شيئا جديدا في الفهم البشري العام. وانما الجديد الذي استهدفته الماركسية بذلك، نظرا إلى مدى الارتباط الوثيق، بين مسألة حرية الكلام والمسائل الأخرى، التي تدخل في حسابها. ونظير ذلك عدة تطبيقات أخرى من هذا القبيل، يمكننا ان نجدها في جملة من النصوص الماركسية الأخرى، فأين الكشف المنطقي الجبار للديالكتيك؟

(1) ما هي الماركسية ص 75 - 76
254

* نقطتان حول الارتباط العام:
ومن الضروري أن نشير في سياق الحديث، عن نظرية الارتباط العام في الميتافيزية، إلى نقطتين مهمتين:
النقطة الأولى: ان ارتباط كل جزء من أجزاء الطبيعة والكون، بما يتصل به من أسباب، وشرائط، وظروف - في المفهوم الميتافيزيقي - لا يعني عدم امكان ملاحظته بصورة مستقلة. ووضع تعريف خاص به. ولذلك كان التعريف أحد المواضيع التي يبحثها المنطق الميتافيزيقي. وأكبر الظن أن ذلك هو الذي بعث الماركسية، إلى اتهام الميتافيزيقيا بأنها لا تؤمن بالارتباط العام، ولا تدرس الكون على ذلك الأساس. إذ وجدت الميتافيزيقي يأخذ الشيء الواحد، فيحاول تحديده وتعريفه، بصورة مستقلة عن سائر الأشياء الأخرى، فخيل لها بسبب ذلك، أنه لا يقر بوجود الارتباط بين الأشياء، ولا يتناولها بالدرس الا في حال عزل بعضها عن الآخر. فكأنه حين عرف الانسانية بأنها: حياة وفكر. وعرف الحيوانية، بأنها حياة وإرادة، قد عزل الانسانية أو الحيوانية عن ظروفهما وملابستهما، ونظر اليهما نظرة مستقلة.
ولكن الواقع أن التعريفات، التي درج المنطق الميتافيزي على اعطائها لكل شيء، بصورة خاصة، لا تتنافى مطلقا مع المبدأ القائل بالارتباط العام بين الأشياء، ولا يقصد منه التفكيك بين الأشياء، والاكتفاء من دراستها باعطاء تلك التعريفات الخاصة لها. فنحن حين نعرف الانسانية بأنها حياة وفكر، لا نرمي من وراء ذلك إلى انكار ارتباط الانسانية، بالعوامل والأسباب الخارجية، وانما نقصد بالتعريف أن نعطي فكرة للشيء، الذي يرتبط بتلك العوامل والأسباب، ليتاح لنا أن نبحث عما يتصل به من عوامل وأسباب. وحتى الماركسية نفسها، تتخذ التعريف أسلوبا لتحقيق هذا الهدف نفسه، فهي تعرف الديالكتيك، وتعرف المادة الخ.... فقد عرف لينين الديالكتيك بأنه:
((علم القوانين العامة للحركة)) (1)

(1) ماركس انجلز والماركسية: ص 24.
255

وعرف المادة بأنها: ((هي الواقع الموضوعي المعطى لنا في الاحساس)) (1).
أفيكون من مفهوم هذه التعاريف، ان لينين فصل الديالكتيك عن سائر أجزاء المعرفة البشرية من العلوم، ولم يعتقد باتصالها به؟ وانه نظر إلى المادة بصورة تجريدية، ودرسها متغاضيا عما فيها من ارتباطات وتفاعلات؟ كلا. فان التعريف لا يعني في كثير أو قليل، تخطي الارتباط القائم بين الأشياء واهماله، وانما يحدد لنا المفهوم،
الذي نحاول الكشف عن روابطه وعلاقاته المتنوعة، ليسهل علينا التحدث عن تلك الروابط والعلاقات ودرسها.
النقطة الثانية: ان الارتباط بين أجزاء الطبيعة، لا يمكن أن يكون دوريا. ونقصد بذلك أن الحادثتين المرتبطتين - كالسخونة والحرارة - لا يمكن ان تكون كل منهما شرطا لوجود الحادثة الأخرى. فالحرارة لما كانت شرطا لوجود الغليان، فلا يمكن ان يكون الغليان شرطا لوجود الحرارة أيضا (2).
فكل جزء من الطبيعة - في سجل الارتباط العام - درجته الخاصة التي تحدد له ما يتصل به من شرائط تؤثر في وجوده، ومن ظواهر يؤثر هو في وجودها. واما ان يكون كل من الجزئين أو الحادثين سببا لوجود الآخر، ومدينا له بوجوده في نفس الوقت، فذلك يجعل الارتباط السببي دائريا يرجع من حيث بدأ وهو غير معقول.
وأخيرا، فلنقف لحظة عند انجلز، وهو يتحدث عن الارتباط العام، وتضافر البراهين العلمية عليه قائلا:

(1) ما هي المادية: ص 29.
(2) ولا يمكن ان يؤخذ التفاعل بين الأضداد الخارجية، دليلا على امكان ذلك لان التفاعل بين الأضداد الخارجية، لا يعني ان كل واحد منها شرط لوجود الآخر وسبب له، بل مرده في الحقيقة إلى اكتساب كل ضد صفة من الآخر. لم تكن موجودة عنده. فالشحنة السالبة والموجبة تتفاعلان، لا بمعنى ان كلا من الشحنتين وجدت بسبب الشحنة الأخرى، بل بمعنى ان الشحنة السالبة ولدت حالة انجذاب خاص في الشحنة الموجبة، وكذلك العكس.
256

((على أن ثمة اكتشافات ثلاثة بوجه خاص، قد تقدمت بخطوات العمالقة بمعرفتنا، لترابط العمليات التطورية الطبيعية. أولا: اكتشاف الخلية، بصفتها الوحدة التي تنمو منها العضوية النباتية والحيوانية كلها، بطريق التكاثر والتمايز، بحيث لم نعرف بأن تطور سائر العضويات العليا ونحوها، يتتابعان وفق قانون عام فحسب، بل ان قدرة الخلية كذلك على التحول، تبين الطريق الذي تستطيع العضويات بمقتضاه، ان تغير أنواعها، فتجتاز بذلك تطورا أكثر من ان يكون فرديا. ثانيا: اكتشاف تحول الطاقة الذي يبين ان سائر القوى المؤثرة أولا في الطبيعة غير العضوية.. يبين لنا ان هذه القوى بمجموعها، هي ظواهر مختلفة للحركة الكلية، تمر كل منها إلى الأخرى بنسب كمية معينة.. وأخيرا البرهان الشامل، الذي كان (داروين) أول من جاء به، والذي ينص على أن جملة ما يحيط بنا في الوقت الحاضر من منتجات الطبيعة - بما في ذلك البشر - ان هي الا نتائج عملية طويلة من التطور)) (1)
والواقع ان الاكتشاف الأول، هو من الكشوف العلمية التي انتصرت فيها الميتافيزيقا، لأنه برهن على أن مبدأ الحياة هو الخلية الحية (البروتوبلاسم)، فأزاح بذلك الوهم القائل بامكان قيام الحياة في أي مادة عضوية، تتوفر فيها عوامل مادية خاصة، ووضع حدا فاصلا بن الكائنات الحية وغيرها، نظرا إلى ان جرثومة الحياة الخاصة، وهي وحدها التي تحمل سرها العظيم. فاكتشاف الخلية الحية، في نفس الوقت الذي دلنا على أصل واحد للأجسام الحية. دلنا أيضا على مدى البون بين الكائن الحي وغيره.
وأما الاكتشاف الثاني، فهو الآخر أيضا يعد ظفرا عظيما للميتافيزيقا، لأنه

(1) لودفيج فيورباخ ص 88.
257

يثبت بطريقة علمية أن جميع الاشكال - التي تتخذها الطاقة، بما فيها الصفة المادية - هي صفات وخصائص عرضية. فتكون بحاجة إلى سبب خارجي، كما سنوضح ذلك في الجزء الرابع من هذه المسألة. أضف إلى ذلك ان الاكتشاف المذكور، يتعارض مع قوانين الديالكتيك.. لأنه يفترض للطاقة كمية محدودة ثابتة، لا تخضع للحركة الديالكتيكية، التي يزعم الجدل الماركسي صدقها على جميع جوانب الطبيعة وظواهرها. وإذا أثبت العلم استثناء جانب في الطبيعة من قوانين الديالكتيك، فقد زالت ضرورته وصفته القطعية.
وأما نظرية داروين عن تطور الأنواع، وخروج بعضها من بعض فهي لا تتفق أيضا مع قوانين الديالكتيك، ولا يمكن ان تتخذ سندا علميا للطريقة الديالكتيكية في تفسير الاحداث، فان داروين وبعض المساهمين معه في بناء النظرية وتعديلها يفسرون تطور نوع إلى نوع آخر على أساس ما يظفر به بعض افراد النوع القديم من ميزات وخصائص عن طريق صدفة ميكانيكية أو أسباب خارجية محددة، كالبيئة والمحيط وكل ميزة يحصل عليها الفرد تظل ثابتة فيه وتنتقل بالوراثة إلى أبنائه، وبذلك ينشأ جيل قوي بفضل هذه الميزات المكتسبة وفي خضم الصراع في سبيل القوت والبقاء بين الأقوياء من هذا الجيل وبين الضعاف من أفراد النوع الذين لم يظفروا بمثل تلك الميزات، يعمل قانون تنازع البقاء عمله فيفنى الضعيف ويبقى الافراد الأقوياء. وتتجمع المزايا عن طريق توريث كل جيل مزاياه التي حصل عليها بسبب ظروفه وبيئته التي عاشها للجيل الذي يتلوه، وهكذا حتى ينشأ نوع جديد يتمتع بمجموع المزايا التي اكتسبها أسلافه على مر الزمن.
ونحن نستطيع ان ندرك بوضوح مدى التناقض بين نظرية داروين هذه وبين الطريقة الديالكتيكية العامة.
فهناك الطابع الميكانيكي للنظرية يبدو بوضوح من خلال تفسير داروين لتطور الحيوان بأسباب خارجية، فالميزات والفروق الفردية التي يحصل عليها الجيل القوي من أفراد النوع ليست نتيجة لعملية تطورية ولا ثمرة لتناقض داخلي وانما هي وليدة مصادفة ميكانيكية أو عوامل خارجية من البيئة والمحيط،
258

فالظروف الموضوعية التي عاشها الافراد الأقوياء هي التي امدتهم بعناصر قوتهم وميزتهم عن الآخرين لا الصراع الداخلي في الأعماق كما يفترض الديالكتيك.
كما ان الميزة التي يحصل عليها الفرد بطريقة ميكانيكية - أي بأسباب خارجية من الظروف التي يعيشها - لا تتطور بحركة ديناميكية وتنمو بتناقض داخلي حتى تحول الحيوان إلى نوع جديد، وانما تظل ثابتة وتنتقل بالوراثة دون ان تتطور وتبقى بشكل تغير بسيط ساكن، ثم تضاف إلى الميزة السابقة ميزة أخرى تتولد هي الأخرى أيضا ميكانيكيا بسبب الظروف الموضوعية، فيحصل تغير بسيط آخر، وهكذا تتولد الميزات بطريقة ميكانيكية وتواصل وجودها في الأبناء عن طريق الوراثة وهي ساكنة ثابتة، وحين تتجمع يتكون منها أخيرا الشكل الأرقى للنوع الجديد.
وهناك أيضا فرق كبير بين قانون تنازع البقاء في نظرية داروين وفكرة الصراع بين الأضداد في الديالكتيك، فان فكرة الصراع بين الأضداد عند الديالكتيكين تعبر عن صراع بين ضدين يسفر في النهاية عن توحدهما في مركب أعلى وفقا لثالوث الأطروحة والطباق والتركيب.
ففي صراع الطبقات مثلا تشب المعركة بين الضدين في المحتوى الداخلي
للمجتمع، وهما الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة، وينتهي الصراع بامتصاص الطبقة العاملة للطبقة الرأسمالية وتوحد الطبقتين معا في مجتمع لا طبقي، كل أفراده
يملكون ويعملون، وأما تنازع البقاء والصراع بين القوي والضعيف في نظرية داروين فهو ليس صراعا ديالكتيكيا لأنه لا يسفر عن توحد الأضداد في مركب أرقى وانما يؤدي إلى افناء أحد الضدين والاحتفاظ بالآخر، فهو يزيل الضعاف من أفراد النوع إزالة نهائية ويبقى الأقوياء ولا ينتج مركبا جديدا يتوحد فيه الضعفاء والأقوياء، الضدان المتصارعان كما يفترض الديالكتيك في ثالوث الأطروحة والطباق والتركيب.
وإذا طرحنا فكرة تنازع البقاء أو قانون الانتخاب الطبيعي بوصفها تفسيرا لتطور الأنواع واستبدلناها بفكرة الصراع بين الحيوان والبيئة الذي يكيف
259

الجهاز العضوي، وفقا لشروط البيئة، وقلنا ان الصراع بين الحيوان والبيئة - بدلا عن الصراع بين القوي والضعيف - هو رصيد التطور كما قرره روجيه غارودي (1) أقول إذا طورنا النظرية وفسرنا تطور الأنواع في ضوء الصراع بين البيئة والمحيط، فسوف لن نصل إلى نتيجة ديالكتيكية أيضا لان الصراع بين البيئة والجهاز العضوي لا يسفر عن التحامهما وتوحدهما في مركب أرقى وانما تظل الأطروحة والطباق دون تركيب. فالضدان المتصارعان هنا - البيئة والمحيط - وان كانا موجودين معا في نهاية المعركة ولا يضمحل أحدهما خلال الصراع ولكنهما لا يتوحدان في مركب جديد كما تتوحد الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في مركب اجتماعي جديد.
وأخيرا فأين الدفعية وأين التكامل في التطور البيولوجي عند داروين فان الديالكتيك يؤمن بأن التحولات الكيفية تحصل بصورة دفعية خلافا للتغيرات الكمية التي تنمو ببطء، كما انه يؤمن ان الحركة في اتجاه متكامل وصاعد دائما، ونظرية داروين أو فكرة التطور البيولوجي تبرهن على امكان العكس تماما، فقد بين علماء البيولوجيا بان في الطبيعة الحية حالات انتقال تدريجية، كما ان فيها حالات انتقال بشكل قفزات مفاجئة (2) كما ان التفاعل الذي يحدده داروين بين الكائن الحي والطبيعة ليس من الضروري فيه أن يضمن تكامل الكائن المتطور، بل قد يفقد بسبب ذلك شيئا مما كان قد حصل عليه من الكمال طبقا للقوانين التي يحددها في نظريته للتفاعل بين الحياة والطبيعة كالحيوانات التي اضطرت منذ أبعد الآماد إلى العيش في الكهوف وترك حياة النور ففقدت بصرها في رأي داروين بسبب تفاعلها بمحيطها الخاص وعدم استعمالها لعضو الابصار في مجالاتها المعيشية، وبذلك أدى التطور في التركيب العضوي إلى الانحطاط خلافا للماركسية التي تعتقد أن العمليات التطورية المترابطة في الطبيعة المنبثقة عن تناقضات داخلية تستهدف التكامل دائما لأنها عمليات تقدمية صاعدة

(1) الروح الحزبية في العلوم ص 43.
(2) الروح الحزبية في العلوم ص 44.
260

* مبدأ العلية
ان من أوليات ما يدركه البشر في حياته الاعتيادية، مبدأ العلية القائل ان لكل شيء سببا وهو من المبادئ العقلية الضرورية، لان الانسان يجد في صميم طبيعته، الباعث الذي يبعثه إلى محاولة تعليل ما يجد من أشياء، وتبرير وجودها، باستكشاف أسبابها. وهذا الباعث موجود بصورة فطرية، في الطبيعة الانسانية، بل قد يوجد عند عدة أنواع من الحيوان أيضا. فهو يلتفت إلى مصدر الحركة غريزيا، ليعرف سببها ويفحص عن منشأ الصوت ليدرك علته. وهكذا يواجه الانسان دائما سؤال: لماذا...؟ مقابل كل وجود وظاهرة يحس بهما، حتى انه إذا لم يجد سببا معينا، اعتقد بوجود سبب مجهول، انبثق عنه الحادث. وعلى أساس مبدأ العلية يتوقف:
أولا: اثبات الواقع الموضوعي للاحساس.
ثانيا: كل النظريات، أو القوانين العلمية، المستندة إلى التجربة.
ثالثا: جواز الاستدلال وانتاجه، في أي ميدان من الميادين الفلسفية أو العلمية. فلولا مبدأ العلية وقوانينها، لما أمكن اثبات موضوعية الاحساس، ولا شيء من نظريات العلم وقوانينه، ولما صح الاستدلال بأي دليل كان، في مختلف مجالات المعرفة البشرية. وفيما يلي توضيح ذلك:
* العلية وموضوعية الاحساس
سبق أن أوضحنا في نظرية المعرفة، ان الحس لا يعدو أن يكون لونا من
261

ألوان التصور. فهو وجود لصورة الشيء المحسوس في مدارك الحس، ولا يملك صفة الكشف التصديقي عن واقع خارجي، ولذلك قد يحس الانسان بأشياء، في حالات مرضية، ولا يصدق بوجودها. فالإحساس اذن ليس سببا كافيا للتصديق أو الحكم، أو العلم، بالواقع الموضوعي.
ولكن المسألة التي تواجهنا حينئذ، هي ان الاحساس إذا لم يكن بذاته دليلا، على وجود المحسوس، خارج حدود الشعور والادراك. فكيف نصدق اذن بالواقع الموضوعي؟ والجواب جاهز على ضوء دراستنا لنظرية المعرفة، وهو ان التصديق بوجود واقع موضوعي للعالم تصديق ضروري أولي، فهو لأجل ذلك لا يحتاج إلى دليل، ولكن هذا التصديق الضروري انما يعني وجود واقع خارجي للعالم على سبيل الاجمال. واما الواقع الموضوعي لكل احساس، فهو ليس معلوما علما ضروريا، واذن فنحتاج إلى دليل لاثبات موضوعية كل احساس بصورة خاصة وهذا الدليل هو مبدأ العلية وقوانينها، ذلك أن حدوث صورة لشيء معين في ظروف وشروط معينة، يكشف عن وجود علة خارجية له، تطبيقا لذلك المبدأ. فلولا هذا المبدأ لما كشف الاحساس، أو وجود الشيء في الحس، عن وجوده في مجال آخر. ولأجل هذا السبب قد يحس الانسان بأشياء، أو يخيل له انه يبصرها، في حالات مرضية خاصة، ولا يستكشف من ذلك واقعا موضوعيا لتلك الأشياء، حيث أن تطبيق مبدأ العلية، لا يدلل على وجود هذا الواقع، ما دام يمكن تعليل
الاحساس بالحالة المرضية الخاصة، وانما يثبت الواقع الموضوعي للحس، فيما إذا لم يكن له تفسير على ضوء مبدأ العلية، الا بواقع موضوعي ينشأ الاحساس منه.
ويستنتج من ذلك القضايا الثلاث الآتية:
الأولى: ان الاحساس وحده، لا يكشف عن وجود واقع موضوعي، لأنه تصور، وليس من وظائف التصور - بمختلف ألوانه - الكشف التصديقي.
الثانية: ان العلم بوجود واقع للعالم، على سبيل الاجمال، حكم ضروري أولي، لا يحتاج إلى دليل، أي إلى علم سابق. وهو النقطة الفاصلة بين المثالية والواقعية.
262

الثالثة: ان العلم بوجود واقع موضوعي، لهذا الحس أو ذاك، انما يكتسب على ضوء مبدأ العلية.
* العلية والنظريات العلمية
ان النظريات العلمية في مختلف ميادين التجربة والمشاهدة، تتوقف بصورة عامة على مبدأ العلية وقوانينها، توقفا أساسيا. وإذا سقطت العلية ونظامها الخاص، من حساب الكون، يصبح من المتعذر تماما تكوين نظرية علمية في أي حقل من الحقول. وليتضح هذا نجد من الضروري أن نشير إلى عدة قوانين من المجموعة الفلسفية للعلية التي يرتكز عليها العلم، وهي كما يلي:
أ - مبدأ العلية القائل: ان لكل حادثة سببا.
ب - قانون الحتمية، القائل: ان كل سبب يولد النتيجة الطبيعية له، بصورة ضرورية، ولا يمكن للنتائج ان تنفصل عن أسبابها.
ج - قانون التناسب، بين الأسباب والنتائج، القائل: ان كل مجموعة متفقة في حقيقتها، من مجاميع الطبيعة، يلزم ان تتفق أيضا، في الأسباب والنتائج.
- فعلى ضوء مبدأ العلية، نعرف - مثلا - ان الاشعاع، الذي ينبثق عن ذرة الراديوم، له سبب، وهو الانقسام الداخلي في محتوى الذرة. وعلى ضوء قانون الحتمية، نستكشف ان هذا الانقسام، عند استكمال الشروط اللازمة، يولد الاشعاع الخاص، بصورة حتمية، وليس من الممكن الفصل بينهما. وعلى أساس قانون التناسب، نستطيع ان نعمم ظاهرة الاشعاع، وتفسيرها الخاص، لجميع ذرات الراديوم، فنقول: ما دامت جميع ذرات هذا العنصر، متفقة في الحقيقة فيجب أن تتفق في أسبابها ونتائجها، فإذا كشفت التجربة العلمية عن اشعاع في بعض ذرات الراديوم، أمكن القول باعتباره ظاهرة عامة، لسائر الذرات المماثلة، في الظروف المشخصة الواحدة.
263

ومن الواضح ان القانونين الأخيرين: الحتمية والتناسب، منبثقان عن مبدأ العلية. فلو لم تكن في الكون علية بين بعض الأشياء وبعض، وكانت الأشياء تحدث صدفة واتفاقا، لم يكن من الحتمي ان يوجد الاشعاع بدرجة معينة، حين تكون هناك ذرة راديوم، ولم يكن من الضروري أيضا أن تشترك جميع ذرات العنصر. في ظواهر إشعاعية معينة، بل يصبح من الجائز ان يكون الاشعاع في ذرة دون أخرى، لا لشيء الا للصدفة والاتفاق، ما دام مبدأ العلية خارجا عن حساب الكون. فمرد الحتمية والتناسب معا إلى مبدأ العلية.
ولنعد الآن - بعد أن عرفنا الفقرات الرئيسية الثلاث: العلية، والحتمية، والتناسب - إلى العلوم والنظريات العلمية، فإننا سوف نجد بكل وضوح، ان جميع النظريات والقوانين، التي تزخر بها العلوم. مرتكزة في الحقيقة، على أساس تلك الفقرات الرئيسية، وقائمة على مبدأ العلية وقوانينها. فلو لم يؤخذ هذا المبدأ كحقيقة فلسفية ثابتة، لما أمكن أن تقام نظرية، ويشاد قانون علمي، له صفة العموم والشمول. ذلك ان التجربة، التي يقوم بها العالم الطبيعي في مختبره، لا يمكن ان تستوعب جميع جزئيات الطبيعة، وانما تتناول عدة جزئيات محدودة متفقة في حقيقتها فتكشف عن اشتراكها في ظاهرة معينة، وحيث يتأكد العالم من صحة التجربة ودقتها وموضوعيتها، يضع فورا نظريته أو قانونه العام، الشامل لجميع ما يماثل موضوع تجربته من أجزاء الطبيعة. وهذا التعميم، الذي هو شرط أساسي لإقامة علم طبيعي، لا مبرر له الا قوانين العلية بصورة عامة، وقانون التناسب منها بصورة خاصة، القائل: ان كل مجموعة متفقة في حقيقتها، يجب أن تتفق - أيضا - في العلل والآثار. فلو لم تكن في الكون علل وآثار، وكانت الأشياء تجري على حسب الاتفاق البحت، لما أمكن للعالم الطبيعي القول: ان ما صح في مختبره الخاص، يصح على كل جزء من الطبيعة على الاطلاق. ولنأخذ لذلك مثالا بسيطا، مثال العالم الطبيعي. الذي أثبت بالتجربة ان الأجسام تتمدد حال حرارتها، فإنه لم يحط بتجاربه جميع الأجسام، التي يحتويها الكون طبعا، وانما أجرى تجاربه على عدة أجسام متنوعة، كعجلات العربة الخشبية، التي توضع عليها إطارات
264

حديدية أصغر منها حال سخونتها، فتنكمش الإطارات إذا بردت وتشتد على الخشب، ولنفرض انه كرر التجربة عدة مرات على أجسام أخرى، فلن ينجو في نهاية المطاف التجريبي، عن مواجهة هذا السؤال: ما دمت لم تستقص جميع الجزئيات، فكيف يمكنك ان تؤمن، بأن إطارات جديدة أخرى غير التي جربتها، تتمدد هي الأخرى أيضا بالحرارة؟ والجواب الوحيد على هذا السؤال، هو مبدأ العلية وقوانينها. فالعقل حيث انه لا يقبل الصدفة والاتفاق، وانما يفسر الكون بالعلية وقوانينها، من الحتمية والتناسب، يجد في التجارب المحدودة، الكفاية للايمان، بالنظرية العامة. القائلة بتمدد الأجسام بالحرارة، لان هذا التمدد، الذي كشفت عنه التجربة - لم يكن صدفة، وانما كان حصيلة الحرارة ومعلولا لها، وحيث أن قانون التناسب في العلية، ينص على أن المجموعة الواحدة من الطبيعة، تتفق في أسبابها ونتائجها وعللها وآثارها، فلا غرو أن تحصل كل المبررات حينئذ، للتأكيد على شمول ظاهرة التمدد لسائر الأجسام.
وهكذا نعرف، أن وضع النظرية العامة، لم يكن ميسورا، دون الانطلاق من مبدأ العلية. فمبدأ العلية هو الأساس الأول، لجميع العلوم والنظريات التجريبية.
وبتلخيص: ان النظريات التجريبية، لا تكتسب صفة علمية، ما لم تعمم لمجالات أوسع من حدود التجربة الخاصة، وتقدم كحقيقة عامة. ولا يمكن تقديمها كذلك الا على ضوء مبدأ العلية وقوانينها، فلابد للعلوم عامة أن تعتبر مبدأ العلية، وما إليها من قانوني الحتمية والتناسب، مسلمات أساسية، وتسلم بها بصورة سابقة، على جميع نظرياتها وقوانينها التجريبية.
* العلية والاستدلال
مبدأ العلية هو الركيزة التي تتوقف عليها جميع محاولات الاستدلال، في كل مجالات التفكير الانساني، لان الاستدلال بدليل على شيء من الأشياء، يعني أن الدليل إذا كان صحيحا، فهو سبب للعلم بالشيء المستدل عليه.
265

