الكتاب: دروس في علم الأصول
المؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الجزء: ٢
الوفاة: ١٤٠٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤٠٦ - ١٩٨٦ م
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - لبنان / مكتبة المدرسة - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

دروس في علم الأصول
1

دروس في
علم الأصول
السيد محمد باقر الصدر
المجلد الثاني
ويضم الحلقة الثالثة بجزئيها الأول والثاني
الجزء الأول
كتاب دراسي في علم أصول الفقه
أعد للمبتدئين في دراسة هذا العلم
دار الكتاب اللبناني - مكتبة المدرسة
بيروت - لبنان
3

الشركة العالمية للكتاب
جميع الحقوق محفوظة للناشر
دار الكتاب اللبناني
مكتبة المدرسة
طباعة - نشر - توزيع
الإدارة العامة
الصنائع - مقابل مدخل الإذاعة اللبنانية
هاتف 349055 - 349370
ص ب: 3176 - تلكس: 1422865
برقيا كتالبان - بيروت لبنان
المستودعات
هاتف: 351433
الطبعة الثانية
1406 ه‍ - 1986
4

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف خلقه محمد، وعلى الهداة الميامين من
آله الطاهرين
5

تمهيد
تعريف علم الأصول
موضوع علم الأصول.
الحكم الشرعي وتقسيماته.
تقسيم بحوث الكتاب.
7

تعريف علم الأصول
عرف علم الأصول بأنه " العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم
الشرعي ". وقد لوحظ على هذا التعريف:
أولا: بأنه يشمل القواعد الفقهية، كقاعدة ان ما يضمن بصحيحه
يضمن بفاسده.
وثانيا: بأنه لا يشمل الأصول العملية، لأنها مجرد أدلة عملية
وليست أدلة محرزة، فلا يثبت بها الحكم الشرعي، وانما تحدد بها الوظيفة
العملية.
وثالثا: بأنه يعم المسائل اللغوية، كظهور كلمة الصعيد مثلا
لدخولها في استنباط الحكم.
اما الملاحظة الأولى: فتندفع بان المراد بالحكم الشرعي الذي جاء في
التعريف، جعل الحكم الشرعي على موضوعه الكلي، فالقاعدة الأصولية
ما يستنتج منها جعل من هذا القبيل، والقاعدة الفقهية هي بنفسها جعل
من هذا القبيل، ولا يستنتج منها الا تطبيقات ذلك الجعل وتفصيلاته،
ففرق كبير بين حجية خبر الثقة، والقاعدة الفقهية المشار إليها، لان
الأولى يثبت بها جعل وجوب السورة تارة، وجعل حرمة العصير العنبي
أخرى، وهكذا فهي أصولية. واما الثانية فهي جعل شرعي للضمان على
9

موضوع كلي، وبتطبيقه على مصاديقه المختلفة، كالإجارة والبيع مثلا، نثبت
ضمانات متعددة مجعولة كلها بذلك الجعل الواحد.
واما الملاحظة الثانية، فقد يجاب عليها تارة بإضافة قيد إلى
التعريف، وهو (أو التي ينتهى إليها في مقام العمل) كما صنع صاحب
الكفاية، وأخرى بتفسير الاستنباط بمعنى الاثبات التنجيزي والتعذيري،
وهو اثبات تشترك فيه الأدلة المحرزة، والأصول العملية معا.
واما الملاحظة الثالثة، فهناك عدة محاولات للجواب عليها:
منها: ما ذكره المحقق النائيني قدس الله روحه من إضافة قيد
الكبروية في التعريف لاخراج ظهور كلمة الصعيد، فالقاعدة الأصولية
يجب ان تقع كبرى في قياس الاستنباط، واما ظهور كلمة الصعيد فهو
صغرى في القياس، وبحاجة إلى كبرى حجية الظهور.
ويرد عليه ان جملة من القواعد الأصولية لا تقع كبرى أيضا:
كظهور صيغة الامر في الوجوب، وظهور بعض الأدوات في العموم أو في
المفهوم، فإنها محتاجة إلى كبرى حجية الظهور، فما الفرق بينها وبين
المسائل اللغوية؟ وكذلك أيضا مسألة اجتماع الأمر والنهي، فان الامتناع
فيها يحقق صغرى لكبري التعارض بين خطابي صل ولا تغصب، والجواز
فيها يحقق صغرى لكبري حجية الاطلاق.
ومنها: ما ذكره السيد الأستاذ من استبدال قيد الكبروية بصفة
أخرى، وهي ان تكون القاعدة وحدها كافية لاستنباط الحكم الشرعي بلا
ضم قاعدة أصولية أخرى، فيخرج ظهور كلمة الصعيد لاحتياجه إلى ضم
ظهور صيغة إفعل في الوجوب، ولا يخرج ظهور صيغة أفعل في الوجوب،
وان كان محتاجا إلى كبرى حجية الظهور، لان هذه الكبرى ليست من
المباحث الأصولية للاتفاق عليها.
ونلاحظ على ذلك:
10

أولا: ان عدم احتياج القاعدة الأصولية إلى أخرى، ان أريد به
عدم الاحتياج في كل الحالات، فلا يتحقق هذا في القواعد الأصولية،
لان ظهور صيغة الامر في الوجوب مثلا، بحاجة في كثير من الأحيان إلى
دليل حجية السند حينما تجئ الصيغة في دليل ظني السند. وان أريد به
عدم الاحتياج، ولو في حالة واحدة، فهذا قد يتفق في غيرها، كما في
ظهور كلمة الصعيد إذا كانت سائر جهات الدليل قطعية.
وثانيا: ان ظهور صيغة الامر في الوجوب، وأي ظهور آخر بحاجة
إلى ضم قاعدة حجية الظهور، وهي أصولية، لان مجرد عدم الخلاف فيها
لا يخرجها عن كونها أصولية، لان المسألة لا تكتسب أصوليتها من الخلاف
فيها، وانما الخلاف ينصب على المسألة الأصولية.
وهكذا يتضح ان الملاحظة الثالثة واردة على تعريف المشهور.
والأصح في التعريف ان يقال: " علم الأصول هو العلم بالعناصر
المشتركة لاستنباط جعل شرعي " وعلى هذا الأساس تخرج المسألة اللغوية
كظهور كلمة الصعيد، لأنها لا تشترك الا في استنباط حال الحكم المتعلق
بهذه المادة فقط، فلا تعتبر عنصرا مشتركا.
11

موضوع علم الأصول
موضوع علم الأصول، كما تقدم في الحلقة السابقة " الأدلة المشتركة
في الاستدلال الفقهي "، والبحث الأصولي يدور دائما حول دليليتها.
وعدم تمكن بعض المحققين من تصوير موضوع العلم على النحو
الذي ذكرناه، أدى إلى التشكك في ضرورة أن يكون لكل علم موضوع،
ووقع ذلك موضعا لبحث، فاستدل على ضرورة وجود موضوع لكل
علم، بدليلين:
أحدهما: ان التمايز بين العلوم بالموضوعات بمعنى ان استقلال علم
النحو عن علم الطب، انما هو باختصاص كل منهما بموضوع كلي يتميز عن
موضوع الآخر، فلا بد من افتراض الموضوع لكل علم.
وهذا الدليل أشبه بالمصادرة لان كون التمايز بين العلوم بالموضوعات
فرع وجود موضوع لكل علم، والا تعين أن يكون التمييز قائما على أساس
آخر كالغرض.
والآخر: ان التمايز بين العلوم ان كان بالموضوع فلا بد من موضوع
لكل علم إذن، لكي يحصل التمايز، وان كان بالغرض على أساس ان
لكل علم غرضا يختلف عن الغرض من العلم الآخر، فحيث إن الغرض
من كل علم واحد والواحد لا يصدر الا من واحد، فلا بد من افتراض
12

مؤثر واحد في ذلك الغرض. ولما كانت مسائل العلم متعددة ومتغايرة،
فيستحيل أن تكون هي المؤثرة بما هي كثيرة في ذلك الغرض الواحد، بل
يتعين أن تكون مؤثرة بما هي مصاديق لامر واحد، وهذا يعني فرض قضية
كلية تكون بموضوعها جامعة بين الموضوعات، وبمحمولها جامعة بين
المحمولات للمسائل. وهذه القضية الكلية هي المؤثرة، وبذلك يثبت ان
لكل علم موضوعا، وهو موضوع تلك القضية الكلية فيه.
وقد أجيب على ذلك، بأن الواحد على ثلاثة أقسام: واحد
بالشخص، وواحد بالنوع، وهو الجامع الذاتي لافراده، وواحد بالعنوان
وهو الجامع الانتزاعي الذي قد ينتزع من أنواع متخالفة. واستحالة صدور
الواحد من الكثير تختص بالأول، والغرض المفترض لكل علم ليست
وحدته شخصية بل نوعية أو عنوانية، فلا ينطبق برهان تلك الاستحالة في
المقام.
وهكذا يرفض بعض المحققين الدليل على وجود موضوع لكل علم،
بل قد يبرهن على عدمه، بان بعض العلوم تشتمل على مسائل موضوعها
الفعل والوجود، وعلى مسائل موضوعها الترك والعدم، وتنتسب
موضوعات مسائله، إلى مقولات ما هوية وأجناس متباينة، كعلم الفقه
الذي موضوع مسائله الفعل تارة، والترك أخرى، والوضع تارة والكيف
أخرى، فكيف يمكن الحصول على جامع بين موضوعات مسائله؟.
وعلى هذا الأساس استساغوا أن لا يكون لعلم الأصول موضوع.
غير أنك عرفت أن لعلم الأصول موضوعا كليا على ما تقدم.
13

الحكم الشرعي وتقسيماته
الأحكام التكليفية والوضعية:
قد تقدم في الحلقة السابقة ان الأحكام الشرعية على قسمين: أحدهما
الأحكام التكليفية، والآخر الأحكام الوضعية، وقد عرفنا سابقا نبذة عن
الأحكام التكليفية. واما الأحكام الوضعية فهي على نحوين:
الأول: ما كان واقعا موضوعا للحكم التكليفي، كالزوجية الواقعة
موضوعا لوجوب الانفاق، والملكية الواقعة موضوعا لحرمة تصرف الغير في
المال بدون إذن المالك.
الثاني: ما كان منتزعا عن الحكم التكليفي، كجزئية السورة
للواجب، المنتزعة عن الامر بالمركب منها، وشرطية الزوال للوجوب
المجعول لصلاة الظهر، المنتزعة عن جعل الوجوب المشروط بالزوال.
ولا ينبغي الشك في أن القسم الثاني ليس مجعولا للمولى
بالاستقلال، وانما هو منتزع عن جعل الحكم التكليفي، لأنه مع جعل
الامر بالمركب من السورة وغيرها، يكفي هذا الامر التكليفي في انتزاع
عنوان الجزئية للواجب من السورة، وبدونه لا يمكن ان تتحقق الجزئية
للواجب بمجرد إنشائها وجعلها مستقلا. وبكلمة أخرى ان الجزئية للواجب
14

من الأمور الانتزاعية الواقعية، وان كان وعاء واقعها هو عالم جعل
الوجوب، فلا فرق بينها وبين جزئية الجزء للمركبات الخارجية من حيث
كونها امرا انتزاعيا واقعيا، وان اختلفت الجزئيتان في وعاء الواقع ومنشأ
الانتزاع، وما دامت الجزئية امرا واقعيا، فلا يمكن ايجادها بالجعل
التشريعي والاعتبار.
واما القسم الأول فمقتضى وقوعه موضوعا للأحكام التكليفية عقلائيا
وشرعا، هو كونه مجعولا بالاستقلال لا منتزعا عن الحكم التكليفي، لان
موضوعيته للحكم التكليفي تقتضي سبقه عليه رتبة مع أن انتزاعه يقتضي
تأخره عنه.
وقد تثار شبهة لنفي الجعل الاستقلالي لهذا القسم أيضا بدعوى أنه
لغو، لأنه بدون جعل الحكم التكليفي المقصود لا أثر له، ومعه لا حاجة
إلى الحكم الوضعي، بل يمكن جعل الحكم التكليفي ابتداء على نفس
الموضوع الذي يفترض جعل الحكم الوضعي عليه.
والجواب على هذه الشبهة ان الأحكام الوضعية التي تعود إلى القسم
الأول اعتبارات ذات جذور عقلائية، الغرض من جعلها تنظيم الأحكام التكليفية
، وتسهيل صياغتها التشريعية فلا تكون لغوا.
شمول الحكم للعالم والجاهل:
وأحكام الشريعة تكليفية ووضعية تشمل في الغالب العالم بالحكم،
والجاهل على السواء، ولا تختص بالعالم، وقد ادعي ان الاخبار الدالة على
ذلك مستفيضة، ويكفي دليلا على ذلك اطلاقات أدلة تلك الأحكام،
ولهذا أصبحت قاعدة اشتراك الحكم الشرعي بين العالم والجاهل موردا
للقبول على وجه العموم بين أصحابنا، الا إذا دل دليل خاص على خلاف
ذلك في مورد.
15

وقد يبرهن على هذه القاعدة عن طريق اثبات استحالة اختصاص
الحكم بالعالم، لأنه يعني ان العلم بالحكم قد أخذ في موضوعه، وينتج
عن ذلك تأخر الحكم رتبة عن العلم به، وتوقفه عليه وفقا لطبيعة العلاقة
بين الحكم وموضوعه. ولكن قد مر بنا في الحلقة السابقة ان المستحيل هو
اخذ العلم بالحكم المجعول في موضوعه لا اخذ العلم بالجعل، في موضوع
الحكم المجعول فيه.
ويترتب على ما ذكرناه من الشمول ان الامارات والأصول التي يرجع
إليها المكلف الجاهل في الشبهة الحكمية أو الموضوعية قد تصيب الواقع،
وقد تخطئ. فللشارع إذن احكام واقعية محفوظة في حق الجميع، والأدلة
والأصول في معرض الإصابة والخطأ، غير أن خطأها مغتفر لان الشارع
جعلها حجة، وهذا معنى القول بالتخطئة.
وفي مقابلة ما يسمى بالقول بالتصويب، وهو ان احكام الله تعالى ما
يؤدي إليه الدليل والأصل، ومعنى ذلك أنه ليس له من حيث الأساس
احكام، وانما يحكم تبعا للدليل أو الأصل، فلا يمكن ان يتخلف الحكم
الواقعي عنها.
وهناك صورة مخففة للتصويب مؤداها ان الله تعالى له احكام واقعية
ثابتة من حيث الأساس، ولكنها مقيدة بعدم قيام الحجة من امارة أو أصل
على خلافها فان قامت الحجة على خلافها تبدلت واستقر ما قامت عليه
الحجة.
وكلا هذين النحوين من التصويب باطل:
اما الأول فلشناعته ووضوح بطلانه، حيث إن الأدلة والحجج، انما
جاءت لتخبرنا عن حكم الله وتحدد موقفنا تجاهه، فكيف نفترض انه لا
حكم لله من حيث الأساس.
واما الثاني فلانه مخالف لظواهر الأدلة ولما دل على اشتراك الجاهل
والعالم في الأحكام الواقعية.
16

