الكتاب: دروس في علم الأصول
المؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الجزء: ٣
الوفاة: ١٤٠٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤٠٦ - ١٩٨٦ م
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - لبنان / مكتبة المدرسة - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

دروس في
علم الأصول
السيد محمد باقر الصدر
المجلد الثالث
دار الكتاب اللبناني - مكتبة المدرسة
بيروت - لبنان
1

الطبعة الثانية
1406 ه‍ - 1986 م
2

دروس في
علم الأصول
3

الحلقة الثالثة
(2).
الأصول العملية
1 - التمهيد.
2 - الوظيفة العملية عند الشك.
3 - الاستصحاب.
5

التمهيد
7

الأصول العملية
(1)
1 - خصائص الأصول العملية.
2 - الأصول العملية الشرعية والعقلية.
3 - الأصول التنزيلية والمحرزة.
4 - مورد جريان الأصول.
9

خصائص الأصول العملية:
عرفنا فيما تقدم ان الأصول العملية نوع من الأحكام الظاهرية
الطريقية المجعولة بداعي تنجيز الأحكام الشرعية أو التعذير عنها وهو نوع
متميز عن الأحكام الظاهرية في باب الامارات وقد ميز بينهما بعدة وجوه:
الأول: - ان الفرق بينهما ينشأ من اختلافهما في سنخ المجعول في
دليل حجية الامارة ودليل الأصل، فالمجعول في الأول الطريقية مثلا وفي
الثاني الوظيفة العملية أو التنزيل منزلة اليقين بلحاظ الجري العملي بدون
تضمن لجعل الطريقية، وقد تقدم الكلام عن ذلك ومر بنا ان هذا ليس هو
الفرق الحقيقي. وحاصل فذلكة الموقف انه لم يرد عنوانا (الامارة)
و (الأصل) في دليل ليتكلم عن تمييز أحدهما عن الآخر بأي نحو اتفق،
وانما نعبر بالامارة عن تلك الحجة التي لها آثارها المعهودة بما فيها اثباتها
للأحكام الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية لمؤداها، ونعبر بالأصل عن
ذلك الحكم الظاهري الذي ليس له تلك الآثار، وقد عرفنا سابقا ان مجرد
كون المجعول في دليل الحجية الطريقية لا يفي باثبات تلك الآثار للامارة.
الثاني: - ان الفرق بينهما ينشأ من أخذ الشك موضوعا للأصل العملي
وعدم اخذه كذلك في موضوع الحجية المجعولة للامارة وهذا الفرق مضافا
إلى أنه لا يفي بالمقصود غير معقول في نفسه لان الحجية حكم ظاهري فان
11

لم يكن الشك مأخوذا في موضوعها عند جعلها لزم اطلاقها لحالة العلم
وجعل الامارة حجة على العالم غير معقول. ومن هنا قيل بان الشك مأخوذ
في حجية الامارة موردا، لا موضوعا غير اننا لا نتعقل بحسب عالم الجعل
ومقام الثبوت نحوين من الاخذ.
الثالث: - ان الفرق بينهما ينشأ من ناحية اخذ الشك في لسان دليل
الأصل وعدم اخذه في لسان دليل حجية الامارة بعد الفراغ عن كونه
مأخوذا في موضوعهما ثبوتا معا. وهذا الفرق لا يفي أيضا بالمقصود، نعم
قد يثمر في تقديم دليل الامارة على دليل الأصل بالحكومة. هذا مضافا إلى
كونه اتفاقيا فقد يتفق اخذ عدم العلم في موضوع دليل الحجية كما لو بني
على ثبوت حجية الخبر بقوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا
تعلمون) فهل يقال بان الخبر يكون أصلا حينئذ؟
الرابع: - ما حققناه في الجزء السابق من أن الأصل العملي حكم
ظاهري لوحظت فيه أهمية المحتمل عند التزاحم بين الملاكات الواقعية في
مقام الحفظ التشريعي عند الاختلاط والاشتباه. بينما لوحظت في أدلة
الحجية الأهمية الناشئة من قوة الاحتمال محضا، وقد عرفنا سابقا ان هذه
النكتة تفي بتفسير ما تتميز به الامارة على الأصل من حجية مثبتاتها.
الأصول العملية الشرعية والعقلية:
وتنقسم الأصول العملية إلى شرعية وعقلية. فالشرعية: هي ما كنا
نقصده آنفا ومردها إلى احكام ظاهرية شرعية نشأت من ملاحظة أهمية
المحتمل. والعقلية: وظائف عملية عقلية ومردها في الحقيقة إلى حق الطاعة
اثباتا ونفيا، فحكم العقل مثلا بان الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني،
مرجعه إلى أن حق الطاعة للمولى الذي يستقل به العقل انما هو حق
الطاعة القطعية فلا تفي الطاعة الاحتمالية بحق المولى، وحكم العقل
12

بقاعدة قبح العقاب بلا بيان - على مسلك المشهور - مرجعه إلى تحديد دائرة
حق الطاعة في التكاليف المعلومة خاصة، بينما يرجع حكم العقل بمنجزية
التكاليف المحتملة عندنا إلى توسعة دائرة حق الطاعة وهكذا.
وللقسمين مميزات يمكن ذكر جملة منها فيما يلي:
أولا: - ان الأصول العملية الشرعية احكام شرعية، والأصول
العملية العقلية ترجع إلى مدركات العقل العملي فيما يرتبط بحق الطاعة.
ثانيا: - انه ليس من الضروري ان يوجد أصل عملي شرعي في كل
مورد وانما هو تابع لدليله فقد يوكل الشارع امر تحديد الوظيفة العملية
للشاك إلى عقله العملي، وهذا خلافا للأصل العملي العقلي فإنه لا بد من
افتراضه بوجه في كل واقعة من وقائع الشك في حد نفسها.
ثالثا: - ان الأصول العملية العقلية قد ترد إلى أصلين لان العقل ان
أدرك شمول حق الطاعة للواقعة المشكوكة، حكم بأصالة الاشتغال، وان
أدرك عدم الشمول، حكم بالبراءة. ولكن قد يفرض أصل عملي عقلي
ثالث وهو أصالة التخيير في موارد دوران الامر بين المحذورين. وقد
يعترض على افتراض هذا الأصل بان التخيير ان أريد به دخول التكليف
في العهدة واشتغال الذمة ولكن على وجه التخيير فهو غير معقول لان
الجامع بين الفعل والترك في موارد الدوران بين المحذورين ضروري
الوقوع، وان أريد به انه لا يلزم المكلف عقلا بفعل ولا ترك ولا يدخل
شئ في عهدته فهذا عين البراءة وسيأتي تفصيل الكلام حول ذلك في
بحث دوران الامر بين المحذورين ان شاء الله تعالى.
واما الأصول العملية الشرعية فلا حصر عقلي لها في البراءة أو
الاشتغال بل هي تابعة لطريقة جعلها فقد تكون استصحابا مثلا.
رابعا: - ان الأصول العملية العقلية لا يعقل التعارض بينها لا ثبوتا
كما هو واضح ولا اثباتا لان مقام اثباتها هو عين ادراك العقل لها ولا
13

تناقض بين ادراكين عقليين. واما الأصول العملية الشرعية فيعقل التعارض
بينها اثباتا بحسب لسان أدلتها ولا بد من علاج ذلك وفقا لقواعد باب
التعارض بين الأدلة.
خامسا: - انه لا يعقل التصادم بين الأصول العملية الشرعية
والأصول العملية العقلية، فإذا كانا مختلفين في التنجيز والتعذير، فإن كان
الأصل العملي العقلي معلقا على عدم ورود أصل عملي شرعي على
الخلاف، كان هذا واردا، والا امتنع ثبوت الأصل العملي الشرعي في
مورده.
الأصول التنزيلية والمحرزة:
الأصول العملية الشرعية تارة تكون مجرد وظائف عملية بلسان انشاء
حكم تكليفي ترخيصي أو الزامي بدون نظر بوجه إلى الأحكام الواقعية،
وهذه أصول عملية بحتة. وأخرى تبذل فيها عناية إضافية إذ تطعم بالنظر
إلى الأحكام الواقعية، وهذه العناية يمكن تصويرها بوجهين:
أحدهما: - ان يجعل الحكم الظاهري بلسان تنزيله منزلة الحكم
الواقعي كما قد يقال في أصالة الحل وأصالة الطهارة، إذ يستظهر ان قوله
(كل شئ لك حلال) أو (كل شئ لك طاهر حتى تعلم).. يتكفل
تنزيل مشكوك الحلية ومشكوك الطهارة منزلة الحلال الواقعي ومنزلة الطاهر
الواقعي، خلافا لمن يقول: ان دليل هذين الأصلين ليس ناظرا إلى الواقع
بل ينشئ بنفسه حلية أو طهارة بصورة مستقلة.
ويسمى الأصل في حالة بذل هذه العناية التنزيلية بالأصل التنزيلي،
وقد تترتب على هذه التنزيلية فوائد، فمثلا إذا قيل بان أصل الإباحة تنزيلي
ترتب عليه حين تطبيقه على الحيوان مثلا طهارة مدفوعة ظاهرا لأنها مترتبة
على الحلية الواقعية وهي ثابتة تنزيلا فكذلك حكمها، واما إذا قيل بان
14

أصل الإباحة ليس تنزيليا بل انشاء لحلية مستقلة فلا يمكن ان ننقح بها
طهارة المدفوع وهكذا.
والآخر: ان ينزل الأصل أو الاحتمال المقوم له منزلة اليقين بان
تجعل الطريقية في مورد الأصل، كما ادعي ذلك في الاستصحاب من قبل
المحقق النائيني والسيد الأستاذ على فرق بينهما، حيث إن الأول اختار: ان
المجعول هو العلم بلحاظ مرحلة الجري العملي فقط، والثاني اختار: ان
المجعول هو العلم بلحاظ الكاشفية، فلم يبق على مسلك جعل الطريقية
فرق بين الاستصحاب والامارات في المجعول على رأي السيد الأستاذ
. ويسمى الأصل في حالة بذل هذه العناية بالأصل المحرز وهذه
المحرزية قد يترتب عليها بعض الفوائد في تقديم الأصل المحرز على غيره
باعتباره علما وحاكما على دليل الأصل العملي البحت على ما يأتي في محله ان
شاء الله تعالى.
وهناك معنى آخر للأصول العملية المحرزة ينسجم مع طريقتنا في
التمييز بين الامارات والأصول، وهو انه كلما لوحظ في جعل الحكم
الظاهري ثبوتا أهمية المحتمل فهو أصل عملي فان لوحظ منضما إليه قوة
الاحتمال أيضا فهو أصل عملي محرز كما في قاعدة الفراغ وإلا فلا.
والمحرزية بهذا المعنى في قاعدة الفراغ لا تجعلها حجة في مثبتاتها الا ان
استظهارها من دليل القاعدة يترتب عليه بعض الآثار أيضا من قبيل عدم
شمول دليل القاعدة لموارد انعدام الا مارية والكشف نهائيا. ومن هنا يقال
بعدم جريان قاعدة الفراغ في موارد العلم بعدم التذكر حين العمل.
مورد جريان الأصول العملية:
لا شك في جريان الأصول العملية الشرعية عند الشك في الحكم
التكليفي الواقعي لتنجيزه كما في أصالة الاحتياط أو للتعذير عنه كما في
15

أصالة البراءة، ولكن قد يشك في التكليف الواقعي ويشك في قيام الحجة
الشرعية عليه بنحو الشبهة الموضوعية - كالشك في صدور الحديث - أو بنحو
الشبهة الحكمية - كالشك في حجية الامارة المعلوم وجودها - فهل يوجد في
هذه الحالة موردان للأصل العملي فنجري البراءة عن التكليف الواقعي
المشكوك ونجري براءة أخرى عن الحجية اي الحكم الظاهري المشكوك.
أو تكفي البراءة الأولى؟. وبكلمة أخرى ان الأصول العملية هل يختص
موردها بالشك في الأحكام الواقعية أو يشمل مورد الشك في الأحكام الظاهرية
نفسها؟.
قد يقال بأننا في المثال المذكور نحتاج إلى براءتين إذ يوجد احتمالان
صالحان للتنجيز فنحتاج إلى مؤمن عن كل منهما، أحدهما: احتمال
التكليف الواقعي ولنسمه بالاحتمال البسيط، والآخر: احتمال قيام الحجة
عليه، وحيث إن الحجية معناها ابراز شدة اهتمام المولى بالتكليف الواقعي
المشكوك كما عرفنا سابقا عند البحث في حقيقة الأحكام الظاهرية.
فاحتمال الحجة على الواقع المشكوك يعني احتمال التكليف واقعي متعلق
واقعي متعلق لاهتمام المولى الشديد وعدم رضائه بتفويته، ولنسم هذا
بالاحتمال المركب. وعليه فالبراءة عن الاحتمال البسيط لا تكفي بل لا بد من
التأمين من ناحية الاحتمال المركب أيضا ببراءة ثانية.
وقد يعترض على ذلك بان الأحكام الظاهرية كما تقدم في الجزء
السابق متنافية بوجوداتها الواقعية، فإذا جرت البراءة عن الحجية المشكوكة
وفرض انها كانت ثابتة يلزم اجتماع حكمين ظاهريين متنافيين.
وجواب الاعتراض: ان البراءة هنا نسبتها إلى الحجية المشكوكة نسبة
الحكم الظاهري إلى الحكم الواقعي لأنها مترتبة على الشك فيها، فكما لا
منافاة بين الحكم الظاهري والواقعي كذلك لا منافاة بين حكمين ظاهريين
طوليين من هذا القبيل، وما تقدم سابقا من التنافي بين الأحكام الظاهرية
بوجوداتها الواقعية ينبغي ان يفهم في حدود الأحكام الظاهرية العرضية اي
16

التي يكون الموضوع فيها نحو واحد من الشك.
وقد يعترض على اجراء براءة ثانية بأنها لغو إذ بدون اجراء البراءة
عن نفس الحكم الواقعي المشكوك لا تنفع البراءة المؤمنة عن الحجية
المشكوكة ومع اجرائها لا حاجة إلى البراءة الثانية إذ لا يحتمل العقاب الا
من ناحية التكليف الواقعي وقد أمن عنه.
والجواب على ذلك: ان احتمال ذات التكليف الواقعي شئ
واحتمال تكليف واقعي واصل إلى مرتبة من الاهتمام المولوي التي تعبر عنها
الحجية المشكوكة شئ آخر، والتأمين عن الأول لا يلازم التأمين عن
الثاني، ألا ترى ان بامكان المولى أن يقول للمكلف: كلما احتملت تكليفا
وأنت تعلم بعدم قيام الحجة عليه فأنت في سعة منه، وكلما احتملت تكليفا
واحتملت قيام الحجة عليه فاحتط بشأنه.
ولكن التحقيق مع ذلك: ان إجراء البراءة عن التكليف الواقعي
المشكوك يغني عن اجراء البراءة عن الحجية المشكوكة وذلك بتوضيح ما
يلي:
أولا: ان البراءة عن التكليف الواقعي والحجية المشكوكة حكمان
ظاهريان عرضيان لان موضوعهما معا الشك في الواقع، خلافا للبراءة عن
الحجية المشكوكة فإنها ليست في درجتها كما عرفت.
ثانيا: - ان الحكمين الظاهريين المختلفين متنافيان بوجوديهما الواقعيين
سواء وصلا أو لا كما تقدم في محله.
ثالثا: - ان البراءة عن التكليف الواقعي منافية ثبوتا للحجية
المشكوكة على ضوء ما تقدم.
رابعا: - ان مقتضى المنافاة انها تستلزم عدم الحجية واقعا ونفيها.
خامسا: ان الدليل الدال على البراءة عن التكليف الواقعي يدل
17

بالالتزام على نفي الحجية المشكوكة.
وهذا يعني: اننا باجراء البراءة عن التكليف الواقعي سنثبت بالدليل
نفي الحجية المشكوكة فلا حاجة إلى أصل البراءة عنها وان كان لا محذور
فيه أيضا.
ويمكن تصوير وقوع الأحكام الظاهرية موردا للأصول العملية في
الاستصحاب، إذ قد يجرى استصحاب الحكم الظاهري لتمامية أركان
الاستصحاب فيه وعدم تماميتها في الحكم الواقعي كما إذا علم بالحجية
وشك في نسخها فان المستصحب هنا نفس الحجية لا الحكم الواقعي.
18

الوظيفة العملية
في حالة الشك
19

الأصول العملية
- 2 -
1 - الوظيفة في حالة الشك البدوي.
2 - الوظيفة في حالة العلم الاجمالي.
3 - الوظيفة عند الشك في الوجوب والحرمة معا.
4 - الوظيفة عند الشك في الأقل والأكثر.
21

الوظيفة العملية في حالة الشك
- 1 -
الوظيفة
في حالة الشك البدوي
1 - الوظيفة الأولية في حالة الشك.
2 - الوظيفة الثانوية في حالة الشك.
23

الوظيفة الأولية في حالة الشك
كلما شك المكلف في تكليف شرعي ولم يتأت له إقامة الدليل عليه
اثباتا أو نفيا فلا بد له من تحديد الوظيفة العملية تجاهه، ويقع الكلام أولا
في تحديد الوظيفة العملية تجاه التكليف المشكوك بقطع النظر عن اي تدخل
من الشارع في تحديدها، وهذا يعني التوجه إلى تعيين الأصل الجاري في
الواقعة بحد ذاتها وليس هو الا الأصل العملي العقلي. ويوجد بصدد تحديد
هذا الأصل العقلي مسلكان:
1 - مسلك قبح العقاب بلا بيان:
إن مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو المسلك المشهور. وقد
يستدل عليه بعدة وجوه:
الأول: - ما ذكره المحقق النائيني (رحمه الله) من انه لا مقتضي
للتحرك مع عدم وصول التكليف فالعقاب حينئذ عقاب على ترك ما لا
مقتضي لايجاده وهو قبيح. وقد عرفت في حلقة سابقة ان هذا الكلام
مصادرة لان عدم المقتضى فرع ضيق دائرة حق الطاعة وعدم شمولها عقلا
للتكاليف المشكوكة لوضوح انه مع الشمول يكون المقتضي للتحرك موجودا
25

فينتهي البحث إلى تحديد دائرة حق الطاعة.
الثاني: - الاستشهاد بالأعراف العقلائية وقد تقدم أيضا الجواب
بالتمييز بين المولوية المجعولة والمولوية الحقيقية.
الثالث: - ما ذكره المحقق الأصفهاني (رحمه الله) من أن كل
احكام العقل العملي مردها إلى حكمه الرئيسي الأولى بقبح الظلم وحسن
العدل، ونحن نلاحظ ان مخالفة ما قامت عليه الحجة خروج عن رسم
العبودية وهو ظلم من العبد لمولاه فيستحق منه الذم والعقاب وان مخالفة ما
لم تقم عليه الحجة ليست من افراد الظلم إذ ليس من زي العبودية أن لا
يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الامر فلا يكون ذلك ظلما للمولى،
وعليه فلا موجب للعقاب بل يقبح وبذلك يثبت قبح العقاب بلا بيان.
والتحقيق ان ادعاء كون حكم العقل بقبح الظلم هو الأساس
لاحكام العقل العملي بالقبح عموما وانها كلها تطبيقات له. وان كان هو
المشهور والمتداول في كلماته وكلمات غيره من المحققين الا انه لا محصل
له، لأننا إذا حللنا نفس مفهوم الظلم وجدنا أنه عبارة عن الاعتداء وسلب
الغير حقه، وهذا يعني افتراض ثبوت حق في المرتبة السابقة، وهذا الحق
بنفسه من مدركات العقل العملي، فلولا ان للمنعم حق الشكر في المرتبة
السابقة لما انطبق عنوان الظلم على ترك شكره، فكون شئ ظلما وبالتالي
قبيحا مترتب دائما على حق مدرك في المرتبة السابقة وهو في المقام حق
الطاعة. فلا بد ان يتجه البحث إلى أن حق الطاعة للمولى هل يشمل
التكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي أو يختص بما كان واصلا بالوصول
القطعي بعد الفراغ عن عدم شموله للتكليف بمجرد ثبوته واقعا ولو لم يصل
بوجه.
الرابع: - ما ذكره المحقق الأصفهاني أيضا تعميقا لقاعدة قبح
العقاب بلا بيان على أساس مبنى له في حقيقة التكليف حاصله: ان
التكليف انشائي وحقيقي فالانشائي: ما يوجد بالجعل والانشاء وهذا لا
26

يتوقف على الوصول، والتكليف الحقيقي: ما كان إنشاؤه بداعي البعث
والتحريك وهذا متقوم بالوصول إذ لا يعقل أن يكون التكليف بمجرد
إنشائه باعثا ومحركا وانما يكون كذلك بوصوله فكما أن بعث العاجز غير
معقول كذلك بعث الجاهل وكما يختص التكليف الحقيقي بالقادر كذلك
يختص بمن وصل إليه ليمكنه الانبعاث عنه فلا معنى للعقاب والتنجز مع
عدم الوصول لأنه يساوق عدم التكليف الحقيقي فيقبح العقاب بلا بيان لا
لان التكليف الحقيقي لا بيان عليه بل لأنه لا ثبوت له مع عدم الوصول.
ويرد عليه:
أولا: - ان حق الطاعة ان كان شاملا للتكاليف الواصلة بالوصول
الاحتمالي فباعثية التكليف ومحركيته مولويا مع الشك معقولة أيضا، وذلك
لأنه يحقق موضوع حق الطاعة، وإن لم يكن حق الطاعة شاملا للتكاليف
المشكوكة فمن الواضح انه ليس من حق المولى ان يعاقب على مخالفتها لأنه
ليس مولى بلحاظها بلا حاجة إلى هذه البيانات والتفصيلات. وهكذا نجد
مرة أخرى ان روح البحث يجب ان يتجه إلى تحديد دائرة حق الطاعة.
وثانيا: - ان التكليف الحقيقي الذي ادعي كونه متقوما بالوصول ان
أراد به الجعل الشرعي للوجوب مثلا الناشئ من إرادة ملزمة للفعل
ومصلحة ملزمة فيه فمن الواضح ان هذا محفوظ مع الشك أيضا حتى لو
قلنا بأنه غير منجز وان المكلف الشاك غير ملزم بامتثاله عقلا لان شيئا من
الجعل والإرادة والمصلحة لا يتوقف على الوصول، وان أراد به ما كان
مقرونا بداعي البعث والتحريك فلنفترض ان هذا غير معقول بدون وصول
الا ان ذلك لا ينهي البحث، لان الشك في وجود جعل بمبادئه من الإرادة
والمصلحة الملزمتين موجود على اي حال حتى ولو لم يكن مقرونا بداعي
البعث والتحريك، ولابد ان يلاحظ انه هل يكفي احتمال ذلك في
التنجيز أو لا؟ وعدم تسمية ذلك بالتكليف الحقيقي مجرد اصطلاح ولا
يغني عن بحث واقع الحال.
27

2 - مسلك حق الطاعة:
وهكذا نصل إلى المسلك الثاني وهو مسلك حق الطاعة المختار،
ونحن نؤمن في هذا المسلك بان المولوية الذاتية الثابتة لله سبحانه وتعالى لا
تختص بالتكاليف المقطوعة بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو
احتمالا، وهذا من مدركات العقل العملي وهي غير مبرهنة فكما أن أصل
حق الطاعة للمنعم والخالق مدرك أولي للعقل العملي غير مبرهن كذلك
حدوده سعة وضيقا، وعليه فالقاعدة العملية الأولية هي أصالة الاشتغال
بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجاد في ترك التحفظ على ما تقدم في
مباحث القطع، فلا بد من الكلام عن هذا الترخيص وامكان اثباته شرعا
وهو ما يسمى بالبراءة الشرعية.
28

الوظيفة الثانوية في حالة الشك
والقاعدة العملية الثانوية في حالة الشك التي ترفع موضوع القاعدة
الأولى هي البراءة الشرعية ويقع الكلام عن اثباتها في مبحثين: أحدهما: في
أدلتها. والآخر: في الاعتراضات العامة التي قد توجه إلى تلك الأدلة
بعد افتراض دلالتها:
- 1 -
أدلة البراءة الشرعية
وقد استدل عليها بالكتاب الكريم والسنة.
أدلة البراءة من الكتاب:
اما من الكتاب الكريم فقد استدل بعدة آيات:
منها: قوله سبحانه وتعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا ما اتاها) (1)

(1) سورة الطلاق / 7.
29

بدعوى أن اسم الموصول يشمل التكليف بالاطلاق كما يشمل المال والفعل
فيدل على أنه لا يكلف بتكليف الا إذا اتاه وايتاء التكليف معناه عرفا
وصوله إلى المكلف فتدل الآية على نفي الكلفة من ناحية التكاليف غير
الواصلة.
وقد اعترض الشيخ الأنصاري (رحمه الله) على دعوى اطلاق اسم
الموصول باستلزامه استعمال الهيئة القائمة بالفعل والمفعول في معنيين لان
التكليف بمثابة المفعول المطلق والمال والفعل بمثابة المفعول به ونسبة الفعل
إلى مفعوله المطلق مغايرة لنسبته إلى المفعول به فكيف يمكن الجمع
بين النسبتين في استعمال واحد؟
وهناك جوابان على هذا الاعتراض:
الأول: - ما ذكره المحقق العراقي (رحمه الله) من أخذ الجامع بين
النسبتين. ويرد عليه انه ان أريد الجامع الحقيقي بينهما فهو مستحيل لما
تقدم في مبحث المعاني الحرفية من امتناع انتزاع الجامع الحقيقي بين
النسب، وان أريد بذلك افتراض نسبة ثالثة مباينة للنسبتين الا انها تلائم
المفعول المطلق والمفعول به معا فلا معين لارادتها من الكلام على تقدير
تصور نسبة من هذا القبيل.
الثاني: - وهو الجواب الصحيح. وحاصله: ان مادة الفعل في الآية
هي الكلفة بمعنى الإدانة ولا يراد باطلاق اسم الموصول شموله لذلك بل
لذات الحكم الشرعي الذي هو موضوع للإدانة فهو إذن مفعول به فلا
اشكال.
ثم إن البراءة التي تستفاد من هذه الآية الكريمة ان كانت بمعنى نفي
الكلفة بسبب التكليف غير المأتي فلا ينافيها ثبوت الكلفة بسبب وجوب
الاحتياط إذا تم الدليل عليه فلا تنفع في معارضة أدلة وجوب الاحتياط،
وان كانت البراءة بمعنى نفي الكلفة في مورد التكليف غير المأتي فهي تنفي
وجوب الاحتياط وتعارض مع ما يدعى من أدلته، والظاهر هو الحمل على
30

الموردية لا السببية لان هذا هو المناسب بلحاظ الفعل والمال أيضا
فالاستدلال بالآية جيد.
وبالنسبة إلى مدى الشمول فيها لا شك في شمولها للشبهات الوجوبية
والتحريمية معا بل للشبهات الحكمية والموضوعية معا لان الايتاء ليس بمعنى
إيتاء الشارع بما هو شارع ليختص بالشبهات الحكمية بل بمعنى الايتاء
التكويني لأنه المناسب للمال وللفعل. كما أن الظاهر عدم الاطلاق في الآية
لحالة عدم الفحص لان إيتاء التكليف تكفي فيه عرفا مرتبة من الوصول
وهي الوصول إلى مظان العثور بالفحص.
ومنها: قوله سبحانه وتعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث
رسولا) (1) وتقريب الاستدلال واضح بعد حمل كلمة رسول على المثال
للبيان. وقد يعترض على ذلك تارة بأن الآية الكريمة إنما تنفي العقاب لا
استحقاقه وهذا لا ينافي تنجز التكليف المشكوك إذ لعله من باب العفو.
وأخرى بأنها ناظرة إلى العقاب الرباني في الدنيا للأمم السالفة وهذا غير محل
البحث.
والجواب على الأول: ان ظاهر النفي في الآية انه هو الطريقة العامة
للشارع التي لا يناسبه غيرها كما يظهر من مراجعة أمثال هذا التركيب عرفا
وهذا معناه عدم الاستحقاق، ومنه يظهر الجواب على الاعتراض الثاني لان
النكتة مشتركة مضافا إلى منع نظر الآية إلى العقوبات الدنيوية بل سياقها
سياق استعراض عدة قوانين للجزاء الأخروي إذ وردت في سياق (لا تزر
وازرة وزر أخرى) فان هذا شأن عقوبات الله في الآخرة لا في الدنيا،
ولا منشأ لدعوى النظر المذكور الا ورود التعبير بصيغة الماضي في قوله (وما
كنا) وهذا بنكتة إفادة الشأنية والمناسبة ولا يتعين أن يكون بلحاظ النظر إلى
الزمان الماضي خاصة.

(1) الاسراء / 15.
31

ولكن يرد على الاستدلال بالآية الكريمة ما تقدم في الحلقة السابقة
من أن الرسول انما يمكن اخذه كمثال لصدور البيان من الشارع لا
للوصول الفعلي فلا تنطبق الآية في موارد صدوره وعدم وصوله. ثم إن
البراءة إذا استفيدت من هذه الآية فهي براءة منوطة بعدم قيام دليل على
وجوب الاحتياط لان هذا الدليل بمثابة الرسول أيضا.
ومنها: قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم
يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير
فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن
ربك غفور رحيم) (1) إذ دل على أن عدم الوجدان كاف في اطلاق
العنان. ويرد عليه:
أولا: ان عدم وجدان النبي فيما أوحي إليه يساوق عدم الحرمة
واقعا.
وثانيا: - انه إن لم يساوق عدم الحرمة واقعا فعلى الأقل يساوق
عدم صدور بيان من الشارع إذ لا يحتمل صدوره واختفاؤه على النبي،
وأين هذا من عدم الوصول الناشئ من احتمال اختفاء البيان.
وثالثا: - ان اطلاق العنان كما قد يكون بلحاظ أصل عملي قد
يكون بلحاظ عمومات الحل التي لا يرفع اليد عنها الا بمخصص واصل.
ومنها: قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى
يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شئ عليم) (2).
وتقريب الاستدلال كما تقدم في الحلقة السابقة، وما يتقي ان أريد به
ما يتقى بعنوانه انحصر بالمخالفة الواقعية للمولى فتكون البراءة المستفادة من

(1) الانعام 145.
(2) التوبة 114.
32

الآية الكريمة منوطة بعدم بيان الواقع، وان أريد به ما يتقى ولو بعنوان
ثانوي ظاهري كعنوان المخالفة الاحتمالية كان دليل وجوب الاحتياط واردا
على هذه البراءة لأنه بيان لما يتقي بهذا المعنى.
أدلة البراءة من السنة:
واستدل من السنة بروايات:
منها: ما روي عن الصادق عليه السلام من قوله: " كل شئ
مطلق حق يرد فيه نهي " (1). وفي الرواية نقطتان لا بد من بحثهما:
الأولى: ان الورود هل هو بمعنى الوصول ليكون مفاد الرواية البراءة
بالمعنى المقصود أو الصدور لئلا يفيد في حالة احتمال صدور البيان من
الشارع مع عدم وصوله؟.
الثانية: ان النهي الذي جعل غاية هل يشمل النهي الظاهري
المستفاد من أدلة وجوب الاحتياط أو لا؟. فعل الأول تكون البراءة
المستفادة ثابتة بدرجة يصلح دليل وجوب الاحتياط للورود عليها، وعلى
الثاني تكون بنفسها نافية لوجوب الاحتياط.
اما النقطة الأولى: فقد يقال بتردد الورود بين الصدور والوصول
وهو موجب للاجمال الكافي لاسقاط الاستدلال وقد تعين إرادة الوصول
بأحد وجهين:
الأول: - ما ذكره السيد الأستاذ من أن المغيى حكم ظاهري فيتعين
ان تكون الغاية هي الوصول لا الصدور لان كون الصدور غاية يعني ان
الإباحة لا تثبت الا مع عدم الصدور واقعا ولا يمكن احرازها الا باحراز
عدم الصدور ومع احرازه لا شك فلا مجال للحكم الظاهري. فان قيل:

(1) جامع أحاديث الشيعة: أبواب المقدمات / الباب الثامن / ح 15.
33

لماذا لا يفترض كون المغيى إباحة واقعية. كان الجواب منه ان الإباحة
الواقعية والنهي الواقعي الذي جعل غاية متضادان فان أريد تعليق الأولى
على عدم الثاني حقيقة فهو محال لاستحالة مقدمية عدم أحد الضدين للضد
الآخر، وان أريد مجرد بيان ان هذا الضد ثابت حيث لا يكون ضده ثابتا
فهذا لغو من البيان لوضوحه.
ويرد على هذا الوجه: ان النهي عبارة عن الخطاب الشرعي الكاشف
عن التحريم وليس هو التحريم نفسه، والقضاء نفسه لا يقتضي تعليق
أحد الضدين على عدم الضد الآخر ولا على عدم الكاشف عن الضد
الآخر، ولكن لا محذور في أن توجد نكتة. أحيانا تقتضي إناطة حكم بعدم
الكاشف عن الحكم المضاد له ومرجع ذلك في المقام إلى أن تكون فعلية
الحرمة بمبادئها منوطة بصدور الخطاب الشرعي الدال عليها نظير ما قيل من أن
العلم بالحكم من طريق مخصوص يؤخذ في موضوعه.
الثاني: - ان الورود يستبطن دائما حيثية الوصول ولهذا لا يتصور
بدون مورود عليه، ولكن هذا المقدار لا يكفي أيضا إذ يكفي لاشباع هذه
الحيثية ملاحظة نفس المتعلق مورودا عليه، فالاستدلال بالرواية إذن غير
تام، وعليه فلا اثر للحديث عن النقطة الثانية.
ومنها: حديث الرفع المروي عن النبي صلى الله عليه وآله. ونصه " رفع عن أمتي
تسعة: الخطأ، والنسيان، وما اكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا
يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في
الخلق، ما لم ينطق بشفة " (1). والبحث حول هذا الحديث يقع على ثلاث
مراحل:
المرحلة الأولى: في فقه الحديث على وجه الاجمال، والنقطة المهمة في
هذه المرحلة تصوير الرفع الوارد فيه فإنه لا يخلو عن اشكال لوضوح ان

(1) جامع أحاديث الشيعة: أبواب المقدمات / الباب الثامن / ح 3.
34

كثيرا مما فرض رفعه في الحديث أمور تكوينية ثابتة وجدانا، ومن هنا كان لا
بد من بذل عناية في تصحيح هذا الرفع، وذلك اما بالتقدير بحيث يكون
المرفوع امرا مقدرا قابلا للرفع حقيقة كالمؤاخذة مثلا، واما بجعل الرفع
منصبا على نفس الأشياء المذكورة ولكن بلحاظ وجودها في علم التشريع
بالنحو المناسب من الوجود لموضوع الحكم ومتعلقه في هذا العالم، فشرب
الخمر المضطر إليه يرفع وجوده التشريعي بما هو متعلق للحرمة وروح ذلك
رفع الحكم، واما بصب الرفع على نفس الأشياء المذكورة بوجوداتها
التكوينية ولكن يفترض ان الرفع تنزيلي وليس حقيقيا فالشرب المذكور نزل
منزلة العدم خارجا فلا حرمة ولا حد. ولا شك في أن دليل الرفع على
الاحتمالات الثلاثة جميعا يعتبر حاكما على أدلة الأحكام الأولية باعتبار نظره
إليها، وهذا النظر اما أن يكون إلى جانب الموضوع من تلك الأدلة كما هو
الحال على الاحتمال الثالث فيكون على وزان (لا ربا بين الوالد وولده)، أو
يكون إلى جانب المحمول اي الحكم مباشرة كما هو الحال على الاحتمال
الأول إذا قدرنا الحكم فيكون على وزان (لا ضرر)، أو يكون إلى جانب
المحمول ولكن منظورا إليه بنظر عنائي كما هو الحال على الاحتمال الثاني
لان النظر فيه إلى الثبوت التشريعي للموضوع وهو عين الثبوت التشريعي
للحكم فيكون على وزان (لا رهبانية في الاسلام).
والظاهر أن أبعد الاحتمالات الثلاثة الاحتمال الأول لأنه منفي
بأصالة عدم التقدير. فان قيل: كما أن التقدير عناية كذلك توجيه الرفع
إلى الوجود التشريعي مثلا. كان الجواب: ان هذه عناية يقتضيها نفس
ظهور حال الشارع في أن الرفع صادر منه بما هو شارع وبما هو انشاء لا
اخبار بخلاف عناية التقدير فإنها خلاف الأصل حتى في كلام الشارع بما
هو مستعمل، كما أن الظاهر أن الاحتمال الثاني أقرب من الثالث لان
بعض المرفوعات مما ليس له وجود خارجي ليتعقل في شأنه رفعه بمعنى
تنزيل وجوده الخارجي منزلة العدم كما في (ما لا يطيقون). فالمتعين اذن
هو الاحتمال الثاني.
35

وتترتب بعض الثمرات على هذه الاحتمالات الثلاثة، فعلى الأول
يكون المقدر غير معلوم ولا بد من الاقتصار فيه على القدر المتيقن من
الآثار، خلافا للآخرين إذ يتمسك بناء عليهما باطلاق الرفع لنفي تمام
الآثار، كما أنه على الثالث قد يستشكل في شمول حديث الرفع لما إذا
اضطر إلى الترك مثلا لان نفي الترك خارجا عبارة عن وضع الفعل وحديث
الرفع يتكفل الرفع لا الوضع، وخلافا لذلك ما إذا أخذنا بالاحتمال الثاني
إذ لا محذور حينئذ في تطبيق الحديث على الترك المضطر إليه لان المرفوع
ثبوته التشريعي فيما إذا كان موضوعا أو متعلقا لحكم، ورفع هذا النحو من
ثبوته ليس عبارة عن وضع الفعل إذ ليس معناه الا عدم كونه موضوعا أو
متعلقا للحكم وهذا لا يعني جعل الفعل موضوعا كما هو واضح.
وعلى اي حال فحديث الرفع يدل على أن الانسان إذا شرب المسكر
اضطرارا أو اكره على ذلك فلا حرمة ولا وجوب للحد، كما أنه إذا اكره
على معاملة فلا يترتب عليها مضمونها نعم يختص الرفع بما إذا كان في
الرفع امتنان على العباد لان الحديث مسوق مساق الامتنان، ومن أجل
ذلك لا يمكن تطبيق الحديث على البيع المضطر إليه لابطاله لان ابطاله يعين
ايقاع المضطر في المحذور وهو خلاف الامتنان، بخلاف تطبيقه على البيع
المكره عليه فان ابطاله يعني تعجيز المكره عن التوصل إلى غرضه بالاكراه.
المرحلة الثانية: في فقرة الاستدلال وهي رفع ما لا يعلمون، وكيفية
الاستدلال بها. وتوضيح الحال في ذلك: ان الرفع هنا اما واقعي واما
ظاهري، وقد يقال: ان الاستدلال على المطلوب تام على التقديرين لان
المطلوب اثبات اطلاق العنان وايجاد معارض لدليل وجوب الاحتياط لو تم
وكلا الامرين يحصل باثبات الرفع الواقعي أيضا كما يحصل بالظاهري.
ولكن الصحيح عدم اطراد المطلوب على تقدير حمل الرفع على الواقعي إذ
كثيرا ما يتفق العلم أو قيام دليل على عدم اختصاص التكليف المشكوك
على تقدير ثبوته بالعالم ففي مثل ذلك يجب الالتزام بتخصيص حديث الرفع
مع الحمل على الواقعية خلافا لما إذا حمل على الرفع الظاهري. نعم يكفي
36

للمطلوب عدم ظهور الحديث في الرفع الواقعي إذ حتى مع الاجمال يصح
الرجوع إلى حديث الرفع في الفرض المذكور لعدم احراز وجود المعارض أو
المخصص لحديث الرفع حينئذ.
وعلى اي حال فقد يقال: ان ظاهر الرفع كونه واقعيا لان الحمل
على الظاهري يحتاج إلى عناية اما بجعل المرفوع وجوب الاحتياط تجاه ما لا
يعلم لا نفسه - وهو خلاف الظاهر جدا واما بتطعيم الظاهرية في نفس
الرفع بان يفترض ان التكليف له وضعان ورفعان واقعي وظاهري فوجوب
الاحتياط وضع ظاهري للتكليف الواقعي ونفي هذا الوجوب رفع ظاهري
له. وكل ذلك عناية فيتعين الحمل على الرفع الواقعي.
والجواب على ذلك بوجهين:
الوجه الأول: ما عن المحقق العراقي (قدس الله روحه) من أن
الحديث لما كان امتنانيا والامتنان يرتبط برفع التكليف الواقعي المشكوك
ببعض مراتبه اي برفع وجوب الاحتياط من ناحيته سواء رفعت المراتب
الأخرى أو لا فلا يكون الرفع في الحديث شاملا لتلك المراتب فالامتنان
قرينة محددة للمقدار المرفوع.
ويمكن الاعتراض على هذا الوجه بان الامتنان وان كان يحصل بنفي
ايجاب الاحتياط ولا يتوقف على نفي الواقع ولكن لما كان نفي ايجاب
الاحتياط بنفسه قد يكون بنفي الواقع رأسا أمكن ان تكون التوسعة الممتن
بها مترتبة على نفي الواقع ولو بالواسطة، ولا يقتضي ظهور الحديث في
الامتنان سوى كون مفاده منشأ للتوسعة والامتنان ولو بالواسطة.
الوجه الثاني: ان الرفع إذا كان واقعيا فهذا يعني اخذ العلم
بالتكليف فيه، فإن كان بمعنى اخذ العلم بالتكليف المجعول قيدا فيه فهو
مستحيل ثبوتا كما تقدم، وان كان بمعنى اخذ العلم بالجعل قيدا في
المجعول فهو ممكن ثبوتا ولكنه خلاف ظاهر الدليل جدا لان لازم ذلك أن
يكون المرفوع غير المعلوم لان الأول هو المجعول والثاني هو الجعل مع ظهور
37

الحديث في أن العلم والرفع يتبادلان على مصب واحد، وهذا بنفسه كاف
لجعل الحديث ظاهرا في الرفع الظاهري وبذلك يثبت المطلوب.
المرحلة الثالثة: في شمول فقرة الاستدلال للشبهات الموضوعية
والحكمية، إذ قد يتراءى انه لا يتأتى ذلك لان المشكوك في الشبهة الحكمية
هو التكليف والمشكوك في الشبهة الموضوعية الموضوع فليس المشكوك فيهما
من سنخ واحد ليشملهما دليل واحد. والتحقيق ان الشمول يتوقف على
امرين: أحدهما: تصوير جامع مناسب بين المشكوكين في الشبهتين ليكون
مصبا للرفع، والآخر: عدم وجود قرينة في الحديث على الاختصاص.
اما الامر الأول: فقد قدم المحققون تصويرين للجامع:
التصوير الأول: - ان الجامع هو الشئ باعتباره عنوانا ينطبق على
التكليف المشكوك في الشبهة الحكمية والموضوع المشكوك في الشبهة
الموضوعية.
وقد اعترض صاحب الكفاية على ذلك بأن اسناد الرفع إلى التكليف
حقيقي واسناده إلى الموضوع مجازي ولا يمكن الجمع بين الاسنادين الحقيقي
والمجازي.
وحاول المحقق الأصفهاني ان يدفع هذا الاعتراض بان من الممكن
ان يجتمع وصفا الحقيقة والمجازية في اسناد واحد باعتبارين فبما هو اسناد
للرفع إلى هذه الحصة من الجامع حقيقي وبما هو اسناد له إلى الأخرى
مجازي.
وهذه المحاولة ليست صحيحة، إذ ليس المحذور في مجرد اجتماع
هذين الوصفين في اسناد واحد، بل يدعى ان نسبة الشئ إلى ما هو له
مغايرة ذاتا لنسبة الشئ إلى غير ما هو له، فإن كان الاسناد في الكلام
مستعملا لإفادة احدى النسبتين اختص بما يناسبها، وان كان مستعملا
لافادتهما معا فهو استعمال لهيئة الاسناد في معنيين ولا جامع حقيقي بين
38

النسب لتكون الهيئة مستعملة فيه. والصحيح ان يقال: ان اسناد الرفع
مجازي حتى إلى التكليف لان رفعه ظاهري عنائي وليس واقعيا.
التصوير الثاني: - ان الجامع هو التكليف وهو يشمل الجعل بوصفه
تكليفا للموضوع الكلي المقدر الوجود ويشمل المجعول بوصفه تكليفا للفرد
المحقق الوجود، وفي الشبهة الحكمية يشك في التكليف بمعنى الجعل وفي
الشبهة الموضوعية يشك في التكليف بمعنى المجعول وهذا تصوير معقول
أيضا بعد الايمان بثبوت جعل ومجعول كما عرفت سابقا.
واما الامر الثاني: فقد يقال: بوجود قرينة على الاختصاص بالشبهة
الموضوعية من ناحية وحدة السياق كما قد يدعى العكس وقد تقدم الكلام
عن ذلك في الحلقة السابقة واتضح انه لا قرينة على الاختصاص فالاطلاق
تام.
وهناك روايات أخرى استدل بها للبراءة تقدم الكلام عن جملة منها
في الحلقة السابقة وعن قصور دلالتها أو عدم شمولها للشبهات الحكمية
فلاحظ.
كما يمكن التعويض عن البراءة بالاستصحاب وذلك باجراء
استصحاب عدم جعل التكليف أو استصحاب عدم فعلية التكليف
المجعول، وزمان الحالة السابقة بلحاظ الاستصحاب الأول بداية الشريعة
وبلحاظ الاستصحاب الثاني زمان ما قبل البلوغ مثلا، بل قد يكون زمان
ما بعد البلوغ أيضا كما إذا كان المشكوك تكليفا مشروطا وتحقق الشرط بعد
البلوغ فبالامكان استصحاب عدمه الثابت قبل ذلك.
39

الاعتراضات العامة
ويعترض على أدلة البراءة المتقدمة باعتراضين أساسيين:
أحدهما: انها معارضة بأدلة تدل على وجوب الاحتياط بل هذه
الأدلة حاكمة عليها لأنها بيان للوجوب وتلك تتكفل جعل البراءة في حالة
عدم البيان.
والاعتراض الآخر: ان أدلة البراءة تختص بموارد الشك البدوي
والشبهات الحكمية ليست مشكوكات بدوية بل هي مقرونة بالعلم الاجمالي
بثبوت تكاليف غير معينة في مجموع تلك الشبهات.
اما الاعتراض الأول فنلاحظ عليه عدة نقاط:
الأولى: ان ما استدل به على وجوب الاحتياط ليس تاما كما يظهر
باستعراض الروايات التي ادعيت دلالتها على ذلك وقد تقدم في الحلقة
السابقة استعراض عدد مهم منها مع مناقشة دلالتها، نعم جملة منها تدل
على الترغيب في الاحتياط والحث عليه ولا كلام في ذلك.
الثانية: - ان أدلة وجوب الاحتياط المدعاة ليست حاكمة على أدلة
البراءة المتقدمة لما اتضح سابقا من أن جملة منها تثبت البراءة المنوطة بعدم
وصول الواقع فلا يكون وصول وجوب الاحتياط رافعا لموضوعها بل يحصل
التعارض حينئذ بين الطائفتين من الأدلة.
40

الثالثة: - إذا حصل التعارض بين الطائفتين فقد يقال بتقديم أدلة
وجوب الاحتياط لان ما يعارضها من أدلة البراءة القرآنية الآية الأولى على
أساس الاطلاق في اسم الموصول فيها للتكليف وهذا الاطلاق يقيد بأدلة
وجوب الاحتياط، وما يعارضها من أدلة البراءة في الروايات حديث الرفع
وهي أخص منه أيضا لورودها في الشبهات الحكمية وشموله للشبهات
الحكمية والموضوعية فيقيد بها.
ولكن التحقيق ان النسبة بين أدلة وجوب الاحتياط والآية الكريمة
هي العموم من وجه، لشمول تلك الأدلة موارد عدم الفحص واختصاص
الآية بموارد الفحص كما تقدم عند الكلام عن دلالتها، فهي كما تعتبر أعم
بلحاظ شمولها للفعل والمال كذلك تعتبر أخص بلحاظ ما ذكرناه ومع
التعارض بالعموم من وجه يقدم الدليل القرآني لكونه قطعيا. كما أن النسبة
بين أدلة وجوب الاحتياط وحديث الرفع العموم من وجه أيضا، لعدم
شموله موارد العلم الاجمالي وشمول تلك الأدلة لها، ويقدم حديث الرفع
في مادة الاجتماع والتعارض لكونه موافقا لاطلاق الكتاب ومخالفة معارض
له.
ولو تنزلنا عما ذكرناه مما يوجب ترجيح دليل البراءة و (افترضا)؟ التعارض
والتساقط أمكن الرجوع إلى البراءة العقلية على مسلك قاعدة قبح العقاب
بلا بيان وأمكن الرجوع إلى دليل الاستصحاب كما أوضحنا ذلك في الحلقة
السابقة.
واما الاعتراض الثاني: بوجود العلم الاجمالي فقد أجيب عليه
بجوابين:
الجواب الأول: - ان العلم الاجمالي المذكور منحل بالعلم الاجمالي
بوجود التكاليف في دائرة اخبار الثقات وفقا لقاعدة انحلال العلم الاجمالي
الكبير بالعلم الاجمالي الصغير لتوفر كلا شرطي القاعدة فيها فان أطراف
العلم الصغير بعض أطراف الكبير ولا يزيد عدد المعلوم بالعلم الكبير على
41

عدد المعلوم بالعلم الصغير، ومع الانحلال تكون الشبهة خارج نطاق العلم
الصغير بدوية فتجري البراءة في كل شبهة لم يقم على ثبوت التكليف فيها
امارة معتبرة من اخبار الثقات ونحوها وهذا هو المطلوب.
وهذا الجواب ليس تاما إذ كما يوجد علم اجمالي صغير بوجود
التكاليف في نطاق الامارات المعتبرة من اخبار الثقات ونحوها. كذلك
يوجد علم اجمالي صغير بوجود التكاليف في نطاق الامارات غير المعتبرة إذ
لا يحتمل عادة وبحساب الاحتمالات كذبها جميعا فهناك إذن علمان اجماليان
صغيران، والنطاقان وان كانا متداخلين جزئيا لان الامارات المعتبرة وغير
المعتبرة قد تجتمع ولكن مع هذا يتعذر الانحلال لان المعلومين بالعلمين
الاجماليين الصغيرين إن لم يكن من المحتمل تطابقهما المطلق فهذا يعني ان
عدد المعلوم من التكاليف في مجموع الشبهات أكبر من عدد المعلوم بالعلم
الاجمالي الصغير المفترض في دائرة اخبار الثقات وبذلك يختل الشرط الثاني
من الشرطين المتقدمين لقاعدة انحلال العلم الاجمالي الكبير بالصغير، وان
كان من المحتمل تطابقهما المطلق فشرطا القاعدة متوفران بالنسبة إلى كل من
العلمين الاجماليين الصغيرين في نفسه فافتراض ان أحدهما يوجب الانحلال
دون الآخر بلا موجب.
الجواب الثاني: - ان العلم الاجمالي الذي تضم أطرافه كل الشبهات
يسقط عن المنجزية باختلال الركن الثالث من الأركان الأربعة التي يتوقف
عليها تنجيزه وقد تقدم شرحها في الحلقة السابقة، وذلك لان جملة من
أطرافه قد تنجزت فيها التكاليف بالامارات والحجج الشرعية المعتبرة من
ظهور آية وخبر ثقة واستصحاب مثبت للتكليف وفي كل حالة من هذا
القبيل تجري البراءة في بقية الأطراف ويسمى ذلك بالانحلال الحكمي كما
تقدم.
وقد قيل في تقريب فكرة الانحلال الحكمي في المقام - كما عن السيد
الأستاذ - بان العلم الاجمالي متقوم بالعلم بالجامع والشك في كل طرف،
42

ودليل حجية الامارة المثبتة للتكليف في بعض الأطراف لما كان مفاده جعل
الطريقية فهو يلغي الشك في ذلك الطرف ويتعبد بعدمه، وهذا بنفسه إلغاء
تعبدي للعلم الاجمالي.
ويرد على هذا التقريب: ان الملاك في وجوب الموافقة القطعية للعلم
الاجمالي هو التعارض بين الأصول في أطرافه كما تقدم وليس هو العلم
الاجمالي بعنوانه فلا اثر للتعبد بإلغاء هذا العنوان وانما يكون تأثيره عن
طريق رفع التعارض وذلك باخراج موارد الامارات المثبتة للتكليف عن
كونها موردا لأصالة البراءة لان الامارة حاكمة على الأصل فتبقى الموارد
الأخرى مجرى لأصل البراءة بدون معارض، وبذلك يختل الركن الثالث
ويتحقق الانحلال الحكمي من دون فرق بين ان نقول بمسلك جعل
الطريقية والغاء الشك بدليل الحجية أو لا.
تحديد مفاد البراءة:
وبعد ان اتضح ان البراءة تجري عند الشك لوجود الدليل عليها
وعدم المانع. يجب ان نعرف ان الضابط في جريانها أن يكون الشك في
التكليف لان هذا هو موضوع دليل البراءة، واما إذا كان التكليف معلوما
والشك في الامتثال فلا تجري البراءة وانما تجري أصالة الاشتغال لان الشغل
اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني وهذا واضح على مسلكنا المتقدم القائل بان
الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف بل من أسباب انتهاء
فاعليته، إذ على هذا المسلك لا يكون الشك في الامتثال شكا في فعلية
التكليف فلا موضوع لدليل البراءة بوجه، واما إذا قيل بان الامتثال من
مسقطات التكليف فالشك فيه شك في التكليف لا محالة. ومن هنا قد
يتوهم تحقق موضوع البراءة واطلاق أدلتها لمثل ذلك، ولابد للتخلص من
ذلك اما من دعوى انصراف أدلة البراءة إلى الشك الناشئ من غير ناحية
الامتثال أو التمسك بأصل موضوعي حاكم وهو استصحاب عدم
الامتثال.
43

ثم بعد الفراغ عن الفرق بين الشك في التكليف والشك في الامتثال
- اي المكلف به - باتخاذ الأول ضابطا للبراءة والثاني ضابطا لأصالة
الاشتغال. يقع الكلام في ميزان التمييز الذي به يعرف كون الشك في
التكليف لكي تجري البراءة، وهذا الميزان انما يراد في الشبهات الموضوعية
التي قد يحتاج التمييز فيها إلى دقة دون الشبهات الحكمية التي يكون الشك
فيها عادة شكا في التكليف كما هو واضح.
وتوضيح الحال في المقام: ان الشبهة الموضوعية تستبطن دائما الشك
في أحد أطراف الحكم الشرعي، إذ لو كانت كلها معلومة فلا يتصور شك
الا من أصل حكم الشارع وتكون الشبهة حينئذ حكمية، وهذه الأطراف
هي عبارة عن قيد التكليف ومتعلقه ومتعلق المتعلق له المسمى بالموضوع
الخارجي، فحرمة شرب الخمر المشروطة بالبلوغ قيدها (البلوغ) ومتعلقها
(الشرب) ومتعلق متعلقها (الخمر)، وخطاب (أكرم عالما إذا جاء
العيد) قيد الوجوب فيه (مجئ العيد) ومتعلقه (الاكرام) ومتعلق متعلقه
(العالم).
فإن كان الشك في صدور المتعلق مع احراز القيود والموضوع
الخارجي فهذا شك في الامتثال بلا اشكال وتجري أصالة الاشتغال، لان
التكليف معلوم ولا شك فيه لبداهة أن فعلية التكليف غير منوطة بوجود
متعلقه خارجا وانما الشك في الخروج عن عهدته فلا مجال للبراءة.
واما إذا كان الشك في الموضوع الخارجي، كما إذا لم يحرز كون فرد
ما مصداقا للموضوع الخارجي، فإن كان اطلاق التكليف بالنسبة إليه
شموليا جرت البراءة لان الشك حينئذ يستبطن الشك في التكليف الزائد،
كما إذا قيل (لا تشرب الخمر) و (أكرم الفقراء) وشك في أن هذا خمر
وفي أن ذاك فقير. وان كان اطلاق التكليف بالنسبة إليه بدليا لم تجر
البراءة، كما إذا ورد (أكرم فقيرا) وشك في أن زيدا فقير فلا يجوز الاكتفاء
باكرامه لان الشك المذكور لا يستبطن الشك في تكليف زائد بل في سعة
44