فحين نبرهن على حقيقة من الحقائق بتجربة علمية، أو بقانون فلسفي، أو باحساس بسيط، انما نحاول بذلك أن يكون البرهان، علة للعلم بتلك الحقيقة. فلولا مبدأ العلية والحتمية، لما أتيح لنا ذلك، لأننا إذا طرحنا قوانين العلية من الحساب ولم نؤمن بضرورة وجود أسباب معينة لكل حادث. لم تبق صلة بعد ذلك بين الدليل الذي نستند اليه، والحقيقة التي نحاول اكتسابها بسببه، بل يصبح من الجائز ان يكون الدليل صحيحا، ولا ينتج النتيجة المطلوبة، ما دامت قد انفصمت علاقة العلية. بين الأدلة والنتائج بين الأسباب والآثار.
وهكذا يتضح ان كل محاولة للاستدلال، تتوقف على الايمان بمبدأ العلية، والا كانت عبثا غير مثمر. وحتى الاستدلال على رد مبدأ العلية، الذي يحاوله بعض الفلاسفة أو العلماء، يرتكز على مبدأ العلية أيضا، لان هؤلاء الذين يحاولون انكار هذا المبدأ، والاستناد في ذلك إلى دليل، لم يكونوا يقومون بهذه المحاولة، لو لم يؤمنوا بأن الدليل الذي يستندون اليه، سبب كاف للعلم ببطلان مبدأ العلية. وهذا بنفسه تطبيق حرفي لهذا المبدأ.
* الميكانيكية والديناميكية
يترتب على ما سبق النتائج التالية:
أ - ان مبدأ العلية لا يمكن اثباته، والتدليل عليه بالحس، لأن الحس لا يكتسب صفة موضوعية، الا على ضوء هذا المبدأ. فنحن نثبت الواقع الموضوعي لأحاسيسنا. استنادا إلى مبدأ العلية، فليس من المعقول أن يكون هذا المبدأ. مدينا للحس في ثبوته. ومرتكزا عليه، بل هو مبدأ عقلي يصدق به الانسان، بصورة مستغنية عن الحس الخارجي.
ب - ان مبدأ العلية ليس نظرية علمية تجريبية، وانما هو قانون فلسفي عقلي فوق التجربة، لأن جميع النظريات العلمية تتوقف عليه. ويبدو هذا واضحا كل الوضوح، بعد أن عرفنا أن كل استنتاج علمي. قائم على
266

التجربة، يواجه مشكلة العموم والشمول، وهي أن التجربة التي يرتكز عليها الاستنتاج، محدودة، فكيف تكون بمجردها دليلا على نظرية عامة؟ وعرفنا أيضا أن الحل الوحيد لهذه المشكلة. انما هو مبدأ العلية، باعتباره دليلا على تعميم الاستنتاج وشموله. فلو افترضنا أن مبدأ العلية نفسه مرتكز على التجربة، فمن الضروري أن نواجه مشكلة العموم والشمول مرة أخرى، نظرا إلى ان التجربة ليست مستوعبة للكون، فكيف تعتبر دليلا على نظرية عامة؟ وقد كنا نحل هذه المشكلة حين نواجهها، في مختلف النظريات العلمية، بالاستناد إلى مبدأ العلية، بصفته الدليل الكافي على عموم النتيجة وشمولها، وأما إذا اعتبر نفس هذا المبدأ تجريبيا، وواجهنا المسألة فيه، فسوف نعجز نهائيا عن الجواب عليه. فلابد اذن أن يكون مبدأ العلية فوق التجربة. وقاعدة أساسية للاستنتاجات التجريبية عامة.
ج - ان مبدأ العلية لا يمكن الاستدلال على رده، بأي لون من ألوان الاستدلال، لان كل محاولة من هذا القبيل، تنطوي ضمنا على الاعتراف به، فهو اذن ثابت بصورة متقدمة، على جميع الاستدلالات التي يقوم بها الانسان.
وخلاصة هذه النتائج، ان مبدأ العلية ليس مبدأ تجريبيا، وانما هو مبدأ عقلي ضروري.
وعلى هذا الضوء يمكننا أن نضع الحد الفاصل، بين الميكانيكية، والديناميكية، وبين مبدأ العلية، ومبدأ الحرية، فان التفسير الميكانيكي للعلية كان يقوم، على أساس اعتبارها مبدأ تجريبيا، فهي ليست في رأي الميكانيكية المادية الا رابطة مادية، تقوم بين ظواهر مادية في الحقل التجريبي، وتستكشف بالوسائل العلمية. ولأجل ذلك كان من الطبيعي، أن تنهار العلية الميكانيكية، إذا عجزت التجربة في بعض المجالات العلمية، عن الكشف عما وراء الظاهرة من علل وأسباب، لأنها لم تتم الا على أساس تجريبي، فإذا خانتها التجربة، ولم يبرهن عليها التطبيق العملي سقطت عن درجة الوثوق العلمي والاعتبار.
267

وأما على رأينا في العلية، القائل انها مبدأ عقلي فوق التجربة، فالموقف يختلف كل الاختلاف من جوانب عديدة.
أولا: ان العلية لا تقتصر على الظواهر الطبيعية التي تبدو في التجربة بل هي قانون عام للوجود في مجاله الأوسع الذي يضم الظواهر الطبيعية ونفس المادة وما وراء المادة من ألوان الوجود.
ثانيا: ان السبب، الذي يحكم بوجوده مبدأ العلية، ليس من الضروري أن يخضع للتجربة، أو أن يكون شيئا ماديا.
ثالثا: ان عدم كشف التجربة، عن وجود سبب معين، لصيرورة ما أو لظاهرة ما، لا يعني فشل مبدأ العلية، إذ أن هذا المبدأ لم يرتكز على التجربة، ليتزعزع بسبب عدم توفرها. فبالرغم من عجز التجربة، عن استكشاف السبب، يبقى الوثوق الفلسفي بوجوده - طبقا لمبدأ العلية - قويا، ويرجع فشل التجربة في الكشف عن السبب إلى أمرين: اما قصورها وعدم أحاطتها بالواقع المادي، والملابسات الخاصة للحادثة، وأما أن السبب المجهول خارج عن الحقل التجريبي، وموجود فوق عالم الطبيعة والمادة.
وبما سبق، يمكننا ان نميز الفوارق الأساسية، بين فكرتنا عن مبدأ العلية، والفكرة الميكانيكية عنه. ونتبين ان الشك الذي أثير حول مبدأ العلية، لم يكن الا نتيجة لتفسيره على أساس المفهوم الميكانيكي الناقص.
* مبدأ العلية والميكروفيزياء
نستطيع على ضوء النتائج، التي انتهينا إليها في مبدأ العلية، أن ندحض تلك الحملات الشديدة، التي شنت في الميكروفيزياء، ضد قانون الحتمية، وبالتالي ضد مبدأ العلية بالذات، فقد وجد في الفيزياء الذرية، الاتجاه القائل ان الضبط الحتمي، الذي تؤكد عليه العلية وقوانينها، لا يصح في مستوى الميكروفيزياء، فقد يكون من
الصحيح، ان الأسباب ذاتها تولد النتائج نفسها، في مستوى الفيزياء المدرسية، أو فيزياء العين المجردة. وان تأثير
268

الأسباب الفاعلة، في ظروف شخصية واحدة، لابد له من أن ينتهي إلى محصلة واحدة حتما، بحيث نستطيع ان نتأكد من طبيعة النتائج وحتميتها، بسبب دراسة الأسباب والشرائط الطبيعية.. ولكن كل شيء يبدو على غير هذا اللون، إذا حاولنا أن نطبق مبادئ العلية على العالم الذري. ولذلك أعلن (هايزنبرغ) العالم الفيزيائي، ان من المستحيل علينا ان نقيس، بصورة دقيقة. كمية الحركة، التي يقوم بها جسم بسيط، وان تحدد - في الوقت عينه - موضعه في الموجة المرتبطة به، بحسب الميكانيكا الموجبة، التي نادى بها (لويس دوبروغي) فكلما كان مقياس موضعه دقيقا. كان هذا المقياس عاملا في تعديل كمية الحركة، ومن ثمة في تعليل سرعة الجسيم، بصورة لا يمكن التنبؤ بها. وكلما كان مقياس كمية الحركة دقيقا. أصبح موضع الجسيم غير محدد
(1). فالوقائع الفيزيائية في المجال الذري. لا يستطاع قياسها. بدون أن يدخل فيها اضطرابا. غير قابل للقياس. ومهما تعمقنا في تدقيق المقاييس العلمية. ابتعدنا أكثر عن الواقع الموضوعي لتلك الوقائع. ومعنى ذلك انه لا يمكن فصل الشيء الملاحظ في الميكروفيزياء. عن الأداة العلمية، التي يستعملها العالم لدرسه. كما لا يمكن فصله عن الملاحظ نفسه. إذ أن ملاحظين مختلفين، يعملون بأداة واحدة. على موضع واحد، سوف يصلون إلى مقاييس مختلفة. ومن هنا نشأت فكرة اللاحتمية، التي تناقض بصفة مطلقة مبدأ العلية. والقواعد الأساسية التي سارت عليها الفيزياء قبل ذلك. وجرت محاولات لاستبدال العلية الحتمية. بما يسمى (علاقات الارتياب)، أو (قوانين الاحتمال)، التي نادى بها (هايزنبرغ)، مصرا على ان العلوم الطبيعية - كالعلوم الانسانية - لا تستطيع ان تتنبأ تنبؤا يقينيا، حينما تنظر إلى العنصر البسيط، بل ان كل ما تستطيعه، هو ان تصوغ احتمالا من الاحتمالات.
والواقع ان جميع هذه الشكوك والارتيابات العلمية، التي أثارها العلماء في الميكروفيزياء، ترتكز على فهم خاص لمبدأ العلية وقوانينها، لا يتفق مع فهمنا

(1) هذه هي الديالكتيكية ص 132.
269

وتحليلنا الفلسفي له. فنحن لا نريد ان نناقش هؤلاء العلماء في تجاربهم، أو ندعوهم إلى التغاضي عن مستكشفاتها، والتخلي عنها، ولا نرمي إلى التقليل من شأنها وخطرها، وانما نختلف عنهم في مفهومنا العام عن مبدأ العلية، وعلى أساسها هذا الاختلاف، تصبح كل المحاولات السابقة لدحض مبدأ العلية وقوانينها، غير ذات معنى.
ومفصل الحديث حول ذلك، أن (مبدأ العلية) لو كان مبدأ علميا، قائما على أساس التجارب والمشاهدات، في حقل الفيزياء الاعتيادية، لكان رهن التجربة في ثبوته وعمومه، فإذا لم نظفر له بتطبيقات واضحة، في ميادين الفيزياء الذرية، ولم نستطع ان نستكشف لها نظاما حتميا قائما على مبدأ العلية وقوانينها، كان من حقنا أن، نشك في قيمة المبدأ بالذات، ومدى صحته أو عمومه. غير أنا أوضحنا فيما سبق، ان تطبيق مبدأ العلية على المجالات الاعتيادية للفيزياء، والاعتقاد بالعلية كنظام عام للكون فيها، لم يكن بدليل تجريبي بحت. وان مبدأ العلية مبدأ ضروري فوق التجربة. والا لم يستقم علم طبيعي على الاطلاق. وإذا تبينا هذا، ووضعنا مبدأ العلية في موضعه الطبيعي، من تسلسل الفكر الانساني، فسوف لا يزعزع به عدم تمكننا من تطبيقه تجريبيا، في بعض ميادين الطبيعة. والعجز عن استكشاف النظام الحتمي الكامل فيها بالأساليب العلمية. فان كل ما جمعه العلماء من ملاحظات، على ضوء تجاربهم الميكروفيزيائية. لا يعني ان الدليل العلمي، قد برهن على خطأ مبدأ العلية وقوانينها، في هذا المجال الدقيق من مجالات الطبيعة المتنوعة. ومن الواضح ان عدم توفر الامكانيات العلمية والتجريبية لا يمس مبدأ العلية في كثير أو قليل. ما دام مبدأ ضروريا فوق التجربة، ويوجد عندئذ لفشل التجارب العلمية. في محاولة الظفر بأسرار النظام الحتمي للذرة تفسيران:
الأول: نقصان الوسائل العلمية، وعدم توفر الأدوات التجريبية، التي تتيح للعالم الاطلاع على جميع الشروط والظروف المادية. فقد يعمل العالم بأداة واحدة، على موضوع واحد عدة مرات، فيصل إلى نتائج مختلفة. لا لأن الموضوع الذي عمل عليه، متحرر من كل نظام حتمي، بل لأن الوسائل
270

التجريبية الميسورة لم تكن كاملة، إلى حد تكشف له عن الشروط المادية الدقيقة، التي اختلفت النتائج بسبب اختلافها، ومن الطبيعي ان تكون وسائل التجربة، في المجالات الذرية ووقائعها، أبعد عن الكمال من الوسائل التجريبية، التي تتخذ في مجالات فيزيائية أخرى، أقل خفاء وأكثر وضوحا.
الثاني: تأثر الموضوع - نظرا إلى دقته وضآلته - بالمقاييس والأدوات العلمية، تأثرا دقيقا لا يقبل القياس والدرس العلمي.
فقد تبلغ الوسائل العلمية الذروة في الدقة والكمال والعمق، ولكن العالم
- مع ذلك - يواجه المشكلة نفسها. لأنه يجد نفسه إزاء وقائع فيزيائية، لا يستطيع قياسها، بدون أن يدخل فيها اضطرابا غير قابل للقياس. وبذلك يختلف موقفه تجاه هذه الوقائع، عن موقفه في تجارب فيزياء العين المجردة، لأنه في تلك التجارب يستطيع ان يقوم بقياساته، دون اجراء أي تعديل في الشيء المقاس، وحتى حينما يعدل فيه، يكون هذا التعديل نفسه قابلا للقياس. وأما في الميكروفيزياء فقد تكون دقة الأداة وقوتها بنفسها، سببا في فشلها، إذ تحدث تغييرا في الموضوع الملاحظ، فلا يمكن أن يدرس بصورة موضوعية مستقلة. ولذلك يقول (جان لويس ديتوش) - فيما يتعلق بجسيم من الجسيمات - فبدلا ان تكون شدة النور، هي ذات الأهمية، إذ يصبح طول الموجة هو المهم. فكلما أضأنا الجسيم بموجة قصيرة - أي بموجة ذات تواتر كبير - أصبحت حركته عرضة للاضطراب.
ومرد السببين معا إلى قصور وسائل التجربة والمشاهدة العلميتين:
اما عن ضبط الموضوع الملاحظ، بجميع شروطه وظروفه المادية، واما عن قياس التأثير، الذي توجده التجربة نفسها فيه قياسا دقيقا. وكل هذا انما يقرر عدم امكان الاطلاع على النظام الحتمي، الذي يتحكم في الجسيمات وحركاتها - مثلا - وعدم امكان التنبؤ بمسلك هذه الجسيمات تنبؤا مضبوطا. ولا يبرهن ذلك على حريتها، ولا يبرر ادخال اللاحتمية إلى مجال المادة، واسقاط قوانين العلية من حساب الكون.
271

* لماذا تحتاج الأشياء إلى علة؟
نتناول الآن ناحية جديدة من مبدأ العلية، وهي الإجابة عن السؤال التالي: لماذا تحتاج الأشياء إلى أسباب وعلل، فلا توجد بدونها؟ وما هو السبب الحقيقي الذي يجعلها متوقفة على تلك الأسباب والعلل؟
وهذا سؤال نواجهه بطبيعة الحال بعد أن آمنا بمبدأ العلية، فان الأشياء التي نعاصرها في هذا الكون، ما دامت خاضعة بصورة عامة لمبدأ العلية، وموجودة طبقا لقوانينها، فيجب ان نتساءل عن سر خضوعها لهذا المبدأ، فهل مرد هذا الخضوع إلى ناحية ذاتية في تلك الأشياء، لا يمكنها أن تتحرر عنها مطلقا؟ أو إلى سبب خارجي جعلها بحاجة إلى علل وأسباب؟ وسواء أصح هذا أم ذاك، فما هي حدود هذا السر الذي يرتكز عليه مبدأ العلية؟ وهل يعم ألوان الوجود جميعا أو لا؟
وقد حصلت هذه الأسئلة على أربع نظريات لمحاولة الإجابة عنها.
أ - نظرية الوجود:
وهي النظرية القائلة ان الموجود يحتاج إلى علة، لأجل وجوده. وهذه الحاجة ذاتية للوجود، فلا يمكن ان نتصور وجودا متحررا من هذه الحاجة، لأن سبب الافتقار إلى العلة سر كامن في صميمه.
ويترتب على ذلك ان كل وجود معلول. وقد أخذ بهذه النظرية بعض فلاسفة الماركسية، مستندين في تبريرها علميا إلى التجارب، التي دلت في مختلف ميادين الكون، على ان الوجود بشتى ألوانه وأشكاله، التي كشفت عنها التجربة، لا يتجرد عن سببه ولا يستغني عن العلة. فالعلية ناموس عام للوجود، بحكم التجارب العلمية. وافتراض وجود ليس له علة مناقض لهذا الناموس، ولأجل ذلك كان ضربا من الاعتقاد بالصدفة. التي لا متسع لها في نظام الكون العام (1).
وقد حاولوا عن هذا الطريق ان يتهموا الفلسفة الإلهية، بأنها تؤمن

(1) جبر واختيار ص 5.
272

بالصدفة، نظرا إلى اعتقادها بوجود مبدأ أول، لم ينشأ من سبب ولم تتقدمه. فهذا الوجود المزعوم للالهية، لما كان شاذا عن مبدأ العلية، فهو صدفة، وقد أثبت العلم ان لا صدقة في الوجود، فلا يمكن التسليم بوجود المبدأ الإلهي، الذي تزعمه الفلسفة الميتافيزيقية.
وهكذا أخطأ هؤلاء مرة أخرى، حين أرادوا استكشاف سر الحاجة إلى العلة، ومعرفة حدود العلية، ومدى اتساعها عن طريق التجارب العلمية، كما أخطأوا سابقا في محاولة استنباط مبدأ العلية بالذات، وبصورة رئيسية من التجربة والاستقراء العلمي للكون. فان التجارب العلمية لا تعمل الا في حقلها الخاص، وهو نطاق مادي محدود، وقصارى ما تكشف عنه هو خضوع الأشياء في ذلك النطاق لمبدأ العلية، فالانفجار أو الغليان، أو الاحتراق، أو الحرارة، أو الحركة، وما إلى ذلك من ظواهر الطبيعة، لا توجد دون أسباب، وليس في الامكانات العلمية للتجربة، التدليل على ان سر الحاجة إلى العلة كامن في الوجود بصورة عامة، فمن الجائز ان يكون السر ثابتا في ألوان خاصة من الوجود، وأن تكون الأشياء التي ظهرت في المجال التجريبي من تلك الألوان الخاصة.
فاعتبار التجربة دليلا على أن الوجود بصورة عامة خاضع للعلل والأسباب، ليس صحيحا - اذن - ما دامت التجربة لا تباشر الا الحقل المادي من الوجود، وما دام نشاطها في هذا الحقل الذي تباشره لا يتخطى ايضاح الأسباب والآثار المنبثقة عنها، إلى الكشف عن السبب الذي جعل هذه الآثار بحاجة إلى تلك الأسباب. وإذا كانت التجربة ووسائلها المحدودة، قاصرة عن تكوين إجابة واضحة في هذه المسألة، فيجب درسها على الأسس العقلية، وبصورة فلسفية مستقلة. فكما أن مبدأ العلية نفسه من المبادئ الفلسفية الخالصة - كما عرفت سابقا - كذلك أيضا البحوث المتصلة به، والنظريات التي تعالج حدوده.
ويجب أن نشير إلى ان اتهام فكرة المبدأ الأول، بأنها لون من الايمان بالصدفة، ينطوي على سوء فهم لهذه الفكرة، وما ترتكز عليه من مفاهيم، ذلك ان الصدفة عبارة عن الوجود، من دون سبب، لشيء يستوي بالنسبة
273

اليه الوجود والعدم، فكل شيء ينطوي على امكان الوجود، وامكان العدم بصورة متعادلة، ثم يوجد من دون علة فهو الصدفة. وفكرة المبدأ الأول تنطلق من القول بأن المبدأ الأول لا يتعادل فيه الوجود والعدم، فهو ليس ممكن الوجود والعدم معا، بل ضروري الوجود، وممتنع العدم، ومن البدهي ان الاعتقاد بموجب هذه صفته، لا ينطوي على التصديق بالصدقة مطلقا
ب - نظرية الحدوث:
وهي النظرية التي تعتبر حاجة الأشياء إلى أسبابها، مستندة إلى حدوثها. فالانفجار، أو الحركة، أو الحرارة، انما تتطلب لها أسبابا، لأنها أمور حدثت بعد العدم، فالحدوث هو الذي يفتقر إلى علة، وهو الباعث الرئيسي الذي يثير فينا سؤال: لماذا وجد؟ امام كل حقيقة من الحقائق، التي نعاصرها في هذا الكون. وعلى ضوء هذه النظرية، يصبح مبدأ العليلة مقتصرا على الحوادث خاصة. فإذا كان الشيء موجودا بصورة مستمرة ودائمة ولم يكن حادثا بعد العدم، فلا توجد فيه حاجة إلى السبب، ولا يدخل في النطاق الخاص لمبدأ العلية.
وهذه النظرية أسرفت في تحديد العلية، كما أسرفت النظرية السابقة في تعميمها، وليس لها ما يبررها من ناحية فلسفية. فمرد الحدوث في الحقيقة إلى وجود الشيء بعد العدم، كوجود السخونة في ماء لم يكن ساخنا، ولا يفترق لدى العقل، ان توجد هذه السخونة بعد العدم، وان تكون موجودة بصورة دائمة، فإنه يتطلب على كل حال سببا خاصا لها.
فالصعود بعمر الشيء وتاريخه إلى ابعد الآماد لا يبرر وجوده، ولا يجعله مستغنيا عن العلة. وبكلمة أخرى: ان وجود السخونة الحادثة، لما كان بحاجة إلى سبب،
فلا يكفي لتحريره من هذه الحاجة ان نمدده لأن تمديده سوف يجعلنا نصعد بالسؤال عن العلة مهما اتسعت عملية التمديد.
ج - د - نظرية الامكان الذاتي، والامكان الوجودي:
وهاتان النظريتان تؤمنان. بأن الباعث على حاجة الأشياء إلى أسبابها، هو الامكان. غير أن لكل من النظريتين مفهومها الخاص عن الامكان، الذي
274

تختلف به عن الأخرى، وهذا الاختلاف بينهما، مظهر لاختلاف فلسفي أعمق، حول الماهية والوجود، وحيث أن حدود هذا الكتاب. لا تسمح بالتحدث عن ذلك الاختلاف، وتمحيصه، فسوف نقتصر على نظرية الامكان الوجودي في مسألتنا، نظرا إلى ارتكازها على الرأي القائل بأصالة الوجود (أي الرأي الصحيح في الاختلاف الفلسفي الأعمق الذي أشرنا اليه).
ونظرية الامكان الوجودي، هي للفيلسوف الاسلامي الكبير (صدر الدين الشيرازي) وقد انطلق فيها من تحليل مبدأ العلية نفسه، وخرج من تحليله ظافرا بالسر، فلم يكلفه الظفر بالسبب الحقيقي لحاجة الأشياء إلى عللها، أكثر من فهم مبدأ العلية، فهما فلسفيا عميقا.
والآن نبدأ كما بدأ، فنتناول العلية بالدرس والتمحيص.
لا شك في أن العلية علاقة قائمة بين وجودين: العلة، والمعلول. فهي لون من ألوان الارتباط بين شيئين. وللارتباط ألوان وضروب شتى، فالرسام مرتبط باللوحة التي يرسم عليها، والكاتب مرتبط بالقلم الذي يكتب به، والمطالع مرتبط بالكتاب الذي يقرأ فيه، والأسد مرتبط بسلسلة الحديد التي تطوق عنقه، وهكذا سائر العلاقات والارتباطات بين الأشياء. ولكن شيئا واضحا يبدو بجلاء، في كل ما قدمناه من الأمثلة للارتباط، وهو ان لكل من الشيئين المرتبطين وجودا خاصا، سابقا على ارتباطه بالآخر. فاللوحة والرسام كلاهما موجودان، قبل أن توجد عملية الرسم، والكاتب والقلم موجودان، قبل ان يرتبط أحدهما بالآخر، والمطالع والكتاب كذلك وجدا بصورة مستقلة، ثم عرض لهما الارتباط. فالارتباط في جميع هذه الأمثلة علاقة تعرض للشيئين بصورة متأخرة عن وجودهما، ولذلك فهو شيء ووجودهما شيء آخر، فليست اللوحة في حقيقتها ارتباطا بالرسام، ولا الرسام في حقيقته مجرد ارتباط باللوحة، بل الارتباط صفة توجد لهما بعد وجود كل منهما بصورة مستقلة.
وهذه المفارقة بين حقيقة الارتباط، والكيان المستقل لكل من الشيئين المرتبطين، تتجلى في كل أنواع الارتباط، باستثناء نوع واحد، وهو ارتباط شيئين برباط العلية. فلو أن (ب) ارتبط ب‍ (أ)، ارتباطا سببيا، وكان معلولا
275

له ومسببا عنه، لوجد لدينا شيئان: أحدهما معلول وهو (ب). والآخر علة وهو (أ). واما العلية التي تقوم بينهما، فهي لون ارتباط أحدهما بالآخر، والمسألة هي ان (ب) هل يملك وجودا، بصورة مستقلة عن ارتباطه ب‍ (أ)، ثم يعرض له الارتباط، كما هو شأن اللوحة بالإضافة إلى الرسام؟ ولا نحتاج إلى كثير من الدرس، لنجيب بالنفي، فان (ب) لو كان يملك وجودا حقيقيا، وراء ارتباطه بسببه، لم يكن معلولا ل‍ (أ)، لأنه ما دام موجودا بصورة مستقلة عن ارتباطه به،
فلا يمكن ان يكون منبثقا عنه وناشئا منه. فالعلية بطبيعتها تقتضي، أن لا يكون للمعلول حقيقة وراء ارتباطه بعلته، والا لم يكن معلولا. ويتضح بذلك ان الوجود المعلول ليس له حقيقة، الا نفس الارتباط بالعلة والتعلق بها. وهذا هو الفارق الرئيسي، بين ارتباط المعلول بعلته وارتباط اللوحة بالرسام، أو القلم بالكاتب، أو الكتاب بالمطالع. فان اللوحة والقلم والكتاب، أشياء تتصف بالارتباط مع الرسام والكاتب والمطالع. وأما (ب) فهو ليس شيئا له ارتباط وتعلق بالعلة - لأن افتراضه كذلك، يستدعي ان يكون له وجود مستقل، يعرضه الارتباط كما يعرض اللوحة الموجودة بين يدي الرسام، ويخرج بذلك عن كونه معلولا - بل هو نفس الارتباط بمعنى ان كيانه ووجوده، كيان ارتباطي ووجود تعلقي، ولذلك كان قطع ارتباطه بالعلة افناء له، وإعداما لكيانه، لأن كيانه يتمثل في ذلك الارتباط. على عكس اللوحة، فإنها لو لم ترتبط بالرسام في عملية رسم معينة، لما فقدت كيانها ووجودها الخاص.
وإذا استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة المهمة، من تحليل مبدأ العلية، أمكننا أن نضع فورا الجواب على مسألتنا الأساسية، ونعرف السر في احتياج الأشياء إلى أسبابها، فان السر في ذلك على ضوء ما سبق، هو ان الحقائق الخارجية، التي يجري عليها مبدأ العلية. ليست في الواقع الا تعليقات وارتباطات. فالتعلق والارتباط مقوم لكيانها ووجودها. ومن الواضح ان الحقيقة إذا كانت حقيقة تعلقية، أي كانت عين التعلق والارتباط، فلا يمكن ان تنفك عن شيء تتعلق به، وترتبط به ذاتيا. فذلك الشيء هو سببها وعلتها، لأنها لا يمكن ان توجد مستقلة عنه.
وهكذا نعرف ان السر في احتياج هذه الحقائق الخارجية التي
276

نعاصرها... إلى سبب، ليس هو حدوثها، ولا امكان ماهياتها، بل السر كامن في كنهها الوجودي، وصميم كيانها. فان حقيقتها الخارجية عين التعلق والارتباط، والتعلق أو الارتباط، لا يمكن ان يستغني عن شيء يتعلق به ويرتبط. ونعرف في نفس الوقت - أيضا - ان الحقيقة الخارجية، إذا لم تكن حقيقة ارتباطية وتعلقية، فلا يشملها مبدأ العلية. فليس الوجود الخارجي بصورة عامة محكوما بمبدأ العلية، بل انما يحكم مبدأ العلية على الوجودات التعلقية، التي تعبر في حقيقتها عن الارتباط والتعلق.
* التأرجح بين التناقض والعلية
بالرغم من ان الماركسية اتخذت من تناقضات الديالكتيك شعارا لها في بحوثها التحليلية لكل مناحي الكون والحياة والتاريخ لم تنج بصورة نهائية من التذبذب بين تناقضات الديالكتيك ومبدأ العلية، فهي بوصفها ديالكتيكية، تؤكد ان النمو والتطور ينشأ عن التناقضات الداخلية كما مر مشروحا في البحوث السابقة، فالتناقض الداخلي هو الكفيل بأن يفسر كل ظاهرة من الكون دون حاجة إلى سبب أعلى، ومن ناحية أخرى تعترف بعلاقة العلة والمعلول وتفسر هذه الظاهرة أو تلك بأسباب خارجية وليس بالتناقضات
المخزونة في أعماقها.
ولنأخذ مثالا لهذا التذبذب من تحليلها التاريخي، فهي بينما تصر على وجود تناقضات داخلية في صميم الظواهر الاجتماعية كفيلة بتطويرها ضمن حركة ديناميكية. تقرر من ناحية أخرى ان الصرح الاجتماعي الهائل يقوم كله على قاعدة واحدة، وهي قوى الانتاج، وان الأوضاع الفكرية والسياسية وما إليها، ليست الا بنى فوقية في ذلك الصرح، وانعكاسات بشكل وآخر لطريقة الانتاج التي قام البناء عليها. ومعنى هذا ان العلاقة بين هذه البنى الفوقية وبين قوى الانتاج هي علاقة معلول بعلة. فليس هناك تناقض داخلي وانما توجد علية (1).