الحكم الواقعي والظاهري:
ينقسم الحكم الشرعي، كما عرفنا سابقا إلى واقعي لم يؤخذ في
موضوعه الشك، وظاهري اخذ في موضوعه الشك في حكم شرعي
مسبق. وقد كنا نقصد حتى الآن في حديثنا عن الحكم الأحكام الواقعية.
وقد مر بنا في الحلقة السابقة ان مرحلة الثبوت للحكم - الحكم
الواقعي - تشتمل على ثلاثة عناصر: وهي الملاك والإرادة والاعتبار، وقلنا
إن الاعتبار ليس عنصرا ضروريا، بل يستخدم غالبا كعمل تنظيمي
وصياغي. ونريد ان نشير الآن إلى حقيقة العنصر الثالث الذي يقوم
الاعتبار بدور التعبير عنه غالبا، وتوضيحه ان المولى كما أن له حق الطاعة
على المكلف فيما يريده منه، كذلك له حق تحديد مركز حق الطاعة في
حالات ارادته شيئا من المكلف، فليس ضروريا إذا تم الملاك في شئ
واراده المولى ان يجعل نفس ذلك الشئ في عهدة المكلف مصبا لحق
الطاعة، بل يمكنه ان يجعل مقدمة ذلك الشئ التي يعلم المولى بأنها مؤدية
إليه، في عهدة المكلف دون نفس الشئ، فيكون حق الطاعة منصبا على
المقدمة ابتداء، وان كان الشوق المولوي غير متعلق بها الا تبعا، وهذا
يعنى ان حق الطاعة ينصب على ما يحدده المولى عند ارادته لشئ مصبا له
ويدخله في عهدة المكلف، والاعتبار هو الذي يستخدم عادة للكشف عن
المصب الذي عينه المولى لحق الطاعة، فقد يتحد مع مصب ارادته وقد
يتغاير.
واما الأحكام الظاهرية فهي مثار لبحث واسع، وجهت فيه عدة
اعتراضات للحكم الظاهري، تبرهن على استحالة جعله عقلا، ويمكن
تلخيص هذه البراهين فيما يلي:
1 - ان جعل الحكم الظاهري يؤدي إلى اجتماع الضدين أو
المثلين، لان الحكم الواقعي ثابت في فرض الشك بحكم قاعدة الاشتراك
17

المتقدمة، وحينئذ فإن كان الحكم الظاهري المجعول على الشاك مغايرا
للحكم الواقعي نوعا، كالحلية والحرمة، لزم اجتماع الضدين والا لزم
اجتماع المثلين. وما قيل سابقا من انه لا تنافي بين الحكم الواقعي
والظاهري لأنهما سنخان، مجرد كلام صوري إذا لم يعط مضمونا محددا،
لان مجرد تسمية هذا بالواقعي وهذا بالظاهري، لا يخرجهما عن كونهما
حكمين من الأحكام التكليفية وهي متضادة.
2 - ان الحكم الظاهري إذا خالف الحكم الواقعي، فحيث إن
الحكم الواقعي بمبادئه محفوظ في هذا الفرض بحكم قاعدة الاشتراك يلزم
من جعل الحكم الظاهري في هذه الحالة نقض المولى لغرضه الواقعي
بالسماح للمكلف بتفويته، اعتمادا على الحكم الظاهري في حالات عدم
تطابقه مع الواقع، وهو يعني القاء المكلف في المفسدة، وتفويت المصالح
الواقعية المهمة عليه.
3 - ان الحكم الظاهري من المستحيل أن يكون منجزا للتكليف
الواقعي المشكوك، ومصححا للعقاب على مخالفة الواقع، لان الواقع
لا يخرج عن كونه مشكوكا بقيام الأصل أو الامارة المثبتين للتكليف، ومعه
يشمله حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بناء على مسلك قاعدة قبح
العقاب بلا بيان، والاحكام العقلية غير قابلة للتخصيص.
شبهة التضاد ونقض الغرض:
أما الاعتراض الأول فقد أجيب عليه بوجوه:
منها: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره، من أن اشكال التضاد
نشأ من افتراض ان الحكم الظاهري حكم تكليفي، وان حجية خبر الثقة
مثلا، معناها جعل حكم تكليفي يطابق ما أخبر عنه الثقة من احكام،
وهو ما يسمى بجعل الحكم المماثل، فان أخبر الثقة بوجوب شئ وكان
18

حراما في الواقع، تمثلت حجيته في جعل وجوب ظاهري لذلك الشئ
وفقا لما أخبر به الثقة، فيلزم على هذا الأساس اجتماع الضدين، وهما
الوجوب الظاهري والحرمة الواقعية.
ولكن الافتراض المذكور خطأ، لان الصحيح ان معنى حجية خبر
الثقة مثلا جعله علما وكاشفا تاما عن مؤداه بالاعتبار، فلا يوجد حكم
تكليفي ظاهري زائدا على الحكم التكليفي الواقعي ليلزم اجتماع حكمين
تكليفيين متضادين، وذلك لان المقصود من جعل الحجية للخبر مثلا،
جعله منجزا للأحكام الشرعية التي يحكى عنها وهكذا يحصل بجعله علما
وبيانا تاما، لان العلم منجز سواء كان علما حقيقة كالقطع، أو علما
بحكم الشارع كالامارة، وهذا ما يسمى بمسلك جعل الطريقية.
والجواب على ذلك أن التضاد بين الحكمين التكليفيين ليس بلحاظ
اعتباريهما حتى يندفع بمجرد تغيير الاعتبار في الحكم الظاهري من اعتبار
الحكم التكليفي، إلى اعتبار العلمية والطريقية، بل بلحاظ مبادئ
الحكم، كما تقدم في الحلقة السابقة.
وحينئذ فان قيل بان الحكم الظاهري ناشئ من مصلحة ملزمة
وشوق في فعل المكلف الذي تعلق به ذلك الحكم، حصل التنافي بينه وبين
الحرمة الواقعية مهما كانت الصيغة الاعتبارية لجعل الحكم الظاهري، وان
قيل بعدم نشوئه من ذلك ولو بافتراض قيام المبادئ بنفس جعل الحكم
الظاهري زال التنافي بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري، سواء جعل
هذا حكما تكليفيا أو بلسان جعل الطريقية.
ومنها: ما ذكره السيد الأستاذ من أن التنافي بين الحرمة والوجوب
مثلا، ليس بين اعتباريهما، بل بين مبادئهما من ناحية، لان الشئ الواحد
لا يمكن أن يكون مبغوضا ومحبوبا، وبين متطلباتهما في مقام الامتثال من
ناحية أخرى، لان كلا منهما يستدعى تصرفا مخالفا لما يستدعيه الآخر،
19

فإذا كانت الحرمة واقعية والوجوب ظاهريا، فلا تنافي بينهما في المبادئ،
لأننا نفترض مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله، لا في المتعلق
المشترك بينه وبين الحكم الواقعي. ولا تنافي بينهما في متطلبات مقام
الامتثال، لان الحرمة الواقعية غير واصلة، كما يقتضيه جعل الحكم
الظاهري في موردها فلا امتثال لها، ولا متطلبات عملية، لان استحقاق
الحكم للامتثال فرع الوصول والتنجز.
ولكن نتسأل هل يمكن ان يجعل المولى وجوبا أو حرمة لملاك في
نفس الوجوب أو الحرمة؟ ولو اتفق حقا ان المولى أحس بان من مصلحته
ان يجعل الوجوب على فعل بدون أن يكون مهتما بوجوده اطلاقا، وانما
دفعه إلى ذلك وجود المصلحة في نفس الجعل، كما إذا كان ينتظر مكافأة
على نفس ذلك من شخص ولا يهمه بعد ذلك أن يقع الفعل أو لا يقع،
أقول لو اتفق ذلك حقا فلا أثر لمثل هذا الجعل، ولا يحكم العقل بوجوب
امتثاله، فافتراض ان الأحكام الظاهرية ناشئة من مبادئ في نفس
الجعل، يعني تفريغها من حقيقة الحكم ومن اثره عقلا.
فالجواب المذكور في افتراضه المصلحة في نفس الجعل غير تام،
ولكنه في افتراضه ان الحكم الظاهري لا ينشأ من مبادئ في متعلقه
بالخصوص تام، فنحن بحاجة إذن في تصوير الحكم الظاهري إلى افتراض
ان مبادئه ليس من المحتوم تواجدها في متعلقه بالخصوص لئلا يلزم
التضاد، ولكنها في نفس الوقت ليست قائمة بالجعل فقط لئلا يلزم تفريغ
الحكم الظاهري من حقيقة الحكم، وذلك بان نقول إن مبادئ الأحكام الظاهرية
هي نفس مبادئ الأحكام الواقعية.
وتوضيح ذلك أن كل حرمة واقعية لها ملاك اقتضائي، وهو المفسدة
والمبغوضية القائمتان بالفعل، وكذلك الامر في الوجوب. واما الإباحة
فقد تقدم في الحلقة السابقة، ان ملاكها قد يكون اقتضائيا، وقد يكون غير
اقتضائي، لأنها قد تنشأ عن وجود ملاك في أن يكون المكلف مطلق
20

العنان، وقد تنشأ عن خلو الفعل المباح من أي ملاك. وعليه فإذا
اختلطت المباحات بالمحرمات، ولم يتميز بعضها عن البعض، لم يؤد ذلك
إلى تغير في الأغراض والملاكات والمبادئ للاحكام الواقعية، فلا المباح
بعدم تمييز المكلف له عن الحرام يصبح مبغوضا، ولا الحرام بعدم تمييزه
عن المباح تسقط مبغوضيته، فالحرام على حرمته واقعا ولا يوجد فيه سوى
مبادئ الحرمة، والمباح على اباحته ولا توجد فيه سوى مبادئ الإباحة،
غير أن المولى في مقام التوجيه للمكلف الذي اختلطت عليه المباحات
بالمحرمات بين أمرين: اما ان يرخصه في ارتكاب ما يحتمل اباحته. واما
ان يمنعه عن ارتكاب ما يحتمل حرمته، وواضح ان اهتمامه بالاجتناب عن
المحرمات الواقعية يدعوه إلى المنع عن ارتكاب كل ما يحتمل حرمته، لا
لان كل ما يحتمل حرمته فهو مبغوض وذو مفسدة، بل لضمان الاجتناب
عن المحرمات الواقعية الموجودة ضمنها، فهو منع ظاهري ناشئ من
مبغوضية المحرمات الواقعية والحرص على ضمان اجتنابها، وفي مقابل ذلك أن
كانت الإباحة في المباحات الواقعية ذات ملاك لا اقتضائي، فلن يجد
المولى ما يحول دون إصدار المنع المذكور، وهذا المنع سيشمل الحرام الواقعي
والمباح الواقعي أيضا، إذا كان محتمل الحرمة للمكلف، وفي حالة شموله
للمباح الواقعي لا يكون منافيا لاباحته، لأنه كما قلنا لم ينشأ عن مبغوضية
نفس متعلقه، بل عن مبغوضية المحرمات الواقعية والحرص على ضمان
اجتنابها.
واما إذا كانت الإباحة الواقعية ذات ملاك اقتضائي، فهي تدعو -
خلافا للحرمة - إلى الترخيص في كل ما يحتمل اباحته، لا لان كل ما
يحتمل اباحته ففيه ملاك الإباحة، بل لضمان اطلاق العنان في المباحات
الواقعية الموجودة ضمن محتملات الإباحة، فهو ترخيص ظاهري ناشئ
عن الملاك الاقتضائي للمباحثات الواقعية والحرص على تحقيقه. وفي هذه
الحالة يزن المولى درجة اهتمامه بمحرماته ومباحاته، فإن كان الملاك
الاقتضائي في الإباحة أقوى واهم رخص في المحتملات، وهذا الترخيص
21

سيشمل المباح الواقعي والحرام الواقعي إذا كان محتمل الإباحة، وفي حالة
شموله للحرام الواقعي لا يكون منافيا لحرمته، لأنه لم ينشأ عن ملاك
للإباحة في نفس متعلقه، بل عن ملاك الإباحة في المباحات الواقعية
والحرص على ضمان ذلك الملاك. وإذا كان ملاك المحرمات الواقعية
أهم، منع من الاقدام في المحتملات ضمانا للمحافظة على الأهم.
وهكذا يتضح ان الأحكام الظاهرية خطابات تعين الأهم من
الملاكات، والمبادئ الواقعية حين يتطلب كل نوع منها الحفاظ عليه بنحو
ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر.
وبهذا اتضح الجواب على الاعتراض الثاني، وهو ان الحكم الظاهري
يؤدي إلى تفويت المصلحة والالقاء في المفسدة، فان الحكم الظاهري وان
كان قد يسبب ذلك، ولكنه انما يسببه من أجل الحفاظ على غرض أهم.
شبهة تنجز الواقع المشكوك:
واما الاعتراض الثالث فقد أجيب بان تصحيح العقاب على التكليف
الواقعي الذي أخبر عنه الثقة بلحاظ حجية خبره، لا ينافي قاعدة قبح
العقاب بلا بيان، لان المولى حينما يجعل خبر الثقة حجة يعطيه صفة العلم
والكاشفية اعتبارا على مسلك الطريقية المتقدم، وبذلك يخرج التكليف
الواقعي عن دائرة قبح العقاب بلا بيان، لأنه يصبح معلوما بالتعبد
الشرعي، وان كان مشكوكا وجدانا.
ونلاحظ على ذلك أن هذه المحاولة إذا تمت فلا تجدي في الأحكام الظاهرية
المجعولة في الأصول العملية غير المحرزة كأصالة الاحتياط، على أن
المحاولة غير تامة، كما يأتي ان شاء الله تعالى.
والصحيح انه لا موضوع لهذا الاعتراض على مسلك حق الطاعة لما
22