دائرة البدائل الممكن امتثال التكليف المعلوم ضمنها.
وعلى هذا الضوء يعرف أن لجريان البراءة اذن ميزانان:
أحدهما: أن يكون المشكوك من قيود التكليف الدخيلة في فعليته.
والآخر: أن يكون اطلاق التكليف بالنسبة إليه شموليا لا بدليا.
فان قيل: إن مرد الشك في الموضوع الخارجي إلى الشك في قيد
التكليف لان الموضوع قيد فيه فحرمة شرب الخمر مقيدة بوجود الخمر
خارجا فمع الشك في خمرية المائع يشك في فعلية التكليف المقيد وتجري
البراءة وبهذا يمكن الاقتصار على الميزان الأول فقط كما يظهر من كلمات
المحقق النائيني (قدس الله روحه).
كان الجواب: انه ليس من الضروري دائما أن يكون متعلق المتعلق
مأخوذا قيدا في التكليف سواء كان ايجابا أو تحريما وانما قد تتفق ضرورة
ذلك فيما إذا كان امرا غير اختياري كالقبلة مثلا، وعليه فإذا افترضنا ان
حرمة شرب الخمر لم يؤخذ وجود الخمر خارجا قيدا فيها على نحو كانت
الحرمة فعلية حتى قبل وجود الخمر خارجا. صح مع ذلك اجراء البراءة
عند الشك في الموضوع الخارجي لان اطلاق التكليف بالنسبة إلى المشكوك
شمولي.
ولكن بتدقيق أعمق نستطيع ان نرد الشك في خمرية المائع إلى الشك
في قيد التكليف لا عن طريق افتراض تقيد الحرمة بوجود الخمر خارجا،
بل بتقريب: ان خطاب (لا تشرب الخمر) مرجعه إلى قضية شرطية
مفادها: كلما كان مائع ما خمرا فلا تشربه، فحرمة الشرب مقيدة بان يكون
المائع خمرا سواء وجد خارجا أو لا، فإذا شك في أن الفقاع خمر أولا مثلا
جرت البراءة عن الحرمة فيه، وبهذا صح القول بان البراءة تجري كلما كان
الشك في قيود التكليف وان قيود التكليف تارة تكون على وزان مفاد كان
التامة بمعنى اناطته بوجود شئ خارجا فيكون الوجود الخارجي قيدا،
45

وأخرى يكون على وزان مفاد كان الناقصة بمعنى اناطته باتصاف شئ
بعنوان فيكون الاتصاف قيدا، فإذا شك في الوجود الخارجي على الأول أو
في الاتصاف على الثاني جرت البراءة وإلا فلا.
وعلى هذا الضوء نستطيع ان نعمم فكرة قيود التكليف التي هي على
وزان مفاد كان الناقصة على عنوان الموضوع وعنوان المتعلق معا، فكما أن
حرمة الشرب مقيدة بأن يكون المائع خمرا كذلك الحال في حرمة الكذب
فان ثبوتها لكلام مقيد بان يكون الكلام كذبا فإذا شك في كون كلام كذبا
كان ذلك شكا في قيد التكليف.
وهكذا نستخلص: ان الميزان الأساسي لجريان البراءة هو الشك في
قيود التكليف، وهي تارة على وزان مفاد كان التامة كالشك في وقوع
الزلزلة التي هي قيد لوجوب صلاة الآيات. وأخرى على وزان مفاد كان
الناقصة بالنسبة إلى عنوان الموضوع كالشك في خمرية المائع، وثالثة على
وزان كان الناقصة بالنسبة إلى عنوان المتعلق كالشك في كون الكلام الفلاني
كذبا.
استحباب الاحتياط:
عرفنا سابقا عدم وجوب الاحتياط، ولكن ذلك لا يحول دون القول
بمطلوبيته شرعا واستحبابه، لما ورد في الروايات من الترغيب فيه، والكلام
في ذلك يقع في نقطتين:
النقطة الأولى: في امكان جعل الاستحباب المولوي على الاحتياط ثبوتا، إذ
قد يقال بعدم امكانه فيتعين حمل الامر بالاحتياط على الارشاد إلى حسنه
عقلا، وذلك لوجهين:
الأول: - انه لغو لأنه ان أريد باستحباب الاحتياط الالزام به فهو
غير معقول وان أريد ايجاد محرك غير الزامي نحوه فهذا حاصل بدون جعل
الاستحباب، إذ يكفي فيه نفس التكليف الواقعي المشكوك بضم استقلال
46

العقل بحسن الاحتياط واستحقاق الثواب عليه فإنه محرك بمرتبة غير
الزامية.
الثاني: - ان حسن الاحتياط كحسن الطاعة وقبح المعصية واقع في
مرحلة متأخرة عن الحكم الشرعي وقد تقدم المسلك القائل بان الحسن
والقبح الواقعين في هذه المرحلة لا يستتبعان حكما شرعيا.
وكلا الوجهين غير صحيح.
اما الأول: - فلان الاستحباب المولوي للاحتياط اما أن يكون نفسيا
لملاك وراء ملاكات الاحكام المحتاط بلحاظها واما أن يكون طريقيا بملاك
التحفظ على تلك الأحكام. وعلى كلا التقديرين لا لغوية اما على النفسية
فلان محركيته مغايرة سنخا لمحركية الواقع المشكوك فتتأكد إحداهما
بالأخرى، واما على الطريقية فلان مرجعه حينئذ إلى ابراز مرتبة من اهتمام
المولى بالتحفظ على الملاكات الواقعية في مقابل ابراز نفي هذه المرتبة من
الاهتمام أيضا، ومن الواضح ان درجة محركية الواقع المشكوك تابعة لما
يحتمل أو يحرز من مراتب اهتمام المولى به.
واما الوجه الثاني: - فلو سلم المسلك المشار إليه فيه لا ينفع في
المقام، إذ ليس المقصود استكشاف الاستحباب الشرعي بقانون الملازمة
واستتباع الحسن العقلي للطلب الشرعي ليرد ما قيل، بل هو ثابت بدليله
وانما الكلام عن المحذور المانع عن ثبوته ولهذا فان متعلق الاستحباب عبارة
عن تجنب مخالفة الواقع المشكوك ولو لم يكن بقصد قربي والعقل انما يستقل
بحسن التجنب الانقيادي والقربى خاصة.
النقطة الثانية: ان الاحتياط متى ما أمكن فهو مستحب كما عرفت
ولكن قد يقع البحث في امكانه في بعض الموارد. وتوضيح ذلك: انه إذا
احتمل كون فعل ما واجبا عباديا فان كانت أصل مطلوبيته معلومة أمكن
الاحتياط بالاتيان به بقصد الامر المعلوم تعلقه به وإن لم يعلم كونه وجوبا
47

أو استحبابا فان هذا يكفي في وقوع الفعل عباديا وقربيا، واما إذا كانت
أصل مطلوبيته غير معلومة فقد يستشكل في امكان الاحتياط حينئذ، لأنه
ان أتى به بلا قصد قربي فهو لغو جزما وان أتى به بقصد امتثال الامر فهذا
يستبطن افتراض الامر والبناء على وجوده مع أن المكلف شاك فيه وهو
تشريع محرم فلا يقع الفعل عبادة لتحصل به موافقة التكليف الواقعي
المشكوك.
وقد يجاب على ذلك بوجود أمر معلوم وهو نفس الامر الشرعي
الاستحبابي بالاحتياط فيقصد المكلف امتثال هذا الامر، وكون الامر
بالاحتياط توصليا لا تتوقف موافقته على قصد امتثاله لا ينافي ذلك لان
ضرورة قصد امتثاله في باب العبادات لم تنشأ من ناحية عبادية نفس الامر
بالاحتياط بل من عبادية ما يحتاط فيه.
ولكن التحقيق عدم الحاجة إلى هذا الجواب، لان التحرك عن احتمال
الامر بنفسه قربي كالتحرك عن الامر المعلوم فلا يتوقف وقوع الفعل
عبادة على افتراض امر معلوم بل يكفي الاتيان به رجاء.
48

الوظيفة
في حالة العلم الاجمالي
49

الوظيفة العملية في حالة الشك
- 2 -
1 - قاعدة منجزية العلم الاجمالي.
2 - أركان منجزية العلم الاجمالي.
3 - تطبيقات منجزية العلم الاجمالي.
51

كل ما تقدم كان في تحديد الوظيفة العملية في حالات الشك
البدوي. والآن نتكلم عن الشك في حالات العلم الاجمالي. والبحث
حول ذلك يقع في ثلاثة فصول:
الأول: في أصل قاعدة منجزية العلم الاجمالي.
والثاني: في أركان هذه القاعدة.
والثالث: في بعض تطبيقاتها كما يأتي تباعا ان شاء الله تعالى.
53

- 1 -
قاعدة منجزية العلم الاجمالي
والكلام في هذه القاعدة يقع في ثلاثة أمور:
الامر الأول: في أصل منجزية العلم الاجمالي ومقدار هذه المنجزية
بقطع النظر عن الأصول الشرعية المؤمنة.
والامر الثاني: في جريان الأصول في جميع أطراف العلم الاجمالي وعدمه
ثبوتا أو اثباتا.
والامر الثالث: في جريانها في بعض الأطراف ومرجع البحث في
الامرين الأخيرين إلى مدى مانعية العلم الاجمالي بذاته أو بتنجيزه عن
جريان الأصول بايجاد محذور ثبوتي أو اثباتي يحول دون جريانها في الأطراف
كلا أو بعضا. وسنبحث هذه الأمور الثلاثة تباعا:
1 - منجزية العلم الاجمالي بقطع النظر عن الأصول المؤمنة الشرعية:
والبحث في أصل منجزية العلم الاجمالي انما يتجه بناء على مسلك
قاعدة قبح العقاب بلا بيان، حيث إن كل شبهة من أطراف العلم مؤمن
عنها بالقاعدة المذكورة فيحتاج تنجز التكليف فيها إلى منجز ولا بد من
البحث حينئذ عن حدود منجزية العلم الاجمالي ومدى اخراجه لأطرافه عن
موضوع القاعدة. واما بناء على مسلك حق الطاعة فكل شبهة منجزة في
54

نفسها بقطع النظر عن الأصول الشرعية المؤمنة، وينحصر البحث على
هذا المسلك في الامرين الأخيرين.
وعلى اي حال فنحن نتكلم في الامر الأول على أساس افتراض
قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وعليه فلا شك في تنجيز العلم الاجمالي لمقدار
الجامع بين التكليفين لأنه معلوم وقد تم عليه البيان سواء قلنا بان مرد
العلم الاجمالي إلى العلم بالجامع أو العلم بالواقع. اما على الأول فواضح،
واما على الثاني فلان الجامع معلوم ضمنا حتما وعليه يحكم العقل بتنجز
الجامع، ومخالفة الجامع انما تتحقق بمخالفة كلا الطرفين لان ترك الجامع لا
يكون الا بترك كلا فرديه، وهذا معنى حرمة المخالفة القطعية عقلا
للتكليف المعلوم بالاجمال.
وانما المهم البحث في تنجيز العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية
عقلا، فقد وقع الخلاف في ذلك فذهب جماعة كالمحقق النائيني والسيد
الأستاذ إلى أن العلم الاجمالي لا يقتضي بحد ذاته وجوب الموافقة القطعية
وتنجيز كل أطرافه مباشرة، وذهب المحقق العراقي وغيره إلى أن العلم
الاجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعية كما يستعدي حرمة المخالفة
القطعية، ويظهر من بعض هؤلاء المحققين ان المسألة مبنية على تحقيق هوية
العلم الاجمالي وهل هو علم بالجامع أو بالواقع؟ وعلى هذا الأساس
سوف نمهد للبحث بالكلام عن هوية العلم الاجمالي والمباني المختلفة في
ذلك، ثم نتكلم في مقدار التنجيز على تلك المباني.
الاتجاهات في تفسير العلم الاجمالي:
ويمكن تلخيص الاتجاهات في تفسير العلم الاجمالي في ثلاثة مبان:
الأول: - المبنى القائل بان العلم الاجمالي علم تفصيلي بالجامع مقترن
بشكوك تفصيلية بعدد أطراف ذلك العلم وهذا ما اختاره المحققان النائيني
والأصفهاني، وهذا المبنى يشتمل على جانب ايجابي - وهو اشتمال العلم
55

الاجمالي على العلم بالجامع - وهذا واضح بداهة. وعلى جانب سلبي -
وهو عدم تعدي العلم من الجامع - وبرهانه: انه لو فرض وجود علم يزيد
على العلم بالجامع فهو اما أن يكون بلا متعلق، أو يكون متعلقا بالفرد
بحده الشخصي المعين، أو بالفرد بحد شخصي مردد بين الحدين أو
الحدود. والكل باطل اما الأول فلان العلم صفة ذات الإضافة فلا يعقل
فرض انكشاف بلا منكشف. واما الثاني فلبداهة ان العالم بالاجمال لا يعلم
بهذا الطرف بعينه ولا بذاك بعينه، واما الثالث فلان المردد ان أريد به
مفهوم المردد فهذا جامع انتزاعي والعلم به لا يعني تعدي العلم عن
الجامع. وان أريد به واقع المردد فهو مما لا يعقل ثبوته فكيف يعقل العلم
به لان كل ما له ثبوت فهو متعين بحد ذاته في أفق ثبوته.
الثاني: - المبنى القائل بأن العلم في مورد العلم الاجمالي يسري
من الجامع إلى الحد الشخصي ولكنه ليس حدا شخصيا معينا لوضوح ان
كلا من الطرفين بحده الشخصي المعين ليس معلوما بل حدا مرددا في ذاته
بين الحدين. وهذا ما يظهر من صاحب الكفاية اختياره حيث ذكر في بحث
الواجب التخييري من الكفاية: ان أحد الأقوال فيه هو كون الواجب
الواحد المردد، وأشار في تعليقته على الكفاية إلى الاعتراض على ذلك بان
الوجوب صفة وكيف تتعلق الصفة بالواحد المردد مع أن الموصوف لا بد أن يكون
معينا في الواقع، وأجاب على الاعتراض بان الواحد المردد قد يتعلق
به وصف حقيقي ذو الإضافة كالعلم الاجمالي فضلا عن الوصف الاعتباري
كالوجوب.
ويمكن الاعتراض عليه بان المشكلة ليست هي مجرد ان المردد كيف
يكون لوصف من الأوصاف نسبة وإضافة إليه، بل هي استحالة ثبوت المردد
ووجوده بما هو مردد، وذلك لان العلم له متعلق بالذات وله متعلق
بالعرض، ومتعلقه بالذات هو الصورة الذهنية المقومة له في أفق
الانكشاف، ومتعلقه بالعرض هو مقدار ما يطابق هذه الصورة من الخارج،
والفرق بين المتعلقين ان الأول لا يعقل انفكاكه عن العلم حتى في موارد
56

الخطأ بخلاف الثاني، وعليه فنحن نتسأل ما هو المتعلق بالذات للعلم في
حالات العلم الاجمالي؟. فإن كان صورة حاكية عن الجامع لا عن الحدود
الشخصية رجعنا إلى المبني السابق وان كان صورة للحد الشخصي ولكنها
مرددة بحد ذاتها بين صورتين لحدين شخصيين فهذا مستحيل لان الصورة
وجود ذهني وكل وجود متعين في صقع ثبوته وتتعين الماهية تبعا لتعين
الوجود لأنها حد له.
الثالث: - ما ذهب إليه المحقق العراقي من أن العلم الاجمالي يتعلق
بالواقع بمعنى ان الصورة الذهنية المقومة للعلم والمتعلقة له بالذات لا تحكى
عن مقدار الجامع من الخارج فقط بل تحكي عن الفرد الواقعي بحده
الشخصي فالصورة شخصية ومطابقها شخصي ولكن الحكاية اجمالية فهي
من قبيل رؤيتك لشبح زيد من بعيد دون ان تتبين هويته فان الرؤية هنا
ليست رؤية للجامع بل للفرد ولكنها رؤية غامضة. ويمكن ان يبرهن على
ذلك بان العلم في موارد العلم الاجمالي لا يمكن ان يقف على الجامع بحده
لان العالم يقطع بان الجامع لا يوجد بحده في الخارج وانما يوجد ضمن حد
شخصي فلا بد من إضافة شئ إلى دائرة المعلوم فإن كان هذا الشئ
جامعا وكليا عاد نفس الكلام حتى ننتهي إلى العلم بحد شخصي ولما كان
التردد في الصورة مستحيلا كما تقدم تعين أن يكون العلم متقوما بصورة
شخصية معينة مطابقة للفرد الواقعي بحده ولكن حكايتها عنه اجمالية.
تخريجات وجوب الموافقة القطعية:
إذا اتضحت لديك هذه المباني المختلفة فاعلم: انه قد ربط استتباع
العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية اثباتا ونفيا بهذه المباني بدعوى أنه إذا
قيل بالمبني الأول مثلا فالعلم الاجمالي لا يخرج عن موضوع قاعدة قبح
العقاب بلا بيان المزعومة سوى الجامع لأنه المعلوم فقط والجامع بحده لا
يقتضي الجمع بين الأطراف بل يكفي في موافقته تطبيقه على أحد افراده،
57

وإذا قيل بالمبنى الثالث مثلا فالعلم الاجمالي يخرج الواقع المعلوم بتمام
حدوده عن موضوع البراءة العقلية ويكون منجزا بالعلم وحيث إنه محتمل
في كل طرف فيحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية للخروج عن عهدة
التكليف المنجز.
ولكن الصحيح هو ان المبني الثالث لا يختلف في النتيجة المقصودة في
المقام عن المبنى الأول، لان الصورة العلمية الاجمالية - على الثالث - وان
كانت مطابقة للواقع بحده ولكن المفروض على هذا المبنى اندماج عنصري
الوضوح والاجمال في تلك الصورة معا وبذلك تميزت عن الصورة
التفصيلية، وما ينكشف ويتضح للعالم انما هو المقدار الموازي لعنصر
الوضوح في الصورة وهذا لا يزيد على الجامع ومن الواضح ان البراءة
العقلية انما يرتفع موضوعها بمقدار ما يوازي جانب الوضوح لا الاجمال لان
الاجمال ليس بيانا، وعليه فالمنجز مقدار الجامع لا أكثر على جميع المباني
المتقدمة وعليه فالعلم الاجمالي لا يقتضي بذاته وجوب الموافقة القطعية.
ويوجد تقريبان لاثبات ان العلم الاجمالي يستتبع وجوب الموافقة
القطعية:
الأول: - ما قد يظهر من بعض كلمات المحقق الأصفهاني وحاصله
مركب من مقدمتين:
الأولى: - ان ترك الموافقة القطعية بمخالفة أحد الطرفين يعتبر مخالفة
احتمالية للجامع لان الجامع ان كان موجودا ضمن ذلك الطرف فقد
خولف وإلا فلا.
والثانية: ان المخالفة الاحتمالية للتكليف المنجز غير جائزة عقلا
لأنها مساوقة لاحتمال المعصية وحيث إن الجامع منجز بالعلم الاجمالي فلا
تجوز مخالفته الاحتمالية.
ويندفع هذا التقريب بمنع المقدمة الأولى فان الجامع إذا لوحظ فيه
مقدار الجامع بحده فقط لم تكن مخالفة أحد الطرفين مع موافقة الطرف
58

الآخر مخالفة احتمالية له لان الجامع بحده لا يقتضي أكثر من التطبيق على
أحد الفردين والمفروض ان العلم واقف على الجامع بحده وان التنجز تابع
لمقدار العلم فلا مخالفة احتمالية للمقدار المنجز أصلا.
الثاني: - ما ذهبت إليه مدرسة المحقق النائيني (قدس الله روحه)
فإنها مع اعترافها بان العلم الاجمالي لا يستدعي وجوب الموافقة القطعية
بصورة مباشرة لأنه لا ينجز أزيد من الجامع. قامت بمحاولة لاثبات
استتباع العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية بصورة غير مباشرة وهذه
المحاولة يمكن تحليلها ضمن الفقرات التالية.
أولا: - ان العلم الاجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعية.
ثانيا: - يترتب على ذلك عدم امكان جريان الأصول المؤمنة في جميع
الأطراف لأنه يستوجب الترخيص في المخالفة القطعية.
ثالثا: - يترتب على ذلك أن الأصول المذكورة تتعارض فلا تجري في
اي طرف لان جريانها في طرف دون آخر ترجيح بلا مرجح وجريانها في
الكل غير ممكن.
رابعا: - ينتج من كل ذلك أن احتمال التكليف في كل طرف يبقى
بدون أصل مؤمن، وكل احتمال للتكليف بدون مؤمن يكون منجزا
للتكليف، فتجب عقلا موافقة التكليف المحتمل، في كل طرف باعتبار
تنجزه لا باعتبار وجوب الموافقة القطعية للعام الاجمالي بعنوانها.
والتحقيق: ان المقصود بتعارض الأصول المؤمنة في الفقرة الثالثة
ان كان تعارض الأصول بما فيها قاعدة قبح العقاب بلا بيان على أساس ان
جريانها في كل من الطرفين غير ممكن وفي أحدهما خاصة ترجيح بلا
مرجح. فهذا غير صحيح لان هذه القاعدة نجريها ابتداء فيما زاد على
الجامع. وبعبارة أخرى: اننا عندما نعلم اجمالا بوجوب الظهر أو وجوب
الجمعة يكون كل من الوجوبين بما هو وجوب لهذا الفعل أو لذاك
59

بالخصوص موردا للبراءة العقلية وبما هو وجوب مضاف إلى الجامع خارجا
عن مورد البراءة فيتنجز الوجوب بمقدار اضافته إلى الجامع لان هذا هو
المقدار الذي تم عليه البيان ويؤمن عنه بما هو مضاف إلى الفرد، وهذا
التبعيض في تطبيق البراءة العقلية معقول وصحيح بينما لا يطرد في البراءة
الشرعية لأنها مفاد دليل لفظي وتابعة لمقادر ظهوره العرفي وظهوره العرفي لا
يساعد على ذلك.
وان كان المقصود التعارض بين الأصول المؤمنة الشرعية، خاصة
فهو صحيح ولكن كيف يرتب على ذلك تنجز التكليف بالاحتمال مع أن
الاحتمال مؤمن عنه بالبراءة العقلية على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا
بيان. وصفوة القول انه على هذا المسلك لا موجب لافتراض التعارض في
البراءة العقلية بل لا معنى لذلك إذ لا يعقل التعارض بين حكمين عقليين
فإن كان ملاك حكم العقل وهو عدم البيان تاما في كل من الطرفين.
استحال التصادم بين البراءتين، والا لم تجر البراءة لعدم المقتضي لا
للتعارض.
وهكذا يتضح انه على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يمكن
تبرير وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي وهذا بنفسه من المنبهات إلى
بطلان القاعدة المذكورة
نعم إذا نشأ العلم الاجمالي من شبهة موضوعية تردد فيها مصداق قيد
من القيود المأخوذة في الواجب بين فردين وجبت الموافقة القطعية حتى على
المسلك المذكور، كما إذا وجب اكرام العالم وتردد العالم بين زيد وخالد فان
كون الاكرام اكراما للعالم قيد للواجب فيكون تحت الامر وداخلا في العهدة
ويشك في تحققه خارجا بالاقتصاد على اكرام أحد الفردين، ومقتضى قاعدة
ان الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني وجوب الاحتياط حينئذ.
هذا كله فيما يتعلق بالأمر الأول.
60

2 - جريان الأصول في جميع الأطراف وعدمه:
واما الامر الثاني وهو في جريان الأصول الشرعية في جميع أطراف
العلم الاجمالي فقد تقدم الكلام عن ذلك بلحاظ مقام الثبوت ومقام
الاثبات معا في مباحث القطع، واتضح: ان المشهور بين الأصوليين
استحالة جريان الأصول في جميع الأطراف لأدائه إلى الترخيص في المعصية
للمقدار المعلوم اي في المخالفة القطعية، وأن الصحيح هو امكان جريانها
في جميع الأطراف عقلا غير أن ذلك ليس عقلائيا. ومن هنا كان الارتكاز
العقلائي موجبا لانصراف أدلة الأصول عن الشمول لجميع الأطراف.
وينبغي ان يعلم: ان ذلك انما هو بالنسبة إلى الأصول الشرعية
المؤمنة، واما الأصول الشرعية المنجزة للتكليف فلا محذور ثبوتا ولا اثباتا في
جريانها في كل أطراف العلم الاجمالي بالتكليف إذا كان كل طرف موردا لها
في نفسه، حتى ولو كان المكلف يعلم بعدم ثبوت أكثر من تكليف واحد
كما إذا علم بوجود نجس واحد فقط في الإناءات المعلومة نجاستها سابقا
فيجري استصحاب النجاسة في كل واحد منها. ومنه يعلم انه لو لم تكن
النجاسة الفعلية معلومة أصلا أمكن أيضا اجراء استصحاب النجاسة في كل
اناء ما دامت أركانه تامة فيه، ولا ينافي ذلك العلم اجمالا بطهارة بعض
الأواني وارتفاع النجاسة عنها واقعا لان المنافاة اما ان تكون بلحاظ محذور
ثبوتي بدعوى المنافاة بين الأصول المنجزة للتكليف والحكم الترخيصي
المعلوم بالاجمال. أو بلحاظ محذور اثباتي وقصور في اطلاق دليل الأصل.
اما الأول فقد يقرب بوقوع المنافاة بين الالزامات الظاهرية والترخيص
الواقعي الثابت في مورد بعضها على سبيل الاجمال جزما.
والجواب: ان المنافاة بينها وبين الترخيص الواقعي ان كانت بملاك
التضاد بين الحكمين فيندفع بعدم التضاد ما دام أحدهما ظاهريا والآخر
61

واقعيا، وان كانت بملاك ما يستتبعان من تحرك أو اطلاق عنان فمن
الواضح ان الترخيص المعلوم اجمالا لا يستتبع اطلاق العنان الفعلي لعدم
تعين مورده فلا ينافي الأصول المنجزة في مقام العمل.
واما الثاني: فقد يقرب بقصور في دليل الاستصحاب بدعوى أنه كما
ينهي عن نقض اليقين بالشك كذلك يأمر بنقض اليقين باليقين والأول
يستدعي اجراء الاستصحاب في تمام الأطراف والثاني يستدعي نفي جريانها
جميعا في وقت واحد لان رفع اليد عن الحالة السابقة في بعض الإناءات
نقض لليقين باليقين.
والجواب أولا: ان هذا انما يوجب الاجمال في ما اشتمل من روايات
الاستصحاب على الأمر والنهي معا لا فيما اختص مفادة بالنهي فقط.
وثانيا: ان ظاهر الامر بنقض اليقين باليقين أن يكون اليقين الناقض
متعلقا بعين ما تعلق به اليقين المنقوض وهذا غير حاصل في المقام لان
اليقين المدعي كونه ناقضا هو العلم الاجمالي بالحكم الترخيصي ومصبه ليس
متحدا مع مصب اي واحد من العلوم التفصيلية المتعلقة بالحالات السابقة
للإناءات.
وعليه فالأصول المنجزة والمثبتة للتكليف لا بأس بجريانها حتى مع
العلم اجمالا بمخالفة بعضها للواقع. وهذا معنى قولهم: ان الأصول
العملية تجري في أطراف العلم الاجمالي إذا لم يلزم من جريانها مخالفة عملية
لتكليف معلوم بالاجمال.
3 جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه:
واما الامر الثالث: فهو في جريان الأصول الشرعية المؤمنة في بعض
أطراف العلم الاجمالي، والكلام عن ذلك يقع في مقامين ثبوتي واثباتي:
اما الثبوتي فنبحث فيه عن امكان جريان الأصول المؤمنة في بعض
62

الأطراف ثبوتا وعدمه، ومن الواضح انه على مسلكنا القائل بامكان جريان
الأصول في جميع الأطراف، لا مجال لهذا البحث إذ لا معنى لافتراض
محذور ثبوتي في جريانها في بعض الأطراف.
واما على مسلك القائلين باستحالة جريان الأصول في جميع الأطراف
فكذلك ينبغي ان نستثني من هذا البحث القائلين بان العلم الاجمالي لا
يستدعي وجوب الموافقة القطعية مباشرة، فإنه على قولهم هذا لا ينبغي ان
يتوهم امتناع جريان الأصل المؤمن في بعض الأطراف إذ يكون من
الواضح عدم منافاته للعلم الاجمالي، واما القائلون بان العلم الاجمالي
يستدعي بذاته وجوب الموافقة القطعية فيصح البحث على أساس قولهم،
لان جريان الأصل المؤمن في بعض الأطراف يرخص في ترك الموافقة
القطعية فلا بد من النظر في امكان ذلك وامتناعه، ومرد البحث في ذلك
إلى النزاع في أن العلم الاجمالي هل يستدعي عقلا وجوب الموافقة القطعية
استدعاء منجزا على نحو استدعاء العلة لمعلولها أو استدعاء معلقا على عدم
ورود الترخيص الشرعي على نحو استدعاء المقتضي لما يقتضيه فان فعليته
منوطة بعدم وجود المانع. فعلى الأول يستحيل اجراء الأصل المؤمن في
بعض الأطراف لأنه ينافي حكم العقل الثابت بوجوب الموافقة القطعية،
وعلى الثاني يمكن اجراؤه إذ يكون الأصل مانعا عن فعلية حكم العقل
ورافعا لموضوعه.
وعلى هذا الأساس وجد اتجاهان بين القائلين باستدعاء العلم
بالاجمالي لوجوب الموافقة القطعية: أحدهما: القول بالاستدعاء على نحو
العلية وذهب إليه جماعة منهم المحقق العراقي. والآخر: القول بالاستدعاء
على نحو الاقتضاء وذهب إليه جماعة منهم المحقق النائيني على ما هو المنقول
عنه في فوائد الأصول.
وقد ذكر المحقق العراقي (رحمه الله) في تقريب العلية: انه لا شك
في كون العلم منجزا لمعلومه على نحو العلية فإذا ضممنا إلى ذلك أن
63

المعلوم بالعلم الاجمالي هو الواقع لا مجرد الجامع، ثبت ان الواقع منجز
على نحو العلية ومعه يستحيل الترخيص في اي واحد من الطرفين لاحتمال
كونه هو الواقع وبكلمة أخرى: ان المعلوم بالعلم الاجمالي ان كان هو
الجامع فلا مقتضي لوجوب الموافقة القطعية أصلا وان كان هو الواقع فلا
بد من افتراض تنجزه على نحو العلية لان هذا شأن كل معلوم مع العلم.
واعترض عليه المحقق النائيني (رحمه الله) بان العلم الاجمالي ليس
أشد تأثيرا من العلم التفصيلي والعلم التفصيلي نفسه يعقل الترخيص في
المخالفة الاحتمالية لمعلومه كما في قاعدتي الفراغ والتجاوز، وهذا يعني عدم
كونه علة لوجوب الموافقة القطعية فكذلك العلم الاجمالي.
وأجاب المحقق العراقي على هذا الاعتراض بان قاعدة الفراغ وأمثالها
ليست ترخيصا في ترك الموافقة القطعية لتكون منافية لافتراض علية العلم
لوجوبها بل هي إحراز تعبدي للموافقة، اي موافقة قطعية تعبدية،
وافتراض العلية يعني علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية وجدانا أو
تعبدا.
وبهذا يظهر الفرق بين اجراء قاعدة الفراغ واجراء إصالة البراءة في
أحد طرفي العلم الاجمالي فان الأول لا ينافي العلية بخلاف الثاني.
والتحقيق: ان قاعدة الفراغ وأصالة البراءة وان كانتا مختلفتين في
لسانيهما الا ان هذا مجرد اختلاف في اللسان والصياغة واما واقعهما وروحهما
فواحد لان كلا منهما نتيجة لتقديم الأغراض الترخيصية على الأغراض
اللزومية عند الاختلاط في مقام الحفظ، غير أن هذا التقديم تارة يكون
بلسان الترخيص وأخرى بلسان الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية وافتراضها
موافقة كاملة فلا معنى للقول بان أحد اللسانين ممتنع دون الآخر.
والصحيح: هو عدم علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية
لان الترخيص الظاهري في بعض الأطراف له نفس الحيثيات المصححة
لجعل الحكم الظاهري في سائر الموارد، هذا كله بحسب مفاد الثبوت.
64

واما بحسب مقام الاثبات فقد يقال: ان أدلة الأصول قاصرة عن
إثبات جريان الأصل في بعض الأطراف لان جريانه في البعض ضمن
جريانه في كل الأطراف باطل، لأننا فرغنا عن عدم جواز الترخيص في
المخالفة القطعية، وجريانه في البعض المعين دون البعض الآخر ترجيح بلا
مرجح، لان نسبة دليل الأصل إلى كل من الطرفين على نحو واحد وجريانه
في البعض المردد غير معقول إذ لا معنى للمردد. وبكلمة أخرى: انه بعد
العلم بعدم جريان الأصل في كل الأطراف في وقت واحد يحصل التعارض
بين اطلاق دليل الأصل لكل طرف واطلاقه لسائر الأطراف ومقتضى
التعارض التساقط.
وهناك اعتراض مشهور يوجه إلى هذا البرهان، وحاصله: ان
المحذور الناجم عن جريان الأصول في كل الأطراف هو الترخيص في
المخالفة القطعية، وهذا المحذور انما ينشأ من اجراء الأصل في كل من
الطرفين مطلقا اي سواء ارتكب المكلف الطرف الآخر أو اجتنبه، وإذا
ألغينا اطلاق الأصل في كل منهما لحالة ارتكاب الآخر أنتج اثبات ترخيصين
مشروطين وكل منهما منوط بترك الآخر ومثل هذا لا يؤدي إلى الترخيص في
المخالفة القطعية، ويعني ذلك أن المحذور يندفع برفع اليد عن اطلاق
الأصل في كل طرف ولا يتوقف دفعه على إلغاء الأصل رأسا. ولا شك
في أن رفع اليد عن شئ من مفاد الدليل لا يجوز الا لضرورة، والضرورة
تقدر بقدرها فلماذا لا نجري الأصل في كل من الطرفين ولكن مقيدا بترك
الآخر.
وقد أجيب على هذا الاعتراض بوجوه:
الأول: - ما ذكره السيد الأستاذ من أن الجمع بين الترخيصين
المشروطين المذكورين وان كان لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية
ولكنه يؤدي إلى الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية وذلك فيما إذا ترك
الطرفين معا وهو مستحيل.
65

ويرد عليه: ان الحكم الظاهري في نفسه ليس مستحيلا وانما يمتنع
إذا كان منافيا للحكم الواقعي والمفروض عدم المنافاة بين الحكم الظاهري
والحكم الواقعي لا بلحاظ نفسه ولا بلحاظ مبادئه، فلم يبق الا التنافي
بلحاظ عالم الامتثال، وقد فرضنا هنا ان حكم العقل بوجوب الموافقة
القطعية قابل للرفع بالترخيص الشرعي على خلافه فلم يبق هناك تناف بين
الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية، والتكليف المعلوم بالاجمال في اي
مرحلة من المراحل.
هذا على أن بالامكان تصوير الترخيصات المشروطة على نحو لا يمكن
ان تصبح كلها فعلية في وقت واحد ليلزم الترخيص القطعي في المخالفة
الواقعية وذلك بان تفترض أطراف العلم الاجمالي ثلاثية ويفترض ان
الترخيص في كل طرف مقيد بترك أحد بديليه وارتكاب الآخر.
الثاني: - ما ذكره السيد الأستاذ أيضا من انه إذا أريد اجراء الأصل
مقيدا في كل طرف فهناك أوجه عديدة للتقييد فقد يجري الأصل في كل
طرف مقيدا بترك الآخر أو بان يكون قبل الآخر أو بان يكون بعد الآخر
فأي مرجح لتقييد على تقييد؟
ويرد عليه: ان التقييد انما يراد لالغاء الحالة التي لها حالة معارضة
في دليل الأصل وابقاء الحالة التي لا معارض لها من حالات الطرف
الآخر، والحالة التي لا معارض لها كذلك هي حالة ترك الطرف الآخر
واما حالة كونه قبل الآخر مثلا فجريان الأصل فيها يعارض جريانه في
الآخر حالة كونه بعد صاحبه.
الثالث: - ما ذكره أيضا من أن لدليل الأصل اطلاقا افراديا لهذا
الطرف ولذاك واطلاقا أحواليا في كل من الفردين لحالة ترك الآخر وفعله،
والمحذور كما يندفع برفع اليد عن الاطلاقين الأحواليين معا، كذلك يندفع
برفع اليد عن الاطلاق الافرادي والأحوالي في أحد الطرفين خاصة، فأي
مرجح لاحد الدفعين على الآخر؟.
66

ويرد عليه: ان المرجح هو ان ما يبقى تحت دليل الأصل بموجب
الدفع الأول للمحذور ليس له معارض أصلا، وما يبقى تحته بموجب
الدفع الآخر الذي يقترحه. له معارض.
الرابع: - ان الحكم الظاهري يجب أن يكون محتمل المطابقة للحكم
الواقعي والترخيص المشروط ليس كذلك لان ما هو ثابت في الواقع اما
الحرمة المطلقة واما الترخيص المطلق.
ويرد عليه: انه لا برهان على اشتراط ذلك في الحكم الظاهري وانما
يشترط فيه امران أحدهما أن يكون الحكم الواقعي مشكوكا والآخر أن يكون
الحكم الظاهري صالحا لتنجيزه أو التعذير عنه.
الخامس: - وهو التحقيق في الجواب وحاصله ان مفاد دليل
الترخيص الظاهري ومدلوله التصديقي هو ابراز عدم اهتمام المولى بالتحفظ
على الغرض اللزومي، ومعنى افتراض ترخيصين مشروطين كذلك ان عدم
اهتمام المولى بالتحفظ على الغرض اللزومي في كل طرف منوط بترك
الاخر، وانه في حالة تركهما معا لا اهتمام له بالتحفظ على الغرض
اللزومي المعلوم اجمالا. وكل هذا لا محصل له لان المعقول انما هو ثبوت
مرتبة ناقصة من الاهتمام للمولى تقتضي التحفظ الاحتمالي على الواقع
المعلوم بالاجمال، واستفادة ذلك من الترخيصين المشروطين المراد اثباتهما
باطلاق دليل الأصل، لا يمكن الا بالتأويل وارجاعهما إلى الترخيص في
الجامع اي في أحدهما، وهذه العناية لا يفي بها اطلاق دليل الأصل.
وفي ضوء ما تقدم قد يقال: إنه لا تبقى ثمرة بين القول بالعلية
والقول بالاقتضاء إذ على كل حال لا يجري الأصل المؤمن في بعض
الأطراف ولكن سيظهر فيما يأتي تحقق الثمرة في بعض الحالات:
جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض:
اتضح مما سبق ان دليل الأصل لا يفي لاثبات جريان الأصل المؤمن
67

في بعض الأطراف وذلك بسبب المعارضة ولكن قد تستثني من ذلك عدة
حالات:
منها: ما إذا كان في أحد طرفي العلم الاجمالي أصل واحد مؤمن
وفي الطرف الآخر أصلان طوليان، ونقصد بالأصلين الطوليين أن يكون
أحدهما حاكما على الآخر ورافعا لموضوعه تعبدا. ومثال ذلك: ان يعلم
اجمالا بنجاسة اناء مردد بين إناءين أحدهما مجرى لأصالة الطهارة فقط،
والآخر مجرى لاستصحاب الطهارة وأصالتها معا بناء على أن الاستصحاب
حاكم على أصالة الطهارة، فقد يقال في مثل ذلك: ان أصالة الطهارة في
الطرف الأول تعارض استصحاب الطهارة في الطرف الثاني ولا تدخل
أصالة الطهارة للطرف الثاني في هذا التعارض لأنها متأخرة رتبة عن
الاستصحاب ومتوقفة على عدمه فكيف تقع طرفا للمعارضة في مرتبته؟
وبكلمة أخرى ان المقتضى لها اثباتا لا يتم الا بعد سقوط الأصل الحاكم
وهو الاستصحاب والسقوط نتيجة المعارضة بينه وبين أصالة الطهارة في
الطرف الأول، وإذا كان الأصل متفرعا في اقتضائه للجريان على المعارضة
فكيف يكون طرفا فيها؟ وإذا استحال أن يكون طرفا في تلك المعارضة
سقط المتعارضان أولا وجرى الأصل الطولي بلا معارض.
ومنها: ما إذا كان دليل الأصل شاملا لكلا طرفي العلم الاجمالي
بذاته وتوفر دليل أصل آخر لا يشمل الا أحد الطرفين، ومثال ذلك: أن يكون
كل من الطرفين موردا للاستصحاب المؤمن وكان أحدهما خاصة
موردا لأصالة الطهارة، ففي مثل ذلك يتعارض الاستصحابان ويتساقطان
وتجري أصالة الطهارة بدون معارض سواء قلنا بالطولية بين الاستصحاب
وأصالة الطهارة أو بالعرضية، وذلك لان أصالة الطهارة في طرفها لا يوجد
ما يصلح لمعارضتها لا من دليل أصالة الطهارة نفسها، ولا من دليل
الاستصحاب، اما الأول فلان دليل أصالة الطهارة لا يشمل الطرف الآخر
بحسب الفرض ليتعارض الأصلان، واما الثاني فلان دليل الاستصحاب
68

مبتلى بالتعارض في داخله بين استصحابين والتعارض الداخلي في الدليل
يوجب اجماله والمجمل لا يصلح ان يعارض غيره.
ومنها: أن يكون الأصل المؤمن في أحد الطرفين مبتلى في نفس
مورده بأصل معارض منجز دون الأصل في الطرف الآخر، ومثاله ان يعلم
اجمالا بنجاسة أحد إناءين وكل منهما مجرى لاستصحاب الطهارة في نفسه،
غير أن أحدهما مجرى لاستصحاب النجاسة أيضا لتوارد الحالتين عليه مع
عدم العلم بالمتقدم والمتأخر منهما، فقد يقال حينئذ بجريان استصحاب
الطهارة في الطرف الآخر بلا معارض لان استصحاب الطهارة الآخر ساقط
بالمعارضة في نفس مورده باستصحاب النجاسة وقد يقال في مقابل ذلك بان
التعارض يكون ثلاثيا فاستصحاب الطهارة المبتلى يعارض استصحابين في وقت
واحد، وتحقيق الحال متروك إلى مستوى أعمق من البحث.
وإذا صح جريان الأصل بلا معارض في هذه الحالات كان ذلك
تعبيرا عمليا عن الثمرة بين القول بالعلية والقول بالاقتضاء.
وقد تلخص مما تقدم ان العلم الاجمالي يستدعي حرمة المخالفة
القطعية وانه كلما تعارضت الأصول الشرعية المؤمنة في أطرافه، وتساقطت
حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية، لتنجز الاحتمال في كل شبهة بعد
بقائها بلا مؤمن شرعي وفقا لمسلك حق الطاعة، وحيث إن تعارض
الأصول يستند إلى العلم الاجمالي، فيعتبر تنجز جميع الأطراف من اثار
نفس العلم الاجمالي.
ولا فرق في منجزية العلم الاجمالي بين أن يكون المعلوم تكليفا من
نوع واحد أو تكليفا من نوعين كما إذا علم بوجوب شئ أو حرمة الآخر.
كما لا فرق أيضا بين أن يكون المعلوم نفس التكليف أو موضوع
التكليف لان العلم بموضوع التكليف اجمالا يساوق العلم الاجمالي
بالتكليف. ولكن على شرط أن يكون المعلوم بالاجمال تمام الموضوع
69

للتكليف الشرعي واما إذا كان جزء الموضوع للتكليف على كل تقدير أو
على بعض التقادير فلا يكون العلم منجزا لأنه لا يساوق حينئذ العلم
الاجمالي بالتكليف. ومن هنا لا يكون العلم الاجمالي بنجاسة احدى
قطعتين من الحديد منجزا خلافا للعلم الاجمالي بنجاسة أحد ماءين أو
ثوبين، اما الأول فلان نجاسة قطعة الحديد ليست تمام الموضوع لتكليف
شرعي بل هي جزء موضوع لوجوب الاجتناب عن الماء مثلا والجزء الآخر
ملاقاة الماء للقطعة الحديدية والمفروض عدم العلم بالجزء الآخر. واما
الثاني فلان نجاسة الماء تمام الموضوع لحرمة شربه، ومثل الأول العلم
الاجمالي بنجاسة قطعة حديدية أو نجاسة الماء لان المعلوم هنا جزء الموضوع
على أحد التقديرين، والضابط العام للتنجيز أن يكون العلم الاجمالي
مساوقا للعلم الاجمالي بالتكليف الفعلي وكلما لم يكن العلم الاجمالي كذلك
فلا ينجز وتجري الأصول المؤمنة في مورده بقدر الحاجة، ففي مثال العلم
بنجاسة قطعة الحديد أو الماء تجري أصالة الطهارة في الماء ولا تعارضها
أصالة الطهارة في الحديد إذ لا اثر عملي لنجاسته فعلا.
70

- 2 -
أركان منجزية العلم الاجمالي
نستطيع ان نستخلص مما تقدم ان قاعدة منجزية العلم الاجمالي لها
عدة أركان:
- 1 -
الركن الأول: - وجود العلم بالجامع إذ لولا العلم بالجامع لكانت
الشبهة في كل طرف بدوية وتجري فيها البراءة الشرعية.
ولا شك في وفاء العلم بالجامع بالتنجيز فيما إذا كان علما وجدانيا،
واما إذا كان ما يعبر عنه بالعلم التعبدي فلا بد من بحث فيه، ومثاله ان
تقوم البينة مثلا على نجاسة أحد الإناءين فهل يطبق على ذلك قاعدة
منجزية العلم الاجمالي أيضا؟. وجهان فقد يقال بالتطبيق على أساس ان
دليل الحجية يجعل الامارة علما فيترتب عليه آثار العلم الطريقي التي منها
منجزية العلم الاجمالي، وقد يقال بعدمه على أساس ان الأصول انما
تتعارض إذا أدى جريانها في كل الأطراف إلى الترخيص في المخالفة القطعية
للتكليف الواقعي، ولا يلزم ذلك في مورد البحث لعدم العلم بمصادفة
البينة للتكليف الواقعي، وكلا هذين الوجهين غير صحيح.
وتحقيق الحال في ذلك: ان البينة تارة يفترض قيامها ابتداء على
71

الجامع. وأخرى يفترض قيامها على الفرد ثم تردد موردها بين طرفين.
اما في الحالة الأولى: فنواجه دليلين: أحدهما: دليل حجية الامارة
الذي ينجز مؤداها. والآخر: دليل الأصل الجاري في كل من الطرفين في
نفسه، وهما دليلان متعارضان لعدم امكان العمل بهما معا والوجه الأول
يفترض تمامية الدليل الأول ويرتب على ذلك عدم امكان اجراء الأصول.
والوجه الثاني لا يفترض الفراغ عن ذلك فيقول: لا محذور في جريانها.
والاتجاه الصحيح هو حل التعارض القائم بين الدليلين. فان قيل: أليس
دليل حجية الامارة حاكما على دليل الأصل؟. كان الجواب: ان هذه
الحكومة انما هي فيما إذا اتحد موردهما لا في مثل المقام إذ تلغى الامارة
تعبدا، الشك بلحاظ الجامع وموضوع الأصل في كل من الطرفين الشك
فيه بالخصوص فلا حكومة، بل لا بد من الاستناد إلى ميزان اخر لتقديم
دليل الحجية على دليل الأصل من قبيل الأخصية أو نحو ذلك وبعد
افتراض التقديم نرتب عليه آثار العلم الاجمالي.
واما في الحالة الثانية: فالأصل ساقط في مورد الامارة للتنافي بينهما
وحكومة الامارة عليه. ولما كان موردها غير معين ومرددا بين طرفين فلا
يمكن اجراء الأصل في كل من الطرفين للعلم بوجود الحاكم المسقط للأصل
في أحدهما، ولا مسوغ لاجرائه في أحدهما خاصة، وبهذا يتنجز الطرفان
معا.
- 2 -
الركن الثاني: - وقوف العلم على الجامع وعدم سرايته إلى الفرد،
إذ لو كان الجامع معلوما في ضمن فرد معين لكان علما تفصيليا لا اجماليا
ولما كان منجزا الا بالنسبة إلى ذلك الفرد بالخصوص، وحيثما يحصل علم
بالجامع ثم يسري العلم إلى الفرد يسمى ذلك بانحلال العلم الاجمالي
بالعلم بالفرد. وتعلق العلم بالفرد له عدة انحاء:
أحدهما: - أن يكون العلم المتعلق بالفرد معينا لنفس المعلوم بالاجمال
72

بمعنى العلم بان هذا الفرد هو نفس المعلوم الاجمالي المردد، ولا شك حينئذ
في سراية العلم من الجامع إلى الفرد وفي حصول الانحلال.
ثانيها: أن لا يكون العلم بالفرد ناظرا إلى تعيين المعلوم الاجمالي
مباشرة غير أن المعلوم الاجمالي ليس له اي علامة أو خصوصية يحتمل ان
تحول دون انطباقه على هذا الفرد، كما إذا علم بوجود انسان في المسجد ثم
علم بوجود زيد.
والصحيح هنا سراية العلم من الجامع إلى الفرد وحصول الانحلال
أيضا إذ يعود العلمان معا إلى علم تفصيلي بزيد وشك بدوي في انسان
آخر.
ثالثها: - أن لا يكون العلم بالفرد ناظرا إلى تعيين المعلوم الاجمالي
ويكون للمعلوم الاجمالي علامة في نظر العالم غير محرزة التواجد في ذلك
الفرد، كما إذا علم بوجود انسان طويل في المسجد ثم علم بوجود زيد وهو
لا يعلم انه طويل أو لا. والصحيح هنا عدم الانحلال لعدم احراز كون
المعلوم بالعلم الثاني مصداقا للمعلوم بالعلم الأول بحيث يصح ان ينطبق
عليه فلا يسري العلم من الجامع الاجمالي إلى تحصصه ضمن الفرد.
رابعها: - أن يكون العلم الساري إلى الفرد تعبديا بان قامت امارة
على ذلك بنحو لو كانت علما وجدانيا لحصل الانحلال.
وقد يتوهم في مثل ذلك الانحلال التعبدي بدعوى أن دليل الحجية
يرتب كل آثار العلم على الامارة تعبدا ومن جملتها الانحلال. ولكنه توهم
باطل لان مفاد دليل الحجية ان كان هو تنزيل الامارة منزلة العلم، فمن
الواضح ان التنزيل لا يمكن أن يكون ناظرا إلى الانحلال لأنه اثر تكويني
للعلم وليس بيد المولى توسيعه، وان كان مفاد دليل الحجية اعتبار الامارة
علما على طريقة المجاز العقلي فمن المعلوم ان هذا الاعتبار لا يترتب عليه
آثار العلم الحقيقي التي منها الانحلال وانما يترتب عليه آثار العلم
73

الاعتباري، فان قيل: نحن لا نريد بدليل الحجية ان نثبت الانحلال
الحقيقي بالتعبد لكي يقال بأنه اثر تكويني تابع لعلته ولا يحصل بالتعبد
تنزيلا أو اعتبارا، بل نريد استفادة التعبد بالانحلال من دليل الحجية لان
مفاده التعبد بإلغاء الشك والعلم بمؤدي الامارة وهذا بنفسه تعبد بالانحلال
فهو انحلال تعبدي. كان الجواب على ذلك: ان التعبد المذكور ليس
تعبدا بالانحلال بل بما هو علة للانحلال والتعبد بالعلة لا يساوق التعبد
بمعلولها. أضف إلى ذلك أن التعبد بالانحلال لا معنى له ولا اثر لأنه ان
أريد به التأمين بالنسبة إلى الفرد الآخر بلا حاجة إلى اجراء أصل مؤمن فيه
فهذا غير صحيح لان التأمين عن كل شبهة بحاجة إلى أصل مؤمن حتى
ولو كانت بدوية. وان أريد بذلك التمكين من اجراء ذلك الأصل في
الفرد الآخر فهذا يحصل بدون حاجة إلى التعبد بالانحلال، وملاكه زوال
المعارضة بسبب خروج مورد الامارة عن كونه موردا للأصل المؤمن سواء
أنشئ التعبد بعنوان الانحلال أو لا.
- 3 -
الركن الثالث: - أن يكون كل من الطرفين مشمولا في نفسه وبقطع
النظر عن التعارض الناشئ من العلم الاجمالي لدليل الأصل المؤمن، إذ
لو كان أحدهما مثلا غير مشمول لدليل الأصل المؤمن لسبب آخر، لجري
الأصل المؤمن في الطرف الآخر بدون محذور. وهذه الصياغة انما تلائم
انكار القول بعلية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية، إذ بناء على هذا
الانكار يتوقف تنجز وجوب الموافقة القطعية على التعارض بين الأصول
المؤمنة، واما على القول بالعلية كما هو مذهب المحقق العراقي فلا تصح
الصياغة المذكورة لان مجرد كون الأصل في أحد الطرفين لا معارض له،
ولا يكفي لجريانه لأنه ينافي علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية فلا
بد من افتراض نكتة في الرتبة السابقة تعطل العلم الاجمالي عن التنجيز
ليتاح للأصل المؤمن ان يجري. ومن هنا صاغ المحقق المذكور الركن
الثالث صياغة أخرى.
74

وحاصلها: ان تنجيز العلم الاجمالي يتوقف على صلاحيته لتنجيز
معلومه على جميع تقاديره فإذا لم يكن صالحا لذلك فلا يكون منجزا، وعلى
هذا فكلما كان المعلوم الاجمالي على أحد التقديرين غير صالح للتنجز بالعلم
الاجمالي لم يكن العلم الاجمالي منجزا لأنه لا يصلح للتنجيز الا على بعض
التقادير معلومه وهذا التقدير غير معلوم فلا اثر عقلا لمثل هذا العلم
الاجمالي.
ويترتب على ذلك: ان العلم الاجمالي لا يكون منجزا إذا كان أحد
طرفيه منجزا بمنجز آخر غير العلم الاجمالي من امارة أو أصل منجز وذلك
لان العلم الاجمالي في هذه الحالة لا يصلح لتنجيز معلومه على تقدير انطباقه
على مورد الامارة أو الأصل، لان هذا المورد منجز في نفسه والمنجز يستحيل
ان يتنجز بمنجز آخر لاستحالة اجتماع علتين مستقلتين على اثر واحد،
وهذا يعني ان العلم الاجمالي غير صالح لتنجيز معلومه على كل حال فلا
يكون له اثر.
والفرق العملي بين هاتين الصياغتين يظهر في حالة عدم تواجد أصل
مؤمن في أحد الطرفين وعدم ثبوت منجز فيه أيضا سوى العلم الاجمالي
فان الركن الثالث حسب الصياغة الأولى لا يكون ثابتا ولكنه حسب
الصياغة الثانية ثابت. والصحيح هو الصياغة الأولى.
- 4 -
الركن الرابع: - أن يكون جريان البراءة في كل من الطرفين مؤديا
إلى الترخيص في المخالفة القطعية وامكان وقوعها خارجا على وجه مأذون
فيه، إذ لو كانت المخالفة القطعية ممتنعة على المكلف حتى مع الاذن
والترخيص لقصور في قدرته فلا محذور في اجراء البراءة في كل من
الطرفين.
وركنية هذا الركن مبنية على انكار علية العلم الاجمالي لوجوب
75

الموافقة القطعية، واما بناء على العلية فلا دخل لذلك في التنجيز، إذ
يكفي في امتناع جريان الأصول حينئذ كونها مؤدية للترخيص ولو في بعض
الأطراف.
وهناك صياغة أخرى لهذا الركن تبناها السيد الأستاذ، وهي أن يكون
جريان الأصول مؤديا إلى الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية ولو
لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعية، وقد تقدم الحديث عن ذلك بالقدر
المناسب. كما أن الصياغة المطروحة فعلا لهذا الركن سيأتي مزيد تحقيق
وتعديل بالنسبة إليها في مبحث الشبهة غير المحصورة ان شاء الله تعالى.
76

- 3 -
تطبيقات منجزية العلم الاجمالي
عرفنا في ضوء ما تقدم، الأركان الأربعة لتنجيز العلم الاجمالي فكلما
انهدم واحد منها بطلت منجزيته، وكل الحالات التي قد يدعى سقوط العلم
الاجمالي فيها عن المنجزية، لا بد من افتراض انهدام أحد الأركان
فيها وإلا فلا مبرر للسقوط.
وفيما يلي نستعرض عددا مهما من هذه الحالات لدراستها من خلال
ذلك:
1 - زوال العلم بالجامع:
الحالة الأولى ان يزول العلم بالجامع رأسا ولذلك صور:
الصورة الأولى: - ان يظهر للعالم خطؤه في علمه وان الإناءين
اللذين اعتقد بنجاسة أحدهما مثلا طاهران، ولا شك هنا في السقوط عن
المنجزية لانعدام الركن الأول من الأركان المتقدمة.
الصورة الثانية: - ان يتشكك العالم فيما كان قد علم به فيتحول
علمه بالجامع إلى الشك البدوي، والامر فيه كذلك أيضا.
77