(1) لأجل التوضيح يراجع بحث المادية التاريخية من كتاب (اقتصادنا) للمؤلف.
277

وكأن الماركسية أدركت موقفها هذا المتأرجح بين التناقضات الداخلية ومبدأ العلية. وحاولت ان توفق بين الامرين، فأعطت العلة والمعلول مفهوما ديالكتيكيا ورفضت مفهومها الميكانيكي، وسمحت لنفسها على هذا الأساس ان تستعمل في تحليلها طريقة العلة والمعلول في إطارها الديالكتيكي الخاص. فالماركسية ترفض السببية التي تسير على خط مستقيم والتي تظل فيها العلة خارجية بالنسبة إلى معلولها، والمعلول سلبيا بالنسبة إلى علته لان هذه السببية تتعارض مع الديالكتيك، مع عملية النمو والتكامل الذاتي في الطبيعة. إذ أن المعلول طبقا لهذه السببية لا يمكن أن يجيء حينئذ أثري من علته وأكثر نموا لان هذه الزيادة في الثراء والنمو تبقى دون تعليل، واما المعلول الذي يولد من نقيضه فيتطور وينمو بحركة داخلية، طبقا لما يحتوي من تناقضات ليعود إلى النقيض الذي أولده فيتفاعل معه ويحقق عن طريقة الاندماج به مركبا جديدا أكثر اغتناء وثراء من العلة والمعلول منفردين، فهذا هو ما تعنيه الماركسية بالعلة والمعلول لأنه يتفق مع الديالكتيك ويعبر عن الثالوث الديالكتيكي (الأطروحة والطباق والتركيب). فالعلة هي الأطروحة والمعلول هو الطباق والمجموع المترابط منهما هو التركيب، والعلية هنا عملية نمو وتكامل عن طريق ولادة المعلول من العلة أي الطباق من الأطروحة، والمعلول في هذه العملية لا يولد سلبيا بل يولد مزودا بتناقضاته الداخلية التي تنميه وتجعله يحتضن علته اليه في مركب أرقى وأكمل.
وقد سبق في حديثنا عن الديالكتيك رأينا في هذه التناقضات الداخلية التي ينمو الكائن وفقا لتوحدها وصراعها في أعماقه، ونستطيع ان نعرف الآن في ضوء مفهومها الأعمق عن العلاقة بين العلة والمعلول خطأ الماركسية في مفهومها عن العلية وما تؤدي اليه من نمو المعلول وتكامل العلة بالاندماج مع معلولها، فان المعلول حيث كان لون من ألوان التعلق والارتباط بعلته، ولا يمكن للعلة ان تتكامل به في مركب أرقى. وقد استعرضنا في كتاب (اقتصادنا) ص (23) بعض تطبيقات ماركس لمفهومه الديالكتي عن العلية على الصعيد التاريخي حيث حاول ان يبرهن على ان العلة تكاملت بمعلولها وتوحدت معه في مركب أثري، واستطعنا ان نوضح في دراستنا تلك ان هذه التطبيقات نشأت
278

من عدم الضبط الفلسفي والدقة في تحديد العلة والمعلول، فقد توجد علتان ومعلولان. وكل من المعلولين يكمل علة الآخر، فحين لا ندقق في التمييز بين العلتين يبدو كأن المعلول يكمل علته، كما قد يصبح المعلول سببا في تكامل أحد شروط وجوده، غير ان شروط الوجود غير العلة التي ينبثق منها ذلك الوجود، وللتوضيح أكثر من ذلك يراجع البحث في كتاب (اقتصادنا).
* التعاصر بين العلة والمعلول
لما كنا نعرف الآن، أن وجود المعلول مرتبط ارتباطا ذاتيا بوجود العلة. فنستطيع ان نفهم مدى ضرورة العلة للمعلول، وان المعلول يجب أن يكون معاصرا للعلة. ليرتبط بها كيانه ووجوده، فلا يمكن له أن يوجد بعد زوال العلة، أو أن يبقى بعد ارتفاعها. وهذا هو ما شئنا ان نعبر عنه بقانون (التعاصر بين العلة والمعلول).
وقد أثيرت حول هذا القانون مناقشتان راميتان إلى اثبات أن من الممكن بقاء المعلول بعد زوال علته. إحداهما للمتكلمين، والأخرى لبعض علماء الميكانيك الحديث.
* المناقشة الكلامية:
وهي تستند إلى أمرين:
الأول: ان الحدوث هو سبب حاجة الأشياء إلى أسبابها. فالشئ انما يحتاج إلى سبب، لأجل أن يحدث، فإذا حدث، لم يكن وجوده بعد ذلك مفتقرا إلى علة. وهذا يرتكز على نظرية الحدوث، التي تبينا خطأها فيما سبق، وعرفنا ان حاجة الشيء إلى العلة، ليست لأجل الحدوث، بل لأن وجوده مرتبط بسببه الخاص ارتباطا ذاتيا.
الثاني: ان قانون التعاصر بين العلة والمعلول، لا يتفق مع طائفة من ظواهر الكون، التي تكشف بوضوح عن استمرار وجود المعلول، بعد زوال
279

العلة. فالعمارة الشاهقة التي شادها البناؤون، واشترك في بنائها آلاف العمال، تبقى قائمة بعد انتهاء عملية البناء والتعمير، وان تركها العمال، ولم يبق منهم بعد ذلك شخص على قيد الحياة. والسيارة التي أنتجها مصنع خاص، بفضل عماله الفنيين، تمارس نشاطها، وقد تبقى محتفظة بجهازها الميكانيكي، وان تهدم ذلك المصنع، ومات أولئك العمال. والمذكرات التي سجلها شخص بخطه، تبقى بعده مئات السنين، تكشف للناس عن حياة ذلك الشخص وتاريخه. فهذه الظواهر تبرهن، على ان المعلول يملك حريته بعد حدوثه، وتزول حاجته إلى علته، والواقع ان عرض هذه الظواهر، كأمثلة لتحرر المعلول بعد حدوثه من علته، نشأ من عدم التمييز بين العلة وغيرها. فنحن إذا أدركنا العلة الحقيقية لتلك الأمور - من بناء الدار، وجهاز السيارة. وكتابة المذكرات - نتبين ان تلك الأمور لم تستغن عن العلة، في لحظة من لحظات وجودها، وان كل أثر طبيعي يعدم في الآن الذي يفقد فيه سببه. فما هو المعلول للعمال المشتغلين ببناء العمارة، انما هو نفس عملية البناء، وهي عبارة عن عدة من الحركات والتحريكات، يقوم بها العامل بقصد جمع مواد البناء الخام من الآجر والحديد والخشب وما إليها.. وهذه الحركات لا يمكن ان تستغني عن العمال في وجودها، بل تنقطع حتما في الوقت الذي يكف فيه العمال عن العمل. وأما الوضع الذي حصل لمواد البناء على اثر عملية التعمير، فهو في وجوده واستمراره معلول لخصائص تلك المواد، والقوى الطبيعية العامة، التي تفرض على المادة المحافظة على وضعها وموضعها. وكذلك الامر في سائر الأمثلة الأخرى. وهكذا يتبخر الوهم
الآنف الذكر، إذا أضفنا كل معلول إلى علته، ولم نخطئ في نسبة الآثار إلى أسبابها.
* المعارضة الميكانيكية
وهي المعارضة التي أثارها الميكانيك الحديث، على ضوء القوانين التي وضعها (غاليليو) و (نيوتن) للحركة الميكانيكية، مدعيا - على أساس تلك القوانين - ان الحركة إذا حدثت بسبب فهي تبقى حتما. ولا يحتاج استمرارها إلى علة، خلافا للقانون الفلسفي الذي ذكرناه.
280

ونحن إذا تعمقنا في درس هذه المعارضة، وجدنا أنها تؤدي في الحقيقة إلى الغاء مبدأ العلية رأسا، لان حقيقة الحركة - كما سبق في الدراسات السابقة - عبارة عن التغير والتبدل، فهي حدوث مستمر، أي حدوث متصل بحدوث، وكل مرحلة من مراحلها حدوث جديد، وتغير عقيب تغير. فإذا أمكن للحركة ان تستمر دون علة، كان في الامكان ان تحدث الحركة دون علة، وأن توجد الأشياء ابتداء بلا سبب، لأن استمرار الحركة يحتوي على حدوث جديد دائما، فتحرره من العلة يعني تحرر الحدوث من العلة أيضا.
ولأجل ان يتضح عدم وجود مبرر لهذه المعارضة، من ناحية علمية، يجب ان نحدث القارئ عن قانون القصور الذاتي، في الميكانيك الحديث، الذي ارتكزت عليه المعارضة.
ان التفكير السائد عن الحركة قبل (غاليليو)، هو انها تتبع القوة المحركة، في مدى استمرارها وبقائها. فهي تستمر ما دامت القوة المحركة موجودة، فإذا زالت سكن الجسم, ولكن الميكانيك الحديث، وضع قانونا جديدا للحركة، وفحوى هذا القانون، أن الأجسام الساكنة والمتحركة، تبقى كذلك (ساكنة أو متحركة)، إلى ان تتعرض لتأثير قوة أخرى كبرى بالنسبة لها، تضطرها إلى تبديل حالتها.
والسند العلمي لهذا القانون، هو التجربة، التي توضح أن جهازا ميكانيكيا متحركا بقوة خاصة في شارع مستقيم، إذا انفصلت عنه القوة المحركة، فهو يتحرك بمقدار ما بعد ذلك، قبل أن يسكن نهائيا. ومن الممكن في هذه الحركة، التي حصلت بعد انفصال الجهاز عن القوة الخارجية المحركة، ان يزاد في أمدها، بتدهين آلات الجهاز، وتسوية الطريق، وتخفيف الضغط الخارجي. غير أن هذه الأمور لا شأن لها، الا تخفيف الموانع عن الحركة من الاصطكاك ونحوه، فإذا استطعنا ان نضاعف من هذه المخففات، نضمن مضاعفة الحركة، وإذا افترضنا ارتفاع جميع الموانع، وزوال الضغط الخارجي نهائيا، كان معنى ذلك استمرار الحركة إلى غير حد بسرعة معينة، فيعرف من ذلك ان الحركة إذا أثيرت في جسم، ولم تعترضها قوة خارجية مصادمة، تبقى
281

بسرعة معينة، وان بطلت القوة. فالقوى الخارجية انما تؤثر في تغيير السرعة عن حدها الطبيعي، تنزل أو ترتفع بها. ولذلك كان مدى السرعة - من حيث الشدة والضعف والبطء - يتوقف على الضغط الخارجي، الموافق أو المعاكس. وأما نفس الحركة واستمرارها بسرعتها الطبيعية، فلا يتوقف ذلك على عوامل خارجية.
ومن الواضح ان هذه التجربة حين تكون صحيحة، لا تعني أن المعلول بقي من دون علة، ولا تعاكس القانون الفلسفي، الذي ذكرناه، لأن التجربة لم توضح ما هي العلة الحقيقية للحركة، لنعرف ما إذا كانت تلك العلة قد زالت مع استمرار الحركة. وكان هؤلاء، الذين حاولوا أن يدللوا بها على بطلان القانون الفلسفي، زعموا ان العلة الحقيقية للحركة هي القوة الخارجية المحركة، ولما كانت هذه القوة قد انقطعت صلتها بالحركة، واستمرت الحركة بالرغم من ذلك، فيكشف ذلك عن استمرار الحركة بعد زوال علتها. ولكن الواقع ان التجربة لا تدل على أن القوة الدافعة من خارج هي العلة الحقيقية، ليستقيم لهم هذا الاستنتاج، بل من الجائز أن يكون السبب الحقيقي للحركة، شيئا موجودا على طول الخط. والفلاسفة الاسلاميون، يعتقدون ان الحركات العرضية - بما فيها الحركة الميكانيكية للجسم - تتولد جميعا من قوة قائمة بنفس الجسم. فهذه القوة هي المحركة الحقيقية، والأسباب الخارجية، انما تعمل لإثارة هذه القوة واعدادها للتأثير. وعلى هذا الأساس قام مبدأ الحركة الجوهرية، كما أوضحناه في الجزء السابق من هذه المسألة. ولسنا نستهدف الآن الإفاضة في هذا الحديث، وانما نرمي من ورائه إلى توضيح ان التجربة العلمية، التي قام على أساسها قانون القصور الذاتي، لا تتعارض مع قوانين العلية، ولا تبرهن على ما يعاكسها مطلقا.
* النتيجة:
ولم يبق علينا لأجل أن نصل إلى النتيجة، الا أن نعطف على ما سبق قانون النهاية، وهو القانون القائل ان العلل المتصاعدة في الحساب الفلسفي
282

، التي ينبثق بعضها عن بعض، يجب أن يكون لها بداية، أي علة أولى لم تنبثق عن علة سابقة، ولا يمكن ان يتصاعد تسلسل العلل تصاعدا لا نهائيا، لان كل معلول - كما سبق - ليس الا ضربا من التعلق والارتباط بعلته. فالموجودات المعلولة جميعا ارتباطات وتعلقات، والارتباطات تحتاج إلى حقيقة مستقلة، تنتهي إليها. فلو لم توجد لسلسلة العلل بداية، لكانت الحلقات جميعا معلولة، وإذا كانت معلولة فهي مرتبطة بغيرها، ويتوجه السؤال حينئذ. عن الشيء الذي ترتبط به هذه الحلقات جميعا. وفي عرض آخر، ان سلسلة الأسباب، إذا كان يوجد فيها سبب غير خاضع لمبدأ العلية، ولا يحتاج إلى علة، فهذا هو السبب الأول، الذي يضع للسلسلة بدايتها، ما دام غير منبثق عن سبب آخر يسبقه. وإذا كان كل موجود في السلسلة محتاجا إلى علة - طبقا لمبدأ العلية - دون استثناء، فالموجودات جميعا تصبح بحاجة إلى علة ويبقى سؤال لماذا؟ - هذا السؤال الضروري - منصبا على الوجود بصورة عامة، ولا يمكن ان نتخلص من هذا السؤال. الا بافتراض سبب أول متحرر من مبدأ العلية، فإننا حينئذ ننتهي في تعليل الأشياء اليه. ولا نواجه فيه سؤال لماذا وجد؟ لان هذا السؤال انما نواجهه في الأشياء الخاضعة لمبدأ العلية خاصة.
فلنأخذ الغليان مثلا، فهو ظاهرة طبيعية محتاجة إلى سبب، طبقا لمبدأ العلية، ونعتبر سخونة الماء سببا لها، وهذه السخونة هي كالغليان في افتقارها إلى علة سابقة. وإذا أخذنا الغليان والسخونة كحلقتين في سلسلة الوجود، أو في تسلسل العلل والأسباب، وجدنا من الضروري أن نضع للسلسلة حلقة أخرى، لأن كلا من الحلقتين
بحاجة إلى سبب، فلا يمكنهما الاستغناء عن حلقة ثالثة، والحلقات الثلاث تواجه بمجموعها نفس المسألة، وتفتقر إلى مبرر لوجودها، ما دامت كل واحدة منها خاضعة لمبدأ العلية. وهذا هو شأن السلسلة دائما وأبدا، ولو احتوت على حلقات غير متناهية. فما دامت حلقاتها جميعا محتاجة إلى علة، فالسلسلة بمجموعها مفتقرة إلى سبب، وسؤال (لماذا وجد؟) يمتد ما امتدت حلقاتها، ولا يمكن تقديم الجواب الحاسم عليه، ما لم ينته التسلسل فيها إلى حلقة غنية بذاتها، غير محتاجة إلى علة، فتقطع
283

التسلسل، وتضع للسلسلة بدايتها الأولية الأولى (1)
والى هنا نكون قد جمعنا ما يكفي للبرهنة على انبثاق هذا العالم، عن واجب بالذات، غني بنفسه، وغير محتاج إلى سبب، لأن هذا هو ما يحتمه تطبيق مبدأ العلية على العالم بموجب قوانينها السالفة الذكر. فان العلية بعد ان كانت مبدأ ضروريا للكون، وكان تسلسلها اللانهائي مستحيلا، فيجب أن تطبق على الكون تطبيقا شاملا متصاعدا، حتى يقف عند علة أولى واجبة.
ولا بأس ان نشير، في ختام هذا البحث، إلى لون من التفكير
المادي في هذا المجال، تقدم به بعض الكتاب المعاصرين للرد على فكرة السبب الأول أو العلة الأولى، فهو يقول ان السؤال عن العلة الأولى لا معنى له، فالتفسير العلمي - أو السببي - يستلزم دائما حدين اثنين مرتبطا أحدهما بالآخر، هما العلة والمعلول، أو السبب والمسبب، فعبارة (علة أولى) فيها تناقض في الحدود إذ أن كلمة علة تستلزم حدين كما رأينا، لكن كلمة أولى تستلزم حدا واحدا فالعلة لا يمكن ان تكون (أولى) وتكون (علة) في نفس الوقت، فاما ان تكون أولى
دون ان تكون علة، أو بالعكس.
ولا أدري من قال له أن كلمة علة تستلزم علة قبلها. صحيح أن التفسير السببي يستلزم دائما حدين هما العلة والمعلول، وصحيح ان من التناقض ان نتصور علة بدون معلول ناتج عنها لأنها ليست عندئذ علة وانما هي شيء عقيم، وكذلك من الخطأ ان نتصور معلولا لا علة له، فكل منها يتطلب الآخر إلى جانبه، ولكن العلة بوصفها علة، لا تتطلب علة قبلها وانما تتطلب معلولا، فالحدان متوافران معا في فرضية (العلة الأولى) لان العلة الأولى لها معلولها الذي ينشأ منها، وللمعلول علته الأولى لا يتطلب المعلول دائما معلولا ينشأ منه، إذ قد تتولد ظاهرة من سبب ولا يتولد عن الظاهرة شيء جديد، كذلك العلة لا تتطلب علة فوقها وانما تتطلب معلولا لها (2).

(1) وبالتعبير الفلسفي الدقيق، ان الشيء لا يوجد الا إذا امتنع عليه جميع انحاء العدم، ومن جملة انحاء العدم، عدمه بعدم جميع أسبابه وهذا لا يمتنع الا إذا كان يوجد في جملة أسبابه واجب بالذات.
(2) الدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا، المسألة الفلسفية ص 80، منشورات عويدات.
284

* - 4 - المادة أو الله
انتهينا من الجزء السابق إلى نتيجة، هي ان المراد الأساسي الأعمق للكون والعالم - بصورة عامة - هو العلة الواجبة بالذات، التي ينتهي إليها تسلسل الأسباب. والمسألة الجديدة هي ان هذه العلة الواجبة لذات، التي تعتبر الينبوع الأول للوجود، هل هي المادة نفسها أو شيء آخر فوق حدودها؟ وبالصيغة الفلسفية للسؤال نقول ان العلة الفاعلية للعالم، هل هي نفس العلة المادية أو لا؟
ولأجل التوضيح نأخذ مثالا، وليكن هو الكرسي. فالكرسي عبارة عن صفة أو هيئة خاصة. تحصل من تنظيم عدة اجزاء مادية تنظيما خاصا. ولذلك فهو لا يمكن أن يوجد، دون مادة من خشب أو حديد نحوهما. وبهذا الاعتبار يسمى الخشب علة مادية للكرسي الخشبي، فإنه لم يكن من الممكن، ان يوجد الكرسي الخشبي من دون الخشب. لكن من الواضح جدا، ان هذه العلة المادية ليست هي العلة الحقيقية، التي صنعت الكرسي. فان الفاعل الحقيقي للكرسي شيء غير مادته، هو النجار. ولذا تطلق الفلسفة على النجار اسم العلة الفاعلية. بالعلية الفاعلية للكرسي، ليست هي نفس علته المادية، من الخشب أو الحديد. فإذا سئلنا عن مادة الكرسي، أجبنا ان مادته هي الخشب، وإذا سئلنا عن الصانع له (العلة الفاعلية)، لم نجب بأنه الخشب، وانما نقول ان النجار صنعه بآلاته ووسائله الخاصة. فالمفارقة بين المادة والفاعل في الكرسي، (أو في التعبير الفلسفي: بين العلة المادية، والعلة الفاعلية) واضحة كل الوضوح. وهدفنا الرئيسي من المسألة، أن نتبين نفس المفارقة في نفس العالم، بين مادته الأساسية
285

(العلة المادية) والفاعل الحقيقي (العلة الفاعلية). فهل فاعل هذا العالم وصانعه شيء آخر، خارج عن حدود المادة ومغاير لها، كما ان صانع الكرسي مغاير لمادته الخشبية؟ أو انه نفس المادة التي تتركب منها كائنات العالم؟
وهذه هي المسألة التي تقرر المرحلة الأخيرة، من مراحل النزاع الفلسفي، بين الإلهية والمادية. وليس الديالكتيك الا احدى المحاولات الفاشلة، التي قامت بها المادية، للتوحيد بين العلة الفاعلية والعلة المادية للعالم، طبقا لقوانين التناقض الديالكتيكية.
والتزاما بطريقة الكتاب، سوف نبحث المسألة بدراسة المادة دراسة فلسفية، على ضوء المقررات العلمية، والقواعد الفلسفية، متحاشين العمق الفلسفي في البحث، والتفصيل في العرض.
* المادة على ضوء الفيزياء
في المادة فكرتان علميتان، تناولهما العلماء بالبحث والدرس منذ آلاف السنين:
إحداهما: ان جميع المواد المعروفة في دنيا الطبيعة. انما تتركب من عدة مواد بسيطة محدودة، تسمى بالعناصر. والأخرى: ان المادة تتكون من دقائق صغيرة جدا، تسمى الذرات.
أما الفكرة الأولى فقد أخذ بها الإغريق بصورة عامة. وكان الرأي السائد هو اعتبار الماء، والهواء، والتراب، والنار، عناصر بسيطة، وارجاع جميع المركبات إليها، بصفتها المواد الأولية في الطبيعة. وحاول بعض علماء العرب بعد ذلك، أن يضيفوا إلى هذه العناصر الأربعة ثلاثة عناصر أخرى هي الكبريت، والزئبق، والملح.
وقد كانت خصائص العناصر البسيطة - في رأي الأقدمين - حدودا فاصلة بينها، فلا يمكن أن يتحول عنصر بسيط إلى عنصر بسيط آخر.
286