تقدم من أن هذا المسلك المختار يقتضى انكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان
رأسا.
وقد تلخص مما تقدم ان جعل الأحكام الظاهرية ممكن.
الامارات والأصول:
تنقسم الأحكام الظاهرية إلى قسمين:
أحدهما: الأحكام الظاهرية التي تجعل لاحراز الواقع، وهذه
الاحكام تتطلب وجود طريق ظني له درجة كشف عن الحكم الشرعي،
ويتولى الشارع الحكم على طبقه بنحو يلزم على المكلف التصرف بموجبه،
ويسمى لطريق بالامارة، ويسمى الحكم الظاهري بالحجية من قبيل حجية
خبر الثقة.
والقسم الآخر: الأحكام الظاهرية التي تجعل لتقرير الوظيفة العملية
تجاه الحكم المشكوك، ولا يراد بها احرازه، وتسمى بالأصول العملية.
ويبدو من مدرسة المحقق النائيني قدس سره، التمييز بين هذين
القسمين على أساس ما هو المجعول الاعتباري في الحكم الظاهري، فإن كان
المجعول هو الطريقية والكاشفية دخل المورد في الامارات، وإذا لم يكن
المجعول ذلك وكان الجعل في الحكم الظاهري متجها إلى انشاء الوظيفة
العملية دخل في نطاق الأصول، وفي هذه الحالة إذا كان انشاء الوظيفة
العملية بلسان تنزيل مؤدى الأصل منزلة الواقع في الجانب العملي، أو
تنزيل نفس الأصل أو الاحتمال المقوم له منزلة اليقين في جانبه العملي لا
الاحرازي. فالأصل تنزيلي أو أصل محرز، وإذا كان بلسان تسجيل وظيفة
عملية محددة بدون ذلك، فالأصل أصل عملي صرف.
وهذا يعنى ان الفرق بين الامارات والأصول ينشأ من كيفية صياغة
الحكم الظاهري في عالم الجعل والاعتبار.
23

ولكن التحقيق ان الفرق بينهما أعمق من ذلك، فان روح الحكم
الظاهري في موارد الامارة تختلف عن روحه في موارد الأصل بقطع النظر
عن نوع الصياغة، وليس الاختلاف الصياغي المذكور الا تعبيرا عن ذلك
الاختلاف الأعمق في الروح بين الحكمين.
وتوضيح ذلك انا عرفنا سابقا ان الأحكام الظاهرية، مردها إلى
خطابات تعين الأهم من الملاكات، والمبادئ الواقعية حين يتطلب كل نوع
منها ضمان الحفاظ عليه بنحو ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر،
وكل ذلك يحصل نتيجة الاختلاط بين الأنواع عند المكلف وعدم تمييزه
المباحات عن المحرمات مثلا، والأهمية التي تستدعي جعل الحكم الظاهري
وفقا لها، تارة تكون بلحاظ الاحتمال، وأخرى بلحاظ المحتمل، وثالثة
بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا، فان شك المكلف في الحكم يعني وجود
احتمالين أو أكثر في تشخيص الواقع المشكوك، وحينئذ فان قدمت بعض
المحتملات على البعض الآخر، وجعل الحكم الظاهري وفقا لها لقوة
احتمالها وغلبة مصادفته للواقع بدون اخذ نوع المحتمل بعين الاعتبار،
فهذا هو معنى الأهمية بلحاظ الاحتمال، وبذلك يصبح الاحتمال المقدم
امارة، سواء كان لسان الانشاء والجعل للحكم الظاهري لسان جعل
الطريقية، أو وجوب الجري على وفق الامارة. وان قدمت بعض
المحتملات على البعض الآخر لأهمية المحتمل بدون دخل لكاشفية
الاحتمال في ذلك كان الحكم من الأصول العملية البحتة، كأصالة الإباحة
وأصالة الاحتياط الملحوظ في أحدهما أهمية الحكم الترخيصي المحتمل. وفي
الآخر أهمية الحكم الالزامي المحتمل بقطع النظر عن درجة الاحتمال،
سواء كان لسان الانشاء والجعل للحكم الظاهري لسان تسجيل
وظيفة عملية، أو لسان جعل الطريقية، وان قدمت بعض
المحتملات على البعض الآخر بلحاظ كلا الامرين من
الاحتمال والمحتمل، كان الحكم من الأصول العملية التنزيلية أو
المحرزة كقاعدة الفراغ.
24

نعم الأنسب في موارد التقديم بلحاظ قوة الاحتمال ان يصاغ الحكم
الظاهري بلسان جعل الطريقية، والأنسب في موارد التقديم بلحاظ قوة
المحتمل ان يصاغ بلسان تسجيل الوظيفة، لا ان هذا الاختلاف الصياغي
هو جوهر الفرق بين الامارات والأصول.
التنافي بين الأحكام الظاهرية:
عرفنا سابقا ان الأحكام الواقعية المتغايرة نوعا كالوجوب والحرمة
والإباحة متضادة، وهذا يعني ان من المستحيل ان يثبت حكمان واقعيان
متغايران على شئ واحد، سواء علم المكلف بذلك أو لا؟ لاستحالة
اجتماع الضدين في الواقع، والسؤال هنا هو أن اجتماع حكمين ظاهريين
متغايرين نوعا، هل هو معقول أو لا، فهل يمكن أن يكون مشكوك الحرمة
حراما ظاهرا ومباحا ظاهرا في نفس الوقت؟
والجواب على هذا السؤال يختلف باختلاف المبني في تصوير الحكم
والظاهري، والتوفيق بينه وبين الأحكام الواقعية. فان اخذنا بوجهة النظر
القائلة بان مبادئ الحكم الظاهري ثابتة في نفس جعله لا في متعلقه،
أمكن جعل حكمين ظاهريين بالإباحة والحرمة معا، على شرط أن لا يكونا
واصلين معا، فإنه في حالة عدم وصول كليهما معا لا تنافي بينهما لا بلحاظ
نفس الجعل لأنه مجرد اعتبار، ولا بلحاظ المبادئ لان مركزها ليس
واحدا، بل مبادئ كل حكم في نفس جعله لا في متعلقه، ولا بلحاظ
عالم الامتثال والتنجيز والتعذير، لان أحدهما على الأقل غير واصل فلا اثر
عملي له، واما في حالة وصولهما معا فهما متنافيان متضادان لان أحدهما
ينجز والآخر يؤمن.
واما على مسلكنا في تفسير الأحكام الظاهرية وانها خطابات تحدد ما
هو الأهم من الملاكات الواقعية المختلطة فالخطابان الظاهريان المختلفان،
25

كالإباحة والمنع متضادان بنفسيهما، سواء وصلا إلى المكلف أو لا، لان
الأول يثبت أهمية ملاك المباحات الواقعية، والثاني يثبت أهمية ملاك
المحرمات الواقعية، ولا يمكن أن يكون كل من هذين الملاكين أهم من
الآخر، كما هو واضح.
وظيفة الأحكام الظاهرية:
وبعد ان اتضح ان الأحكام الظاهرية خطابات لضمان ما هو الأهم
من الأحكام الواقعية ومبادئها. وليس لها مبادئ في مقابلها، نخرج من
ذلك بنتيجة، وهي ان الخطاب الظاهري وظيفته التنجيز والتعذير بلحاظ
الأحكام الواقعية المشكوكة فهو ينجز تارة ويعذر أخرى، وليس موضوعا
مستقلا لحكم العقل بوجوب الطاعة في مقابل الأحكام الواقعية، لأنه ليس
له مبادئ خاصة به وراء مبادئ الأحكام الواقعية، فحين يحكم الشارع
بوجوب الاحتياط ظاهرا يستقل العقل بلزوم التحفظ على الوجوب الواقعي
المحتمل، واستحقاق العقاب على عدم التحفظ عليه لا على مخالفة نفس
الحكم بوجوب الاحتياط بما هو، وهذا معنى ما يقال من أن الأحكام الظاهرية
طريقية لا حقيقية فهي مجرد وسائل وطرق لتسجيل الواقع
المشكوك وادخاله في عهدة المكلف، ولا تكون هي بنفسها موضوعا مستقلا
للدخول في العهدة لعدم استقلالها بمبادئ في نفسها، ولهذا فان من يخالف
وجوب الاحتياط في مورد ويتورط نتيجة لذلك في ترك الواجب الواقعي لا
يكون مستحقا لعقابين بلحاظ مخالفة الوجوب الواقعي ووجوب الاحتياط
الظاهري، بل لعقاب واحد وإلا لكان حاله أشد ممن ترك الواجب
الواقعي. وهو عالم بوجوبه، واما الأحكام الواقعية فهي احكام حقيقية لا
طريقية، بمعنى ان لها مبادئ خاصة بها، ومن أجل ذلك تشكل موضوعا
مستقلا للدخول في العهدة، ولحكم العقل بوجوب امتثالها واستحقاق
العقاب على مخالفتها.
26

التصويب بالنسبة إلى بعض الأحكام الظاهرية:
تقدم ان الأحكام الواقعية محفوظة ومشتركة بين العالم والجاهل،
واتضح ان الأحكام الظاهرية تجتمع مع الأحكام الواقعية على الجاهل دون
منافاة بينهما، وهذا يعني ان الحكم الظاهري لا يتصرف في الحكم
الواقعي، ولكن هناك من ذهب إلى أن الأصول الجارية في الشبهات
الموضوعية كأصالة الطهارة تتصرف في الأحكام الواقعية، بمعنى ان الحكم
الواقعي بشرطية الثوب الطاهر في الصلاة مثلا، يتسع ببركة أصالة
الطهارة، فيشمل الثوب المشكوكة طهارته الذي جرت فيه أصالة الطهارة
حتى لو كان نجسا في الواقع، وهذا نحو من التصويب الذي ينتج ان
الصلاة في مثل هذا الثوب تكون صحيحة واقعا. ولا تجب اعادتها على
القاعدة، لان الشرطية قد اتسع موضوعها، وتقريب ذلك أن دليل أصالة
الطهارة بقوله: " كل شئ طاهر حتى تعلم انه قذر " يعتبر حاكما على
دليل شرطية الثوب الطاهر في الصلاة لان لسانه لسان توسعة موضوع ذلك
الدليل وايجاد فرد له، فالشرط موجود اذن، وليس الامر كذلك لو ثبتت
طهارة الثوب بالامارة فقط، لان مفاد دليل حجية الامارة ليس جعل الحكم
المماثل، بل جعل الطريقية والمنجزية فهو بلسانه لا يوسع موضوع دليل
الشرطية لان موضوع دليلها الثوب الطاهر، وهو لا يقول هذا طاهر، بل
يقول هذا محرز الطهارة بالامارة فلا يكون حاكما.
وعلى هذا الأساس فصل صاحب الكفاية بين الامارات والأصول
المنقحة للموضوع، فبني على أن الأصول الموضوعية توسع دائرة الحكم
الواقعي المترتب على ذلك الموضوع دون الامارات، وهذا غير صحيح
وسيأتي بعض الحديث عنه ان شاء الله تعالى.
القضية الحقيقية والخارجية للاحكام:
مر بنا في الحلقة السابقة ان الحكم تارة يجعل على نهج القضية
27

الحقيقية، وأخرى يجعل على نهج القضية الخارجية. والقضية الخارجية هي
القضية التي يجعل فيها الحاكم حكمه على افراد موجودة فعلا في الخارج في
زمان اصدار الحكم، أو في أي زمان آخر، فلو أتيح لحاكم ان يعرف
بالضبط من وجد ومن هو موجود، ومن سوف يوجد في المستقبل من
العلماء، فأشار إليهم جميعا وأمر باكرامهم، فهذه قضية خارجية.
والقضية الحقيقية هي القضية التي يلتفت فيها الحاكم إلى تقديره
وذهنه بدلا عن الواقع الخارجي فيشكل قضية شرطية شرطها هو الموضوع
المقدر الوجود وجزاؤها هو الحكم فيقول: إذا كان الانسان عالما فأكرمه،
وإذا قال أكرم العالم قاصدا هذا المعنى فالقضية - روحا - شرطية وان كانت -
صياغة - حملية.
وهناك فوارق بين القضيتين: منها ما هو نظري، ومنها ما يكون له
مغزى عملي.
فمن الفوارق اننا بموجب القضية الحقيقية نستطيع ان نشير إلى أي
جاهل، ونقول لو كان هذا عالما لوجب اكرامه، لان الحكم بالوجوب ثبت
على الطبيعة المقدرة، وهذا مصداقها، وكلما صدق الشرط صدق الجزاء
خلافا للقضية الخارجية التي تعتمد على الاحصاء الشخصي للحاكم، فان
هذا الفرد الجاهل ليس داخلا فيها، لا بالفعل ولا على تقدير أن يكون
عالما، اما الأول فواضح، واما الثاني فلان القضية الخارجية ليس فيها
تقدير وافتراض، بل هي تنصب على موضوع ناجز.
ومن الفوارق ان الموضوع في القضية الحقيقية وصف كلي دائما
يفترض وجوده فيرتب عليه الحكم سواء كان وصفا عرضا كالعالم أو ذاتيا
كالانسان، واما الموضوع في القضية الخارجية فهو الذوات الخارجية، أي
ما يقبل ان يشار إليه في الخارج بلحاظ أحد الأزمنة، ومن هنا استحال
التقدير والافتراض فيها لان الذات الخارجية وما يقال عنه (هذا) خارجا
لا معنى لتقدير وجوده، بل هو محقق الوجود، فإن كان وصف ما دخيلا
28

في ملاك الحكم في القضية الخارجية تصدى المولى نفسه لاحراز وجوده، كما
إذا أراد أن يحكم على ولده بوجوب اكرام أبناء عمه وكان لتدينهم دخل في
الحكم فإنه يتصدى بنفسه لاحراز تدينهم، ثم يقول: أكرم أبناء عمك
كلهم أو إلا زيدا تبعا لما أحرزه من تدينهم كلا أو جلا.
واما إذا قال: أكرم أبناء عمك ان كانوا متدينين، فالقضية شرطية
وحقيقية من ناحية هذا الشرط لأنه قد افترض وقدر.
ومن الفوارق المترتبة على ذلك، ان الوصف الدخيل في الحكم في
باب القضايا الحقيقية إذا انتفى ينتفى الحكم لأنه مأخوذ في موضوعه. وإن شئت
قلت لأنه شرط، والجزاء ينتفي بانتفاء الشرط، خلافا لباب القضايا
الخارجية، فان الأوصاف ليست شروطا، وانما هي أمور يتصدى المولى
لاحرازها فتدعوه أي جعل الحكم، فإذا أحرز المولى تدين أبناء العم فحكم
بوجوب اكرامهم على نهج القضية الخارجية ثبت الحكم ولو لم يكونوا
متدينين في الواقع، وهذا معنى ان الذي يتحمل مسؤولية تطبيق الوصف
على افراده هو المكلف في باب القضايا الحقيقية للاحكام، وهو المولى في
باب القضايا الخارجية لها.
وينبغي ان يعلم ان الحاكم - سواء كان حكمه على نهج القضية
الحقيقية أو على نهج القضية الخارجية وسواء كان حكمه تشريعيا كالحكم بوجوب
الحج على المستطيع، أو تكوينيا واخباريا كالحكم بان النار محرقة أو انها في
الموقد - انما يصب حكمه في الحقيقة على الصورة الذهنية لا على الموضوع
الحقيقي للحكم، لان الحكم لما كان امرا ذهنيا فلا يمكن ان يتعلق الا بما
هو حاضر في الذهن، وليس ذلك الا الصورة الذهنية، وهي وان كانت
مباينة للموضوع الخارجي بنظر، ولكنها عينه بنظر آخر، فأنت إذا
تصورت النار ترى بتصورك نارا، ولكنك إذا لاحظت بنظرة ثانية إلى
ذهنك وجدت فيه صورة ذهنية للنار لا النار نفسها، ولما كان ما في الذهن
عين الموضوع الخارجي بالنظر التصوري وبالحمل الأولي صح ان يحكم
29