ولكن قد يتوهم بقاء الأطراف على منجزيتها لان الأصول المؤمنة
تعارضت فيها في حال وجود العلم الاجمالي وهو وان زال ولكنها بعد
تعارضها وتساقطها لا موجب لعودها فتظل الشبهة في كل طرف بلا أصل
مؤمن فتتنجز.
وقد يجاب على هذا التوهم بان الشك الذي سقط اصله بالمعارضة
هو الشك في انطباق المعلوم بالاجمال وهذا الشك زال بزوال العلم الاجمالي
ووجد بدلا عنه الشك البدوي وهو فرد جديد من موضوع دليل الأصل ولم
يقع الأصل المؤمن عنه طرفا للمعارضة فيجري بدون اشكال وفي كل من
هاتين الصورتين يزول العلم بحدوث الجامع رأسا.
الصورة الثالثة: - ان يزول العلم بالجامع بقاء وان كان العلم
بحدوثه لا يزال مستمرا، وهذه الصورة تتحقق على انحاء:
النحو الأول: - أن يكون للجامع المعلوم أمد محدد بحيث يرتفع متى
ما استوفاه، فإذا استوفي أمده لم يعد هناك علم بالجامع بقاء، بل يعلم
بارتفاعه وان كان العلم بحدوثه ثابتا.
النحو الثاني: - أن يكون الجامع على كل تقدير متيقنا إلى فترة
ومشكوك البقاء بعد ذلك، وفي مثل ذلك يزول أيضا العلم بالجامع بقاء
ولكن يجري استصحاب الجامع المعلوم ويكون الاستصحاب حينئذ بمثابة
العلم الاجمالي.
النحو الثالث: - أن يكون الجامع المعلوم مرددا بين تكليفين غير أن
أحدهما على تقدير تحققه يكون أطول مكثا في عمود الزمان من الآخر، كما
إذا علم بحرمة الشرب من هذا الاناء إلى الظهر أو بحرمة الشرب من
الاناء الآخر إلى المغرب فبعد الظهر لا علم بحرمة أحد الإناءين فعلا،
فهل يجوز الشرب من الاناء الآخر حينئذ لزوال العلم الاجمالي؟. والجواب
بالنفي وذلك لعدم زوال العلم الاجمالي وعدم خروج الطرف الاخر عن
كونه طرفا له فان الجامع المردد بين التكليف القصير والتكليف الطويل
78

الأمد لا يزال معلوما حتى الآن كما كان فالتكليف الطويل في الاناء الآخر
بكل ما يضم من تكاليف انحلالية بعدد الآنات إلى المغرب طرف للعلم
الاجمالي. وتسمى مثل ذلك بالعلم الاجمالي المردد بين القصير والطويل،
وحكمه انه ينجز الطويل على امتداده.
النحو الرابع: - أن يكون التكليف في أحد طرفي العلم الاجمالي
مشكوك البقاء على تقدير حدوثه، وقد يقال في مثل ذلك بسقوط المنجزية
لان فترة البقاء المشكوكة من ذلك التكليف لا موجب لتنجزها بالعلم
الاجمالي لأنها ليست طرفا للعلم الاجمالي ولا بالاستصحاب إذ لا يقين
بالحدوث ليجري الاستصحاب. وقد يجاب على ذلك بان الاستصحاب
يجري على تقدير الحدوث بناء على أنه متقوم بالحالة السابقة الا باليقين بها،
ومعه يحصل العلم الاجمالي اما بثبوت الاستصحاب في هذا الطرف أو ثبوت
التكليف الواقعي في الطرف الآخر وهو كاف للتنجيز.
2 - الاضطرار إلى بعض الأطراف
الحالة الثانية: ان يعلم اجمالا بنجاسة أحد الطعامين ويكون مضطرا
فعلا إلى تناول أحدهما ولا شك في أن المكلف يسمح له بتناول ما يضطر
إليه، وانما نريد ان نعرف ان العلم الاجمالي هل يكون منجزا لوجوب
الاجتناب عن الطعام الآخر أو لا؟.
وهذه الحالة لها صورتان: إحداهما أن يكون الاضطرار متعلقا بطعام
معين والأخرى أن يكون بالامكان دفعه بأي واحد من الطعامين:
اما الصورة الأولى: فالعلم الاجمالي فيها يسقط عن المنجزية لزوال
الركن الأول حيث لا يوجد علم اجمالي بجامع التكليف، والسبب في
ذلك: ان نجاسة الطعام المعلومة إجمالا جزء الموضوع للحرمة والجزء الآخر
عدم الاضطرار، وحيث إن المكلف يحتمل ان النجس المعلوم هو الطعام
المضطر إليه بالذات فلا علم له بالتكليف الفعلي، فتجري البراءة عن
79

حرمة الطعام غير المضطر إليه وغيرها من الأصول المؤمنة بدون معارض،
لان حرمة الطعام المضطر إليه غير محتملة ليحتاج إلى الأصل بشأنها، ولكن
هذا على شرط أن لا يكون الاضطرار متأخرا عن العلم الاجمالي والا بقي
على المنجزية لأنه يكون من حالات العلم الاجمالي المردد بين الطويل
والقصير إذ يعلم المكلف بتكليف فعلي في هذا الطرف قبل حدوث
الاضطرار أو في الطرف الآخر حتى الآن. وقد يفترض الاضطرار قبل
العم ولكنه متأخر عن زمان النجاسة المعلومة، كما إذا اضطر ظهرا إلى تناول
أحد الطعامين ثم علم - قبل أن يتناول - ان أحدهما تنجس صباحا، وهنا
العلم بجامع التكليف الفعلي موجود فالركن الأول محفوظ ولكن الركن
الثالث غير محفوظ لان التكليف على تقدير انطباقه على مورد الاضطرار فقد
انتهى أمده ولا اثر لجريان البراءة عنه فعلا فتجري البراءة في الطرف الآخر
بلا معارض. ويطرد ما ذكرناه في غير الاضطرار أيضا من مسقطات التكليف
كتلف بعض الأطراف أو تطهيرها، كما إذا علم اجمالا بنجاسة أحد إناءين
ثم تلف أحدهما أو غسل بالماء فإن العلم الاجمالي لا يسقط عن المنجزية
بطرو المسقطات المذكورة بعده ويسقط عن المنجزية بطروها مقارنة للعلم
الاجمالي أو قبله.
واما الصورة الثانية: فلا شك في سقوط وجوب الموافقة القطعية
بسبب الاضطرار المفروض وانما الكلام في جواز المخالفة القطعية، فقد
يقال بجوازها كما هو ظاهر المحقق الخراساني (رحمه الله). وبرهان ذلك
يتكون مما يلي:
أولا: - ان العلم الاجمالي بالتكليف علة تامة لوجوب الموافقة
القطعية.
ثانيا: - ان المعلول هنا ساقط.
ثالثا: يستحيل سقوط المعلول بدون سقوط العلة.
فينتج: انه لا بد من الالتزام بسقوط العلم الاجمالي بالتكليف وذلك
80

بارتفاع التكليف فلا تكليف مع الاضطرار المفروض، وبعد ارتفاعه وان
كان التكليف محتملا في الطرف الآخر ولكنه حينئذ احتمال بدوي مؤمن
عنه بالأصل.
والجواب عن ذلك:
أولا: - بمنع علية العلم الاجمالي بالتكليف لوجوب الموافقة
القطعية.
ثانيا: - بان ارتفاع وجوب الموافقة القطعية الناشئ من العجز
والاضطرار لا ينافي العلية المذكورة لان المقصود منها عدم امكان جعل الشك
مؤمنا لان الوصول بالعلم تام ولا ينافي ذلك وجود مؤمن آخر وهو العجز
كما هو المفروض في حالة الاضطرار.
ثالثا: - لو سلمنا فقرات البرهان الثلاث فهي انما تنتج لزوم
التصرف في التكليف المعلوم على نحو لا يكون الترخيص في تناول أحد
الطعامين لدفع الاضطرار إذنا في ترك الموافقة القطعية له، وذلك يحصل
برفع اليد عن اطلاق التكليف لحالة واحدة وهي حالة تناول الطعام المحرم
وحده من قبل المكلف المضطر مع ثبوته في حالة تناول كلا الطعامين معا،
فمع هذا الافتراض إذا تناول المكلف المضطر العالم اجمالا أحد الطعامين
فقط لم يكن قد ارتكب مخالفة احتمالية على الاطلاق، وإذا تناول كلا
الطعامين فقد ارتكب مخالفة قطعية للتكليف المعلوم فلا يجوز.
3 - انحلال العلم الاجمالي بالتفصيلي:
لكل علم اجمالي سبب، والسبب تارة يكون مختصا في الواقع بطرف
معين من أطراف العلم الاجمالي، وأخرى تكون نسبته إلى الطرفين أو
الأطراف على نحو واحد، ومثال الأول: ان ترى قطرة دم تقع في أحد
الإناءين ولا تميز الاناء بالضبط فتعلم اجمالا بنجاسة أحد الإناءين،
والسبب هو قطرة الدم وهي في الواقع مختصة بأحد الطرفين، ويمكن ان
81

تؤخذ قيدا في المعلوم بأن تقول: اني اعلم اجمالا بنجاسة ناشئة من قطرة
الدم التي رأيتها لا بنجاسة كيفما اتفقت، ويترتب على ذلك: انه إذا حصل
علم تفصيلي بنجاسة اناء معين من الإناءين فإن كان هذا العلم التفصيلي
بنفس سبب العلم الاجمالي بان علمت تفصيلا بان القطرة قد سقطت هنا
انحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي وانهدم الركن الثاني إذ يكون من
النحو الأول من الانحاء الأربعة المتقدمة - عند الحديث عن ذلك الركن -
وان كان هذا العلم التفصيلي بسبب آخر كما إذا رأيت قطرة أخرى من الدم
تسقط في الاناء المعين لم ينحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي لان المعلوم
التفصيلي ليس مصداقا للمعلوم الاجمالي لينطبق عليه ويسري العلم من
الجامع إلى الفرد بخصوصه، وكذلك الامر إذا شك في أن سبب العلم
التفصيلي هو نفس تلك القطرة أو غيرها حيث لا يحرز حينئذ كون المعلوم
التفصيلي مصداقا للمعلوم الاجمالي ويدخل في النحو الثالث من الانحاء
الأربعة المتقدمة - عند الحديث عن الركن الثاني -
ومثال الثاني: - اي ما كانت نسبة سبب العلم الاجمالي فيه إلى
الأطراف متساوية - ان يحصل علم اجمالي بنجاسة أحد الإناءات التي هي
في معرض استعمال الكافر أو الكلب لمجرد استبعاد ان يمر زمان طويل
بدون ان يستعمل بعضها، فان هذا الاستبعاد نسبته إلى الأطراف على نحو
واحد، ويترتب على ذلك أنه لا يصلح أن يكون قيدا مخصصا للمعلوم
الاجمالي، وعليه فإذا حصل العلم التفصيلي بنجاسة اناء معين انحل العلم
الاجمالي حتما لانهدام الركن الثاني، وذلك لان المعلوم التفصيلي مصداق
للمعلوم الاجمالي جزما حيث لم يتخصص المعلوم الاجمالي بقيد زائد، ومعه
يسري العلم من الجامع إلى الفرد ويدخل في النحو الثاني من الانحاء
الأربعة المتقدمة - عند الحديث عن الركن الثاني -.
وفي كل حالة يثبت فيها الانحلال يجب أن يكون المعلوم التفصيلي
والمعلوم الاجمالي متحدين في الزمان، واما إذا كان المعلوم التفصيلي متأخرا
زمانا فلا انحلال للعلم الاجمالي حقيقة لعدم كون المعلوم التفصيلي حينئذ
82

مصداقا للمعلوم الاجمالي، ولا يشترط في الانحلال الحقيقي وانهدام الركن
الثاني التعاصر بين نفس العلمين، فان العلم التفصيلي المتأخر زمانا يوجب
الانحلال أيضا إذا أحرز كون معلومه مصداقا للمعلوم بالاجمال، لان مجرد
تأخر العلم التفصيلي مع احراز المصداقية لا يمنع عن سراية العلم قهرا من
الجامع إلى الخصوصية وهو معنى الانحلال.
4 - الانحلال الحكمي بالامارات والأصول:
إذا جرت في حق المكلف امارات أو أصول شرعية منجزة للتكليف
في بعض أطراف العلم الاجمالي فلا انحلال حقيقي ولا تعبدي كما تقدم،
ولكن ينهدم الركن الثالث باحدى صيغتيه المتقدمتين إذا توفرت شروط:
أحدها: - أن لا يقل البعض المنجز بالامارة أو الأصل الشرعي عن
عدد المعلوم بالاجمال من التكاليف.
ثانيها: أن لا يكون المنجز الشرعي من امارة أو أصل ناظرا إلى
تكليف مغاير لما هو المعلوم اجمالا، كما إذا علم اجمالا بحرمة أحد الإناءين
بسبب نجاسته وقامت البينة على حرمة أحدهما المعين بسبب الغصب.
ثالثها: - أن لا يكون وجود المنجز الشرعي متأخرا عن حدوث
العلم الاجمالي. فكلما توفرت هذه الشروط الثلاثة انهدم الركن الثالث،
لجريان الأصل المؤمن في غير مورد المنجز الشرعي بلا معارض وفقا للصيغة
الأولى، ولعدم صلاحية العلم الاجمالي للاستقلال في تنجيز معلومه على
كل تقدير وفقا للصيغة الثانية. ويسمى السقوط عن المنجزية في هذه الحالة
بالانحلال الحكمي تمييزا له عن الانحلال الحقيقي والانحلال التعبدي.
واما إذا اختل الشرط الأول فالعلم الاجمالي منجز للعدد الزائد،
والأصول بلحاظه متعارضة. وإذا اختل الشرط الثاني فالامر كذلك لان ما
ينجزه العلم في مورد الامارة غير ما تنجزه الامارة نفسها. وإذا اختل
الشرط الثالث كان العلم الاجمالي منجزا والركن الثالث محفوظا، لان
83

الأصول المؤمنة في غير مورد الامارة والأصل الشرعي المنجز، معارضة
بالأصول المؤمنة التي كانت تجري في موردهما قبل ثبوتهما. وبكلمة أخرى
إذا اخذنا من مورد المنجز الشرعي فترة ما قبل ثبوت هذا المنجز ومن غيره
الفترة الزمنية على امتدادها، حصلنا على علم اجمالي تام الأركان فينجز.
ومن هنا يعرف ان انهدام الركن الثالث بالمنجز الشرعي مرهون بعدم تأخر
نفس المنجز عن العلم ولا يكفي عدم تأخر مؤدي الامارة مثلا مع تأخر
قيامها، وذلك لان سقوط العلم الاجمالي عن التنجيز في حالات قيام المنجز
الشرعي في بعض أطرافه، إنما هو بسبب المنجزية الشرعية باحدى
الصيغتين السابقتين، والمنجزية لا تبدأ الا من حين قيام الامارة أو جريان
الأصل سواء كان المؤدي مقارنا لقيامها أو سابقا على ذلك. وبالمقارنة بين
الانحلال الحكمي كما شرحناه هنا والانحلال الحقيقي كما شرحناه آنفا يظهر
انهما يختلفان في هذه النقطة، فبينما العبرة في الانحلال الحكمي بعدم تأخر
نفس المنجز الشرعي عن العلم الاجمالي، نلاحظ ان العبرة في الانحلال
الحقيقي كانت بملاحظة جانب المعلوم التفصيلي وعدم تأخره عن زمان
المعلوم الاجمالي، وذلك لان ميزانه سراية العلم من الجامع إلى الفرد وهي
لازم قهري لانطباق المعلوم الاجمالي على المعلوم التفصيلي ومصداقية هذا
لذاك ولا دخل لتاريخ العلمين في ذلك، فمتى ما اجتمع العلمان ولو بقاء
وحصل الانطباق المذكور حصل الانحلال الحقيقي.
5 - اشتراك علمين اجماليين في طرف:
قد يفترض ان أحد طرفي العلم الاجمالي طرف في علم اجمالي
آخر، فإن كان العلمان متعاصرين فلا شك في تنجيزهما معا وتلقي الطرف
المشترك التنجز منهما معا، لان مرجع العلمين إلى العلم بثبوت تكليف
واحد في الطرف المشترك أو تكليفين في الطرفين الآخرين، واما إذا كان
أحدهما سابقا على الآخر فقد يقال: ان العلم المتأخر يسقط عن المنجزية
لاختلال الركن الثالث إما بصيغته الأولى وذلك بتقريب ان الطرف المشترك
84

قد سقط عنه الأصل المؤمن سابقا بتعارض الأصول الناشئ من العلم
الاجمالي السابق فالأصل في الطرف المختص بالعلم الاجمالي المتأخر يجري
بلا معارض، وإما بصيغته الثانية وذلك بتقريب ان الطرف المشترك قد تنجز
بالعلم السابق فلا يكون العلم المتأخر صالحا لمنجزيته فهو إذن لا يصلح
لمنجزية معلومه على كل تقدير.
ولكن الصحيح عدم السقوط عن المنجزية وبطلان التقريبين
السابقين، وذلك لان العلم الاجمالي الأول لا يوجب التنجيز في كل
زمان، وتعارض الأصول في الأطراف كذلك الا بوجوده الفعلي في ذلك
الزمان لا بمجرد حدوثه ولو في زمان سابق، وعليه فتنجز الطرف المشترك
بالعلم الاجمالي السابق في زمان حدوث العلم المتأخر انما يكون بسبب بقاء
ذلك العلم السابق إلى ذلك الحين لا بمجرد حدوثه، وهذا يعني ان تنجز
الطرف المشترك فعلا له سببان: أحدهما: بقاء العلم السابق. والآخر:
حدوث العلم المتأخر، واختصاص أحد السببين بالتأثير دون الآخر ترجيح
بلا مرجح فينجزان معا، وبذلك يبطل التقريب الثاني. كما أن الأصل
المؤمن في الطرف المشترك يقتضي الجريان في كل آن وهذا الاقتضاء يؤثر مع
عدم المعارض، ومن الواضح ان جريان الأصل المؤمن في الطرف المشترك في
الفترة الزمنية السابقة على حدوث العلم الاجمالي المتأخر كان معارضا بأصل
واحد - وهو الأصل في الطرف المختص بالعلم السابق - غير أن جريانه في
الفترة الزمنية اللاحقة يوجد له معارضان وهما الأصلان الجاريان في
الطرفين المختصين معا، وبذلك يبطل التقريب الأول فالعلمان الاجماليان
منجزان معا.
6 - حكم ملاقي أحد الأطراف:
إذا علم المكلف اجمالا بنجاسة أحد المائعين ولاقى الثوب أحدهما
المعين، حصل علم اجمالي آخر بنجاسة الثوب أو المائع الآخر، وهذا ما
85

يسمى بملاقي أحد أطراف الشبهة، وفي مثل ذلك قد يقال بعدم تنجيز
العلم الاجمالي الآخر فلا يجب الاجتناب عن الثوب وان وجب الاجتناب
عن المائعين وذلك لاحد تقريبين:
الأول: - تطبيق فرضية العلمين الاجماليين المتقدم والمتأخر في المقام
بان يقال: إنه يوجد لدي المكلف علمان اجماليا بينهما طرف مشترك وهو
المائع الآخر فينجز السابق منهما دون المتأخر. وهذا التقريب إذا تم يختص
بفرض تأخر الملاقاة أو العلم بها على الأقل عن العلم بنجاسة أحد
المائعين، ولكنه غير تام كما تقدم.
الثاني: - ان الركن الثالث منهدم لان أصل الطهارة يجري في الثوب
بدون معارض وذلك لأنه أصل طولي بالنسبة إلى أصل الطهارة في المائع
الذي لاقاه الثوب - ولنسمه المائع الأول - فأصالة الطهارة في المائع الأول
تعارض أصالة الطهارة في المائع الاخر ولا تدخل أصالة الطهارة للثوب في
هذا التعارض لطوليتها وبعد ذلك تصل النوبة إليها بدون معارض ووفقا لما
تقدم في الحالة الأولى من حالات الاستثناء من تعارض الأصول
وتساقطها. وهذا التقريب إذا تم يجري سواء اقترن العلم بالملاقاة مع
العلم بنجاسة أحد المائعين أو تأخر عنه، فالتقريب الثاني إذن أوسع جريانا
من التقريب الأول.
وقد يقال: ان هناك بعض الحالات لا يجري فيها كلا التقريبين،
وذلك فيما إذا حصل العلم الاجمالي بنجاسة أحد المائعين بعد تلف المائع
الأول ثم علم بان الثوب كان قد لامس المائع الأول، ففي هذه الحالة لا
يجري التقريب الأول لان العلم الاجمالي المتقدم ليس منجزا لاختلال الركن
الثالث فيه كما تقدم فلا يمكن ان يحول دون تنجيز العلم الاجمالي المتأخر
بنجاسة الثوب أو المائع الآخر الموجود فعلا، ولا يجري التقريب الثاني لان
الأصل المؤمن في المائع الأول لا معنى له بعد تلفه وهذا يعني ان الأصل
في المائع الآخر له معارض واحد وهو الأصل المؤمن في الثوب فيسقطان
86

بالتعارض.
ولكن الصحيح ان التقريب الثاني يجري في هذه الحالة أيضا لان تلف المائع
الأول لا يمنع عن استحقاقه لجريان أصل الطهارة فيه ما دام لطهارته اثر
فعلا وهو طهارة الثوب، فاصل الطهارة في المائع الأول ثابت في نفسه
ويتولى المعارضة مع الأصل في المائع الآخر في المرتبة السابقة ويجري الأصل
في الثوب بعد ذلك بلا معارض.
7 - الشبهة غير المحصورة:
إذا كثرت أطراف العلم الاجمالي بدرجة كبيرة سميت بالشبهة غير
المحصورة والمشهور بين الأصوليين سقوطه عن المنجزية لوجوب الموافقة
القطعية، وهناك من ذهب إلى عدم حرمة المخالفة القطعية.
ويجب ان نفترض عامل الكثرة فقط وما قد ينجم عنه من تأثير في
اسقاط العلم الاجمالي عن المنجزية، دون ان ندخل في الحساب ما قد
يقارن افتراض الكثرة من أمور أخرى كخروج بعض الأطراف عن محمل
الابتلاء.
وعلى هذا الأساس يمكن ان نقرب عدم وجوب الموافقة القطعية
وجواز اقتحام بعض الأطراف بتقريبين:
التقريب الأول: - ان هذا الاقتحام مستند إلى المؤمن وهو
الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالاجمال على الطرف المقتحم، إذ كلما زادت
أطراف العلم الاجمالي تضاءلت القيمة الاحتمالية للانطباق في كل طرف
حتى تصل إلى درجة يوجد على خلافها اطمئنان فعلي.
وقد استشكل المحقق العراقي وغيره باستشكالين على هذا التقريب:
أحدهما: - محاولة البرهنة على عدم وجود اطمئنان فعلي بهذا النحو
لان الأطراف كلها متساوية في استحقاقها لهذا الاطمئنان الفعلي بعدم
الانطباق، ولو وجدت اطمئنانات فعلية بهذا النحو في كل الأطراف لكان
87

ذلك مناقضا للعلم الاجمالي بوجود النجس مثلا في بعضها، لان السالبة
الكلية التي تتحصل من مجموع الاطمئنانات مناقضة للموجبة الجزئية التي
يكشفها العلم الاجمالي.
والجواب على ذلك أن الاطمئنانات المذكورة إذا أدت بمجموعها إلى
الاطمئنان الفعلي بالسالبة الكلية فالمناقضة واضحة ولكن الصحيح انها لا
تؤدي إلى ذلك فلا مناقضة.
وقد تقول: كيف لا تؤدي إلى ذلك أليس الاطمئنان ب‍ (الف)
والاطمئنان ب‍ (باء) يؤديان حتما إلى الاطمئنان بمجموع " الألف والباء "،
وكقاعدة عامة ان كل مجموعة من الاحرازات تؤدي إلى احراز مجموعة
المتعلقات ووجودها جميعا بنفس تلك الدرجة من الاحراز.
ونجيب على ذلك:
أولا: - بالنقض وتوضيحه ان من الواضح وجود احتمالات لعدم
انطباق المعلوم الاجمالي بعدد أطراف العلم الاجمالي، وهذه الاحتمالات
والشكوك فعلية بالوجدان ولكنها مع هذا لا تؤدي بمجموعها إلى احتمال
مجموع محتملاتها بنفس الدرجة. فإذا صح ان (الف) محتمل فعلا
و (باء) محتمل فعلا ومع هذا لا يحتمل بنفس الدرجة مجموع (الف)
و (باء) فيصح أن يكون كل منهما مطمئنا به ولا يكون المجموع مطمئنا
به.
وثانيا: - بالحل وهو ان القاعدة المذكورة انما تصدق فيما إذا كان كل
من الاحرازين يستبطن - إضافة إلى احراز وجود متعلقة فعلا - احراز وجوده
على تقدير وجود متعلق الاحراز الآخر على نهج القضية الشرطية، فمن
يطمئن بان (الف) موجود حتى على تقدير وجود (باء) أيضا، وان (باء)
موجود أيضا حتى على تقدير وجود (الف)، فهو مطمئن حتما بوجود
المجموع. وفي المقام الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الاجمالي على اي طرف
وان كان موجودا فعلا ولكنه لا يستبطن الاطمئنان بعدم الانطباق عليه حتى
88

على تقدير عدم الانطباق على الطرف الآخر، والسبب في ذلك أن هذا
الاطمئنان انما نشأ من حساب الاحتمالات وإجماع احتمالات الانطباق في
الأطراف الأخرى على نفي الانطباق في هذا الطرف، فتلك الاحتمالات
إذن هي الأساس في تكون الاطمئنان، فلا مبرر إذن للاطمئنان بعدم
الانطباق على طرف عند افتراض عدم الانطباق على الطرف الآخر، لان
هذا الافتراض يعني بطلان بعض الاحتمالات التي هي الأساس في تكون
الاطمئنان بعدم الانطباق.
واما الاستشكال الآخر فيتجه - بعد التسليم بوجود الاطمئنان
المذكور - إلى أن هذا الاطمئنان بعدم الانطباق لما كان موجودا في كل طرف
فالاطمئنانات معارضة في الحجية والمعذرية للعلم الاجمالي بان بعضها
كاذب، والتعارض يؤدي إلى سقوط الحجية عن جميع تلك الاطمئنانات.
والجواب على ذلك: ان العلم الاجمالي بكذب بعض الامارات انما
يؤدي إلى تعارضها وسقوطها عن الحجية لاحد سببين:
الأول: - ان يحصل بسبب ذلك تكاذب بين نفس الامارات فيدل
كل واحدة منها بالالتزام على وجود الكذب في الباقي ولا يمكن التعبد
بحجية المتكاذبين.
الثاني: - ان تؤدي حجية تلك الامارات - والحالة هذه - إلى
الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال.
وكلا السببين غير متوفر في المقام.
اما الأول: فلان كل اطمئنان لا يوجد ما يكذبه بالدلالة
الالتزامية، لأننا إذا أخذنا اي اطمئنان آخر معه لم نجد من المستحيل ان
يكونا معا صادقين فلماذا يتكاذبان، وإذا اخذنا مجموعة الاطمئنانات
الأخرى لم نجد تكاذبا أيضا لان هذه المجموعة لا تؤدي إلى الاطمئنان
بمجموع متعلقاتها اي الاطمئنان بعدم الانطباق على سائر الأطراف المساوق
89

للاطمئنان بالانطباق على غيرها، وذلك لما برهنا عليه من أن كل اطمئنانين
لا يتضمنان الاطمئنان بالقضية الشرطية لا يؤدي اجتماعهما إلى الاطمئنان
بالمجموع، والاطمئنانات الناشئة من حساب الاحتمال هنا من هذا القبيل
كما عرفت.
واما الثاني: فلان الترخيص في المخالفة القطعية انما يلزم لو كان
دليل حجية هذه الاطمئنانات يقتضى الحجية التعيينية لكل واحد منها، غير أن
الصحيح ان مفاده هو الحجية التخييرية لان دليل الحجية هنا هو السيرة
العقلائية وهي منعقدة على الحجية بهذا المقدار.
التقريب الثاني: ان الركن الرابع من أركان التنجيز المتقدمة مختل،
وذلك لان جريان الأصول في كل أطراف العلم الاجمالي لا يؤدي إلى فسح
المجال للمخالفة القطعية عمليا والاذن فيها، لأننا نفترض كثرة الأطراف
بدرجة لا تتيح للمكلف اقتحامها جميعا وفي مثل ذلك تجري الأصول جميعا
بدون معارضة.
وهذا التقريب متجه على أساس الصيغة الأصلية التي وضعناها
للركن الرابع فيما تقدم، واما على أساس صياغة السيد الأستاذ له السالفة
الذكر فلا يتم لان المحذور في صياغته الترخيص القطعي في مخالفة الواقع
وهو حاصل من جريان الأصول في كل الأطراف ولو لم يلزم الترخيص في
المخالفة القطعية لعدم القدرة عليها. ومن هنا يظهر ان الثمرة بين
الصيغتين المختلفتين للركن الرابع تظهر في تقييم التقريب المذكور اثباتا
ونفيا، غير أن السيد الأستاذ حاول ان ينقض على من يستدل بهذا
التقريب، وحاصل النقض: ان الاحتياط إذا كان غير واجب في الشبهة
غير المحصورة من أجل عدم قدرة المكلف على المخالفة القطعية يلزم عدم
وجوب الاحتياط في كل حالة تتعذر فيها المخالفة القطعية ولو كان العلم
الاجمالي ذا طرفين أو أطراف قليلة حيث تجري الأصول جميعا ولا يلزم منها
الترخيص عمليا في المخالفة القطعية، ومثاله: ان يعلم اجمالا بحرمة
90

المكث في آن معين في أحد مكانين، مع أن القائلين بعدم وجود الاحتياط
في الشبهة غير المحصورة لا يقولون بذلك في نظائر هذا المثال.
والتحقيق ان الصيغة الأصلية للركن الرابع يمكن ان توضح بأحد
بيانين:
البيان الأول: - ان عدم القدرة على المخالفة القطعية يجعل جريان
الأصول في جميع الأطراف ممكنا لأنه لا يؤدي - والحالة هذه - إلى
الترخيص عمليا في المخالفة القطعية لأنها غير ممكنة حتى يتصور الترخيص
فيها. وهذا البيان ينطبق على كل حالات العجز عن المخالفة القطعية،
ولذلك يعتبر النقض واردا عليه. الا ان البيان المذكور غير صحيح لان
المحذور في جريان الأصول في جميع أطراف العلم الاجمالي، هو ان تقديم
المولى لأغراضه الترخيصية على أغراضه اللزومية الواصلة بالعلم الاجمالي
على خلاف المرتكز العقلائي - كما تقدم توضيحه سابقا - ومن الواضح ان
شمول دليل الأصل لكل الأطراف يعني ذلك، ومجرد اقترانه صدفة بعجز
المكلف عن المخالفة القطعية لا يغير من مفاد الدليل، فالارتكاز العقلائي
إذن حاكم بعدم الشمول كذلك.
البيان الثاني: - ان عدم القدرة على المخالفة القطعية إذا نشأ من
كثرة الأطراف أدى إلى امكان جريان الأصول فيها جميعا، إذ في غرض
لزومي واصل كذلك - بوصول مردد بين أطراف بالغة هذه الدرجة من
الكثرة - لا يرى العقلاء محذورا في تقديم الأغراض الترخيصية عليه، لان
التحفظ على مثل ذلك الغرض يستدعي رفع اليد عن أغراض ترخيصية
كثيرة، ومعه لا يبقي مانع عن شمول دليل الأصل لكل الأطراف. وهذا
هو البيان الصحيح للركن الرابع وهو يثبت عدم وجوب الاحتياط في
الشبهة غير المحصورة ولا يرد عليه النقض.
وهكذا نخرج بتقريبين لعدم وجوب الاحتياط في أطراف الشبهة غير
المحصورة، غير أنهما يختلفان في بعض الجهات، فالتقريب الأول مثلا يتم
91

حتى في الشبهة التي لا يوجد في موردها أصل مؤمن لان التأمين فيه مستند
إلى الاطمئنان لا إلى الأصل، بخلاف التقريب الثاني كما هو واضح.
8 - إذا كان ارتكاب الواقعة في أحد الطرفين غير مقدور:
قد يفرض ان ارتكاب الواقعة غير مقدور ويعلم اجمالا بحرمتها أو
حرمة واقعة أخرى مقدورة وفي مثل ذلك لا يكون العلم الاجمالي منجزا.
وتفصيل الكلام في ذلك أن القدرة تارة تنتفي عقلا كما إذا كان المكلف
عاجز عن الارتكاب حقيقة، وأخرى تنتفي عرفا بمعنى ان الارتكاب فيه
من العنايات المخالفة للطبع والمتضمنة للمشقة ما يضمن انصراف المكلف
عنه ويجعله بحكم العاجز عنه عرفا وإن لم يكن عاجزا حقيقة، كاستعمال
كأس من حليب في بلد لا يصل إليه عادة. ويسمى هذا العجز العرفي
بالخروج عن محل الابتلاء.
فان حصل علم اجمالي بنجاسة أحد مائعين مثلا وكان أحدهما مما لا
يقدر المكلف عقلا على الوصول إليه فالعلم الاجمالي غير منجز، ويقال في
تقريب ذلك عادة: ان الركن الأول منتف لعدم وجود العلم بجامع
التكليف، لان النجس إذا كان هو المائع الذي لا يقدر المكلف على
ارتكابه فليس موضوعا للتكليف الفعلي، لان التكليف الفعلي مشروط
بالقدرة فلا علم اجمالي بالتكليف الفعلي إذن. وكأن أصحاب هذا التقريب
جعلوا الاضطرار العقلي إلى ترك النجس كالاضطرار العقلي إلى ارتكابه،
فكما لا ينجز العلم الاجمالي مع الاضطرار إلى ارتكاب طرف معين منه
- على ما مر في الحالة الثانية - كذلك لا ينجز مع الاضطرار العقلي إلى
تركه، لان التكليف مشروط بالقدرة وكل من الاضطرارين يساوق انتفاء
القدرة فلا يكون التكليف ثابتا على كل تقدير. والتحقيق ان الاضطرارين
يتفقان في نقطة ويختلفان في أخرى، فهما يتفقان في عدم صحة توجه النهي
والزجر معهما فكما لا يصح ان يزجر المضطر إلى شرب المائع عن شربه
92

كذلك لا يصح ان يزجر عنه من لا يقدر على شربه وهذا يعني انه لا علم
اجمالي بالنهي في كلتا الحالتين، ولكنهما يختلفان بلحاظ مبادئ النهي من
المفسدة والمبغوضية فان الاضطرار إلى الفعل يشكل حصة من وجود الفعل
مغايرة للحصة التي تصدر من المكلف بمحض اختياره، فيمكن ان يفترض
ان الحصة الواقعة عن اضطرار كما لا نهي عنها لا مفسدة ولا مبغوضية فيها
وانما المفسدة والمبغوضية في الحصة الأخرى، واما الاضطرار إلى ترك الفعل
والعجز عن ارتكابه فلا يشكل حصة خاصة من وجود الفعل على النحو
المذكور، فلا معنى لافتراض ان الفعل المقدور للمكلف ليس واجدا
لمبادئ الحرمة وانه لا مفسدة فيه ولا مبغوضية إذ من الواضح ان فرض
وجوده مساوق لوقوع المفسدة وتحقق المبغوض، فكم فرق بين من هو
مضطر إلى اكل لحم الخنزير لحفظ حياته ومن هو عاجز عن اكله لوجوده في
مكان بعيد عنه؟ فأكل لحم الخنزير عن اضطرار إليه قد لا يكون فيه
مبادئ النهي أصلا فيقع من المضطر بدون مفسدة ولا مبغوضية، واما اكل
لحم الخنزير البعيد عن المكلف فهو واجد للمفسدة والمبغوضية لا محالة
وعدم النهي عنه ليس لان وقوعه لا يساوق الفساد بل لأنه لا يمكن ان
يقع. ونستخلص من ذلك أن مبادئ النهي يمكن ان تكون منوطة بعدم
الاضطرار إلى الفعل ولكن لا يمكن ان تكون منوطة بعدم العجز عن
الفعل، وعليه ففي حالة الاضطرار إلى الفعل في أحد طرفي العلم الاجمالي
- كما في الحالة الثانية المتقدمة يمكن القول بأنه لا علم اجمالي بالتكليف لا
بلحاظ النهي ولا بلحاظ مبادئه، واما في حالة الاضطرار بمعنى العجز عن
الفعل في أحد طرفي العلم الاجمالي - كما في المقام - فالنهي وإن لم يكن ثابتا
على كل تقدير ولكن مبادئ النهي معلومة الثبوت اجمالا على كل حال،
فالركن الأول ثابت لان العلم الاجمالي بالتكليف يشمل العلم الاجمالي
بمبادئه، ويجب ان يفسر عدم التنجيز على أساس اختلال الركن الثالث إما
بصيغته الأولى حيث إن الأصل المؤمن في الطرف المقدور يجري بلا
معارض إذ لا معنى لجريانه في الطرف غير المقدور لان اطلاق العنان
93

تشريعا في مورد تقيد العنان تكوينا لا محصل له. واما بصيغته الثانية حيث إن
العلم الاجمالي ليس صالحا لتنجيز معلومه على كل تقدير لان التنجيز
هو الدخول في العهدة عقلا والطرف غير المقدور لا يعقل دخوله في
العهدة.
هذا كله فيما إذا كان أحد طرفي العلم الاجمالي غير مقدور، واما إذا
كان خارجا عن محل الابتلاء فقد ذهب المشهور إلى عدم تنجيز العلم
الاجمالي في هذه الحالة، واستندوا إلى أن الدخول في محل الابتلاء شرط في
التكليف فلا علم اجمالي بالتكليف في الحالة المذكورة، فالعجز العقلي عن
ارتكاب الطرف وخروجه عن محل الابتلاء يمنعان معا عن تنجيز العلم
الاجمالي بملاك واحد عندهم، وقد عرفت أن التقريب المذكور غير صحيح
في العجز العقلي فبطلانه في الخروج عن محل الابتلاء أوضح. بل
الصحيح ان الدخول في محل الابتلاء ليس شرطا في التكليف بمعنى الزجر
فضلا عن المبادئ، إذ ما دام الفعل ممكن الصدور من الفاعل المختار
فالزجر عنه معقول.
فان قيل: ما فائدة هذا الزجر مع أن عدم صدوره مضمون لبعده
وصعوبته. كان الجواب انه يكفي فائدة للزجر تمكين المكلف من التعبد
بتركه، فالأفضل ان يفسر عدم تنجيز العلم الاجمالي مع خروج بعض
أطرافه عن محل الابتلاء باختلال الركن الثالث لان أصل البراءة لا يجري
في الطرف الخارج عن محل الابتلاء في نفسه، لان الأصل العملي تعيين
للموقف العملي تجاه التزاحم بين الأغراض اللزومية والترخيصية، والعقلاء
لا يرون تزاحما من هذا القبيل بالنسبة إلى الطرف الخارج عن محل
الابتلاء، بل يرون الغرض اللزومي المحتمل مضمونا بحكم الخروج عن
محل الابتلاء بدون تفريط بالغرض الترخيصي، فالأصل المؤمن في الطرف
الآخر يجري بلا معارض
94

9 - العلم الاجمالي بالتدريجيات:
إذا كان أحد طرفي العلم الاجمالي تكليفا فعليا والطرف الاخر تكليفا
منوطا بزمان متأخر سمي هذا العلم بالعلم الاجمالي بالتدريجيات، ومثاله
علم المرأة اجمالا - إذا ضاعت عليها أيام العادة - بحرمة المكث في المسجد
في بعض الأيام من الشهر. وقد استشكل بعض الأصوليين في تنجيز هذا
العلم الاجمالي، ويستفاد من كلماتهم امكان تقريب الاستشكال بوجهين:
الأول: - ان الركن الأول مختل، لان المرأة في بداية الشهر لا علم
اجمالي لها بالتكليف الفعلي لأنها إما حائض فعلا فالتكليف فعلي، واما
ستكون حائضا في منتصف الشهر مثلا فلا تكليف فعلا، فلا علم
بالتكليف فعلا على كل تقدير وبذلك يختل الركن الأول.
الثاني: - ان الركن الثالث مختل، أما اختلاله بصيغته الأولى فتقريبه
ان المرأة في بداية الشهر تحتمل حرمة المكث فعلا وتحتمل حرمة المكث في
منتصف الشهر مثلا، ولما كانت الحرمة الأولى محتملة فعلا ومشكوكة فهي
مورد للأصل المؤمن، واما الحرمة الثانية فهي وان كانت مشكوكة ولكنها
ليست موردا للأصل المؤمن فعلا في بداية الشهر إذ لا يحتمل وجود الحرمة
الثانية في أول الشهر وانما يحتمل وجودها في منتصفه فلا تقع موردا للأصل
المؤمن الا في منتصف الشهر، وهذا يعنى ان المرأة في بداية الشهر تجد
الأصل المؤمن عن حرمة المكث فعلا جاريا بلا معارض وهو معنى عدم
التنجيز.
واما اختلاله بصيغته الثانية فلان الحرمة المتأخرة لا تصلح ان تكون
منجزة في بداية الشهر لان تنجز كل تكليف فرع ثبوته وفعليته، ففي بداية
الشهر لا يكون العلم الاجمالي صالحا لتنجيز معلومه على كل تقدير.
95

والصحيح ان الركن الأول والثالث كلاهما محفوظان في المقام.
اما الركن الأول فلان المقصود بالفعلية في قولنا (العلم الاجمالي
بالتكليف الفعلي) ليس وجود التكليف في هذا الآن، بل وجوده فعلا في
عمود الزمان احترازا عما إذا كان المعلوم جزء الموضوع للتكليف دون جزئه
الآخر، فإنه في مثل ذلك لا علم بتكليف فعلي ولو في زمان، فالجامع بين
تكليف في هذا الآن وتكليف يصبح فعليا في آن متأخر لا يقصر - عقلا -
وصوله عن وصول الجامع بين تكليفين كلاهما في هذا الآن لان مولوية
المولى لا تختص بهذا الآن كما هو واضح.
واما الركن الثالث بصيغته الأولى فلان الأصل المؤمن الذي يراد
اجراؤه عن الطرف الفعلي بالأصل الجاري في الطرف الآخر المتأخر في
ظرفه، إذ ليس التعارض بين أصلين من قبيل التضاد بين لونين يشترط في
حصوله وحدة الزمان، بل مرده إلى العلم بعدم امكان شمول دليل الأصل
لكل من الطرفين بالنحو المناسب له من الشمول زمانا، وحيث لا مرجح
للاخذ بدليل الأصل في طرف دون طرف فيتعارض الأصلان.
واما الصيغة الثانية للركن الثالث: فلان المقصود من كون العلم
الاجمالي صالحا لمنجزية معلومه على كل تقدير كونه صالحا لذلك ولو على
امتداد الزمان لا في خصوص هذا الآن.
وهكذا يتضح ان الشبهات التي حامت حول تنجيز العلم الاجمالي في
التدريجيات موهونة جدا غير أن جماعة من الأصوليين وقعوا تحت تأثيرها،
فذهب بعضهم إلى عدم التنجيز ورخص في ارتكاب الطرف الفعلي ما دام
الطرف الآخر متأخرا، وذهب البعض الآخر إلى عدم الترخيص بابراز علم
إجمالي بالجامع بين طرفين فعليين، كالمحقق العراقي إذ أجاب على
شبهات عدم التنجيز بوجود علم اجمالي آخر غير تدريجي الأطراف.
وتوضيحه ان التكليف إذا كان في القطعة الزمانية المعاصرة فهو تكليف فعلي
وإذا كان في قطعة زمانية متأخرة فوجوب حفظ القدرة إلى حين مجئ ظرفه
96

فعلي لما يعرف من مسألة وجوب المقدمات المفوتة من عدم جواز تضييع
الانسان لقدرته قبل مجئ ظرف الواجب، وهكذا يعلم اجمالا بالجامع بين
تكليفين فعليين فيكون منجزا.
ونلاحظ على هذا أولا ان التنجيز ليس بحاجة إلى ابراز هذا العلم
الاجمالي لما عرفت من تنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات.
وثانيا: ان وجوب حفظ القدرة إنما هو بحكم العقل كما تقدم في
مباحث المقدمة المفوتة، وحكم العقل بوجوب حفظ القدرة لامتثال تكليف
فرع تنجز ذلك التكليف، فلا بد في المرتبة السابقة على وجوب حفظ
القدرة، من وجود منجز للتكليف الآخر ولا منجز له كذلك الا العلم
الاجمالي في التدريجيات.
وثالثا: - ان المنجز إذا كان هو العلم الاجمالي بالجامع بين التكليف
الفعلي ووجوب حفظ القدرة لامتثال التكليف المتأخر. فهو لا يفرض
سوى عدم تفويت القدرة، وأما تفويت ما يكلف به في ظرفه المتأخر بعد
حفظ القدرة فلا يمكن المنع عنه بذلك العلم الاجمالي وانما يتعين تنجز المنع
عنه بنفس العلم الاجمالي في التدريجيات وهو ان كان منجزا لذلك ثبت
تنجيزه لكلا طرفيه.
10 - الطولية بين طرفي العلم الاجمالي:
قد يكون الطرفان للعلم الاجمالي طوليين بان كان أحد التكليفين
مترتبا على عدم الآخر، من قبيل ان نفرض ان وجوب الحج مترتب على
عدم وجوب وفاء الدين وعلم اجمالا بأحد الامرين وهذا له صورتان:
الأولى: - أن يكون وجوب الحج مترتبا على مطلق التأمين عن
وجوب وفاء الدين ولو بالأصل.
الثانية: - أن يكون وجوب الحج مترتبا على عدم وجوب وفاء الدين
واقعا.
97

اما الصورة الأولى: فليس العلم الاجمالي منجزا فيها بلا ريب
لانهدام الركن الثالث لان الأصل المؤمن عن وجوب وفاء الدين يجري ولا
يعارضه الأصل المؤمن عن وجوب الحج، لان وجوب الحج يصبح معلوما
بمجرد اجراء البراءة عن وجوب الوفاء فلا موضوع للأصل فيه.
فان قيل: هذا يتم بناء على انكار علية العلم الاجمالي لوجوب
الموافقة القطعية واستناد عدم جريان الأصل في بعض الأطراف إلى
التعارض.. فما هو الموقف بناء على علية العلم الاجمالي واستحالة جريان
الأصل المؤمن في بعض الأطراف ولو لم يكن له معارض؟.
والجواب: ان هذه الاستحالة انما هي باعتبار العلم الاجمالي،
ويستحيل في المقام أن يكون العلم الاجمالي مانعا عن جريان الأصل المؤمن
عن وجوب الوفاء، لأنه متوقف على عدم جريانه إذ بجريانه يحصل العلم
التفصيلي بوجوب الحج وينحل العلم الاجمالي، وما يتوقف على عدم شئ
يستحيل أن يكون مانعا عنه، فالأصل يجري إذن حتى على القول بالعلية.
واما الصورة الثانية: فيجري فيها أيضا الأصل المؤمن عن وجوب
الوفاء ولا يعارض بالأصل المؤمن عن وجوب الحج، لان ذلك الأصل
ينقح بالتعبد موضوع وجوب الحج فيعتبر أصلا سببيا بالنسبة إلى الأصل
المؤمن عن وجوب الحج، والأصل السببي مقدم على الأصل المسببي.
وهكذا نعرف ان حكم الصورتين عمليا واحد ولكنهما يختلفان في أن
الأصل في الصورة الأولى بجريانه في وجوب الوفاء يحقق موضوع وجوب
الحج وجدانا ويوجب انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي، ومن هنا
كان وجود العلم الاجمالي متوقفا على عدم جريانه كما عرفت.
واما في الصورة الثانية: فلا يحقق ذلك لان وجوب الحج مترتب
على عدم وجوب الوفاء واقعا وهو غير محرز وجدانا وانما يثبت تعبدا بالأصل
دون ان ينشأ علم تفصيلي بوجوب الحج، ولهذا لا يكون جريان الأصل في
98

الصورة الثانية موجبا لانحلال العلم الاجمالي وبالتالي لا يكون وجود العلم
الاجمالي متوقفا على عدم جريانه، ومن أجل ذلك قد يقال هنا بعدم جريان
الأصل المؤمن عن وجوب الوفاء على القول بالعلية لان مانعية العلم
الاجمالي عن جريانه ممكنة لعدم توقف العلم الاجمالي على عدم جريانه.
وهناك فارق آخر بين الصورتين، وهو انه في الصورة الأولى يجري
الأصل المؤمن عن وجوب الحج سواء كان تنزيليا أو لا، ويحقق على اي
حال موضوع وجوب الحج وجدانا... واما في الصورة الثانية فإنما يجري
إذا كان تنزيليا بمعنى ان مفادة التعبد بعدم التكليف المشكوك واقعا، وذلك
لان الأصل التنزيلي هو الذي يحرز لنا تعبدا موضوع وجوب الحج فيكون
بمثابة الأصل السببي. لنسبة إلى الأصل المؤمن عن وجوب الحج، واما
الأصل العملي البحت فلا يثبت به تعبدا العدم الواقعي لوجوب الوفاء فلا
يكون حاكما على الأصل الجاري في الطرف الآخر بل معارضا.
تلخيص للقواعد الثلاث:
خرجنا حتى الآن بثلاث قواعد فالقاعدة العملية الأولى قاعدة عقلية
وهي أصالة الاشتغال على مسلك حق الطاعة. والبراءة على مسلك قاعدة
قبح العقاب بلا بيان. والقاعدة العملية الثانية الحاكمة هي البراءة
الشرعية. والقاعدة العملية الثالثة منجزية العلم الاجمالي اي تنجز
الاحتمال المقرون بالعلم الاجمالي وعدم جريان البراءة عنه.
99

الوظيفة
عند الشك في الوجوب والحرمة معا
101

الوظيفة العملية في حالة الشك
(3)
1 - الشك البدوي في الوجوب والحرمة.
2 - دوران الامر بين المحذورين.
103

حتى الآن كنا نتكلم عن الشك في التكليف وما هي الوظيفة العملية
المقرر فيه عقلا أو شرعا سواء كان شكا بدويا أو مقرونا بالعلم الاجمالي،
الا اننا كنا نقصد بالشك في التكليف الشك الذي يستبطن احتمالين فقط
وهما: احتمال الوجوب، واحتمال الترخيص. أو احتمال الحرمة،
واحتمال الترخيص. والآن نريد ان نعالج الشك الذي يستبطن احتمال
الوجوب واحتمال الحرمة معا، وهذا الشك تارة يكون بدويا اي مشتملا
على احتمال ثالث للترخيص أيضا، وأخرى يكون مقرونا بالعلم الاجمالي
بالجامع بين الوجوب والحرمة وهذا ما يسمى بدوران الامر بين
المحذورين. فهنا مبحثان كما يأتي ان شاء الله تعالى:
1 - الشك البدوي في الوجوب والحرمة:
الشك البدوي في الوجوب والحرمة هو الشك المشتمل على احتمال
الوجوب واحتمال الحرمة واحتمال الترخيص، وسندرس حكمه بلحاظ
الأصل العملي العقلي وبلحاظ الأصل العملي الشرعي.
اما باللحاظ الأول فعلى مسلك قبح العقاب بلا بيان لا شك في
جريان البراءة عن كل من الوجوب والحرمة، وعلى مسلك حق الطاعة
يكون كل من الاحتمالين منجزا في نفسه ولكنهما يتزاحمان في التنجيز
105

لاستحالة تنجيزهما معا، وتنجيز أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح
فتبطل منجزيتهما معا وتجري البراءة أيضا.
واما باللحاظ الثاني فأدلة البراءة الشرعية شاملة للمورد باطلاقها،
وعليه فالفارق بين هذا الشك وما سبق من شك ان هذا مورد للبراءة عقلا
وشرعا معا حتى على مسلك حق الطاعة بخلاف الشك المتقدم.
2 - دوران الامر بين المحذورين:
وهو الشك المقرون بالعلم الاجمالي بجنس الالزام، وتوضيح الحال
فيه: ان هذا العلم الاجمالي يستحيل أن يكون منجزا لان تنجيزه لوجوب
الموافقة القطعية غير ممكن لأنها غير مقدورة، وتنجيزه لحرمة المخالفة
القطعية ممتنع أيضا لأنها غير ممكنة، وتنجيزه لاحد التكليفين المحتملين
بالخصوص دون الآخر غير معقول، لان نسبة العلم الاجمالي إليهما نسبة
واحدة. وبهذا يتبرهن عدم كون العلم الاجمالي منجزا، ولكن هل تجري
البراءة العقلية والشرعية عن الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة أو
لا؟.. سؤال اختلف الأصوليون في الإجابة عليه، فهناك من قال
بجريانها إذ ما دام العلم الاجمالي غير منجز فلا يمكن أن يكون مانعا عن
جريان البراءة عقلا وشرعا، وهناك من قال بعدم جريان البراءة على الرغم
من عدم منجزية العلم الاجمالي. وأثيرت عدة اعتراضات على اجراء
البراءة في المقام ويختص بعض هذه الاعتراضات بالبراءة العقلية وبعضها
بالبراءة الشرعية وبعضها ببعض ألسنة البراءة الشرعية. ونذكر فيما يلي أهم
تلك الاعتراضات:
الأول: - الاعتراض على البراءة العقلية والمنع عن جريانها في المقام
حتى على مسلك قبح العقاب بلا بيان. وتوضيحه على ما افاده المحقق
العراقي (قدس الله روحه): ان العلم الاجمالي هنا وإن لم يكن منجزا
وهذا يعني ترخيص العقل في الاقدام على الفعل أو الترك.. ولكن ليس
106

كل ترخيص براءة فان الترخيص تارة يكون بملاك الاضطرار وعدم امكان
إدانة العاجز وأخرى يكون بملاك عدم البيان، والبراءة العقلية هي ما كان
بالملاك الثاني.
وعليه فان أريد في المقام ابطال منجزية العلم الاجمالي بنفس البراءة
العقلية فهو مستحيل، لأنها فرع عدم البيان فهي لا تحكم بان هذا بيان
وذاك ليس ببيان لأنها لا تنقح موضوعها، فلا بد من اثبات عدم البيان في
الرتبة السابقة على اجراء البراءة، وهذا ما يتحقق في موارد الشك وجدانا
وتكوينا لان الشك ليس بيانا، واما في مورد العلم الاجمالي بجنس الالزام
في المقام فالعلم بيان وجدانا وتكوينا، فلكي نجرده من صفة البيانية لا بد من
تطبيق قاعدة عقلية تقتضي ذلك، وهذه القاعدة ليست نفس البراءة
العقلية لما عرفت من أنها لا تنقح موضوعها، وانما هي قاعدة عدم امكان
إدانة العاجز التي تبرهن على عدم صلاحية العلم الاجمالي المذكور للمنجزية
والحجية وبالتالي سقوطه عن البيانية.
وان أريد اجراء البراءة العقلية بعد ابطال منجزية العلم الاجمالي
وبيانيته بالقاعدة المشار إليها فلا معنى لذلك، لان تلك القاعدة بنفسها
تتكفل الترخيص العقلي ولا محصل للترخيص في طول الترخيص.
ونلاحظ على ذلك أن المدعي اجراء البراءة بعد الفراغ عن عدم
منجزية العلم الاجمالي، وليس الغرض منها ابطال منجزية هذا العلم
والترخيص في مخالفته حتى يقال: إنه لا محصل لذلك، بل ابطال منجزية
كل من احتمال الوجوب واحتمال الحرمة في نفسه، ومن الواضح ان كلا من
الاحتمالين في نفسه ليس بيانا تكوينا ووجدانا فنطبق عليه البراءة العقلية
لاثبات التأمين من ناحيته.
الثاني: - الاعتراض على البراءة الشرعية، وتوضيحه على ما افاده
المحقق النائيني (قدس الله روحه): ان ما كان منها بلسان أصالة الحل لا
يشمل المقام لان الحلية غير محتملة هنا بل الامر مردد بين الوجوب
107

والحرمة، وما كان منها بلسان رفع ما لا يعلمون لا يشمل أيضا، لان
الرفع يعقل حيث يعقل الوضع، والرفع هنا ظاهري يقابله الوضع
الظاهري وهو ايجاب الاحتياط، ومن الواضح ان ايجاب الاحتياط تجاه
الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة مستحيل فلا معنى للرفع إذن.
وقد يلاحظ على كلامه.
أولا: - ان امكان جعل حكم ظاهري بالحلية لا يتوقف على أن
تكون الحلية الواقعية محتملة، ودعوى أن الحكم الظاهري متقوم بالشك
صحيحة ولكن لا يراد بها تقومه باحتمال مماثلة الحكم الواقعي له بل تقومه
بعدم العلم بالحكم الواقعي الذي يراد التأمين عنه أو تنجيزه، إذ مع
العلم به لا معنى لجعل شئ مؤمنا عنه أو منجزا له.
وثانيا: ان الرفع الظاهري في كل من الوجوب والحرمة يقابله
الوضع في مورده وهو ممكن فيكون الرفع ممكنا أيضا، ومجموع الوضعين
وان كان مستحيلا ولكن كلا من الرفعين لا يقابل الا وضعا واحدا لا
مجموع الوضعين.
الثالث: الاعتراض على شمول أدلة البراءة الشرعية عموما
بدعوى انصرافها عن المورد، لان المنساق منها علاج المولى لحالة التزاحم
بين الأغراض الالزامية والترخيصية في مقام الحفظ بتقديم الغرض
الترخيصي على الالزامي، لا علاج حالة التزاحم بين غرضين الزاميين.
وعليه فالبراءة الشرعية لا تجري ولكن العلم الاجمالي المذكور غير منجز لما
عرفت.
وينبغي ان يعلم: ان دوران الامر بين المحذورين قد يكون في واقعة
واحدة وقد يكون في أكثر من واقعة بان يعلم اجمالا بان عملا معينا إما
محرم في كل أيام الشهر أو واجب فيها جميعا، وما ذكرناه كان يختص
بافتراض الدوران في واقعة واحدة، واما مع افتراض كونه في أكثر من
واقعة فنلاحظ ان المخالفة القطعية تكون ممكنة حينئذ، وذلك بان يفعل في
108