وأما الفكرة الثانية (فكرة ائتلاف الأجسام من ذرات صغيرة) فكانت موضوع صراع بين نظريتين: النظرية الانفصالية، والنظرية الاتصالية. فالنظرية الانفصالية هي النظرية الذرية للفيلسوف الإغريقي (ديمقريطس)، القائلة ان الجسم مركب من أجزاء صغيرة، يتخلل بينها فراغ، وأطلق على تلك الاجزاء اسم الذرة، أو الجزء الذي لا يتجزأ. والنظرية الاتصالية هي النظرية الغالبة، التي أخذ بها أرسطو ورجال مدرسته. والجسم في زعم هذه النظرية، ليس محتويا على ذرات، ومركبا من وحدات صغيرة، بل هو شيء واحد متماسك يمكننا أن نقسمه فنخلق منه أجزاء منفصلة بالتقسيم، لا انه يشتمل سلفا على أجزاء كهذه.
وقد جاء بعد ذلك دور الفيزياء الحديثة، فدرست الفكرتين درسا علميا، على ضوء اكتشافاتها في عالم الذرة. فأقرت الفكرتين بصورة أساسية، فكرة العناصر البسيطة، وفكرة الذرات، وكشفت في مجال كل منهما عن حقائق جديدة، لم يكن من الممكن التوصل إليها سابقا.
ففيما يخص الفكرة الأولى، استكشفت الفيزياء ما يقارب مائة من العناصر البسيطة، التي تتكون منها المادة الأساسية للكون والطبيعة. بصورة عامة. فالعالم وان بدا لأول نظرة، مجموعة هائلة من الحقائق والأنواع المختلفة، ولكن هذا الحشد الهائل المتنوع، يرجع في التحليل العلمي إلى تلك العناصر المحدودة.
والأجسام - بناء على هذا - قسمان أحدهما جسم بسيط، وهو الذي يتكون من أحد تلك العناصر، كالذهب، والنحاس، والحديد، والرصاص، والزئبق. والآخر هو الجسم المركب من عنصرين، أو عدة عناصر بسيطة، كالماء المركب من ذرة اوكسجين وذرتين من الهيدروجين، أو الخشب المركب في الغالب من الأوكسجين والكربون والهيدروجين.
وفيما يخص الفكرة الثانية، برهنت الفيزياء الحديثة علميا، على النظرية الانفصالية، وان العناصر البسيطة مؤلفة من ذرات صغيرة ودقيقة إلى حد ان المليمتر الواحد من المادة، يحتوي على ملايين من تلك الذرات. والذرة عبارة
287

عن الجزء الدقيق من العنصر، الذي تزول بانقسامه خصائص ذلك العنصر البسيط.
والذرات تحتوي على نواة مركزية لها، وعلى كهارب تدور حول النواة، بسرعة هائلة، وهذه الكهارب هي الالكترونات. والالكترون هو وحدة الشحنة السالبة. كما أن النواة تحتوي على بروتونات ونيوترونات. فالبروتونات هي الدقائق الصغيرة. وكل وحدة من وحداتها تحمل شحنة موجبة، تساوي شحنة الألكترون السالبة. والنيوترونات دقائق أخرى تحتويها النواة، وليس عليها أي شحنة كهربائية.
وقد لوحظ على ضوء الاختلاف الواضح، بين طول موجات الأشعة التي تنتج عن قذف العناصر الكيماوية بقذائف من الالكترونات ان هذا الاختلاف بين العناصر، انما حصل بسبب اختلافها في عدد الالكترونات، التي تحتويها ذرات هذه العناصر. واختلافها في عدد الالكترونات، يقتضي تفاوتها في مقدار الشحنة الموجبة في النواة أيضا.
لأن الذرة متعادلة في شحناتها كهربائيا، فالشحنة الموجبة فيها بمقدار السالبة. ولما كانت زيادة عدد الالكترونات، في بعض العناصر على بعض. يعني زيادة وحدات الشحنة السالبة فيها، فيجب أن تكون نواتها، محتوية على شحنة موجبة معادلة. وعلى هذا الأساس أعطيت الأرقام المتصاعدة للعناصر. فالهيدرجين = (1)، بحسب رقمه الذري. فهو يحتوي في نواته على شحنة واحدة موجبة، يحملها بروتون واحد، ويحيط بها ألكترون واحد ذو شحنة سالبة. والهليوم أرقى منه في الجدول الذري للعناصر، لأنه = (2)، باعتباره يحتوي في نواته على ضعف الشحنة الموجبة، المرتكزة في نواة الهيدروجين أي على بروتونين ويحيط بنواتها الكترونان. ويأخذ الليثيوم الرقم الثالث. وهكذا تتصاعد الأرقام الذرية إلى اليورانيوم - وهو اثقل العناصر المستكشفة لحد الآن - فرقمه الذري - (92). بمعنى ان نواته المركزية تشتمل على (92) وحدة، من وحدات الشحنة الموجبة، ويحيط بها ما يماثل هذا العدد من الالكترونات. أي من وحدات الشحنة السالبة.
288

وفي هذا التسلسل للأرقام الذرية، لا يبدو للنيوترونات الكامنة في النواة أدنى تأثير، لأنها لا تحمل شحنة مطلقا. وانما تؤثر في الوزن الذري للعناصر، لأنها في وزنها مساويه للبروتونات. ولأجل ذلك كان الوزن الذري للهيلوم - مثلا - يعادل وزن اربع ذرات من الهيدروجين، باعتبار اشتمال نواته على نيوترونين وبروتونين، في حال ان النواة الهيدورجينية، لا تحتوي الا على بروتون واحد.
ومن الحقائق التي أتيح للعلم اثباتها هو امكان تبدل العناصر بعضها ببعض وعمليات التبدل - هذه - بعضها يتم بصورة طبيعية، وبعضها يحصل بالوسائل العلمية.
فقد لوحظ ان عنصر اليورانيوم، يولد أنواعا ثلاثة من الأشعة، هي أشعة ألفا، وبيتا، وجاما. وقد وجد (رذرفورد) - حين فحص هذه الأنواع - أن أشعة (ألفا) مكونة من دقائق صغيرة، عليها شحنات كهربائية سالبة، وقد ظهر نتيجة للفحص العلمي، ان دقائق (الالفا) هي عبارة عن ذرات هليوم، بمعنى ان ذرات هليوم تخرج من ذرات اليورانيوم، أو بتعبير آخر ان عنصر هليوم يتولد من عنصر اليورانيوم. كما ان عنصر اليورانيوم، بعد ان شع ألفا، وبيتا، وجاما، يتحول تدريجيا إلى عنصر آخر، وهو عنصر الراديوم. والراديوم أخف في وزنه الذري من اليورانيوم، وهو بدوره يمر بعده تحولات عنصرية، حتى ينتهي إلى عنصر الرصاص.
وقام (رذرفورد) بعد ذلك، بأول محاولة لتحويل عنصر إلى عنصر آخر، وذلك انه جعل نوى ذرات الهليوم (دقائق الالفا)، تصطدم بنوى ذرات الآزوت، فتولدت البروتونات، أي نتجت ذرة هيدروجين من ذرة الآزوت، وتحولت ذرة الآزوت إلى اوكسجين. وأكثر من هذا، فقد ثبت ان من الممكن، ان تتحول بعض أجزاء الذرة إلى جزء آخر، فيمكن لبروتون - أثناء عملية انقسام الذرة - ان يتحول إلى نيوترون، وكذلك العكس.
وهكذا أصبح تبديل العناصر من العمليات الأساسية في العلم.
289

ولم يقف العلم عند هذا الحد، بل بدأ بمحاولة تبديل المادة إلى طاقة خالصة، أي نزع الصفة المادية للعنصر بصورة نهائية، وذلك على ضوء جانب من النظرية النسبية ل‍ (آينشتين)، إذ قرر ان كتلة الجسم نسبية، وليست ثابتة، فهي تزيد بزيادة السرعة، كما تؤكد التجارب التي أجراها علماء الفيزياء الذرية، على الالكترونات التي تتحرك في مجال كهربائي قوي، ودقائق (بيتا) المنطلقة من نويات الأجسام المشعة. ولما كانت كتلة الجسم المتحرك تزداد بزيادة حركته، وليست الحركة الا مظهرا من مظاهر الطاقة، فالكتلة المتزايدة في الجسم هي اذن طاقته المتزايدة، فلم يعد في الكون عنصران متمايزان، أحدهما المادة التي يمكن مسها وتتمثل لنا في كتلة. والآخر الطاقة، التي لا يمكن ان ترى، وليس لها كتلة. كما كان يعتقد العلماء سابقا، بل أصبح العلم يعرف ان الكتلة ليست الا طاقة مركزة.
ويقول آنشتين في معادلته: ان الطاقة = كتلة المادة * مربع سرعة الضوء (وسرعة الضوء تساوي (186000) ميلا في الثانية) كما أن الكتلة = الطاقة ÷ مربع سرعة الضوء.
وبذلك ثبت، أن الذرة بما فيها من بروتونات والكترونات ليست في الحقيقة الا طاقة متكاثفة، يمكن تحليلها وارجاعها إلى حالتها الأولى.
فهذه الطاقة هي الأصل العلمي للعالم في التحليل الحديث، وهي التي تظهر في أشكال مختلفة، وصور متعددة، صوتية، ومغناطيسية، وكهربائية، وكيمياوية، وميكانيكية.
وعلى هذا الضوء، لم يعد الازدواج بين المادة والاشعاع، بين الجسيمات والموجات، أو بين ظهور الكهرب على صورة مادة أحيانا، وظهوره على صورة كهرباء أحيانا أخرى. أقول، لم يعد هذا غريبا،
بل أصبح مفهوما بمقدار، ما دامت كل هذه المظاهر صورا لحقيقة واحدة وهي الطاقة.
وقد أثبتت التجارب عمليا صحة هذه النظريات، إذ أمكن للعلماء أن يحولوا المادة إلى طاقة، والطاقة إلى مادة. فالمادة تحولت إلى طاقة، عن طريق التوحيد بين نواة ذرة الهيدروجين ونواة ذرة ليثيوم. فقد نتج عن ذلك نواتان
290

من ذرات الهليوم، وطاقة هي في الحقيقة. الفارق بين الوزن الذري لنواتين من الهليوم، والوزن الذري لنواة هيدروجين ونواة ليثيوم. والطاقة تحولت إلى مادة، عن طريق تحويل أشعة (جاما) - وهي أشعة لها طاقة وليس لها وزن - إلى دقائق مادية، من الالكترونات السالبة والالكترونات الموجبة التي تحاول بدورها إلى طاقة، إذا اصطدم الموجب منها بالسالب.
ويعتبر أعظم تفجير للمادة توصل اليه العلم، هو التفجير الذي يمكن للقنبلة الذرية، والهيدروجينية ان تحققه، إذ يتحول بسببهما جزء من المادة إلى طاقة هائلة.
وتقوم الفكرة في القنبلة الذرية، على امكان تحطيم نواة ذرة ثقيلة، بحيث تنقسم إلى نواتين أو أكثر، من عناصر أخف. وقد تحقق ذلك بتحطيم النواة، في بعض أقسام عنصر اليورانيوم، الذي يطلق عليه اسم اليورانيوم 235، نتيجة لاصطدام النيوترون بها.
وتقوم الفكرة في القنبلة الهيدروجينية، على ضم نوى ذرات خفيفة إلى بعضها، لتكون بعد اتحادها نوى ذرات أثقل منها، بحيث تكون كتلة النواة الجديدة، أقل من كتلة المكونات الأصلية. وهذا الفرق في الكتلة، هو الذي يظهر في صورة طاقة. ومن أساليب ذلك دمج اربع ذرات هيدروجين، بتأثير الضغط والحرارة الشديدين، وانتاج ذرة من عنصر الهليوم، مع طاقة، هي الفارق الوزني بين الذرة الناتجة، والذرات المندمجة، وهو كسر ضئيل جدا في حساب الوزن الذري.
* نتائج الفيزياء الحديثة.
ويستنتج من الحقائق العلمية، التي عرضناها عدة أمور:
أ - ان المادة الأصلية للعالم، حقيقة واحدة مشتركة، بين جميع كائناته وظواهره، وهذه الحقيقة المشتركة هي التي تظهر بمختلف الأشكال، وتتنوع بشتى التنوعات.
291

ب - ان خواص المركبات المادية كلها عرضية، بالإضافة إلى المادة الأصلية. فالماء بما يملك من خاصة السيلان، ليس شيئا ذاتيا للمادة، التي يتكون منها، وانما هو صفة عرضية، وذلك بدليل انه مركب - كما عرفنا سابقا - من عنصرين بسيطين، وفي الامكان افراز هذين العنصرين عن الآخر، فيرجعان إلى حالتهما الغازية، وتزول صفة الماء تماما. ومن الواضح ان الصفات التي يمكن ان تزول عن الشيء، لا يمكن ان تكون ذاتية له.
ج - ان خواص العناصر البسيطة نفسها، ليست ذاتية للمادة أيضا، فضلا عن خصائص المركبات. والبرهان العلمي على ذلك ما مر بنا من امكان تحول بعض العناصر إلى بعض، وبعض ذراتها إلى ذرات أخرى، طبيعيا أو اصطناعيا، فان هذا امر يدل على ان خصائص العناصر، انما هي صفات عرضية للمادة، المشتركة بين جميع العناصر البسيطة. فليست صفات الراديوم، والرصاص، والآزوت، والأوكسجين، ذاتية للمواد، التي تتمثل في تلك العناصر، ما دام في الامكان تبديلها البعض بالبعض.
د - وأخيرا، فنفس صفة المادية أصبحت - على ضوء الحقائق السابقة - صفة عرضية أيضا، فهي لا تعدو أن تكون لونا من ألوان الطاقة، وشكلا من أشكالها، وليس هذا الشكل ذاتيا لها، لما سبق من انها قد تستبدل هذا الشكل بشكل آخر، فتتحول المادة إلى طاقة. ويتحول الكهرب إلى كهرباء.
* النتيجة الفلسفية من ذلك
وإذا أخذنا تلك النتائج العلمية، بعين الاعتبار، وجب أن ندرسها درسا فلسفيا، لنعرف ما إذا كان في الامكان، أن نفترض المادة هي السبب الاعلى (العلة الفاعلية) للعالم أو لا؟ ولا تردد في ان الجواب الفلسفي على هذا السؤال، هو النفي بصورة قاطعة، ذلك لأن المادة الأصلية للعالم، حقيقة واحدة عامة، في جميع مظاهره
وكائناته، ولا يمكن للحقيقة الواحدة ان تختلف آثارها، وتتباين أفعالها. فالتحليل العلمي للماء. والخشب، والتراب، وللحديد والآزوت، والرصاص. والراديوم، أدى في نهاية
292

المطاف إلى مادة واحدة، نجدها في كل هذه العناصر وتلك المركبات. فلا تختلف مادة كل واحد من هذه الأشياء، عن مادة غيره، ولذلك يمكن تحويل مادة شيء إلى شيء آخر، فكيف يمكن ان نسند إلى تلك المادة الأساسية، التي نجدها في الأشياء جميعا، تنوع تلك الأشياء وحركاتها المختلفة؟ ولو أمكن هذا، لكان معناه ان الحقيقة الواحدة، قد تتناقض ظواهرها، وتختلف أحكامها. وفي ذلك القضاء الحاسم على جميع العلوم الطبيعية، بصورة عامة، لان هذه العلوم قائمة جميعا على أساس ان الحقيقة الواحدة لها ظواهر، ونواميس معينة لا تختلف، كما درسنا ذلك بكل تفصيل في الجزء السابق من هذه المسألة. فقد قلنا ان تجارب العالم الطبيعي، لا تقع الا على موارد معينة ومع ذلك فهو يشيد قانونه العلمي العام، الذي يتناول كل ما تتفق حقيقته مع موضوع تجربته. وليس ذلك الا لأن المواد، التي عمم عليها القانون، يتمثل فيها نفس الواقع الذي درسه في تجاربه الخاصة. ومعنى هذا، أن الواقع الواحد المشترك لا يمكن ان تتناقض ظواهره وان تختلف آثاره، والا لو أمكن شيء من ذلك، لما أمكن للعالم أن يضع قانونه العام. وعلى هذا الأساس نعرف، ان الواقع المادي المشترك للعالم، الذي دلل عليه العلم، لا يمكن ان يكون هو السبب والعلة الفاعلية له، لان العالم مليء بالظواهر المختلفة، والتطورات المتنوعة.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، قد علمنا على ضوء النتائج العلمية السابقة، ان الخصائص والصفات، التي تبدو بها المادة، في مختلف مجالات وجودها، خصائص عرضية للمادة الأصلية، أو للواقع المادي المشترك. فخصائص المركبات. صفات عرضية للعناصر البسيطة، وخصائص العناصر البسيطة، صفات عرضية للمادة الذرية. وصفة المادية نفسها، هي أيضا عرضية كما سبق، بدليل امكان سلب كل واحدة من هذه الصفات، وتجريد الواقع المشترك منها، فلا يمكن ان تكون المادة ديناميكية. وسببا ذاتيا لاكتساب تلك الخصائص والصفات.
293

* مع التجريبيين
ولنقف قليلا، عند أولئك الذين يقدسون التجربة والحس العلمي، ويعلنون بكل صلف، اننا لا نؤمن بأي فكرة، ما لم تثبت بالتجربة، ولم يبرهن عليها عن طريق الحس. وما دامت المسألة الإلهية مسألة غيبية، وراء حدود الحس والتجربة، فيجب ان نطرحها جانبا، وننصرف إلى ما يمكن الظفر به في الميدان التجريبي، من حقائق ومعارف.... نقف عندهم لنسألهم، ماذا تريدون بالتجربة؟ وماذا تعنون برفض كل عقيدة لا برهان عليها من الحس؟
فان كل فحوى هذا الكلام، انهم لا يؤمنون بوجود شيء، ما لم يحسوا بوجوده احساسا مباشرا، ويرفضون كل فكرة ما لم يدركوا واقعها الموضوعي، بأحد حواسهم، فقد نسفوا بذلك الكيان العلمي كله. وأبطلوا جميع الحقائق الكبرى، المبرهن عليها بالتجربة التي يقدسونها. فان اثبات حقيقة علمية بالتجربة ليس معناه الاحساس المباشر بتلك الحقيقة. في الميدان التجريبي. ف‍ (نيوتن) - مثلا - حين وضع قانون الجاذبية العامة، على ضوء التجربة، لم يكن قد أحس بتلك القوة الجاذبية. بشيء من حواسه الخمس، وانما استكشفها عن طريق ظاهرة أخرى محسوسة، لم يجد لها تفسيرا الا بافتراض وجود القوة الجاذبة. فقد رأى ان السيارات لا تسير في خط مستقيم، بل تدور دورانا، وهذه الظاهرة لا يمكن أن تتم - في نظر نيوتن - لو لم تكن هناك قوة جاذبة، لان مبدأ القصور الذاتي يقضي بسير الجسم المتحرك، في اتجاه مستقيم، ما لم يفرض عليه أسلوب آخر من قوة خارجية. فانتهى من ذلك إلى قانون الجاذبية، الذي يقرر ان السيارات تخضع لقوة مركزية. هي الجاذبية.
وان كان يعني هؤلاء، الذين ينادون بالتجربة ويقدسونها، نفس الأسلوب الذي تم به علميا استكشاف قوى الكون وأسراره، وهو درس ظاهرة محسوسة ثابتة بالتجربة، واستنتاج شيء آخر منها استنتاجا عقليا، باعتبار التفسير الوحيد لوجودها. فهذا هو أسلوب الاستدلال على المسألة
294

الإلهية تماما. فان التجارب الحسية والعلمية، قد أثبت أن جميع خصائص المادة الأصلية، وتطوراتها وتنوعاتها، ليس ذاتية.
وانما هي عرضية، كحركة السيارات الشمسية حول المركز. فكما ان دورانها حوله ليس ذاتيا لها، بل هي تقتضي بطبيعتها الاتجاه المستقيم في الحركة طبقا لمبدأ القصور الذاتي.... كذلك خصائص العناصر والمركبات. وكما أن ذلك الدوران لما لم يكن ذاتيا، أتاح لنا أن نبرهن على وجود قوة خارجية جاذبة، كذلك هذا التنوع والاختلافات في خصائص المادة المشتركة، يكشف أيضا عن سبب وراء المادة. ونتيجة ذلك هي ان العلة الفاعلية للعالم غير علته المادية، أي أن سببه غير المادة الخام، التي تشترك فيها الأشياء جميعا.
* مع الديالكتيك
قد مر بنا الحديث عن الديالكتيك، في الجزء الثاني من هذه المسألة، وكشفنا عن الأخطاء الرئيسية التي ارتكز عليها، كالغاء مبدأ عدم التناقض ونحوه. ونريد الآن أن نبرهن، على عجزه من جديد عن حل مشكلة العالم، وتكوين فهم صحيح له، بقطع النظر عما في ركائزه وأسسه، من أخطاء وتهافت.
يزعم الديالكتيك ان الأشياء تنتج عن حركة في المادة، وان حركة المادة ناشئة ذاتيا عن المادة نفسها، باعتبار احتوائها على النقائض، وقيام الصراع الداخلي بين تلك النقائض.
فلنمتحن هذا التفسير الديالكتيكي، بتطبيقه على الحقائق العلمية، التي سبق أن عرفناها عن العالم، لنرى ماذا تكون النتيجة؟ ان العناصر البسيطة عدة أنواع، ولكل عنصر بسيط رقم ذري خاص به، وكلما كان العنصر أرقى كان رقمه أكثر، حتى ينتهي التسلسل إلى اليورانيوم، أرقى العناصر وأعلاها درجة. وقد أوضح العلم أيضا، ان مادة هذه العناصر البسيطة واحدة ومشتركة في الجميع، ولذا يمكن تبديلها البعض بالبعض، فكيف وجدت أنواع العناصر العديدة في تلك المادة المشتركة؟
والجواب على أسس التغير
295

الديالكتيكي، يتلخص في ان المادة قد تطورت من مرحلة إلى مرحلة أرقى، حتى بلغت درجة اليورانيوم. وعلى هذا الضوء يجب أن يكون عنصر الهيدروجين، نقطة الابتداء في هذا التطور، باعتباره أخف العناصر البسيطة. فالهيدروجين يتطور ديالكتيكيا بسبب التناقض المحتوى في داخله، فيصبح بالتطور الديالكتيكي عنصرا أرقى، أي عنصر الهليوم، وهذا العنصر بدوره ينطوي على نقيضه، فيشتعل الصراع من جديد، بين النفي والاثبات، بين الوجه السالب والوجه الموجب، حتى تدخل المادة في مرحلة جديدة، ويوجد العنصر الثالث، وهكذا تتصاعد المادة طبقا للجدول الذري.
هذا هو التفسير الوحيد، الذي يمكن للديالكتيك ان يقدمه في هذا المجال، تبريرا لديناميكية المادة. ولكن من السهل جدا، أن نتبين عدم امكان الأخذ بهذا التفسير، من ناحية علمية، لان الهيدروجين لو كان مشتملا بصورة ذاتية على نقيضه، ومتطورا بسبب ذلك طبقا لقوانين الديالكتيك المزعوم، فلماذا لم تتكامل جميع ذرات الهيدروجين؟ وكيف اختص هذا التكامل الذاتي ببعض دون بعض؟ فان التكامل الذاتي لا يعرف التخصيص، فلو كانت العوامل الخلافة للتطور والترقي، موجودة في صميم المادة الأزلية، لما اختلفت آثار تلك العوامل، ولما اختصت بمجموعة معينة من الهيدروجين، تحولها إلى هليوم وتترك الباقي. فنواة الهيدروجين (البروتون)، إذا كانت تحمل في ذاتها نفيها، وتتطور تبعا لذلك حتى تصبح بروتونين، بدلا من بروتون واحد، لنتج عن ذلك زوال الماء عن وجه الأرض تماما، لان الطبيعة إذا فقدت نوى ذرات الهيدروجين، وتحولت جميعا إلى نوى ذرات الهليوم، لم يكن من الممكن أن يوجد بعد ذلك ماء.
فما هو سبب الذي جعل تطور الهيدروجين إلى هليوم، مقتصرا على كمية معينة، وأطلق الباقي من أسر هذا التطور الجبري؟
وليس التفسير الديالكتي للمركبات، أدنى إلى التوفيق من تفسير الديالكتيك للعناصر البسيطة. فالماء إذا كان قد وجد طبقا لقوانين الديالكتيك فمعنى ذلك ان الهيدروجين يعتبر اثباتا، وان هذا الاثبات يثير نفي نفسه، بتوليده
296

للاوكسجين، ثم يتحد النفي والاثبات معا، في وحدة هي الماء، أو ان نعكس الاعتبار، فنفرض الأوكسجين اثباتا، والهيدروجين نفيا، والماء هو الوحدة التي انطوت على النفي والاثبات معا، وحصلت نتيجة تكاملية للصراع الديالكتي بينهما، فهل يمكن للديالكتيك أن يوضح لنا ان هذا التكامل الديالكتيكي، لو كان يتم بصورة ذاتية وديناميكية، فلماذا اختص بكمية معينة من العنصرين، ولم يحصل في كل هيدروجين وأوكسجين؟
ولا نريد بهذا أن نقول ان اليد الغيبية هي التي تباشر كل عمليات الطبيعة وتنوعاتها، وان الأسباب الطبيعية لا موضع لها من الحساب وانما نعتقد ان تلك التنوعات والتطورات، ناشئة من عوامل طبيعية خارج المحتوى الذاتي للمادة، وهذه العوامل تتسلسل، حتى تصل في نهاية التحليل الفلسفي، إلى مبدأ وراء الطبيعة، لا إلى المادة ذاتها.
والنتيجة، هي أن وحدة المادة الأصلية للعالم، التي برهن عليها العلم من ناحية، وتنوعاتها واتجاهاتها المختلفة، التي دل العلم على انها عرضية وليست ذاتية من ناحية أخرى، تكشف عن السر في المسألة الفلسفية، وتوضح ان السبب الاعلى لكل هذه التنوعات والاتجاهات، لا يكمن في المادة ذاتها، بل في سبب فوق حدود الطبيعة. ترجع اليه العوامل الطبيعية الخارجية، التي تعمل على تنويع المادة وتحديد اتجاهاتها.
* المادة والفلسفة
كنا ننطلق في برهاننا على المسألة الإلهية، من المادة بمفهومها العلمي، التي برهن العلم على اشتراكها، وعرضية الخصائص بالإضافة إليها. والآن نريد ان ندرس المسألة الإلهية، على ضوء المفهوم الفلسفي للمادة. ولاجل ذلك يجب ان نعرف ما هي المادة؟ وما هو مفهومها العلمي والفلسفي؟
نعني بمادة الشيء، الأصل الذي يتكون منه الشيء. فمادة السرير هي الخشب، ومادة الثوب هي الصوف. ومادة الورق هي القطن، بمعنى أن
297