عليه بنفس ما هو ثابت للموضوع الخارجي من خصوصيات كالاحراق
بالنسبة إلى النار، وهذا يعني انه يكفي في اصدار الحكم على الخارج
إحضار صورة ذهنية تكون بالنظر التصوري عين الخارج وربط الحكم بها
وان كانت بنظرة ثانوية فاحصة وتصديقية - اي بالحمل الشايع - مغايرة
للخارج.
تنسيق البحوث المقبلة:
وسوف نتحدث فيما يلي - وفقا لما تقدم في الحلقتين السابقتين - عن
حجية القطع أولا باعتباره عنصرا مشتركا عاما، ثم عن العناصر المشتركة
التي تتمثل في أدلة محرزة، وبعد ذلك عن العناصر المشتركة التي تتمثل في
أصول عملية، وفي الخاتمة نعالج حالات التعارض ان شاء الله تعالى.
30

العناصر المشتركة
في عملية الاستنباط
حجية القطع.
الأدلة المحرزة.
الأصول العملية.
حالات التعارض.
31

حجية القطع
تقدم في الحلقة السابقة ان للمولى الحقيقي سبحانه وتعالى حق الطاعة
بحكم مولويته. والمتيقن من ذلك هو حق الطاعة في التكاليف المقطوعة،
وهذا هو معنى منجزية القطع، كما أن حق الطاعة هذا لا يمتد إلى ما يقطع
المكلف بعدمه من التكاليف جزما، وهذا معنى معذرية القطع. والمجموع
من المنجزية والمعذرية هو ما نقصده بالحجية. كما عرفنا سابقا ان الصحيح
في حق الطاعة شموله للتكاليف المظنونة والمحتملة أيضا، فيكون
الظن والاحتمال منجزا أيضا، ومن ذلك يستنتج ان
المنجزية موضوعها مطلق انكشاف التكليف ولو كان انكشافا
احتماليا لسعة دائرة حق الطاعة، غير أن هذا الحق وهذا التنجيز يتوقف
على عدم حصول مؤمن من قبل المولى نفسه في مخالفة ذلك التكليف،
وذلك بصدور ترخيص جاد منه في مخالفة التكليف المنكشف. إذ من
الواضح انه ليس لشخص حق الطاعة لتكليفه، والإدانة بمخالفته إذا كان
هو نفسه قد رخص بصورة جادة في مخالفته.
اما متى يتأتى للمولى ان يرخص في مخالفة التكليف المنكشف بصورة
جادة؟
فالجواب على ذلك أن هذا يتأتى للمولى بالنسبة إلى التكاليف
المنكشفة بالاحتمال أو الظن، وذلك بجعل حكم ظاهري ترخيصي في
33

موردها، كأصالة الإباحة والبراءة ولا تنافي بين هذا الترخيص الظاهري
والتكليف المحتمل أو المظنون، لما سبق من التوفيق بين الأحكام الظاهرية
والواقعية، وليس الترخيص الظاهري هنا هزليا، بل المولى جاد فيه ضمانا
لما هو الأهم من الأغراض والمبادئ الواقعية، واما التكليف المنكشف
بالقطع فلا يمكن ورود المؤمن من المولى بالترخيص الجاد في مخالفته، لان
هذا الترخيص اما حكم واقعي حقيقي، واما حكم ظاهري طريقي،
وكلاهما مستحيل. والوجه في استحالة الأول انه يلزم اجتماع حكمين
واقعيين حقيقيين متنافيين في حالة كون التكليف المقطوع ثابتا في الواقع،
ويلزم اجتماعهما على اي حال في نظر القاطع، لأنه يرى مقطوعه ثابتا دائما
فكيف يصدق بذلك، والوجه في استحالة الثاني ان الحكم الظاهري ما
يؤخذ في موضوعه الشك ولا شك مع القطع فلا مجال لجعل الحكم
الظاهري، وقد يناقش في هذه الاستحالة بان الحكم الظاهري كمصطلح
متقوم بالشك لا يمكن ان يوجد في حالة القطع بالتكليف، ولكن لماذا لا
يمكن ان نفترض ترخيصا يحمل روح الحكم الظاهري ولو لم يسم بهذا
الاسم اصطلاحا، لأننا عرفنا سابقا ان روح الحكم الظاهري هي انه
خطاب يجعل في موارد اختلاط المبادئ الواقعية، وعدم تمييز المكلف لها
لضمان الحفاظ على ما هو أهم منها، فإذا افترضنا ان المولى لاحظ كثرة
وقوع القاطعين بالتكاليف في الخطأ وعدم التمييز بين موارد التكليف وموارد
الترخيص، وكانت ملاكات الإباحة الاقتضائية تستدعي الترخيص في
مخالفة ما يقطع به من تكاليف ضمانا للحفاظ على تلك الملاكات، فلماذا
لا يمكن صدور الترخيص حينئذ؟
والجواب على هذه المناقشة، ان هذا الترخيص لما كان من أجل
رعاية الإباحة الواقعية في موارد خطأ القاطعين فكل قاطع يعتبر نفسه غير
مقصود جدا بهذا الترخيص، لأنه يرى قطعه بالتكليف مصيبا، فهو
بالنسبة إليه ترخيص غير جاد، وقد قلنا فيما سبق ان حق الطاعة والتنجيز
متوقف على عدم الترخيص الجاد في المخالفة.
34

ويتلخص من ذلك.
أولا: ان كل انكشاف للتكليف منجز ولا تختص المنجزية بالقطع
لسعة دائرة حق الطاعة.
وثانيا: ان هذه المنجزية مشروطة بعدم صدور ترخيص جاد من قبل
المولى في المخالفة.
ثالثا: ان صدور مثل هذا الترخيص معقول في موارد الانكشاف غير
القطعي. ومستحيل في موارد الانكشاف القطعي، ومن هنا يقال: إن
القطع لا يعقل سلب المنجزية عنه بخلاف غيره من المنجزات.
هذا هو التصور الصحيح لحجية القطع ومنجزيته، ولعدم امكان
سلب هذه المنجزية عنه. غير أن المشهور لهم تصور مختلف، فبالنسبة إلى
أصل المنجزية، ادعوا انها من لوازم القطع بما هو قطع، ومن هنا آمنوا
بانتفائها عند انتفائه، وبما أسموه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وبالنسبة
إلى عدم امكان سلب المنجزية وردع المولى عن العمل بالقطع، برهنوا على
استحالة ذلك بان المكلف إذا قطع بالتكليف حكم العقل بقبح معصيته،
فلو رخص المولى فيه لكان ترخيصا في المعصية القبيحة عقلا، والترخيص
في القبيح محال ومناف لحكم العقل.
اما تصورهم بالنسبة إلى المنجزية فجوابه ان هذه المنجزية انما تثبت
في موارد القطع بتكليف المولى لا القطع بالتكليف من أي أحد، وهذا
يفترض مولى في الرتبة السابقة، والمولوية معناها حق الطاعة وتنجزها على
المكلف فلا بد من تحديد دائرة حق الطاعة المقوم لمولوية المولى في الرتبة
السابقة، وهل يختص بالتكاليف المعلومة أو يعم غيرها؟
واما تصورهم بالنسبة إلى عدم امكان الردع، فجوابه ان مناقضة
الترخيص لحكم العقل وكونه ترخيصا في القبيح، فرع أن يكون حق
الطاعة غير متوقف على عدم ورود الترخيص من قبل المولى، وهو متوقف
35

حتما لوضوح ان من يرخص بصورة جادة في مخالفة تكليف لا يمكن ان
يطالب بحق الطاعة فيه، فجوهر البحث يجب ان ينصب على أنه هل
يمكن صدور هذا الترخيص بنحو يكون جادا ومنسجما مع التكاليف الواقعية
أولا؟ وقد عرفت أنه غير ممكن.
وكما ان منجزية القطع لا يمكن سلبها عنه كذلك معذريته، لان
سلب المعذرية عن القطع بالإباحة، اما أن يكون بجعل تكليف حقيقي،
أو بجعل تكليف طريقي، والأول مستحيل للتنافي بينه وبين الإباحة
المقطوعة، والثاني مستحيل لان التكليف الطريقي ليس إلا وسيلة لتنجيز
التكليف الواقعي كما تقدم، والمكلف القاطع بالإباحة لا يحتمل تكليفا
واقعيا في مورد قطعه لكي يتنجز فلا يري للتكليف الطريقي أثرا.
العلم الاجمالي:
كما يكون القطع التفصيلي حجة، كذلك القطع الاجمالي وهو ما
يسمى عادة بالعلم الاجمالي، كما إذا علم اجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة،
ومنجزية هذا العلم الاجمالي لها مرحلتان: الأولى مرحلة المنع عن المخالفة
القطعية بترك كلتا الصلاتين في المثال المذكور، والثانية مرحلة المنع حتى
عن المخالفة الاحتمالية المساوق لايجاب الموافقة القطعية، وذلك بالجمع بين
الصلاتين.
اما المرحلة الأولى فالكلام فيها يقع في امرين:
أحدهما: في حجية العلم الاجمالي بمقدار المنع عن المخالفة القطعية.
والآخر: في امكان ردع الشارع عن ذلك وعدمه.
اما الامر الأول فلا شك في أن العلم الاجمالي حجة بذلك المقدار،
لأنه مهما تصورناه فهو مشتمل حتما على علم تفصيلي بالجامع بين
التكليفين، فيكون مدخلا لهذا الجامع في دائرة حق الطاعة، اما على رأينا
36

في سعة هذه الدائرة فواضح، واما على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا
بيان، فلان العلم الاجمالي يستبطن انكشافا تفصيليا تاما للجامع بين
التكليفين فيخرج هذا الجامع عن دائرة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
واما الامر الثاني فقد ذكر المشهور ان الترخيص الشرعي في المخالفة
القطعية للعلم الاجمالي غير معقول، لأنها معصية قبيحة بحكم العقل،
فالترخيص فيها يناقض حكم العقل، ويكون ترخيصا في القبيح وهو
محال. وهذا البيان غير متجه، لأننا عرفنا سابقا ان مرد حكم العقل بقبح
المعصية ووجوب الامتثال إلى حكمه بحق الطاعة للمولى، وهذا
حكم معلق على عدم ورود الترخيص الجاد من المولى في المخالفة، فإذا
جاء الترخيص ارتفع موضوع الحكم العقلي فلا تكون المخالفة القطعية
قبيحة عقلا. وعلى هذا فالبحث ينبغي ان ينصب على أنه: هل يعقل
ورود الترخيص الجاد من قبل المولى على نحو يلائم مع ثبوت الأحكام الواقعية؟
والجواب انه معقول، لان الجامع وان كان معلوما، ولكن إذا
افترضنا ان الملاكات الاقتضائية للإباحة كانت بدرجة من الأهمية تستدعي
لضمان الحفاظ عليها الترخيص حتى في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم
بالاجمال، فمن المعقول ان يصدر من المولى هذا الترخيص، ويكون
ترخيصا ظاهريا بروحه وجوهره، لأنه ليس حكما حقيقيا ناشئا من مبادئ
في متعلقه، بل خطابا طريقيا من أجل ضمان الحفاظ على الملاكات
الاقتضائية للإباحة الواقعية، وعلى هذا الأساس لا يحصل تناف بينه وبين
التكليف المعلوم بالاجمال. إذ ليس له مبادئ خاصة به في مقابل مبادئ
الأحكام الواقعية ليكون منافيا للتكليف المعلوم بالاجمال.
فان قيل ما الفرق بين العلم الاجمالي والعلم التفصيلي إذ تقدم ان
الترخيص الطريقي في مخالفة التكليف المعلوم تفصيلا مستحيل، وليس
العلم الاجمالي الا علما تفصيليا بالجامع؟
37

كان الجواب على ذلك أن العالم بالتكليف بالعلم التفصيلي لا يرى
التزامه بعلمه مفوتا للملاكات الاقتضائية للإباحة لأنه قاطع بعدمها في مورد
علمه، والترخيص الطريقي انما ينشأ من أجل الحفاظ على تلك الملاكات،
وهذا يعني أنه يرى عدم توجه ذلك الترخيص إليه جدا، وهذا خلافا
للقاطع في موارد العلم الاجمالي، فإنه يرى ان إلزامه بترك المخالفة القطعية
قد يعني إلزامه بفعل المباح لكي لا تتحقق المخالفة القطعية. وعلى هذا
الأساس يتقبل توجه ترخيص جاد إليه من قبل المولى في كلا الطرفين
لضمان الحفاظ على الملاكات الاقتضائية للإباحة.
ويبقى بعد ذلك سؤال إثباتي وهو: هل ورد الترخيص في المخالفة
القطعية للعلم الاجمالي؟ وهل يمكن إثبات ذلك باطلاق أدلة الأصول؟
والجواب هو النفي لان ذلك يعني افتراض أهمية الغرض الترخيصي
من الغرض الالزامي حتى في حالة العلم بالالزام ووصوله إجمالا أو مساواته
له على الأقل، وهو وإن كان افتراضا معقولا ثبوتا، ولكنه على خلاف
الارتكاز العقلائي لان الغالب في الأغراض العقلائية عدم بلوغ الأغراض
الترخيصية إلى تلك المرتبة، وهذا الارتكاز بنفسه يكون قرينة لبية متصلة
على تقييد إطلاق أدلة الأصول، وبذلك نثبت حرمة المخالفة القطعية للعلم
الاجمالي عقلا.
ويسمى الاعتقاد بمنجزية العلم الاجمالي لهذه المرحلة على نحو لا
يمكن الردع عنها عقلا أو عقلائيا بالقول بعلية العلم الاجمالي لحرمة المخالفة
القطعية، بينما يسمى الاعتقاد بمنجزيته لهذه المرحلة مع افتراض امكان
الردع عنها عقلا وعقلائيا بالقول باقتضاء العلم الاجمالي للحرمة المذكورة.
واما المرحلة الثانية فيقع الكلام عنها في مباحث الأصول العملية ان
شاء الله تعالى.
38