يوم ويترك في يوم. فلا بد من ملاحظة مدي تأثير ذلك على الموقف وهذا
ما نتركه لدراسة أعلى.
109

الوظيفة
عند الشك في الأقل والأكثر
111

الوظيفة العملية في حالة الشك
- 4 -
1 - التقسيم الرئيسي للأقل والأكثر.
2 - الأقل والأكثر في الاجزاء.
3 - الأقل والأكثر في الشرائط.
4 - الدوران بين التعيين والتخيير العقلي.
5 - الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي.
6 - ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر.
113

التقسيم الرئيسي للأقل والأكثر
درسنا فيما سبق حالة الشك في أصل الوجوب وحالة العلم بالوجوب
وتردد متعلقه بين امرين متباينين، فالأولى هي حالة الشك البدوي التي
تجري فيها البراءة الشرعية، والثانية هي حالة الشك المقرون بالعلم
الاجمالي التي تجري فيها أصالة الاشتغال. والآن ندرس حالة العلم
بالوجوب وتردد الواجب بين الأقل والأكثر، وهي على قسمين:
الأول: دوران الامر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، وهو يعني
ان ما يتميز به الأكثر على الأقل من الزيادة على تقدير وجوبه يكون واجبا
مستقلا عن وجوب الأقل، كما إذا علم المكلف بأنه مدين لغيره بدرهم أو
بدرهمين.
الثاني: - دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وهو يعني ان
هناك وجوبا واحدا له امتثال واحد وعصيان واحد وهو اما متعلق بالأقل أو
بالأكثر، كما إذا علم المكلف بوجوب الصلاة وترددت الصلاة عنده بين
تسعة اجزاء وعشرة.
اما القسم الأول: فلا شك في أن وجوب الأقل فيه منجز بالعلم
وان وجوب الزائد مشكوك بشك بدوي فتجرى عنه البراءة عقلا وشرعا أو
شرعا فقط على الخلاف بين المسلكين.
واما القسم الثاني: فتندرج فيه عدة مسائل نذكرها تباعا.
115

- 1 -
الدوران بين الأقل والأكثر في الاجزاء
وفي مثل ذلك قد يقال بان حاله حال القسم الأول، فان وجوب
الأقل منجز بالعلم ووجوب الزيادة - اي ما يشك في كونه جزءا - مشكوك
بدوي فتجري عنه البراءة، لان هذا هو ما يقتضيه الدوران بين الأقل والأكثر
بطبعه، فان كل دوران من هذا القبيل يتعين في علم بالأقل وشك
في الزائد.
ولكن قد يعترض على اجراء البراءة عن وجوب الزائد في المقام
ويبرهن على عدم جريانها بعدة براهين:
البرهان الأول:
وهو يقوم على أساس دعوى وجود العلم الاجمالي المانع عن اجراء
البراءة، وليس هو العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو وجوب الزائد لينفي
ذلك بان وجوب الزائد لا يحتمل كونه بديلا عن الأقل فكيف يجعل طرفا
مقابلا له في العلم الاجمالي. بل هو العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو
وجوب الأكثر المشتمل على الزائد، ومعه لا يمكن اجراء الأصل لنفي
وجوب الزائد لكونه جزءا من أحد طرفي العلم الاجمالي.
وقد أجيب على هذا البرهان بوجوه:
116

منها: - ان العلم الاجمالي المذكور منحل بالعلم التفصيلي بوجوب
الأقل على كل تقدير، لان الواجب انه كان هو الأقل فهو واجب نفسي
وان كان الواجب هو الأكثر فالأقل واجب غيري لأنه جزء الواجب وجزء
الواجب مقدمة له.
ونلاحظ على هذا الوجه: انه ان أريد به هدم الركن الثاني من
أركان تنجيز العلم الاجمالي. فالجواب عليه: ان الانحلال انما يحصل إذا
كان المعلوم التفصيلي مصداقا للجامع المعلوم بالاجمال، كما تقدم، وليس
الامر في المقام كذلك لان الجامع المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي
والمعلوم التفصيلي وجوب الأقل ولو غيريا. وان أريد به هدم الركن الثالث
بدعوى أن وجوب الأقل منجز على اي حال ولا تجري البراءة عنه فتجري
البراءة عن الاخر بلا معارض.. فالجواب عليه: ان الوجوب الغيري لا
يساهم في التنجيز كما تقدم في مباحث المقدمة.
ومنها: - ان العلم الاجمالي المذكور منحل بالعلم التفصيلي بالوجوب
النفسي للأقل لأنه واجب نفسا اما وحده أو في ضمن الأكثر، وهذا
المعلوم التفصيلي مصداق للجامع المعلوم بالاجمال فينحل العلم الاجمالي به.
وقد يجاب على هذا الانحلال بأجوبة نذكر فيما يلي مهمها:
الجواب الأول: - ان الجامع المعلوم اجمالا هو الوجوب النفسي
الاستقلالي اما للأقل أو للأكثر، وما هو معلوم بالتفصيل في الأقل الوجوب
النفسي ولو ضمنا فلا انحلال.
ويلاحظ ان الاستقلالية معنى منتزع من حد الوجوب وعدم شموله
لغير ما تعلق به، والحد لا يقبل التنجز ولا يدخل في العهدة وانما يدخل
فيها ويتنجز ذات الوجوب المحدود، فالعلم الاجمالي بالوجوب النفسي
الاستقلالي وإن لم يكن منحلا ولكن معلوم هذا العلم لا يصلح للدخول في
العهدة لعدم قابلية حد الوجوب للتنجز، والعلم الاجمالي بذات الوجوب
117

المحدود بقطع النظر عن حد الاستقلالية هو الذي ينجز معلومه ويدخله في
العهدة، وهذا العلم منحل بالعلم التفصيلي المشار إليه.
الجواب الثاني: - ان وجوب الأقل إذا كان استقلاليا فمتعلقه الأقل
مطلقا من حيث انضمام الزائد وعدمه، وإذا كان ضمنيا فمتعلقه الأقل
المقيد بانضمام الزائد، وهذا يعني انا نعلم اجمالا اما بوجوب التسعة
المطلقة أو التسعة المقيدة، والمقيد يباين المطلق، والعلم التفصيلي بوجوب
التسعة على الاجمال ليس إلا نفس ذلك العلم الاجمالي بعبارة موجزة، فلا
معنى لانحلاله به.
ويلاحظ هنا أيضا ان الاطلاق سواء كان عبارة عن عدم لحاظ القيد
أو لحاظ عدم دخل القيد لا يدخل في العهدة، لأنه يقوم الصورة الذهنية
وليس له محكي ومرئي يراد ايجابه زائدا على ذات الطبيعة بخلاف التقييد.
فان أريد اثبات التنجيز للعلم الاجمالي بالاطلاق أو التقييد فهو غير ممكن
لان الاطلاق لا يقبل التنجز، وان أريد اثبات التنجيز للعلم الاجمالي
بالوجوب بالقدر الذي يقبل التنجز ويدخل في العهدة فهو منحل. ولكن
سيظهر مما يلي ان دعوى الانحلال غير صحيحة.
ومنها: - انه ان لوحظ العلم بالوجوب بخصوصياته التي لا تصلح
للتنجز - من قبيل حد الاستقلالية والاطلاق - فهناك علم اجمالي ولكنه لا
يصلح للتنجيز، وان لوحظ العلم بالوجوب بالقدر الصالح للتنجز فلا علم
اجمالي أصلا بل هناك علم تفصيلي بوجوب التسعة وشك بدوي في وجوب
الزائد، فالبرهان الأول ساقط إذن، كما أن دعوى الانحلال ساقطة أيضا
لأنها تستبطن الاعتراف بوجود علمين لولا الانحلال، مع أنه لا يوجد الا
ما عرفت.
ومنها: - دعوى انهدام الركن الثالث لان الأصل يجري عن وجوب
الأكثر أو الزائد ولا يعارضه الأصل عن وجوب الأقل، لأنه ان أريد به
التأمين في حالة ترك الأقل مع الاتيان بالأكثر فهو غير معقول إذ لا يعقل
118

ترك الأقل مع الاتيان بالأكثر، وان أريد به التأمين في حالة ترك الأقل
وترك الأكثر، بتركه رأسا فهو غير ممكن أيضا لان هذه الحالة هي حالة
المخالفة القطعية ولا يمكن التأمين بلحاظها. وهكذا نعرف ان الأصل عن
وجوب الأقل ليس له دور معقول، فلا يعارض الأصل الاخر.
وهذا بيان صحيح في نفسه ولكنه يستبطن الاعتراف بالركنين الأول
والثاني ومحاولة التخلص بهدم الركن الثالث. مع انك عرفت أن الركن
الثاني غير تام في نفسه.
البرهان الثاني:
والبرهان الثاني يقوم على دعوى أن المورد من موارد الشك في
المحصل بالنسبة إلى الغرض، وذلك ضمن النقاط التالية:
أولا: - ان هذا الواجب المردد بين الأقل والأكثر للمولى غرض
معين من ايجابه، لان الاحكام تابعة للملاكات في متعلقاتها.
ثانيا: - ان هذا الغرض منجز لأنه معلوم ولا اجمال في العلم به
وليس مرددا بين الأقل والأكثر وانما يشك في أنه هل يحصل بالأقل أو
بالأكثر؟
ثالثا: يتبين مما تقدم ان المقام من الشك في المحصل بالنسبة إلى
الغرض، وفي مثل ذلك تجري أصالة الاشتغال كما تقدم
ويلاحظ على ذلك:
أولا: - انه من قال بان الغرض ليس مرددا بين الأقل والأكثر
كنفس الواجب، بان يكون ذا مراتب وبعض مراتبه تحصل بالأقل ولا
تستوفي كلها الا بالأكثر، ويشك في أن الغرض الفعلي قائم ببعض المراتب
أو بكلها فيجري عليه نفس ما جرى على الواجب.
وثانيا: - ان الغرض انما يتنجز عقلا بالوصول إذا وصل مقرونا
119

بتصدي المولى لتحصيله التشريعي، وذلك بجعل الحكم على وفقه أو نحو
ذلك. فما فلم يثبت هذا التصدي التشريعي بالنسبة إلى الأكثر بمنجز، وما
دام مؤمنا عنه بالأصل، فلا اثر لاحتمال قيام ذات الغرض بالأكثر.
البرهان الثالث:
ان وجوب الأقل منجز بحكم كونه معلوما، وهو مردد بحسب
الفرض بين كونه استقلاليا أو ضمنيا، وفي حالة الاقتصار على الاتيان
بالأقل يسقط هذا الوجوب المعلوم على تقدير كونه استقلاليا لحصول
الامتثال، ولا يسقط على تقدير كونه ضمنيا لان الوجوبات الضمينة
مترابطة ثبوتا وسقوطا فما لم تمتثل جميعا لا يسقط شئ منها. وهذا يعني ان
المكلف الآتي بالأقل يشك في سقوط وجوب الأقل والخروج عن عهدته فلا
بد له من الاحتياط، وليس هذا الاحتياط بلحاظ احتمال وجوب الزائد
حتى يقال: إنه شك في التكليف، بل انما هو رعاية للتكليف بالأقل
المنجز بالعلم واليقين، نظرا إلى أن الشغل اليقيني يستدعي الفراغ
اليقيني.
والجواب على ذلك: ان الشك في سقوط تكليف معلوم انما يكون
مجرى لأصالة الاشتغال فيما إذا كان بسبب الشك في الاتيان بمتعلقه، وهذا
غير حاصل في المقام لان التكليف بالأقل سواء كان استقلاليا أو ضمنيا قد أتى
بمتعلقه بحسب الفرض إذ ليس متعلقه الا الأقل، وانما ينشأ احتمال عدم سقوطه
من احتمال قصور في نفس الوجوب بلحاظ ضمنيته المانعة عن سقوطه
مستقلا عن وجوب الزائد، وهكذا يرجع الشك في السقوط هنا إلى الشك
في ارتباط وجوب الأقل بوجوب زائد، ومثل هذا الشك ليس مجرى
لأصالة الاشتغال بل يكون مؤمنا عنه بالأصل المؤمن عن ذلك الوجوب
الزائد، لا بمعنى ان ذلك الأصل يثبت سقوط وجوب الأقل بل
بمعنى انه يجعل المكلف غير مطالب من ناحية عدم السقوط
الناشئ من وجوب الزائد.
120

البرهان الرابع:
وهو علم اجمالي يجري في الواجبات التي يحرم قطعها عند الشروع
فيها كالصلاة، إذ يقال بان المكلف إذا كبر تكبيرة الاحرام ملحونة وشك
في كفايتها حصل له علم اجمالي اما بوجوب إعادة الصلاة أو حرمة قطع
هذا الفرد من الصلاة التي بدأ بها، لان الجزء ان كان يشمل الملحون حرم
عليه قطع ما بيده والا وجبت عليه الإعادة، فلا بد له من الاحتياط لان
أصالة البراءة عن وجوب الزائد تعارض أصالة البراءة عن حرمة قطع هذا
الفرد.
ونلاحظ على ذلك: ان حرمة قطع الصلاة موضوعها هو الصلاة
التي يجوز للمكلف بحسب وظيفته الفعلية الاقتصار عليها في مقام
الامتثال، إذ لا اطلاق في دليل الحرمة لما هو أوسع من ذلك. وواضح ان
انطباق هذا العنوان على الصلاة المفروضة فرع جريان البراءة عن وجوب
الزائد والا لما جاز الاقتصار عليها عملا، وهذا يعني ان احتمال حرمة
القطع مترتبة على جريان البراءة عن الزائد فلا يعقل ان يستتبع أصلا
معارضا له.
البرهان الخامس:
وحاصله تحويل الدوران في المقام إلى دوران الواجب بين عامين من
وجه بدلا عن الأقل والأكثر، وتوضيح ذلك ضمن مقدمتين:
الأولى: ان الواجب تارة يدور امره بين المتباينين كالظهر
والجمعة، وأخرى بين العامين من وجه كإكرام العادل واكرام الهاشمي،
وثالثة بين الأقل والأكثر، ولا اشكال في تنجيز العلم الاجمالي في الحالة
121

الأولى الموجب للجمع بين الفعلين، وتنجيزه في الحالة الثانية الموجب لعدم
جواز الاقتصار على احدى مادتي الافتراق، واما الحالة الثالثة فهي محل
الكلام.
الثانية: - ان الواجب المردد في المقام بين التسعة والعشرة إذا كان
عباديا فالنسبة بين امتثال الامر على تقدير تعلقه بالأقل وامتثاله على تقدير
تعلقه بالأكثر هي العموم من وجه، ومادة الافتراق من ناحية الامر بالأقل
واضحة، وهي ان يأتي بالتسعة فقط، واما مادة الافتراق من ناحية الامر
بالأكثر فلا تخلو من خفاء في النظرة الأولى، لان امتثال الامر بالأكثر
يشتمل على الأقل حتما، ولكن يمكن تصوير مادة الافتراق في حالة كون
الامر عباديا والاتيان بالأكثر بداعي الامر المتعلق بالأكثر على وجه التقييد
على نحو لو كان الامر متعلقا بالأقل فقط لما انبعث عنه، ففي مثل ذلك
يتحقق امتثال الامر بالأكثر على تقدير ثبوته، ولا يكون امتثالا للامر بالأقل
على تقدير ثبوته.
ويثبت على ضوء هاتين المقدمتين ان العلم الاجمالي في المقام منجز إذا
كان الواجب عباديا كما هو واضح.
والجواب: ان التقييد المفروض في النية لا يضر بصدق الامتثال على
كل حال حتى للامر بالأقل ما دام الانبعاث عن الامر فعليا.
البرهان السادس:
وهو يجري في الواجبات التي اعتبرت الزيادة فيها مانعة ومبطلة
كالصلاة، والزيادة هي الاتيان بفعل بقصد الجزئية للمركب مع عدم
وقوعه جزءا له شرعا. وحاصل البرهان ان من يشك في جزئية السورة
يعلم اجمالا اما بوجوب الاتيان بها واما بان الاتيان بها بقصد الجزئية
مبطل، لأنها إن كانت جزءا حقا وجب الاتيان بها والا كان الاتيان بها
بقصد الجزئية زيادة مبطلة، وهذا العلم الاجمالي منجز وتحصل موافقته
122

القطعية بالاتيان بها بدون قصد الجزئية بل لرجاء المطلوبية أو للمطلوبية في
الجملة.
والجواب: ان هذا العلم الاجمالي منحل، وذلك لان هذا الشاك في
الجزئية يعلم تفصيلا بمبطلية الاتيان بالسورة بقصد الجزئية حتى لو كانت
جزءا في الواقع، لان ذلك منه تشريع ما دام شاكا في الجزئية فيكون محرما
ولا يشمله الوجوب الضمني للسورة وهذا يعنى كونه زيادة.
123

- 2 -
الدوران بين الأقل والأكثر في الشرائط
والتحقيق فيها - على ضوء المسألة السابقة - هو جريان البراءة عن
وجوب الزائد، لان مرجع الشرطية للواجب إلى تقيد الفعل الواجب بقيد
وانبساط الامر على التقيد كما تقدم في موضعه، فالشك فيها شك في الامر
بالتقيد، والدوران انما هو بين الأقل والأكثر إذا لوحظ المقدار الذي يدخل
في العهدة، وهذا يعني وجود علم تفصيلي بالأقل وشك بدوي في الزائد
فتجري البراءة عنه.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون الشرط المشكوك راجعا إلى متعلق
الامر كما في الشك في اشتراط العتق بالصيغة العربية واشتراط الصلاة
بالطهارة، أو إلى متعلق المتعلق كما في الشك في اشتراط الرقبة التي يجب
عتقها بالايمان، أو الفقير الذي يجب اطعامه بالهاشمية.
وقد ذهب المحقق العراقي (قدس الله روحه) إلى عدم جريان
البراءة في بعض الحالات المذكورة، ومرد دعواه إلى أن الشرطية المحتملة
على تقدير ثبوتها تارة تتطلب من المكلف في حالة ارادته الاتيان بالأقل أن
يكمله ويضم إليه شرطه، وأخرى تتطلب منه في الحالة المذكورة صرفه عن
ذلك الأقل الناقص رأسا والغاءه إذا كان قد أتى به ودفعه إلى الاتيان بفرد
آخر كامل واجد للشرط. ومثال الحالة الأولى: ان يعتق رقبة كافرة فان
شرطية الايمان في الرقبة تتطلب منه ان يجعلها مؤمنة عند عتقها، وحيث
124

ان جعل الكافر مؤمنا ممكن، فالشرطية لا تقتضي إلغاء الأقل رأسا بل
تكميله وذلك بان يجعل الكافر مؤمنا عند عتقه له فيعتقه وهو مؤمن.
ومثال الثاني: ان يطعم فقيرا غير هاشمي فان شرطية الهاشمية
تتطلب منه إلغاء ذلك رأسا وصرفه إلى الاتيان بفرد جديد من الاطعام،
لان غير الهاشمي لا يمكن جعله هاشميا.
ففي الحالة الأولى: تجري البراءة عن الشرطية المشكوكة لان مرجع
الشك فيها إلى الشك في ايجاب ضم امر زائد إلى ما أتى به بعد الفراغ عن
كون ما أتى به مصداقا للمطلوب في الجملة. وهذا معنى العلم بوجوب
الأقل والشك في وجوب الزائد فالأقل محفوظ على كل حال والزائد
مشكوك.
وفي الحالة الثانية: لا تجري البراءة عن الشرطية لان الأقل المأتي به
ليس محفوظا على كل حال، إذ على تقدير الشرطية لا بد من إلغائه رأسا،
فليس الشك في وجوب ضم امر زائد إلى ما أتى به ليكون من دوران الامر
بين الأقل والأكثر.
وهذا التحقيق لا يمكن الاخذ به فان الدوران في كلتا الحالتين دوران
بين الأقل والأكثر لان الملحوظ فيه انما هو عالم الجعل وتعلق الوجوب،
وفي هذا العالم ذات الطبيعي معروض للوجوب جزما ويشك في عروضه
على التقيد فتجري البراءة عنه، وليس الملحوظ في الدوران عالم التطبيق
خارجا ليقال: ان ما اتي به من الأقل خارجا قد لا يصلح لضم الزائد إليه
ولا بد من إلغائه رأسا على تقدير الشرطية.
ولا يختلف الحال في جريان البراءة عند الشك في الشرطية ووجوب
التقيد بين أن يكون القيد المشكوك امرا وجوديا وهو ما يعبر عنه بالشرط
عادة أو عدم امر وجودي، ويعبر عن الامر الوجودي حينئذ بالمانع، فكما لا
يجب على المكلف ايجاد ما يحتمل شرطيته، وكذلك لا يجب عليه الاجتناب
عما يحتمل مانعيته، وذلك لجريان الأصل المؤمن
125

- 3 -
دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي
وذلك بان يعلم بوجوب متعلق بعنوان خاص أو بعنوان آخر مغاير له
مفهوما غير أنه أعم منه صدقا، كما إذا علم بوجوب الاطعام اما لطبيعي
الحيوان أو لنوع خاص منه كالانسان، فان الحيوان والانسان كمفهومين
متغايران، وان كان أحدهما أعم من الآخر صدقا.
والصحيح ان يقال: ان التغاير بين المفهومين تارة يكون على أساس
الاجمال والتفصيل في اللحاظ كما في الجنس والنوع فان الجنس مندمج في
النوع ومحفوظ فيه ولكن بنحو اللف والاجمال.. وأخرى يكون التغاير في
ذات الملحوظ لا في مجرد اجمال اللحاظ وتفصيليته، كما لو علم بوجوب
اكرام زيد كيفما اتفق أو بوجوب اطعامه، فان مفهوم الاكرام ليس محفوظا
في مفهوم الاطعام انحفاظ الجنس في النوع غير أن أحدهما أعم من الآخر
صدقا.
فالحالة الأولى: تدخل في نطاق الدوران بين الأقل والأكثر حقيقة
إذا اخذنا بالاعتبار مقدار ما يدخل في العهدة، وليست من الدوران بين
المتباينين، لان تباين المفهومين انما هو بالاجمال والتفصيل وهما من
خصوصيات اللحاظ التي لا تدخل في العهدة وانما يدخل فيها ذات الملحوظ
وهو مردد بين الأقل وهو الجنس - أو الأكثر - وهو النوع -.
واما الحالة الثانية: فالتباين فيها بين المفهومين ثابت في ذات الملحوظ
126

لا في كيفية لحاظهما، ومن هنا كان الدوران فيها دورانا بين المتباينين، لان
الداخل في العهدة اما هذا المفهوم أو ذاك وهذا يعني ان العلم الاجمالي
ثابت، ولكن مع هذا تجري البراءة عن وجوب أخص العنوانين صدقا،
ولا تعارضها البراءة عن وجوب أعمهما وفقا للجواب الأخير من الأجوبة
المتقدمة على البرهان الأول في المسألة الأولى من مسائل الدوران بين الأقل والأكثر
الارتباطيين، وذلك: ان البراءة عن وجوب الأعم ليس لها دور
معقول لكي تصلح للمعارضة، لأنه ان أريد بها التأمين في حالة ترك
الأعم مع الاتيان بالأخص فهو غير معقول لان نفي الأعم يتضمن نفي
الأخص لا محالة، وان أريد بها التأمين في حالة ترك الأعم بما يتضمنه من
ترك الأخص فهذا مستحيل لان المخالفة القطعية ثابتة في هذه الحالة
والأصل العملي انما يؤمن عن المخالفة الاحتمالية لا القطعية.
127

- 4 -
دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي
ونتكلم في حكم هذا الدوران على عدة مبان في تصوير التخيير
الشرعي الذي هو أحد طرفي الترديد في المقام.
فأولا: - نبدأ بالمبني القائل بان مرجع التخيير الشرعي إلى وجوبين
مشروطين وشرط كل منهما ترك متعلق الآخر، وهذا يعني ان (العتق) مثلا
الذي علم وجوبه اما تعيينا أو تخييرا واجب في حالة ترك (الاطعام) بلا
شك، ويشك في وجوبه حالة وقوع الاطعام فتجري البراءة عن هذا
الوجوب وينتج ذلك التخيير عمليا.
وقد يقال - كما في بعض إفادات المحقق العراقي -: ان كلا من
الوجوب التعييني للعتق والوجوب التخييري فيه حيثية الزامية يفقدها
الآخر، فيكون كل منهما مجرى للأصل النافي ويتعارض الأصلان.
اما الحيثية الالزامية في الوجوب التعييني للعتق التي يجري الأصل
النافي للتأمين عنها. فهي الالزام بالعتق حتى ممن أطعم، وهي حيثية لا
يشتمل عليها الوجوب التخييري.
واما الحيثية الالزامية في الوجوب التخييري للعتق أو الاطعام التي
يجري الأصل النافي للوجوب التخييري تأمينا عنها. فهي تحريم ضم ترك
الاطعام إلى ترك العتق، إذ بهذا الضم تتحقق المخالفة، وهي حيثية لا
128

يشتمل عليها الوجوب التعييني للعتق إذ على الوجوب التعييني تكون
المخالفة متحققة بنفس ترك العتق، ولا يكون هناك بأس في ضم ترك
الاطعام إلى ترك العتق، لأنه من ضم ترك المباح إلى ترك الواجب،
فالبراءة عن وجوب العتق ممن أطعم معارضة بالبراءة عن حرمة ترك
الاطعام ممن ترك العتق.
وهذا البيان وان كان يثبت علما اجماليا بإحدى حيثيتين الزاميتين،
ولكن هذا العلم غير منجز بل منحل حكما لجريان البراءة الأولى وعدم
معارضتها بالبراءة الثانية، لان فرض جريانها هو فرض وقوع المخالفة
القطعية، ولا يعقل التأمين مع المخالفة القطعية، بخلاف فرض جريان
البراءة الأولى فإنه فرض المخالفة الاحتمالية.
وثانيا: - نأخذ المبني القائل بان مرجع التخيير الشرعي إلى التخيير
العقلي، والحكم حينئذ هو الحكم في المسألة السابقة فيما إذا دار الواجب
بين اكرام زيد مطلقا وإطعامه خاصة.
وثالثا: - نأخذ المبني القائل بان مرجع الوجوب التخييري إلى وجود
غرضين لزوميين للمولى غير أنهما متزاحمان في مقام التحصيل، بمعنى ان
استيفاء أحدهما يعجز المكلف عن استيفاء الآخر، ومن هنا يحكم بوجوب
كل من الفعلين مشروطا بترك الآخر، والحكم هنا أصالة الاشتغال، لان
مرجع الشك في وجوب العتق تعيينا أو تخييرا حينئذ إلى الشك في أن
الاطعام هل يعجز عن استيفاء الغرض اللزومي من العتق، فيكون من
الشك في القدرة الذي تجري فيه أصالة الاشتغال.
129

- 5 -
ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر
فرغنا من المسائل الأساسية في دوران الامر بين الأقل والأكثر
الارتباطيين، وبقي علينا أن نذكر في ختام مسائل هذا الدوران ملاحظات
عامة حول الأقل والأكثر:
1 - دور الاستصحاب في هذا الدوران:
قد يتمسك بالاستصحاب في موارد هذا الدوران تارة لاثبات وجوب
الاحتياط، وأخرى لاثبات نتيجة البراءة.
اما التمسك به على الوجه الأول فبدعوى انا نعلم بجامع وجوب
مردد بين فردين من الوجوب وهما وجوب التسعة ووجوب العشرة،
ووجوب التسعة يسقط بالاتيان بالأقل، ووجوب العشرة لا يسقط بذلك،
فإذا أتى المكلف بالأقل شك في سقوط الجامع وجرى استصحابه، ويكون
من استصحاب القسم الثاني من الكلي.
والجواب على ذلك أن استصحاب جامع الوجوب ان أريد به اثبات
وجوب العشرة لان ذلك هو لازم بقائه، فهذا من الأصول المثبتة لأنه لازم
عقلي لا يثبت بالاستصحاب. وان أريد به الاقتصار على اثبات جامع
الوجوب، فهذا لا اثر له لأنه لا يزيد على العلم الوجداني بهذا الجامع،
وقد فرضنا ان العلم به لا ينجز سوى الأقل، والأقل حاصل في المقام
130

بحسب الفرض.
واما التمسك به على الوجه الثاني فباستصحاب عدم وجوب الزائد
الثابت قبل دخول الوقت أو في صدر عصر التشريع، ولا يعارض
باستصحاب عدم الوجوب الاستقلالي للأقل، إذ لا اثر لهذا الاستصحاب
لأنه ان أريد به اثبات وجوب الزائد بالملازمة فهو مثبت، وان أريد به
التأمين في حالة ترك الأقل فهو غير صحيح، لان فرض ترك الأقل هو
فرض المخالفة القطعية، ولا يصح التأمين بالأصل العملي إلا عن المخالفة
الاحتمالية.
2 - الدوران بين الجزئية والمانعية:
إذا تردد امر شئ بين كونه جزءا من الواجب أو مانعا عنه فمرجع
ذلك إلى العلم الاجمالي بوجوب زائد متعلق اما بالتقيد بوجود ذلك الشئ
أو بالتقيد بعدمه، وفي مثل ذلك يكون هذا العلم الاجمالي منجزا،
وتتعارض أصالة البراءة عن الجزئية مع أصالة البراءة عن المانعية، فيجب
على المكلف الاحتياط بتكرار العمل مرة مع الاتيان بذلك الشئ ومرة
بدونه. هذا فيما إذا كان في الوقت متسع وإلا جازت المخالفة الاحتمالية
بملاك الاضطرار وذلك بالاقتصار عل أحد الوجهين.
وقد يقال: ان العلم الاجمالي المذكور غير منجز ولا يمنع عن جريان
البراءتين معا، بناء على بعض صيغ الركن الرابع لتنجيز العلم الاجمالي،
وهي صيغة الميرزا القائلة بان تعارض الأصول مرهون بأداء جريانها إلى
الترخيص عمليا في المخالفة القطعية، فان جريان الأصول في المقام لا
يؤدي إلى ذلك، لان المكلف لا تمكنه المخالفة القطعية للعلم الاجمالي
المذكور، إذ في حالة الاتيان بالشئ المردد بين الجزء والمانع يحتمل الموافقة،
وفي حالة تركه يحتملها أيضا، فلا يلزم من جريان الأصلين معا ترخيص في
المخالفة القطعية.
131

فان قيل: الا تحصل المخالفة القطعية لو ترك المركب رأسا. قلنا:
نعم تحصل، ولكن هذا مما لا إذن فيه من قبل الأصلين حتى لو جريا
معا. ولكن يمكن ان يقال على ضوء صيغة الميرزا: ان المخالفة القطعية
للعلم الاجمالي المذكور ممكنة أيضا فيما إذا كان الشئ المردد بين الجزء
والمانع متقوما بقصد القربة على تقدير الجزئية، فإن المخالفة القطعية
حينئذ تحصل بالاتيان به بدون قصد القربة، ويكون جريان الأصلين معا
مؤديا إلى الاذن في ذلك فيتعارض الأصلان ويتساقطان.
3 - الأقل والأكثر في المحرمات:
كما قد يعلم اجمالا بواجب مردد بين التسعة والعشرة كذلك قد يعلم
بحرمة شئ مردد بين الأقل والأكثر، كما إذا علم بحرمة تصوير رأس
الحيوان أو تصوير كامل حجمه، ويختلف الدوران المذكور في باب الحرام
عنه في باب الواجب من بعض الجهات:
فأولا: - وجوب الأكثر هناك كان هو الأشد مؤونة، واما حرمة
الأكثر هنا فهي الأخف مؤونة، إذ يكفي في امتثالها ترك اي جزء،
فحرمة الأكثر في باب الحرام تناظر إذن وجوب الأقل في باب الواجب.
وثانيا: - ان دوران الحرام بين الأقل والأكثر يشابه دوران امر
الواجب بين التعيين والتخيير، لان حرمة الأكثر في قوة وجوب ترك أحد
الاجزاء تخييرا، وحرمة الأقل في قوة وجوب ترك هذا الجزء بالذات
تعيينا، فالامر دائر بين وجوب ترك أحد الاجزاء ووجوب ترك هذا الجزء
بالذات، وهذا يشابه دوران الواجب بين التعيين والتخيير لا الدوران بين
الأقل والأكثر في الاجزاء أو الشرائط. والحكم هو جريان البراءة عن
حرمة الأقل، ولا تعارضها البراءة عن حرمة الأكثر، بنفس البيان الذي
جرت بموجبه البراءة عن الوجوب التعييني للعتق بدون ان تعارض بالبراءة
عن الوجوب التخييري.
132

4 - الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر:
كما يمكن افتراض الشبهة الحكمية للدوران بين الأقل والأكثر كذلك
يمكن افتراض الشبهة الموضوعية، بان يكون مرد الشك إلى الجهل
بالحالات الخارجية لا الجهل بالجعل، كما إذا علم المكلف بان ما لا يؤكل
لحمه مانع في الصلاة، وشك في أن هذا اللباس هل هو مما لا يؤكل لحمه
أولا، فتجري البراءة عن مانعيته أو عن وجوب تقيد الصلاة بعدمه بتعبير
آخر.
وقد يقال - كما عن الميرزا (قدس سره) -: ان الشبهة الموضوعية
للواجب الضمني لا يمكن تصويرها الا إذا كان لهذا الواجب تعلق بموضوع
خارجي كما في هذا المثال. ولكن الظاهر امكان تصويرها في غير ذلك أيضا
وذلك بلحاظ حالات المكلف نفسه، كما إذا فرضنا ان السورة كانت واجبة
على غير المريض في الصلاة وشك المكلف في مرضه، فإن هذا يعنى الشك
في جزئية السورة مع أنها واجب ضمني لا تعلق له بموضوع خارجي.
والحكم هو البراءة.
5 - الشك في اطلاق دخالة الجزء أو الشرط:
كنا نتكلم عما إذا شك المكلف في جزئية شئ أو شرطيته مثلا
للواجب، وقد يتفق العلم بجزئية شئ أو دخالته في الواجب بوجه من
الوجود ولكن يشك في شمول هذه الجزئية لبعض الحالات، كما إذا علمنا
بان السورة جزء في الصلاة الواجبة وشككنا في اطلاق جزئيتها لحالة المرض
أو السفر، ومرجع ذلك إلى دوران الواجب بين الأقل والأكثر بلحاظ هذه
الحالة بالخصوص، فإذا لم يكن لدليل الجزئية اطلاق لها وانتهى الموقف إلى
الأصل العلمي، جرت البراءة عن وجوب الزائد في هذه الحالة، وهذا
133

على العموم لا اشكال فيه، ولكن قد يقع الاشكال في حالتين من هذه
الحالات وهما: حالة الشك في اطلاق الجزئية لصورة نسيان الجزء، وحالة
الشك في اطلاق الجزئية لصورة تعذره. ونتناول هاتين الحالتين فيما يلي
تباعا:
(أ) الشك في الاطلاق الحالة النسيان:
إذا نسي المكلف جزءا من الواجب، فأتى به بدون ذلك الجزء، ثم
التفت بعد ذلك إلى نقصان ما أتى به.. فإن كان لدليل الجزئية اطلاق
لحال النسيان اقتضى ذلك بطلان ما أتى به لأنه فاقد للجزء، من دون
فرق بين افتراض ارتفاع النسيان في أثناء الوقت، وافتراض استمراره إلى
آخر الوقت، وهذا هو معنى ان الأصل اللفظي في كل جزء يقتضي
ركنيته، اي بطلان المركب بالاخلال به نسيانا، واما إذا لم يكن لدليل
الجزئية اطلاق وانتهى الموقف إلى الأصل العملي، فقد يقال بجواز اكتفاء
الناسي بما أتى به، لان المورد من موارد الدوران بين الأقل والأكثر بلحاظ
حالة النسيان، والأقل واقع والزائد منفي بالأصل.
وتوضيح الحال في ذلك: ان النسيان تارة يستوعب الوقت كله،
وأخرى يرتفع في أثنائه.
ففي الحالة الأولى: لا يكون الواجب بالنسبة إلى الناسي مرددا بين
الأقل والأكثر، بل لا يحتمل التكليف بالأكثر بالنسبة إليه، لان الناسي
لا يكلف بما نسيه على اي حال. بل هو يعلم اما بصحة ما أتى به أو
بوجوب القضاء عليه، ومرجع هذا إلى الشك في وجوب استقلالي جديد
وهو وجوب القضاء، فتجري البراءة عنه حتى لو منعنا من البراءة في موارد
دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
واما في الحالة الثانية: فالتكليف فعلي في الوقت، غير أنه متعلق اما
بالجامع الشامل للصلاة الناقصة الصادرة حال النسيان، أو بالصلاة التامة
فقط، والأول معناه اختصاص جزئية المنسي بغير حال النسيان، والثاني
134

معناه اطلاق الجزئية لحال النسيان، والدوران بين وجوب الجامع ووجوب
الصلاة التامة تعيينا هو من انحاء الدوران بين الأقل والأكثر، ويمثل
الجامع فيه الأقل، وتمثل الصلاة التامة الأكثر، وتجري البراءة وفقا
للدوران المذكور.
ولكن قد يقال - كما في إفادات الشيخ الأنصاري وغيره - بان هذا انما
يصح فيما إذا كان بالامكان ان يكلف الناسي بالأقل، فإنه يدور عنده امر
الواجب حينئذ بين الأقل والأكثر، ولكن هذا غير ممكن لان التكليف
بالأقل ان خصص بالناسي فهو محال لان الناسي لا يرى نفسه ناسيا، فلا
يمكن لخطاب موجه إلى الناسي ان يصل إليه، وان جعل على المكلف
عموما شمل المتذكر أيضا مع أن المتذكر لا يكفي منه الأقل بلا إشكال،
وعليه فلا يمكن أن يكون الأقل واجبا في حق الناسي، وانما المحتمل
اجزاؤه عن الواجب، فالواجب إذن في الأصل هو الأكثر ويشك في
سقوطه بالأقل، وفي مثل ذلك لا تجري البراءة.
والجواب: ان التكليف بالجامع يمكن جعله وتوجيهه إلى طبيعي
المكلف، ولا يلزم منه جواز اقتصار المتذكر على الأقل، لأنه جامع بين
الصلاة الناقصة المقرونة بالنسيان والصلاة التامة، كما لا يلزم منه عدم
امكان الوصول إلى الناسي، لان موضوع التكليف هو طبيعي المكلف،
غاية ما في الامر ان الناسي يرى نفسه آتيا بأفضل الحصتين من الجامع مع أنه
انما تقع منه أقلهما قيمة، ولا محذور في ذلك.
وهذا الجواب أفضل مما ذكره عدد من المحققين في المقام، من حل
الاشكال وتصوير تكليف الناسي بالأقل بافتراض خاطبين: أحدهما متكفل
بايجاب الأقل على طبيعي المكلف، والآخر متكفل بايجاب الزائد على
المتذكر. إذ نلاحظ على ذلك: ان الأقل في الخطاب الأول هل هو مقيد
بالزائد، أو مطلق من ناحيته، أو مقيد بلحاظ المتذكر ومطلق بلحاظ
الناسي، أو مهمل. والأول خلف إذ معناه عدم كون الناسي مكلفا
بالأقل، والثاني كذلك لان معناه كون المتذكر مكلفا بالأقل وسقوط
135

الخطاب الأول بصدور الأقل منه، والثالث رجوع إلى الخطاب الواحد
الذي ذكرناه، ومعه لا حاجة إلى افتراض خطاب اخر يخص المتذكر،
والرابع غير معقول لان التقابل بين الاطلاق والتقييد في عالم الجعل تقابل
السلب والايجاب فلا يمكن انتفاؤهما معا.
وعلى هذا الأساس فالمقام من صغريات دوران الواجب بين الأقل والأكثر
، فيلحقه حكمه من جريان البراءة عن الزائد. بل التدقيق في
المقارنة يكشف عن وجود فارق يجعل المقام أحق بالبراءة من حالات
الدوران المذكور، وهو ان العلم بالواجب المردد بين الأقل والأكثر قد
يدعي كونه في حالات الدوران المذكور علما اجماليا منجزا، وهذه الدعوى
لئن قبلت في تلك الحالات فهناك سبب خاص يقتضي رفضها في المقام
وعدم امكان افتراض علم اجمالي منجز هنا، وهو ان التردد بين الأقل والأكثر
في المقام انما يحصل للناسي بعد ارتفاع النسيان، والمفروض انه قد
أتى بالأقل في حالة النسيان، وهذا يعني انه يحصل بعد امتثال أحد
طرفيه، فهو نظير ان تعلم اجمالا بوجوب زيارة أحد الامامين بعد أن تكون
قد زرت أحدهما، ومثل هذا العلم الاجمالي غير منجز بلا شك حتى لو
كان التردد فيه بين المتباينين فضلا عما إذا كان بين الأقل والأكثر. وخلافا
لذلك حالات الدوران الاعتيادية فان التردد فيها يحصل قبل الاتيان بالأقل
فإذا تشكل منه علم اجمالي كان منجزا.
(ب) الشك في الاطلاق لحالة التعذر:
إذا كان الجزء جزءا حتى في حالة التعذر كان معنى ذلك أن العاجز
عن الكل المشتمل عليه لا يطالب بالناقص، وإذا كان الجزء جزءا في حالة
التمكن فقط فهذا يعني انه في حالة العجز لا ضرر من نقصه وان العاجز
يطالب بالناقص. والتعذر تارة يكون في جزء من الوقت وأخرى يستوعبه.
ففي الحالة الأولى: يحصل للمكلف علم اما بوجوب الجامع بين
136

الصلاة الناقصة حال العجز والصلاة التامة، أو بوجوب الصلاة التامة عند
ارتفاع العجز، لان جزئية المتعذر ان كانت ساقطة في حال التعذر
فالتكليف متعلق بالجامع، والا كان متعلقا بالصلاة التامة عند ارتفاع
التعذر، وتجري البراءة حينئذ عن وجوب الزائد وفقا لحالات الدوران بين
الأقل والأكثر. ويلاحظ ان التردد هنا بين الأقل والأكثر يحصل قبل
الاتيان بالأقل خلافا لحال الناسي، لان العاجز عن الجزء يلتفت إلى حاله
حين العجز.
وفي الحالة الثانية: يحصل للمكلف علم اجمالي اما بوجوب الناقص
في الوقت أو بوجوب القضاء - إذا كان للواجب قضاء - لان جزئية المتعذر
ان كانت ساقطة في حال التعذر فالتكليف متعلق بالناقص في الوقت، والا
كان الواجب القضاء، وهذا علم اجمالي منجز.
وليعلم ان الجزئية في حال النسيان أو في حال التعذر انما تجري
البراءة عند الشك فيها إذا لم يكن بالامكان توضيح الحال عن طريق الأدلة
المحرزة، وذلك بأحد الوجوه التالية:
أولا: - ان يقوم دليل خاص على اطلاق الجزئية أو اختصاصها،
من قبيل حديث (لا تعاد الصلاة الا من خمس...).
ثانيا: - أن يكون لدليل الجزئية اطلاق يشمل حالة النسيان أو
التعذر فيؤخذ باطلاقه، ولا مجال حينئذ للبراءة
ثالثا: - أن لا يكون لدليل الجزئية اطلاق بان كان مجملا من هذه
الناحية وكان لدليل الواجب اطلاق يقتضي في نفسه عدم اعتبار ذلك الجزء
رأسا، ففي هذه الحالة يكون دليل الجزئية مقيدا لاطلاق دليل الواجب
بمقداره، وحيث إن دليل الجزئية لا يشمل حال التعذر أو النسيان فيبقى
اطلاق دليل الواجب محكما في هاتين الحالتين، ودالا على عدم الجزئية
فيهما.
137

الاستصحاب
139

الأصول العملية
- 3 -
1 - أدلة الاستصحاب.
2 - الاستصحاب أصل أو امارة؟.
3 - أركان الاستصحاب.
4 - مقدار ما يثبت بالاستصحاب.
5 - عموم جريان الاستصحاب.
6 - تطبيقات.
141

أدلة الاستصحاب
الاستصحاب قاعدة من القواعد الأصولية المعروفة، وقد تقدم في
الحلقة السابقة الكلام عن تعريفه والتمييز بينه وبين قاعدة اليقين وقاعدة
المقتضي والمانع. والمهم الآن استعراض أدلة هذه القاعدة، ولما كان أهم
أدلتها الروايات، فسنعرض فيما يلي عددا من الروايات التي استدل بها على
الاستصحاب كقاعدة عامة:
الرواية الأولى:
رواية زرارة - (قال: قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء،
أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟. فقال: يا زرارة، قد تنام العين
ولا ينام القلب والاذن، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء.
قلت: فإن حرك على جنبه شئ ولم يعلم به؟. قال: لا حتى يستيقن انه
قد نام حتى يجئ من ذلك أمر بين، والا فإنه على يقين من وضوئه ولا
تنقض اليقين ابدا بالشك وانما تنقضه بيقين آخر) (1).
وتقريب الاستدلال: انه حكم ببقاء الوضوء مع الشك في انتقاضه
تمسكا بالاستصحاب، وظهور التعليل في كونه بامر عرفي مركوز يقتضي
كون الملحوظ فيه كبرى الاستصحاب المركوزة لا قاعدة مختصة بباب

(1) وسائل الشيعة الجزء الأول / أبواب نواقض الوضوء الباب الأول / ح 1.
143

الوضوء، فيتعين حمل اللام في اليقين والشك على الجنس لا العهد إلى
اليقين والشك في باب الوضوء خاصة، وقد تقدم في الحلقة السابقة تفصيل
الكلام عن فقه فقرة الاستدلال وتقريب دلالتها واثبات كليتها فلاحظ.
الرواية الثانية:
وهي رواية أخرى لزرارة كما يلي:
1 - " قلت: أصاب ثوبي دم رعاف (أو غيره) أو شئ من مني،
فعلمت اثره إلى أن أصيب له (من) الماء. فأصبت وحضرت الصلاة،
ونسيت ان بثوبي شيئا، وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك؟. قال: تعيد
الصلاة وتغسله.
2 - قلت: فاني لم أكن رأيت موضعه، وعلمت انه قد اصابه،
فطلبته فلم أقدر عليه، فلما صليت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد الصلاة.
3 - قلت: فان ظننت أنه قد اصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم
أر شيئا، ثم صليت فرأيت فيه؟. قال: تغسله ولا تعيد الصلاة.
قلت: ولم ذلك؟. قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك، ثم
شككت، وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا.
4 - قلت: فاني قد علمت أنه قد اصابه، ولم أدر أين هو
فأغسله؟. قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى
تكون على يقين من طهارتك.
5 - قلت: فهل علي ان شككت في أنه اصابه شئ ان انظر فيه؟.
قال: لا، ولكنك انما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك.
6 - قلت: إن رأيته في ثوبي وانا في الصلاة؟. قال: تنقض
الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته
رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعله
144

شئ أوقع عليك فليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك " (1).
وتشتمل هذه الرواية على ستة أسئلة من الراوي مع أجوبتها، وموقع
الاستدلال ما جاء في الجواب على السؤال الثالث والسادس، غير انا
سنستعرض فقه الأسئلة الستة وأجوبتها جميعا لما لذلك من دخل في تعميق
فهم موضعي الاستدلال من الرواية.
ففي السؤال الأول: يستفهم زرارة عن حكم من علم بنجاسة ثوبه
ثم نسي ذلك وصلى فيه وتذكر الامر بعد الصلاة، وقد افتى الامام بوجوب
إعادة الصلاة لوقوعها مع النجاسة المنسية وغسل الثوب.
وفي السؤال الثاني: سأل عمن علم بوقوع النجاسة على الثوب
ففحص ولم يشخص موضعه فدخل في الصلاة باحتمال ان عدم التشخيص
مسوغ للدخول فيها مع النجاسة ما دام لم يصبها بالفحص، وقوله فطلبته
ولم أقدر عليه انما يدل على ذلك ولا يدل على أنه بعدم التشخيص زال
اعتقاده بالنجاسة، فان عدم القدرة غير حصول التشكيك في الاعتقاد
السابق ولا يستلزمه، وقد افتى الامام بلزوم الغسل والإعادة لوقوع الصلاة
مع النجاسة المعلومة اجمالا.
وفي السؤال الثالث: افترض زرارة انه ظن الإصابة ففحص فلم
يجد فصلى فوجد النجاسة، فأفتى الامام بعدم الإعادة وعلل ذلك بأنه كان
على يقين من الطهارة فشك، ولا ينبغي نقض اليقين بالشك.
وهذا المقطع هو الموضع الأول للاستدلال، وفي بادئ الامر يمكن
طرح أربع فرضيات في تصوير الحالة التي طرحت في هذا المقطع:
الفرضية الأولى: ان يفرض حصول القطع بعدم النجاسة عند
الفحص وعدم الوجدان، وحصول القطع عند الوجدان بعد الصلاة بان

(1) جامع أحاديث الشيعة / المجلد الأول / أبواب النجاسات / باب 23 / ح 5.
145

النجاسة هي نفس ما فحص عنه ولم يجده أولا. وهذه الفرضية غير منطبقة
على المقطع جزما، لأنها لا تشتمل على شك لا قبل الصلاة ولا بعدها،
مع أن الامام قد افترض الشك وطبق قاعدة من قواعد الشك.
الفرضية الثانية: ان يفرض حصول القطع بعدم النجاسة عند
الفحص كما سبق، والشك عند وجدان النجاسة بعد الصلاة في أنها تلك
أو نجاسة متأخرة. وهذه الفرضية تصلح لاجراء الاستصحاب فعلا في
ظرف السؤال، لان المكلف على يقين من عدم النجاسة قبل ظن الإصابة
فيستصحب. كما انها تصلح لاجراء قاعدة اليقين فعلا في ظرف السؤال،
لان المكلف كان على يقين من الطهارة بعد الفحص وقد شك الآن في
صحة يقينه هذا.
الفرضية الثالثة: عكس الفرضية السابقة بان يفرض عدم حصول
القطع بالعدم عند الفحص، وحصول القطع عند وجدان النجاسة بأنها ما
فحص عنه. وفي مثل ذلك لا يمكن اجراء اي قاعدة للشك فعلا في ظرف
السؤال لعدم الشك، وانما الممكن جريان الاستصحاب في ظرف الفحص
والاقدام على الصلاة.
الفرضية الرابعة: عكس الفرضية الأولى بافتراض الشك حين
الفحص وحين الوجدان. ولا مجال حينئذ لقاعدة اليقين إذ لم يحصل شك
في خطأ يقين سابق، وهناك مجال لجريان الاستصحاب حال الصلاة وحال
السؤال معا.
ومن هنا يعرف ان الاستدلال بالمقطع المذكور على الاستصحاب
موقوف على حمله على احدى الفرضيتين الأخيرتين، أو على الفرضية الثانية
مع استظهار إرادة الاستصحاب.
وفي السؤال الرابع: سال عن حالة العلم الاجمالي بالنجاسة في
الثوب، وأجيب بلزوم الاعتناء والاحتياط.
146

وفي السؤال الخامس: سأل عن وجوب الفحص عند الشك،
وأجيب بالعدم.
وفي السؤال السادس: يقع الموضع الثاني من الاستدلال بالرواية،
حيث إنه سأل عما إذا وجد النجاسة في الصلاة، فأجيب انه إذا كان قد
شك في موضع منه ثم رآه قطع الصلاة وأعادها، وإذا لم يشك ثم رآه
رطبا غسله وبنى على صلاته لاحتمال عدم سبق النجس ولا ينبغي ان
ينقض اليقين بالشك.
ويحتمل ان يراد بالشق الأول صورة العلم الاجمالي، وبالشق الثاني
المبدوء بقوله (وإن لم تشك) صورة الشك البدوي.
ويحتمل ان يراد بالشق الأول صورة الشك البدوي السابق ثم
وجدان نفس ما كان يشك فيه، وبالشق الثاني صورة عدم وجود شك
سابق ومفاجأة النجاسة للمصلي في الأثناء. ولكل من الاحتمالين
معززات، والنتيجة المفهومة واحدة على التقديرين، وهي: ان النجاسة
المرئية في أثناء الصلاة إذا علم بسبقها بطلت الصلاة والا جرى استصحاب
الطهارة وكفى غسلها واكمال الصلاة.
وقد ادعي في كلمات الشيخ الأنصاري وقوع التعارض بين هذه
الفتوى في الرواية والفتوى الواقعة في جواب السؤال الثالث إذا حملت على
الفرضية الثالثة، إذ في كلتا الحالتين وقعت الصلاة في النجاسة جهلا اما
بتمامها كما في مورد السؤال الثالث أو بجزء منها كما في مورد السؤال
السادس، فكيف حكم بصحة الصلاة في الأول وبطلانها في الثاني؟.
والجواب: ان كون النجاسة قد انكشفت وعلمت في أثناء الصلاة،
قد يكون له دخل في عدم العفو عنها، فلا يلزم من العفو عن نجاسة لم
تعلم أثناء الصلاة العفو عن نجاسة علمت كذلك.
هذا حاصل الكلام في فقه الرواية.
147

واما تفضيل الكلام في موقعي الاستدلال فيقع في مقامين:
المقام الأول: في الموقع الأول، والكلام فيه في جهات:
الأولى: ان الظاهر من جواب الامام تطبيق الاستصحاب لا قاعدة
اليقين، وذلك لان تطبيق الامام لقاعدة على السائل متوقف على أن يكون
كلامه ظاهرا في تواجد أركان تلك القاعدة في حالته المفروضة، ولا شك
في ظهور كلام السائل في تواجد أركان الاستصحاب من اليقين بعدم
النجاسة حدوثا والشك في بقائها، واما تواجد أركان قاعدة اليقين فهو
متوقف على أن يكون قوله: فنظرت فلم أر شيئا... مفيدا لحصول
اليقين بعدم النجاسة حين الصلاة بسبب الفحص وعدم الوجدان، وأن يكون
قوله: فرأيت فيه: مفيدا لرؤية نجاسة يشك في كونها هي
المفحوص عنها سابقا. مع أن العبارة الأولى ليست ظاهرة عرفا في افتراض
حصول اليقين حتى لو سلمنا ظهور العبارة الثانية في الشك.
الجهة الثانية: - ان الاستصحاب هل أجري بلحاظ حال الصلاة أو
بلحاظ حال السؤال؟. وتوضيح ذلك: ان قوله: فرأيت فيه. ان كان
ظاهرا في رؤية نفس ما فحص عنه سابقا فلا معنى لاجراء الاستصحاب
فعلا، كما أن قوله: فنظرت فلم أر شيئا. إذا كان ظاهرا في حصول
اليقين بالفحص فلا معنى لجريانه حال الصلاة.
والصحيح: انه لا موجب لحمل قوله: فرأيت فيه. على رؤية ما
يعلم بسبقه، فان هذه عناية إضافية تحتاج إلى قرينة عند تعلق الغرض
بإفادتها، ولا قرينة، بل حذف المفعول بدلا عن جعله ضميرا راجعا إلى
النجاسة المعهود ذكرها سابقا يشهد لعدم افتراض اليقين بالسبق. وعليه
فالاستصحاب جار بلحاظ حال السؤال، ويؤيد ذلك أن قوله: (فنظرت
فلم أر شيئا) وإن لم يكن له ظهور في حصول اليقين.. ولكنه ليس له
ظهور في خلاف ذلك، لان إفادة حصوله بمثل هذا اللسان عرفية. فكيف
148