الخشب والصوف والقطن، هي الأشياء التي يتكون منها السرير والثوب والورق. ونحن كثيرا ما نعين مادة للشيء، ثم نرجع إلى تلك المادة لنحاول معرفة مادتها، أي الأصل الذي تتكون منه، ثم نأخذ هذا الأصل، فنتكلم عن مادته وأصله أيضا. فالقرية إذا سئلنا مم تتكون؟ أجبنا بأنها تكون من عدة عمارات، ودور. فالعمارات والدور هي مادة القرية، ويتكرر السؤال عن هذه العمارات والدور، ما هي مادتها؟ ويجاب عن السؤال بأنها تتركب من الخشب والآجر والحديد. وهكذا نضع لكل شيء مادة، ثم نضع للمادة بدورها أصلا تتكون منه، ويجب أن ننتهي في هذا التسلسل إلى مادة أساسية، وهي المادة التي لا يمكن أن يوضع لها مادة بدورها.
ومن جزاء ذلك انبثق في المجال الفلسفي والعلمي، السؤال عن المادة الأساسية والأصلية للعالم، التي ينتهي إليها تحليل الأشياء في أصولها وموادها. وهذا السؤال يعتبر من أهم الأسئلة الرئيسية في التفكير البشري، العلمي والفلسفي. ويقصد بالمادة العلمية، أعمق ما تكشفه التجربة من مواد للعالم، فهي الأصل الأول في التحليلات العلمية. ويقصد بالمادة الفلسفية، أعمق مادة للعالم، سواء أكان من الممكن ظهورها في المجال التجريبي أم لا.
وقد مر بنا التحدث عن المادة العلمية، وعرفنا أن أعمق مادة توصل إليها العلم هي الذرة، بأجزائها من النوى والكهارب، التي هي تكاثف خاص للطاقة. ففي العرف العلمي، مادة الكرسي هي الخشب، ومادة الخشب هي العناصر البسيطة التي يأتلف منها، وهي: الأوكسجين، والكربون، والهيدروجين. ومادة هذه العناصر هي الذرات، ومادة الذرة هي أجزاؤها الخاصة من البروتونات والالكترونات وغيرهما. وهذه المجموعة الذرية. أو الشحنات الكهربائية المتكاثفة، هي المادة العلمية العميقة، التي أثبتها العلم بالوسائل التجريبية.
وهنا يجيء دور المادة الفلسفية، لنعرف ما إذا كانت الذرة في الحقيقة هي أعمق وابسط مادة للعالم، أو انها بدورها مركبة أيضا، من مادة وصورة؟ فالكرسي كما
عرفنا مركب من مادة وهي الخشب، وصورة هي هيئته الخاصة.
298

والماء مركب من مادة وهي ذرات الأوكسجين، والهيدروجين، وصورة وهي خاصية السيلان، التي تحصل عند التركيب الكيماوي بين الغازين. فهل الذرات الدقيقة هي المادة العلمية للعالم كذلك أيضا؟
والرأي الفلسفي السائد، هو أن المادة الفلسفية أعمق من المادة العلمية بمعنى ان المادة الأولى في التجارب العلمية، ليست هي المادة الأساسية في النظر الفلسفي، بل هي مركبة من مادة - أبسط منها - وصورة، وتلك المادة الأبسط، لا يمكن اثباتها بالتجربة، وانما يبرهن على وجودها بطريقة فلسفية.
* تصحيح الأخطاء
وعلى ضوء ما سبق، يمكن أن نعرف ان النظرية الذرية ل‍ (ديمقريطس) - القائلة، بأن أصل العالم عبارة عن ذرات أصلية لا تتجزأ - لها جانبان: أحدهما علمي، والآخر فلسفي. فالجانب العلمي هو ان بنية الأجسام مركبة من ذرات صغيرة، يتخلل بينها الفراغ، وليس الجسم كتلة متصلة، وان بدا لحواسنا كذلك، وتلك الوحدات الصغيرة هي مادة الأجسام جميعا. والجانب الفلسفي، هو ان ديمقريطس زعم ان تلك الوحدات والذرات، ليس مركبة من مادة وصورة، إذ ليست لها مادة أعمق وأبسط منها، فهي المادة الفلسفية، أي أعمق وأبسط مادة للعالم.
وقد اختلط هذان الجانبان من النظرية، على كثير من المفكرين، فبدا لهم ان عالم الذرة، الذي كشفه العلم الحديث بالأساليب التجريبية، يبرهن على صحة النظرية الذرية. فلم يعد من الممكن تخطئة (ديمقريطس) في تفسيره للأجسام - كما خطأه الفلاسفة السابقون - بعد أن تجلى للعلم عالم الذرة الجديد، وان اختلف التفكير العلمي الحديث، تفكير ديمقريطس، في تقدير حجم الذرة وتصوير بنيتها.
ولكن الواقع ان التجارب العلمية الحديثة عن الذرة، انما تثبت صحة الجانب العلمي، من نظرية ديمقريطس، فهي تدل على ان الجسم مركب من
299

وحدات ذرية، ويشتمل على فراغ يتخلل بين تلك الذرات، وليس متصلا كما يصوره الحس لنا. وهذه هي الناحية العلمية من النظرية، التي يمكن للتجربة ان تكشف عنها. وليس للفلسفة كلمة في هذا الموضوع، لان الجسم من ناحية فلسفية، كما يمكن ان يكون متصلا، كذلك يمكن أن يكون محتويا، على فراغ تتخلله أجزاء دقيقة.
وأما الجانب الفلسفي في نظرية ديمقريطس، فلا تمسه الكشوف العلمية بشيء، ولا تبرهن على صحته، بل تبقى مسألة وجود مادة ابسط من المادة العلمية في ذمة الفلسفة. بمعنى أن الفلسفة يمكنها ان تأخذ أعمق مادة، توصل إليها العلم في الميدان التجريبي، وهي الذرة ومجموعتها الخاصة، فتبرهن على أنها مركبة من مادة أبسط وصورة. ولا يتناقض ذلك مع الحقائق العلمية، لأن هذا التحليل والتركيب الفلسفي، ليس مما يمكن ان يظهر في الحقل التجريبي.
وكما أخطأ هؤلاء في زعمهم، ان التجارب العلمية تدلل على صحة النظرية بكاملها، مع انها متصلة بجانبها العلمي فقط، كذلك أخطأ عدة من الفلاسفة الأقدمين، الذين رفضوا الجانب الفلسفي من النظرية، فعمموا الرفض للناحية العلمية أيضا، وادعوا - من دون سند علمي أو فلسفي - أن الأجسام متصلة، وأنكروا الذرة والفراغ في محتواها الداخلي.
والموقف الذي يجب أن نقفه في المسألة، هو أن نقبل الجانب العلمي من النظرية، الذي يؤكد ان الأجسام ليست متصلة، وانها مركبة من ذرات دقيقة إلى الغاية. فان هذا الجانب قد كشفت عنه الفيزياء الذرية، بصورة لا تدع مجالا للشك، وأما الجانب الفلسفي من النظرية، القائل ببساطة تلك الوحدات، التي تكشف عنها الفيزياء الذرية. فنرفضه لان الفلسفة تبرهن على ان الوحدة، التي تكشف عنها الفيزياء - مهما كانت دقيقة - مركبة من صورة ومادة. ونطلق على هذه المادة اسم المادة الفلسفية، لأنها المادة الأبسط، التي يثبت وجودها بطريقة فلسفية لا علمية. وقد حان لنا الآن ان ندرس هذه الطريقة الفلسفية
300

.
* المفهوم الفلسفي للمادة
لما كانت المسألة التي نتناولها فلسفية، ودقيقة إلى حد ما، يجب ان نمشي بتؤدة وهدوء، ليتمكن القارئ من متابعة السير. ولذا فلنبدأ - أولا - بالماء والكرسي ونظائرهما، لنعرف كيف صدقت الفلسفة، بأنها مركبة من مادة وصورة؟
ان الماء يتمثل في مادة سائلة، وهو في نفس الوقت قابل لأن يكون غازا، ومركز هذه القابلية ليس هو السيلان، لان صفة السيلان لا يمكن أن تكون غازا. بل مركزه المادة المحتواة في الماء السائل. فهو - اذن مركب من حالة السيلان، ومادة تتصف بتلك الحالة، وهي قابلة للغازية أيضا. والكرسي يتمثل في خشب مصنوع على هيئة خاصة، وهو يقبل أن يكون منضدة، وليست هيئة الكرسي هي التي تقبل ان تكون منضدة، بل المادة. فعرفنا من ذلك ان الكرسي مركب من هيئة معينة، ومادة خشبية تصلح لان تكون منضدة، كما صلحت لان تكون كرسيا وهكذا في كل مجال، إذا لوحظ ان الكائن الخاص قابل للاتصاف، بنقيض صفته الخاصة، فان الفلسفة تبرهن بذلك، على ان له مادة، وهي التي تقبل للاتصاف بنقيض تلك الصفة الخاصة.
ولنأخذ مسألتنا على هذا الضوء. فقد عرفنا ان العلم يوضح ان الجسم ليس شيئا واحدا، بل هو مركب من وحدات أساسية، تسبح في فراغ. وهذه الوحدات باعتبارها الوحدات الأخيرة، في التحليل العلمي، فهي بدورها ليست مركبة من ذرات أصغر منها، والا لم تكن الوحدات النهائية للمادة. وهذا صحيح، فالفلسفة تعطي للعلم حريته الكاملة، في تعيين الوحدات النهائية، التي لا يتخللها فراغ ولا تحتوي على أجزاء. وحينما يعين العلم تلك الوحدات، يجيء دور الفلسفة، فتبرهن على أنها مركبة من صورة ومادة أبسط. فنحن لا نتصور وحدة مادية من دون اتصال، لأنها لو لم تكن متصلة اتصالا حقيقيا، لكانت محتوية على فراغ تتخلله أجزاء، كالجسم.
فمعنى الوحدة هي ان تكون متصلة، فلا تكون وحدة حقيقية بلا اتصال،
301

ولكنها في نفس الوقت قابلة للتجزئة والانفصال أيضا. ومن الواضح ان ما يقبل التجزئة والانفصال، ليس هو نفس الاتصالية المقومة للوحدة المادية، لان الاتصال لا يمكن ان يتصف بالانفصال كما ان السيولة لم يكن من الممكن ان تتصف بالغازية، فيجب ان تكون للوحدة مادة بسيطة، وهي التي تقبل التجزئة والانفصال. ويؤدي ذلك إلى اعتبارها مركبة من مادة، وصورة. فالمادة هي القابلة للتجزئة والانفصال، الهادم للوحدة، كما انها هي القابلة للاتصال أيضا، الذي يحقق الوحدة، وأما الصورة فهي نفس هذه الاتصالية، التي لا يمكن ان نتصور وحدة مادية من دونها.
ولكن المسألة التي تواجهنا في هذه المرحلة، هي ان الفلسفة كيف يمكنها معرفة، أن الوحدات الأساسية في المادة قابلة للتجزئة والانفصال؟ وهل يوجد سبيل إلى ذلك الا بالتجربة العلمية؟ والتجربة العلمية لم تثبت قابلية الوحدات الأساسية في المادة، للتجزئة والانقسام.
ومرة أخرى نؤكد، على ضرورة عدم الخلط بين المادة العلمية والمادة الفلسفية. ذلك ان الفلسفة لا تدعي ان تجزئة الوحدة أمر ميسور، بالأجهزة والوسائل العلمية التي يملكها الانسان، فان هذه الدعوى من حق العلم وحده، وانما تبرهن على ان كل وحدة فهي قابلة للانقسام والتجزئة، وان لم يمكن تحقيق الانقسام خارجا بالوسائل العلمية، ولا يمكن ان يتصور وحدة من دون قابلية الانقسام، أي لا يمكن ان يتصور جزء لا يتجزأ.
* الجزء والفيزياء والكيمياء
فمسألة الجزء الذي لا يتجزأ ليست مسألة علمية، وانما هي فلسفية خالصة. وبذلك نعرف ان الطرق أو الحقائق العلمية التي اتخذت للإجابة عن هذه المسألة، والتدليل على وجود الجزء الذي لا يتجزأ، أو على نفيه... ليست صحيحة مطلقا. ونشير إلى شيء منها:
أ - قانون النسب، الذي وضعه (والتن) في الكيمياء، لايضاح ان الاتحاد الكيمياوي بين العناصر، يجري طبقا لنسب معينة وركزه على أساس
302

ان المادة تتألف من دقائق صغيرة. لا تقبل التجزئة.
ومن الواضح ان هذا القانون. انما يعمل في مجاله الخاص كقانون كيميائي، ولا يمكن ان تحل به مشكلة فلسفية، لان قصارى ما يوضحه هو ان التفاعلات والتركيبات الكيمياوية، لا يمكن ان تتم الا بين مقادير معينة من العناصر، في ظروف وشروط خاصة. وإذا لم تحصل المقادير والنسب المعينة، فلا يوجد تفاعل وتركيب. ولكنه لا يوضح ما إذا كانت تلك المقادير قابلة للانقسام بحد ذاتها أولا؟ فيجب علينا اذن ان نفرق بين الناحية الكيميائية من القانون، والناحية الفلسفية، فهو من الناحية الكيميائية، يثبت ان خاصية التفاعل الكيمياوي توجد في مقادير معينة، ولا يمكن ان تتحقق في أقل من تلك المقادير، وأما من الناحية الفلسفية، فلا يثبت ان تلك المقادير هل هي اجزاء لا تتجزأ أولا، ولا صلة لذلك بالجانب الكيميائي من القانون مطلقا.
ب - المرحلة الأولى من الفيزياء الذرية، التي حصل فيها اكتشاف الذرة، فقد بدا آنذاك لبعض، ان الفيزياء في هذه المرحلة قد وضعت حدا فاصلا للنزاع في مسألة الجزء الذي لا يتجزأ، لأنها كشفت عن هذا الجزء بالأساليب العلمية. ولكن من الواضح - على ضوء ما سبق _ ان هذا الاكتشاف لا يثبت الجزء الذي لا يتجزأ بمعناه الفلسفي، لان وصول التحليل العلمي إلى ذرة لا يستطيع أن يجزئها، لا يعني انها غير قابلة للتجزئة بحد ذاتها.
ج - المرحلة الثانية من الفيزياء الذرية، التي اعتبرت - على العكس من المرحلة الأولى - دليلا قاطعا على نفي الجزء الذي لا يتجزأ لان العلم استطاع في هذه المرحلة، ان يجزئ الذرة ويفجرها، وتبخرت بذلك فكرة الجزء الذي لا يتجزأ.
وليست هذه المرحلة الا كمرحلة السابقة، في عدم صلتها بمسألة الجزء الذي لا يتجزأ، من ناحيتها الفلسفية. ذلك ان انقسام الذرة أو تحطيم نواتها. انما يغير فكرتنا عن الجزء، ولا يقضي بصورة نهائية على نظرية الجزء
303

الذي لا يتجزأ. فالذرة التي لا تنقسم بمعناها الذي كان لا يتصوره (ديمقريطس)، أو بمعناها الذي وضع (والتن) على أساسه قانون النسب في الكيمياء... قد تلاشى بتفجير الذرة، ولكن هذا لا يعني أن المشكلة قد انتهت، فان الوحدات الأساسية في عالم المادة، وهي الشحنات الكهربائية، سواء أكانت على شكل ذرات وأجرام مادية، أم على شكل أمواج، تواجه السؤال الفلسفي عما إذا كانت قابلة للتجزئة أولا.
* الجزء والفلسفة
وهكذا اتضح في دراستنا، أن مشكلة الجزء يجب أن تحل بطريقة فلسفية. وللفلسفة طرق كثيرة للبرهنة فلسفيا، على أن كل وحدة تقبل الانقسام ولا يوجد جزء لا يتجزأ. ومن أوضح تلك الطرق ان نرسم دائرتين كالرحى: أحدهما في داخل الأخرى، ونقطة الوسط في الرحى
هي مركز كلتا الدائرتين، ونضع نقطة على موضع معين من محيط الدائرة الكبيرة، ونقطة موازية لها على محيط الدائرة الصغيرة. ومن الواضح اننا إذا حركنا الرحى تحركت كلتا الدائرتين. فلنحرك الرحى ونجعل النقطة التي وضعناها على الدائرة الكبيرة، تتحرك طبقا لحركتها، ولكن لا نسمح لها بالحركة الا بمقدار احدى الوحدات المادية، ثم نلاحظ في تلك اللحظة النقطة الموازية لها، في الدائرة الصغيرة، لنتساءل هل طوت من المسافة نفس المقدار، الذي طوته النقطة المقابلة لها من الدائرة الكبيرة وهو وحدة كاملة، أو لم تطو الا بعضه؟ اما انها طوت نفس المقدار، فهو يعني ان النقطتين سارتا مسافة واحدة، وهذا مستحيل، لأننا نعلم ان النقطة مهما كانت أبعد عن المركز الرئيسي للدائرة، تكون حركتها أسرع، ولذا تطوي في كل دورة مسافة أطول مما تطويه النقطة القريبة في تلك الدورة، فلا يمكن ان تتساوى النقطتان فيما طوتهما من المسافة. وأما أن النقطة القريبة طوت جزءا من المسافة، التي طوتها النقطة البعيدة، فهذا يعني
304

ان الوحدة التي اجتازتها النقطة البعيدة، يمكن تجزئتها وتقسيمها، وليست وحدة لا تتجزأ. وهكذا يتضح أن أصحاب الفكرة القائلة بالوحدة التي لا تتجزأ. يواجهون موقفا حرجا، لأنهم لا يمكنهم أن يعتبروا النقطة البعيدة والقريبة متساويتين، في مقدار الحركة، ولا مختلفتين. لوم يبق لهم الا أن يزعموا لنا أن النقطة الموازية في الدائرة الصغيرة كانت ساكنة ولم تتحرك، وكلنا نعلم أن الدائرة القريبة من المركز، لو كانت ساكنة في اللحظة التي تحركت فيها الدائرة الكبيرة، لترتب على ذلك تفكك اجزاء الرحى وتصدعها.
وهذا البرهان يوضح لنا ان أي وحدة مادية نفترضها، فهي قابلة للتجزئة، لأنها حينما تطويها النقطة البعيدة عن المركز في حركتها، تكون النقطة القريبة قد قطعت جزءا منها.
وإذا كانت الوحدة المادية قابلة للتجزئة والانفصال. فهي مؤتلفة - اذن - من مادة بسيطة. تركز فيها قابلية التجزئة، واتصالية مقومة لوحدتها. وهكذا يتضح ان وحدات العالم المادي مركبة من مادة وصورة.
* النتيجة الفلسفية من ذلك
وحين يتبلور المفهوم الفلسفي للمادة، القاضي بائتلافها من مادة وصورة، نعرف ان المادة العلمية، لا يمكن ان تكون هي المبدأ الأول للعالم، لأنها بنفسها تنطوي على تركيب بين المادة والصورة. ولا يمكن لكل من الصورة والمادة، ان يوجد مستقلا عن الآخر، فيجب أن يوجد فاعل أسبق لعملية التركيب، تلك التي تحقق للوحدات المادية وجودها.
وبكلمة أخرى، ان المبدأ الأول هو الحلقة الأولى من سلسلة الوجود، وتسلسل الوجود يبدأ حتما بالواجب بالذات، كما عرفنا في الجزء السابق في هذه المسألة. فالمبدأ الأول هو الواجب بالذات، وباعتباره كذلك يجب أن يكون غنيا في كيانه ووجوده عن شيء آخر. والوحدات الأساسية في المادة ليست غنية في كيانها المادي، عن فاعل خارجي، لان كيانها مؤتلف من مادة
305

وصورة، فهي بحاجة اليهما معا، وكل من المادة والصورة بحاجة إلى الآخر في وجوده، فينتج من ذلك كله ان نعرف ان المبدأ الأول، خارج عن حدود المادة، وأن المادة الفلسفية للعالم - القابلة للاتصال والانفصال - بحاجة إلى سبب خارجي، يحدد وجودها الاتصالي أو الانفصالي.
* المادة والحركة
المادة في حركة مستمرة وتطور دائم، وهذه حقيقة متفق عليها بيننا جميعا والحركة تحتاج إلى سبب محرك لها. وهذه حقيقة أخرى مسلمة بلا جدال. والمسألة الأساسية في فلسفة الحركة، هي أن المادة المتحركة، هل يمكن ان تكون هي علة للحركة وسببا لها؟ وفي صيغة أخرى ان المتحرك موضوع الحركة، والمحرك سبب الحركة، فهل يمكن أن يكون الشيء الواحد، من الناحية الواحدة، موضوعا للحركة وسببا لها في وقت واحد؟.
والفلسفة الميتافيزيقية تجيب على ذلك، مؤكدة ان من الضروري تعدد المتحرك والمحرك، لان الحركة تطور وتكامل تدريجي للشيء الناقص، ولا يمكن للشيء الناقص ان يطور نفسه، ويكمل وجوده تدريجيا بصورة ذاتية، فان الناقص لا يكون سببا في الكمال. وعلى هذا الأساس وضعت في المفهوم الفلسفي للحركة قاعدة ثنائية بين المحرك والمتحرك، وفي ضوء هذه القاعدة نستطيع ان نعرف، ان سبب الحركة التطورية للمادة في صميمها وجوهرها، ليس هو المادة ذاتها، بل مبدأ وراء المادة، يمدها بالتطور الدائم، ويفيض عليها الحركة الصاعدة والتكامل المتدرج.
وعلى العكس من ذلك المادية الديالكتيكية، فإنها لا تعترف بالثنائية بين المادة المتحركة وسبب الحركة، بل تعتبر المادة نفسها سببا لحركتها وتطورها.
306

* فللحركة - اذن - تفسيران:
أما التفسير الديالكتيكي، الذي يعتبر المادة نفسها سببا للحركة، فالمادة فيه هي الرصيد الأعمق للتطور المتكامل. وقد فرض هذا على الديالكتيك القول، بأن المادة منطوية ذاتيا على الأطوار والكمالات، التي تحققها الحركة في سيرها المتجدد، والسر في اضطرار الديالكتيك إلى هذا القول، هو تبرير التفسير المادي للحركة، لأن سبب الحركة ورصيدها، لابد أن يكون محتويا ذاتيا على ما يمون الحركة ويمدها به، من أطوار وتكاملات، وحيث أن المادة عند الديالكتيك، هي السبب الممون لحركتها، والدافع بها في مجال التطور... كان لزاما على الديالكتيك ان يعترف للمادة بخصائص الأسباب والعلل. ويعتبرها محتوية ذاتيا على جميع النقائض التي تتدرج الحركة في تحقيقها، لتصلح ان تكون منبثقا للتكامل وممونا أساسيا للحركة. وهكذا اعترف بالتناقض كنتيجة حتمية لتسلسله الفلسفي، فنبذ مبدأ عدم التناقض، وزعم أن المتناقضات مجتمعة دائما في محتوى المادة الداخلي، وان المادة بهذه الثروة المحتواة تكون سببا للحركة والتكامل.
وأما التفسير الإلهي للحركة، فيبدأ مستفهما عن تلك المتناقضات، التي يزعم الديالكتيك احتواء المادة عليها، فهل هي موجودة في المادة جميعا
بالفعل، أو انها موجودة بالقوة؟ ثم يستبعد الجواب الأول نهائيا، لان المتناقضات لا يمكن لها - بحكم مبدأ عدم التناقض - أن تجتمع بالفعل، ولو اجتمعت بالفعل لجمدت المادة وسكنت. ويبقى بعد ذلك الجواب الثاني، وهو ان تلك النقائض موجودة بالقوة، ومعنى وجودها بالقوة ان المادة فيها استعداد لتقبل التطورات المتدرجة، وامكانية للتكامل الصاعد بالحركة. وهذا يعني انها فارغة في محتواها الداخلي عن كل شيء، سوى القابلية والاستعداد. والحركة في هذا الضوء خروج تدريجي من القابلية إلى الفعلية، في مجال التطور المستمر، وليست المادة هي العلة الدافعة لها، لأنها خالية من درجات التكامل، التي تحققها أشواط التطور والحركة، ولا تحمل الا امكانها واستعدادها. فلا بد - اذن - من التفتيش عن سبب الحركة الجوهرية للمادة، وممونها الأساسي خارج حدودها، ولابد أن يكون هذا السبب هو الله
307

تعالى، الحاوي ذاتيا على جميع مراتب الكمال.
* المادة والوجدان
ان موقفنا من الطبيعة، وهي زاخرة بدلائل القصد والغاية والتدبير، كموقف عامل يكتشف في حفرياته، أجهزة دقيقة مكتنزة في الأرض، فان هذا العامل سوف لا يشك في أن هناك يدا فنانة، ركبت تلك الأجهزة بكل دقة وعناية، تحقيقا لأغراض معينة منها، وكلما عرف العامل حقائق جديدة، عن دقة الصنع في تلك الأجهزة، وآيات الفن والابداع فيها، ازداد اكبارا للفنان الذي أنشا تلك الأجهزة وتقديرا لنبوغه وعقله فكذلك نقف أيضا نفس هذا الموقف، الذي توحي به طبيعة الانسان ووجدانه، من الطبيعة بصورة عامة، مستوحين من أسرارها وآياتها عظمة المبدع الحكيم الذي أبدعها، وجلال العقل الذي انبثقت عنه.
فالطبيعة اذن، صورة فنية رائعة، والعلوم الطبيعية هي الأدوات البشرية، التي تكشف عن ألوان الابداع في هذه الصورة، وترفع الستار عن اسرارها الفنية وتمون الوجدان البشري العام، بالدليل تلو الدليل على وجود الخالق المدبر الحكيم وعظمته وكماله. وهي كلما ظفرت في شتى ميادينها بنصر. أو كشفت عن سر، أمدت الميتافيزيقية بقوة جديدة، وأتحفت الانسانية بدليل جديد، على العظمة الخلاقة المبدعة، التي أبدعت تلك الصورة الخالدة ونظمتها، بما يدعو إلى الدهشة والاعجاب والتقديس. وهكذا لا تدع الحقائق التي أعلنها العلم الحديث مجالا للريب في مسألة الاله القادر الحكيم. فإذا كانت البراهين الفلسفية، تملأ العقل يقينا واعتقادا، فان المكتشفات العلمية الحديثة، تملأ النفس ثقة وايمانا بالعناية الإلهية، والتفسير الغيبي للأصول الأولى للوجود.
308

* المادة والفيزيولوجيا
خذ إليك فيزيولوجيا الانسان، في حقائقها المدهشة، واقرأ فيها عظمة الخالق ودقته، في كل ما تشرحه من تفاصيل، وتوضحه من أسرار. فهذا جهاز الهضم، أعظم معمل كيميائي في العالم، بما يتفنن به من أساليب تحليل الأغذية المختلفة تحليلا كيميائيا مدهشا، وتوزيع المواد الغذائية الصالحة توزيعا عادلا، على بلايين الخلايا الحية، التي يأتلف منها جسم الانسان، إذ تتلقى كل خلية مقدار حاجتها، فيتحول إلى عظام، وشعر، وأسنان، وأظافر، وأعصاب، طبق خطة مرسومة للوظائف المفروضة عليها، في نظام لم تعرف الانسانية أدق منه وأروع.
ونظرة واحدة إلى تلك الخلايا الحية، التي تنطوي على سر الحياة، تملأ النفس دهشة واعجابا بالخلية، حين تتكيف بمقتضيات موضعها وظروفها. فكأن كل خلية تعرف هندسة العضو، الذي تتوفر على ايجاده مع سائر الخلايا المشتركة معها في ذلك العضو، وتدرك وظيفته وكيف يجب أن يكون.
وجهاز الحس البصري، الصغير المتواضع في حجمه، لا يقل عن كل ذلك روعة واتقانا، ودلالة على الإرادة الواعية، والعقل الخالق. فقد ركب تركيبا دقيقا كاملا, لم يكن يتم الابصار بدون شيء من أجزائه. فالشبكية التي تعكس العدسة عليها النور، تتكون من تسع طبقات منفصلة، مع انها لا تزيد في سمكها على ورقة رقيقة، والطبقة الأخيرة منها تتكون من ثلاثين مليونا من الأعواد، وثلاثة ملايين من المخروطات، وقد نظمت هذه الأعواد والمخروطات، تنظيما محكما رائعا، غير أن الأشعة الضوئية ترتسم عليها، بصورة معكوسة، ولذا شاءت العناية الخالقة، ان يزود جهاز الابصار - وراء تلك الشبكة - بملايين من خريطات الأعصاب، وعندها تحدث بعض التغييرات الكيميائية، ويحصل أخيرا ادراك الصورة بوضعها الصحيح.
فهل يكون هذا التصميم الجبار، الذي يضمن عملية الابصار على أفضل وجه من فعل المادة على غير هدى وقصد، مع أن مجرد كشفه يحتاج إلى جهود فكرية جبارة؟
309