حجية القطع غير المصيب (وحكم التجري):
هناك معنيان للإصابة:
أحدهما: إصابة القطع للواقع بمعنى كون المقطوع به ثابتا.
والآخر: إصابة القاطع في قطعه، بمعنى انه كان يواجه مبررات
موضوعيه لهذا القطع، ولم يكن متأثرا بحالة نفسية ونحو ذلك من العوامل.
وقد يتحقق المعنى الأول من الإصابة دون الثاني، فلو أن مكلفا قطع
بوفاة انسان لاخبار شخص بوفاته وكان ميتا حقا غير أن هذا الشخص
كانت نسبة الصدق في إخباراته عموما بدرجة سبعين في المائة، فقطع
المكلف مصيب بالمعنى الأول، ولكنه غير مصيب بالمعنى الثاني، لان درجة
التصديق بوفاة ذلك الانسان يجب ان تتناسب مع نسبة الصدق في مجموع
اخباره.
ونفس المعنيين من الإصابة يمكن افتراضهما في درجات التصديق
الأخرى أيضا، فمن ظن بوفاة انسان لاخبار شخص بذلك وكان ذلك
الانسان حيا، فهو غير مصيب في ظنه بالمعنى الأول، ولكنه مصيب بالمعنى
الثاني إذا كانت نسبة الصدق في إخبارات ذلك الشخص أكثر من خمسين
في المائة، ونطلق على التصديق المصيب بالمعنى الثاني اسم التصديق
الموضوعي واليقين الموضوعي، وعلى التصديق غير المصيب بالمعنى الثاني
اسم التصديق الذاتي والقطع الذاتي.
وانحراف التصديق الذاتي عن الدرجة التي تفترضها المبررات
الموضوعية، له مراتب، وبعض مراتب الانحراف الجزئية مما ينغمس فيه
كثير من الناس، وبعض مراتبه يعتبر شذوذا، ومنه قطع القطاع، فالقطاع انسان
يحصل له قطع ذاتي وينحرف غالبا في قطعه هذا انحرافا كبيرا عن الدرجة
التي تفترضها المبررات الموضوعية.
39

وحجية القطع من وجه نظر أصولية، وبما هي معبرة عن المنجزية
والمعذرية، ليست مشروطة بالإصابة بأي واحد من المعنيين.
اما المعنى الأول فواضح إذ يعتبر القطع بالتكليف تمام الموضوع لحق
الطاعة، كما أن القطع بعدمه تمام الموضوع لخروج المورد عن هذا الحق،
ومن هنا كان المتجري مستحقا للعقاب كاستحقاق العاصي، لان انتهاكهما
لحق الطاعة على نحو واحد (ونقصد بالمتجري من ارتكب ما يقطع بكونه
حراما ولكنه ليس بحرام في الواقع) ويستحيل سلب الحجية أو الردع عن
العمل بالقطع غير المصيب للواقع، لان مثل هذا الردع يستحيل تأثيره في
نفس أي قاطع لأنه يرى نفسه مصيبا والا لم يكن قاطعا. وكما يستحق
المتجري العقاب كالعاصي، كذلك يستحق المنقاد، الثواب بالنحو الذي
يفترض للممتثل لان قيامهما بحق المولى على نحو واحد (ونقصد بالمنقاد من
أتى بما يقطع بكونه مطلوبا للمولى فعلا أو تركا رعاية لطلب المولى، ولكنه
لم يكن مطلوبا في الواقع).
واما المعنى الثاني فكذلك أيضا، لان عدم التحرك عن القطع الذاتي
بالتكليف يساوي عدم التحرك عن اليقين الموضوعي في تعبيره عن
الاستهانة بالمولى وهدر كرامته، فيكون للمولى حق الطاعة فيهما على
السواء. والتحرك عن كل منهما وفاء بحق المولى وتعظيم له.
وقد يقال إن القطع الذاتي وان كان منجزا لما ذكرناه ولكنه ليس
بمعذر، فالقطاع إذا قطع بعدم التكليف وعمل بقطعه وكان التكليف ثابتا
في الواقع، فلا يعذر في ذلك لاحد وجهين:
الأول: ان الشارع ردع عن العمل بالقطع الذاتي أو ببعض مراتبه
المتطرفة على الأقل، وهذا الردع ليس بالنهي عن العمل بالقطع بعد
حصوله، بل بالنهي عن المقدمات التي تؤدي إلى نشوء القطع الذاتي
للقطاع أو الامر بترويض الذهن على الاتزان، وهذا حكم طريقي يراد به
40

تنجيز التكاليف الواقعية التي يخطئها قطع القطاع وتصحيح العقاب على
مخالفتها، وهذا أمر معقول غير أنه لا دليل عليه إثباتا.
الثاني: إن القطاع في بداية أمره إذا كان ملتفتا إلى كونه إنسانا غير
متعارف في قطعه، كثيرا ما يحصل له العلم الاجمالي، بان بعض ما
سيحدث لديه من قطوع نافية غير مطابقة للواقع لاجل كونه قطاعا، وهذا
العلم الاجمالي منجز.
فان قيل إن القطاع حين تتكون لديه قطوع نافية يزول من نفسه
ذلك العلم الاجمالي، لأنه لا يمكنه ان يشك في قطعه وهو قاطع بالفعل.
كان الجواب ان هذا مبني على أن يكون الوصول كالقدرة، فكما انه
يكفي في دخول التكليف في دائرة حق الطاعة كونه مقدورا حدوثا وان
زالت القدرة بسوء اختيار المكلف، كذلك يكفي كونه واصلا حدوثا، وان
زال الوصول بسوء اختياره.
41

الأدلة المحرزة
43

مبادئ عامة
تأسيس الأصل عند الشك في الحجية:
الدليل إذا كان قطعيا فهو حجة على أساس حجية القطع، وإذا لم
يكن كذلك فإن قام دليل قطعي على حجيته اخذ به، واما إذا لم يكن
قطعيا وشك في جعل الحجية له شرعا مع عدم قيام الدليل على ذلك،
فالأصل فيه عدم الحجية. ونعني بهذا الأصل ان احتمال الحجية ليس له
أثر عملي وان كل ما كان مرجعا لتحديد الموقف بقطع النظر عن هذا
الاحتمال يظل هو المرجع معه أيضا، ولتوضيح ذلك نطبق هذه الفكرة على
خبر محتمل الحجية يدل على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا، وفي
مقابلة البراءة العقلية - قاعدة قبح العقاب بلا بيان - عند من يقول بها
والبراءة الشرعية والاستصحاب واطلاق دليل اجتهادي تفرض دلالته على
عدم وجوب الدعاء. اما البراءة العقلية فلو قيل بها كانت مرجعا مع
احتمال حجية الخبر أيضا، لان احتمال الحجية لا يكمل البيان والا لتم
باحتمال الحكم الواقعي. ولو أنكرناها وقلنا إن كل حكم يتنجز بالاحتمال
ما لم يقطع بالترخيص الظاهري في مخالفته، فالواقع منجز باحتماله من
دون أثر لاحتمال الحجية. واما البراءة الشرعية فاطلاق دليلها شامل لموارد
احتمال الحجية أيضا، لان موضوعها عدم العلم بالتكليف الواقعي وهو
ثابت مع احتمال الحجية أيضا، بل حتى مع قيام الدليل على الحجية. غير
45

انه في هذه الحالة يقدم دليل حجية الخبر على دليل البراءة لأنه أقوى منه
وحاكم عليه مثلا، واما مع عدم ثبوت الدليل الأقوى فيؤخذ بدليل
البراءة، وكذلك الكلام في الاستصحاب، واما الدليل الاجتهادي
المفترض دلالته بالاطلاق على عدم الوجوب فهو حجة مع احتمال حجية
الخبر المخصص أيضا، لان مجرد احتمال التخصيص لا يكفي لرفع اليد
عن الاطلاق. ونستخلص من ذلك أن الموقف العملي لا يتغير باحتمال
الحجية، وهذا يعني ان احتمالها يساوي عمليا القطع بعدمها.
ونضيف إلى ذلك أن بالامكان إقامة الدليل على عدم حجية ما يشك
في حجيته بناء على تصورنا المتقدم للاحكام الظاهرية حيث مر بنا انه
يقتضى التنافي بينها بوجوداتها الواقعية، وهذا يعني ان البراءة عن التكليف
المشكوك وحجية الخبر الدال على ثبوته، حكمان ظاهريان متنافيان،
فالدليل الدال على البراءة دال بالدلالة الالتزامية على نفي الحجية المذكورة
فيؤخذ بذلك ما لم يقم دليل أقوى على الحجية.
وقد يقام الدليل على عدم حجية ما يشك في حجيته من الامارات بما
اشتمل من الكتاب الكريم على النهي عن العمل بالظن وغير العلم، فان
كل ظن يشك في حجيته يشمله اطلاق هذا النهي.
وقد اعترض المحقق النائيني قدس الله روحه على ذلك، بان حجية
الامارة معناها جعلها علما، لأنه بني على مسلك جعل الطريقية، فمع
الشك في الحجية يشك في كونها علما فلا يمكن التمسك بدليل النهي عن
العمل بغير العلم حينئذ، لان موضوعه غير محرز.
وجواب هذا الاعتراض ان النهي عن العمل بالظن ليس نهيا
تحريميا، وانما هو ارشاد إلى عدم حجيته، إذ من الواضح ان العمل
بالظن ليس من المحرمات النفسية، وانما محذوره احتمال التورط في مخالفة
الواقع فيكون مفاده عدم الحجية، فإذا كانت الحجية بمعنى اعتبار الامارة
علما، فهذا يعني ان مطلقات النهى تدل على نفي اعتبارها علما، فيكون
مفادها في رتبة مفاد حجية الامارة، وبهذا تصلح لنفي الحجية المشكوكة.
46

مقدار ما يثبت بدليل الحجية:
وكلما كان الطريق حجة ثبت به مدلوله المطابقي، واما المدلول
الالتزامي فيثبت في حالتين بدون شك وهما:
أولا: فيما إذا كان الدليل قطعيا.
وثانيا: فيما إذا كان الدليل على الحجية يرتب الحجية على عنوان
ينطبق على الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية على السواء، كما إذا قام
الدليل على حجية عنوان الخبر وقلنا: إن كلا من الدلالة المطابقية والدلالة
الالتزامية مصداق لهذا العنوان.
واما في غير هاتين الحالتين فقد يقع الاشكال، كما في الظهور العرفي
الذي قام الدليل على حجيته، فإنه ليس قطعيا، كما أن دلالته الالتزامية
ليست ظهورا عرفيا. فقد يقال: إن أمثال دليل حجية الظهور لا تقتضي
بنفسها الا اثبات المدلول المطابقي ما لم تقم قرينة خاصة على اسراء الحجية
إلى الدلالات الالتزامية أيضا.
ولكن المعروف بين العلماء التفصيل بين الامارات والأصول، فكل
ما قام دليل على حجيته من باب الا مارية ثبتت به مدلولاته الالتزامية
أيضا، ويقال حينئذ: إن مثبتاته حجة، وكل ما قام دليل على حجيته
بوصفه أصلا عمليا فلا يكون مثبتاته حجة، بل لا يتعدى فيه من اثبات
المدلول المطابقي الا إذا قامت قرينة خاصة في دليل الحجية على ذلك.
وقد فسر المحقق النائيني ذلك - على ما تبناه من مسلك جعل
الطريقية في الامارات - بان دليل الحجية يجعل الامارة علما فيترتب على
ذلك كل آثار العلم، ومن الواضح ان من شؤون العلم بشئ العلم
بلوازمه، ولكن أدلة الحجية في باب الأصول ليس مفادها إلا التعبد
بالجري العملي على وفق الأصل، فيتحدد الجري بمقدار مؤدي الأصل،
ولا يشمل الجري العملي على طبق اللوازم الا مع قيام قرينة.
47

واعترض السيد الأستاذ على ذلك بان دليل الا حجية في باب
الامارات، وان كان يجعل الامارة علما، ولكنه علم تعبدي جعلي،
والعلم الجعلي يتقدر بمقدار الجعل، فدعوى أن العلم بالمؤدى يستدعي
العلم بلوازمه، انما تصدق على العلم الوجداني لا العلم الجعلي، ومن هنا
ذهب إلى أن الأصل في الامارات أيضا عدم حجية مثبتاتها ومدلولاتها
الالتزامية، وان مجرد جعل شئ حجة من باب الا مارية لا يكفي لاثبات
حجيته في المدلول الالتزامي.
والصحيح ما عليه المشهور من أن دليل الحجية في باب الامارات
يقتضي حجية الامارة في مدلولاتها الالتزامية أيضا، ولكن ليس ذلك على
أساس ما ذكره المحقق النائيني من تفسير، فإنه فسر ذلك بنحو يتناسب مع
مبناه في التمييز بين الامارات والأصول، وقد مر بنا سابقا انه قدس الله
روحه يميز بين الامارات والأصول بنوع المجعول والمنشأ في أدلة حجيتها،
فضابط الامارة عنده كون مفاد دليل حجيتها جعل الطريقية والعلمية،
وضابط الأصل كون دليله خاليا من هذا المفاد، وعلى هذا الأساس أراد
أن يفسر حجية مثبتات الامارات بنفس النكتة التي تميزها عنده عن
الأصول، اي نكتة جعل الطريقية، مع اننا عرفنا سابقا ان هذا ليس هو
جوهر الفرق بين الامارات والأصول، وانما هو فرق في مقام الصياغة
والانشاء، ويكون تعبيرا عن فرق جوهري أعمق، وهو ان جعل الحكم
الظاهري على طبق الامارة بملاك الأهمية الناشئة من قوة الاحتمال، وجعل
الحكم الظاهري على طبق الأصل بملاك الأهمية الناشئة من قوة المحتمل،
فكلما جعل الشارع شيئا حجة بملاك الأهمية الناشئة من قوة الاحتمال كان
امارة. سواء كان جعله حجة بلسان انه علم أو بلسان الامر بالجري على
وفقه، وإذا اتضحت النكتة الحقيقية التي تميز الامارة، أمكننا ان نستنتج
ان مثبتاتها ومدلولاتها الالتزامية حجة على القاعدة، لان ملاك الحجية فيها
حيثية الكشف التكويني في الامارة الموجبة لتعيين الأهمية وفقا لها، وهذه
الحيثية نسبتها إلى المدلول المطابقي، والمداليل الالتزامية نسبة واحدة، فلا
48