يمكن تحميل السائل افتراض الشك حال الصلاة وافتاؤه بجريان
الاستصحاب حينها؟.
وليس في مقابل تنزيل الرواية على اجراء الاستصحاب بلحاظ حال
السؤال إلا استبعاد استغراب زرارة من الحكم بصحة الصلاة حينئذ، لان
فرض ذلك هو فرض عدم العلم بسبق النجاسة، فأي استبعاد في أن
يحكم بعدم إعادة صلاة لا يعلم بوقوعها مع النجاسة؟. فالاستبعاد
المذكور قرينة على أن المفروض حصول اليقين للسائل بعد الصلاة بسبق
النجاسة، ومن هنا استغرب الحكم بصحتها، وهذا يعني ان اجراء
الاستصحاب انما يكون بلحاظ حال الصلاة لا حال السؤال.
ولكن يمكن الرد على هذا الاستبعاد بأنه لا يمتنع أن يكون ذهن زرارة
مشوبا بان المسوغ للصلاة مع احتمال النجاسة الظن بعدمها الحاصل من
الفحص، وحيث إن هذا الظن يزول بوجدان النجاسة بعد الصلاة على
نحو يحتمل سبقها. كان زرارة يترقب أن لا يكتفي بالصلاة الواقعة.
فان تم هذا الرد فهو، والا ثبت تنزيل الرواية على اجراء الاستصحاب
بلحاظ حال الصلاة، ويصل الكلام حينئذ إلى الجهة الثالثة.
الجهة الثالثة: - إنا إذا افترضنا كون النجاسة المكشوفة معلومة السبق
وان الاستصحاب انما يجري بلحاظ حال الصلاة. فكيف يستند في عدم
وجوب الإعادة إلى الاستصحاب، مع أنه حكم ظاهري يزول بانكشاف
خلافه ومع زواله وانقطاعه لا يمكن ان يرجع إليه في نفي الإعادة؟.
وقد أجيب على ذلك تارة بان الاستناد إلى الاستصحاب في عدم
وجوب الإعادة يصح إذا افترضنا ملاحظة كبرى مستترة في التعليل، وهي
اجزاء امتثال الحكم الظاهري عن الواقع.. وأخرى بان الاستناد المذكور
يصح إذا افترضنا ان الاستصحاب أو الطهارة الاستصحابية بنفسها تحقق
فردا حقيقيا من الشرط الواقعي للصلاة، بان كان الشرط الواقعي هو
الجامع بين الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية، إذ بناء على ذلك تكون
149

الصلاة واجدة لشرطها حقيقة.
الجهة الرابعة: انه بعد الفراغ عن دلالة المقطع المذكور على
الاستصحاب. نقول: انه ظاهر في جعله على نحو القاعدة الكلية، ولا
يصح حمل اليقين والشك على اليقين بالطهارة والشك فيها خاصة، لنفس
ما تقدم من مبرر للتعميم في الرواية السابقة، بل هو هنا أوضح لوضوح
الرواية في أن فقرة الاستصحاب وردت تعليلا للحكم، وظهور كلمة (لا
ينبغي) في الإشارة إلى مطلب مركوز وعقلائي. وعلى هذا فدلالة المقطع
المذكور على المطلوب تامة.
المقام الثاني: في الموقع الثاني من الاستدلال، وهو قوله (وإن لم
تشك..) في جواب السؤال السادس. وتوضيح الحال في ذلك: ان
عدم الشك هنا تارة يكون بمعنى القطع بعدم النجاسة، وأخرى بمعنى عدم
الشك الفعلي الملائم مع الغفلة والذهول أيضا.
فعلى الأولى: - تكون أركان الاستصحاب مفترضة في كلام السائل
وكذلك أركان قاعدة اليقين. اما الافتراض الأول فواضح، واما
الافتراض الثاني فلان اليقين حال الصلاة مستفاد بحسب الفرض من قوله
(وإن لم تشك) والشك في خطأ ذلك اليقين قد تولد عند رؤية النجاسة
أثناء الصلاة مع احتمال سبقها. وعليه فكما يمكن تنزيل القاعدة في جواب
الامام على الاستصحاب كذلك يمكن تنزيلها على قاعدة اليقين، غير أنه
يمكن تعيين الأول بلحاظ ارتكازية الاستصحاب ومناسبة التعليل والتعبير
بلا ينبغي لكون القاعدة مركوزة، واما قاعدة اليقين فليست مركوزة.
هذا مضافا إلى أن استعمال نفس التركيب الذي أريد منه
الاستصحاب في جواب السؤال الثالث في نفس الحوار يعزز بوحدة السياق
أن يكون المقصود واحدا في المقامين.
وعلى الثاني: - يكون الحمل على الاستصحاب أوضح، إذ لم
150

يعترض حينئذ في كلام الامام اليقين بعدم النجاسة حين الصلاة لكي تكون
أركان قاعدة اليقين مفترضة، فيتعين بظهور الكلام حمل القاعدة المذكورة
على ما فرض تواجد أركانه وهو الاستصحاب. وهكذا تتضح دلالة المقطع
الثاني على الاستصحاب أيضا.
الرواية الثالث:
وهي رواية زرارة " عن أحدهما (ع) قال: قلت له: من لم يدر في
أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟. قال: يركع ركعتين وأربع
سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شئ عليه، وإذا لم يدر في
ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها ركعة أخرى ولا
شئ عليه، ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا
يخلط أحدهما بالآخر، ولكن ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين فيبني
عليه، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات " (1).
وفقرة الاستدلال في هذه الرواية تماثل ما تقدم في الروايتين
السابقتين، وهي قوله (ولا ينقض اليقين بالشك..). وتقريبه: ان
المكلف في الحالة المذكورة على يقين من عدم الاتيان بالرابعة في بادئ
الامر، ثم يشك في اتيانها، وبهذا تكون أركان الاستصحاب تامة في
حقه، فيجري استصحاب عدم الاتيان بالركعة الرابعة. وقد أفتاه الامام
على هذا الأساس بوجوب الاتيان بركعة عند الشك المذكور، واستند في
ذلك إلى الاستصحاب المذكور معبرا عنه بلسان (ولا ينقض اليقين
بالشك). ولكن يبقي على هذا التقريب ان يفسر لنا النكتة في تلك الجمل
المتعاطفة بما استعملته من ألفاظ متشابهة، من قبيل: عدم ادخال الشك في

(1) الاستبصار ج 9 / أبواب السهو والنسيان / باب من شك في اثنين وأربعة.
151

اليقين، وعدم خلط أحدهما بالآخر، فان ذلك يبدو غامضا بعض
الشئ. وقد اعترض على الاستدلال المذكور باعتراضات:
الأول: دعوى أن اليقين والشك في فقرة الاستدلال لا ظهور لهما
في ركني الاستصحاب بل من المحتمل ان يراد بهما اليقين بالفراغ والشك
فيه، ومحصل الجملة حينئذ انه لا بد من تحصيل اليقين بالفراغ، ولا
ينبغي رفع اليد عن ذلك بالشك ومجرد احتمال الفراغ، وهذا أجنبي عن
الاستصحاب.
والجواب: ان هذا الاحتمال مخالف لظاهر الرواية، لظهورها في
افتراض يقين وشك فعلا، وفي ان العمل بالشك نقض لليقين وطعن
فيه، مع أنه بناء على الاحتمال المذكور لا يكون اليقين فعليا ولا يكون
العمل بالشك نقضا لليقين بل هو نقض لحكم العقل بوجوب تحصيله.
الثاني: - ان تطبيق الاستصحاب على مورد الرواية متعذر، فلا بد من
تأويلها. وذلك لان الاستصحاب ليست وظيفته إلا احراز مؤداه
والتعبد بما ثبت له من آثار شرعية، وعليه فان أريد في المقام باستصحاب
عدم اتيان الرابعة، التعبد بوجوب اتيانها موصولة كما هو الحال في غير
الشاك.. فهذا يتطابق مع وظيفة الاستصحاب ولكنه باطل من الناحية
الفقهية جزما لاستقرار المذهب على وجوب الركعة المفصولة، وان أريد
بالاستصحاب المذكور التعبد بوجوب اتيان الركعة مفصولة، فهذا يخالف
وظيفة الاستصحاب، لان وجوب الركعة المفصولة ليس من آثار عدم
الاتيان بالركعة الرابعة لكي يثبت باستصحاب العدم المذكور وانما هو من
آثار نفس الشك في اتيانها.
وقد أجيب على هذا الاعتراض بأجوبة:
منها: - ما ذكره المحقق العراقي من اختيار الشق الأول وحمل تطبيق
الاستصحاب المقتضى للركعة الموصولة على التقية مع الحفاظ على جدية
152

الكبرى وواقعيتها، فأصالة الجهة والجد النافية للهزل والتقية تجري في
الكبرى دون التطبيق.
فان قيل: إن الكبرى ان كانت جدية فتطبيقها صوري، وان كانت
صورية فتطبيقها بما لها من المضمون جدي، فأصالة الجد في الكبرى
تعارضها أصالة الجد في التطبيق.. كان الجواب: ان أصالة الجد في
التطبيق لا تجري إذ لا اثر لها للعلم بعدم كونه تطبيقا جادا لكبري جادة
على اي حال، فتجري أصالة الجهة في الكبرى بلا معارض.
ولكن الانصاف: ان الحمل على التقية في الرواية بعيد جدا بملاحظة
ان الامام قد تبرع بذكر فرض الشك في الرابعة، وان الجمل المترادفة التي
استعملها تدل على مزيد الاهتمام والتأكيد بنحو لا يناسب التقية.
ومنها: - ما ذكره صاحب الكفاية (رحمه الله) من أن عدم الاتيان
بالركعة الرابعة، له أثران: أحدهما: وجوب الاتيان بركعة، والآخر:
مانعية التشهد والتسليم قبل الاتيان بهذه الركعة. ومقتضى استصحاب
العدم المذكور التعبد بكلا الأثرين، غير أن قيام الدليل على فصل ركعة
الاحتياط يخصص دليل الاستصحاب ويصرفه إلى التعبد بالأثر الأول لمؤداه
دون الثاني، فاجراء الاستصحاب مع التبعيض في آثار المؤدي صحيح.
ونلاحظ على ذلك أن مانعية التشهد والتسليم إذا كانت ثابتة في
الواقع على تقدير عدم الاتيان بالرابعة. فلا يمكن اجراء الاستصحاب مع
التبعيض في مقام التعبد بآثار مؤداه، لان المكلف يعلم حينئذ وجدانا بان
الركعة المفصولة التي يأتي بها ليست مصداقا للواجب الواقعي، لان صلاته
التي شك فيها ان كانت أربع ركعات فلا أمر بهذه الركعة، والا فقد
بطلت بما أتى به من المانع بتشهده وتسليمه، لان المفروض انحفاظ المانعية
واقعا على تقدير النقصان.
وإذا افترضنا ان مانعية التشهد والتسليم ليست من آثار عدم الاتيان
في حالة الشك. فهذا يعني ان الشك في الرابعة أوجب تغيرا في الحكم
153

الواقعي وتبدلا لمانعية التشهد والتسليم إلى نقيضها، وذلك تخصيص في
دليل المانعية الواقعية ولا يعني تخصيصا في دليل الاستصحاب كما ادعي في
الكفاية.
ومنها: - ما ذكره المحقق النائيني (قدس الله روحه) من افتراض ان
عدم الاتيان بالرابعة مع العلم بذلك موضوع واقعا لوجوب الركعة
الموصولة، وعدم الاتيان بها مع الشك موضوع واقعا لوجوب الركعة
المفصولة. وعلى أساس هذا الافتراض إذا شك المكلف في الرابعة فقد
تحقق أحد الجزئين لموضوع وجوب الركعة المفصولة وجدانا وهو الشك،
واما الجزء الآخر وهو عدم الاتيان فيحرز بالاستصحاب وعليه
فالاستصحاب يجري لاثبات وجوب الركعة المفصولة بعد افتراض كونه ثابتا
على النحو المذكور.
وهذا التصحيح للاستصحاب في المورد وان كان معقولا غير أن حمل
الرواية عليه خلاف الظاهر، لأنه يستبطن افتراض حكم واقعي بوجوب
الركعة المفصولة على الموضوع المركب من عدم الاتيان والشك، وهذا
بحاجة إلى البيان مع أن الامام اقتصر على بيان الاستصحاب على الرغم
من أن ذلك الحكم الواقعي المستبطن هو المهم، إذ مع ثبوته لا بد من
الاتيان بركعة مفصولة حينئذ سواء جرى استصحاب عدم الاتيان أو لا،
إذ تكفي نفس أصالة الاشتغال والشك في وقوع الرابعة للزوم احرازها.
فالعدول في مقام البيان عن نكتة الموقف إلى ما يستغنى عنه ليس عرفيا.
ومن هنا يمكن أن يكون الاعتراض الثاني بنفسه قرينة على حمل
الرواية على ما ذكر في الاعتراض الأول، وان كان خلاف الظاهر في
نفسه. وبالحمل على ذلك يمكن ان نفسر النهي عن خلط اليقين بالشك
وادخال أحدهما بالآخر بان المقصود التنبيه بنحو يناسب التقية على لزوم
فصل الركعة المشكوكة عن الركعات المتيقنة.
الثالث: - ان حمل الرواية على الاستصحاب متعذر، لان
154

الاستصحاب لا يكفي لتصحيح الصلاة حتى لو بني على إضافة الركعة
الموصولة وتجاوزنا الاعتراض السابق، لان الواجب ايقاع التشهد والتسليم
في آخر الركعة الرابعة، وباستصحاب عدم الاتيان بالرابعة يثبت وجوب
الاتيان بركعة، ولكن لو أتى بها فلا طريق لاثبات كونها رابعة بذلك
الاستصحاب، لان كونها كذلك لازم عقلي للمستصحب فلا يثبت، فلا
يتاح للمصلي إذا تشهد وسلم حينئذ انه قد أوقع ذلك في آخر الركعة
الرابعة.
وقد أجاب السيد الأستاذ على ذلك بان المصلي بعد أن يستصحب
عدم الاتيان ويأتي بركعة يتيقن بأنه قد تلبس بالركعة الرابعة ويشك في
خروجه منها إلى الخامسة فيستصحب بقاءه في الرابعة.
ونلاحظ على هذا الجواب: ان الاستصحاب المذكور معارض
باستصحاب عدم كونه في الرابعة، لأنه يعلم اجمالا بأنه اما الآن أو قبل
ايجاده للركعة المبنية على الاستصحاب ليس في الرابعة، فيستصحب العدم
ويتساقط الاستصحابان.
كما يلاحظ على أصل الاعتراض بان اثبات اللازم العقلي
بالاستصحاب ليس امرا محالا بل محتاجا إلى الدليل، فإذا توقف تطبيق
الاستصحاب في مورد الرواية على افتراض ذلك كانت بنفسها دليلا على
الاثبات المذكور.
الرواية الرابعة:
وهي رواية عبد الله بن سنان " قال: سأل أبي ابا عبد الله (عليه
السلام) وانا حاضر: اني أعير الذمي ثوبي وانا اعلم أنه يشرب الخمر
ويأكل لحم الخنزير، فيرده علي فاغسله قبل أن أصلي فيه. فقال أبو عبد
الله (ع): صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه وهو
طاهر ولم تستيقن انه نجسه فلا بأس ان تصلي فيه حتى تستيقن انه
155

نجسه " (1).
ولا شك في ظهور الرواية في النظر إلى الاستصحاب لا قاعدة
الطهارة، بقرينة اخذ الحالة السابقة في مقام التعليل إذ قال فإنك (أعرته
إياه وهو طاهر) فتكون دالة على الاستصحاب. نعم لا عموم في مدلولها
اللفظي، ولكن لا يبعد التعميم باعتبار ورود فقرة الاستدلال مورد التعليل
وانصراف فحواها إلى نفس الكبرى الاستصحابية المركوزة عرفا.
هذا هو المهم من روايات الباب، وهو يكفي لاثبات كبرى
الاستصحاب. وبعد اثبات هذه الكبرى يقع الكلام في عدة مقامات، إذ
نتكلم في روح هذه الكبرى وسنخها من حيث كونها امارة أو أصلا وكيفية
الاستدلال بها، ثم في أركانها، ثم في مقدار وحدود ما يثبت بها من آثار،
ثم في سعة دائرة الكبرى ومدى شمولها لكل مورد، ثم في جملة من
التطبيقات التي وقع البحث العلمي فيها. فالبحث إذن يكون في خمسة
مقامات كما يلي.

(1) وسائل الشيعة: أبواب النجاسات / الباب 74 / ح 1.
156

الاستصحاب أصل أو امارة؟
قد عرفنا سابقا الضابط الحقيقي للتمييز بين الحكم الظاهري في باب
الامارات والحكم الظاهري في باب الأصول، وهو: انه كلما كان الملحوظ
فيه أهمية المحتمل كان أصلا. وكلما كان الملحوظ قوة الاحتمال وكاشفيته
محضا كان المورد امارة.
وعلى هذا الضوء إذا درسنا الكبرى المجعولة في دليل الاستصحاب
واجهنا صعوبة في تعيين هويتها ودخولها تحت أحد القسمين، وذلك لان
ادخالها في نطاق الامارات يعني افتراض كاشفية الحالة السابقة وقوة احتمال
البقاء، مع أن هذه الكاشفية لا واقع لها - كما عرفنا في الحلقة السابقة -
ولهذا أنكرنا حصول الظن بسبب الحالة السابقة، وادخالها في نطاق
الأصول يعني ان تفوق الاحكام المحتملة البقاء على الاحكام المحتملة
الحدوث في الأهمية أوجب إلزام الشارع برعاية الحالة السابقة، مع أن
الاحكام المحتملة البقاء ليست متعينة الهوية والنوعية، فهي تارة وجوب،
وأخرى حرمة، وثالثة إباحة، وكذلك الامر فيما يحتمل حدوثه، فلا معنى
لان يكون سبب تفضيل الاخذ بالحالة السابقة، الاهتمام بنوع الاحكام
التي يحتمل بقاؤها. وبعبارة أخرى ان ملاك الأصل - وهو رعاية أهمية
المحتمل - يتطلب أن يكون نوع الحكم الملحوظ محددا، وكما في نوع الحكم
الترخيصي الملحوظ في أصالة الحل، ونوع الحكم الالزامي الملحوظ في
157

أصالة الاحتياط. واما إذا كان نوع الحكم غير محدد وقابلا للأوجه المختلفة
فلا ينطبق الملاك المذكور.
وحل الاشكال: انه بعد أن عرفنا ان الأحكام الظاهرية تقرر دائما
نتائج التزاحم بين الاحكام والملاكات الواقعية في مقام الحفظ عند
الاختلاط. فبالامكان ان نفترض ان المولى قد لا يجد في بعض حالات
التزاحم قوة تقتضي الترجيح لا بلحاظ المحتمل ولا بلحاظ نفس
الاحتمال، وفي مثل ذلك قد يعمل نكتة نفسية في ترجيح أحد الاحتمالين
على الآخر. ففي محل الكلام حينما يلحظ المولى حالات الشك في البقاء
لا يجد أقوائية لا للمحتمل إذ لا تعين له ولا للاحتمال إذ لا كاشفية ظنية
له. ولكنه يرجح احتمال البقاء لنكتة نفسية ولو كانت هي رعاية الميل
الطبيعي العام إلى الاخذ بالحالة السابقة، ولا يخرج الحكم المجعول على
هذا الأساس عن كونه حكما ظاهريا طريقيا، لان النكتة النفسية ليست،
هي الداعي لأصل جعله بل هي الدخيلة في تعيين كيفية جعله. وعلى
هذا الأساس يكون الاستصحاب أصلا، لان الميزان في الأصل الذي لا
تثبت به اللوازم على القاعدة عدم كون الملحوظ فيه قوة الاحتمال محضا
سواء كان الملحوظ فيه قوة المحتمل أو نكتة نفسية، لان النكتة النفسية قد
لا تكون منطبقة الا على المدلول المطابقي للأصل فلا يلزم من التعبد به
التعبد باللوازم.
كيفية الاستدلال بالاستصحاب:
وقد يتوهم ان النقطة السابقة تؤثر في كيفية الاستدلال بالاستصحاب
وبالتالي في كيفية علاج تعارضه مع سائر الأدلة، فان افترضنا ان
الاستصحاب امارة وان المعول فيه على كاشفية الحالة السابقة، كان الدليل
هو الحالة السابقة على حد دليلية خبر الثقة، ومن هنا يجب ان تلحظ
النسبة بين نفس الامارة الاستصحابية وما يعارضها من أصالة الحل مثلا،
158

فيقدم الاستصحاب بالأخصية على دليل أصالة الحل، كما وقع في كلام
السيد بحر العلوم انسياقا مع هذا التصور. وان افترضنا الاستصحاب
أصلا عمليا وحكما تعبديا مجعولا في دليله فالمدرك حينئذ لبقاء المتيقن عند
الشك نفس ذلك الدليل لا أمارية الحالة السابقة، وعند التعارض بين
الاستصحاب وأصالة الحل يجب ان تلحظ النسبة بين دليل الاستصحاب
- وهو مفاد رواية زرارة مثلا - ودليل أصالة الحل، وقد تكون النسبة حينئذ
العموم من وجه.
وهذا التوهم باطل فان ملاحظة نسبة الأخصية والأعمية بين
المتعارضين وتقديم الأخص من شؤون الكلام الصادر من متكلم واحد
خاصة، حيث يكون الأخص قرينة على الأعم بحسب أساليب المحاورة
العرفية، ولما كانت حجية كل ظهور منوطة بعدم ثبوت القرينة على خلافه
كان الخبر المتكفل للكلام الأخص مثبتا لارتفاع الحجية عن ظهور الكلام
الأعم في العموم، وليست الأخصية في غير مجال القرينية ملاكا لتقديم
احدى الحجتين على الأخرى، ولهذا لا يتوهم أحد انه إذا دلت بينة على أن
كل ما في الدار نجس ودلت أخرى على أن شيئا منه طاهر قدمت الثانية
للأخصية، بل يقع التعارض، إذ لا معنى للقرينية مع فرض صدور
الكلامين من جهتين. وعلى هذا ففي المقام سواء قيل بأمارية الاستصحاب
أو أصليته لا معنى لتقديمه بالأخصية الملحوظة بينه وبين معارضته، بل لا
بد من ملاحظة النسبة بين دليله وما يعارضه من دليل الأصل أو دليل
حجية الامارة، فإن كان أخص قدم بالأخصية لان مفاد الأدلة كلام
الشارع ومتى كان أحد كلاميه أخص من الآخر قدم بالأخصية.
159

أركان الاستصحاب
وللاستصحاب على ما يستفاد من أدلته المتقدمة أربعة أركان،
وهي: اليقين بالحدوث، والشك في البقاء، ووحدة القضية المتيقنة
والمشكوكة، وكون الحالة السابقة في مرحلة البقاء ذات اثر عملي مصحح
للتعبد بها. وسنتكلم عن هذه الأركان فيما يلي تباعا ان شاء الله تعالى:
أ - اليقين بالحدوث:
ذهب المشهور إلى أن اليقين بالحدوث ركن مقوم للاستصحاب،
ومعنى ذلك أن مجرد ثبوت الحالة السابقة في الواقع لا يكفي لفعلية الحكم
الاستصحابي لها، وانما يجري الاستصحاب إذا كانت الحالة السابقة
متيقنة، وذلك لان اليقين قد اخذ في موضوع الاستصحاب في ألسنة
الروايات، وظاهر اخذه كونه مأخوذا على نحو الموضوعية لا الطريقية إلى
صرف ثبوت الحالة السابقة.
نعم في رواية عبد الله بن سنان المتقدمة علل الحكم الاستصحابي
بنفس الحالة السابقة في قوله (لأنك أعرته إياه وهو طاهر) لا باليقين بها،
وهو ظاهر في ركنية المتيقن لا اليقين، وتصلح ان تكون قرينة على حمل
اليقين في سائر الروايات على الطريقية إذا تم الاستدلال بالرواية المذكورة
على الكبرى الكلية.
160

وقد نشأت مشكلة من افتراض ركنية اليقين بالحدوث، وهي انه إذا
كان ركنا فكيف يمكن اجراء الاستصحاب فيما هو ثابت بالامارة إذا دلت
الامارة على حدوثه وشككنا في بقائه مع أنه لا يقين بالحدوث؟. كما إذا
دلت الامارة على نجاسة ثوب وشك في تطهيره، أو على نجاسة الماء المتغير
في الجملة وشك في بقاء النجاسة بعد زوال التغير.
وقد أفيد في جواب هذه المشكلة عدة وجوه:
الوجه الأول: - ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني (قدس الله روحه)
من أن الامارة تعتبر علما بحكم لسان دليل حجيتها، لان دليل الحجية
مفاده جعل الطريقية والغاء احتمال الخلاف تعبدا، وبهذا تقوم مقام القطع
الموضوعي لحكومة دليل حجيتها على الدليل المتكفل لجعل الحكم على
القطع، ومعنى الحكومة هنا ان دليل الحجية يحقق فردا تعبديا من موضوع
الدليل الآخر، ومن مصاديق ذلك قيام الامارة مقام اليقين المأخوذ في
موضوع الاستصحاب وحكومة دليل حجيتها على دليله.
وقد تقدم - في مستهل البحث عن الأدلة المحرزة من هذه الحلقة -
المنع عن وفاء دليل حجية الامارة باثبات قيامها مقام القطع الموضوعي
وعدم صلاحيته للحاكمية، لأنها فرع النظر إلى الدليل المحكوم وهو غير
ثابت فلاحظ.
الوجه الثاني: - ما ذكره صاحب الكفاية (رحمه الله) وحاصله - على
ما قيل في تفسيره -: ان اليقين بالحدوث ليس ركنا في دليل الاستصحاب
بل مفاد الدليل جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء. وقد اعترض السيد
الأستاذ على ذلك بان مفاده لو كان الملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة
الواقع لزم كونه دليلا واقعيا على البقاء وهو خلف كونه أصلا عمليا، ولو
كان مفاده الملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة التنجز فكلما تنجز
الحدوث تنجز البقاء، لزم بقاء بعض أطراف العلم الاجمالي منجزة حتى
بعد انحلاله بعلم تفصيلي، لأنها كانت منجزة حدوثا والمفروض ان دليل
161

الاستصحاب يجعل الملازمة بين الحدوث والبقاء في التنجز.
وهذا الاعتراض غريب لان المراد بالملازمة الملازمة بين الحدوث
الواقعي والبقاء الظاهري، ومرد ذلك في الحقيقة إلى التعبد بالبقاء منوطا
بالحدوث، فلا يلزم شئ مما ذكر.
والصحيح ان يقال: ان مرد هذا الوجه إلى انكار الأساس الذي
نجمت عنه المشكلة وهو ركنية اليقين المعتمدة على ظهور أخذه اثباتا في
الموضوعية، فلا بد له من مناقشة هذا الظهور، وذلك بما ورد في الكفاية
من دعوى أن اليقين باعتبار كاشفيته عن متعلقه يصلح ان يؤخذ بما هو
معرف ومرآة له، فيكون اخذه في لسان دليل الاستصحاب على هذا
الأساس، ومرجعه إلى اخذ الحالة السابقة.
وهذه الدعوى لا بد ان تتضمن ادعاء الظهور في المعرفية لان مجرد
إبداء احتمال ذلك بنحو مساو للموضوعية يوجب الاجمال وعدم امكان
تطبيق دليل الاستصحاب في موارد عدم وجود اليقين.
ويرد عليها ان المقصود بما ادعي ان كان ابراز جانب المرآتية الحقيقية
لليقين بالنسبة إلى حقيقيته فمن الواضح انها انما تثبت لواقع اليقين في
أفق نفس المتيقن الذي يرى من خلال يقينه متيقنه دائما، وليست هذه
المرآتية ثابتة لمفهوم اليقين، فمفهوم اليقين كأي مفهوم آخر انما يلحظ مرآة
إلى افراده لا إلى متيقنه، لان الكاشفية الحقيقية التي هي روح هذه المرآتية
من شؤون واقع اليقين لا مفهومه. وان كان المقصود اخذ اليقين معرفا
وكناية عن المتيقن فهو امر معقول ومقبول عرفا ولكنه بحاجة إلى قرينة ولا
قرينة في المقام على ذلك لا خاصة ولا عامة. اما الأولى فانتفاؤها واضح.
واما الثانية فلان القرينة العامة هي مناسبات الحكم والموضوع العرفية وهي
لا تأبى في المقام عن دخل اليقين في حرمة النقض. وكان الأولى بصاحب
الكفاية أن يستند في الاستغناء عن ركنية اليقين إلى ما لم يؤخذ في لسانه
اليقين بالحدوث من روايات الباب.
162

الوجه الثالث: - ان اليقين وان كان ركنا للاستصحاب بمقتضى
ظهور اخذه في الموضوعية، الا انه مأخوذ بما هو حجة فيتحقق الركن
بالامارة المعتبرة أيضا باعتبارها حجة. ويختلف هذا الوجه عن سابقه
بالاعتراف بركنية اليقين، وعن الأول بان دليل حجية الامارة على هذا
يكون واردا على دليل الاستصحاب لأنه يحقق فردا من الحجة حقيقة، واما
على الوجه الأول فدليل الاستصحاب حاكم لا وارد. ويرد على هذا الوجه
ان ظاهر اخذ شئ كونه بعنوانه دخيلا فحمله على دخل عنوان جامع بينه
وبين غيره يحتاج إلى قرينة.
والتحقيق ان يقال: ان الامارة تارة تعالج شبهة موضوعية كالامارة
الدالة على نجاسة الثوب، وأخرى شبهة حكمية كالامارة الدالة على
نجاسة الماء المتغير. وعلى التقديرين تارة ينشأ الشك في البقاء من شبهة
موضوعية كما إذا شك في غسل الثوب أو زوال التغير، وأخرى ينشأ من
شبهة حكمية كما إذا شك في طهارة الثوب بالغسل بالماء المضاف وارتفاع
النجاسة عند زوال التغير من قبل نفسه. فهناك إذن أربع صور:
الأولى: - ان تعالج الامارة شبهة موضوعية ويكون الشك في البقاء
شبهة موضوعية أيضا، كما إذا أخبرت الامارة بتنجس الثوب وشك في طرو
المطهر. وفي مثل ذلك لا حاجة إلى استصحاب النجاسة الواقعية ليرد
الاشكال القائل بأنه لا يقين بحدوثها، بل يمكن اجراء الاستصحاب بأحد
وجهين آخرين:
الأول: ان نجري الاستصحاب الموضوعي فنستصحب عدم غسل
الثوب بالماء، ومن الواضح ان نجاسة الثوب مترتبة شرعا على موضوع
مركب من جزئين: أحدهما: ملاقاته للنجس. والآخر: عدم طرو
الغسل عليه. والأول ثابت بالامارة، والثاني بالاستصحاب لان أركانه فيه
متوفرة بما فيها اليقين بالحدوث، فيترتب على ذلك بقاء النجاسة شرعا.
الثاني: - ان الامارة التي تدل على حدوث النجاسة في الثوب تدل
163

أيضا بالالتزام على بقائها ما لم يغسل، لأننا نعلم بالملازمة بين الحدوث
والبقاء ما لم يغسل، فما يدل على الأول، بالمطابقة يدل على الثاني
بالالتزام. ومقتضى دليل حجية الامارة التعبد بمقدار ما تدل عليه بالمطابقة
والالتزام، فإذا شك في طرو الغسل كان ذلك شكا في انتهاء امد البقاء
التعبدي الثابت بدليل الحجية، فيستصحب لأنه معلوم حدوثا ومشكوك
بقاء.
الثانية: - ان تعالج الامارة شبهة حكمية ويكون الشك في البقاء
شبهة موضوعية، كما إذا دلت الامارة على نجاسة الماء المتغير وشك في بقاء
التغير. وهنا يجري نفس الوجهين السابقين، حيث يمكن استصحاب
التغير، ويمكن استصحاب نفس النجاسة الظاهرية المغياة بارتفاع التغير،
للشك في حصول غايتها.
الثالثة: - ان تعالج الامارة شبهة موضوعية ويكون الشك في
البقاء شبهة حكمية، كما إذا دلت الامارة على نجاسة الثوب وشك في
بقائها عند الغسل بالماء المضاف.
وفي هذه الصورة يتعذر اجراء الاستصحاب الموضوعي، إذ لا شك
في وقوع الغسل بالماء المضاف وعدم وقوع الغسل بالماء المطلق، ولكن
يمكن اجراء الاستصحاب على الوجه الثاني، لان الامارة المخبرة عن
نجاسة الثوب تخبر التزاما عن بقاء هذه النجاسة ما لم يحصل المطهر
الواقعي، وعلى هذا الأساس يكون التعبد الثابت على وفقها بدليل الحجية
تعبدا مغيى بالمطهر الواقعي أيضا، فالتردد في حصول المطهر الواقعي ولو
على نحو الشبهة الحكمية يسبب الشك في بقاء التعبد المستفاد من دليل
الحجية والذي هو متيقن حدوثا، فيجري فيه الاستصحاب.
الرابعة: - ان تعالج الامارة شبهة حكمية ويكون الشك في البقاء
شبهة حكمية أيضا، كما إذا دلت على تنجس الثوب بملاقاة المتنجس وشك
في حصول التطهير بالغسل بالماء المضاف.
164

وعلاج هذه الصورة نفس علاج الصورة السابقة، فإن النجاسة
المخبر عنها بالامارة هي على فرض حدوثها نجاسة مستمرة مغياة بطرو
المطهر الشرعي، وعلى هذا فالتعبد على طبق الامارة يتكفل اثبات هذا
النحو من النجاسة ظاهرا، ولما كانت الغاية مرددة بين مطلق الغسل،
والغسل بالمضاف فيقع الشك في حصولها عند الغسل بالمضاف، وبالتالي
يقع الشك في بقاء التعبد المغيى المستفاد من دليل الحجية، فيستصحب.
ففي كل هذه الصور يمكن التفادي عن الاشكال باجراء الاستصحاب
الموضوعي أو استصحاب نفس المجعول في دليل الحجية، وجامع هذه
الصور ان يعلم بان للحكم المدلول للامارة على فرض ثبوته غاية ورافعا
ويشك في حصول الرافع على نحو الشبهة الموضوعية أو الحكمية.
نعم قد لا يكون الشك على هذا الوجه بل يكون الشك في قابلية
المستصحب للبقاء، كما إذا دلت الامارة على وجوب الجلوس في المسجد
إلى الزوال وشك في بقاء هذا الوجوب بعد الزوال، فان الامارة هنا لا
يحتمل انها تدل مطابقة أو التزاما على أكثر من الوجوب إلى الزوال، وهذا
يعني ان التعبد على وفقها المستفاد من دليل الحجية لا يحتمل فيه الاستمرار
أكثر من ذلك، وفي مثل هذا يتركز الاشكال لان الحكم الواقعي بالوجوب
غير متيقن الحدوث والحكم الظاهري المستفاد من دليل الحجية غير محتمل
البقاء، ويتوقف دفع الاشكال حينئذ على انكار ركنية اليقين بلحاظ مثل
رواية عبد الله بن سنان المتقدمة.
ب - الشك في البقاء:
والشك في البقاء هو الركن الثاني، وذلك لاخذه في لسان أدلة
الاستصحاب، وقد يقال: ان ركنيته ضرورية بلا حاجة إلى اخذه في
لسان الأدلة، لان الاستصحاب حكم ظاهري والحكم الظاهري متقوم
بالشك، فان فرض الشك في الحدوث كان مورد قاعدة اليقين، فلا بد
165

اذن من فرض الشك في البقاء. ولكن سيظهر ان ركنية الشك في البقاء
بعنوانه لها آثار إضافية لا تثبت بالبرهان المذكور بل بأخذه في لسان الأدلة
فانتظر.
وتتفرع على ركنية الشك في البقاء قضيتان:
الأولى: - ان الاستصحاب لا يجري في الفرد المردد، ونقصد بالفرد
المردد حالة القسم الثاني من استصحاب الكلي، كما إذا علمنا بوجود جامع
الانسان في المسجد وهو مردد بين زيد وخالد ونشك في بقاء هذا الجامع
لان زيدا نراه الآن خارج المسجد، فإن كان هو المحقق للجامع حدوثا
فقد ارتفع الجامع، وان كان خالد هو المحقق للجامع فلعله لا
يزال باقيا. وفي مثل ذلك يجري استصحاب الجامع إذا كان لوجود الجامع
اثر شرعي. ويسمى بالقسم الثاني من استصحاب الكلي كما تقدم في
الحلقة السابقة، ولا يجري استصحاب بقاء زيد ولا استصحاب بقاء خالد
بلا شك. ولكن قد يقال: ان الآثار الشرعية إذا كانت مترتبة على وجود
الافراد بما هي افراد أمكن اجراء استصحاب الفرد المردد على اجماله، بان
نشير إلى واقع الشخص الذي دخل المسجد ونقول: انه على اجماله يشك
في خروجه من المسجد فيستصحب.
ولكن الصحيح ان هذا الاستصحاب لا محصل له، لأننا حينما
نلحظ الافراد بعناوينها التفصيلية لا نجد شكا في البقاء على كل تقدير، إذ
لا يحتمل بقاء زيد بحسب الفرض، وإذا لاحظناها بعنوان اجمالي وهو
عنوان الانسان الذي دخل إلى المسجد فالشك في البقاء ثابت.
فان أريد باستصحاب الفرد المردد اثبات بقاء الفرد بعنوانه التفصيلي
فهو متعذر، إذ لعل هذا الفرد هو زيد وزيد لا شك في بقائه فيكون الركن
الثاني مختلا، وان أريد به اثبات بقاء الفرد بعنوانه الاجمالي فالركن الثاني
محفوظ ولكن الركن الرابع غير متوفر، لان الأثر الشرعي غير مترتب
بحسب الفرض على العنوان الاجمالي بل على العناوين التفصيلية للافراد.
ومن هنا نعرف ان عدم جريان استصحاب الفرد المردد من نتائج
166

ركنية الشك في البقاء الثابتة بظهور الدليل، ولا يكفي فيه البرهان القائل
بان الحكم الظاهري متقوم بالشك، إذ لا يأبى العقل عن تعبد الشارع
ببقاء الفرد الواقعي مع احتمال قطعنا بخروجه.
والقضية الثانية: - هي ان زمان المتيقن قد يكون متصلا بزمان
المشكوك وسابقا عليه، وقد يكون مرددا بين أن يكون نفس زمان المشكوك
أو الزمان الذي قبله. ففي الحالة الأولى يصدق الشك في البقاء بلا
شك، واما الحالة الثانية فمثالها ان يحصل لها العلم اجمالا بان هذا الثوب
اما تنجس في هذه اللحظة أو كان قد تنجس قبل ساعة وطهر، فالنجاسة
معلومة التحقق في هذا الثوب أساسا ولكنها مشكوكة فعلا، وزمان المشكوك
هو اللحظة الحاضرة، وزمان النجاسة المتيقنة لعله نفس زمان المشكوك
ولعله ساعة قبل ذلك. وفي مثل ذلك قد يستشكل في جريان الاستصحاب
لان من المحتمل وحدة زماني المشكوك والمتيقن، وعلى هذا التقدير لا يكون
أحدهما بقاء للآخر، فالشك إذن لم يحرز كونه شكا في البقاء، وبذلك
يختل الركن الثاني، فلا يجري الاستصحاب في كل الحالات التي يكون
زمان المتيقن فيها مرددا بين زمان المشكوك وما قبله.
ويمكن دفع الاستشكال بان (الشك في البقاء) بعنوانه لم يؤخذ صريحا
في لسان روايات الاستصحاب، وانما اخذ (الشك) بعد (اليقين) وهو
يلائم كل شك متعلق بما هو متيقن الحدوث سواء صدق عليه (الشك في
البقاء) أو لا.
والاستشكال المذكور إذا لم يندفع بهذا البيان يؤدي إلى أن
الاستصحاب في موارد توارد الحالتين لا يجري في نفسه لا من أجل
التعارض، فإذا علم بالحدث والطهارة وشك في المتقدم منهما فهو يعلم
اجمالا بالحدث اما الآن أو قبل ساعة ويشك في الحدث فعلا، فزمان
الحدث المشكوك هو الآن وزمان الحدث المتيقن مردد بين الآن وما قبله فلا
يجري استصحاب الحدث، ومثل ذلك يقال في استصحاب الطهارة. وهذا
167

بعض معاني ما يقال من عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين.
ثم إن هذا الركن الثاني قد يصاغ بصياغة أخرى، فيقال: ان
الاستصحاب متقوم بان يكون رفع اليد عن الحالة السابقة نقضا لليقين
بالشك. ويفرغ على ذلك بأنه متى ما لم يحرز ذلك واحتمل كونه نقضا
لليقين باليقين فلا يشمله النهي في عموم دليل الاستصحاب. وقد مثل
لذلك بما إذا علم بطهارة عدة أشياء تفصيلا ثم علم اجمالا بنجاسة
بعضها، فان المعلوم بالعلم الاجمالي لما كان مرددا بين تلك الأشياء فكل
واحد منها يحتمل أن يكون معلوم النجاسة، وبالتالي يحتمل أن يكون رفع
اليد عن الحالة السابقة فيه نقضا لليقين باليقين، فلا يجري الاستصحاب
بقطع النظر عن المعارضة بين الاستصحاب هنا والاستصحاب هناك.
ونلاحظ على ذلك أولا: ان العلم الاجمالي ليس متعلقا بالواقع بل
بالجامع، فلا يحتمل أن يكون اي واحد من تلك الأشياء معلوم النجاسة.
وثانيا: لو سلمنا ان العلم الاجمالي يتعلق بالواقع فهو يتعلق به على نحو
يلائم مع الشك فيه أيضا ودليل الاستصحاب مفاده انه لا يرفع اليد عن
الحالة السابقة في كل مورد يكون بقاؤها فيه مشكوكا، وهذا يشمل محل
الكلام حتى لو انطبق العلم الاجمالي بالنجاسة على نفس المورد أيضا. فان
قيل: بل لا يشمل لأننا حينئذ لا ننقض اليقين بالشك بل باليقين. وكان
الجواب: ان الباء هنا لا يراد بها النهي عن النقض بسبب الشك، والا
للزم امكان النقض بالقرعة أو الاستخارة، بل يراد بذلك انه لا نقض في
حالة الشك وهي محفوظة في المقام.
الشبهات الحكمية في ضوء الركن الثاني:
وقد يقال: ان الركن الثاني يستدعي عدم جريان الاستصحاب في
الشبهة الحكمية، كما إذا شك في بقاء نجاسة الماء أو حرمة المقاربة، بعد
زوال التغير أو النقاء من الدم. وذلك لان النجاسة والحرمة وكل حكم
168

شرعي. ليس له وجود وثبوت الا بالجعل، والجعل آني دفعي فكل
المجعول يثبت في عالم الجعل في آن واحد من دون أن يكون البعض منه
بقاء للبعض الآخر ومترتبا عليه زمانا، فنجاسة الماء المتغير بتمام حصصها
وحرمة مقاربة المرأة بتمام حصصها متقارنة زمانا في عالم الجعل، وعليه فلا
شك في البقاء بل ولا يقين بحدوث المشكوك أصلا، بل المتيقن حصة من
الجعل والمشكوك حصة أخرى منه، فلا يجري استصحاب النجاسة أو
الحرمة.
وهذا الكلام مبني على ملاحظة عالم الجعل فقط فان حصص
المجعول فيه متعاصرة، بينما ينبغي ملاحظة عالم المجعول، فان
النجاسة بما هي صفة للماء المتغير الخارجي لها حدوث وبقاء، وكذلك حرمة
المقاربة بما هي صفة للمرأة الحائض الخارجية، فيتم بملاحظة هذا العالم
اليقين بالحدوث والشك في البقاء ويجري الاستصحاب.
ج - وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة:
وهذا هو الركن الثالث. والوجه في ركنيته انه مع تغاير القضيتين لا
يكون الشك شكا في البقاء بل في حدوث قضية جديدة، ومن هنا يعلم
بان هذا ليس ركنا جديدا مضافا إلى الركن السابق بل هو مستنبط منه
وتعبير آخر عنه. وقد طبق هذا الركن على الاستصحاب الجاري في
الشبهات الموضوعية، وعلى الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية،
وواجه في كل من المجالين بعض المشاكل والصعوبات كما نرى فيما يلي:
(أولا: - تطبيقه في الشبهات الموضوعية)
جاء في إفادات الشيخ الأنصاري (قدس الله روحه) التعبير عن هذا
الركن بالصياغة التالية: انه يعتبر في جريان الاستصحاب احراز بقاء
الموضوع إذ مع تبدل الموضوع لا يكون الشك شكا في البقاء، فلا يمكنك
169

مثلا ان تستصحب نجاسة الخشب بعد استحالته وصيرورته رمادا، لان
موضوع النجاسة المتيقنة لم يبق. وهذه الصياغة سببت الاستشكال في
جريان الاستصحاب فيما إذا كان المشكوك أصل وجود الشئ بقاء، لان
موضوع الوجود الماهية ولا بقاء للماهية الا بالوجود، فمع الشك في وجودها
بقاء لا يمكن احراز بقاء الموضوع، فكيف يجري الاستصحاب؟. وكذلك
سببت الاستشكال أحيانا فيما إذا كان المشكوك من الصفات الثانوية المتأخرة
عن الوجود كالعدالة، وذلك لان زيدا العادل تارة يشك في بقاء عدالته مع
العلم ببقائه حيا، ففي مثل ذلك يجري استصحاب العدالة بلا اشكال،
لان موضوعها وهو حياة زيد معلوم البقاء. وأخرى يشك في بقاء زيد
حيا ويشك أيضا في بقاء عدالته على تقدير حياته، وفي مثل ذلك كيف
يجري استصحاب بقاء العدالة مع أن موضوعها غير محرز؟. وهذه
الاستشكالات نشأت من الصياغة المذكورة وهي لا مبرر لها. ومن هنا
عدل صاحب الكفاية عنها إلى القول بان المعتبر في الاستصحاب وحدة
القضية المتيقنة والمشكوكة، وهي محفوظة في موارد الاستشكال الآنفة
الذكر، واما افتراض المستصحب عرضا وافتراض موضوع له واشتراط
احراز بقائه، فلا موجب لذلك.
(ثانيا: - تطبيقه في الشبهات الحكمية)
وعند تطبيق هذا الركن على الاستصحاب في الشبهات الحكمية
نشأت بعض المشاكل أيضا، إذ لوحظ انا حين نأخذ بالصياغة الثانية له
التي اختارها صاحب الكفاية نجد: ان وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة لا
يمكن افتراضها في الشبهة الحكمية الا في حالات الشك في النسخ بمعنى
إلغاء الجعل - اي النسخ بمعناه الحقيقي -. وأما حيث لا يحتمل النسخ فلا
يمكن ان ينشأ شك في نفس القضية المتيقنة. وانما يشك في بقاء حكمها
حينئذ إذا تغيرت بعض القيود والخصوصيات المأخوذة فيها، وذلك بأحد
وجهين: اما بأن تكون خصوصية ما دخيلة يقينا في حدوث الحكم ويشك
170

في إناطة بقائه ببقائها فترتفع الخصوصية ويشك حينئذ في بقاء الحكم،
كالشك في نجاسة الماء بعد زوال تغيره، واما بان تكون خصوصية ما
مشكوكة الدخل من أول الامر في ثبوت الحكم فيفرض وجودها في القضية
المتيقنة إذ لا يقين بالحكم بدونها ثم ترتفع فيحصل الشك في بقاء الحكم.
وفي كل من هذين الوجهين لا وحدة بين القضية المتيقنة والمشكوكة.
كما انا حين نأخذ بالصياغة الأولى لهذا الركن نلاحظ ان موضوع
الحكم عبارة عن مجموع ما أخذ مفروض الوجود في مقام جعله، والموضوع
بهذا المعنى غير محرز البقاء في الشبهات الحكمية، لان الشك في بقاء
الحكم ينشأ من الشك في انحفاظ تمام الخصوصيات المفروضة الوجود في
مقام جعله.
ولأجل حل المشكلة المذكورة نقدم مثالا من الاعراض الخارجية
فنقول: ان الحرارة لها معروض وهو الجسم وعلة وهي النار أو الشمس،
والحرارة تتعدد بتعدد الجسم المعروض لها فحرارة الخشب غير حرارة الماء،
ولا تتعدد بتعدد الأسباب والحيثيات التعليلية، فإذا كانت حرارة الماء
مستندة إلى النار حدوثا والى الشمس بقاء لا تعتبر حرارتين متغايرتين، بل
هي حرارة واحدة لها حدوث وبقاء. ونفس الشئ نقوله عن الحكم
كالنجاسة مثلا فان لها معروض وهو الجسم وعلة وهي التغير بالنسبة إلى
نجاسة الماء مثلا، والضابط في تعددها تعدد معروضها لا تعدد الحيثيات
التعليلية. فالخصوصية الزائلة التي سبب زوالها الشك في بقاء الحكم ان
كانت على فرض دخالتها بمثابة العلة والشرط، فلا يضر زوالها بوحدة
الحكم ولا تستوجب دخالتها كحيثية تعليلية مباينة الحكم بقاء للحكم
حدوثا كما هو الحال في الحرارة أيضا. واما إذا كانت الخصوصية الزائلة
مقومة لمعروض الحكم كخصوصية البولية الزائلة عند تحول البول بخارا،
فهي توجب التغاير بين الحكم المذكور والحكم الثابت بعد زوالها. وعليه
فكلما كانت الخصوصية غير المحفوظة من الموضوع أو من القضية المتيقنة
171

حيثية تعليلية فلا ينافي ذلك وحدة الحكم حدوثا وبقاء، ومعه يجري
الاستصحاب. وكلما كانت الخصوصية مقومة للمعروض كان انتفاؤها
موجبا لتعذر جريان الاستصحاب، لان المشكوك حينئذ مباين للمتيقن.
ومن هنا يبرز السؤال التالي: كيف نستطيع ان نميز بين الحيثية التعليلية
والحيثية التقييدية المقومة لمعروض الحكم؟. فقد يقال بان مرجع ذلك هو
الدليل الشرعي لان اخذ الحيثية في الحكم ونحو هذا الاخذ تحت سلطان
الشارع، فالدليل الشرعي هو الكاشف عن ذلك فإذا ورد بلسان (الماء إذا
تغير تنجس) فهمنا ان التغير اتخذ حيثية تعليلية.. وإذا ورد بلسان (الماء
المتغير متنجس) فهمنا ان التغير حيثية تقييدية، وعلى وزان ذلك (قلد
العالم) أو (قلده إن كان عالما) وهكذا.
والصحيح: ان اخذ الحيثية في الحكم بيد الشارع وكذلك نحو
أخذها في عالم الجعل، إذ في عالم الجعل يستحضر المولى مفاهيم معينة
كمفهوم الماء والتغير والنجاسة، فبامكانه ان يجعل التغير قيدا للماء وبإمكانه
ان يجعله شرطا في ثبوت النجاسة تبعا لكيفية تنظيمه لهذه المفاهيم في عالم
الجعل، غير أن استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية لا يجري بلحاظ
عالم الجعل بل بلحاظ عالم المجعول، فينظر إلى الحكم بما هو صفة للامر
الخارجي لكي يكون له حدوث وبقاء كما تقدم، وعليه فالمعروض محدد
واقعا وما هو داخل فيه وما هو خارج عنه، لا يتبع في دخوله وخروجه
نحو أخذه في عالم الجعل بل مدى قابليته للاتصاف بالحكم خارجا، فالتغير
مثلا لا يتصف بالنجاسة والقذارة في الخارج بل الذي يوصف بذلك ذات
الماء، والتغير سبب الاتصاف، والتقليد واخذ الفتوى يكون من العالم بما
هو عالم أو من علمه بحسب الحقيقة. فالتغير حيثية تعليلية ولو اخذت
تقييدية جعلا ودليلا، والعلم حيثية تقييدية لوجوب التقليد ولو اخذ شرطا
وعلة جعلا ودليلا.
وهنا نواجه سؤالا آخر وهو: ان المعروض واقعا بأي نظر نشخصه
172

هل بالنظر الدقيق العقلي أو بالنظر العرفي، مثلا إذا أردنا في الشبهة
الحكمية ان نستصحب اعتصام الكر بعد زوال جزء يسير منه فيما إذا
احتملنا بقاء الاعتصام وعدم انثلامه بزوال ذلك الجزء.. فكيف
نشخص معروض الاعتصام؟.. فإننا إذا اخذنا بالنظر الدقيق العقلي
وجدنا ان المعروض غير محرز بقاء، لان الجزء اليسير الذي زال من الماء
يشكل جزءا من المعروض بهذا النظر، وإذا اخذنا بالنظر العرفي وجدنا ان
المعروض لا يزال باقيا ببقاء معظم الماء لان العرف يرى أنه نفس الماء
السابق. والشئ نفسه ونواجهه عند استصحاب الكرية بعد زوال الجزء
اليسير من الماء في الشبهة الموضوعية.
والجواب: ان المتبع هو النظر العرفي، لان دليل الاستصحاب
خطاب عرفي منزل على الانظار العرفية، فالاستصحاب يتبع صدق النقض
عرفا وصدقه كذلك يرتبط بانحفاظ المعروض عرفا.
د - الأثر العملي:
والركن الرابع من أركان الاستصحاب وجود الأثر العملي المصحح
لجريانه، وهذا الركن يمكن بيانه باحدى الصيغ التالية:
الأولى: - ان الاستصحاب يتقوم بلزوم انتهاء التعبد فيه إلى اثر
عملي، إذ لو لم يترتب اي اثر عملي على التعبد الاستصحابي كان لغوا،
وقرينة الحكمة تصرف اطلاق دليل الاستصحاب عن مثل ذلك.
وصياغة الركن بهذه الصيغة تجعله بغير حاجة إلى اي استدلال سوى
ما ذكرناه، وتسمح حينئذ بجريان الاستصحاب حتى فيما إذا لم يكن
المستصحب اثرا شرعيا أو ذا اثر شرعي أو قابلا للتنجيز والتعذير بوجه من
الوجوه، على شرط أن يكون لنفس التعبد الاستصحابي به اثر يخرجه عن
اللغوية، كما إذا اخذ القطع بموضوع خارجي لا حكم له تمام الموضوع
لحكم شرعي وقلنا بان الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي بدعوى
173

ان المجعول فيه الطريقية، فان بالامكان حينئذ جريان الاستصحاب لترتيب
حكم القطع وإن لم يكن للمستصحب اثر، وهذا معنى امكان قيامه مقام
القطع الموضوعي دون الطريقي في بعض الموارد.
الثانية: - ان الاستصحاب يتقوم بان يكون المستصحب قابلا للتنجيز
والتعذير، ولا يكفي مجرد ترتب الأثر على نفس التعبد الاستصحابي، ولا
فرق في قابلية المستصحب للمنجزية والمعذرية بين ان تكون باعتباره حكما
شرعيا، أو عدم حكم شرعي، أو موضوعا لحكم، أو دخيلا في متعلق
الحكم، كالاستصحابات الجارية لتنقيح شرط الواجب مثلا اثباتا ونفيا.
ومدرك هذه الصيغة التي هي أضيق من الصيغة السابقة استظهار
ذلك من نفس دليل الاستصحاب، لان مفاده النهي عن نقض اليقين
بالشك، والنقض هنا ليس هو النقض الحقيقي لأنه واقع لا محالة ولا معنى
للنهي عنه، وانما هو النقض العملي، وفرض النقض العملي لليقين هو
فرض ان اليقين بحسب طبعه له اقتضاء عملي لينقض عملا، والاقتضاء
العملي لليقين انما يكون بلحاظ كاشفيته، وهذا يفترض أن يكون اليقين
متعلقا بما هو صالح للتنجيز والتعذير لكي يشمله اطلاق دليل
الاستصحاب.
وهذا البيان يتوقف على استظهار إرادة النقض العملي من النقض
بقرينة تعلق النهى به، ولا يتم إذا استظهر عرفا إرادة النقض الحقيقي مع
حمل النهي على كونه ارشادا إلى عدم امكان ذلك بحسب عالم الاعتبار،
فان المولى قد ينهي عن شئ ارشادا إلى عدم القدرة عليه، كما يقال في
(دعي الصلاة أيام أقرائك). غاية الامر ان الصلاة غير مقدورة للحائض
حقيقة، والنقض غير مقدور للمكلف ادعاء واعتبارا لتعبد الشارع ببقاء
اليقين السابق، وبناء على هذا الاستظهار يكون مفاد الدليل جعل
الطريقية، ولا يلزم في تطبيقه على مورد تصوير النقض العملي والاقتضاء
العملي، غير أنه يكفي لتعين الصيغة الثانية في مقابل الأولى اجمال الدليل
174

وتردده بين الاحتمالين الموجب للاقتصار على المتيقن منه والمتيقن ما تقرره
الصيغة الثانية.
الثالثة: - ان الاستصحاب يتقوم بان يكون المستصحب حكما شرعيا
أو موضوعا لحكم شرعي، وهذه الصيغة أضيق من كلتا الصيغتين
السابقتين، ومن هنا وقع الاشكال في كيفية جريان الاستصحاب على ضوء
هذه الصيغة في متعلق الامر قيدا وجزءا - من قبيل استصحاب الطهارة
مع أن قيد الواجب ليس حكما شرعيا ولا موضوعا يترتب عليه حكم
شرعي لان الوجوب يترتب على موضوعه لا على متعلقه، وقد يدفع
الاشكال بان ايجاد المتعلق مسقط للامر فهو موضوع لعدمه فيجري
استصحابه لاثبات عدم الامر وسقوطه، وهذا الدفع بحاجة من ناحية إلى
توسعة المقصود من الحكم بجعله شاملا لعدم الحكم أيضا، وبحاجة من
ناحية أخرى إلى التسليم بان ايجاد المتعلق مسقط لنفس الامر لا لفاعليته
على ما تقدم.
والأولى في دفع الاشكال رفض هذه الصيغة الثالثة إذ لا دليل عليها
سوى أحد أمرين:
الأول: - ان المستصحب إذا لم يكن حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم
شرعي كان أجنبيا عن الشارع فلا معنى للتعبد به شرعا. والجواب: عن
ذلك أن التعبد الشرعي معقول في كل مورد ينتهي فيه إلى التنجيز
والتعذير، وهذا لا يختص بما ذكر فان التعبد بوقوع الامتثال أو عدمه ينتهي
إلى ذلك أيضا.
الثاني: - ان مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل ظاهرا،
فلا بد أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي ليمكن
جعل الحكم المماثل على طبقه. والجواب: عن ذلك أنه لا موجب
لاستفادة جعل الحكم المماثل بعنوانه من دليل الاستصحاب، بل مفاده
النهي عن نقص اليقين بالشك اما بمعنى النهي عن النقض العملي بداعي
175