* المادة والبيولوجيا
وخذ إليك بعد ذلك البيولوجيا، وعلم الحياة. فإنك سوف تجد سرا آخر من الاسرار الإلهية الكبرى، سر الحياة الغامض، الذي يملأ الوجدان البشري اطمئنانا بالمفهوم الإلهي، ورسوخا فيه. فقد انهارت في ضوء علم الحياة، نظرية التولد الذاتي، التي كانت تسود الذهنية المادية، ويعتقد بها السطحيون والعوام بصورة عامة، ويسوقون للاستشهاد عليها أمثلة عديدة، من الحشرات التي تبدو - في زعمهم وكأنها تولدت ذاتيا، تحت عوامل طبيعية معينة، دون أن تتسلل من أحياء أخرى، كالديدان التي تتكون في الأمعاء، أو في قطعة من اللحم إذا عرضت للهواء مدة من الزمان، ونحو ذلك من الأمثلة، التي كانت توحي بها سذاجة التفكير المادي. ولكن التجارب العلمية القاطعة، برهنت على بطلان نظرية التولد الذاتي، وان الديدان لم تكن لتتولد الا بسبب جراثيم الحياة، التي كانت تشتمل عليها قطعة اللحم...
وقد استأنفت المادية حملتها من جديد، لتركيز نظرية التولد الذاتي، حين صنع أول مجهر مركب، على يد (انطون فان لوينهوك)، فاكتشف به عالما جديدا من العضويات الصغيرة، واستطاع هذا المجهر، ان يبرهن على أن قطرة الماء من المطر، لا توجد فيها جراثيم، وانما تتولد هذه الجراثيم بعد نزولها إلى الأرض. فرفع الماديون أصواتهم وهللوا للنصر الجديد، في ميدان الحيوانات الميكروبية، بعد ان عجزوا عن اقصاء النطفة، وتركيز نظرية التوالد الذاتي في الحيوانات المرئية بالعين المجردة. وهكذا تراجعوا إلى الميدان، ولكن على مستوى اخفض، واستمر الجدال حول تكون الحياة بين الماديين وغيرهم، إلى القرن التاسع عشر، حيث وضع (لويس باستور) حدا لذلك الصراع، وأثبت بتجاربه العلمية، ان الجراثيم والميكروبات التي تعيش في الماء، كائنات عضوية مستقلة، ترد إلى الماء من الخارج ثم تتوالد فيه.
ومرة أخرى، حاول الماديون أن يتعلقوا بخيط من الامل الموهوم، فتركوا ميادين فشلهم إلى ميدان جديد. هو ميدان التخمير، حيث حاول بعضهم
310

ان يطبق نظرية التوالد الذاتي، على الكائنات العضوية المجهرية، التي ينشأ بسببها الاختمار. ولكن سرعان ما باءت هذه المحاولة بالفشل، كالمحاولات السابقة، وذلك على يد (باستور) أيضا، حين أظهر أن التخمير لا يحصل في المادة لو حفظت بمفردها، وقطعت علاقتها بالخارج، وانما يوجد بسبب انتقال كائنات عضوية معينة إليها
، وتوالدها فيها.
وهكذا ثبت في نهاية المطاف، على شتى أقسام الحيوان - وحتى الحيوانات الدقيقة، التي اكتشفت حديثا ولم يكن من الممكن رؤيتها بالمجهر العادي - ان الحياة لا تنشأ الا من الحياة، وان النطفة لا التوالد الذاتي هي القانون العام السائد في دنيا الاحياء.
ويقف الماديون عند هذه النتيجة الحاسمة، موقفا حرجا، لأن نظرية التوالد الذاتي، إذا كانت قد سقطت من الحساب، في ضوء البحوث العلمية، فكيف يمكنهم ان يعللوا نشوء الحياة على وجه الأرض؟ وهل يبقى للوجدان البشري مستساغ - بعد ذلك - لاغماض عينيه في النور، وغض بصره عن الحقيقة الإلهية الناصعة، التي أودعت سر الحياة في الخلية، أو الخلايا الأولى. والا فلماذا كفت الطبيعة عن عملية التوالد الذاتي إلى الأبد، بمعنى ان التفسير المادي لخلية الحياة الأولى، بالتوالد
الذاتي، لو كان صحيحا، فكيف يمكن للمادية ان تعلل عدم حدوث التوالد الذاتي مرة أخرى في الطبيعة، على مر الزمن منذ الآماد البعيدة؟ والواقع انه سؤال محير للمادية، ومن الطريف ان يجيب عليه العالم السوفياتي (اوبارين) قائلا: إذا كان بعث الحياة عن طريق التفاعل المادي، الطويل الأمد، لا يزال ممكنا في كوكب أخرى غير كوكبنا - يعني الأرض - ففي هذا الكوكب لم يعد له مكان، ما دام هذا البعث أصبح يحدث عن طريق أسرع وأقرب، وهو طريق التوالد البشري الزواجي، ذلك لان التفاعل الجديد حل محل التفاعل البدائي البيولوجي والكيمي، وجعله غير ذي لزوم (1).
هذا هو كل جواب (اوبارين) على المشكلة، وهو جواب غريب حقا.

(1) قصه الانسان ص 10
311

فانظر اليه كيف يجعل استغناء الطبيعة، عن عملية التوليد الذاتي، بسبب انها عملية لا لزوم لها. بعد ان وجدت الطريق الأسرع والأقرب، إلى انتاج الحياة، كأنه يتكلم عن قوة عاقلة واعية، تترك عملية شاقة، بعد ان تهيأ لها الوصول إلى الهدف من طريق أيسر. فمتى كانت الطبيعة تترك نواميسها وقوانينها، لأجل ذلك؟ وإذا كان التوالد الذاتي قد جرى أول الآمر، طباق لقوانين ونواميس معينة، كما يتولد الماء من التركيب الكيميائي الخاص، بين الأوكسجين والهيدروجين، فمن الضروري ان يتكرر طبقا لتلك القوانين والنواميس، كما يتكرر وجود الماء متى وجدت العوامل الكيميائية الخاصة، سواء كان للماء لزوم أم لا. إذ ليس اللزوم في عرف الطبيعة، الا الضرورة المنبثقة عن قوانينها ونواميسها، فبأي سبب اختلفت تلك القوانين والنواميس؟
* المادة وعلم الوراثة
ولندع ذلك إلى علم الوراثة، الذي أخذ بمجامع الفكر البشري ويطأطئ له الانسان اعظاما واكبارا. فكم ندهش إذا عرفنا ان الميراث العضوي للفرد، تضمه كله المادة النووية الحية لخلايا التناسل، التي تسمى (الجر مبلازم)، وان مرد جميع الصفات الوراثية، إلى اجزاء مجهرية بالغة الدقة وهي الجينات، التي تحتويها تلك المادة الحية في دقة وانتظام، وقد أوضح العلم ان هذه المادة لم تشتق من خلايا جسمية، بل من (جرمبلازم) الوالدين، فالأجداد، وهكذا. وفي ضوء ذلك انهار الوهم الدارويني، الذي أقام داروين على أساسه نظرية التطور والارتقاء. القائلة بأن التغيرات والصفات، التي يحصل عليها الحيوان أثناء الحياة، بنتيجة الخبرة والممارسة أو بالتفاعل مع المحيط، أو نوع من الغذاء، يمكن أن تنتقل بالوراثة إلى ذريته، إذ ثبت على أساس التمييز بين الخلايا الجسمية، والخلايا التناسلية، ان الصفات المكتسبة لا تورث. وهكذا اضطر المناصرون لنظرية التطور والارتقاء. إلى ان ينفضوا يدهم من جميع الأسس والتفصيلات الداروينية تقريبا.
ويضعوا فرضية جديدة في ميدان التطور العضوي، وهي فرضية نشوء الأنواع بواسطة
312

الطفرات. ولا يملك العلماء اليوم رصيدا علميا لهذه النظرية، الا ملاحظة بعض مظاهر التغير الفجائي، في عدة من الحالات، التي دعت إلى افتراض ان تنوع الحيوان نشأ عن طفرات من هذا القبيل، بالرغم من ان الطفرات المشاهدة في الحيوانات، لم تبلغ إلى حد تكوين التغيرات الأساسية المنوعة، وان بعض التغيرات الدفعية لم تورث.
ولسنا بصدد مناقشة نظرية من هذا القبيل، وانما نستهدف التلميح إلى نظام الوراثة الدقيق، والقوة المدهشة في الجينات الدقيقة، التي توجه بها جميع خلايا الجسم، وتنشئ للحيوان شخصيته وصفاته. فهل يمكن في الوجدان البشري ان يحدث كل ذلك صدفة واتفاقا؟
* المادة وعلم النفس
وأخيرا فلنقف لحظة عند علم النفس، لنطل على ميدان جديد من ميادين الابداع الإلهي، ولنلاحظ من قضايا النفس بصورة خاصة، قضية الغرائز التي تنير للحيوانات طريقها وتسددها في خطوتها، فإنها من آيات الوجدان البينات، على ان تزويد الحيوان بتلك الغرائز، صنع مدبر حكيم، وليس صدفة عابرة. والا فمن علم النحل بناء الخلايا المسدسة الاشكال، وعلم كلب البحر بناء السدود على الأنهار، وعلم النمل المدهشات في إقامة مساكنه، بل من علم ثعبان البحر ان لا يضع بيضه الا في بقعة من قاع البحر، تقرب نسبة الملح فيها 35 %، وتبعد عن سطح البحر بما لا يقل عن (1200) قدما، ففي هذه البقعة يحرص الثعبان على رمي بيضه حيث لا ينضح الا مع توافر هذين الشرطين.
ومن الطريف ما يحكى من أن عالما صنع جهازا خاصا، وزوده بالحرارة المناسبة، وببخار الماء وسائر الشروط التي تتوفر في عملية طبيعية لتوليد كتاكيت من البيض، ووضع فيه بيضا ليحصل منه على دجاج، فلم يحصل على النتيجة المطلوبة، فعرف من ذلك ان دراسته لشرائط التوليد الطبيعي ليست كاملة، فأجرى تجارب أخرى على الدجاجة، حال احتضانها البيض،
313

وبعد دقة فائقة في الملاحظة والفحص، اكتشف ان الدجاجة تقوم في ساعات معينة، بتبديل وضع البيضة وتقليبها، من جانب إلى جانب، فأجرى التجربة في جهازه
الخاص مرة أخرى، مع اجراء تلك العملية التي تعلمها من الدجاجة، فنجحت نجاحا باهرا.
فقل لي بوجدانك، من علم الدجاجة هذا السر الذي خفي على ذلك العالم الكبير؟ أو من ألهمها هذه العملية الحكيمة التي لا يتم التوليد الا بها؟
وإذا أردنا ان ندرس الغرائز بصورة أعمق، كان علينا ان نعرض أهم النظريات في تعليلها وتفسيرها، وهي عديدة:
النظرية الأولى: ان الحيوان اهتدى إلى الافعال الغريزية، بعد محاولات وتجارب كثيرة، فأدمن عليها وصارت بسبب ذلك عادة موروثة، يتوارثها الأبناء عن الآباء، دون ان يكون في تعلمها موضع للعناية الغيبية.
وتحتوي هذه النظرية على جزءين، أحدهما ان الحيوان توصل أول الامر إلى العمل الغريزي، عن طريق المحاولة والتجربة. والآخر انه انتقل إلى الأجيال المتعاقبة، طبقا لقانون الوراثة. ولا يمكن الاخذ بكلا الجزأين.
أما الجزء الأول من النظرية، فهو غير صحيح، لان استبعاد الحيوان للمحاولة الخاطئة، والتزامه بالمحاولة الناجحة وحرصه عليها، يعني انه أدرك نجاحها وخطأ غيرها من المحاولات، وهذا ما لا يمكن الاعتراف به للحيوان، وخاصة فيما إذا كان نجاح المحاولة لا يظهر الا بعد موت الحيوان، كما في الفراش حين يصل إلى الطور الثالث من حياته، إذ يضع بيضه على هيئة دوائر على الأوراق الخضراء، فلا يفقس الا في الفصل التالي، فيخرج على هيئة ديدان صغيرة، في الوقت الذي تكون فيه الام قد ماتت، فكيف أتيح للفراش ان يعرف نجاحه فيما قام به من عمل، ويدرك انه هيأ بذلك للصغار رصيدا ضخما من الغذاء، مع انه لم يشهد ذلك؟ أضف إلى ذلك ان الغريزة لو صح انها وليدة التجربة، لأوجب ذلك تطور الغريزة وتكاملها في الحيوانات على مر الزمن، وتعزيزها على ضوء محاولات وممارسات أخرى، مع ان شيئا من هذا لم يحدث.
314

وأما الجزء الثاني من النظرية، فهو يرتكز على الفكرة القائلة بانتقال الصفات المكتسبة بالوراثة. وقد انهارت هذه الفكرة على ضوء النظريات الجديدة في علم الوراثة، كما ألمعنا اليه سابقا.
وهب ان قانون الوراثة يشمل العادات المكتسبة، فكيف تكون الأعمال الغريزية عادات موروثة، مع أن بعض الاعمال الغريزية، قد لا يؤديها الحيوان الا مرة أو مرات معدودة في حياته؟
النظرية الثانية:
تبدأ من حيث بدأت النظرية الأولى، فتفترض ان الحيوان اهتدى إلى العمل الغريزي، عن طريق المحاولات المتكررة، وانتقل إلى الأجيال المتعاقبة، لا عن طريق الوراثة، بل بلون من ألوان التفهيم والتعليم، الميسورة للحيوانات.
وتشترك هذه النظرية مع النظرية السابقة، في الاعتراض الذي وجهناه إلى الجزء الأول منها. وتختص بالاعتراض على ما زعمته، من تناقل العمل الغريزي عن طريق التعليم والتفهيم. فان هذا الزعم لا ينسجم مع الواقع المحسوس، حتى لو اعترفنا للحيوان بالقدرة على التفاهم، لان عدة من الغرائز تظهر في الحيوان منذ أول تكونه، قبل أن توجد أي فرصة لتعليمه، بل قد تولد صغار الحيوان بعد موت أمهاتها، ومع ذلك توجد فيها نفس غرائز نوعها. فهذه ثعابين الماء، تهاجر من مختلف البرك والأنهار إلى الأعماق السحيقة، لتضع بيضها، وقد تقطع في هجرتها آلاف الأميال، لانتخاب البقعة المناسبة، ثم تضع البيض وتموت، وتنشأ الصغار فتعود بعد ذلك إلى الشاطئ الذي جاءت منه أمهاتها، وكأنها قد أشبعت خريطة العالم تحقيقا وتدقيقا. فعلى يد من تلقت صغار الثعابين دروس الجغرافيا؟
النظرية الثالثة: أعلنتها المدرسة السلوكية في علم النفس، إذ حاولت ان تحلل السلوك الحيوي بصورة عامة، إلى وحدات من الفعل المنعكس. وفسرت الغرائز بأنها تركيبات معقدة من تلك الوحدات، أي سلسلة من أفعال منعكسة بسيطة، فلا تعدو الغريزة ان تكون، كحركة جذب اليد عند وخزها بالدبوس، وانكماشة العين عند تسليط ضوء شديد عليها، غير ان
315

هذين الفعلين منعكسان بسيطان، والغريزة منعكس مركب.
وهذا التفسير الآلي للغريزة لا يمكن الأخذ به، لدلائل متعددة يضيق المجال عن الإفاضة فيها. فمنها ان الحركة المنعكسة آليا انما تثار بسبب خارجي، كما في انكماشة العين التي تثيرها شدة الضوء، مع ان بعض الأعمال الغريزية ليس لها مثير خارجي. فأي مثير يجعل الحيوان منذ يوجد يفتش عن غذائه، ويجهد في سبيل الحصول عليه؟ أضف إلى ذلك أن الأعمال المنعكسة آليا، ليس فيها موضع لادراك وشعور، مع أن مراقبة الأعمال الغريزية، تزودنا بالشواهد القاطعة على مدى الادراك والشعور فيها. فمن تلك الشواهد تجربة أجريت على سلوك زنبار، يبني عشه من عدد من الخلايا، إذ كان ينتظر القائم بالتجربة، أن يتم الزنبار عمله في خلية ما، فيخدشها بدبوس، فإذا أتى الزنبار لعمل الخلية التالية ووجد ان الانسان قد أفسد عليه عمله، عاد اليه فأصلحه، ثم سار في عمل الخلية التالية، وكرر المجرب تجربته هذه عددا من المرات، أيقن بعدها ان تتابع اجراء السلوك الغريزي، ليس تتابعا آليا، ولاحظ المجرب ان الزنبار عندما يعود ويرى ان الخلية - التي تمت - قد أصابها التلف، يقوم بحركات، ويخرج أصواتا تدل على ما يشعر به من غضب وضيق.
وبعد سقوط هذه النظرية المادية، يبقى تفسيران للغريزة، أحدهما ان العمل الغريزي يصدر عن قصد وشعور، غير ان غرض الحيوان ليس ما ينتج عنه من فوائد دقيقة، بل الالتذاذ المباشر به، بمعنى ان الحيوان ركب تركيبا يجعله يلتذ من القيام بتلك الاعمال الغريزية، في نفس الوقت الذي تؤدي له أعظم الفوائد والمنافع، والتفسير الآخر، ان الغريزة الهام غيبي الهي، بطريقة غامضة، زود به الحيوان، ليعوض عما فقده من ذكاء وعقل. وسواء أصح هذا أم ذاك، فدلائل القصد والتدبير واضحة
وبدهية، في الوجدان البشري، والا فكيف حصل هذا التطابق الكامل، بين الاعمال الغريزية وأدق المصالح وأخفاها على الحيوان؟
إلى هنا نقف، لا لأن دلائل العلم على المسألة الإلهية قد استنفدت - وهي لا تستنفد في مجلدات ضخام - بل حفاظا على طريقتنا في الكتاب.
316

ولنلتفت - بعد كل ما سقناه من دلائل الوجدان، على وجود القوة الحكيمة الخلافة - إلى الفرضية المادية، لنعرف في ضوء ذلك مدى سخفها وتفاهتها. فان هذه الفرضية، حين تزعم ان الكون بما زخر به من أسرار النظام، وبدائع الخلقة والتكوين، وقد أوجدته علة لا تملك ذرة من الحكمة والقصد، تفوق في سخفها وغرابتها آلاف المرات، من يجد ديوانا ضخما من أروع الشعر وأرقاه، أو كتابا علميا زاخرا بالاسرار والاكتشافات. فيزعم ان طفلا كان يلعب بالقلم على الورق، فاتفق ان ترتبت الحروف، فتكون منها ديوان شعر، أو كتاب علم.
((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق أو لم يكف بربك انه على كل شيء شهيد)).
317

* - 5 - الادراك
المسألة الفلسفية الكبرى في الإدراك، هي محاولة صياغته في مفهوم فلسفي، يكشف عن حقيقته وكنهه. ويوضح ما إذا كان الإدارك ظاهرة مادية، توجد في المادة حين بلوغها مرحلة خاصة من التطور والتكامل، كما تزعم المادية، أو ظاهرة مجردة عن المادة، ولونا من الوجود وراءها ووراء ظواهرها، كما هو معنى الادراك في مفهومه الفلسفي. لدى الميتافيزيقية؟
والماركسية بصفتها مدرسة مادية، تؤكد بطبيعة الحال على المفهوم المادي للفكر والادراك، كما يتضح من النصوص التالية:
قال ماركس:
((لا يمكن فصل الفكر عن المادة المفكرة. فان هذه المادة هي جوهر كل التغيرات)) (1). وقال أنجلز:
((ان شعورنا وفكرنا - مهما ظهرا لنا متعاليين - ليسا سوى نتاج عضوي مادي جسدي. هو الدماغ)) (2). ((ان كل ما يدفع الناس إلى الحركة، يمر في أدمغتهم بالضرورة، حتى الطعام والشراب، اللذان يبدءان باحساس الجوع أو العطش وهو احساس يشعر به المخ أيضا. ان ردود فعل العالم

(1) المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ص 19.
(2) لودفيخ فيورباخ ص 57.
319

الخارجي على الانسان، تعبر عن نفسها في مخه، وتنعكس فيه على صور احساسات، وأفكار، ودوافع وارادات)) (1) وقال جورج بوليتزير:
((تبين العلوم الطبيعية، ان نقص تطور مخ أحد الافراد، وهو أكبر عائق امام تطور شعوره وفكره، وهذه هي حالة البله. فالفكر نتاج تاريخي لتطور الطبيعة، في درجة عالية من الكمال، تتمثل لدى الأنواع الحية في أعضاء الحس والجهاز العصبي، وعلى الخصوص في الجزء الأرقى المركزي، الذي يحكم الكائن العضوي كله الا وهو المخ)) (2).
وقال روجيه غارودي:
((ان التكون المادي للفكر، يعرض علينا - كما سوف نرى - حججا هي أجدر بالتصديق والاقتناع بها)) (3)..
وليس المفهوم الفلسفي، هو المفهوم الوحيد للادراك، الذي يمكن تقديمه على صعيد البحث والدرس. لان الادراك ملتقى لكثير من البحوث والدراسات. ولكل دراسة من تلك الدراسات العلمية مفهومها الخاص، الذي يعالج احدى مشاكل الادراك المتنوعة، وجانبا من أسرار الحياة العقلية المثيرة، بغموضها وتعقيدها. ووراء تلك المفاهيم العلمية جميعا، المفهوم الفلسفي، الذي يقوم فيه الصراع بين المادية والميتافيزية كما سبق. فموضوعنا اذن مثار لألوان شتى من البحوث الفلسفية والعلمية.
وقد وقع كثير من الكتاب والباحثين - في الخطأ وعدم التمييز بين النواحي التي ينبغي للدراسات العلمية أن تتوافر على تمحيصها وتحليلها. وبين الناحية

(1) نفس المصدر ص 64.
(2) المادية والمثالية في الفلسفة ص 74 - 75.
(3) ما هي المادية ص 32.
320

التي من حق البحث الفلسفي. أن يعطى كلمة فيها. وعلى أساس هذا الخطأ قام الزعم المادي القائل بان الادراك في مفهومه الفلسفي لدى الميتافيزية. يتعارض مع الادراك في مفاهيمه العلمية. فقد رأينا كيف يحاول جورج بوليتزير.، أن يبرهن على مادية الادراك من ناحية فلسفية، بدلائل العلوم الطبيعية وقد قام غيره بنفس محاولته أيضا.
ولذلك نجد لزاما علينا ان نحدد الموقف الفلسفي في المسألة، لنقضي على المحاولات الرامية إلى الخلط، بين المجال الفلسفي والمجال العلمي. والى اتهام التفسير الميتافيزي للادراك، بمجافاة العلم ومنافاته لحقائقه ومقرراته.
وعلى هذا سنقوم بتصفية للموقف العام. تجاه الادراك، ونلقي على ألوان البحث العلمي شيئا من الضوء، يحدد لنا نقاط اختلافنا مع المادية عامة، ومع الماركسية على وجه الخصوص، كما يحدد لنا النواحي التي يمكن للدراسات العلمية ان تمسها وتبحثها. حتى يصبح من الواضح.
ان هذه الدراسات لا يمكن اعتبارها مستمسكا للمادية، في معتركها الفكري الذي تخوضه مع الميتافيزية، في سبيل وضع المفهوم الفلسفي الأكمل للادراك.
وقد ألمعنا فيما سبق، إلى تعدد تلك النواحي، التي مستها تلك البحوث العلمية أو عالجتها، من الادراك، لتعدد ما يتصل بجوانبه المختلفة من علوم، بل لتعدد المدارس العلمية من العلم الواحد، التي عالجت كل واحدة منها الادراك بمنظارها الخاص. فهناك بحوث الفيزياء والكيمياء، تدرس جانبا من جوانب الادراك، وهناك الفيزيولوجيا تأخذ بحظها من الدراسة، وهناك أيضا السيكولوجيا بمختلف مدارسها. من المدرسة الاستبطانية، والسلوكية، والوظيفية، وغيرها من مدارس علم النفس، تتوفر جميعا على درس جوانب عديدة من الادراك. ويجيء بعد ذلك كله دور علم النفس الفلسفي، ليتناول الادراك من ناحيته الخاصة، ويبحث عما إذا كان الادراك في حقيقته، حالة مادية قائمة بالجهاز العصبي، أو حالة روحية مجردة؟
وفيما يلي نضع النقاط على الحروف في تلك النواحي المتشعبة،
321

بالمقدار الذي يثير لنا طريقنا في البحث، ويوضح موقفنا من المادية والماركسية.
* الادراك في مستوى الفيزياء والكيمياء
تعالج بحوث الفيزياء والكيمياء في مستواها الخاص، الاحداث الفيزيائية الكيميائية، التي تواكب عمليات الادراك، في كثير من الأحايين، كانعكاس الأشعة الضوئية من المرئيات، وتأثر العين السليمة بتلك الاهتزازات الكهربائية المغناطيسية، والتغيرات الكيميائية التي تحدث بسبب ذلك، وانعكاس الموجات الصوتية من المسموعات، والذرات الكيميائية الصادرة عن الأشياء، ذات الرائحة والأشياء ذات الطعم، وما إلى ذلك من منبهات فيزيائية، وتغيرات كيميائية. فكل هذه الاحداث تقع في حدود اختصاص الفيزياء والكيمياء، وفي مستوى نشاطهما العلمي.
* الادراك في مستوى الفيزيولوجيا
في ضوء التجارب الفيزيولوجية، استكشف عدة احداث وعمليات، تقع في أعضاء الحس، وفي الجهاز العصبي بما فيه الدماغ، وهي وان كانت ذات طبيعة فيزيائية كيميائية، كالعمليات السابقة، ولكنها في نفس الوقت تمتاز على تلك العمليات، بكونها احداثا تجري في جسم حي، فهي ذات صلة بطبيعة الأجسام الحية.
وقد استطاعت الفيزيولوجيا بكشوفها تلك، ان تحدد الوظائف الحيوية للجهاز العصبي، وما لأجزائه المختلفة من خطوط في عمليات الادراك. فالمخ مثلا ينسم بموجبها إلى أربعة فصوص، هي الفص الجبهي، والفص الجداري والفص الصدغي، والفص المؤخري، ولكل فص وظائفه الفيزيولوجية. فالمراكز الحركية تقع في الفص الجبهي، والمراكز الحسية التي تتلقى الرسائل من الجسم، تقع في الفص الجداري. وكذلك حواس اللمس والضغط. أما
322