يمكن التفكيك بين المداليل في الحجية ما دامت الحيثية المذكورة هي تمام
الملاك في جعل الحجية كما هو معنى الا مارية، وهذا يعني انا كلما استظهرنا
الا مارية من دليل الحجية، كفى ذلك في البناء على حجية مثبتاتها بلا
حاجة إلى قرينة خاصة.
تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية:
إذا كان اللازم المدلول عليه من قبل الامارة بالدلالة الالتزامية من
قبيل اللازم الأعم، فهو محتمل الثبوت حتى مع عدم ثبوت المدلول
المطابقي، وحينئذ إذا سقطت الامارة عن الحجية في المدلول المطابقي
لوجود معارض أو للعلم بخطئها فيه، فهل تسقط حجيتها في المدلول
الالتزامي أيضا أو لا؟ قد يقال: إن مجرد تفرع الدلالة الالتزامية على
الدلالة المطابقية وجودا، لا يبرر تفرعها عليها في الحجية أيضا، وقد
يقرب التفرع في الحجية بأحد الوجهين التاليين:
الأول: ما ذكره السيد الأستاذ من أن المدلول الالتزامي مساو دائما
للمدلول المطابقي، وليس أعم منه. فكل ما يوجب ابطال المدلول
المطابقي أو المعارضة معه يوجب ذلك بشأن المدلول الالتزامي أيضا،
والوجه في المساواة، مع أن ذات اللازم قد يكون أعم من ملزومه، ان
اللازم الأعم له حصتان:
إحداهما: مقارنة مع الملزوم الأخص.
والأخرى غير مقارنة، والامارة الدالة مطابقة على ذلك الملزوم، انما
تدل بالالتزام على الحصة الأولى من اللازم وهي مساوية دائما.
ونلاحظ على هذا الوجه ان المدلول الالتزامي هو طرف الملازمة،
فإن كان طرف الملازمة هو الحصة، كانت هي المدلول الالتزامي، وان
كان طرفها الطبيعي وكانت مقارنته للملزوم المحصصة له من شؤون
49

الملازمة وتفرعاتها، كان المدلول الالتزامي ذات الطبيعي.
ومثال الأول اللازم الأعم المعلول بالنسبة إلى احدى علله، كالموت
بالاحتراق بالنسبة إلى دخول زيد في النار، فإذا أخبر مخبر بدخول زيد في
النار، فالمدلول الالتزامي له حصة خاصة من الموت، وهي الموت
بالاحتراق، لان هذا هو طرف الملازمة للدخول في النار.
ومثال الثاني الملازم الأعم بالنسبة إلى ملازمه كعدم أحد الأضداد
بالنسبة إلى وجود ضد معين من أضداده، فإذا أخبر مخبر بصفرة ورقة،
فالمدلول الالتزامي له عدم سوادها لا حصة خاصة من عدم السواد وهي
العدم المقارن للصفرة، لان طرف الملازمة لوجود أحد الأضداد ذات عدم
ضده لا العدم المقيد بوجود ذاك، وانما هذا التقيد يحصل بحكم الملازمة
نفسها ومن تبعاتها، لا انه مأخوذ في طرف الملازمة وتطرأ الملازمة عليه.
الثاني: ان الكشفين في الدلالتين قائمان دائما على أساس نكتة
واحدة من قبيل نكتة استبعاد خطأ الثقة في ادراكه الحسي للواقعة، فإذا
أخبر الثقة عن دخول شخص للنار ثبت دخوله واحتراقه وموته بذلك بنكتة
استبعاد اشتباهه في رؤية دخول الشخص إلى النار، فإذا علم بعدم دخوله
وان المخبر اشتبه في ذلك، فلا يكون افتراض ان الشخص لم يمت أصلا
متضمنا لاشتباه أزيد مما ثبت، وبذلك يختلف المقام عن خبرين عرضيين
عن الحريق من شخصين إذا علم باشتباه أحدهما في رؤية الحريق فان ذلك
لا يبرر سقوط الخبر الآخر عن الحجية، لان افتراض عدم صحة الخبر
يتضمن اشتباها وراء الاشتباه الذي علم.
فالصحيح ان الدلالة الالتزامية مرتبطة بالدلالة المطابقية في الحجية،
واما الدلالة التضمنية فالمعروف بينهم انها غير تابعة للدلالة المطابقية في
الحجية.
50

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي:
إذا كان الدليل قطعيا فلا شك في وفائه بدور القطع الطريقي
والموضوعي معا، لأنه يحقق القطع حقيقة.
واما إذا لم يكن الدليل قطعيا، وكان حجة بحكم الشارع، فهناك
بحثان: الأول: بحث نظري في تصوير قيامه مقام القطع الطريقي مع
الاتفاق عمليا على قيامه مقامه في المنجزية والمعذرية.
والثاني: بحث واقعي في أن دليل حجية الامارة هل يستفاد منه
قيامها مقام القطع الموضوعي أو لا؟
اما البحث الأول فقد يستشكل تارة في امكان قيام غير القطع مقام
القطع في المنجزية والمعذرية بدعوى أنه على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا
بيان. ويستشكل أخرى في كيفية صياغة ذلك تشريعا، وما هو الحكم
الذي يحقق ذلك.
اما الاستشكال الأول فجوابه:
أولا: اننا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان رأسا.
وثانيا: انه لو سلمنا بالقاعدة فهي مختصة بالاحكام المشكوكة التي لا
يعلم بأهميتها على تقدير ثبوتها، واما المشكوك الذي يعلم بأنه على تقدير
ثبوته مما يهتم المولى بحفظه ولا يرضى بتضييعه فليس مشمولا للقاعدة من
أول الامر، والخطاب الظاهري - أي خطاب ظاهري - يبرز اهتمام المولى
بالتكاليف الواقعية في مورده على تقدير ثبوتها وبذلك يخرجها عن دائرة
قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
واما الاستشكال الثاني، فينشأ من أن الذي ينساق إليه النظر ابتداء
51

ان إقامة الامارة مقام القطع الطريقي في المنجزية والمعذرية تحصل بعملية
تنزيل لها منزلته من قبيل تنزيل الطواف منزلة الصلاة ومن هنا يعترض عليه
بان التنزيل من الشارع، انما يصح فيما إذا كان للمنزل عليه اثر شرعي،
بيد المولى توسيعه وجعله على المنزل كما في مثال الطواف والصلاة، وفي
المقام القطع الطريقي ليس له اثر شرعي بل عقلي، وهو حكم العقل
بالمنجزية والمعذرية فكيف يمكن التنزيل؟
وقد تخلص بعض المحققين عن الاعتراض برفض فكرة التنزيل
واستبدالها بفكرة جعل الحكم التكليفي على طبق المؤدى، فإذا دل الخبر
على وجوب السورة حكم الشارع بوجوبها ظاهرا، وبذلك يتنجز
الوجوب، وهذا هو الذي يطلق عليه مسلك جعل الحكم المماثل.
وتخلص المحقق النائيني بمسلك جعل الطريقية قائلا: إن إقامة الامارة مقام
القطع الطريقي لا تتمثل في عملية تنزيل لكي يرد الاعتراض السابق، بل
في اعتبار الظن علما، كما يعتبر الرجل الشجاع أسدا على طريقة المجاز
العقلي، والمنجزية والمعذرية ثابتتان عقلا للقطع الجامع بين الوجود الحقيقي
والاعتباري.
والصحيح ان قيام الامارة مقام القطع الطريقي في التنجيز واخراج
مؤداها عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان - على تقدير القول بها - انما هو
بابراز اهتمام المولى بالتكليف المشكوك على نحو لا يرضى بتفويته على تقدير
ثبوته كما تقدم، وعليه فالمهم في جعل الخطاب الظاهري أن يكون مبرزا
لهذا الاهتمام من المولى، لان هذا هو جوهر المسألة، واما لسان هذا
الابراز وصياغته وكون ذلك بصيغة تنزيل الظن منزلة العلم أو جعل الحكم
المماثل للمؤدى أو جعل الطريقية فلا دخل لذلك في الملاك الحقيقي، وانما
هو مسألة تعبير فحسب، وكل التعبيرات صحيحة ما دامت وافية بابراز
الاهتمام المولوي المذكور، لان هذا هو المنجز في الحقيقة.
واما البحث الثاني فإن كان القطع مأخوذا موضوعا لحكم شرعي
52

بوصفه منجزا ومعذرا، فلا شك في قيام الامارة المعتبرة شرعا مقامه، لأنها
تكتسب من دليل الحجية صفة المنجزية والمعذرية فتكون فردا من
الموضوع، ويعتبر دليل الحجية في هذه الحالة واردا على دليل ذلك الحكم
الشرعي المرتب على القطع لأنه يحقق مصداقا حقيقيا لموضوعه.
واما إذا كان القطع مأخوذا بما هو كاشف تام، فلا يكفي مجرد
اكتساب الامارة صفة المنجزية والمعذرية من دليل الحجية لقيامها مقام القطع
الموضوعي، فلا بد من عناية إضافية في دليل الحجية، وقد التزم المحقق
النائيني قدس سره بوجود هذه العناية بناء على ما تبناه من مسلك جعل
الطريقية فهو يقول: إن مفاد دليل الحجية جعل الامارة علما، وبهذا يكون
حاكما على دليل الحكم الشرعي المرتب على القطع لأنه يوجد فردا جعليا
وتعبديا لموضوعه فيسري حكمه إليه.
غير انك عرفت في بحث التعارض من الحلقة السابقة ان الدليل
الحاكم انما يكون حاكما إذا كان ناظرا إلى الدليل المحكوم، ودليل الحجية
لم يثبت كونه ناظرا إلى احكام القطع الموضوعي، وانما المعلوم فيه نظره إلى
تنجيز الأحكام الواقعية المشكوكة خاصة إذا كان دليل الحجية للامارة هو
السيرة العقلائية، إذ لا انتشار للقطع الموضوعي في حياة العقلاء لكي
تكون سيرتهم على حجية الامارة ناظرة إلى القطع الموضوعي والطريقي
معا.
اثبات الامارة لجواز الاسناد:
يحرم اسناد ما لم يصدر من الشارع إليه لأنه كذب ويحرم أيضا اسناد
ما لا يعلم صدوره منه إليه وان كان صادرا في الواقع، وهذا يعني ان
القطع بصدور الحكم من الشارع طريق لنفي موضوع الحرمة الأولى فهو
قطع طريقي وموضوع لنفي الحرمة الثانية، فهو من هذه الناحية قطع
موضوعي وعليه فإذا كان الدليل قطعيا انتفت كلتا الحرمتين لحصول
53

القطع، وهو طريق إلى أحد النفيين وموضوع للآخر، وإذا لم يكن الدليل
قطعيا بل امارة معتبرة شرعا فلا ريب في جواز اسناد نفس الحكم الظاهري
إلى الشارع لأنه مقطوع به، واما اسناد المؤدى فالحرمة الأولى تنتفي بدليل
حجية الامارة لان القطع بالنسبة إليها طريقي ولا شك في قيام الامارة مقام
القطع الطريقي، غير أن انتفاء الحرمة الأولى كذلك مرتبط بحجية مثبتات
الامارات، لان موضوع هذه الحرمة عنوان الكذب وهو مخالفة الخبر
للواقع، وانتفاء هذه المخالفة مدلول التزامي للامارة الدالة على ثبوت
الحكم، لان كل ما يدل على شئ مطابقة، يدل التزاما على أن الاخبار
عنه ليس كذبا.
واما الحرمة الثانية فموضوعها وهو عدم العلم ثابت وجدانا،
فانتفاؤها يتوقف إما على استفادة قيام الامارة مقام القطع الموضوعي من
دليل حجيتها، أو على إثبات مخصص لما دل على عدم جواز الاسناد بلا
علم - من اجماع أو سيرة - يخرج موارد قيام الحجة الشرعية.
ابطال طريقة الدليل:
كل نوع من أنواع الدليل حتى لو كان قطعيا يمكن للشارع التدخل
في ابطال حجيته، وذلك عن طريق تحويله من الطريقية إلى الموضوعية بأن
يأخذ عدم قيام الدليل الخاص على الجعل الشرعي في موضوع الحكم
المجعول في ذلك الجعل فيكون عدم قيام دليل خاص على الجعل الشرعي
قيدا في الحكم المجعول، فإذا قام هذا الدليل الخاص على الجعل
الشرعي، انتفى المجعول بانتفاء قيده، وما دام المجعول منتفيا فلا منجزية
ولا معذرية، وليس ذلك من سلب المنجزية عن القطع بالحكم الشرعي،
بل من الحيلولة دون وجود هذا القطع، لان القطع المنجز هو القطع
بفعلية المجعول لا القطع بمجرد الجعل، ولا قطع في المقام بالمجعول، وان
كان القطع بالجعل ثابتا، غير أن هذا القطع الخاص بالجعل بنفسه يكون
54

نافيا لفعلية المجعول نتيجة لتقيد المجعول بعدمه، وقد سبق في أبحاث
الدليل العقلي في الحلقة السابقة انه لا مانع من اخذ علم مخصوص بالجعل
شرطا في المجعول أو أخذ عدمه قيدا في المجعول ولا يلزم من كل ذلك
دور.
وقد ذهب جملة من العلماء إلى أن العلم المستند إلى الدليل العقلي
فقط ليس بحجة، وقيل في التعقيب على ذلك: إنه ان أريد بهذا تحويله
من طريقي إلى موضوعي الطريقة التي ذكرناها بان يكون عدم العلم العقلي
بالجعل قد أخذ قيدا في المجعول فهو ممكن ثبوتا، ولكنه لا دليل على هذا
التقييد اثباتا. وان أريد بهذا سلب الحجية عن العلم العقلي بدون التحويل
المذكور فهو مستحيل، لان القطع الطريقي لا يمكن تجريده عن المنجزية
والمعذرية، وسيأتي الكلام عن ذلك في مباحث الدليل العقلي ان شاء الله
تعالى.
تقسيم البحث في الأدلة المحرزة:
وسنقسم البحث في الأدلة المحرزة وفقا لما تقدم في الحلقة السابقة إلى
قسمين:
أحدهما: في الدليل الشرعي.
والآخر: في الدليل العقلي.
كما أن القسم الأول نوعان:
أحدهما: الدليل الشرعي اللفظي.
والآخر: الدليل الشرعي غير اللفظي.
والبحث في الدليل الشرعي تارة في تحديد ضوابط عامة لدلالته
55

وظهوره. وأخرى في ثبوت صغراه - اي في حيثية الصدور - وثالثة في حجية
ظهوره.
وعلى هذا المنوال تجري البحوث في هذه الحلقة.
56