تنجيز الحالة السابقة بقاء، واما بمعنى النهي عن النقض الحقيقي ارشادا إلى
بقاء اليقين السابق أو بقاء المتيقن السابق ادعاء، وعلى كل حال فلا يلزم
أن يكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم، بل أن يكون امرا قابلا
للتنجيز والتعذير لكي يتعلق به التعبد على أحد هذه الانحاء.
176

مقدار ما يثبت الاستصحاب
لا شك في أن المستصحب يثبت تعبدا وعمليا بالاستصحاب، وأما
آثاره ولوازمه فهي على قسمين:
القسم الأول: الآثار الشرعية، كما إذا كان المستصحب موضوعا لحكم
شرعي أو حكما شرعيا واقعا بدوره موضوعا لحكم شرعي آخر، وقد يكون
المستصحب موضوعا لحكمه وحكمه بدوره موضوع لحكم آخر، كطهارة
الماء الذي يغسل به الطعام المتنجس فإنها موضوع لطهارة الطعام وهي
موضوع لحليته.
القسم الثاني: - الآثار واللوازم العقلية التي يكون ارتباطها
بالمستصحب تكوينيا وليس بالجعل والتشريع، كنبات اللحية اللازم تكوينا
لبقاء زيد حيا، وموته اللازم تكوينا من بقائه إلى جانب الجدار إلى حين
انهدامه، وكون ما في الحوض كرا اللازم تكوينا من استصحاب وجود كر
من الماء في الحوض فان مفاد كان الناقصة لازم عقلي لمفاد كان التامة،
وهكذا.
اما القسم الأول: فلا خلاف في ثبوته تعبدا وعمليا بدليل
الاستصحاب، سواء قلنا إن مفاده الارشاد إلى عدم الانتقاض لعناية التعبد
ببقاء المتيقن، أو الارشاد إلى عدم الانتقاض لعناية التعبد ببقاء نفس
اليقين، أو النهي عن النقض العملي لليقين بالشك.
177

اما على الأول فلان التعبد ببقاء المتيقن ليس بمعنى ابقائه حقيقة بل تنزيلا،
ومرجعه إلى تنزيل مشكوك البقاء منزلة الباقي فيكون دليل الاستصحاب
من أدلة التنزيل، ومقتضى دليل التنزيل اسراء الحكم الشرعي للمنزل
عليه إلى المنزل اسراء واقعيا أو ظاهريا تبعا لواقعية التنزيل أو ظاهريته
واناطته بالشك، وعليه فاطلاق التنزيل في دليل الاستصحاب يقتضى ثبوت
جميع الآثار الشرعية للمستصحب بالاستصحاب.
فان قيل: هذا يصح بالنسبة إلى الأثر الشرعي المترتب على
المستصحب مباشرة، ولا يبرر ثبوت الأثر الشرعي المترتب على ذلك الأثر
المباشر، وذلك لان الأثر المباشر لم يثبت حقيقة لكي يتبعه اثره لان التنزيل
ظاهري لا واقعي، وانما ثبت الأثر المباشر تنزيلا وتعبدا فكيف يثبت اثره؟
كان الجواب: انه يثبت بالتنزيل أيضا إذا ما دام اثبات الأثر المباشر
كان اثباتا تنزيليا فمرجعه إلى تنزيله منزلة الأثر المباشر الواقعي، وهذا
يستتبع ثبوت الأثر الشرعي الثاني تنزيلا وهكذا.
واما على الثاني فقد يستشكل بأنه لا تنزيل في ناحية المستصحب على
هذا التقدير، وانما التنزيل والتعبد في نفس اليقين وغاية ما يقتضيه كون
اليقين بالحالة السابقة باقيا تعبدا بلحاظ كاشفيته، ومن الواضح ان اليقين
بشئ انما يكون طريقا إلى متعلقه لا إلى آثار متعلقه، وانما يقع في صراط
توليد اليقين بتلك الآثار، واليقين المتولد هو الذي له طريقية إلى تلك
الآثار، وما دامت طريقية كل يقين تختص بمتعلقه فكذلك منجزيته
ومحركيته. وعليه فالتعبد ببقاء اليقين بالحالة السابقة انما يقتضي توفير المنجز
والمحرك بالنسبة إلى الحالة السابقة لا بالنسبة إلى آثارها الشرعية.
فان قيل: أليس من يكون على يقين من شئ يكون على يقين من
آثاره أيضا؟ كان الجواب ان اليقين التكويني بشئ يلزم منه اليقين
التكويني بما يعرفه الشخص من آثاره، واما اليقين التعبدي بشئ فلا يلزم
منه اليقين التعبدي بآثاره، لان امره تابع امتدادا وانكماشا لمقدار التعبد،
178

ودليل الاستصحاب لا يدل على أكثر من التعبد باليقين بالحالة السابقة.
والتحقيق: ان تنجز الحكم يحصل بمجرد وصول كبراه وهي الجعل
وصغراه وهي الموضوع، فاليقين التعبدي بموضوع الأثر بنفسه منجز لذلك
الأثر والحكم وإن لم يسر إلى الحكم.
ومنه يعرف الحال على التقدير الثالث فان اليقين بالموضوع لما كان
بنفسه منجزا للحكم كان الجري على طبق حكمه داخلا في دائرة اقتضائه
العملي فيلزم بمقتضى النهي عن النقض العملي.
فان قيل: إذا كان اليقين بالموضوع كافيا لتنجز الحكم المترتب
عليه، فماذا يقال عن الحكم الشرعي المترتب على هذا الحكم، وكيف
يتنجز مع أنه لا تعبد باليقين بموضوعه وهو الحكم الأول؟.
كان الجواب: ان الحكم الثاني الذي اخذ في موضوعه الحكم الأول
لا يفهم من لسان دليله الا ان الحكم الأول بكبراه وصغراه موضوع
للحكم الثاني، والمفروض انه محرز كبرى، وصغرى، جعلا،
وموضوعا، وهذا هو معنى اليقين بموضوع الحكم الثاني فيتنجز الحكم الثاني
كما يتنجز الحكم الأول.
واما القسم الثاني: فلا يثبت بدليل الاستصحاب لأنه ان أريد
اثبات اللوازم العقلية بما هي فقط فهو غير معقول إذ لا اثر للتعبد بها بما
هي... وان أريد اثبات ما لهذه اللوازم من آثار واحكام شرعية فلا يساعد
عليه دليل الاستصحاب على التقادير الثلاثة المتقدمة. اما على الأول فلان
التنزيل في جانب المستصحب انما يكون بلحاظ الآثار الشرعية لا اللوازم
العقلية، كما تقدم في الحلقة السابقة. واما على الأخيرين فلان اليقين
بالحالة السابقة تعبدا لا يفيد لتنجيز الحكم الشرعي المترتب على اللازم
العقلي، لان موضوع هذا الحكم هو اللازم العقلي واليقين التعبدي
بالمستصحب ليس يقينا تعبديا باللازم العقلي.
179

وعلى هذا الأساس يقال: ان الأصل المثبت غير معتبر، بمعنى ان
الاستصحاب لا تثبت به اللوازم العقلية للمستصحب ولا الآثار الشرعية
لتلك اللوازم. نعم إذا كان لنفس الاستصحاب لازم عقلي كحكم العقل
بالمنجزية مثلا فلا شك في ترتبه، لان الاستصحاب ثابت بالدليل المحرز
فتترتب عليه كل لوازمه الشرعية والعقلية على السواء.
هذا كله على تقدير عدم ثبوت أمارية الاستصحاب كما هو الصحيح
على ما عرفت. واما لو قيل بأماريته واستظهرنا من دليل الاستصحاب ان
اعتبار الحالة السابقة بلحاظ الكاشفية. كان حجة في اثبات اللوازم
العقلية للمستصحب واحكامها أيضا وفقا للقانون العام في الامارات على ما
تقدم سابقا.
180

عموم جريان الاستصحاب
بعد ثبوت كبرى الاستصحاب وقع البحث بين المحققين في اطلاقها
لبعض الحالات. ومن هنا نشأ التفصيل في القول به، ولعل أهم
التفصيلات المعروفة قولان:
أحدهما: ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري من التفصيل بين موارد
الشك في المقتضى والشك في الرافع، والالتزام بجريان الاستصحاب في
الثاني دون الأول. ومدرك المنع من جريانه في الأول أحد وجهين:
الأول: - ان يدعي بان دليل الاستصحاب ليس فيه اطلاق لفظي.
وانما ألغيت خصوصية المورد في قوله (ولا ينقض اليقين ابدا بالشك)
بقرينة الارتكاز العرفي وكون الكبرى مسوقة مساق التعليل الظاهر في
الإشارة إلى قاعدة عرفية مركوزة وليست هي الا كبرى الاستصحاب، ولما
كان المرتكز عرفا من الاستصحاب لا يشمل موارد الشك في المقتضي.
فالتعميم الحاصل في الدليل بضم هذا الارتكاز لا يقتضى اطلاقا أوسع من
موارد الشك في الرافع.
وهذا البيان يتوقف - كما ترى - على عدم استظهار الاطلاق اللفظي
في نفسه وظهور اللام في كلمتي (اليقين) و (الشك) في الجنس.
الثاني: - ان يسلم بالاطلاق اللفظي في نفسه ولكن يدعي وجود
181

قرينة متصلة على تقييده، وهي كلمة (النقض) حيث إنها لا تصدق في
موارد الشك في المقتضي. وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في الحلقة
السابقة واتضح ان كلمة (النقض) لا تصلح للتقييد.
والقول الآخر: ما ذهب إليه السيد الأستاذ من عدم جريان
الاستصحاب في الشبهات الحكمية واختصاصه بالشبهات الموضوعية،
وذلك - بعد الاعتراف باطلاق دليل الاستصحاب في نفسه لكلا القسمين
من الشبهات - بدعوى أن عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية
ينشأ من التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل.
وتوضيح ذلك أن الحكم الشرعي - كما تقدم في محله - ينحل إلى جعل
ومجعول، والشك فيه تارة يكون مصبه الجعل وأخرى يكون مصبه
المجعول، فالنحو الأول من الشك يعني ان الجعل قد تعلق بحكم محدد
واضح بكل ماله دخل فيه من الخصوصيات، غير أن المكلف يشك في
بقاء نفس الجعل ويحتمل ان المولى الغاه ورفع يده عنه، وهذا هو النسخ
بالمعنى الحقيقي في عالم الجعل، والنحو الثاني من الشك يعني ان الجعل
ثابت ولا يحتمل نسخه غير أن الشك في مجعوله والحكم المنشأ به، فلا
يعلم مثلا هل ان المولى جعل النجاسة على الماء المتغير حتى إذا زال تغيره
من قبل نفسه أو جعل النجاسة منوطة بفترة التغير الفعلي، فالمجعول مردد
بين فترة طويلة وفترة قصيرة، وكلما كان المجعول مرددا كذلك كان الجعل
مرددا لا محالة بين الأقل والأكثر، لان جعل النجاسة للفترة القصيرة
معلوم وجعل النجاسة للفترة الإضافية مشكوك.
ففي النحو الأول من الشك - إذا كان ممكنا - يجري استصحاب بقاء
الجعل، واما في النحو الثاني من الشك فيوجد استصحابان متعارضان:
أحدهما: استصحاب بقاء المجعول اي بقاء النجاسة في الماء بعد زوال
التغير مثلا لأنها معلومة حدوثا ومشكوكة بقاء، والآخر: استصحاب عدم
جعل الزائد اي عدم جعل نجاسة الفترة الإضافية مثلا، لما أوضحناه من أن
تردد المجعول يساوق الشك في الجعل الزائد. وهذان الاستصحابان
182

يسقطان بالمعارضة فلا يجري استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية.
ولكي نعرف الجواب على شبهة المعارضة هذه ينبغي ان نفهم كيف
يجري استصحاب المجعول في الشبهة الحكمية بحد ذاته قبل أن نصل إلى
دعوى معارضته بغيره. فنقول: ان استصحاب المجعول نحوان:
أحدهما: استصحاب المجعول الفعلي التابع لفعلية موضوعه المقدر الوجود
في جعله، وهو لا يتحقق ولا يتصف باليقين بالحدوث والشك في البقاء الا
بعد تحقق موضوعه خارجا، فنجاسة الماء المتغير لا تكون فعلية الا بعد
وجود ماء متغير بالفعل، ولا تتصف بالشك في البقاء الا بعد أن يزول
التغير عن الماء فعلا وحينئذ يجري استصحاب النجاسة الفعلية،
واستصحاب المجعول بهذا المعنى يتوقف جريانه - كما ترى - على وجود
الموضوع، وهذا يعني انه لا يجري بمجرد افتراض المسألة على وجه كلي
والالتفات إلى حكم الشارع بنجاسة الماء المتغير، ويقضي ذلك بان اجراء
الاستصحاب من شأن المكلف المبتلى بالواقعة خارجا لا من شأن المجتهد
الذي يستنبط حكمها على وجه كلي، فالمجتهد يفتيه بجريان الاستصحاب
في حقه عند تمامية الأركان لا ان المجتهد يجريه ويفتي المكلف بمفاده.
والنحو الآخر لاستصحاب المجعول هو اجراء الاستصحاب في
المجعول الكلي على نحو تتم أركانه بمجرد التفات الفقيه إلى حكم الشارع
بنجاسة الماء المتغير وشكه في شمول هذه النجاسة لفترة ما بعد زوال
التغير، وعلى هذا الأساس يجري الاستصحاب بدون توقف على وجود
الموضوع خارجا، ومن هنا كان بامكان المجتهد اجراؤه والاستناد إليه في
افتاء المكلف بمضمونه، ولا شك في انعقاد بناء والفقهاء والارتكاز العرفي
على استفادة هذا النحو من استصحاب المجعول من دليل الاستصحاب،
غير أنه قد يستشكل في النحو المذكور بدعوى أن المجعول الفعلي التابع
لوجود موضوعه له حدوث وبقاء تبعا لموضوعه، واما المجعول الكلي فليس
له حدوث وبقاء بل تمام حصصه ثابتة ثبوتا عرضيا آنيا بنفس الجعل بلا
تقدم وتأخر زماني، وهذا يعنى انا كلما لاحظنا المجعول على نهج كلي لم
183

يكن هناك يقين بالحدوث وشك في البقاء ليجري الاستصحاب، فأركان
الاستصحاب انما تتم في المجعول بالنحو الأول لا الثاني، وقد أشرنا سابقا
إلى هذا الاستشكال وعلقنا عليه بما يوحي باجراء استصحاب المجعول على
النحو الأول، غير أن هذا كان تعليقا موقتا إلى أن يحين الوقت المناسب.
واما الصحيح في الجواب فهو: ان المجعول الكلي وهو نجاسة الماء
المتغير مثلا يمكن ان ينظر إليه بنظرين أحدهما: النظر إليه بما هو امر ذهني
مجعول في أفق الاعتبار، والآخر: النظر إليه بما هو صفة للماء الخارجي،
فهو بالحمل الشايع امر ذهني وبالحمل الأولي صفة للماء الخارجي، وبالنظر
الأول ليس له حدوث وبقاء لأنه موجود بتمام حصصه بالجعل في آن
واحد، وبالنظر الثاني له حدوث وبقاء، وحيث إن هذا النظر هو النظر
العرفي في مقام تطبيق دليل الاستصحاب فيجري استصحاب المجعول
بالنحو الثاني لتمامية أركانه.
إذا اتضح ذلك فنقول لشبهة المعارضة بأنه في تطبيق دليل
الاستصحاب على الحكم الكلي في الشبهة الحكمية لا يعقل تحكيم كلا
النظرين لتهافتهما، فان سلم بالأخذ بالنظر الثاني تعين اجراء استصحاب
المجعول ولم يجر استصحاب عدم الجعل الزائد، إذ بهذا النظر لا نرى
جعلا ومجعولا ولا امرا ذهنيا بل صفة لامر خارجي لها حدوث وبقاء، وان
ادعي الاخذ بالنظر الأول فاستصحاب المجعول بالنحو الثاني الذي يكون
من شأن المجتهد اجراؤه لا يجري في نفسه لا انه يسقط بالمعارضة.
إن قيل: لماذا لا نحكم كلا النظرين ونلتزم باجراء استصحاب عدم
الجعل الزائد تحكيما للنظر الأول في تطبيق دليل الاستصحاب، واجراء
استصحاب المجعول تحكيما للنظر الثاني، ويتعارض الاستصحابان.
كان الجواب: ان التعارض لا نواجهه ابتداء في مرحلة اجراء
الاستصحاب بعد الفراغ عن تحكيم كلا النظرين، وانما نواجهه في مرتبة
أسبق اي في مرحلة تحكيم هذين النظرين فإنهما لتهافتهما ينفي كل منهما ما
184

يثبته الآخر من الشك في البقاء، ومع تهافت النظرين في نفسيهما يستحيل
تحكيمهما معا على دليل الاستصحاب لكي تنتهي النوبة إلى التعارض بين
الاستصحابين، بل لا بد من جري الدليل على أحد النظرين وهو النظر
الذي يساعد عليه العرف خاصة.
185

تطبيقات
1 - استصحاب الحكم المعلق
قد نحرز كون الحكم منوطا في مقام جعله بخصوصيتين وهناك
خصوصية ثالثة يحتمل دخلها في الحكم أيضا. وفي هذه الحالة يمكن ان
نفترض: ان احدى تلك الخصوصيتين معلومة الثبوت، والثانية معلوما
الانتفاء، واما الخصوصية الثالثة المحتمل دخلها فهي ثابتة. وهذا
الافتراض يعني ان الحكم ليس فعليا ولكنه يعلم بثبوته على تقدير وجود
الخصوصية الثانية، فالمعلوم هو الحكم المعلق والقضية الشرطية. فإذا
افترضنا ان الخصوصية الثانية وجدت بعد ذلك ولكن بعد أن زالت
الخصوصية الثالثة، حصل الشك في بقاء تلك القضية الشرطية لاحتمال
دخل الخصوصية الثالثة في الحكم. وهنا تأتي الحاجة إلى البحث عن امكان
استصحاب الحكم المعلق، ومثال ذلك: حرمة العصير العنبي المنوطة
بالعنب وبالغليان ويحتمل دخل الرطوبة وعدم الجفاف فيها، فإذا جف
العنب ثم غلي كان موردا لاستصحاب الحرمة المعلقة على الغليان.
وقد وجه إلى هذا الاستصحاب ثلاثة اعتراضات:
الاعتراض الأول: - ان أركان الاستصحاب غير تامة، لان الجعل
لا شك في بقائه، والمجعول لا يقين بحدوثه، والحرمة على نهج القضية
الشرطية امر منتزع عن جعل الحرمة على موضوعها المقدر الوجود ولا اثر
للتعبد به. ومن أجل هذا الاعتراض بنت مدرسة المحقق النائيني على عدم
186

جريان الاستصحاب في الحكم المعلق.
وقد يجاب على ذلك بجوابين:
أحدهما: - انا نستصحب سببية الغليان للحرمة، وهي حكم
وضعي فعلي معلوم حدوثا ومشكوك بقاء. والرد على هذا الجواب: انه ان
أريد باستصحاب السببية اثبات الحرمة فعلا فهو غير ممكن لان الحرمة
ليست من الآثار الشرعية السببية بل من الآثار الشرعية لذات السبب الذي
رتب الشارع عليه الحرمة وان أريد بذلك الاقتصار على التعبد بالسببية فهو
لغو لأنها بعنوانها لا تصلح للمنجزية والمعذرية.
والجواب الآخر: لمدرسة المحقق العراقي، وهو يقول: ان
الاعتراض المذكور يقوم على أساس ان المجعول لا يكون فعليا إلا بوجود
تمام اجزاء الموضوع خارجا، فإنه حينئذ يتعذر استصحاب المجعول في
المقام إذ لم يصبح فعليا ليستصحب. ولكن الصحيح ان المجعول ثابت
بثبوت الجعل ولأنه منوط بالوجود اللحاظي للموضوع، لا بوجوده
الخارجي فهو فعلي قبل تحقق الموضوع خارجا.
وقد أردف المحقق العراقي ناقضا على المحقق النائيني بأنه أليس
المجتهد يجري الاستصحاب في المجعول الكلي قبل أن يتحقق الموضوع
خارجا؟!.
ونلاحظ على الجواب المذكور: ان المجعول إذا لوحظ بما هو امر
ذهني فهو نفس الجعل المنوط بالوجود اللحاظي للشرط وللموضوع على ما
تقدم في الواجب المشروط، الا ان المجعول حينئذ لا يجري فيه استصحاب
الحكم بهذا اللحاظ إذ لا شك في البقاء وانما الشك في حدوث الجعل
الزائد على ما عرفت سابقا.. وإذا لوحظ المجعول بما هو صفة للموضوع
الخارجي فهو منوط في هذا اللحاظ بالخارج، فما لم يوجد الموضوع بالكامل
ولو تقديرا وافتراضا لا يرى للمجعول فعلية لكي يستصحب. ومن ذلك
يعرف حال النقض المذكور فان المجتهد يفترض تحقق الموضوع بالكامل
187

فيشك في البقاء مبنيا على هذا الفرض، وأين هذا من اجراء استصحاب
الحكم بمجرد افتراض جزء الموضوع؟. وبكلمة أخرى: ان كفاية ثبوت
المجعول بتقدير وجود موضوعه في تصحيح استصحابه شئ.. وكفاية
الثبوت التقديري لنفس المجعول في تصحيح استصحابه دون تواجد تمام
الموضوع لا خارجا ولا تقديرا. شئ آخر.
والتحقيق: - ان إناطة الحكم بالخصوصية الثانية في مقام الجعل تارة
تكون في عرض إناطته بالخصوصية الأولى، بان قيل (العنب المغلي
حرام).. وأخرى تكون على نحو مترتب وطولي بمعنى ان الحكم يقيد
بالخصوصية الثانية وبما هو مقيد بها يناط بالخصوصية الأولى، بان قيل
(العنب إذا غلى حرم) فان العنب هنا يكون موضوعا للحرمة المنوطة
بالغليان، خلافا للفرضية الأولى التي كان العنب المغلي بما هو كذلك
موضوعا للحرمة. ففي الحالة الأولى يتجه الاعتراض المذكور، ولا يجري
الاستصحاب في القضية الشرطية، لأنها امر منتزع عن الجعل وليست هي
الحكم المجعول. واما في الحالة الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب في
نفس القضية الشرطية التي وقع العنب موضوعا لها، لأنها مجعولة من قبل
الشارع بما هي شرطية ومرتبة على عنوان العنب، فالعنب موضوع للقضية
الشرطية حدوثا يقينا ويشك في استمرار ذلك بقاء فتستصحب.
الاعتراض الثاني: - انا إذا سلمنا تواجد ركني الاستصحاب في
القضية الشرطية فلا نسلم جريان الاستصحاب مع ذلك، لأنه انما يثبت
الحكم المشروط وهو لا يقبل التنجز، واما ما يقبل التنجز فهو الحكم
الفعلي، فما لم يكن المجعول فعليا لا يتنجز الحكم، واثبات فعلية المجعول
عند وجود الشرط باستصحاب الحكم المشروط متعذر، لان ترتب فعلية
المجعول عند وجود الشرط على ثبوت الحكم الشروط عقلي وليس شرعيا.
ونلاحظ على ذلك:
أولا: انه يكفي في التنجيز ايصال الحكم المشروط مع احراز
188

الشرط، لان وصول الكبرى والصغرى معا كاف لحكم العقل بوجوب
الامتثال.
وثانيا: ان دليل الاستصحاب إذا بنينا على تكفله لجعل الحكم
المماثل كان مفاده في المقام ثبوت حكم مشروط ظاهري، وتحول هذا
الحكم الظاهري إلى فعلي عند وجود الشرط، لازم عقلي لنفس الحكم
الاستصحابي المذكور لا للمستصحب، وقد مر بنا سابقا ان اللوازم العقلية
لنفس الاستصحاب تترتب عليه بلا اشكال.
الاعتراض الثالث: - ان استصحاب الحكم المعلق معارض
باستصحاب الحكم المنجز، ففي مثال العنب كما يعلم بالحرمة المعلقة على
الغليان سابقا كذلك يعلم بالحلية الفعلية المنجزة قبل الغليان فتستصحب،
ويتعارض الاستصحابان.
وقد يجاب على ذلك بجوابين:
أحدهما: - ما ذكره صاحب الكفاية من انه لا معارضة بين
الاستصحابين، إذ كما أن الحرمة كانت معلقة فتستصحب بما هي معلقة
كذلك الحلية كانت في العنب مغياة بالغليان فتستصحب بما هي مغياة، ولا
تنافي بين حلية مغياة وحرمة معلقة على الغاية.
ونلاحظ على ذلك: ان الحلية التي نريد استصحابها هي الحلية
الثابتة بعد الجفاف وقبل الغليان، ولا علم بأنها مغياة لاحتمال عدم الحرمة
بالغليان بعد الجفاف فنستصحب ذات هذه الحلية.
فان قيل إن الحلية الثابتة قبل الجفاف نعلم بأنها مغياة، ونشك في
تبدلها إلى الحلية غير المغياة بالجفاف، فنستصحب تلك الحلية المغياة
المعلومة قبل الجفاف.
كان الجواب: ان استصحابها لا يعين حال الحلية المعلومة بعد
189

الجفاف، ولا يثبت انها مغياة الا بالملازمة، للعلم بعدم امكان وجود
حليتين، وما دامت الحلية المعلومة بعد الجفاف لا مثبت لكونها مغياة
فبالامكان استصحاب ذاتها إلى ما بعد الغليان.
والجواب الآخر ما ذكره الشيخ الأنصاري والمحقق النائيني من أن
الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي. ويمكن ان يقال
في توجيه ذلك: ان استصحاب القضية الشرطية للحكم اما ان يثبت فعلية
الحكم عند تحقق الشرط، واما أن لا يثبت ذلك. فان لم يثبت لم يجر في
نفسه، إذ اي اثر لاثبات حكم مشروط لا ينتهي إلى الفعلية. وان أثبت
ذلك تم الملاك لتقديم استصحاب الحكم المعلق على استصحاب الحكم
المنجز وحكومته عليه، وفقا للقاعدة المتقدمة في الحلقة السابقة القائلة: انه
كلما كان أحد الأصلين يعالج مورد الأصل الثاني دون العكس، قدم
الأصل الأول على الثاني، فان مورد الاستصحاب التنجيزي مرحلة الحكم
الفعلي، ومورد استصحاب المعلق مرحلة الثبوت التقديري للحكم،
والمفروض ان استصحاب المعلق يثبت حرمة فعلية وهو معنى نفي الحلية
الفعلية، واما استصحاب الحلية الفعلية فلا ينفي الحرمة المعلقة ولا
يتعرض إلى الثبوت التقديري.
ونلاحظ على ذلك: ان هذا لا يتم عند من لا يثبت الفعلية
باستصحاب القضية المشروطة ويرى كفاية وصول الكبرى والصغرى في
حكم العقل بوجوب الامتثال، فان استصحاب الحكم المعلق على هذا
الأساس لا يعالج مورد الاستصحاب الآخر ليكون حاكما عليه.
190

2 - استصحاب عدم النسخ
تقدم في الحلقة السابقة ان النسخ بمعناه الحقيقي مستحيل بالنسبة إلى
مبادئ الحكم، ومعقول بالنسبة إلى الحكم في عالم الجعل، وعليه فالشك
في النسخ بالنسبة إلى عالم الجعل يتصور على نحوين:
الأول: - ان يشك في بقاء نفس الجعل وعدمه بمعنى احتمال إلغاء
المولى له.
الثاني: - ان يشك في سعة المجعول وشموله من الناحية الزمانية
بمعنى احتمال ان الجعل تعلق بالحكم المقيد بزمان قد انتهى امده.
فإذا كان الشك من النحو الأول فلا شك في امكان اجراء
الاستصحاب لتمامية أركانه، غير أن هنا شبهة قد تمنع عن جريانه على
أساس ان ترتب المجعول على الجعل ليس شرعيا بل عقليا فاثباته
باستصحاب الجعل غير ممكن. والجواب: انا لسنا بحاجة إلى اثبات شئ
وراء الجعل في مقام التنجيز، لما تقدم من كفاية وصول الكبرى
والصغرى، وعليه فالاستصحاب يجري خلافا للأصل اللفظي بمعنى اطلاق
الدليل، فإنه لا يمكن التمسك به لنفي النسخ بهذا المعنى.
وإذا كان الشك من النحو الثاني فلا شك في امكان التمسك باطلاق
الدليل لنفيه، ولكن جريان الاستصحاب موضع بحث، وذلك لامكان
191

دعوى أن المتيقن ثبوت الحكم على المكلفين في الزمان الأول، والمشكوك
ثبوته على افراد آخرين وهم المكلفون الذين يعيشون في الزمان الثاني،
فمعروض الحكم متعدد الا بالنسبة إلى شخص عاش كلا الزمانين
بشخصه. وعلاج ذلك أن الحكم المشكوك في نسخه ليس مجعولا على نحو
القضية الخارجية التي تنصب على الافراد المحققة خارجا مباشرة، بل على
نحو القضية الحقيقية التي ينصب فيها الحكم على الموضوع الكلي المقدر
الوجود، وفي هذه المرحلة لا فارق بين القضية المتيقنة والقضية المشكوكة
موضوعا الا من ناحية الزمان وتأخر الموضوع للقضية المشكوكة زمانا عن
الموضوع للقضية المتيقنة، وهذا يكفي لانتزاع عنواني الحدوث والبقاء عرفا
على نحو يعتبر الشك المفروض شكا في بقاء ما كان فيجري الاستصحاب.
والاستصحاب على هذا الضوء استصحاب تنجيزي مفاده التعبد ببقاء
المجعول الكلي الملحوظ بما هو صفة لطبيعي المكلف، وبالامكان التعويض
عنه باستصحاب الحكم المعلق، بان يشار إلى الفرد المكلف المتأخر زمانا
ويقال: ان هذا كان حكمه كذا على تقدير وجوده ولا يزال كما كان،
وبذلك يتم التخلص عن مشكلة تعدد معروض الحكم، ولكن توجد
مشكلة أخرى يواجهها الاستصحاب في المقام سواء أجري
بصيغته التنجيزية أو التعليقية، وهي: انه معارض باستصحاب العدم
المنجز الثابت لآحاد المكلفين الذين يعيشون في الزمان المحتمل وقوع النسخ
فيه، وهذا يشبه الاعتراض على الاستصحاب التعليقي عموما بمعارضته
بالاستصحاب التنجيزي.
192

3 - استصحاب الكلي
استصحاب الكلي هو التعبد ببقاء الجامع بين فردين من الحكم أو
الجامع بين شيئين خارجيين إذا كان له اثر شرعي. والكلام فيه يقع في
جهتين:
الجهة الأولى: - في أصل اجراء استصحاب الكلي، إذ قد يعترض
على ذلك في باب الاحكام تارة وفي باب الموضوعات أخرى.
اما في باب الاحكام فالاعتراض ينشأ من المبنى القائل بان المجعول
في دليل الاستصحاب هو الحكم المماثل للمستصحب، فيقال حينئذ: ان
المستصحب إذا كان هو الجامع بين الوجوب والاستحباب أو بين وجوبين
اقتضى ذلك جعل المماثل له بدليل الاستصحاب، وهو باطل لان الجامع
بحده لا يعقل جعله إذ يستحيل وجود الجامع الا في ضمن فرده، والجامع
في ضمن أحد فرديه بالخصوص ليس محطا للاستصحاب ليكون مصبا
للتعبد الاستصحابي. وهذا الاعتراض يتوقف على قبول المبني المشار إليه،
اما إذا أنكرناه وفرضنا ان مفاد دليل الاستصحاب إبقاء اليقين بمعنى من
المعاني.. فيمكن افتراض ابقائه بقدر الجامع، فيكون بمثابة العلم
الاجمالي المتعلق بالجامع.
واما في باب الموضوعات فالاعتراض ينشأ من أن الأثر الشرعي
مترتب على افراد الجامع لا على الجامع بعنوانه فلا يترتب على استصحابه
193

اثر. والجواب: انه ان أريد ان الحكم الشرعي في لسان دليله مترتب على
العنوانين التفصيليين للفردين، فيرد عليه: انا نفرض الحكم فيما إذا رتب
في لسان الدليل على عنوان الجامع بين الفردين كحرمة المس المرتبة على
جامع الحدث. وان سلم ترتب الحكم في دليله على الجامع وادعي ان
الجامع إنما يؤخذ موضوعا بما هو معبر عن الخارج لا بما هو مفهوم ذهني،
فلا بد من اجراء الاستصحاب فيما اخذ الجامع معبرا عنه ومرآة له وهو
الخارج وليس في الخارج إلا الفرد.. فيرد عليه: ان موضوع الحكم وان
كان هو الجامع والمفهوم بما هو مرآة للخارج لا باعتباره امرا ذهنيا.. الا
ان الاستصحاب يجري في الجامع بما هو مرآة للخارج أيضا، ولا معنى
لجريانه في الخارج ابتداء بلا توسط عنوان من العناوين، لان الاستصحاب
حكم شرعي ولا بد ان ينصب التعبد فيه على عنوان، وكما ان العنوان
التفصيلي يجري فيه الاستصحاب بما هو مرآة للخارج، كذلك العنوان
الاجمالي الكلي.
وبما ذكرناه ظهر الفارق الحقيقي بين استصحاب الفرد واستصحاب
الكلي، مع أن التوجه في كل منهما إلى اثبات واقع خارجي واحد حيث إن
الكلي موجود بعين وجود الفرد، وهذا الفارق هو ان الاستصحاب باعتباره
حكما منجزا وموصلا للواقع فهو انما يتعلق به بتوسط عنوان من عناوينه
وصورة من صوره، فإن كان مصب التعبد هو الواقع المرئي بعنوان
تفصيلي مشير إليه فهذا استصحاب الفرد، وان كان مصبه الواقع المرئي
بعنوان جامع مشير إليه فهذا هو استصحاب الكلي، على الرغم من وحدة
الواقع المشار إليه بكلا العنوانين. والذي يحدد اجراء الاستصحاب بهذا
النحو أو بذاك كيفية اخذ الأثر الشرعي في لسان دليله.
وعلى هذا الضوء يتضح ان التفرقة بين استصحاب الفرد
واستصحاب الكلي لا تتوقف على دعوى التعدد في الواقع الخارجي وان
للكلي واقعا وسيعا منحازا عن واقعيات الافراد - على طريقة الرجل الهمداني
194

في تصور الكلي الطبيعي - وهي دعوى باطلة لما ثبت في محله من أن الكلي
موجود بعين وجود الافراد.
كما أنه لا موجب لارجاع الكلي في مقام التفرقة المذكورة إلى الحصة،
ودعوى أن كل فرد يشتمل على حصة من الكلي ومشخصات عرضية،
واستصحاب الكلي عبارة عن استصحاب ذات الحصة، واستصحاب الفرد
عبارة عن استصحاب الحصة مع المشخصات.. بل الصحيح في التفرقة
ما ذكرناه.
الجهة الثانية: - في أقسام استصحاب الكلي.
يمكن تقسيم الشك في بقاء الكلي إلى قسمين:
أحدهما: الشك في بقاء الكلي غير الناشئ من الشك في حدوث
الفرد، والآخر: الشك في بقائه الناشئ من الشك في حدوث الفرد.
ومثال الأول: ان يعلم بدخول الانسان ضمن زيد في المسجد ويشك في
خروجه، ومثال الثاني: ان يعلم بحدث مردد بين الأصغر والأكبر ويشك
في ارتفاعه بعد الوضوء، فان الشك مسبب عن الشك في حدوث الأكبر.
اما القسم الأول فله حالتان:
الأولى: - أن يكون الكلي معلوما تفصيلا ويشك في بقائه كما في
المثال المذكور، حيث يعلم بوجود زيد تفصيلا. وهنا إذا كان الأثر
الشرعي مترتبا على الجامع جرى استصحاب الكلي.
واستصحاب الكلي في هذه الحالة جار على كل حال، سواء فسرنا
استصحاب الكلي وفرقنا بينه وبين استصحاب الفرد على أساس كون
المستصحب الوجود السعي للكلي على طريقة الرجل الهمداني، أو الحصة،
أو الخارج بمقدار مرآتية العنوان الكلي، على ما تقدم في الجهة السابقة، إذ
على كل هذه الوجوه تعتبر أركان الاستصحاب تامة.
الثانية: - أن يكون الكلي معلوما اجمالا ويشك في بقائه على كلا
195

تقديريه، كما إذا علم بوجود زيد أو خالد في المسجد ويشك في بقائه سواء
كان زيدا أو خالدا، فيجري استصحاب الجامع إذا كان الأثر الشرعي
مترتبا عليه. ولا اشكال في ذلك بناء على إرجاع استصحاب الكلي إلى
استصحاب الوجود السعي له على طريقة الرجل الهمداني. وبناء على
المختار من ارجاعه إلى استصحاب الواقع بمقدار مرآتية العنوان الاجمالي،
واما بناء على ارجاعه إلى استصحاب الحصة فقد يستشكل بأنه لا يقين
بحدوث اي واحدة من الحصتين فكيف يجري استصحابها، اللهم الا ان
تلغى ركنية اليقين وتستبدل بركنية الحدوث.
ويسمى هذا القسم في كلماتهم بكلتا حالتيه بالقسم الأول من
استصحاب الكلي.
واما القسم الثاني فله حالتان أيضا:
الأولى: - أن يكون الشك في حدوث الفرد المسبب للشك في بقاء
الكلي مقرونا بالعلم الاجمالي كما في المثال المتقدم لهذا القسم، فان الشك
في الحدث الأكبر مقرون بالعلم الاجمالي بأحد الحدثين. والصحيح جريان
الاستصحاب في هذه الحالة إذا كان للجامع اثر شرعي، ويسمى في
كلماتهم بالقسم الثاني من استصحاب الكلي.
وقد يعترض على جريان هذا الاستصحاب بوجوه:
منها: انه لا يقين بالحدوث، وهو اعتراض مبني على ارجاع
استصحاب الكلي إلى استصحاب الحصة، وحيث لا علم بالحصة حدوثا
فلا يجري الاستصحاب لعدم اليقين بالحدوث، بل لعدم الشك في البقاء
إذ لا شك في الحصة بقاء، بل احدى الحصتين معلومة الانتفاء والأخرى
معلومة البقاء. وقد تقدم ان استصحاب الكلي ليس بمعنى استصحاب
الحصة، بل هو استصحاب للواقع بمقدار ما يرى بالعنوان الاجمالي
للجامع، وهذا معلوم بالعلم الاجمالي حدوثا.
196

ومنها: - انه لا شك في البقاء، لان الشك ينبغي ان يتعلق بنفس
ما تعلق به اليقين، ولما كان اليقين هنا علما اجماليا والعلم الاجمالي يتعلق
بالمردد. فلا بد ان يتعلق الشك بالواقع على ترديده أيضا، وهذا انما
يتواجد فيما إذا كان الواقع مشكوك البقاء على كل تقدير، مع أنه ليس
كذلك لان الفرد القصير من الجامع لا شك في بقائه.
والجواب: ان العلم الاجمالي لا يتعلق بالواقع المردد بل بالجامع وهو
مشكوك، إذ يكفي في الشك في بقاء الجامع التردد في كيفية حدوثه.
ومنها: - ان الوجود القصير للكلي لا يحتمل بقاؤه، والوجود الطويل
له، لا يحتمل ارتفاعه، وليس هناك في مقابلهما الا المفهوم الذهني الذي
لا معنى لاستصحابه.
والجواب: ان الشك واليقين انما يعرضان الواقع الخارجي بتوسط
العناوين الحاكية عنه، فلا محذور في أن يكون الواقع بتوسط العنوان
التفصيلي مقطوع البقاء أو الانتفاء، وبتوسط العنوان الاجمالي مشكوك
البقاء، ومصب التعبد الاستصحابي دائما العنوان بما هو حاك عن الواقع تبعا
لاخذه موضوعا للأثر الشرعي بما هو كذلك.
نعم إذا أرجعنا استصحاب الكلي إلى استصحاب الحصة أمكن المنع
عن جريانه في المقام، لأنه يكون من استصحاب الفرد المردد نظرا إلى أن
احدى الحصتين مقطوعة الانتفاء فعلا.
ومنها: - ان استصحاب الكلي يحكم عليه استصحاب عدم حدوث
الفرد الطويل الأمد، لان الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في
حدوث هذا الفرد.
والجواب: ان التلازم بين حدوث الفرد الطويل الأمد وبقاء الكلي
عقلي وليس شرعيا، فلا يثبت باستصحاب عدم الأول نفي بقاء الثاني.
ومنها: ان استصحاب الكلي معارض باستصحاب عدم الفرد
197

الطويل إلى ظرف الشك في بقاء الكلي، لان عدم الكلي عبارة عن عدم
كلا فرديه، والفرد القصير الأمد معلوم الانتفاء فعلا بالوجدان، والفرد
الطويل الأمد محرز الانتفاء فعلا باستصحاب عدمه، فهذا الاستصحاب
بضمه إلى الوجدان المذكور حجة على عدم الكلي فعلا، فيعارض الحجة
على بقائه المتمثلة في استصحاب الكلي.
والتحقيق: انه تارة يكون وجود الكلي بما هو وجود له كافيا في ترتب
الأثر على نحو لو فرض - ولو محالا - وجود الكلي لا في ضمن حصة خاصة
لترتب عليه الأثر. وأخرى لا يكون الأثر مترتبا على وجود الكلي الا بما
هو وجود لهذه الحصة ولتلك الحصة على نحو تكون كل حصة موضوعا
للأثر الشرعي بعنوانها.
فعلى الأول يجري استصحاب الكلي لاثبات موضوع الأثر، ولا يمكن
نفي صرف الوجود للكلي باستصحاب عدم الفرد الطويل مع ضمه إلى
الوجدان، لان انتفاء صرف الوجود للكلي بانتفاء هذه الحصة وتلك عقلي
وليس شرعيا.
وعلى الثاني: لا يجري استصحاب الكلي في نفسه لأنه لا ينقح
موضوع الأثر، بل بالامكان نفي هذا الموضوع باستصحاب عدم الفرد
الطويل الأمد مع ضمه إلى الوجدان القاضي بعدم الفرد الاخر، لان الأثر
اثر للحصص فينفي باحراز عدمها ولو بالتلفيق من التعبد والوجدان.
واما الحالة الثانية: من القسم الثاني فهي أن يكون الشك في
حدوث الفرد المسبب للشك في بقاء الكلي شكا بدويا، ومثاله: ان يعلم
بوجود الكلي ضمن فرد ويعلم بارتفاعه تفصيلا، ويشك في انحفاظ وجود
الكلي في ضمن فرد آخر يحتمل حدوثه حين ارتفاع الفرد الأول أو قبل
ذلك. ويسمى هذا في كلماتهم بالقسم الثالث من استصحاب الكلي،
وقد يتخيل جريانه على أساس تواجد أركانه في العنوان الكلي وإن لم تكن
متواجدة في كل من الفردين بالخصوص، ولكن يندفع هذا التخيل بان
198

العنوان الكلي وان كان هو مصب الاستصحاب ولكن بما هو مرآة للواقع،
فلا بد أن يكون متيقن الحدوث مشكوك البقاء بما هو فإن في واقعه ومرآة
للوجود الخارجي، ومن الواضح انه بما هو كذلك ليس جامعا للأركان،
إذ ليس هناك واقع خارجي يمكن ان نشير إليه بهذا العنوان الكلي ونقول
بأنه متيقن الحدوث مشكوك البقاء لنستصحبه بتوسط العنوان الحاكي عنه
وبمقدار حكايته، خلافا للحالة السابقة التي كانت تشتمل على واقع من
هذا القبيل.
199

4 - الاستصحاب في الموضوعات المركبة
إذا كان الموضوع للحكم الشرعي بسيطا وتمت فيه أركان
الاستصحاب جرى استصحابه بلا اشكال. واما إذا كان الموضوع مركبا
من عناصر متعددة فتارة نفترض ان هذه العناصر لوحظت بنحو التقيد أو
انتزع منها عنوان بسيط وجعل موضوعا للحكم، كعنوان (المجموع) أو
(اقتران هذا بذاك) ونحو ذلك.. وأخرى نفترض ان هذه العناصر
بذواتها اخذت موضوعا للحكم الشرعي بدون ان يدخل في الموضوع اي
عنوان انتزاعي من ذلك القبيل.
ففي الحالة الأولى: لا مجال لاجراء الاستصحاب في ذوات
الاجزاء، لأنه ان أريد به اثبات الحكم مباشرة فهو متعذر لترتبه على
العنوان البسيط المتحصل، وان أريد به اثبات الحكم، باثبات ذلك
العنوان المتحصل فهو غير ممكن لان عنوان الاجتماع والاقتران ونحوه لازم
عقلي لثبوت ذوات الاجزاء فلا يثبت باستصحابها. فالاستصحاب في هذه
الحالة يجري في نفس العنوان البسيط المتحصل، فمتى شك في حصوله
جرى استصحاب عدمه حتى ولو كان أحد الجزئين محرزا وجدانا والآخر
معلوم الثبوت سابقا ومشكوك البقاء فعلا.
وأما في الحالة الثانية: فلا بأس بجريان الاستصحاب في الجزء ثبوتا
أو عدما إذا تواجد فيه اليقين بالحالة السابقة والشك في بقائها.
200

ومن هنا يعلم بان الاستصحاب يجري في أجزاء الموضوع المركب
وعناصره بشرط ترتب الحكم على ذوات الاجزاء أولا وتوفر اليقين بالحدوث
والشك في البقاء ثانيا.
هذا على نحو الاجمال. واما تحقيق المسألة على وجه كامل فبالبحث
في ثلاث نقاط: إحداها: في أصل هذه الكبرى القائلة بجريان
الاستصحاب في اجزاء الموضوع ضمن الشرطين. والنقطة الثانية: في
تحقيق صغرى الشرط الأول وانه متى يكون الحكم مترتبا على ذوات
الاجزاء. والنقطة الثالثة: في تحقيق صغرى الشرط الثاني وانه متى يكون
الشك في البقاء محفوظا.
اما النقطة الأولى: فالمعروف بين المحققين انه متى كان الموضوع مركبا
وافترضنا ان أحد جزئيه محرز بالوجدان أو يتعبد ما فبالامكان اجراء
الاستصحاب في الجزء الاخر، لأنه ينتهي إلى اثر عملي وهو تنجيز الحكم
المترتب على الموضوع المركب.
وقد يواجه ذلك باعتراض، وهو ان دليل الاستصحاب مفاده جعل
الحكم المماثل للمستصحب، والمستصحب هنا - وهو الجزء - ليس له حكم
ليجعل في دليل الاستصحاب مماثله، وما له حكم - وهو المركب - ليس
مصبا للاستصحاب.
وهذا الاعتراض يقوم على الأساس القائل بجعل الحكم المماثل
للمستصحب في دليل الاستصحاب، ولا موضع له على الأساس القائل
بأنه يكفي في تنجيز الحكم وصول كبراه (الجعل) وصغراه (الموضوع) كما
عرفت سابقا، إذ على هذا لا نحتاج في جعل استصحاب الجزء ذا أثر
عملي إلى التعبد بالحكم المماثل بل مجرد وصول أحد الجزئين تعبدا مع
وصول الجزء الاخر بالوجدان كاف في تنجيز الحكم الواصلة كبراه، لان
احراز الموضوع بنفسه منجز لا بما هو طريق إلى اثبات فعلية الحكم المترتب
201

عليه، وبهذا نجيب على الاعتراض المذكور.
واما إذا أخذنا بفكرة جعل الحكم المماثل في دليل الاستصحاب فقد
يصعب التخلص الفني من الاعتراض المذكور وهناك ثلاثة أجوبة على هذا
الأساس:
الجواب الأول: - ان الحكم بعد وجود أحد جزئي موضوعه وجدانا
لا يكون موقوفا شرعا الا على الجزء الآخر فيكون حكما له ويثبت
باستصحاب هذا الجزء ما يماثل حكمه ظاهرا.
ونلاحظ على ذلك: ان مجرد تحقق أحد الجزئين وجدانا لا يخرجه
عن الموضوعية وإناطة الحكم به شرعا، لان وجود الشرط للحكم لا يعني
بطلان الشرطية، فلا ينقلب الحكم إلى كونه حكما للجزء الآخر خاصة.
الجواب الثاني: - ان الحكم المترتب على الموضوع المركب ينحل تبعا
لاجزاء موضوعه، فينال كل جزء مرتبة وحصة من وجود الحكم،
واستصحاب الجزء يقتضي جعل المماثل لتلك المرتبة التي ينالها ذلك الجزء
بالتحليل.
ونلاحظ على ذلك: ان هذا التقسيط تبعا لاجزاء الموضوع غير معقول،
لوضوح ان الحكم ليس له الا وجود واحد لا يتحقق الا عند تواجد تلك
الاجزاء جميعا.
الجواب الثالث: - ان كل جزء موضوع لحكم مشروط، وهو الحكم
بالوجوب مثلا على تقدير تحقق الجزء الآخر، فاستصحاب الجزء يتكفل
جعل الحكم المماثل لهذا الحكم المشروط.
ونلاحظ على ذلك: ان هذا الحكم المشروط ليس مجعولا من قبل
الشارع، وانما هو منتزع عن جعل الحكم على الموضوع المركب، فيواجه
نفس الاعتراض الذي واجهه الاستصحاب في الاحكام المعلقة.
واما النقطة الثانية: فقد ذكر المحقق النائيني (رحمه الله): ان
202

الموضوع تارة يكون مركبا من العرض ومحله كالانسان العادل، وأخرى
مركبا من عدم العرض ومحله كعدم القرشية والمرأة، وثالثة مركبا على نحو
آخر كالعرضين لمحل واحد مثل الاجتهاد والعدالة في المفتي، أو العرضين
لمحلين كموت الأب واسلام الابن. ففي الحالة الأولى يكون التقيد
مأخوذا، لان العرض يلحظ بما هو وصف لمحله ومعروضه وحالة قائمة
به، فالاستصحاب يجري في نفس التقيد إذا كان له حالة سابقة. وفي
الحالة الثانية يكون تقيد المحل بعدم العرض مأخوذا في الموضوع، لان
عدم العرض إذا أخذ مع موضوع ذلك العرض لوحظ بما هو نعت ووصف
له وهو ما يسمى بالعدم النعتي تمييزا له عن العدم المحمولي الذي يلاحظ
فيه العدم بما هو، ويترتب على ذلك أن الاستصحاب انما يجري في نفس
التقيد والعدم النعتي لأنه الدخيل في موضوع الحكم، فإذا لم يكن العدم
النعتي واجدا لركني اليقين والشك وكان الركنان متوفرين في العدم المحمولي
لم يجر استصحابه، لان العدم المحمولي لا اثر شرعي له بحسب الفرض.
ومن هنا ذهب المحقق النائيني إلى عدم جريان استصحاب عدم العرض
المتيقن قبل وجود الموضوع - ويسمى باستصحاب العدم الأزلي - فإذا شك
في نسب المرأة وقرشيتها لم يجر استصحاب عدم قرشيتها الثابت قبل
وجودها، لان هذا عدم محمولي وليس عدما نعتيا إذ أن العدم النعتي
وصف والوصف لا يثبت الا عند ثبوت الموصوف، فإذا أريد اجراء
استصحاب العدم المحمولي لترتيب الحكم عليه مباشرة فهو متعذر لان
الحكم مترتب بحسب الفرض على العدم النعتي لا المحمولي، وإذا أريد
بذلك اثبات العدم النعتي لان استمرار العدم المحمولي بعد وجود المرأة
ملازم للعدم النعتي، فهذا أصل مثبت.
وأما في الحالة الثالثة: فلا موجب لافتراض اخذ التقيد واتصاف
أحد جزئي الموضوع بالآخر، لان أحدهما ليس محلا وموضوعا للآخر بل
بالامكان ان يفرض ترتب الحكم على ذات الجزئين، وفي مثل ذلك يجري
استصحاب الجزء لتوفر الشرط الأول.
203

هذا موجز عما افاده المحقق النائيني (رحمه الله) نكتفي به على
مستوى هذه الحلقة تاركين التفاصيل والمناقشات إلى مستوى أعلى من
الدراسة.
واما النقطة الثالثة: فتوضيح الحال فيها ان الجزء الذي يراد اجراء
الاستصحاب فيه تارة يكون معلوم الثبوت سابقا ويشك في بقائه إلى حين
اجراء الاستصحاب، وأخرى يكون معلوم الثبوت سابقا ويعلم بارتفاعه
فعلا ولكن يشك في بقائه في فترة سابقة هي فترة تواجد الجزء الآخر من
الموضوع، ومثاله الحكم بانفعال الماء فان موضوعه مركب من ملاقاة
النجس للماء وعدم كريته، فنفترض ان الماء كان مسبوقا بعدم الكرية
ويعلم الآن بتبدل هذا العدم وصيرورته كرا، ولكن يحتمل بقاء عدم
الكرية في فترة سابقة هي فترة حصول ملاقاة النجس لذلك الماء.
ففي الحالة الأولى: لا شك في توفر اليقين بالحدوث والشك في
البقاء فيجري الاستصحاب.
واما في الحالة الثانية: فقد يستشكل في جريان الاستصحاب في
الجزء بدعوى عدم توفر الركن الثاني وهو الشك في البقاء، لأنه معلوم
الارتفاع فعلا بحسب الفرض فكيف يجري استصحابه؟. وقد اتجه
المحققون في دفع هذا الاستشكال إلى التمييز بين الزمان في نفسه والزمان
النسبي اي زمان الجزء الآخر، فيقال: ان الجزء المراد استصحابه إذا
لوحظ حاله في عمود الزمان المتصل إلى الآن فهو غير محتمل البقاء للعلم
بارتفاعه فعلا، وإذا لوحظ حاله بالنسبة إلى زمان الجزء الآخر فقد يكون
مشكوك البقاء إلى ذلك الزمان، مثلا عدم الكرية في المثال المذكور لا
يحتمل بقاؤه إلى الآن ولكن يشك في بقائه إلى حين وقوع الملاقاة فيجري
استصحابه إلى زمان وقوعها.
وتفصيل الكلام في ذلك: انه إذا كان زمان ارتفاع الجزء المراد
استصحابه - وهو عدم الكرية في المثال - معلوما، وكان زمان تواجد
204

الجزء الآخر - وهو الملاقاة في المثال - معلوما أيضا. فلا شك لكي يجري
الاستصحاب، ولهذا لا بد ان يفرض الجهل بكلا الزمانين، أو بزمان
ارتفاع الجزء المراد استصحابه خاصة، أو بزمان تواجد الجزء الآخر
خاصة، فهذه ثلاث صور وقد اختلف المحققون في حكمها فذهب جماعة
من المحققين منهم السيد الأستاذ إلى جريان الاستصحاب في الصور
الثلاث، وإذا وجد له معارض سقط بالمعارضة. وذهب بعض المحققين
إلى جريان الاستصحاب في صورتين وهما: صورة الجهل بالزمانين أو
الجهل بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه، وعدم جريانه في صورة العلم
بزمان الارتفاع. وذهب صاحب الكفاية إلى جريان الاستصحاب في صورة
واحدة وهي صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان تواجد الجزء
الآخر، واما في صورتي الجهل بكلا الزمانين أو العلم بزمان الارتفاع فلا
يجري الاستصحاب. فهذه أقوال ثلاثة:
اما القول الأول: فقد علله أصحابه بما أشرنا إليه آنفا من أن بقاء
الجزء المراد استصحابه إلى زمان تواجد الجزء الآخر مشكوك حتى لو لم يكن
هناك شك في بقائه إذا لوحظت قطعات الزمان بما هي، كما إذا كان زمان
الارتفاع معلوما، ويكفي في جريان الاستصحاب تحقق الشك في البقاء
بلحاظ الزمان النسبي لان الأثر الشرعي مترتب على وجوده في زمان وجود
الجزء الآخر لا على وجوده في ساعة كذا بعنوانها.
ونلاحظ على هذا القول ان زمان ارتفاع عدم الكرية في المثال إذا
كان معلوما فلا يمكن ان يجري استصحاب عدم الكرية إلى زمان الملاقاة،
لان الحكم الشرعي اما أن يكون مترتبا على عدم الكرية في زمان الملاقاة بما
هو زمان الملاقاة، أو على عدم الكرية في واقع زمان الملاقاة، بمعنى ان كلا
الجزئين لوحظا في زمان واحد دون ان يقيد أحدهما بزمان الآخر بعنوانه،
فعلى الأول لا يجري استصحاب بقاء الجزء في جميع الصور، لأنه يفترض
تقيده بزمان الجزء الآخر بهذا العنوان، وهذا التقيد لا يثبت
205