مراكز الذوق، والشم، والسمع الخاصة، فتقوم في الفص الصدغي، في حين تقوم المراكز البصرية في الفص المؤخري، إلى غير ذلك من التفاصيل.
ويستعمل عادة للتوصل إلى الحقائق الفيزيولوجية في الجهاز العصبي، أحد المنهجين الرئيسيين في الفيزيولوجيا: الاستئصال، والتنبيه ففي المنهج الأول تستأصل اجزاء مختلفة من الجهاز العصبي، ثم تدرس تغييرات السلوك الناجمة عن ذلك. وفي المنهج الثاني تنبه مراكز محدودة في لحاء المخ بوسائل كهربائية. ثم تسجل التغيرات الحسية أو الحركية، التي تنجم عن ذلك.
ومن الواضح جدا ان الفيزياء والكيمياء والفيزيولوجيا، لا تستطيع بوسائلها العلمية، وأساليبها التجريبية، الا أن نكشف عن أحداث الجهاز العصبي، ومحتواه من عمليات وتغيرات. وأما تفسير الادراك في حقيقته وكنهه فلسفيا، فليس من حق تلك العلوم، إذ لا يمكن لها ان تثبت ان تلك الاحداث المعينة، هي نفسها الادراكات التي نحسها من تجاربنا الخاصة. وانما الحقيقة التي لا يرقى إليها شك ولا جدال، هي ان هذه الاحداث والعمليات الفيزيائية والكيميائية والفيزيولوجية، ذات صلة بالادراك، وبالحياة السيكولوجية للانسان، فهي تلعب دورا فعالا في هذا المضمار الا أن هذا لا يعني صحة الزعم المادي، القائل بمادية الادراك. فان فرقا واضحا يبدو، بين كون الادراك شيئا تسبقه أو تقارنه عمليات تمهيدية في مستويات مادية. وبين كون الادراك بالذات ظاهرة مادية، ونتاجا للمادة في درجة خاصة من النمو والتطور، كما تزعم الفلسفة المادية.
فالعلوم الطبيعية - اذن - لا تمتد في دراستها إلى المجال الفلسفي - مجال بحث الادراك في حقيقته وكنهه - بل هي سلبية من هذه الناحية. بالرغم من قيام المدرسة السلوكية في علم النفس، بمحاولة تفسير حقيقة الادراك والفكر، في ضوء الكشوف الفيزيولوجية، وخاصة الفعل المنعكس الشرطي، الذي يؤدي تطبيقه على الحياة السيكولوجية، إلى نظرة آلية خالصة تجاه الانسان، وسيأتي الحديث عن ذلك.
323

* الادراك في البحوث النفسية
تنقسم البحوث السيكولوجية، التي تعالج مشاكل النفس وقضاياها إلى قسمين: أحدهما، البحوث العلمية، التي يتكون منها علم النفس التجريبي. والآخر، البحوث الفلسفية، التي يتحمل مسؤوليتها علم النفس الفلسفي، أو فلسفة علم النفس. ولكل من علم النفس وفلسفته طرائقه وأساليبه الخاصة، في الدرس والبحث.
اما علم النفس، فهو يبدأ من النقطة التي تنتهي عندها الفيزيولوجيا، فيتناول الحياة العقلية، وما تزخر به من عمليات نفسية، بالدرس والتمحيص، وله في دراساته العملية منهجان رئيسيان: أحدهما، الاستبطان الذي يستعمله كثير من السيكولوجيين، ويميز بصورة خاصة المدرسة الاستبطانية في علم النفس، إذ اتخذت التجربة الذاتية أداة لبحثها العلمي، ونادت بالشعور موضوعا لعلم النفس.
والمنهج الآخر، التجربة الموضوعية وهو المنهج الذي احتل أخيرا المركز الرئيسي في علم النفس التجريبي، وأكدت على أهميته - بصورة خاصة - السلوكية، التي اعتبرت التجربة الموضوعية مقوما أساسيا للعلم، وزعمت لأجل ذلك، ان موضوع علم النفس هو السلوك الخارجي، لأنه وحده الذي يمكن ان تقع عليه التجربة الخارجية. والملاحظة الموضوعية... والحقائق التي يتناولها علم النفس، هي الحقائق التي يتاح الكشف عنها بالاستيطان أو التجربة الخارجية. وأما ما يقع خارج الحدود التجريبية من الحقائق، فليس في امكانات السيكولوجيا التجريبية، أن تصدر حكمها في شيء من ذلك، أي انها تمتد ما امتد الحقل التجريبي، وتنتهي بنهايته. وتبدأ حينئذ فلسفة علم النفس، من النقطة التي انتهى إليها العلم التجريبي، كما بدأت السيكولوجيا شوطها العلمي، من حيث انتهت الفيزيولوجيا، والوظيفة الأساسية للفلسفة النفسية، هي محاولة الكشف عن تلك الحقائق، التي تقع خارج الحقل العلمي والتجريبي، وذلك بأن تأخذ الفلسفة المسلمات السيكولوجية، التي يمونها بها العلم التجريبي، وتدرسها في ضوء القوانين الفلسفية العامة، وعلى هدى تلك
324

القوانين تعطى للنتائج العلمية مفهومها الفلسفي ويوضع للحياة العقلية تفسيرها الأعمق.
فالصلة بين علم النفس وفلسفته، كالصلة بين العلوم الطبيعية التجريبية وفلسفتها، إذ تدرس علوم الطبيعة ظواهر الكهرباء المتنوعة، من تيارات ومجالات، وجهد وحث كهربائيين، وما إلى ذلك من قوانين الكهرباء الفيزيائية. وندرس على هذا النحو أيضا مختلف ظواهر المادة والطاقة. وأما حقيقة الكهرباء وحقيقة المادة أو الطاقة، فهي من حق البحث الفلسفي، وكذلك الامر في الحياة العقلية. فان البحث العلمي يتناول الظواهر النفسية، التي تدخل في نطاق التجربة الذاتية أو الموضوعية، ويوكل الحديث عن طبيعة الادراك، وحقيقة المحتوى الداخلي للعمليات العقلية، إلى فلسفة النفس، أو علم النفس الفلسفي.
وفي ضوء هذا نستطيع ان نميز دائما بين الجانب العلمي من المسألة، والجانب الفلسفي. وفيما يلي مثالان لذلك من مواضيع البحث السيكولوجي:
الأول: الملكات العقلية، التي يلتقي فيها الجانبان معا. فالجانب الفلسفي يتمثل في نظرية الملكات القائلة بتقسيم العقل الانساني إلى قوى وملكات عديدة للألوان من النشاط، كالانتباه، والخيال، والذاكرة، والتفكير، والإرادة، وما إليها من سمات. فهذه الفكرة تدخل في النطاق الفلسفي لعلم النفس، وليست فكرة علمية بالمعنى التجريبي للعلم، لان التجربة سواء كانت ذاتية كالاستبطان، أم موضوعية كالملاحظة العلمية لسلوك الغير الخارجي، ليس في امكاناتها علميا، ان تكشف عن تعدد الملكات أو وحدتها. فان كثرة القوى العقلية أو وحدتها، لا تقعان في ضوء التجربة، مهما كان لونها. وأما الجانب العلمي من مسألة الملكات، فيعني نظرية التدريب الشكلي في التربية، التي تنص على أن الملكات العقلية يمكن تنميتها ككل، وبلا استثناء بالتدريب في مادة واحدة، وفي نوع واحد من الحقائق. وقد أقر هذه النظرية عدة من علماء النفس التربوي، المؤمنين بنظرية الملكات، التي كانت تسيطر على التفكير السيكولوجي، إلى القرن التاسع
325

عشر، افتراضا منهم ان الملكة إذا كانت قوية أو ضعيفة عند شخص، كانت قوية أو ضعيفة في كل شيء.
ومن الواضح ان هذه النظرية داخلة في النطاق التجريبي لعلم النفس، فهي نظرية علمية، لأنها تخضع للمقاييس العلمية، فيمكن ان يجرب مدى تأثر الذاكرة بصورة عامة، بالتدريب على استذكار مادة معينة، ويتاح للعلم حينئذ ان يعطي كلمته في ضوء تجارب من هذا القبيل، وتقدم حينذاك النتيجة العلمية للتجربة إلى فلسفة العلم السيكولوجي، ليدرس مدلولها الفلسفي، وما تعنيه من تعدد الملكات أو وحداتها. في ضوء القوانين الفلسفية.
والمثال الثاني:
نأخذه من صلب الموضوع الذي نعالجه، وهو عملية الإدارك البصري، فإنها من مواضيع البحث الرئيسية في الحقل العلمي والفلسفي على السواء.
ففي البحث العلمي، يثور نقاش حاد حول تفسير عملية الادراك، بين الارتباطين من ناحية، وأنصار مدرسة الشكل والصيغة (الجشطالت) من ناحية أخرى. والارتباطيون هم الذين يعتبرون التجربة الحسية هي الأصل الوحيد للمعرفة. فكما يحلل علماء الكيمياء المركبات الكيميائية، إلى عناصرها البدائية، يحلل هؤلاء مختلف الخبرات العقلية، إلى احساسات أولية، ترتبط وتتركب بعمليات آلية ميكانيكية، طبقا لقوانين التداعي. وفي هذه النظرية الارتباطية ناحيتان: الأولى، ان مرد التركيب في الخبرات العقلية. إلى احساسات أولية (معاني بسيطة أدركت بالحس). والثانية، ان هذا التركيب يوجد بطريقة آلية، وطبقا لقوانين التداعي. أما الناحية الأولى فقد درسناها في نظرية المعرفة عند الحديث عن المصدر الأساسي للتصور البشري، والنظرية الحسية لجون لوك، الذي يعتبر المؤسس الأول للمدرسة الارتباطية، وانتهينا من دراستنا إلى ان بعض مفردات التصور والمعاني العقلية لا ترجع إلى الحس، بل هي من النشاط الفعال الايجابي للنفس، وأما الناحية الثانية: فهي التي قامت بمعالجتها مدرسة (الجشطالت) فرفضت الدراسة التحليلية للحالات الشعورية، وردت على التفسير الارتباطي الآلي لعمليات الادراك، مؤكدة على ضرورة دراسة كل واحدة من الخبرات ككل، وان الكلية ليست
326

مجرد صهر الخبرات الحسية والتركيب بينها، بل لها طبيعة التنظيم العقلي الدينامي السائر طبق قوانين معينة.
ولنر الآن، بعد ايضاح الاتجاهين السابقين، تفسيرهما العلمي لعمليات الادراك البصري. ففي ضوء الاتجاه الارتباطي يقال ان الصورة التي تنشأ على شبكية العين للبيت مثلا، تنتقل جزءا جزءا إلى الدماغ حيث توجد في جزء محدد منه، صورة مماثلة للصورة الحادثة على شبكية العين. وينشط العقل، فيضفي على هذه الصورة في الدماغ، من خبرته السابقة، المعاني التي ترتبط في أذهاننا بالبيت، طبقا لقوانين التداعي الآلية، وينتج عن ذلك الادراك العقلي لصورة البيت. وأما في ضوء الاتجاه الشكلي أو الكلي، فالادراك يتعلق بالأشياء بجملتها وهيئاتها العامة، منذ الوهلة الأولى. لأن هناك صيغا وأشكالا أولية في العالم الخارجي، تناسب صيغ العقل وأشكاله. فيمكننا ان نفسر تنظيم الحياة العقلية، بتنظيم قوانين العالم الخارجي نفسها. لا بالتركيب والتداعي. فالجزء في الصيغة أو الكل، انما يدرك تبعا للكل، ويتغير تبعا لتغير الصيغة.
وانما نطلق على تفسير الادراك البصري بهذا، اسم التفسير العلمي، لأنه يدخل في المجال التجريبي، أو الملاحظة المنظمة. فان ادراك الصيغة وتغير الجزء تبعا لتغيرها تجريبي، ولذلك برهنت مدرسة (الجشطالت) على نظريتها بالتجربة، التي توضح ان الانسان لا يدرك الاجزاء فحسب، بل يدرك شيئا آخر كالشكل أو النغم، ولذلك قد تجتمع الاجزاء جميعا، ومع ذلك لا يدرك ذلك الشكل أو النغم. فهناك اذن الصيغة، التي تكشف الاجزاء جميعا. ولا نريد الآن ان نتوسع في شرح التفسيرات العلمية، لعملية الادراك البصري ودراستها، وانما نرمي _ من وراء ما قدمناه - إلى تحديد موضع التفسير الفلسفي الذي نحاوله منها. فنقول بهذا الصدد: ان الادراك العقلي للصورة المبصرة، يثير - بعد تلك الدراسات العلمية كلها - سؤالا، يواجهه الشكليون والارتباطيون على السواء، وهو السؤال عن هذه الصورة التي أدركها العقل، وتكونت طبقا لقوانين التداعي الآلي، أو طبقا لقوانين الصيغة والشكل. فما هو كنهها؟ وهل هي صورة مادية أو صورة
327

مجردة عن المادة؟ وهذا السؤال الأساسي هو الذي يصوغ المشكلة الفلسفية، التي يجب على علم النفس الفلسفي دراستها ومعالجتها، وهو الذي ترد عليه المادية والميتافيزيقية، بجوابين متناقضين.
ويبدو الآن من الواضح جدا، ان السيكولوجيا العلمية - أي علم النفس التجريبي - لا تستطيع في هذا المجال، ان تؤكد على التفسير المادي للادراك، وتنفي وجود شيء في الحياة العقلية خارج المادة، كما تزعم الفلسفة المادية. لأن التجارب السيكولوجية - سواء منها الذاتية والموضوعية - لا تمتد إلى ذلك المجال.
* الادراك في مفهومه الفلسفي
لنبدأ الآن بدراستنا الفلسفية للادراك - بعد أن أوضحنا مغزاها وصلاتها بمختلف الدراسات العملية - طبقا للمنهج الفلسفي في الدراسات النفسية، والذي يتلخص - كما ألمعنا اليه سابقا - في أخذ الحقائق العلمية، والمسلمات التجريبية وبحثها على ضوء القوانين والأصول المقررة في الفلسفة، لاستنتاج حقيقة جديدة، وراء ما كشفت عنه التجارب من حقائق.
ولنأخذ الادراك العقلي للصورة المبصرة، نموذجا حيا للحياة العقلية، العامة التي تتصارع حول تفسيرها الفلسفتان، الميتافيزية، والمادية فمفهومنا الفلسفي للادراك يرتكز:
أولا، على الخصائص الهندسية للصورة المدركة.
ثانيا: على ظاهرة الثبات، في عمليات الادراك البصري.
1 - (اما الأول) فنبدأ فيه من حقيقة بديهية، نأخذها من حياتنا اليومية، ومختلف تجاربنا الاعتيادية، وهي ان الصورة التي تتحفنا بها العملية العقلية للادراك البصري، تحتوي على الخصائص الهندسية، من الطول، والعرض، والعمق، وتبدو بمختلف الاشكال والحجوم. فلنفرض اننا زرنا حديقة تمتد آلاف الأمتار وألقينا عليها نظرة واحدة، استطعنا فيها ان ندرك
328

الحديقة كلا متماسكا، تبدو فيه النخيل والأشجار، وبركة الماء الكبيرة، وألوان الحياة المتدفقة، في الأزهار والأوراد، والكراسي الموضوعة بانتظام حول بركة الماء، والبلابل، والطيور التي تشدو على الأغصان. والسؤال الذي يعترضنا حول هذه الصورة الرائعة، التي أدركناها بنظرة مستوعبة هو: ما هي هذه الصورة التي ندركها؟ وهل هي نفس الحديقة وواقعها الموضوعي بالذات، أو صورة مادية تقوم بعضو مادي خاص في جهازنا العصبي، أو لا هذا ولا ذاك بل صورة مجردة عن المادة، تماثل الواقع الموضوعي وتحكي عنه؟
أما أن الحديقة بواقعها الخارجي، هي الصورة المتمثلة في ادراكنا العقلي، فقد كانت تنادي بذلك نظرية قديمة في الرؤية، تفترض ان الانسان يدرك الواقع الموضوعي للأشياء نفسه، بسبب خروج شعاع خاص من العين، ووقوعه على المرئي، ولكن هذه النظرية سقطت.
- أولا - من الحساب الفلسفي، لأن خداع الحواس الذي يجعلنا ندرك صورا معينة، على أشكال خاصة لا واقع لها، يبرهن على ان الصورة المدركة، ليست هي الواقع الموضوعي، والا فما هو الواقع الموضوعي المدرك في الادراكات الحسية الخادعة؟ وسقطت - ثانيا - من الحساب العلمي، إذ أثبت العلم، ان الأشعة الضوئية، تنعكس من المرئيات على العين لا من العين عليها، وأنا لا نملك من الأشياء المرئية، الا الأشعة المنعكسة منها على الشبكية. حتى لقد أثبت العلم، ان رؤيتنا للشيء قد تحدث بعد انعدام ذلك الشيء بسنين. فنحن لا نرى الشعرى في السماء
مثلا، الا حين تصل الموجات الضوئية الصادرة عن الشعرى إلى الأرض بعد عدة سنين من انطلاقها عن مصدرها، فتقع على شبكية العين. فنقول نحن نرى الشعرى غير ان هذه الموجات الضوئية التي تؤدي بنا إلى رؤية الشعرى انما تنبئنا عنها كما كانت قبل عدة سنين. ومن الجائز ان تكون الشعرى قد انعدمت من السماء قبل رؤيتنا لها بأمد طويل، وهذا يبرهن علميا على ان الصورة التي نحس بها الآن ليست هي الشعرى المحلقة في السماء، أي الواقع الموضوعي للنجم.
ويبقى في حسابنا بعد ذلك، الافتراضان الأخيران. فالافتراض الثاني -
329

القائل ان الصورة المدركة نتاج مادي قائم بعضو الادراك في الجهاز العصبي - هو الذي يحدد المذهب الفلسفي للمادية. والافتراض الثالث - القائل ان الصورة المدركة - أو المحتوى العقلي لعملية الادراك - لا توجد في المادة، وانما هي لون من الوجود الميتافيزيقي، خارج العالم المادي، هو الذي يمثل المذهب الفلسفي للميتافيزيقية.
وفي هذه المرحلة من البحث، يمكننا ان نستبعد الافتراض المادي، استبعادا نهائيا. وذلك لأن الصورة المدركة، بحجمها وخصائصها الهندسية، وامتدادها طولا وعرضا، لا يمكن ان توجد في عضو مادي صغير، في الجهاز العصبي. فنحن وان كنا نعتقد، أن الأشعة الضوئية تنعكس على الشبكية، وتتصور في صورة خاصة، ثم تنتقل في أعصاب الحس إلى الدماغ، فتنشأ في موضع محدد منه، صورة مماثلة للصورة التي حدثت على الشبكية... ولكن هذه الصورة المادية، غير الصورة المدركة في عقلنا، لأنها لا تملك ما تملكه الصورة المدركة من خصائص هندسية. فكما ان الحديقة التي أدركناها في نظرة واحدة، لا يمكن أن نأخذ عنها صورة فوتوغرافية، موازية لها في السعة والشكل والامتداد، على ورقة مسطحة صغيرة، كذلك لا يمكن أن نأخذ عنها صورة عقلية، أو ادراكية - تحاكيها في سعتها، وشكلها، وخصائصها الهندسية - على جزء ضئيل من المخ لأن انطباع الكبير في الصغير مستحيل.
واذن فيصبح من الضروري، أن نأخذ بالافتراض، وهو ان الصورة المدركة، التي هي المحتوى الحقيقي للعملية العقلية، صورة ميتافيزيقية، موجودة وجودا مجردا عن المادة، وهذا هو كل ما يعنيه المفهوم الفلسفي الميتافيزيقي للادراك.
وقد يخطر هنا على بعض الأذهان، ان مسألة ادراك الصورة في أشكالها، وحجومها، وأبعادها ومسافاتها، قد أجاب عليها العلم، وعالجتها البحوث السيكولوجية. إذ أوضحت ان هناك عدة عوامل بصرية وعضلية، تساعدنا على ادراك تلك الخصائص الهندسية. فحاسة البصر لا تدرك سوى الضوء واللون، واما ادراك الخصائص الهندسية للأشياء، فهو يتوقف على ارتباط
330

اللمس بحركات، وأحاسيس خاصة. فلو جردنا الاحساس البصري عن كل احساس آخر. لبدت لنا نقاط من الضوء واللون فحسب. ولما أتيح لنا ادراك الاشكال والحجوم، حتى انا كنا نعجز عن التمييز بين كرة ومكعب، وذلك لان الكيفيات الأولية والاشكال، من مدركات اللمس. وبتكرار التجربة اللمسية، ينشأ تقارن بين مدركات اللمس من تلك الكيفيات، وبين عدة من الإحساسات البصرية كاختلاف خاصة في الأضواء والألوان المبصرة، وعدة من الحركات العضلية كحركة تكييف العين لرؤية الأشياء، القريبة والبعيدة وحركة التلاقي في حالة الابصار بالعينين، وبعد ان ينشأ هذا التقارن. يمكننا ان نستغني في ادراك الحجوم والاشكال، عن الإحساسات اللمسية، بما اقترن بها من احساسات وحركات عضلية فإذا أبصرنا كرة بعد هذا، استطعنا ان نحدد شكلها، وحجمها دون ان نلمسها اعتمادا على الإحساسات والحركات العضلية، التي اقترنت بمدركات اللمس. وهكذا ندرك أخيرا الأشياء، بخصائصها الهندسية، لا بالاحساس البصري فحسب، بل بالابصار مع ألوان أخرى من حركات حسية، أصبحت ذات مدلول هندسي، بسبب اقترانها بمدركات اللمس، غير ان العادة لا تجعلنا نشعر بذلك.
ونحن لا نريد ان ندرس نظرية العوامل العضلية والبصرية، من ناحية علمية، لا أن ذلك لا يهم البحث الفلسفي، فلنأخذ بها كسلسلة علمية، ولنفترض أنها صحيحة، فان هذا الافتراض لا يغير من موقفنا الفلسفي شيئا، كما يظهر ذلك في ضوء ما قدمناه من تحديدات للدراسة الفلسفية في بحوث النفس، إذ ان مؤدى النظرية، هو ان الصورة العقلية المدركة
بخصائصها الهندسية، وطولها وعرضها، وعمقها، لم توجد بسبب الاحساس البصري البسيط فحسب، بل بالتعاون مع احساسات بصرية، وحركات عضلية أخرى، اكتسبت مدلولا هندسيا، بارتباطها باللمس واقترانها معه في التجارب المتكررة، وسوف نواجه بعد التسليم بهذا، نفس السؤال الفلسفي الأول، وهو السؤال عن هذه الصورة العقلية، التي كونها الاحساس البصري، بالاشتراك مع أحاسيس وحركات أخرى، أين توجد؟ وهل هي
331

صورة مادية قائمة في عضو مادي، أو صورة ميتافيزيقية مجردة عن المادة؟ ومرة أخرى نجد أنفسنا مضطرين إلى الأخذ بوجهة النظر الميتافيزيقي لأن هذه الصورة بخصائصها وامتدادها آلاف الأمتار، لا يمكن ان توجد في عضو مادي صغير، كما لا يمكن ان توجد على ورقة صغيرة، فيجب اذن ان تكون صورة مجردة عن المادة.
هذا ما يتصل بظاهرة الخصائص الهندسية للصورة العقلية المدركة.
2 - (وأما الظاهرة الثانية) التي يتاح لمفهومنا الفلسفي ان يرتكز عليها. فهي ظاهرة الثبات، ونعني بها ان الصورة العقلية المدركة تميل إلى الثبات، ولا تتغير طبقا لتغيرات الصورة المنعكسة، على الجهاز العصبي. فهذا قلم إذا وضعناه على بعد متر واحد منا، انعكست عنه صورة ضوئية خاصة، وإذا ضاعفنا المسافة التي تفصلنا عنه، ونظرنا اليه على بعد مترين، فان الصورة التي يعكسها سوف تقل إلى نصف ما كانت عليه، في حالتها الأولى، مع ان ادراكنا لحجم القلم لن يتغير تغيرا يذكر، أي أن الصورة العقلية للقلم التي نبصرها، تبقى ثابتة بالرغم من تغير الصورة المادية المنعكسة. وهذا يبرهن بوضوح، على ان العقل والادراك ليس ماديا، وان الصورة المدركة ميتافيزيقية. ومن الواضح ان هذا التفسير الفلسفي لظاهرة الثبات لا يتعارض مع أي تفسير علمي لها يمكن ان يقدم في هذا المضمار. فيمكنك ان تفسر الظاهرة، بأن ثبات الموضوعات المدركة - في مظاهرها المختلفة - يرجع إلى الخبرة
والتعلم كم يمكنك ان شئت ان تقول - في ضوء التجارب العلمية - ان
هناك علاقات محددة بين الثبات في مختلف مظاهره، والتنظيم المكاني للموضوعات الخارجية التي ندركها. فان هذا لا يعني حل المشكلة من ناحية فلسفية، إذ ان الصورة المبصرة - التي لم تتغير طبقا للصورة المادية، بل ظلت ثابتة بفضل خيرة سابقة، أو بحكم تنظيمات مكانية خاصة - لا يمكن ان تكون هي الصورة المنعكسة عن الواقع الموضوعي، على مادة الجهاز العصبي، لان هذه الصورة المنعكسة تتغير تبعا لزيادة البعد، بين العين والواقع، وتلك الصورة المبصرة ثابتة.
332