1 - الدليل الشرعي
البحث الأول
تحديد دلالات الدليل الشرعي
1 - الدليل الشرعي اللفظي
الدلالات الخاصة والمشتركة:
هناك في الألفاظ دلالات خاصة لا تشكل عناصر مشتركة في عملية
الاستنباط تتولاها علوم اللغة، ولا تدخل في علم الأصول، وهناك
دلالات عامة تصلح للدخول في استنباط مسائل مختلفة، وهذه يبحث عنها
علم الأصول بوصفها عناصر مشتركة في عملية الاستنباط كدلالة صيغة
افعل على الوجوب، ودلالة اسم الجنس الخالي من القيد على إرادة المطلق
ونحو ذلك.
وقد يقال إن غرض الأصولي انما هو تعيين ما يدل عليه اللفظ من
معنى أو ما هو المعنى الظاهر للفظ عند تعدد معانيه لغة، واثبات هذا
الغرض انما يكون عادة بنقل اهل اللغة أو بالتبادر الذي هو عملية عفوية
يمارسها كل انسان بلا حاجة إلى تعمل ومزيد عناية، فأي مجال يبقى
57

للبحث العلمي ولاعمال الصناعة والتدقيق في هذه المسائل لكي يتولى ذلك
علم الأصول؟
والتحقيق ان البحوث اللفظية التي يتناولها علم الأصول على
قسمين:
أحدهما: البحوث اللغوية.
والآخر: البحوث التحليلية.
اما البحوث اللغوية فهي بحوث يراد بها اكتشاف دلالة اللفظ على
معنى معين من قبيل البحث عن دلالة صيغة الامر على الوجوب، ودلالة
الجملة الشرطية على المفهوم.
واما البحوث التحليلية فيفترض فيها مسبقا ان معنى الكلام معلوم،
ودلالة الكلام عليه واضحة غير أن هذا المعنى مستفاد من مجموع اجزاء
الكلام على طريقة تعدد الدال والمدلول، فكل جزء من المعنى يقابله جزء
في الكلام ومن هنا قد يكون ما يقابل بعض أجزاء الكلام من أجزاء المعنى
واضحا، ولكن ما يقابل بعضها الآخر غير واضح فيبحث بحثا تحليليا عن
تعيين المقابل.
ومثال ذلك: البحث عن مدلول الحرف والمعاني الحرفية فإننا حين
نقول " زيد في الدار " نفهم معنى الكلام، بوضوح ونستطيع بسهولة ان
ندرك ما يقابل كلمة (زيد) وما يقابل كلمة (دار) واما ما يقابل كلمة (في)
فلا يخلو من غموض، ومن أجل ذلك يقع البحث في معنى الحرف وهو
ليس بحثا لغويا، إذ لا يوجد فيمن يفهم العربية من لا يتصور معنى
(في) ضمن تصوره لمدلول جملة (زيد في الدار) وانما هو بحث تحليلي
بالمعنى الذي ذكرناه.
ومن الواضح ان البحث التحليلي بهذا المعنى لا يرجع فيه إلى مجرد
التبادر أو نص علماء اللغة، بل هو بحث علمي تولاه علم الأصول في
58

حدود ما يترتب عليه اثر في عملية الاستنباط على ما يأتي ان شاء الله
تعالى.
واما البحوث اللغوية فهي يمكن ان تقع موضعا للبحث العلمي في
احدى الحالات التالية.
الحالة الأولى: ان تكون هناك دلالة كلية كقرينة الحكمة، ويراد
اثبات ظهور الكلام في معنى كتطبيق لتلك القرينة الكلية.
ومثال ذلك: ان يقال بان ظاهر الامر هو الطلب النفسي لا
الغيري، والتعييني لا التخييري تمسكا بالاطلاق، وتطبيقا لقرينة الحكمة
عن طريق إثبات ان الطلب الغيري والتخييري طلب مقيد فينفي بتلك
القرينة كما تقدم في الحلقة السابقة، فان هذا بحث في التطبيق يستدعي
النظر العلمي في حقيقة الطلب الغيري والطلب التخييري واثبات انهما من
الطلب المقيد.
الحالة الثانية: أن يكون المعنى متبادرا ومفروغا عن فهمه من
اللفظ، وانما يقع البحث العلمي في تفسير هذه الدلالة، وهل هي تنشأ
من الوضع أو من قرينة الحكمة، أو من منشأ ثالث؟
ومثال ذلك: انه لا اشكال في تبادر المطلق من اسم الجنس مع عدم
ذكر القيد، ولكن يبحث في علم الأصول ان هذا هل هو من أجل وضع
اللفظ للمطلق، أو من أجل دال آخر كقرينة الحكمة؟ وهذا بحث لا
يكفي فيه مجرد الإحساس بالتبادر الساذج بل لا بد من جمع ظواهر عديدة
ليستكشف من خلالها ملاك الدلالة.
الحالة الثالثة: أن يكون المعنى مبادرا، ولكن يواجه ذلك شبهة تعيق
الأصولي عن الاخذ بتبادره ما لم يجد حلا فنيا لتلك الشبهة.
ومثال ذلك: ان الجملة الشرطية تدل بالتبادر العرفي على المفهوم،
ولكن في مقابل ذلك تحس أيضا بان الشرط فيها إذا لم يكن علة وحيدة
59

ومنحصرة للجزاء لا يكون استعمال أداة الشرط مجازا كاستعمال لفظ الأسد
في الرجل الشجاع، ومن هنا يتحير الانسان في كيفية التوفيق بين هذين
الوجدانين، ويؤدي ذلك إلى الشك في الدلالة على المفهوم ما لم يتوصل إلى
تفسير يوفق فيه بين الوجدانين.
وهناك أيضا بعض الحالات الأخرى التي يجدي فيها البحث
التحقيقي.
وعلى هذا الأساس وبما ذكرنا من المنهجة والأسلوب يتناول علم
الأصول دراسة الدلالات المشتركة الآتية، ويبحثها لغويا أو تحليليا.
60

المعاني الحرفية
المعنى الحرفي مصطلح أصولي تقدم توضيحه في الحلقة السابقة، وقد
وقع البحث في تحديد المعاني الحرفية، إذ لوحظ منذ البدء ان الحرف
يختلف عن الاسم المناظر له كما مر بنا سابقا، ففي تخريج ذلك وتحديد
المعنى الحرفي وجد اتجاهان:
الاتجاه الأول: ما ذهب إليه صاحب الكفاية رحمه الله من أن معنى
الحرف هو نفس معنى الاسم الموازي له ذاتا، وانما يختلف عنه اختلافا
طارئا وعرضيا ف‍ (من) و (الابتداء) يدلان على مفهوم واحد، وهذا المفهوم
إذا لوحظ وجوده في الخارج فهو دائما مرتبط بالمبتدئ، والمبتدأ منه، إذ لا
يمكن وقوع ابتداء في الخارج الا وهو قائم ومرتبط بهذين الطرفين، وإذا
لوحظ وجوده في الذهن فله نحوان من الوجود، فتارة يلحظ بما هو ويسمى
باللحاظ الاستقلالي، وأخرى يلحظ بما هو حالة قائمة بالطرفين مطابقا
لواقعة الخارجي ويسمى باللحاظ الآلي، وكلمة ابتداء تدل عليه ملحوظا
بالنحو الأول، و (من) تدل عليه ملحوظا باللحاظ الثاني، فالفارق بين
مدلولي الكلمتين في نوع اللحاظ مع وحدة ذات المعنى الملحوظ فيها معا،
الا ان هذا لا يعني ان اللحاظ الاستقلالي أو الآلي مقوم للمعنى الموضوع له
أو المستعمل فيه وقيد فيه، لان ذلك يجعل المعنى امرا ذهنيا غير قابل
للانطباق على الخارج، وانما يؤخذ نحو اللحاظ قيدا لنفس العلقة الوضعية
61

المجعولة للواضع، فاستعمال الحرف في الابتداء حالة اللحاظ الاستقلالي
استعمال في معنى بلا وضع، لان وضعه له مقيد بغير هذه الحالة لا
استعمال في غير ما وضع له.
والاتجاه الثاني: ما ذهب إليه مشهور المحققيين بعد صاحب
الكفاية، من أن المعنى الحرفي والمعنى الاسمي متباينان ذاتا، وليس الفرق
بينهما باختلاف كيفية اللحاظ فقط، بل إن الاختلاف في كيفية اللحاظ
ناتج عن الاختلاف الذاتي بين المعنيين على ما سيأتي توضيحه ان شاء الله
تعالى.
اما الاتجاه الأول فيرد عليه ان البرهان قائم على التغاير السنخي
والذاتي بين معاني الحروف ومعاني الأسماء وملخصه انه لا اشكال في أن
الصورة الذهنية التي تدل عليها جملة " سار زيد من البصرة إلى الكوفة "
مترابطة بمعنى انها تشتمل على معان مرتبطة بعضها ببعض فلا بد من
افتراض معان رابطة فيها لايجاد الربط بين " السير " و " زيد " و " البصرة "
و " الكوفة "، وهذه المعاني الرابطة ان كانت صفة الربط عرضية لها
وطارئة، فلا بد أن تكون هذه الصفة مستمدة من غيرها، لان كل ما
بالعرض ينتهي إلى ما بالذات، وبهذا ننتهي إلى معان يكون الربط ذاتيا
لها، وليس شئ من المعاني الاسمية يكون الربط ذاتيا له، لان ما كان
الربط ذاتيا ومقوما له - وبعبارة أخرى عين حقيقته - يستحيل تصوره مجردا
عن طرفيه لأنه مساوق لتجرده عن الربط وهو خلف ذاتيته له، وكل
مفهوم اسمي، قابل لان يتصور بنفسه مجردا عن أي ضميمة وهذا يثبت
أن المفاهيم الاسمية غير تلك المعاني التي يكون الربط ذاتيا لها، وهذه
المعاني هي مداليل الحروف، إذ لا يوجد ما يدل على تلك المعاني بعد
استثناء الأسماء إلا الحروف، وحتى نفس مفهوم النسبة ومفهوم الربط
المدلول عليهما بكلمتي النسبة والربط، ليسا من المعاني الحرفية، بل من
المعاني الاسمية لامكان تصورهما بدون أطراف.
62

وهذا يعني انهما ليسا نسبة وربطا بالحمل الشايع وان كانا كذلك
بالحمل الأولي.
وقد مر عليك في المنطق ان الشئ يصدق على نفسه بالحمل الأولي
، ولكن قد لا يصدق على نفسه بالحمل الشايع كالجزئي، فإنه
جزئي بالحمل الأولي، ولكنه كلي بالحمل الشايع.
وهذا البيان كما يبطل الاتجاه الأول يبرهن على صحة الاتجاه الثاني
اجمالا، وتوضيح الكلام في تفصيلات الاتجاه الثاني يقع في عدة مراحل:
المرحلة الأولى: انا حين نواجه نارا في الموقد مثلا ننتزع في الذهن
عدة مفاهيم:
الأول: مفهوم بإزاء النار.
والثاني: مفهوم بإزاء الموقد.
والثالث، مفهوم بإزاء العلاقة والنسبة الخاصة القائمة بين النار
والموقد.
غير أن الغرض من احضار مفهومي النار والموقد في الذهن التمكن
بتوسط هذه المفاهيم من الحكم على النار والموقد الخارجيين، وليس الغرض
ايجاد خصائص حقيقة النار في الذهن، وواضح أنه يكفي لتوفير الغرض
الذي ذكرناه أن يكون الحاصل في الذهن نارا بالنظر التصوري وبالحمل
الأولي لما تقدم منا سابقا في البحث عن القضايا الحقيقية والخارجية - من
كفاية ذلك في إصدار الحكم على الخارج.
واما الغرض من احضار المفهوم الثالث الذي هو بإزاء النسبة
الخارجية، والربط المخصوص بين النار والموقد، فهو الحصول على حقيقة
النسبة والربط، لكي يحصل الارتباط حقيقة بين المفاهيم في الذهن.
ولا يكفي أن يكون المفهوم المنتزع بإزاء النسبة نسبة بالنظر التصوري
63

وبالحمل الأولي - اي مفهوم النسبة - وليس كذلك بالحمل الشايع والنظر
التصديقي، إذ لا يتم حينئذ ربط بين المفاهيم ذهنا. وبذلك يتضح أول
فرق أساسي بين المعنى الاسمي، والمعنى الحرفي، وهو ان الأول سنخ
مفهوم يحصل الغرض من احضاره في الذهن بان يكون عين الحقيقة بالنظر
التصوري، والثاني سنخ مفهوم لا يحصل الغرض من احضاره في الذهن
الا بأن يكون عين حقيقته بالنظر التصديقي.
وهذا معنى عميق لايجادية المعاني الحرفية، بان يراد بايجادية المعنى
الحرفي كونه عين حقيقة نفسه لا مجرد عنوان ومفهوم يرى الحقيقة تصورها
ويغايرها حقيقة، والأنسب ان تحمل ايجادية المعاني الحرفية التي قال بها
المحقق النائيني على هذا المعنى لا على ما تقدم في الحلقة السابقة من أنها
بمعنى ايجاد الربط الكلامي.
المرحلة الثانية: ان تكثر النوع الواحد من النسبة كنسبة الظرفية مثلا
لا يعقل الا مع فرض تغاير الطرفين ذاتا، كما في نسبة النار إلى الموقد،
ونسبة الكتاب إلى الرف أو موطنا كما في نسبة الظرفية بين النار والموقد في
الخارج وفي ذهن المتكلم وفي ذهن السامع.
وكلما تكثرت النسبة على أحد هذين النحوين استحال انتزاع جامع
ذاتي حقيقي بينها، وذلك إذا عرفنا ما يلي:
أولا: ان الجامع الذاتي الحقيقي ما تحفظ فيه المقومات الذاتية
للافراد خلافا للجامع العرضي الذي لا يستبطن تلك المقومات. ومثال
الأول: الانسان بالنسبة إلى زيد وخالد. ومثال الثاني: الأبيض بالنسبة
إليهما.
ثانيا: ان انتزاع الجامع يكون بحفظ جهة مشتركة بين الافراد مع
إلغاء ما به الامتياز.
ثالثا: ان ما به امتياز النسب الظرفية المذكورة بعضها على بعض انما
64