بالاستصحاب، وقد شرطنا منذ البداية في جريان استصحاب الجزء في باب
الموضوعات المركبة عدم اخذ التقيد بين اجزائها في موضوع الحكم. وعلى
الثاني لا يجري استصحاب بقاء الجزء فيما إذا كان زمان الارتفاع معلوما
ولنفرضه الظهر، لان استصحاب بقائه إلى زمان وجود الملاقاة - التي هي
الجزء الآخر في المثال - ان أريد به استصحاب بقائه إلى الزمان المعنون بأنه
زمان الملاقاة بما هو زمان الملاقاة. فهذا الزمان بهذا العنوان وان كان
يشك في بقاء عدم الكرية إلى حينه ولكن المفروض انه لم يؤخذ عدم
الكرية في موضوع الحكم مقيدا بالوقوع في زمان الجزء الآخر بما هو
كذلك، وان أريد به استصحاب بقائه إلى واقع زمان الملاقاة على نحو
يكون قولنا (زمان الملاقاة) مجرد مشير إلى واقع ذلك الزمان. فهذا هو
موضوع الحكم ولكن واقع هذا الزمان يحتمل أن يكون هو الزوال للتردد في
زمان الملاقاة، والزوال زمان يعلم فيه بارتفاع عدم الكرية فلا يقين إذن
بثبوت الشك في القباء في الزمان الذي يراد جر المستصحب إليه.
وعلى هذا الضوء نعرف: ان ما ذهب إليه القول الثاني من عدم
جريان استصحاب بقاء الجزء في صورة العلم بزمان ارتفاعه هو الصحيح
بالبيان الذي حققناه. ولكن هذا البيان يجري بنفسه أيضا في بعض صور
مجهولي التاريخ، كما إذا كان زمان التردد فيهما متطابقا، كما إذا كانت
الملاقاة مرددة بين الساعة الواحدة والثانية، وكذلك ارتفاع عدم الكرية
بحدوث الكرية، فإن هذا يعني ان ارتفاع عدم الكرية بحدوث الكرية
مردد بين الساعة الأولى والثانية، ولازم ذلك أن تكون الكرية معلومة في
الساعة الثانية على كل حال وانما يشك في حدوثها وعدمه في الساعة
الأولى، ويعني أيضا ان الملاقاة متواجدة اما في الساعة الأولى أو في الساعة
الثانية. فإذا استصحبت عدم الكرية إلى واقع زمان تواجد الملاقاة فحيث إن
هذا الواقع يحتمل أن يكون هو الساعة الثانية. يلزم على هذا التقدير
ان نكون قد تعبدنا ببقاء عدم الكرية إلى الساعة الثانية مع أنه معلوم
الانتفاء في هذه الساعة.
206

ومن هنا يتبين ان ما ذهب إليه القول الثالث من عدم جريان
استصحاب بقاء عدم الكرية في صورة الجهل بالزمانين وصورة العلم بزمان
ارتفاع هذا العدم معا. هو الصحيح.
واما صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان الملاقاة لا بأس بجريان
استصحاب عدم الكرية فيها إلى واقع زمان الملاقاة، إذ لا علم بارتفاع
هذا العدم في واقع هذا الزمان جزما.
ولكننا نختلف عن القول الثالث في بعض النقاط، فنحن مثلا نرى
جريان استصحاب عدم الكرية في صورة الجهل بالزمانين مع افتراض ان
فترة تردد زمان الارتفاع أوسع من فترة تردد حدوث الملاقاة في المثال
المذكور، فإذا كانت الملاقاة مرة بين الساعة الأولى والثانية، وكان تبدل
عدم الكرية بالكرية مرددا بين الساعات الأولى والثانية والثالثة فلا محذور في
اجراء استصحاب عدم الكرية إلى واقع زمان الملاقاة، لأنه على أبعد تقدير
هو الساعة الثانية ولا علم بالارتفاع في هذه الساعة لاحتمال حدوث الكرية
في الساعة الثالثة، فليس من المحتمل أن يكون جر بقاء الجزء إلى واقع
زمان الجزء الآخر جرا له إلى زمان اليقين بارتفاعه ابدا
. شبهة انفصال زمان الشك عن زمان اليقين:
بقي علينا ان نشير إلى أن ما اخترناه وان كان قريبا جدا من القول
الثالث الذي ذهب إليه صاحب الكفاية، غير أنه (قدس الله نفسه) قد
فسر موقفه واستدل على قوله ببيان يختلف بظاهره عما ذكرناه، إذ قال بان
استصحاب عدم الكرية انما لا يجري في حالة الجهل بالزمانين لعدم احراز
اتصال زمان الشك بزمان اليقين، وقد فسر هذا الكلام بما يمكن توضيحه
كما يلي:
إذا افترضنا ان الماء كان قليلا قبل الزوال ثم مرت ساعتان حدثت في
207

إحداهما الكرية وفي الأخرى الملاقاة للنجاسة. فهذا يعني ان كلا من
حدوث الكرية والملاقاة معلوم في احدى الساعتين بالعلم الاجمالي، فهناك
معلومان اجماليان واحدى الساعتين زمان أحدهما والساعة الأخرى زمان
الآخر، وعليه فالملاقاة المعلومة إذا كانت قد حدثت في الساعة الثانية فقد
حدثت الكرية المعلومة في الساعة الأولى، واستصحاب عدم الكرية إلى
زمان الملاقاة على هذا التقدير يعني ان زمان الشك الذي يراد جر عدم
الكرية إليه هو الساعة الثانية وزمان اليقين بعدم الكرية هو ما قبل الزوال
واما الساعة الأولى فهي زمان الكرية المعلومة اجمالا، وهذا يؤدي إلى
انفصال زمان اليقين بعدم الكرية عن زمان الشك فيه بزمان اليقين
بالكرية، وما دام هذا التقدير محتملا فلا يجري الاستصحاب لعدم احراز
اتصال زمان الشك بزمان اليقين.
ونلاحظ على ذلك:
أولا: - ان الساعة الأولى على هذا التقدير هي زمان الكرية واقعا لا
زمان الكرية المعلومة بما هي معلومة، لان العلم بالكرية كان على نحو
العلم الاجمالي من ناحية الزمان وهو علم بالجامع فلا احتمال للانفصال
اطلاقا.
وثانيا: - ان البيان المذكور لو تم لمنع عن جريان استصحاب عدم
الكرية حتى في الصورة التي اختار صاحب الكفاية جريان الاستصحاب
فيها، وهي صورة الجهل بزمان حدوث الكرية مع العلم بزمان الملاقاة وانه
الساعة الثانية مثلا، لان الكرية معلومة بالاجمال في هذه الصورة ويحتمل
انطباقها على الساعة الأولى، فإذا كان انطباق الكرية المعلومة بالاجمال على
زمان يوجب تعذر استصحاب عدم الكرية إلى ما بعد ذلك الزمان.
جرى ذلك في هذه الصورة أيضا وتعذر استصحاب عدم الكرية إلى الساعة
الثانية، لاحتمال الفصل بين زمان اليقين وزمان الشك بزمان العلم
بالكرية.
208

وهناك تفسير آخر لكلام صاحب الكفاية أكثر انسجاما مع عبادته،
ولنأخذ المثال السابق لتوضيحه وهو الماء الذي كان قليلا قبل الزوال ثم
مرت ساعتان حدثت في إحداهما الكرية وفي الأخرى الملاقاة للنجاسة،
وحاصل التفسيرات ان ظرف اليقين بعدم الكرية في هذا المثال هو ما قبل
الزوال، وظرف الشك مردد بين الساعة الأولى بعد الزوال والساعة
الثانية، لان عدم الكرية له اعتباران فتارة نأخذه بما هو مقيس إلى قطعات
الزمان وبصورة مستقلة عن الملاقاة. وأخرى نأخذه بما هو مقيس إلى
زمان الملاقاة ومقيد به، فإذا أخذناه بالاعتبار الأول وجدنا ان الشك فيه
موجود في الساعة الأولى وهي متصلة بزمان اليقين مباشرة، فبالامكان ان
نستصحب عدم الكرية إلى نهاية الساعة الأولى، ولكن هذا لا يفيدنا شيئا
لان الحكم الشرعي وهو انفعال الماء ليس مترتبا على مجرد عدم الكرية بل
على عدم الكرية في زمان الملاقاة.. وإذا أخذنا عدم الكرية بالاعتبار الثاني
اي مقيسا ومنسوبا إلى زمان الملاقاة فمن الواضح ان الشك فيه انما يكون
في زمان الملاقاة إذ لا يمكن الشك قبل زمان الملاقاة في عدم الكرية المنسوب
إلى زمان الملاقاة، وإذا تحقق ان زمان الملاقاة هو زمان الشك ترتب على
ذلك أن زمان الشك مردد بين الساعة الأولى والساعة الثانية تبعا لتردد
نفس زمان الملاقاة بين الساعتين، وهذا يعنى عدم احراز اتصال زمان
الشك بزمان اليقين لان زمان اليقين ما قبل الزوال وزمان الشك محتمل
الانطباق على الساعة الثانية ومع انطباقه عليها يكون مفصولا عن زمان
اليقين بالساعة الأولى.
ونلاحظ على ذلك:
أولا: ان الأثر الشرعي إذا كان مترتبا على عدم الكرية المقيد
بالملاقاة اي على اجتماع أحدهما بالاخر. فقد يتبادر إلى الذهن ان الشك
في هذا العدم المقيد بالملاقاة لا يكون الا في زمان الملاقاة واما الشك - قبل
زمان الملاقاة - في عدم الكرية فهو ليس شكا في عدم الكرية المقيد
بالملاقاة. ولكن الصحيح ان الأثر الشرعي مترتب على عدم الكرية
209

والملاقاة بنحو التركيب بدون أخذ التقيد والاجتماع، والا لما جرى
استصحاب عدم الكرية رأسا كما تقدم، وهذا يعني ان عدم الكرية بذاته
جزء الموضوع لا فرق في ذلك بين ما كان منه في زمان الملاقاة أو قبل زمانها
غير أنه في زمانها يكون الجزء الآخر موجودا أيضا، وعليه فعدم الكرية
مشكوك منذ الزوال والى زمان الملاقاة وان كان الأثر الشرعي لا يترتب فعلا
الا إذا استمر هذا العدم إلى زمان الملاقاة، فيجري استصحاب عدم
الكرية من حين ابتداء الشك في ذلك إلى الزمان الواقعي للملاقاة، وبهذا
نثبت بالاستصحاب عدما للكرية متصلا بالعدم المتيقن، وان كان الأثر
الشرعي لا يترتب على هذا العدم الا في مرحلة زمنية معينة قد تكون
متأخرة عن زمان اليقين، فان المناط اتصال المشكوك الذي يراد اثباته
استصحابا بالمتيقن لا اتصال فترة ترتب الأثر بالمتيقن، فإذا كنت على يقين
من اجتهاد زيد فجرا، وشككت في بقاء اجتهاده بعد طلوع الشمس، ولم
يكن الأثر الشرعي مترتبا على اجتهاده عند الطلوع، إذ لم يكن عادلا وانما
أصبح عادلا بعد ساعتين، أفلا يجري استصحاب الاجتهاد إلى ساعتين بعد
طلوع الشمس؟ فكذلك في المقام.
ثانيا: - ان ما ذكر لو تم لمنع عن جريان استصحاب عدم الكرية
فيما إذا كان زمان حدوثها مجهولا مع العلم بتاريخ الملاقاة، كما إذا كان
عدم الكرية وعدم الملاقاة معلومين عند الزوال وحدثت الملاقاة بعد ساعة
ولا يدري متى حدثت الكرية، فان استصحاب عدم الكرية إلى زمان
الملاقاة يجري عند صاحب الكفاية، مع أنه يواجه نفس الشبهة الآنفة
الذكر، لان الشك في عدم الكرية المنسوب إلى زمان الملاقاة انما هو في
زمان الملاقاة بحسب تصور هذه الشبهة اي بعد ساعة من الزوال مع أن
زمان اليقين بعدم الكرية هو الزوال.
ولا نرى حاجة للتوسع أكثر من هذا في استيعاب نكات
210

الاستصحاب في الموضوعات المركبة، كما أن ما تقدم من بحوث
الاستصحاب أحاط بالمهم من مسائله، وهناك مسائل في الاستصحاب لم
نتناولها بالبحث هنا - كالاستصحاب في الأمور التدريجية، والأصل السببي
والمسببي - وذلك اكتفاء بما تقدم من حديث عن ذلك في الحلقة السابقة
وبذلك نختم الكلام عن الأصول العملية.
211

الخاتمة
في
تعارض الأدلة
213

الحلقة الثالثة
- 3 -
1 - تمهيد.
2 - قاعدة الجمع العرفي.
3 - التعارض المستقر على ضوء دليل الحجية.
4 - حكم التعارض على ضوء الاخبار الخاصة.
215

تمهيد
ما هو التعارض المصطلح؟:
التعارض المصطلح هو التنافي بين مدلولي الدليلين، ولما كان مدلول
الدليل هو الجعل فالتنافي المحقق للتعارض هو التنافي بين الجعلين دون
التنافي بين المجعولين أو الامتثالين، لخروج مرتبة المجعول ومرتبة الامتثال
عن مفاد الدليل كما تقدم في الحلقة السابقة.
ولا يقع التعارض المصطلح الا بين الأدلة المحرزة لان الدليل المحرز
هو الذي له مدلول وجعل يكشف عنه، واما الأدلة العملية المسماة
بالأصول العملية فلا يقع فيها التعارض المذكور إذ ليس للأصل العملي
مدلول يكشفه، وجعل يحكى عنه، بل الأصل بنفسه حكم شرعي
ظاهري، وحينما نقول في كثير من الأحيان: ان الأصلين العمليين
متعارضان لا نقصد التعارض المصطلح بمعنى التنافي بينهما في المدلول بل
التعارض في النتيجة، لان كل أصل له نتيجة معلولة له، من حيث
التنجيز والتعذير فإذا كانت النتيجتان متنافيتين كان الأصلان متعارضين،
وكلما كانا كذلك وقع التعارض المصطلح بين دليليهما المحرزين لوقوع التنافي
بينهما في المدلول، ومن هنا نعرف ان التعارض بين أصلين عمليين مرده إلى
وقوع التعارض المصطلح بين دليليهما، وكذلك الامر في التعارض بين
أصل عملي ودليل محرز فان مرده إلى وقوع التعارض المصطلح بين دليل
الأصل العملي ودليل حجية ذلك الدليل المحرز.
217

وهكذا نعرف ان التعارض المصطلح يقوم دائما بين الأدلة المحرزة.
ثم إن الدليلين المحرزين إذا كانا قطعيين فلا يعقل التعارض بينهما، لأنه
يؤدي إلى القطع بوقوع المتنافيين، وكذلك لا يتحقق التعارض بين دليل
قطعي ودليل ظني، لان الدليل القطعي يوجب العلم ببطلان مفاد الدليل
الظني وزوال كاشفيته فلا يكون دليلا وحجة لاستحالة الدليلية والحجية لما
يعلم ببطلانه.
وانما يتحقق التعارض بين دليلين ظنيين، وهذان الدليلان اما ان
يكونا دليلين لفظيين أو غير لفظيين أو مختلفين من هذه الناحية.
فان كانا دليلين لفظيين - اي كلامين للشارع - فالتعارض بينهما على
قسمين:
أحدهما: - التعارض غير المستقر وهو التعارض الذي يمكن علاجه
بتعديل دلالة أحد الدليلين وتأويلها بنحو ينسجم مع الدليل الآخر.
والآخر: - التعارض المستقر الذي لا يمكن فيه العلاج، ففي
حالات التعارض المستقر يسري التعارض إلى دليل الحجية، لان ثبوت
الحجية لكل منهما كما لو لم يكن معارضا، يؤدي إلى اثبات كل منهما ونفيه
في وقت واحد نظرا إلى أن كلا منهما يثبت مفاد نفسه وينفي مفاد الآخر،
ويبرهن ذلك على استحالة ثبوت الحجيتين على نحو ثبوتهما في غير حالات
التعارض، وهذا معنى سراية التعارض إلى دليل الحجية لوقوع التنافي في
مدلوله.
واما في حالات التعارض غير المستقر فيعالج التعارض بالتعديل
المناسب في دلالة أحدهما أو كليهما، معه لا يسري التعارض إلى دليل
الحجية إذ لا يبقى محذور في حجيتهما معا بعد التعديل.
ولكن هذا التعديل لا يجري جزافا، وانما يقوم على أساس قواعد الجمع
العرفي التي مردها جميعا إلى أن المولى يفسر بعض كلامه بعضا، فإذا كان
218

أحد الكلامين صالحا لان يكون مفسرا للكلام الآخر جمع بينهما بالنحو
المناسب. ومثل الكلام في ذلك ظهور الحال.
وإن كان الدليلان معا غير لفظيين أو مختلفين كان التعارض مستقرا
لا محالة، لان التعديل انما يجوز في حالة التفسير، وتفسر دليل بدليل انما
يكون في كلامين وما يشبههما، وإذا استقر التعارض سرى إلى دليلي
الحجية، فان كانا لفظيين لوحظ نوع التعارض بينهما وهل هو مستقر أو لا
وإن لم يكونا كذلك فالتعارض مستقر على اي حال.
والبحث في تعارض الأدلة يشرح احكام التعارض غير المستقر
والتعارض المستقر معا.
الورود والتعارض:
وعلى ضوء ما تقدم نعرف ان الورود - بالمعنى الذي تقدم في الحلقة
السابقة - ليس من التعارض، سواء كان الدليل الوارد محققا في مورده لفرد
حقيقي من موضوع الدليل المورود أو نافيا في مورده حقيقة لموضوع ذلك
الدليل. اما في الأول فواضح. واما في الثاني فلان التنافي انما هو بين
المجعولين والفعليتين لا بين الجعلين، فالدليلان (الوارد والمورود) كلاهما
حجة في اثبات مفادهما وتكون الفعلية دائما لمفاد الدليل الوارد لأنه ناف
لموضوع المجعول في الدليل الآخر.
وعلى هذا صح القول بان الدليلين إذا كان أحدهما قد أخذ في
موضوعه عدم فعلية مفاد الدليل الآخر فلا تعارض بينهما، إذ لا تنافي بين
الجعلين ويكون أحدهما واردا على الآخر في مرحلة المجعول والفعلية.
ثم إن ورود أحد الدليلين على الآخر يتم - كما عرفت - برفعه
لموضوعه وهذا الرفع على انحاء:
منها: أن يكون رافعا له بفعلية مجعوله، بان يكون مفاد الدليل
219

المورود مقيدا بعدم فعلية المجعول في الدليل الوارد.
ومنها: أن يكون رافعا له بوصول المجعول لا بواقع فعليته ولو لم يصل.
ومنها: أن يكون رافعا له بامتثاله، فما لم يمتثل لا يرتفع الموضوع
في الدليل المورود.
ومثال الأول: دليل حرمة ادخال الجنب في المسجد الذي يرفع
بفعلية مجعوله موضوع صحة إجارة الجنب للمكث في المسجد، إذ يجعلها
إجارة على الحرام، ودليل صحة الإجارة مقيد بعدم كونها كذلك.
ومثال الثاني: دليل الوظيفة الظاهرية الذي يرفع بوصول مجعوله
عنوان المشكل المأخوذ في موضوع دليل القرعة.
ومثال الثالث: دليل وجوب الأهم الذي يرفع بامتثاله موضوع دليل
وجوب المهم كما تقدم في مباحث القدرة.
وقد يتفق التوارد من الجانبين، وبعض انحاء التوارد كذلك معقول
ويأخذ مفعوله في كلا الطرفين، وبعض أنحائه معقول ويكون أحد
الورودين هو المحكم دون الآخر، وبعض أنحائه غير معقول فيؤدي إلى
وقوع التعارض بين الدليلين المتواردين.
فمثال الأول: أن يكون الحكم في كل من الدليلين مقيدا بعدم
ثبوت الحكم الآخر في نفسه، وحينئذ حيث إن كلا من الحكمين في نفسه
ولولا الآخر ثابت، فلا يكون الموضوع لكل منهما محققا فعلا، وهذا معنى
ان التوارد نفذ واخذ مفعوله في كلا الطرفين.
ومثال الثاني: أن يكون الحكم في أحد الدليلين مقيدا بعدم ثبوت
حكم على الخلاف واما الحكم الثاني فهو مقيد بعدم امتثال حكم مخالف،
ففي مثل ذلك يكون دليل الحكم الثاني تاما ومدلوله فعليا وبذلك يرتفع
موضوع دليل الحكم الأول، واما دليل الحكم الأول فيستحيل ان ينطبق
مدلوله على المورد لأنه ان أريد به اثبات مفاده حتى في غير حال امتثاله فهو
220

مستحيل، لان غير حال امتثاله هو حال فعلية الحكم الثاني التي لا يبقى
معها موضوع للحكم الأول. وان أريد به اثبات مفاده في حال امتثاله
خاصة فهو مستحيل أيضا لامتناع اختصاص حكم بفرض امتثاله كما هو
واضح.
ومثال الثالث: أن يكون الحكم في كل من الدليلين مقيدا بعدم
حكم فعلي على الخلاف، ففي مثل ذلك يكون كل منهما صالحا لرفع
موضوع الآخر لو بدأنا به، ولما كان من المستحيل توقف كل منهما على عدم
الآخر يقع التعارض بين الدليلين على الرغم من ورود كل منهما على الآخر
ويشملهما احكام التعارض.
وسنتكلم فيما يأتي عن احكام التعارض ضمن عدة بحوث.
221

- 1 -
قاعدة الجمع العرفي
ونتكلم في بحث هذه القاعدة عن: النظرية العامة للجمع العرفي،
وعن أقسام الجمع العرفي - أو أقسام التعارض غير المستقر - وملاك الجمع
في كل واحد منها، وتكييفه على ضوء تلك النظرية العامة، وعن احكام
عامة للجمع العرفي تشترك فيها كل الأقسام، وعن نتائج الجمع العرفي
بالنسبة إلى الدليل المغلوب، وعن تطبيقات للجمع العرفي وقع البحث
فيها. فهذه خمس جهات رئيسية نتناولها بالبحث تباعا:
1 - النظرية العامة للجمع العرفي
تتلخص النظرية العامة للجمع العرفي في: ان كل ظهور للكلام
حجة ما لم يعد المتكلم ظهورا آخر لتفسيره وكشف المراد النهائي له، فإنه
في هذه الحالة يكون المعول عقلائيا على الظهور المعد للتفسير وكشف المراد
النهائي للمتكلم ويسمى بالقرينة، ولا يشمل دليل الحجية في هذه الحالة
الظهور الآخر.
وهذا الاعداد تارة يكون شخصيا وتقوم عليه قرينة خاصة، وأخرى
يكون نوعيا بمعنى ان العرف أعد هذا النوع من التعبير للكشف عن المراد
من ذلك النوع من التعبير وتحديد المراد منه، والظاهر من حال المتكلم
222

الجري وفق الاعدادات النوعية العرفية، فمن الأول قرينية الدليل الحاكم
على المحكوم، ومن الثاني قرينية الخاص على العام.
وكل قرينة ان كانت متصلة بذي القرينة منعت عن انعقاد الظهور
التصديقي أساسا ولم يحصل تعارض أصلا، وان كانت منفصلة لم ترفع
أصل الظهور وانما ترفع حجيته لما تقدم وهذا هو معنى الجمع العرفي.
والقرينية الناشئة من الاعداد الشخصي يحتاج اثباتها إلى ظهور في
كلام المتكلم على هذا الاعداد، من قبيل أن يكون مسوقا مساق التفسير
للكلام الآخر مثلا.
والقرينية الناشئة من الاعداد النوعي يحتاج اثباتها إلى احراز البناء
العرفي على ذلك، والطريق إلى احراز ذلك غالبا هو ان نفرض الكلامين
متصلين ونرى هل يبقى لكل منهما في حالة الاتصال اقتضاء الظهور
التصديقي في مقابل الكلام الآخر أو لا، فان رأينا ذلك عرفنا ان أحدهما
ليس قرينة على الآخر لان القرينة باتصالها تمنع عن ظهور الكلام الآخر
وتعطل اقتضاءه، وان رأينا ان أحد الكلامين بطل ظهوره أساسا عرفنا ان
الكلام الثاني قرينة عليه.
وعلى هذا الضوء نعرف ان القرينية مع الاتصال توجب إلغاء
التعارض ونفيه حقيقة، ومع الانفصال توجب الجمع العرفي بتقديم القرينة
على ذي القرينة لما عرفت. كما أن بناء العرف قائم على أن كل ما كان
على فرض اتصاله هادما لأصل الظهور فهو في حالة الانفصال يعتبر قرينة
ويقدم بملاك القرينية.
هذه هي نظرية الجمع العرفي على وجه الاجمال، وستتضح معالمها
وتفاصيلها أكثر فأكثر من خلال استعراض أقسام التعارض غير المستقر التي
يجري فيها الجمع العرفي.
223

2 - أقسام الجمع العرفي والتعارض غير المستقر
الحكومة:
من أهم أقسام التعارض غير المستقر أن يكون أحد الدليلين حاكما
على الدليل الآخر، كما في (لا ربا بين الوالد وولده) الحاكم على دليل
حرمة الربا، فإنه في مثل ذلك يقدم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم.
والحكومة تعبير عن تلك النكتة التي بها استحق الدليل الحاكم التقديم على
محكومه، فلكي نحدد مفهومها لا بد ان نعرف نكتة التقديم وملاكه، وفي
ذلك اتجاهان:
الاتجاه الأول: - لمدرسة المحقق النائيني (قدس الله روحه) وحاصله
ان الاخذ بالدليل الحاكم انما هو من أجل انه لا تعارض في الحقيقة بينه
وبين الدليل المحكوم، لأنه لا ينفي مفاد الدليل المحكوم وانما يضيف إليه
شيئا جديدا، فإن مفاد الدليل المحكوم مرده دائما إلى قضية شرطية
مؤداها في المثال المذكور: انه إذا كانت المعاملة ربا فهي محرمة. وكل
قضية شرطية، لا تتكفل اثبات شرطها، ولهذا يقال: ان صدق الشرطية
لا يستبطن صدق طرفيها. ومفاد الدليل الحاكم قضية منجزة فعلية مؤداها
في المثال نفي الشرط لتلك القضية الشرطية وان معاملة الأب مع ابنه
ليست ربا، فلا بد من الاخذ بالدليلين معا.
وهذا الاتجاه غير صحيح لان دليل حرمة الربا موضوعه ما كان ربا
في الواقع سواء نفيت عنه الربوية ادعاء في لسان الشارع أو لا، والدليل
224

الحاكم لا ينفي صفة الربوية حقيقة وانما ينفيها ادعاء، وهذا يعني انه لا
ينفي الشرط في القضية الشرطية المفادة في الدليل المحكوم بل الشرط محرز
وجدانا، وبهذا يحصل التعارض بين الدليلين، فلا بد من تخريج لتقديم
الدليل الحاكم مع الاعتراف بالتعارض.
الاتجاه الثاني: - وهو الصحيح وحاصله انه بعد الاعتراف بوجود
التعارض بين الدليلين يقدم الدليل الحاكم تطبيقا لنظرية الجمع العرفي
المتقدمة، لان الدليل الحاكم ناظر إلى الدليل المحكوم وهذا النظر ظاهر في أن
المتكلم قد أعده لتفسير كلامه الآخر فيكون قرينة، ومع وجود القرينة
لا يشمل دليل الحجية ذا القرينة، لان دليل حجية الظهور مقيد بالظهور
الذي لم يعد المتكلم قرينة لتفسيره، فبالدليل الناظر المعد لذلك يرتفع
موضوع حجية الظهور في الدليل المحكوم، سواء كان الدليل الحاكم
متصلا أو منفصلا، غير أنه مع الاتصال لا ينعقد ظهور تصديقي في الدليل
المحكوم أصلا وبهذا لا يوجد تعارض بين الدليلين أساسا، ومع الانفصال
ينعقد ولكن لا يكون حجة لما عرفت.
ثم إن النظر الذي هو ملاك التقديم يثبت بأحد الوجوه التالية:
الأول: - أن يكون مسوقا مساق التفسير بان يقول: أعني بذلك
الكلام كذا. ونحو ذلك.
الثاني: - أن يكون مسوقا مساق نفي موضوع الحكم في الدليل
الآخر، وحيث إنه غير منتف حقيقة فيكون هذا النفي ظاهرا في ادعاء نفي
الموضوع وناظرا إلى نفي الحكم حقيقة.
الثالث: - أن يكون التقبل العرفي لمفاد الدليل الحاكم مبنيا على
افتراض مدلول الدليل المحكوم في رتبة سابقة، كما في (لا ضرر) أو (لا
ينجس الماء ما لا نفس له) بالنسبة إلى أدلة الاحكام وأدلة التنجيس.
وإذا قارنا بين الاتجاهين أمكننا ان ندرك فارقين أساسيين:
225

أحدهما: ان حكومة الدليل الحاكم - على الاتجاه الثاني - تتوقف على
اثبات النظر، واما على الاتجاه الأول فيكون الدليل الحاكم بمثابة الدليل
الوارد، وقد مر بنا في الحلقة السابقة انه لا يحتاج تقدمه على دليل إلى
اثبات نظره إلى مفاده بالخصوص، بل يكفي كونه متصرفا في موضوعه.
والفارق الآخر: ان الاتجاه الثاني يفسر حكومة مثل (لا حرج)
و (لا ضرر) و (لا ينجس الماء ما لا نفس له) لوجود النظر فيها، واما
الاتجاه الأول فلا يمكنه ان يفسر الحكومة الا فيما كان لسانه لسان نفي
الموضوع للدليل الآخر.
التقييد:
إذا جاء دليل مطلق ودليل على التقييد فدليل التقييد على أقسام:
القسم الأول: أن يكون دالا على التقييد بعنوانه، فيكون ناظرا
بلسانه التقييدي إلى المطلق ويقدم عليه باعتباره حاكما ويدخل في القسم
المتقدم.
القسم الثاني: أن يكون مفاده ثبوت سنخ الحكم الوارد في الدليل
المطلق للمقيد، كما إذا جاء خطاب (أعتق رقبة) ثم خطاب (أعتق رقبة
مؤمنة).
وفي هذه الحالة إن لم تعلم وحدة الحكم فلا تعارض، وان علمت
وحدة الحكم المدلول للخطابين وقع التعارض بين ظهور الأول في الاطلاق
بقرينة الحكمة وظهور الثاني في احترازية القيود، وحينئذ فإن كان الخطابان
متصلين لم ينعقد للأول ظهور في الاطلاق، لأنه فرع عدم ذكر ما يدل على
القيد في الكلام، والخطاب الآخر المتصل يدل على القيد، فلا تجري قرينة
الحكمة لاثبات الاطلاق. وان كان الخطابان منفصلين انعقد الظهور في
كل منهما - لما تقدم في بحث الاطلاق من أن الاطلاق ينعقد بمجرد عدم
226

مجئ القرينة على القيد في شخص الكلام - وقدم الظهور الثاني لأنه قرينة
بدليل إعدامه لظهور المطلق في فرض الاتصال، وقد تقدم ان البناء العرفي
على أن كل ما يهدم أصل الظهور في الكلام عند اتصاله به فهو قرينة عليه
في فرض الانفصال ويقدم بملاك القرينية.
وهناك اتجاه يقول: ان دليل القيد حتى لو كان منفصلا يهدم أصل
الظهور في المطلق، وهذا الاتجاه يقوم على الاعتقاد بان قرينة الحكمة التي
هي أساس الدلالة على الاطلاق متقدمة بعدم ذكر القيد ولو منفصلا، وقد
تقدم في بحث الاطلاق ابطال ذلك.
القسم الثالث: أن يكون مفاده اثبات حكم مضاد في حصة من
المطلق، كما إذا جاء خطاب (أعتق رقبة) ثم خطاب (لا تعتق رقبة كافرة)
على أن يكون النهي في الخطاب الثاني تكليفيا لا ارشادا إلى مانعية الكفر
عن تحقق العتق الواجب، والا دخل في القسم الأول.
وهذا القسم يختلف عن القسم السابق في أن التعارض هنا محقق على
اي حال بلا حاجة إلى افتراض من الخارج، بخلاف القسم السابق فإنه
يحتاج إلى افتراض العلم من الخارج بوحدة الحكم. ويتفق القسمان في
حكم التعارض بعد حصوله إذ يقدم المقيد على المطلق في كلا القسمين
بنفس الملاك السابق.
التخصيص:
إذا ورد عام - يدل على العموم بالأداة - وخاص، جرت نفس
الأقسام السابقة للمقيد هنا أيضا، لان هذا الخاص تارة يكون ناظرا إلى
العام، وأخرى يكون متكفلا لاثبات سنخ حكم العام ولكن في دائرة
أخص كما إذا قيل (أكرم كل فقير) وقيل (أكرم الفقير العادل)، وثالثة
يكون الخاص متكفلا لاثبات نقيض حكم العام أو ضده لبعض حصص
227

العام كما إذا قيل (أكرما كل عالم) وقيل (لا يجب اكرام النحوي) أو (لا
تكرم النحوي).
ولا شك في أن الخاص من القسم الأول يعتبر حاكما ويقدم بالحكومة
على عموم العام.
واما الخاص من القسم الثاني فمع عدم احراز وحدة الحكم لا
تعارض ومع احرازها يكون الخاص معارضا للعموم هنا كما كان المقيد في
نظير ذلك معارضا للاطلاق فيما تقدم.
واما الخاص من القسم الثالث فلا شك في أنه معارض للعموم.
وعلى اي حال فلا خلاف في تقدم الخاص على العام عند وقوع
المعارضة بينهما فإن كان الخاص متصلا لم يسمح بانعقاد ظهور تصديقي
للعام في العموم وان كان منفصلا اعتبر قرينة على تخصيصه فيخرج ظهور
العام عن موضوع دليل الحجية لوجود قرينة على خلافه، وهذا على العموم
مما لا خلاف فيه وانما الخلاف في نقطة وهي ان قرينية الخاص على
التخصيص هل هي بملاك الأخصية مباشرة أو بملاك انه أقوى الدليلين
ظهورا فان ظهور الخاص في الشمول لمورده أقوى دائما من ظهور العام في
الشمول له، وتظهر الثمرة فيما إذا كان استخراج الحكم من الدليل الخاص
موقوفا على ملاحظة ظهور آخر غير ظهوره في الشمول المذكور إذ قد لا
يكون ذلك الظهور الآخر أقوى، ومثاله ان يرد لا يجب اكرام الفقراء ويرد
أكرم الفقير القانع فان تخصيص العام يتوقف على مجموع ظهورين في
الخاص أحدهما الشمول لمورده والآخر كون صيغة الامر فيه بمعنى
الوجوب، والأول وان كان أقوى من ظهور العام في العموم ولكن قد لا
يكون الثاني كذلك.
والصحيح ان الأخصية بنفسها ملاك للقرينية عرفا بدليل ان اي
خاص نفترضه لو تصورناه متصلا بالعام لهدم ظهوره التصديقي من
الأساس وهذا كاشف عن القرينية كما تقدم.
228

وهذا لا ينافي التسليم أيضا بان الأظهر إذا كانت أظهريته واضحة
عرفا يعتبر قرينة أيضا وفي حالة تعارضه مع الظاهر يجمع بينهما عرفا
بتحكيم الأظهر على الظاهر وفقا لنظرية الجمع العرفي العامة
ثم إن المراد بالأخصية التي هي ملاك القرينية الأخصية عند المقارنة
بين مفادي الدليلين في مرحلة الدلالة والإفادة لا الأخصية عند المقارنة بين
مفاديهما في مرحلة الحجية وتوضيح ذلك أنه إذا ورد عامان متعارضان من
قبيل يجب اكرام الفقراء ولا يجب اكرام الفقراء وورد مخصص على العام
الأول يقول لا يجب اكرام الفقير الفاسق فهذا المخصص تارة نفرضه متصلا
بالعام وأخرى نفرض انفصاله.
ففي الحالة الأولى: يصبح سببا في هدم ظهور العام في العموم
وحصر ظهوره التصديقي في غير الفساق وبهذا يصبح أخص مطلقا من
العام الثاني وفي مثل ذلك لا شك في التخصيص به.
واما في الحالة الثانية: فظهور العام الأول في العموم منعقد ولكن
الخاص قرينة موجبة لسقوطه من الحجية بقدر ما يقتضيه وحينئذ فان نظرنا
إلى هذا العام والعام الآخر المعارض له من زاوية المدلولين اللفظيين لهما في
مرحلة الدلالة فهما متساويان ليس أحدهما أخص من الآخر، وان نظرنا إلى
العامين من زاوية مدلوليهما في مرحلة الحجية وجدنا ان العام الأول أخص
من العام الثاني لأنه بما هو حجة لم يعد يشمل كل أقسام الفقراء فبينما كان
مساويا للعام الآخر انقلب إلى الأخصية.
وقد ذهب المحقق النائيني إلى الاخذ بالنظرة الثانية وسمى ذلك
بانقلاب النسبة، بينما اخذ صاحب الكفاية بالنظرة الأولى. واستدل الأول
على انقلاب النسبة بانا حينما نعارض العام الثاني بالعام الأول يجب ان
ندخل في المعارضة غير ما فرغنا عن سقوط حجيته من دلالة ذلك العام
لان ما سقطت حجيته لا معنى لان يكون معارضا. ونلاحظ على هذا
الاستدلال ان المعارضة وان كانت من شأن الدلالة التي لم تسقط بعد عن
229

الحجية ولكن هذا امر وتحديد ملاك القرينية امر آخر لان القرينية تمثل بناء
عرفيا على تقديم الأخص وليس من الضروري ان يراد بالأخص هنا
الأخص من الدائرتين الداخلتين في مجال المعارضة بل بالامكان ان يراد
الأخص مدلولا في نفسه منهما فالدليل الأخص مدلولا في نفسه تكون
أخصيته سببا في تقدم المقدار الداخل منه في المعارضة على معارضه بل هذا
هو المطابق للمرتكزات العرفية لان النكتة في جعل الأخصية قرينة هي ما
تسببه الأخصية عادة من قوة الدلالة ومن الواضح ان قوة الدلالة انما تحصل
من الأخصية مدلولا واما مجرد سقوط حجية العام الأول في بعض مدلوله
فلا يجعل دلالته في وضوح شمولها للبعض الآخر على حد خاص يرد فيه
مباشرة فالصحيح ما ذهب إليه صاحب الكفاية.
230

3 - احكام عامة للجمع العرفي
للجمع العرفي بأقسامه احكام عامة نذكر فيما يلي جملة منها:
1 - لابد لكي يعقل الجمع العرفي أن يكون الدليلان المتعارضان
لفظيين أو ما بحكمهما وصادرين من متكلم واحد أو جهة واحدة وذلك لان
ملاك الجمع العرفي كما تقدم هو اعداد أحد الدليلين لتفسير الاخر اعدادا
شخصيا أو نوعيا وهذا انما يصح في الكلام وعلى أن يكون المصدر واحدا
ليفسر بعض كلامه بالبعض الاخر.
2 - وأيضا انما يصح الجمع العرفي إذا لم يوجد علم اجمالي بعدم
صدور أحد الكلامين من الشارع إذ في هذه الحالة يكون التعارض في
الحقيقة بين السندين لا بين الدلالتين والجمع العرفي علاج للتعارض بين
الدلالتين لا بين السندين.
3 - ولا يخلو الكلامان اللذان يراد تطبيق الجمع العرفي عليهما من
احدى أربع حالات:
الأولى: أن يكون صدور كل منهما قطعيا وفي مثل ذلك لا يترقب
سريان التعارض الا إلى دليل حجية الظهور والمفروض انه لا يشمل ذا
القرينة مع وجود القرينة وبذلك يتم الجمع العرفي.
الثانية: - أن يكون صدور كل منهما غير قطعي وانما يثبت بالتعبد
231

وبدليل حجية السند مثلا كما في اخبار الآحاد وفي مثل ذلك لا يسري
التعارض أيضا لا إلى دليل حجية الظهور ولا إلى دليل حجية السند اما الأول
فلما تقدم واما الثاني فلان مفاد دليل التعبد بالسند الاخذ بالمفاد العرفي
الذي تعينه قواعد المحاورة العرفية لكل من المنقولين فإذا انحل الموقف على
مستوى دليل حجية الظهور وعدل مفاد ذي القرينة على نحو أصبح المفاد
العرفي النهائي للدليلين منسجما، لم يعد مانع من شمول دليل التعبد
بالسند لكل منهما استطراقا إلى ثبوت المدلول النهائي لهما.
الثالثة: - أن يكون صدور القرينة قطعيا وصدور ذي القرينة مرهون
بدليل التعبد بالسند والامر فيه يتضح مما تقدم في الحالة السابقة فإنه لا
مانع من شمول دليل التعبد بالسند لذي القرينة استطراقا إلى اثبات مدلوله
المعدل حسب قواعد المحاورة العرفية والجمع العرفي.
الرابعة: - أن يكون صدور القرينة مرهونا بدليل التعبد بالسند
وصدور ذي القرينة قطعيا وفي هذه الحالة قد يقال بان ظهور ذي القرينة
باعتباره امارة لا يعارض ظهور القرينة بالذات ليقال بتقدم ظهور القرينة
عليه بالجمع العرفي بل هو يعارض المجموع المركب من امرين هما ظهور
القرينة وسندها إذ يكفي في بقاء ظهور ذي القرينة أن يكون أحد هذين
الامرين خاطئا وعليه فما هو المبرر لتقديم القرينة الظنية السند في هذه
الحالة ومجرد ان أحد الامرين المذكورين له حق التقديم وهو ظهور
القرينة، لا يستوجب حق التقديم لمجموع الامرين وإن شئت قلت إن
شمول دليل حجية الظهور لذي القرينة وان كان لا يعارض شموله لظهور
القرينة ولكنه يعارض شمول دليل التعبد بالسند لسند القرينة ومن هنا
استشكل في تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد ويقال في الجواب على ذلك أن
دليل حجية الظهور قد اخذ في موضوعه عدم صدور القرينة على
الخلاف ودليل التعبد بسند القرينة يثبت صدور القرينة على الخلاف فهو
حاكم على دليل حجية الظهور لأنه يثبت تعبدا انتفاء موضوعه فيقدم عليه
232

بالحكومة. نعم هناك ملاك آخر للاستشكال في تخصيص العام الكتابي
بخبر الواحد وهو إمكان دعوى القصور في دليل التعبد بالسند للشمول لخبر
مخالف للعام القطعي الكتابي لان أدلة حجية خبر الواحد مقيدة بان لا
يكون الخبر مخالفا للكتاب وسيأتي الكلام عن ذلك أن شاء الله تعالى.
233

4 - نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب
لا شك في أن كل ما يحرز شمول القرينة له من الافراد التي كانت
داخلة في نطاق ذي القرينة لا بد من تحكيم ظهور القرينة فيها وطرح
الدلالة الأولية لذي القرينة بشأنها تطبيقا لنظرية الجمع العرفي كما أن ما
يحرز عدم شمول القرينة له من تلك الافراد يبقى في نطاق ذي القرينة
ويطبق عليه مفاده واما ما يشك في شمول القرينة له من الافراد فهو على
أقسام:
القسم الأول: - أن يكون الشك في الشمول ناشئا من شبهة
مصداقية للعنوان المأخوذ في دليل القرينة يشك بموجبها في أن هذا الفرد هل
هو مصداق لذلك العنوان أو لا كما إذا ورد " أكرم كل فقير " وورد " لا
تكرم فساق الفقراء " وشك في فسق زيد للجهل بحاله فيشك حينئذ في
شمول المخصص له فما هو الموقف تجاه ذلك؟
وتوجد إجابتان على هذا السؤال:
الأولى: ان هذا الفرد يعلم بأنه مصداق للعام للقطع بفقره فدلالة
العام على وجوب اكرامه محرزة ودلالة المخصص على خلاف ذلك غير محرزة
لعدم العلم بانطباق عنوان المخصص عليه وكلما أحرزنا دلالة معتبرة في
نفسها ولم نحرز دلالة على خلافها وجب الاخذ بها وهذا هو معنى التمسك
بالعام في الشبهة المصداقية.
234

والإجابة الثانية: - ترفض التمسك بالعام لأننا بالعام ان أردنا ان
نثبت وجوب اكرام زيد على تقدير عدم فسقه فهذا واضح وصحيح ولكن
لا يثبت الوجوب فعلا للشك في التقدير المذكور وان أردنا ان نثبت
الوجوب فعلا للشك في التقدير المذكور وان أردنا ان نثبت وجوب اكرامه
حتى لو كان فاسقا فهذا ما نحرز وجود دلالة أقوى على خلافه وهي دلالة
القرينة وان أردنا ان نثبت الوجوب الفعلي للاكرام لاجل تحقق كل ماله
دخل في الوجوب بما في ذلك عدم الفسق فهذا متعذر لان الدليل مفاده
الجعل لا فعلية المجعول وهذا هو الصحيح.
القسم الثاني: - أن يكون الشك في الشمول ناشئا من شبهة مفهومية
في العنوان المأخوذ في دليل القرينة كما إذا تردد عنوان الفاسق مفهوما في
المثال السابق بين مطلق المذنب ومرتكب الكبيرة خاصة فيشك حينئذ في
شمول دليل القرينة لمرتكب الصغيرة وفي مثل ذلك يصح التمسك بالعام
لاثبات وجوب اكرام مرتكب الصغيرة لان دلالة العام على حكمه معلومة
ووجود دلالة في المخصص على خلاف ذلك غير محرز. فان قيل الا يأتي
هنا نفس ما ذكر في الإجابة الثانية في القسم الأول لابطال التمسك
بالعام. كان الجواب ان ذلك لا يأتي ويتضح ذلك بعد بيان مقدمة وهي
ان المخصص القائل لا تكرم فساق الفقراء يكشف عن دخالة قيد في
موضوع وجوب الاكرام زائد على الفقر غير أن هذا القيد ليس هو أن لا
يسمى الفقير فاسقا فان التسمية بما هي ليس لها اثر اثباتا ونفيا، ولهذا
لو تغيرت اللغة ودلالاتها لما تغيرت الاحكام بل القيد هو أن لا تتواجد فيه
الصفة الواقعية للفاسق سواء سميناه فاسقا أو لا وتلك الصفة الواقعية
مرددة بحسب الفرض بين ارتكاب الذنب أو ارتكاب الكبائر خاصة وحيث إن
ارتكاب الكبائر هو المتيقن فنحن نقطع بان عدم ارتكابها قيد دخيل في
موضوع الحكم بالوجوب واما عدم ارتكاب الصغيرة فنشك في كونه قيدا
فيه وهكذا نعرف ان هناك ثلاثة عناوين: أحدها نقطع بعدم كونه قيدا في
الوجوب وهو عدم التسمية باسم الفاسق. والآخر نقطع بكونه قيدا فيه
235

وهو عدم ارتكاب الكبيرة. والثالث نشك في قيديته وهو عدم ارتكاب
الصغيرة.
إذا اتضحت هذه المقدمة فنقول ان العام في نفسه يثبت وجوب اكرام
الفقير بدون دخالة اي قيد غير أن المخصص حجة لاثبات القيدية لعدم
ارتكاب الكبيرة فيعود حكم العام بعد تحكيم القرينة وجوبا مقيدا بعدم
ارتكاب الكبيرة ولا موجب لتقيده بعدم التسمية باسم الفاسق أو بعدم
ارتكاب الصغيرة اما الأول فللقطع بعدم قيديته، واما الثاني فلعدم احراز
دلالة المخصص على ذلك وعليه فيثبت بالعام بعد التخصيص وجوب
الاكرام لكل فقير منوطا بعدم ارتكاب الكبيرة وهذا الوجوب المنوط نثبته
في مرتكب الصغيرة بلا محذور أصلا ويسمى ذلك بالتمسك بالعام في
الشبهة المفهومية للمخصص.
236

5 - تطبيقات للجمع العرفي
هناك حالات ادعي فيها تطبيق نظرية الجمع العرفي ووقع البحث في
صحة ذلك وعدمه نذكر فيما يلي جملة منها:
1 - إذا وردت جملتان شرطيتان لكل منهما شرط خاص ولهما جزاء
واحد من قبيل إذا خفي الأذان فقصر وإذا خفيت الجدارن فقصر وقع
التعارض بين منطوق كل منهما ومفهوم الأخرى وهنا قد يقال بان منطوق
كل منهما يقدم على مفهوم الأخرى وينتج ان للتقصير علتين مستقلتين اما
لان دلالة المنطوق دائما أظهر من دلالة المفهوم واما بدعوى أن المنطوق في
المقام أخص فيقدم تخصيصا لان المفهوم في كل جملة يدل على انتفاء الجزاء
بانتفاء شرطها وهذا مطلق لحالتي وجود شرط الجملة الأخرى وعدم وجوده
والمنطوق في الجملة الأخرى يدل على ثبوت الجزاء في حالة وجود شرطها
فيكون مخصصا.
ونلاحظ على ذلك منع الأظهرية ومنع الأخصية:
اما الأول: - فلان الدلالة على المفهوم مردها إلى دلالة المنطوق على
الخصوصية التي تستتبع الانتفاء عند الانتفاء فالتعارض دائما بين منطوقين.
واما الثاني: - فلأننا لابد ان نلتزم اما بافتراض الشرطين علتين
مستقلتين للجزاء وهذا يعني تقييد المفهوم واما بافتراض ان مجموع الشرطين
237

علة واحدة مستقلة وهذا يعني الحفاظ على اطلاق المفهوم وتقييد المنطوق في
كل من الشرطيتين بانضمام شرط الأخرى إلى شرطها فالتعارض إذن بين
اطلاق المنطوق واطلاق المفهوم والنسبة بينهما العموم من وجه فالصحيح انهما
يتعارضان ويتساقطان ولا جمع عرفي.
2 - إذا وردت جملتان شرطيتان متحدتان جزاء ومختلفتان شرطا وثبت
بالدليل ان كلا من الشرطين علة تامة ووجد الشرطان معا فهل يتعدد
الحكم أولا؟ وعلى تقدير التعدد فهل يتطلب كل منهما امتثالا خاصا به أو
لا؟ ومثاله إذا أفطرت فأعتق وإذا ظاهرت فأعتق والمشهور ان مقتضى
ظهور الشرطية في علية الشرط للجزاء أن يكون لكل شرط حكم مسبب
عنه فهناك إذن وجوبان للعتق وهذا ما يسمى بأصالة عدم التداخل في
الأسباب بمعنى ان كل سبب يبقي سببا تاما ولا يندمج السببان ويصيران
سببا واحدا وحيث إن كل واحد من هذين الوجوبين يمثل بعثا وتحريكا
مغايرا للآخر فلا بد من انبعاثين وتحركين وهذا ما يسمى بأصالة عدم
التداخل في المسببات بمعنى ان الوجوبين المسببين لا يكتفي بامتثال واحد
لهما، فان قيل إن هذين الوجوبين ان كان متعلقهما واحدا وهو طبيعي العتق
في المثال لزم امكان الاكتفاء بعتق واحد وان كان متعلق كل منهما حصة من
العتق غير الحصة الأخرى لزم تقييد اطلاق مادة الامر في أعتق وهو خلاف
الظاهر.
كان الجواب: - أحد وجهين:
الأول: - ان يؤخذ بالتقدير الأول بناء على امكان اجتماع بعثين
على عنوان كلي واحد ويقال ان تعدد البعث والتحريك بنفسه يقتضى تعدد
الانبعاث والحركة وان كان العنوان الذي انصب عليه البعثان واحدا.
الثاني: - ان يؤخذ بالتقدير الثاني - بناء على عدم امكان اجتماع
بعثين على عنوان واحد - ويلتزم بتقييد اطلاق المادة والقرينة على التقييد نفس
ظهور الجملتين في تعدد الوجوب مع عدم امكان اجتماعهما على عنوان
238

واحد بحسب الفرض وهذا نحو من الجمع العرفي.
3 - إذا تعارض دليل الزامي ودليل ترخيصي بالعموم من وجه قدم
الدليل الالزامي، وقد يقرب ذلك بان الدليل الترخيصي ليس مفاده عرفا
الا ان العنوان المأخوذ فيه لا يقتضي الالزام فإذا فرض عنوان آخر أعم منه
من وجه دل الدليل الالزامي على اقتضائه للالزام، اخذ به لعدم التعارض
بين الدليلين وهذا في الحقيقة ليس من الجمع العرفي لان الجمع العرفي
يفترض وجود التعارض بين الدليلين قبل التعديل والبيان المذكور يوضح
عدم التعارض رأسا.
4 - إذا تعارض اطلاق شمولي وآخر بدلي بالعموم من وجه فإن كان
أحد الدليلين دالا على الاطلاق بالوضع والأداة، والاخر بقرينة الحكمة
قدم ما كان بالوضع سواء اتصل بالاطلاق الآخر أو انفصل عنه اما في
حالة الاتصال فلانه بيان للقيد فلا يسمح لقرينة الحكمة بالجريان وتكوين
الاطلاق، واما في حالة الانفصال فللأظهرية والقرينية وإذا كان كلاهما
بالوضع أو بقرينة الحكمة فهناك قولان، أحدهما انهما متكافئان فيتساقطان
معا، والآخر تقديم الشمولي على البدلي، ويمكن ان يفسر ذلك بعدة
أوجه:
الأول: - ان يقال بأقوائية الظهور الشمولي من الظهور البدلي في
اطلاقين متماثلين من حيث كونهما وضعيين أو حكميين وذلك لان الشمولي
يتكفل احكاما عديدة بنحو الانحلال بخلاف المطلق البدلي الذي لا يتكفل
الا حكما واحدا وسيع الدائرة والاهتمام النوعي ببيان أصل حكم برأسه
أشد من الاهتمام ببيان حدوده ودائرته سعة وضيقا فيكون التعهد العرفي
بعدم تخلف بيان أصل حكم عن ارادته أقوى من التعهد العرفي بعدم
تخلف بيان سعة حكم عن ارادتها ولما كان تقديم البدلي يستدعي التخلف
الأول وتقديم الشمولي يستعدي التخلف الثاني الأخف محذورا تعين ذلك.
الثاني: - ان الامر في أكرم فقيرا يختص بالحصة المقدورة عقلا وشرعا
239

بناء على أن التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ليس معقولا وشمول
لا تكرم الفاسق للفقير الفاسق يجعل اكرامه غير مقدور شرعا فيرتفع بذلك
موضوع الاطلاق البدلي ويكون الشمولي واردا عليه. ولكن تقدم في محله ان
تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره معقول.
الثالث: - ان خطاب لا تكرم الفاسق لا يعارض في الحقيقة وجوب اكرام
فقير ما الذي هو مدلول خطاب أكرم فقيرا بل يعارض الترخيص في تطبيق
الاكرام الواجب على اكرام الفقير الفاسق وهذا يعني ان التعارض يقوم في
الواقع بين دليل الالزام في الخطاب الشمولي ودليل الترخيص في الخطاب
البدلي وقد تقدم انه متى تعارض دليل الترخيص مع دليل الالزام قدم الثاني
على الأول.
ونلاحظ على ذلك أن حرمة اكرام الفقير الفاسق تنافي الوجوب بنفسه
مع فرض تعلقه بصرف وجود الفقير بلا قيد العدالة بقطع النظر عما يترتب
على ذلك من ترخيصات في التطبيق فالتنافي إذن بين اطلاقي حكمين
الزاميين اللهم الا ان يقال ان الاطلاق البدلي للامر بالإكرام حاله عرفا
كحال اطلاق أدلة الترخيص في أنه لا يفهم منه أكثر من عدم وجود مقتض
من ناحية الامر للتقيد بحصة دون حصة فلا يكون منافيا لوجود مقتض
لذلك من ناحية التحريم المجعول في الدليل الآخر.
5 - إذا تعارض أصل مع امارة كالرواية الصادرة من ثقة فالتعارض
كما أشرنا سابقا انما هو بين دليل حجية الأصل ودليل حجية تلك الرواية
وفي مثل ذلك قد يقال بالورود بتقريب ان موضوع دليل الأصل هو عدم
العلم بما هو دليل ودليل حجية الخبر يجعل الخبر دليلا فيرفع موضوع دليل
الأصل حقيقة وهو معنى الورود. ولكن اخذ العلم في دليل الأصل بما هو
دليل لا بما هو كاشف تام يحتاج إلى قرينة لان ظاهر الدليل في نفسه اخذ
العلم فيه بوصفه الخاص.
وقد يقال بالحكومة - بعد الاعتراف بان ظاهر دليل الأصل اخذ عدم
240