والنتيجة الفلسفية، التي نخرج بها من هذا البحث، هي ان الادراك ليس ماديا، كما تزعم الفلسفة المادية، لان مادية الشيء تعني أحد أمرين: اما انه بالذات مادة، واما انه ظاهرة قائمة بالمادة. والادراك ليس بذاته مادة. ولا هو ظاهرة قائمة بعضو مادي كالدماغ، أو منعكسة عليه، لأنه يختلف في القوانين التي تسيطر عليه، عن الصورة المادية المنعكسة على العضو المادي. فهو يملك من الخصائص الهندسية - أولا - ومن الثبات - ثانيا - ما لا تملكه أي صورة مادية منعكسة على الدماغ. وعلى هذا الأساس تؤمن الميتافيزيقية، بأن الحياة العقلية - بما تزخر به من ادراكات وصور - أثرى ألوان الحياة وأرقاها، لأنها حياة ترتفع عن مستوى المادة وخصائصها. ولكن المسألة الفلسفية الأخرى التي تنبثق مما سبق، هي ان الادراكات والصور، التي تتشكل منها حياتنا العقلية، إذا لم تكن صورا قائمة بعضو مادي، فأين هي قائمة اذن؟ وهذا السؤال هو الذي دعا إلى استكشاف حقيقة فلسفية جديدة، وهي ان تلك الصور والادراكات. تجتمع أو تتابع كلها على صعيد واحد، هو صعيد الانسانية المفكرة، وليست هذه الانسانية المفكرة شيئا من المادة، كالدماغ أو المخ، بل هي درجة من الوجود مجردة عن المادة، يصلها الكائن الحي في تطوره وتكامله. فالمدرك والمفكر هو هذه الانسانية اللامادية.
ولكن يتضح الدليل على ذلك بكل جلاء، يجب ان نعلم أنا بين ثلاثة عروض: مبدأها ان ادراكنا لهذه الحديقة. أو لذلك النجم، صورة مادية قائمة بجهازنا العصبي، وهذا ما نبذناه ودللنا على رفضه. وثانيها ان إدراكاتنا ليست صورا مادية، بل هي صور مجردة عن المادة، وموجودة بصورة مستقلة عن وجودنا. وهذا افتراض غير
معقول أيضا، لأنها إذا كانت موجودة بصورة مستقلة عنا، فما هي صلتنا بها؟ وكيف أصبحت ادراكات لنا؟ وإذا نفضنا يدينا من هذا وذاك، لم يبق لدينا الا التفسير الثالث للموقف، وهو ان تلك الادراكات والصور العقلية، ليست مستقلة في وجودها عن الانسان كما انها ليست حالة أو منعكسة في عضو مادي، وانما هي ظواهر مجردة عن المادة، تقوم بالجانب اللامادي من الانسان. فهذه الانسانية اللامادية (الروحية) هي التي تدرك وتفكر، لا العضو المادي، وان كان
333

العضو المادي يهيء لها شروط الادراك، للصلة الوثيقة بين الجانب الروحي والجانب المادي من الانسان.
* الجانب الروحي من الانسان
ونصل هنا إلى نتيجة خطيرة، وهي ان للانسان جانبين أحدهما مادي يتمثل في تركيبه العضوي، والآخر روحي - لا مادي - وهو مسرح النشاط الفكري والعقلي، فليس الانسان مجرد مادة معقدة وانما هو مزدوج الشخصية من عنصر مادي وآخر لا مادي.
وهذا الازدواج يجعلنا نجابه موقفا عسيرا في سبيل استكشاف نوعية العلاقة والصلة بين الجانبين المادي والروحي من الانسان، ونحن نعلم قبل كل شيء ان العلاقة بينهما وثيقة حتى ان أحدهما يؤثر في الآخر باستمرار، فإذا خيل إلى شخص انه يرى شبحا في الظلام اعترته قشعريرة، وإذا كتب على شخص ان يخطب في حفل عام أخذ العرق يتصبب منه. وإذا بدأ أحدنا يفكر حدث نشاط خاص في جهازه العصبي، فهذا اثر العقل أو الروح في الجسم، كما ان للجسم أثره في العقل، فإذ دبت الشيخوخة في الجسد وهن النشاط العقلي، وإذا أفرط شارب الخمر في السكر قد يرى الشيء شيئين، فكيف يتاح للجسم والعقل ان يؤثر أحدهما في الآخر إذا كانا مختلفين لا يشتركان في صفة من الصفات، فالجسم قطعة من المادة له خصائصها من ثقل وكتلة وشكل وحجم، وهو يخضع لقوانين الفيزياء. وأما العقل - أو الروح - فهو موجود غير مادي ينتسب إلى عالم وراء عالم المادة، ومع هذه الهوة الفاصلة يصعب تفسير التأثير المتبادل بينهما. فقطعة من الحجارة يمكن ان تسحق نبتة في الأرض لأنهما معا ماديان وقطعتان من الحجر يمكن ان تصطكا وتتفاعلا. واما ان يحدث الاصطكاك والتفاعل بين موجودين من عالمين فهذا ما يحتاج إلى شيء من التفسير وهو الذي علق التفكير الأوروبي الحديث على الأغلب عن الاخذ بفكرة الازدواج بعد ان رفض التفسير الافلاطوني القديم
334

للعلاقة بين الروح والجسم بوصفها علاقة بين قائد وعربة يسوقها، فقد كان أفلاطون يتصور ان الروح جوهر قديم مجرد عن المادة يعيش في عالم وراء دنيا المادة ثم يهبط إلى البدن ليدبره كما يهبط السائق من منزله ويدخل العربة ليسوقها ويدبر أمرها. وواضح ان هذه الثنائية الصريحة والهوة الفاصلة بين الروح والجسم في تفسير أفلاطون
لا تصلح لتفسير العلاقة الوثيقة بينهما التي تجعل كل انسان يشعر بأنه كيان موحد وليس شيئين من عالمين مستقلين التقيا على ميعاد.
وقد ظل التفسير الافلاطوني قاصرا عن حل المشكلة بالرغم من التعديلات التي أجريت على التفسير الافلاطوني من قبل أرسطو بادخال فكرة الصورة والمادة، ومن قبل ديكارت الذي جاء بنظرية الموازنة بين العقل والجسم القائلة بأن العقل والجسم - الروح والجسد - يسيران على خطين متوازيين وكل حادث يقع في أحدهما يصاحبه حادث يقابله يقع في الآخر، وهذا التلازم بين الاحداث العقلية والجسمية لا يعني ان أحدهما سبب للآخر إذ لا معنى للتأثير المتبادل بين شيء مادي وآخر غير مادي بل ان هذا التلازم بين النوعين من الاحداث مرده إلى العناية الإلهية التي شاءت ان يصاحب الاحساس بالجوع دائما حركة اليد لتناول الطعام دون ان يكون الاحساس سببا للحركة، ومن الواضح ان نظرية الموازنة هذه تعبير جديد عن ثنائية أفلاطون وهوته الفاصلة بين العقل والجسم.
وقد أدت المشاكل التي تنجم عن تفسير الانسان على أساس الروح والجسد معا إلى بلورة اتجاه حديث في التفكير الأوروبي إلى تفسير الانسان بعنصر واحد فنشأت المادية في علم النفس الفلسفي القائلة ان الانسان مجرد مادة وليس غير كما تولدت النزعة المثالية التي تجنح إلى تفسير الانسان كله تفسيرا روحيا.
وأخيرا وجد تفسير الانسان على أساس العنصرين الروحي والمادي تصميمه الأفضل على يد الفيلسوف الاسلامي صدر المتألهين الشيرازي فقد استكشف هذا الفيلسوف الكبير حركة جوهرية في صميم الطبيعة هي الرصيد
335

الأعمق لكل الحركات الطارئة المحسوسة التي تزخر بها الطبيعة. وهذه الحركة الجوهرية هي الجسر الذي كشفه الشيرازي بين المادة والروح، فان المادة في حركتها الجوهرية تتكامل في وجودها وتستمر في تكاملها حتى تتجرد عن ماديتها ضمن شروط معينة وتصبح كائنا غير مادي أي كائنا روحيا فليس بين المادي والروحي حدود فاصلة بل هما درجتان من درجات الوجود والروح بالرغم من انها ليست مادية ذات نسب مادي لأنها المرحلة العليا لتكامل المادة في حركتها الجوهرية.
وفي هذا الضوء نستطيع ان نفهم العلاقة بين الروح والجسم. ويبدو من المألوف ان يتبادل العقل والجسم - الروح والمادة - تأثيراتهما لأن العقل ليس شيئا مفصولا عن المادة بهوة سحيقة كما كان يخيل لديكارت حين اضطر إلى انكار التأثير المتبادل والقول بمجرد الموازنة، بل ان العقل
نفسه ليس الا صورة مادية عند تصعيدها إلى أعلى من خلال الحركة
الجوهرية، والفرق بين المادية والروحية فرق درجة فقط كالفرق بين الحرارة الشديدة والحرارة الأقل منها درجة.
ولكن هذا لا يعني ان الروح نتاج للمادة وأثر من آثارها، بل هي نتاج للحركة الجوهرية. والحركة الجوهرية لا تتبع من نفس المادة لأن الحركة - كل حركة - خروج للشيء من القوة إلى الفعل تدريجيا - كما عرفنا في مناقشتنا للتطور عند الديالكتيك - والقوة لا تصنع الفعل، والامكان لا يصنع الوجود، فللحركة الجوهرية سببها خارج نطاق المادة المتحركة، والروح التي هي الجانب غير المادي من الانسان - نتيجة لهذه الحركة. والحركة نفسها هي الجسر بين المادية والروحية.
* المنعكس الشرطي والادراك
ليس اختلافنا مع الماركسية، في حدود مفهومها المادي للادراك فحسب، لان المفهوم الفلسفي للحياة العقلية. وان كان هو النقطة الرئيسية في معتركنا الفكري معها، ولكننا نختلف أيضا في مدى علاقة الادراك والشعور
336

بالظروف الاجتماعية، والأحوال المادية الخارجية. فالماركسية تؤمن بان الحياة الاجتماعية للانسان، هي التي تحدد له مشاعره، وان هذه المشاعر أو الأفكار، تتطور تبعا لتطور الظروف الاجتماعية والمادية، ولما كانت هذه الظروف تتطور تبعا للعامل الاقتصادي، فالعامل الاقتصادي اذن هو العامل الرئيسي في التطور الفكري.
وقد حاول جورج بوليتزير ان يشيد هذه النظرية الماركسية، على قاعدة علمية، فأقامها على أساس الفعل المنعكس الشرطي. ولكي نفهم ذلك جيدا، يجب ان نقول كلمة عن الفعل المنعكس الشرطي، الذي اكتشفه (بافلوف) إذ حاول مرة أن يجمع لعاب الكلب، من احدى الغدد اللعابية، فأعد جهازا لذلك، وأعطى الحيوان طعاما لإثارة مجرى اللعاب، فلاحظ ان اللعاب بدأ يسيل من كلب متمرن، قبل ان يوضع الطعام في فمه بالفعل، لمجرد رؤية الطبق الذي فيه الطعام، أو الاحساس باقتراب الخادم الذي تعود احضاره. ومن الواضح ان رؤية الشخص، أو خطواته، لا يمكن اعتبارها منبها طبيعيا لهذه الاستجابة، كما ينبهها وضع الطعام في الفم، بل لابد ان تكون هذه الأشياء، قد ارتبطت بالاستجابة الطبيعية في مجرى التجربة الطويل، حتى استخدمت كعلامة مبدئية على المنبه الفعلي.
وعلى هذا يكون افراز اللعاب، عند وضع الطعام في الفم، فعلا منعكسا طبيعيا، يثيره منبه طبيعي. وأما افراز اللعاب عند اقتراب الخادم أو رؤيته، فهو فعل منعكس شرطي، أثير بسبب منبه مشروط، يستعمل كعلامة على المنبه الطبيعي، ولولا أشراطه بالمنبه الطبيعي، لما وجدت استجابة بسببه.
وبسبب عمليات اشراط كهذا، وجد أول نظام اشاري لدى الكائن الحي، تلعب فيه المنبهات المشروطة دورا. في الإشارة إلى المنبه الطبيعي، واستشارة الاستجابة التي يستحقها. وبعد ذلك وجد النظام الاشاري الثاني، الذي عوض فيه عن المنبهات الشرطية في النظام الأول، بإشارات ثانوية إلى تلك المنبهات الشرطية، التي أشرطت هذه الإشارات الثانوية بها، في تجارب
337

متكررة، وأصبح من الممكن الحصول على الاستجابة أو الفعل المنعكس، بالإشارة الثانوية بسبب أشراطها بالإشارة الأولية، كما أتاح النظام الاشاري الأول، الحصول عليها بالإشارة الأولية، بسبب أشراطها بالمنبه الطبيعي، وتعتبر اللغة هي الإشارات الثانوية في النظام الاشاري الثاني.
هذه هي نظرية العالم الفيزيولوجي (بافلوف). وقد استغلته السلوكية، فزعمت ان الحياة العقلية لا تعدو ان تكون عبارة عن افعال منعكسة. فالتفكير يتركب من استجابات كلامية باطنة، يثيرها منبه خارجي. وهكذا فسرت الفكر كما تفسر عملية افراز الكلب لعابه، عند سماعه خطوات الخادم، فكما ان الافراز رد الفعل الفيزيولوجي لمنبه شرطي، وهو خطى الخادم. كذلك الفكر هو رد الفعل الفيزيولوجي لمنبه شرطي، كاللغة التي أشرطت بالمنبه الطبيعي مثلا.
ولكن من الواضح ان التجارب الفيزيولوجية، على الفعل المنعكس الشرطي، لا يمكنها ان تبرهن على ان الفعل المنعكس، هو حقيقة الادراك، والمحتوى الحقيقي للعمليات، ما دام من الجائز ان يكون للادراك حقيقة وراء حدود التجربة.
أضف إلى ذلك ان السلوكية في رأيها هذا القائل بأن الأفكار استجابات شرطية تقضي على نفسها وتنزع القدرة على الكشف عن الواقع والقيمة الموضوعية، لامن سائر الأفكار فحسب، بل من السلوكية ذاتها أيضا بوصفها فكرة تخضع للتفسير السلوكي، لان تفسير السلوكية للفكر الانساني له أثره الخطير في نظرية المعرفة وتقدير قيمتها ومدى قدرتها على استكشاف الواقع، فالمعرفة - كل معرفة - لا تعدو وفقا للتفسير السلوكي ان تكون استجابة حتمية لمنبه شرطي كسيلان اللعاب من فم الكلب في تجارب بافلوف. وليست نتيجة للاستدلال والبرهان، وبالتالي تصبح كل معرفة تعبيرا عن وجود منبه شرطي لها لا عن وجود مضمونها في الواقع الخارجي، والفكرة السلوكية نفسها لا تشذ عن هذه القاعدة العامة ولا تختلف عن كل الأفكار
338

الأخرى في تأثرها بالتفسير السلوكي وسقوط قيمتها وعدم امكان دراستها بأي لون من الألوان.
والواقع هو عكس ما رامته السلوكية تماما، فليس الادراك والفكر فعلا فيزيولوجيا، ينعكس عن منبه شرطي، نظير افراز اللعاب، كما يزعم السلوكيون، بل نفس افراز اللعاب هذا، يعني شيئا غير مجرد رد الفعل المنعكس، يعني ادراكا وهذا الادراك هو السبب في إثارة المنبه الشرطي للاستجابة المنعكسة. فالادراك هو الحقيقة التي نتبينها وراء ردود فعل المنبه الشرطي، وليس لونا من ألوان تلك الردود، ونعني بهذا ان افراز الكلب لعابه، عند حدوث المنبه الشرطي، لم يكن مجرد فعل آلي بحت، كما تعتقد السلوكية، بل كان نتيجة ادراك الكلب مدلول المنبه الشرطي، فخطوات الخادم، باقترانها مع مجيء الطعام في تجارب متكررة، أصبحت تدل على مجيئه، وأصبح الكلب يدرك مجيء الطعام، عند سماعها، فيفرز لعابه استعدادا للموقف الذي يبشر به المنبه الشرطي وكذلك الطفل إذ يبدو عليه شيء من الارتياح، عند تهيؤ مرضعته لارضاعه، بل عند اخباره بمجيئها، إذا كان يملك فهما لغويا. فان هذا الارتياح ليس مجرد فعل فيزيولوجي منعكس عن شيء خارجي ارتبط بالمثير الطبيعي، بل هو منبثق عن ادراك الطفل مدلول المنبه الشرطي، إذ يستعد حينئذ للارتضاع، ويشعر بارتياح. ولذا نجد فرقا في درجات الارتياح، بين الارتياح الذي يثيره المنبه الطبيعي، وبين الارتياح الذي تثيره المنبهات الشرطية، لأجل ان ذاك ارتياح أصيل، وهذا ارتياح الامل والترقب. ويمكننا ان نبرهن علميا على عدم كفاية التفسير السلوكي للتفكير عن طريق التجارب التي قام على أساسها مذهب الجشطالت في علم النفس، إذ برهنت هذه التجارب على أن من المستحيل ان نفسر حقائق الادراك على أساس سلوكي بحت وبوصفها مجرد استجابات للمنبهات المادية التي يتلقى الدماغ رسائلها في صورة عدد من الدوافع العصبية المتفرقة، بل يجب، لكي نفسر حقائق الادراك تفسيرا كاملا، ان نؤمن بالعقل ودوره الايجابي الفعال وراء الانفعالات والاستجابات العصبية التي تثيرها المنبهات، ولنأخذ الادراك
339

الحسي مثلا، فقد أثبتت تجارب الجشطالت ان رؤيتنا لألوان الأشياء وخصائصها تعتمد إلى حد بعيد على الموقف العام الذي نجابهه في ابصارنا وعلى الأرضية التي تحيط
بتلك الأشياء، فقد نرى الخطين متوازيين أو متساويين ضمن مجموعة من الخطوط. نواجهها كموقف وكل مترابط الاجزاء، ثم نراهما ضمن مجموعة أخرى غير متوازيين أو متساويين لان الموقف العام الذي يواجهه ادراكنا البصري، اختلف عن الموقف السابق، وهذا يوضح ان ادراكنا ينصب أولا على الكل، وندرك الاجزاء بأبصارنا ضمن ادراكنا للكل، ولذا يختلف ادراكنا الحسي للجزء باختلاف الكل أو المجموع الذي يندرج فيه، فهناك اذن نظام للعلاقات بين الأشياء يفرزها إلى مجاميع ويحدد لكل شيء موضعه من مجموعته الخاصة ويطور نظرتنا اليه تبعا للمجموعة التي ينتمي إليها، وإدراكنا للأشياء ضمن هذا النظام لا يقبل التفسير السلوكي، ولا يمكن القول بأنه استجابة مادية وحالة جسمية ناشئة من منبه خاص، إذ لوم كان حالة جسمية وظاهرة مادية منبثقة عن الدماع لما أتيح لنا ان ندرك الأشياء بأبصارنا ككل منظم ترتبط اجزاؤه ارتباطا خاصا - حتى ان ادراكنا لها يختلف إذا أبصرناها ضمن علاقات أخرى - لان جميع ما يصل إلى الدماغ في الادراك يتألف من مجموعة من الرسائل ترد إلى المخ من مختلف أعضاء الجسم مجزأة ضمن عدد من الدوافع العصبية المتفرقة فكيف أتيح لنا ان ندرك نظام العلاقات بين الأشياء وكيف أتيح للادراك ان ينصب أولا على الكل فلا يدرك الأشياء الا ضمن كل مترابط بدلا عن ادراك الأشياء متفرقة كما تنتقل إلى الدماغ، كيف أمكن ذلك كله لو لم يكن هناك دور ايجابي فعال للعقل وراء الانفعالات والحالات الجسمية المجزأة وبكلمة أخرى، ان الأشياء الخارجية قد تقذف إلى الدماغ برسائل متفرقة وهي استجاباتنا للمنبهات الخارجية في عرف السلوكية، وقد يحلو للسلوكية ان تقول ان هذه الاستجابات والرسائل المادية التي تمر في الأعصاب إلى المخ هي وحدها المحتوى الحقيقي لإدراكنا، ولكن ماذا تقول عن ادراكنا لنظام من العلاقات بين الأشياء يجعلنا نحس أولا بالكل الموحد وفقا لتلك العلاقات، مع ان نظام العلاقات هذا ليس شيئا ماديا ليثير انفعالا ماديا في جسم المفكر
340

واستجابة أو حالة جسمية معينة، فلا يمكننا ان نفسر ادراكنا لهذا النظام، وبالتالي ادراكنا للأشياء ضمنه على أساس سلوكي بحت.
وأما الماركسية فقد اخذت بنظريات (بافلوف) ورتبت عليه:
أولا: ان الشعور، يتطور طبقا للظروف الخارجية وذلك لأنه حصيلة الاعمال المنعكسة الشرطية التي تثيرها المنبهات الخارجية.
قال جورج بوليتزير:
((وبهذا الطريقة أثبت (بافلوف) ان ما يحدد أساسا شعور الانسان، ليس جهازه العضوي... بل يحدده على عكس ذلك المجتمع، الذي يعيش فيه الانسان، والمعرفة التي يحصل عليها منه. فالظروف الاجتماعية للحياة، هي المنظم الحقيقي للحياة العضوية الذهنية)) (1)
ثانيا: ان ولادة اللغة، كانت هي الحدث الأساسي، الذي نقل البشر إلى مرحلة الفكر، لان فكرة الشيء في الذهن، انما تنجم عن منبه خارجي شرطي، فلم يكن من الممكن ان توجد للانسان فكرة عن شيء، ما لم تقم أداة كاللغة بدور المنبه الشرطي.
قال ستالين:
((يقال ان الأفكار تأتي في روح الانسان، قبل ان تعبر عن نفسها في الحديث، وانها تولد دون أدوات اللغة. الا إن هذا خطأ تماما. فمهما كانت الأفكار. التي تأتي في روح الانسان، فلا يمكن ان تولد أو توجه الا على أساس أدوات اللغة... فاللغة هي الواقع المباشر للفكر)) (2).

(1) المادية والمثالية في الفلسفة ص 78 - 79.
(2) المادية والمثالية في الفلسفة ص 77.
341

ونحن نختلف عن الماركسية في كلا الرأيين، ولا نقر الآلية في الادراك البشري، فليست الأفكار والادراكات مجرد ردود فعل منعكسة، عن المحيط الخارجي، كما تدعي السلوكية، وليست - أيضا - حصيلة تلك الردود المحددة من قبلها، والمتطورة بتبعها كما تعتقد الماركسية.
ولنوضح المسألة في المثال التالي: يلتقي زيد وعمرو يوم السبت، فيأخذان بالحديث مدة، ثم يحاولان الافتراق، فيقول زيد لعمرو: انتظرني في صباح الجمعة الآتية في بيتك. ويفترقان بعد ذلك. وينصرف كل منهما إلى حياته الاعتيادية، وتمر الأيام حتى يحين الموعد المحدد للزيارة، فيستذكر كل من الشخصين موعده، ويدرك موقفه بصورة مختلفة عن ادراك الآخر، فيبقى عمرو في بيته ينتظر، ويخرج زيد من بيته متوجها إلى زيارته. فما هو المنبه الشرطي الخارجي، الذي أثار فيهما الادراكين المختلفين، بعد مرور عدة أيام على الميعاد السابق، وفي هذه الساعة بالذات؟ وإذا كان الكلام السابق كافيا للتنبيه الآن. فلماذا لا يتذكران الآن جميع أحاديثهما التي تبادلاها؟ ولماذا لا تقوم تلك الأحاديث بدور التنبيه والاستثارة؟ ومثال آخر: تخرج من البيت، وقد وضعت رسالة في حقيبتك، عازما على وضعها في صندوق البريد، وأنت تتجه نحو المدرسة، فتصادف في طريقك صندوقا للبريد، فتدرك فورا أن الكتاب لابد من وضعه فيه، فتضعه فيه. ثم قد تمر بعد ذلك على عدة صناديق للبريد، فلا تسترعي انتباهك مطلقا، فما هو المنبه المثير لإدراكك عند رؤية أول صندوق للبريد؟ وقد تقول ان المثير هو رؤية الصندوق نفسه، باعتبار انك أشرطته بالمنبه الطبيعي، فهو منبه شرطي. ولكن كيف نفسر غفلتنا عن الصناديق الأخرى؟ ولماذا زال الاشراط فورا بمجرد قضاء حاجتنا؟
ففي ضوء الأمثلة، تعرف ان الفكر نشاط ايجابي فعال للنفس، وليس رهن ردود الفعل الفيزيولوجية، كما انه ليس هو الواقع المباشر للعلة، كما زعمت الماركسية، بل اللغة أداة لتبادل الأفكار، وليست هي المكونة لتلك الأفكار، ولذا قد نفكر في شيء ونفتش طويلا عن اللفظ المناسب له،
342

للتعبير به عنه، وقد نفكر في موضوع، في نفس الوقت الذي نتكلم فيه عن موضوع آخر.
وقد قمنا في دراستنا الموسعة للمادية التاريخية في كتاب (اقتصادنا) بنقد مستوعب لنظريات الماركسية عن الادراك البشري من ناحية علاقته بالظروف الاجتماعية والمادية وتفسيره على أساس الظروف الاقتصادية، كما تناولنا بتفصيل، الرأي الماركسي القائل بانبثاق الفكر من اللغة وارتباطه بها. ولاجل هذا نكتفي هنا بما جاء في الطبعة الأولى من هذا الكتاب استغناء بدراستنا الموسعة في الحلقة الثانية - اقتصادنا.
فالحياة الاجتماعية والظروف المادية - اذن - لا تحدد أفكار الناس ومشاعرهم - بصورة آلية - عن طريق المنبهات الخارجية.
نعم ان الانسان قد يكيف أفكاره تكييفا اختياريا بالبيئة والمحيط كما نادت بذلك المدرسة الوظيفية في علم النفس تأثرا بنظرية التطور عند لا مارك في البيولوجيا، فكما ان الكائن الحي يتكيف عضويا تبعا لمحيطه، كذلك الامر في حياته الفكرية ولكنا يجب ان نعلم:
أولا: ان هذا التكيف يوجد في الأفكار العملية، التي وظيفتها تنظيم الحياة الخارجية، ولا يمكن ان يوجد في الأفكار التأملية، التي وظيفتها الكشف عن الواقع. فالمبادئ المنطقية، أو الرياضية، وغيرهما من الأفكار التأملية، تنبع من العقل، ولا تتكيف بمقتضيات البيئة الاجتماعية، والا لكان مصير ذلك إلى الشك الفلسفي المطلق، في كل حقيقة، إذ لو كانت الأفكار التأملية جميعا، تتكيف بعوامل المحيط، وتتغير تبعا لها، لم يؤمن على أي فكرة أو حقيقة من التغير والتبدل.
ثانيا: ان تكيف الأفكار العملية، بمقتضيات البيئة وظروفها، ليس آليا بل هو تكيف اختياري، ينشأ من دوافع إرادية في الانسان، تسوقه إلى جعل النظام المنسجم مع محيطه وبيئته،، وبذلك يزول التعارض - تماما - بين المدرسة
343

الوظيفية، والمدرسة الغرضية في علم النفس.
وسوف ندرس في (مجتمعنا)، طبيعة هذا التكيف وحدوده، في ضوء مفاهيم الاسلام، عن المجتمع والدولة، لأنه من القضايا الرئيسية في دراسة المجتمع وتحليله. وفي تلك الدراسة سنستوفي بتفصيل، كل
النواحي التي اختصرنا الحديث عنها في بحث الادراك هذا.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
344