العلم في موضوعه بما هو كاشف تام - وذلك لان دليل حجية الامارة مفاده
التعبد بكونها علما وكاشفا تاما وبذلك يوجب قيامها مقام القطع الموضوعي
المأخوذ - اثباتا أو نفيا - موضوعا لحكم من الاحكام. ومن أمثلة ذلك
قيامها مقام القطع المأخوذ عدمه في موضوع دليل الأصل وبهذا يكون دليل
الحجية رافعا لموضوع دليل الأصل تعبدا وهو معنى الحكومة.
فان قيل هذا لا ينطبق على حالة التعارض بين الامارة والاستصحاب
لان دليل الاستصحاب مفاده التعبد ببقاء اليقين أيضا فيكون بدوره رافعا
لموضوع دليل حجية الامارة وهو الشك وعدم العلم.
كان الجواب ان الشك لم يؤخذ في موضوع دليل حجية الامارة لسانا
بل اطلاق الدليل يشمل حتى حالة العلم الوجداني بالخلاف غير أن العقل
يحكم باستحالة جعل الحجية للامارة مع العلم بخلافها وجدانا وهذا الحكم
العقلي انما يخرج عن اطلاق الدليل حالة العلم الوجداني خاصة فلا يكون
الاستصحاب رافعا لموضوع دليل حجية الامارة خلافا للعكس فان الشك
وعدم العلم مأخوذ في دليل الاستصحاب لسانا فيجعل الامارة علما يرتفع
موضوعه بالحكومة.
ونلاحظ على ذلك كله ان الدليل الحاكم لا تتم حكومته الا بالنظر
إلى مفاد الدليل المحكوم كما تقدم ودليل حجية الخبر في المقام وكذلك
الظهور هو السيرة العقلائية وسيرة المتشرعة. اما السيرة العقلائية فلم يثبت
انعقادها على تنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي لعدم انتشار حالات
القطع الموضوعي في الحياة العقلائية على نحو يساعد على انتزاع السيرة
المذكورة وامضاء السيرة العقلائية شرعا لا دليل على نظره إلى أكثر مما تنظر
السيرة إليه من آثر، واما سيرة المتشرعة فالمتيقن منها العمل بالخبر والظهور
في موارد القطع الطريقي ولا جزم بانعقادها على العمل بهما في موارد القطع
الموضوعي.
والأصح ان نلتزم بأخصية دليل حجية الخبر والظهور بل كونه نصا
241

في مورد تواجد الأصول على الخلاف للجزم بانعقاد السيرة على تنجيز
الواقع بالرواية والظهور، وعدم الرجوع إلى البراءة ونحوها من الأصول
العملية.
فالامارة بحكم هذه الأخصية والنصية في دليل حجيتها مقدمة على
الأصل المخالف لها، وإن لم يثبت بدليل الحجية قيامها مقام القطع
الموضوعي عموما.
6 - إذا تعارض أصل سببي واصل مسببي كان الأصل السببي
مقدما ولهذا يجري استصحاب طهارة الماء الذي يغسل به الثوب المتنجس
ولا يعارض باستصحاب نجاسة الثوب المغسول وقد فسر ذلك على أساس
الحكومة لان استصحاب نجاسة الثوب في المثال موضوعه الشك في نجاسة
الثوب بقاء واستصحاب طهارة الماء يلغي تعبدا الشك في تمام آثار طهارة
الماء بما فيها تطهيره للثوب فيرتفع بالتعبد موضوع استصحاب النجاسة كما
تقدم في الحلقة السابقة.
ولكن يلاحظ من ناحية ان هذا البيان يتوقف على افتراض قيام
الاحراز التعبدي بالأصل السببي مقام القطع الموضوعي وقد مرت المناقشة
في ذلك ومن ناحية أخرى ان التفسير المذكور غير مطرد في سائر موارد
تقديم الأصل السببي على المسببي لأنه يختص بما إذا كان مفاد الأصل
السببي إلغاء الشك وجعل الطريقية كما يدعى في الاستصحاب مع أن
الأصل السببي قد لا يكون مفاده كذلك ومع هذا يقدم على الأصل
المسببي حتى ولو كان مفاده جعل الطريقية فالماء المغسول به الثوب في المثال
المذكور لو كان موردا لأصالة الطهارة لا لاستصحابها لبني على تقدمها بلا
اشكال على استصحاب نجاسة الثوب المغسول مع أن دليل أصالة الطهارة
ليس مفاده إلغاء الشك لتجري الحكومة بالبيان المذكور وهذا يكشف عن أن
نكتة تقدم الأصل السببي على المسببي لا تكمن في إلغاء الشك بل في
كونه يعالج موضوع الحكم فكأنه يحل المشكلة في مرتبة أسبق على نحو لا
242

يبقي مجال للحل في مرتبة متأخرة عرفا وهذا يعني ان السببية باللحاظ
المذكور نكتة عرفية تقتضي بنفسها التقديم في مقام الجمع بين دليلي
الأصلين السببي والمسببي.
7 - إذا تعارض الاستصحاب مع أصل آخر كالبراءة وأصالة الطهارة
تقدم الاستصحاب الجمع العرفي والمشهور في تفسير هذا التقديم وتبرير
الجمع العرفي ان دليل الاستصحاب حاكم على أدلة تلك الأصول لان
مفاده التعبد ببقاء اليقين والغاء الشك وتلك الأدلة اخذ في موضوعها الشك
فيكون رافعا لموضوعها بالتعبد.
فان قيل كما أن الشك مأخوذ في موضوع أدلة البراءة وأصالة الطهارة
كذلك هو مأخوذ في موضوع دليل الاستصحاب.
كان الجواب ان الشك وان كان مأخوذا في موضوع أدلتها جميعا
ولكن دليل الاستصحاب هو الحاكم لان مفاده التعبد باليقين والغاء الشك
بخلاف أدلة الأصول الأخرى.
وهذا البيان يواجه نفس الملاحظة التي علقناها على دعوى حكومة
دليل حجية الامارة على أدلة الأصول فلاحظ.
والأحسن تخريج ذلك على أساس آخر من قبيل ان العموم في دليل
الاستصحاب عموم بالأداة لاشتماله على كلمة (ابدا) فيكون أقوى وأظهر
في الشمول لمادة الاجتماع.
243

- 2 -
التعارض المستقر على ضوء دليل الحجية
نتناول الآن التعارض المستقر الذي تقدم ان التنافي فيه بعد استقرار
التعارض يسري إلى دليل الحجية إذ يكون من الممتنع شمول دليل الحجية
لهما معا وسنبحث هنا حكم هذا التعارض في ضوء دليل الحجية وبقطع
النظر عن الروايات الخاصة التي عولج فيها حكم التعارض وهذا معنى
البحث عما تقتضيه القاعدة في المقام.
والمعروف ان القاعدة تقتضي التساقط لان شمول دليل الحجية
للدليلين المتعارضين غير معقول وشموله لأحدهما المعين دون الآخر ترجيح
بلا مرجح وشموله لهما على وجه التخيير لا ينطبق على مفاده العرفي وهو
الحجية التعينية فيتعين التساقط.
ونلاحظ من خلال هذا البيان ان الانتهاء إلى التساقط يتوقف على
ابطال الشقوق الثلاثة الأولى فلنتكلم عن ذلك:
اما الشق الأول: - وهو شمول دليل الحجية لهما معا فقد يقال ان
الدليلين المتعارضين تارة يكون مفاد أحدهما اثبات حكم الزامي ومفاد الآخر
نفيه، وأخرى يكون مفاد كل منهما حكما ترخيصيا، وثالثة مفاد كل منهما
حكما إلزاميا، ففي الحالة الأولى يستحيل شمول دليل الحجية لهما لأنه
يؤدي إلى تنجيز حكم الزامي والتعذير عنه في وقت واحد، وفي الحالة
الثانية يستحيل الشمول لأدائه مع العلم بمخالفة أحد الترخيصين للواقع إلى
244

الترخيص في المخالفة القطعية لذلك الواقع المعلوم اجمالا، واما في الحالة
الثالثة فإن كان الحكمان الالزاميان متضادين ذاتا كما إذا دل دليل على
وجوب الجمعة ودل آخر على حرمتها فالشمول محال أيضا لأدائه
إلى تنجيز حكمين الزاميين في موضوع واحد وان كانا متضادين
بالعرض للعلم الاجمالي من الخارج بعدم ثبوت أحدهما كما إذا دل دليل على
وجوب الجمعة وآخر على وجوب الظهر فلا استحالة في شمول دليل الحجية
لهما معا لأنه انما يؤدي إلى تنجيز كلا الحكمين الالزاميين مع العلم بعدم
ثبوت أحدهما ولا محذور في ذلك. ولكن الصحيح ان هذا التوهم يقوم
على أساس ملاحظة المدلول المطابقي في مقام التعارض فقط وهو خطأ فان
كلا من االدليلين المفروضين يدل بالالتزام على نفي الوجوب المفاد بالآخر
فيقع التعارض بين الدلالة المطابقية لأحدهما والدلالة الالتزامية للآخر
وحجيتهما معا تؤدي إلى تنجيز حكم والتعذير عنه في وقت واحد.
فان قيل هذا يعني ان المحذور نشأ من ضم الدلالتين الالتزاميتين في
الحجية إلى المطابقيتين فيتعين سقوطهما عن الحجية لأنهما المنشأ للتعارض
وتظل حجية الدلالة المطابقية في كل من الدليلين ثابتة.
كان الجواب اننا نواجه في الحقيقة معارضتين ثنائيتين والدلالة
الالتزامية تشكل أحد الطرفين في كل منهما فلا مبرر لطرح الدلالة الالتزامية
الا التعارض وهو ذو نسبة واحدة إلى كلا طرفي المعارضة فلا بد من سقوط
الطرفين معا.
فان قيل المبرر لطرح الدلالة الالتزامية خاصة دون المطابقية انها
ساقطة عن الحجية على اي حال سواء رفعنا اليد عنها ابتداء أو رفعنا اليد
عن الدلالتين المطابقتين لان سقوط المطابقية عن الحجية يستتبع سقوط
الالتزامية فالدلالة الالتزامية إذن ساقطة عن الحجية على اي حال اما
سقوطا مستقلا أو يتبع سقوط الدلالة المطابقية ومع هذا فلا موجب للالتزام
بسقوط الدلالة المطابقية.
245

كان الجواب ان الدلالة الالتزامية في كل معارضة ثنائية تعارض
الدلالة المطابقية للدليل الآخر وهي غير تابعة لها في الحجية ليدور امرها بين
السقوط الابتدائي والسقوط التبعي فلا معين لحل المعارضة باسقاط
الدلالتين الالتزاميتين خاصة.
واما الشق الثاني: - وهو شمول دليل الحجية لأحدهما المعين فقد
برهن على استحالته بأنه ترجيح بلا مرجح الا ان هذا البرهان لا يطرد في
الحالات التالية:
الحالة الأولى: - ان نعلم بان ملاك الحجية والطريقية غير ثابت في
كل من الدليلين في حالة التعارض وفي هذه الحالة لا شك في سقوطهما معا
بلا حاجة إلى برهان لا المفروض عدم الملاك لحجيتهما.
الحالة الثانية: - ان نعلم - بقطع النظر عن دليل الحجية - بوجود
ملاكها في كل منهما وبان الملاك في أحدهما المعين أقوى منه في الآخر، ولا
شك هنا في شمول دليل الحجية لذلك المعين ولا يكون ترجيحا بلا مرجح
للعلم بعدم شموله للآخر وكذلك الامر إذا احتملنا أقوائية الملاك الطريقي
في ذلك المعين ولم نحتمل الأقوائية في الآخر فإن هذا يعني ان اطلاق دليل
الحجية للآخر معلوم السقوط لأنه إما مغلوب أو مساو ملاكا لمعارضه واما
اطلاق دليل الحجية لمحتمل الأقوائية فهو غير معلوم السقوط فنأخذ به.
الحالة الثالثة: - أن لا يكون الملاك محرزا بقطع النظر عن دليل
الحجية لا نفيا ولا اثباتا وانما الطريق إلى احرازه نفس دليل الحجية ونفترض
اننا نعلم بان الملاك لو كان ثابتا في المتعارضين فهو في أحدهما المعين أقوى
وهذا يعني العلم بسقوط اطلاق دليل الحجية للآخر لأنه اما لا ملاك فيه
واما فيه ملاك مغلوب واما اطلاق دليل الحجية للمعين فلا علم بسقوطه
فيؤخذ به، ومثل ذلك ما إذا كان أحدهما المعين محتمل الأقوائية على تقدير
ثبوته دون الآخر. ومن أمثلة ذلك أن يكون أحد الراويين أوثق وأفقه من
الراوي الآخر فان نكتة الطريقية التي هي ملاك الحجية لا يحتمل كونها
246

موجودة في غير الأوثق والأفقه خاصة.
وهكذا يتضح ان ابطال الشمول لأحدهما المعين ببرهان استحالة
الترجيح بلا مرجح انما يتجه في مثل ما إذا كان كل من الدليلين موردا
لاحتمال وجود الملاك الأقوى فيه.
واما الشق الثالث: وهو اثبات الحجية التخييرية فقد أبطل بان مفاد
الدليل هو كون الفرد مركزا للحجية لا الجامع ويلاحظ ان الحجية
التخييرية لا ينحصر امرها بحجية الجامع ليقال بان ذلك خلاف مفاد
الدليل بل يمكن تصويرها بحجيتين مشروطتين بان يلتزم بحجية كل من
الدليلين لكن لا مطلقا بل شريطة أن لا يكون الاخر صادقا فمركز كل من
الحجيتين الفرد لا الجامع ولكن نرفع اليد عن اطلاق الحجية لاجل
التعارض ولا تنافي بين حجيتين مشروطتين من هذا القبيل ولا محذور في
ثبوتهما إذا لم يكن كذب كل من الدليلين مستلزما لصدق الآخر، والا
رجعنا إلى إناطة حجية كل منهما بصدق نفسه وهو غير معقول.
فان قيل ما دمنا لا نعلم الكاذب من الصادق فلا نستطيع ان نميز ان
اي الحجيتين المشروطتين تحقق شرطها لنعمل على أساسها فأي فائدة في
جعلهما؟
كان الجواب ان الفائدة نفي احتمال ثالث لأننا نعلم بان أحد
الدليلين كاذب وهذا يعني العلم بان احدى الحجيتين المشروطتين فعلية
وهذا يكفي لنفي الاحتمال الثالث.
وعلى ضوء ما تقدم يتضح:
أولا: - ان دليل الحجية يقتضي الشمول لأحدهما المعين إذا كان
ملاك الحجية على تقدير ثبوته أقوى فيه أو محتمل الأقوائية دون احتمال
مماثل في الاخر.
ثانيا: - انه في غير ذلك لا يشمل كلا من المتعارضين شمولا
247

منجزا.
ثالثا: - انه مع ذلك يشمل كلا منهما شمولا مشروطا بكذب الآخر
لاجل نفي الثالث وذلك فيما إذا لم يكن كذب أحدهما مساوقا لصدق
الاخر.
هذه هي النظرية العامة للتعارض المستقر على مقتضى القاعدة.
تنبيهات النظرية العامة للتعارض المستقر:
ومن أجل تكميل الصورة عن النظرية العامة للتعارض المستقر يجب
ان نشير إلى عدة أمور:
الأول: - ان دليل الحجية الذي يعالج حكم التعارض المستقر على
ضوئه تارة يكون دليلا واحدا وأخرى يكون دليلين، وتوضيح ذلك
باستعراض الحالات التالية:
الأولى: - إذا افترضنا دليلين لفظيين قطعيين صدورا، ظنيين دلالة
تعارضا معارضة مستقرة فالتنافي بينهما يسري إلى دليل الحجية كما تقدم وهو
هنا دليل واحد وهو دليل حجية الظهور.
الثانية: - إذا افترضنا دليلين لفظيين قطعيين دلالة، ظنيين سندا
تعارضا معارضة مستقرة فالتنافي بينهما يسري إلى دليل الحجية كما تقدم وهو
هنا دليل واحد وهو دليل حجية السند.
الثالثة: إذا افترضنا دليلين لفظيين ظنيين دلالة وسندا فلا شك في
سراية التنافي إلى دليل حجية الظهور ولكن هل يسري إلى دليل حجية
السند أيضا؟
قد يقال بعدم السريان إذ لا محذور في التعبد بكلا السندين وانما
المحذور في التعبد بالمفادين.
248

ولكن الصحيح هو السريان لان حجية الدلالة وحجية السند
مرتبطتان إحداهما بالأخرى بمعنى ان دليل حجية السند مفاده هو التعبد
بمفاد الكلام المنقول لا مجرد التعبد بصدور الكلام بقطع النظر عن مفاده.
الرابعة: - إذا افترضنا دليلين لفظيين أحدهما ظني سندا قطعي دلالة
والآخر بالعكس ولم يكن بالامكان الجمع العرفي بين الدلالتين فالتنافي الذي
يسري هنا لا يسري إلى دليل حجية الظهور بمفرده ولا إلى دليل حجية
السند كذلك إذ لا توجد دلالتان ظنيتان ولا سندان ظنيان وانما يسري إلى
مجموع الدليلين بمعنى وقوع التعارض بين دليل حجية السند في أحدهما
ودليل حجية الظهور في الآخر فإذا لم يكن هناك مرجح لتقديم أحد
الدليلين على الآخر طبقت النظرية السابقة.
الخامسة: - إذا افترضنا دليلا ظنيا دلالة وسندا معارضا لدليل قطعي
دلالة وظني سندا وتعذر الجمع العرفي سرى التنافي بمعنى وقوع التعارض
بين دليل حجية الظهور في ظني الدلالة ودليل السند في الاخر ويؤدي ذلك
إلى دخول دليل السند لظني الدلالة في التعارض أيضا لما عرفت من
الترابط. والمحصل النهائي لذلك ان دليل السند في أحدهما يعارض كلا من
دليل حجية الظهور ودليل السند في الآخر.
السادسة: - إذا افترضنا دليلا ظنيا دلالة وسندا معارضا لدليل ظني
دلالة وقطعي سندا سرى التنافي إلى دليل حجية الظهور لوجود ظهورين
متعارضين ودخل دليل التعبد بالسند الظني في المعارضة لمكان الترابط المشار
إليه.
الثاني: - ان التعارض المستقر تارة يستوعب تمام مدلول الدليل كما
في الدليلين المتعارضين الواردين على موضوع واحد وأخرى يشمل جزءا من
المدلول كما في العامين من وجه وما تقدم من نظرية التعارض كما
ينطبق على التعارض المستوعب كذلك ينطبق على التعارض غير المستوعب
249

ولكن يختلف هذان القسمان في نقطة وهي انه في حالات التعارض
المستوعب بين دليلين ظنيين دلالة وسندا يسري التنافي إلى دليل حجية
الظهور وبالتالي إلى دليل التعبد بالسند واما في حالات التعارض غير
المستوعب بينهما فالتنافي يسري إلى دليل حجية الظهور ولكن لا يمتد إلى
دليل التعبد بالسند بمعنى انه لا موجب لرفع اليد عن سند كل من العامين
من وجه رأسا. فان قيل إن التنافي في دليل حجية الظهور يتوقف على
افتراض ظهورين متعارضين ونحن لا نحرز ذلك في المقام الا بدليل التعبد
بالسند فالتنافي في الحقيقة نشأ من دليل التعبد بالسند
. كان الجواب ان هذا صحيح ولكنه لا يعني طرح السند رأسا فان
مفاد دليل التعبد بالسند ثبوت الكلام المنقول بلحاظ تمام ما له من آثار ومن
آثاره حجية عمومه في مادة الاجتماع وحجية عمومه في مادة الافتراق فإذا
تعذر ثبوت الأثر الأول للتعارض ثبت الأثر الثاني وهو معنى عدم سقوط
السند رأسا واما حين يتعذر ثبوت كل ما للكلام المنقول من آثار كما في
حالات التعارض المستوعب فيقوم التعارض بين السندين لا محالة. ومن
هنا نستطيع ان نعرف انه في كل حالات التعارض بين مدلولي دليلين ظنيين
سندا يقع التعارض ابتداء في دليل التعبد بالسند لا في دليل حجية الظهور
- لأننا لا نحرز وجود ظهورين متعارضين الا من ناحية التعبد بالسند - فإن كان
التعارض مستوعبا سقط التعبد بالسند رأسا في كل منهما والا سقط
بمقداره، واما ما كنا نقوله من أن التنافي يسري إلى دليل حجية الظهور
ويمتد منه إلى دليل التعبد بالسند فهو بقصد تبسيط الفكرة حيث إن التنافي
بين السندين في مقام التعبد متفرع على التنافي بين الظهورين في مقام
الحجية على تقدير ثبوتهما فكأن التنافي سرى من دليل حجية الظهور إلى
دليل التعبد بالسند واما من الناحية الواقعية وبقدر ما نمسك بأيدينا
فالتعارض منصب ابتداء على دليل التعبد بالسند لأننا لا نمسك بأيدينا
سوى السندين.
250

الثالث: وقع البحث في أن المتعارضين بعد عجز كل منهما عن
اثبات مدلوله الخاص هل يمكن نفي الاحتمال الثالث بهما؟
وقد يقرب ذلك بوجوه:
أولها: التمسك بالدلالة الالتزامية في كل منهما لنفي الثالث فإنها غير
معارضة فتبقي حجة وهذا مبني على انكار تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة
المطابقية في الحجية.
ثانيها: - التمسك بدليل الحجية لاثبات حجية غير ما علم اجمالا
بكذبه فان المتعذر تطبيق دليل الحجية على هذا بعينه أو ذاك بعينه
للمعارضة واما تطبيقه على عنوان غير معلوم الكذب اجمالا فلا محذور فيه
لأنه غير معارض لا بتطبيقه على عنوان معلوم الكذب، لوضوح ان جعل
الحجية لهذا العنوان غير معقول ولا بتطبيقه على عنوان تفصيلي كهذا أو
ذاك، لعدم احراز مغايرة العنوان التفصيلي لعنوان غير المعلوم.
ونلاحظ على ذلك أن الخبرين المتعارضين اما ان يحتمل كذبهما معا أو
لا فان احتمل ففي حالة كذبهما معا لا تعين للمعلوم بالاجمال ولا لغير
المعلوم بالاجمال لتجعل الحجية له، وإن لم يحتمل كذبهما معا فهذا بنفسه
ينفي احتمال الثالث بلا حاجة إلى التمسك بدليل الحجية.
ثالثها: - وهو تعميق للوجه الثاني وحاصله الالتزام بحجية كل من
المتعارضين ولكن على نحو مشروط بكذب الآخر وحيث يعلم بكذب
أحدهما فيعلم بحجية أحدهما فعلا وهذا يكفي لنفي الثالث وقد تقدمت
الإشارة إلى ذلك.
الرابع: - ينبغي ان يعلم انا في تنقيح القاعدة على ضوء دليل
الحجية كنا نستبطن افتراضا وهو التعامل مع أدلة الحجية بوصفها أدلة
لفظية لا ترفع اليد عن اطلاقها الا بقدر الضرورة الا ان هذا الافتراض لا
ينطبق على الواقع لان دليل الحجية في الغالب لبي مرجعه إلى السيرة
251

العقلائية وسيرة المتشرعة والاجماع والأدلة اللفظية إذا تمت تعتبر امضائية
فتنصرف إلى نفس مفاد تلك الأدلة اللبية وتتحدد بحدودها.
وعلى هذا الأساس سوف تتغير نتيجتان من النتائج التي انتهينا إليها
سابقا.
الأولى: - ما كنا نفترضه من التمسك باطلاق دليل الحجية لاثبات
حجية في كل من المتعارضين مشروطة بكذب الآخر وكنا نستفيد من ذلك
لنفي احتمال الثالث فان هذا الافتراض يناسب الدليل اللفظي الذي له
اطلاق يشمل المتعارضين بحد ذاته واما إذا كان مدرك الحجية الأدلة اللبية
من السيرة العقلائية وغيرها فلا اطلاق فيها للمتعارضين رأسا فلا يمكن ان
نثبت بها حجيتين مشروطتين على النحو المذكور.
الثانية: ما كنا نفترضه في حالة تعارض الدليل اللفظي القطعي
سندا مع الدليل اللفظي الظني سندا وعدم امكان الجمع العرفي. من
وقوع التعارض بين دليل حجية الظهور في الأول ودليل حجية السند في
الثاني فان هذا يناسب الاقرار بتمامية كل من هذين الدليلين في نفسه
وصلاحيته لمعارضة الآخر مع أن الواقع بناء على أن دليل حجية السند
- اي حجية خبر الواحد - السيرة.. قصوره في نفسه عن الشمول لمورد
المعارضة المستقرة لظاهر كلام قطعي الصدور من الشارع لعدم انعقاد
السيرة في مثل ذلك على التعبد بنقل المعارض.
252

- 3 -
حكم التعارض علي ضوء الاخبار الخاصة
الروايات الخاصة الواردة في علاج التعارض على قسمين:
أحدهما: - ما يتصل بحالات التعارض بين الدليل القطعي السند
والدليل الظني السند إذ قد يقال بوجود ما يدل على إلغاء حجية الدليل
الظني السند في هذه الحالة على نحو نرفع اليد بذلك عما قد يكون هو
مقتضى القاعدة من تعارض دليل التعبد بالسند في أحدهما مع دليل التعبد
بالظهور في الآخر وتساقطهما ونسمي روايات هذا القسم بروايات العرض
على الكتاب لأنها تقتضي عرض الاخبار على الكتاب.
والقسم الاخر: - ما يتصل بحالات التعارض بين الدليلين الظنيين
سندا إذ قد يقال بوجود ما يدل على عدم التساقط وثبوت الحجية لاحد
المتعارضين تعيينا أو تخييرا على نحو نرفع اليد به عما تقتضيه القاعدة من
التساقط ونسمي روايات هذا القسم بروايات العلاج.
وسنتكلم عن هذين القسمين تباعا.
1 - روايات العرض على الكتاب
ويمكن تصنيف هذه الروايات إلى ثلاث مجاميع:
253

المجموعة الأولى: - ما ورد بلسان الاستنكار والتحاشي عن صدور
ما يخالف الكتاب من المعصومين، من قبيل رواية أيوب بن راشد عن أبي
عبد الله (ع) قال: (ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف) (1) فان
التعبير بزخرف يدل على نفي الصدور مع الاستنكار والتحاشي وهذه
الروايات تدل على سقوط كل خبر مخالف للكتاب عن الحجية وبهذا تقيد
دليل حجية السند على تقدير ثبوت الاطلاق فيه.
وقد يستشكل في ذلك تارة بان الروايات المذكورة لا تنفي الحجية
وليست ناظرة إليها وانما تنفي صدور الكلام المخالف فلا تعارض دليل
حجية السند لتقيده وانما تعارض نفس الروايات الدالة على صدور الكلام
المخالف.
وأخرى بان موضوع هذه الرواية غير الموافق لا المخالف ولازم ذلك
عدم العمل بالروايات التي لا تعرض في القرآن الكريم لمضمونها.
وثالثة: بان صدور الكلام المخالف من الأئمة معلوم وجدانا كما في
موارد التخصيص والتقييد وهذا يكشف عن لزوم تأويل تلك الروايات ولو
بحملها على المخالفة في أصول الدين.
والجواب اما على الأول: فبان نفي الصدور بروح الاستنكار يدل
بالالتزام العرفي على نفي الحجية. واما على الثاني فبان ظاهر عدم الموافقة
عدمها بنحو السالبة بانتفاء المحمول لا السالبة بانتفاء الموضوع التي تحصل
بعدم تطرق القرآن للمضمون رأسا. واما على الثالث فبان نفس الاستنكار
والتحاشي قرينة عرفية على تقييد المخالف بما كان يقتضي طرح الدليل
القرآني والغائه رأسا فلا يشمل المخالف بالتخصيص والتقييد ونحوهما مما لا
استنكار فيه بعد وضوح بناء البيانات الشرعية على ذلك.
المجموعة الثانية: - ما دل على إناطة العمل بالرواية بان يكون

(1) وسائل الشيعة: ج 18 / أبواب صفات القاضي / الباب 9 / حديث 12.
254

موافقا مع الكتاب وعليه شاهد منه من قبيل رواية ابن أبي يعفور قال
(سألت أبا عبد الله (ع) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم
من لا نثق به قال إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله
أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله، وإلا فالذي جاء به أولى به) (1).
وهذه الرواية ونظائرها تساوق في الحقيقة إلغاء حجية خبر الواحد
لأنها تنهى عن العمل به في حالة عدم تطابقه مع القرآن الكريم ولا محصل
عرفا لجعل الحجية له في خصوص حالة التطابق لكفاية الدلالة القرآنية
حينئذ وعليه فيرد على الاستدلال بها إنها بنفسها اخبار آحاد ولا يمكن
الاستدلال باخبار الآحاد على نفي حجية خبر الواحد. هذا إضافة إلى اننا
لو سلمنا انها لا تلغي حجية خبر الواحد على الاطلاق فلا شك في أنها
تسلب الحجية عن الخبر الذي ليس له موافق من الكتاب الكريم ومضمونها
نفسه الا يوافق الكتاب الكريم بل يخالفه بناء على دلالة الكتاب وغيره من
الأدلة القطعية على حجية خبر الثقة فيلزم من حجيتها عدم حجيتها.
المجموعة الثالثة: - ما دل على نفي الحجية عما يخالف الكتاب
الكريم من قبيل رواية جميل بن دراج عن أبي عبد الله (ع) أنه قال
(الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، إن على كل حق حقيقة
وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله
فدعوه) (2).
وتعتبر هذه المجموعة مخصصة لدليل حجية الخبر لا ملغية للحجية
رأسا ونتيجة ذلك عدم شمول الحجية لخبر المعارض للكتاب الكريم وبعد
اخذ الكتاب بوصفه مصداقا لمطلق الدليل القطعي على ضوء مناسبات
الحكم والموضوع يثبت ان كل دليل ظني يخالف دليلا قطعي السند يسقط

(1) وسائل الشيعة: ج 18 / أبواب صفات القاضي / الباب 9 / حديث 11.
(2) وسائل الشيعة / ج 18 / أبواب صفات القاضي / الباب 9 / حديث 35.
255

عن الحجية والمخالفة هنا حيث لم ترد في سياق الاستنكار بل في سياق
الوقوف عند الشبهة فلا تختص بالمخالفة التي تقتضي طرح الدليل القرآني
رأسا كما في المجموعة الأولى بل تشمل كل حالات التعارض المستقر بما
في ذلك التباين والعموم من وجه.
وقد يعترض على ذلك باعتراضين:
الأول: ان هذه المجموعة لا تختص باخبار الآحاد بل تشمل كل
إمارة تؤدي إلى مخالفة الكتاب فلا تكون أخص مطلقا من دليل حجية الخبر
بل قد تكون النسبة هي العموم من وجه.
والجواب: - ان الصحيح تقديم اطلاق هذه المجموعة - عند
التعارض - على دليل حجية الخبر باعتبار حكومتها عليه إذ هي كأدلة المانعية
والشرطية فرض فيها الفراغ عن أصل حجية بعض الامارات ليصح استثناء
بعض الحالات من ذلك وهذا معنى النظر المستوجب للحكومة أضف إلى
ذلك أن خبر الثقة هو القدر المتيقن منها باعتباره الفرد البارز من الامارات
والمتعارف والداخل في محل الابتلاء وقتئذ الذي كان يترقب مخالفته للكتاب
تارة وموافقته أخرى.
الثاني: - ان هذه المجموعة تدل على اسقاط ما يخالف الكتاب عن
الحجية والمخالفة كما تشمل التنافي بنحو التباين أو العموم من وجه كذلك
تشمل التنافي بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة لان ذلك كله يصدق
عليه المخالفة فيكون مقتضى اطلاقها طرح ما يعارض الكتاب الكريم مطلقا
سواء كان تعارضا مستقرا أو غير مستقر.
وقد أجيب على هذا الاعتراض بوجهين:
أحدهما: - ان المعارضة بنحو التخصيص أو التقييد ونحوهما ليست
بمخالفة لان الخاص والمقيد والحاكم قرينة على المراد من العام والمطلق
والمحكوم.
256

والآخر: - اننا نعلم اجمالا بصدور كثير من المخصصات والمقيدات
للكتاب عن الأئمة وهذا إن لم يشكل قرينة متصلة تصرف عنوان المخالفة
في هذه الروايات إلى انحاء الأخرى من المخالفة اي التعارض المستقر فلا
أقل من سقوط الاطلاقات القرآنية عن الحجية بالتعارض فيما بينها على
أساس العلم الاجمالي فتبقى الاخبار المخصصة على حجيتها.
ونلاحظ على هذين الوجهين ان المخالفة للقرآن المسقطة للخبر عن
الحجية ان أريد بها المخالفة لدلالة قرآنية ولو لم تكن حجة فكلا الجوابين
غير صحيح لان القرينة المنفصلة والتعارض على أساس العلم الاجمالي لا
يرفع أصل الدلالة القرآنية ولا يخرج الخبر عن كونه مخالفا لها.
وان أريد بها المخالفة لدلالة قرآنية حجة في نفسها وبقطع النظر عن
الخبر المخالف لها فالجواب الثاني صحيح لان الدلالة القرآنية ساقطة عن
الحجية بسبب العلم الاجمالي ما لم يدع انحلاله واما الجواب الأول فهو غير
صحيح لان الخاص مخالف لدلالة العام التي هي حجة في نفسها وبقطع
النظر عن ورود الخاص.
وان أريد بها المخالفة لدلالة قرآنية واجدة لمقتضى الحجية حتى بعد
ورود الخبر المخالف صح كلا الجوابين لان مقتضى الحجية في العام غير
محفوظ بعد ورود القرينة المنفصلة واختصت المخالفة المسقطة للخبر عن
الحجية بالمخالفة على وجه لا يصلح للقرينية
وأوجه هذه الاحتمالات وسطها.
ويمكن ان يجاب أيضا بعد الاعتراف بتمامية الاطلاق في روايات هذه
المجموعة للمعارضة غير المستقرة ان هناك مخصصا لهذا الاطلاق وهو ما ورد
في بعض الاخبار العلاجية مما يستفاد منه الفراغ عن حجية الخبر المخالف
مع الكتاب في نفسه ففي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال (قال
الصادق (ع): إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله
257

فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه فان لم تجدوهما في
كتاب الله فاعرضوهما على اخبار العامة..) (1) فان الظاهر من قوله إذا
ورد عليكم حديثان مختلفان ان الإمام (ع) بصدد علاج مشكلة التعارض
بين حديثين معتبرين في نفسيهما لولا التعارض فيكون دليلا على عدم قدح
المخالفة مع الكتاب في الحجية الاقتضائية نعم لا يوجد فيه اطلاق يشمل
جميع أقسام الخبر المخالف مع الكتاب لأنه ليس في مقام بيان هذه الحيثية
ليتم فيه الاطلاق فلا بد من الاقتصار على المتيقن من مفاده وهو مورد
القرينية.
2 - روايات العلاج
ويمكن تصنيف روايات العلاج إلى عدة مجاميع أهمها مجموعة التخيير
ومجموعة الترجيح.
روايات التخيير:
المجموعة الأولى ما استدل به من الروايات على التخيير بمعنى جعل
كل منهما حجة على سبيل التخيير والحديث عن ذلك يقع تارة في مقام
الثبوت وتصوير امكان جعل الحجية التخييرية وأخرى في مقام الاثبات
ومدي دلالة الروايات على ذلك.
اما البحث الثبوتي فقد يقال فيه أن الحجية التخييرية غير معقولة لأنه
اما ان يراد بها جعل حجية واحدة أو جعل حجيتين مشروطتين.
اما الأول: - فهو ممتنع لان هذه الحجية الواحدة ان كانت ثابتة
لاحد الخبرين بالخصوص فهو خلف تخييريتها وان كانت ثابتة للجامع بين
الخبرين بنحو مطلق الوجود - اي الجامع أينما وجد - لزم سريان الحجية إلى
كلا الفردين مع تعارضهما وان كانت ثابتة للجامع بنحو صرف الوجود لم

(1) وسائل الشيعة: ج 18 / أبواب صفات القاضي / الباب 9 / حديث 29.
258

تسر إلى كل من الخبرين لان ما يتعلق بصرف الوجود لا يسري إلى الفرد
ومن الواضح ان صرف وجود الجامع بين الخبرين ليس له مدلول ليكون
حجة في اثباته.
واما الثاني: - فهو ممتنع أيضا لان حجية كل من المتعارضين ان
كانت مشروطة بالالتزام به لزم عدم حجيتهما معا في حالة ترك الالتزام
بشئ منهما، وان كانت مشروطة بترك الالتزام بالاخر لزمت حجيتهما معا
في الحالة المذكورة.
والجواب: ان بالامكان تصوير التخيير بالالتزام بحجية كل منهما
بشرط ترك الالتزام بالآخر مع افتراض وجوب طريقي للالتزام بأحدهما.
واما البحث الاثباتي فهناك روايات عديدة استدل بها على التخيير.
منها: - رواية علي بن مهزيار قال (قرأت في كتاب لعبد الله بن
محمد إلى أبي الحسن (ع): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله
(ع) في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم ان صلهما في المحمل وروى
بعضهم لا تصلهما الا على الأرض فاعلمني كيف تصنع أنت لاقتدي بك
في ذلك فوقع (ع): موسع عليك بأية عملت) (1).
وفقرة الاستدلال منها قوله (ع) (موسع عليك بأية عملت)
الواضح في الدلالة على التخيير وامكان العمل بكل من الحديثين
المتعارضين.
ولكن نلاحظ على ذلك:
أولا: ان الظاهر منها إرادة التوسعة والتخيير الواقعي لا التخيير
الظاهري بين الحجيتين لظهور كل من سؤال الراوي وجواب الامام في
ذلك اما ظهور السؤال فلانه مقتضى التنصيص من قبله على الحكم الذي

(1) وسائل الشيعة: ج 3 / أبواب القبلة / الباب 15 / حديث / 8
259

تعارض فيه الخبران الظاهر في استعلامه عن الحكم الواقعي على أن قوله
(فاعلمني كيف تصنع أنت لاقتدي بك) كالصريح في أن السؤال عن الحكم
الواقعي للمسألة فيكون مقتضى التطابق بينه وبين الجواب كون النظر في
كلام الإمام (ع) إلى ذلك أيضا إذ لا وجه لصرف النظر مع تعيين الواقعة
عن حكمها الواقعي إلى الحكم الظاهري العام. واما ظهور الجواب في
التخيير الواقعي فباعتبار انه المناسب مع حال الإمام (ع) العارف بالأحكام الواقعية
والمتصدي فيما إذا كان السؤال عن واقعة معينة بالذات.
وثانيا: - لو تنزلنا وافترضنا ان النظر إلى مرحلة الحكم الظاهري
والحجية فلا يمكن ان يستفاد من الرواية التخيير في حالات التعارض المستقر
لان موردها التعارض بين مضمونين بينهما جمع عرفي بحمل النهي على
الكراهة بقرينة الترخيص فقد يراد بالتخيير حينئذ التوسعة في مقام العمل
بالأخذ بمفاد دليل الترخيص أو دليل النهي لعدم التنافي بينهما لكون النهي
غير الزامي، لا جعل الحجية التخييرية بالمعنى المدعى.
ومنها: - مكاتبة الحميري عن الحجة عليه السلام إذ جاء فيها
(يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة
الثالثة هل يجب عليه ان يكبر فان بعض أصحابنا قال لا يجب عليه التكبير
ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوته أقوم واقعد فكتب (ع) في الجواب:
ان فيه حديثين، اما أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة إلى حالة أخرى فعليه
التكبير، واما الاخر فإنه روي: إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم
جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد الأول
يجري هذا المجرى وبأيهما اخذت من جهة التسليم كان صوابا) (1).
وفقرة الاستدلال منها قوله عليه السلام (وبأيهما أخذت من جهة
التسليم كان صوابا) والاستدلال بها لعله أوضح من الاستدلال بالرواية
السابقة باعتبار كلمة (أخذت من جهة التسليم) التي قد يستشعر منها

(1) وسائل الشيعة: ج 4 / أبواب السجود / الباب 13 / حديث 8.
260

النظر إلى الحجية والتعبد بأحد الخبرين.
والصحيح ان الاستدلال بالرواية غير وجيه لان السائل في هذه
الرواية لم يفرض خبرين متعارضين وانما سأل عن مسألة اختلف الفقهاء في
حكمها الواقعي وانما يراد الاستدلال بها على التخيير باعتبار ما في جواب
الإمام عليه السلام من نقل حديثين متخالفين وترخيصه في التسليم بأيهما
شاء إلا أن هذا الجواب غير دال على التخيير المدعي وذلك لعدة أمور:
الأول: - ظهور كلام الإمام عليه السلام في الرخصة الواقعية لا
التخيير الظاهري بين الحجتين كما تقدم في الرواية السابقة.
الثاني: - ان جملة (وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى) تارة
تفترض جزءا من الحديث الثاني وأخرى تفترض كلاما مستقلا يضيفه الامام
إلى الحديثين.
فإذا كانت جزءا من الحديث - ولو بقرينة انه مورد لسؤال الراوي
الذي قال عنه الامام ان فيه حديثين - كان الحديثان متعارضين إلا انهما
من التعارض غير المستقر الذي فيه جمع عرفي واضح لا باعتبار أخصية
الحديث الثاني فحسب بل باعتبار كونه ناظرا إلى مدلول الحديث الأول
وحاكما عليه وعدم استحكام التعارض بين الحاكم والمحكوم امر واضح عرفا
ومقطوع به فقهيا بحيث لا يحتمل أن يكون للشارع حكم على خلاف
الجمع العرفي فيه فيكون هذا بنفسه قرينة على أن المقصود من التخيير
الترخيص الواقعي.
وإذا كانت جملة مستقلة وكان الحديث الثاني متكفلا لحكم القيام من
الجلوس بعد السجدة الثانية وانه ليس على المصلي تكبير فيه فلا تعارض بين
الحديثين في مورد سؤال الراوي وهو الانتقال من التشهد إلى القيام فيكون
هذا بنفسه قرينة على أن المراد هو الترخيص الواقعي.
الثالث: - انه لو تمت دلالة الرواية على التخيير الظاهري في الحجية
261

فموردها الحديثان القطعيان اللذان نقلهما الامام بنفسه كما يناسبه التعبير
عنهما بالحديثين الظاهر في كونهما سنة ثابتة عن آبائه المعصومين فلا يمكن
التعدي منه إلى التعارض بين خبرين ظنيين سندا لاحتمال أن يكون مزيد
اهتمام الشارع بالقطعيين موجبا لجعل الحجية التخييرية في موردهما
خاصة.
ومنها: - مرسلة الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام في حديث
قال (قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيهما
الحق فقال إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما اخذت) (1).
وهذه أوضح الروايات في الدلالة على التخيير في الحجية بالنحو
المدعى الا انها ساقطة سندا بالارسال.
وقد تقدمت بعض الروايات المستدل بها على التخيير في الحلقة
السابقة مع مناقشة دلالتها.
روايات الترجيح:
المجموعة الثانية: - ما استدل به من الروايات على ترجيح احدى
الروايتين على الأخرى لمرجح يعود إلى صفات الراوي كالأوثقية أو صفات
الرواية كالشهرة أو صفات المضمون كالمطابقة للكتاب الكريم أو المخالفة
للعامة وهي روايات عديدة:
فمنها: - رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله التي دلت على الترجيح
أولا بموافقة الكتاب وثانيا بمخالفة العامة وقد تقدمت الرواية مع الحديث
عنها في الحلقة السابقة واتضح من خلال ذلك انها تامة في دلالتها على
المرجحين المذكورين.
ومنها: - مقبولة عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن

(1) وسائل الشيعة / ج 18 / أبواب صفات القاضي / الباب 9 / حديث 40.
262

رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو
إلى القضاة أيحل ذلك قال عليه السلام (من تحاكم إليهم في حق أو باطل
فإنما تحاكم إلى الطاغوت..) قلت فكيف يصنعان قال (ينظران من كان
منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا
به حكما فاني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما
بحكم الله استخف وعلينا رد..) قلت فإن كان كل واحد اختار رجلا
من أصحابنا فرضيا ان يكونا الناظرين في حقهما واختلف فيما حكما وكلاهما
اختلفا في حديثكم قال (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في
الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر) قال فقلت فإنهما
عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه قال فقال
(ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند
أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند
أصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه وانما الأمور ثلاثة امر بين رشده
فيتبع وأمر بين غيه فيجتنب وأمر مشكل يرد حكمه إلى الله.) قال
الراوي: (قلت، فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات
عنكم قال ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ
به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة..) إلى أن
قال الراوي قلت فان وافق حكامهم (اي العامة) الخبرين جميعا قال إذا
كان ذلك فأرجئه حتى تلقى امامك فان الوقوف عند الشبهات خير من
الاقتحام في الهلكات (1).
وهذه الرواية تشتمل على المرجحين السابقين غير أنها تذكر قبل ذلك
ترجيحين آخرين، أحدهما الترجيح بصفات الراوي، والآخر الترجيح
بالشهرة فان تمت دلالتها على ذلك كانت مقيدة لاطلاق الرواية السابقة
ودالة على أن الانتهاء إلى المرجحين السابقين متوقف على عدم وجود هذين

(1) جامع أحاديث الشيعة / الباب 7 من أبواب المقدمات / حديث 124.
263

الترجيحين.
وقد يعترض على استفادة هذين الترجيحين - بالصفات وبالشهرة -
من المقبولة بوجوه:
الأول: - ان المقبولة مختصة موردا بعصر الحضور والتمكن من لقاء
الإمام (ع) بقرينة قوله فيها (أرجئه حتى تلقى إمامك) فلا تدل على
ثبوت الترجيحين في عصر الغيبة.
ونلاحظ على هذا الوجه ان اختصاص الفقرة الأخيرة التي تأمر
بالارجاء بعصر الحضور لا يوجب تقييد الاطلاق في الفقرات السابقة
خصوصا مع ملاحظة ان التمكن من لقاء الامام ليس من الخصوصيات
التي يحتمل العرف دخلها في مرجحية الصفات إذا لا يختلف حال الأوثقية
في كاشفيتها وتأكيد موردها بين عصري الحضور والغيبة وكذلك الامر في
الشهرة.
الثاني: - ان الترجيح بالصفات وبالشهرة في المقبولة ترجيح لاحد
الحكمين على الآخر لا لاحدى الروايتين على الأخرى في مقام التعارض.
وهذا الاعتراض وجيه بالنسبة إلى الترجيح بالصفات وليس صحيحا
بالنسبة إلى غيره مما ورد في المقبولة كالترجيح بالشهرة.
اما وجاهته بالنسبة إلى الترجيح بالصفات فلأننا نلاحظ إضافة
الصفات في المقبولة إلى الحاكمين حيث قال (ع) (الحكم ما حكم به
أعدلهما وأفقههما في الحديث وأورعهما) هذا مضافا إلى أن الامام قد طبق
الترجيح بالصفات على أول سلسلة السندين المتعارضين وهما الحاكمان من
دون ان يفرض انهما راويان مباشران للحديث بينما لو كان الترجيح بهما
ترجيحا لاحدى الروايتين على الأخرى كان ينبغي تطبيقه على مجموع
سلسلة الرواة أو على الراوي المباشر كما هو عمل المشهور ومقتضى الصناعة
أيضا لان الراويين المباشرين إذا كان أحدهما أعدل وثبت الترجيح بالصفات
264

فهذا يعني ان رواية المفضول عدالة منهما انما تكون حجة في حالة عدم
معارضتها برواية الأعدل وعليه فالناقل لرواية الراوي المباشر الأعدل يكون
مخبرا عن اختلاف شرط الحجية لرواية الراوي المباشر المفضول التي ينقلها
الناقل الآخر وبهذا يكون حاكما على نقل الناقل الآخر إذ يخرج منقوله عن
كونه موضوعا للحجية، وهكذا نعرف ان تطبيق الامام للترجيح بالصفات
على الحاكمين اللذين يمثلان أول سلسلة السند لا ينسجم الا مع افتراض
كون الترجيح لاحد الحكمين بلحاظ صفات الحاكم.
واما عدم صحة الاعتراض بالنسبة إلى الشهرة وغيرها فلان سياق
الحديث ينتقل من ملاحظة الحاكمين إلى ملاحظة الرواية التي يستند إليها
كل منهما حيث قال (ينظر ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به
المجمع عليه عند أصحابك.) فأضيفت المميزات إلى الرواية لا إلى
الحكم.
ولكن الشهرة في المقبولة التي ورد الترجيح بها في الدرجة الثانية
ظاهرة في الاشتهار والشيوع المساوق لاستفاضة الرواية وقطعيتها وليست
بمعنى اشتهار الفتوى على طبقها لان ظاهر الحديث إضافة الشهرة إلى نفس
الرواية لا إلى مضمونها وذلك يناسب ما ذكرناه ويعني الترجيح بالشهرة على
هذا الضوء تقديم الرواية القطعية سندا على الظنية وهذا مما لا اشكال فيه
كما تقدم وليس ذلك ترجيحا لاحدى الحجتين على الأخرى لما عرفت سابقا
من أن حجية الخبر الظني السند مشروطة في نفسها بعدم المعارضة لقطعي
السند.
فان قيل إذا كان الامر كذلك وجب تقديم الترجيح بالشهرة على
الترجيح بالصفات لان الترجيح بالصفات يفترض حجية كل من الخبرين
ويرجح احدى الحجتين على الأخرى.
كان الجواب ان الترجيح بالصفات ناظر إلى الحاكمين لا إلى الراويين
كما تقدم فلا اشكال من هذه الناحية.
265

وهكذا يتضح ان المقبولة لا يمكن ان يستفاد منها في مجال الترجيح
بين الحجتين من الروايات أكثر مما ثبت بالرواية السابقة.
ومنها: المرفوعة عن زرارة قال: سألت الباقر (ع) فقلت: جعلت
فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ. قال (ع):
يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر. فقلت: يا سيدي
انهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم. فقال (ع): خذ بقول أعدلهما
عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت: انهما معا عدلان مرضيان موثقان.
فقال (ع): انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم
قلت: ربما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف اصنع؟. فقال (ع):
إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط. فقلت انهما
معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف اصنع؟. فقال (ع): إذن
فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر (1).
وفي هذه المرفوعة ذكرت مرجحات وهي على الترتيب الشهرة ثم
صفات الراوي ثم المخالفة للعامة ثم الموافقة للاحتياط ومع التكافؤ في كل
ذلك حكمت بالتخيير.
وقد يعترض على الترجيح بالشهرة هنا بنفس ما تقدم في المقبولة من
كونها بمعنى استفاضة الرواية وتواترها ولكن هذا الاعتراض غير وجيه هنا
لان المرفوعة بعد افتراض شهرة الروايتين معا تنتقل إلى الترجيح بالأوثقية
ونحوها من صفات الراوي وذلك لا يناسب الروايتين القطعيتين. ولكن
المرفوعة ساقطة سندا بالارسال فلا يمكن التعويل عليها.
وهكذا نعرف ان المستخلص مما تقدم ثبوت المرجحين المذكورين في
الرواية الأولى من روايات الترجيح وفي حالة عدم توفرهما نرجع إلى مقتضى
القاعدة.

(1) جامع أحاديث الشيعة / المجلد الأول / أبواب المقدمات / ص 62.
266

بقي علينا ان نشير في ختام روايات العلاج إلى عدة نقاط:
الأولى: - ان العاملين بالمجموعة الأولى المستدل بها على التخيير
اختلفوا فيما بينهم في أن التخيير هل هو تخيير في المسألة الأصولية اي في
الحجية أو في المسألة الفقهية اي في الجري عملا على وفق أحدهما ومعنى
الأول ان الانسان لا بد له ان يلتزم بمضمون أحد الخبرين فيكون حجة
عليه ويسند مؤداه إلى الشارع ومعنى الثاني ان الانسان لا بد له ان يطبق
عمله على مؤدي أحد الخبرين ومن نتائج الفرق ان الفقيه على الأول يفتي
بمضمون ما التزم به واختاره وعلى الثاني يفتي بالتخيير ابتداء وهذا الخلاف
لا موضوع له بعد انكار أصل التخيير.
الثانية: - ان هؤلاء اختلفوا أيضا في أن التخيير ابتدائي أو
استمراري بمعنى ان المكلف بعد اختيار أحد الخبرين التزاما أو عملا هل
يجوز له ان يعدل إلى اختيار الآخر أولا؟ وقد ذهب البعض إلى كونه
استمراريا وتمسك بالاستصحاب الا ان هذا الاستصحاب يبدو انه من
استصحاب الحكم المعلق إذا كان التخيير في الحجية لان مرجعه إلى أن هذا
كان حجة لو اخذنا به سابقا وهو الآن كما كان استصحابا وعلى اي حال
فلا موضوع لهذا الخلاف بعد انكار التخيير.
الثالثة: - إذا تمت روايات التخيير وروايات الترجيح المتقدمة فكيف
يمكن التوفيق بينهما؟ فقد يقال بحمل روايات الترجيح على الاستحباب
ونلاحظ على ذلك أن الامر في روايات الترجيح ارشاد إلى الحجية فلا معنى
لحمله على الاستحباب بل المتعين الالتزام بتقيد روايات التخيير بحالة عدم
وجود المرجح.
الرابعة: - ان اخبار العلاج هل تشمل موارد الجمع العرفي؟ قد
يقال باطلاق لسان الروايات المذكورة لتلك الموارد فتكون رادعة بالاطلاق
عما تقتضيه القاعدة العقلائية. وقد يجاب بان الظاهر من أسئلة الرواة
لاخبار العلاج كونهم واقعين في الحيرة بسبب التنافي الذي يجدونه بين
267

الحديثين ومن البعيد ان يقع الراوي بما هو انسان عرفي في التحير مع وجود
جمع عرفي بنى المتعارضين فهذه قرينة معنوية تصرف ظواهر هذه الأخبار إلى
موارد التعارض المستقر خاصة.
والصحيح ان يقال ان روايات العلاج بنفسها تتضمن قرينة تدل على
عدم شمولها لحالات الجمع العرفي فان الرواية الأولى من روايات الترجيح
قد افترضت فيها حجية الخبر المخالف للكتاب في نفسه وبقطع النظر عن
معارضته بحديث آخر ولذلك صار الامام بصدد علاج التعارض بين
خبرين متعارضين أحدهما مخالف مع الكتاب والآخر موافق معه فتدل على أن
الخبر المخالف للكتاب الكريم لو لم يكن له معارض لكان حجة في
نفسه وهذا يعني ان المعارضة الملحوظة بين الخبرين غير المخالفة المفترضة
بين الخبر والآية وليس ذلك الا لان تلك المعارضة، من التعارض المستقر
وتلك المخالفة من التعارض غير المستقر.
الخامسة: - ان اخبار العلاج هل تشمل موارد التعارض المستقر غير
المستوعب كحالات التعارض بين العامين من وجه أو لا؟
وقد نقل عن المحقق النائيني (قدس الله روحه) الجواب على ذلك
بالتفصيل بين المرجحات التي ترجع إلى الترجيح بلحاظ السند - وتسمى
بالمرجحات السندية - كالترجيح بالأوثقية والمرجحات المضمونية التي ترجع
إلى الترجيح بلحاظ المضمون كالترجيح بموافقة الكتاب فاختار رحمه الله ان
المرجحات السندية لا تشمل الفرض المذكور لان تطبيقها ان كان على نحو
يؤدي إلى اسقاط أحد العامين من وجه رأسا فهو بلا موجب لأنه لا مسوغ
لاسقاطه في مادة الافتراق مع عدم التعارض وان كان على نحو يحافظ فيه
على مادتي الافتراق للعامين فهو مستحيل لأنه يستلزم التبعيض في السند
الواحد بقبول العام في مادة الافتراق ورفضه في مادة الاجتماع مع أن سنده
واحد واما المرجحات المضمونية فبالامكان اعمالها في مادة الاجتماع فقط
ولا يلزم محذور.
268

هذا ما أردنا استعراضه. من بحوث التعارض في الأدلة وبذلك نختم
الجزء الثاني من الحلقة الثالثة التي ينتهى الطالب بدراستها من السطوح
ويصبح جديرا بحضور بحوث الخارج. وقد وقع الابتداء بكتابة هذا الجزء
من الحلقة الثالثة بعد الفراغ من الجزء الأول منها، ووقع الفراغ منه بحول
الله تعالى وعونه في اليوم الثالث عشر من شهر ذي القعدة من سنة 1397
ه‍ فنسأله سبحانه الذي يسر ذلك أن يتقبل هذا بلطفه وينفعنا به يوم لا
ينفع مال ولا بنون ويعمر قلوبنا بذكره وحبه والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على الهداة من خلقه خاتم الأنبياء وأهل بيته الطاهرين
269