هو أطرافها، وكل نسبة متقومة ذاتا بطرفيها اي انها في مرتبة ذاتها لا يمكن
تعقلها بصورة مستقلة عن طرفيها، والا لم تكن نسبة وربطا في هذه
المرتبة، وعلى هذا الأساس نعرف ان انتزاع الجامع بين النسب الظرفية
مثلا، يتوقف على إلغاء ما به الامتياز بينها، وهو الطرفان لكل نسبة.
ولما كان طرفا كل نسبة مقومين لها فما يحفظ من حيثية بعد إلغاء
الأطراف لا تتضمن المقومات الذاتية لتلك النسب فلا تكون جامعا ذاتيا
حقيقيا، وهذا برهان على التغاير الماهوي الذاتي بين افراد النسب الظرفية
وان كان بينها جامع عرضي اسمي، وهو نفس مفهوم النسبة الظرفية.
المرحلة الثالثة: وعلى ضوء ما تقدم أثبت المحققون ان الحروف
موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص، لان المفروض عدم تعقل
جامع ذاتي بين النسب ليوضع الحرف له فلا بد من وضع الحرف لكل نسبة
بالخصوص، وهذا انما يتأتى باستحضار جامع عنواني عرضي مشير فيكون
الوضع عاما والموضوع له خاصا، وليس المراد بالخاص هنا الجزئي بمعنى ما
لا يقبل الصدق على كثيرين، لان النسبة كثيرا ما تقبل الصدق على
كثيرين بتبع كلية طرفيها، بل كون الحرف موضوعا لكل نسبة بما لها من
خصوصية الطرفين، فجزئية المعنى الحرفي جزئية بلحاظ الطرفين لا بلحاظ
الانطباق على الخارج.
هيئات الجمل:
كما أن الحروف موضوعة للنسبة على أنحائها، كذلك هيئات
الجمل، غير أن هيئة الجملة الناقصة موضوعة لنسبة ناقصة، وهيئة الجملة
التامة موضوعة لنسبة تامة يصح السكوت عليها، وخالف في ذلك السيد
الأستاذ، إذ ذهب إلى أن هيئة الجملة الناقصة موضوعة لما هو مدلول الدلالة
التصديقية الأولى، اي لقصد اخطار المعنى، وان هيئة الجملة التامة
موضوعة لما هو مدلول الدلالة التصديقية الثانية، وهو قصد الحكاية في
65

الجملة الخبرية أو الطلب، وجعل الحكم في الجملة الانشائية وهكذا.
وقد بنى ذلك على مسلكه في تفسير الوضع بالتعهد الذي يقتضي ان
تكون الدلالة الوضعية تصديقية، والمدلول الوضعي تصديقيا كما تقدم.
والصحيح ما عليه المشهور من أن المدلول الوضعي تصوري دائما في
الكلمات الافرادية وفي الجمل، وان الجملة حتى التامة لا تدل بالوضع الا
على النسبة دلالة تصورية، واما الدلالتان التصديقيتان فهما سياقيتان
ناشئتان من ظهور حال المتكلم.
الجملة التامة والجملة الناقصة:
ولا شك في الفرق بين الجملة التامة والجملة الناقصة في المعنى
الموضوع له، فمن اعتبر نفس المدلول التصديقي موضوعا له ميز بينها على
أساس اختلاف المدلول التصديقي كما تقدم في الحلقة السابقة، واما بناء
على ما هو الصحيح من عدم كون المدلول التصديقي هو المعنى الموضوع له،
فنحن بين امرين:
إما ان نقول: إنه لا اختلاف بين الجملتين في مرحلة المعنى الموضوع
له والمدلول التصوري، ونحصر الاختلاف بينهما في مرحلة المدلول
التصديقي.
وإما ان نسلم باختلافهما في مرحلة المدلول التصوري. والأول
باطل، لان المدلول التصوري إذا كان واحدا وكانت النسبة التي تدل عليها
الجملة التامة هي بنفسها مدلول للجملة الناقصة، فكيف امتازت الجملة
التامة بمدلول تصديقي من قبيل قصد الحكاية على الجملة الناقصة ولماذا
لا يصح ان يقصد الحكاية بالجملة الناقصة. واما الثاني فهو يفترض
الاختلاف في المدلول التصوري، ولما كان المدلول التصوري لهيئة الجملة
هو النسبة، فلا بد من افتراض نحوين من النسبة بهما تتحقق التمامية
والنقصان. والتحقيق ان التمامية والنقصان من شؤون النسبة في عالم
66

الذهن لا في عالم الخارج. ف‍ (مفيد) و (عالم) تكون النسبة بينهما تامة إذا
جعلنا منهما مبتدأ وخبرا، وناقصة إذا جعلنا منهما موصوفا ووصفا. وجعل
" مفيد " مبتدأ تارة وموصوفا أخرى امر ذهني لا خارجي، لان حاله في
الخارج لا يتغير كما هو واضح، وتكون النسبة في الذهن تامة.
واما إذا جاءت إلى الذهن ووجدت بما هي نسبة فعلا، وهذا يتطلب
أن يكون لها طرفان متغايران في الذهن، إذ لا نسبة بدون طرفين، وتكون
النسبة ناقصة إذا كانت اندماجية تدمج أحد طرفيها بالاخر وتكون منهما
مفهوما افراديا واحدا وحصة خاصة، إذ لا نسبة حينئذ حقيقة في صقع
الذهن الظاهر، وانما هي مستمرة وتحليلية، ومن هنا قلنا سابقا إن
الحروف وهيئات الجمل الناقصة موضوعة لنسب اندماجية اي تحليلية، وان
هيئات الجمل التامة موضوعة لنسب غير اندماجية.
الجملة الخبرية والانشائية:
وتنقسم الجملة التامة إلى خبرية وانشائية، ولا شك في اختلاف
إحداهما عن الأخرى، حتى مع اتحاد لفظيهما كما في بعت الخبرية وبعت
الانشائية، فضلا عن عاد وأعد وقد وجدت عدة اتجاهات في تفسير هذا
الاختلاف:
الأول: ما تقدم في الحلقة الأولى عن صاحب الكفاية وغيره من
وحدة الجملتين في مدلولهما التصوري، واختلافهما في المدلول التصديقي
فقط، وقد تقدم الكلام عن ذلك.
الثاني: ان الاختلاف بينهما ثابت في مرحلة المدلول التصوري،
وذلك في كيفية الدلالة، فقد يكون المدلول التصوري واحدا، ولكن كيفية
الدلالة تختلف، فان جملة بعت الانشائية دلالتها على مدلولها بمعنى ايجادها
له باللفظ، وجملة بعت الاخبارية دلالتها على مدلولها بمعنى اخطارها للمعنى
وكشفها عنه، فكما ادعي في الحروف انها ايجادية، كذلك يدعى في الجمل
67

الانشائية، لكن مع فارق الايجاديتين فتلك بمعنى كون الحرف موجدا للربط
الكلامي، وهذه بمعنى كون (بعت) موجدة للتمليك بالكلام، فما هو
الموجد - بالفتح - في باب الحروف حالة قائمة بنفس الكلام وما هو الموجد
- بالفتح - في باب الانشاء امر اعتباري مسبب عن الكلام.
ويرد على ذلك أن التمليك اعتبار تشريعي يصدر من البائع ويصدر
من العقلاء ومن الشارع، فان أريد بالتمليك الذي يوجد بالكلام الأول،
فمن الواضح سبقه على الكلام، وان البائع بالكلام يبرز هذا الاعتبار
القائم في نفسه وليس الكلام هو الذي يخلق هذا الاعتبار في نفسه. وان
أريد الثاني أو الثالث فهو وان كان مترتبا على الكلام غير أنه انما يترتب
عليه بعد فرض استعماله في مدلوله التصوري وكشفه عن مدلوله
التصديقي، ولهذا لو أطلق الكلام بدون قصد أو كان هازلا لم يترتب عليه
اثر، فترتب الأثر إذا ناتج عن استعمال (بعت) في معناها وليس محققا
لهذا الاستعمال.
الثالث: ان الجملتين مختلفتان في المدلول التصوري حتى في حالة
اتحاد لفظهما ودلالتهما على نسبة واحدة، فإن الجملة الخبرية موضوعة لنسبة
تامة منظورا إليها بما هي حقيقة واقعة وشئ مفروغ عنه، والجملة
الانشائية موضوعة لنسبة تامة منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها كما
تقدم في الحلقة الأولى.
ويمكن ان نفسر على هذا الأساس ايجادية الجملة الانشائية. فليست
هي بمعنى ان استعمالها في معناها هو بنفسه ايجاد للمعنى باللفظ، بل بمعنى
ان النسبة المبرزة بالجملة الانشائية نسبة منظور إليها لا بما هي ناجزة، بل
بما هي في طريق الانجاز والايجاد.
الثمرة:
قد يقال: إن من ثمرات هذا البحث أن الحروف بالمعنى الأصولي الشامل
68

للهيئات إذا ثبت انها موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص، فهذا يعني ان
المعنى الحرفي خاص وجزئي وعليه فلا يمكن تقييده بقرينة خاصة، ولا اثبات اطلاقه
بقرينة الحكمة العامة، لان التقييد والاطلاق من شؤون المفهوم الكلي القابل
للتخصيص، ومما يترتب على ذلك أن القيد إذا كان راجعا في ظاهر الكلام إلى مفاد
الهيئة فلا بد من تأويله كما في الجملة الشرطية، فان ظاهرها كون الشرط قيدا لمدلول
هيئة الجزاء، وحيث إن هيئة الجزاء موضوعة لمعنى حرفي وهو جزئي فلا يمكن تقييده،
فلا بد من تأويل الظهور المذكور. فإذا قيل إذا جاءك زيد فأكرمه دل الكلام بظهوره
الأولي على أن المقيد بالمجئ مدلول هيئة الامر في الجزاء وهو الطلب والوجوب الملحوظ
بنحو المعنى الحرفي فيكون الوجوب مشروطا، ولكن حيث يستحيل التقييد في المعاني
الحرفية فلا بد من إرجاع الشرط إلى متعلق الوجوب لا إلى الوجوب نفسه، فيكون
الوجوب مطلقا ومتعلقه مقيدا بزمان المجئ على نحو الواجب المعلق الذي تقدم
الحديث عن تصويره في الحلقة السابقة.
ولكن الصحيح ان كون المعنى الحرفي جزئيا ليس بمعنى ما لا يقبل
الصدق على كثيرين لكي يستحيل فيه التقييد والاطلاق، بل هو قابل
لذلك تبعا لقابلية طرفيه، وانما هو جزئي بلحاظ خصوصية طرفيه بمعنى ان
كل نسبة مرهونة بطرفيها، ولا يمكن الحفاظ عليها مع تغيير طرفيها.
69

الامر أو أدوات الطلب
ينقسم ما يدل على الطلب إلى قسمين:
أحدهما: ما يدل بلا عناية، كمادة الامر وصيغته.
والآخر: ما يدل بالعناية، كالجملة الخبرية المستعملة في مقام
الطلب فيقع الكلام في القسمين تباعا:
القسم الأول
الطلب هو السعي نحو المقصود، فإن كان سعيا مباشرا كالعطشان
يتحرك نحو الماء فهو طلب تكويني، وان كان بتحريك الغير وتكليفه فهو
طلب تشريعي، ولا شك في دلالة مادة الامر على الطلب بمفهومه
الاسمي، ولكن ليس كل طلب، بل الطلب التشريعي من العالي، كما
لا إشكال في دلالة صيغة الامر على الطلب وذلك لان مفاد الهيئة فيها هو
النسبة الارسالية، والارسال ينتزع منه مفهوم الطلب، حيث إن الارسال
سعي نحو المقصود من قبل المرسل، فتكون الهيئة دلالة على الطلب
بالدلالة التصورية تبعا لدلالتها تصورا على منشأ انتزاعه، كما أن الصيغة
نفسها بلحاظ صدورها بداعي تحصيل المقصود تكون مصداقا حقيقيا
للطلب، لأنها سعي نحو المقصود.
70

ومما اتفق عليه المحصلون من الأصوليين تقريبا دلالة الامر مادة وهيئة
على الوجوب بحكم التبادر وبناء العرف العام على كون الطلب الصادر من
المولى بلسان الامر مادة أو هيئة وجوبا، وانما اختلفوا في توجيه هذه الدلالة
وتفسيرها إلى عدة أقوال:
القول الأول: ان ذلك بالوضع بمعنى ان لفظ الامر موضوع للطلب
الناشئ من داع لزومي وصيغة الامر موضوعة للنسبة الارسالية الناشئة من
ذلك، ودليل هذا القول هو التبادر مع إبطال سائر المناشئ الأخرى
المدعاة لتفسير هذا التبادر.
القول الثاني: ما ذهب إليه المحقق النائيني رحمه الله من أن ذلك
بحكم العقل، بمعنى ان الوجوب ليس مدلولا للدليل اللفظي، وانما
مدلوله الطلب، وكل طلب لا يقترن بالترخيص في المخالفة يحكم العقل
بلزوم امتثاله، وبهذا اللحاظ يتصف بالوجوب. بينما إذا اقترن بالترخيص
المذكور لم يلزم العقل بموافقته، وبهذا اللحاظ يتصف بالاستحباب.
ويرد عليه أولا: ان موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال لا يكفي
فيه مجرد صدور الطلب مع عدم الاقتران بالترخيص لوضوح ان المكلف
إذا اطلع بدون صدور ترخيص من قبل المولى على أن طلبه نشأ من ملاك
غير لزومي ولا يؤذي المولى فواته لم يحكم العقل بلزوم الامتثال، فالوجوب
العقلي فرع مرتبة معينة في ملاك الطلب، وهذه المرتبة لا كاشف عنها الا
الدليل اللفظي، فلا بد من فرض اخذها في مدلول اللفظ لكي يتنقح
بذلك موضوع الوجوب العقلي.
وثانيا: ان لازم القول المذكور ان يبنى على عدم الوجوب فيما إذا
اقترن بالأمر عام يدل على الإباحة في عنوان يشمل بعمومه مورد الامر،
وتوضيح ذلك أنه إذا بنينا على أن اللفظ بنفسه يدل على الوجوب، فالامر
في الحالة التي أشرنا إليها يكون مخصصا لذلك العام الدال على الإباحة
ومخرجا لمورده عن عمومه لأنه أخص منه، والدال الأخص يقدم على الدال
71

العام كما تقدم، واما إذا بنينا على مسلك المحقق النائيني المذكور فلا
تعارض ولو بنحو غير مستقر بين الامر العام ليقدم الامر بالأخصية وذلك
لان الامر لا يتكفل الدلالة على الوجوب بناء على هذا المسلك، بل المتعين
بناء عليه أن يكون العام رافعا لموضوع حكم العقل بلزوم الامتثال، لان
العام ترخيص وارد من الشارع، وحكم العقل معلق على عدم ورود
الترخيص من المولى، مع أن بناء الفقهاء والارتكاز العرفي على تخصيص
العام في مثل ذلك والالتزام بالوجود.
وثالثا: انه قد فرض ان العقل يحكم بلزوم امتثال طلب المولى معلقا
على عدم ورود الترخيص من الشارع، وحينئذ نتسأل: هل يراد بذلك
كونه معلقا على عدم اتصال الترخيص بالأمر، أو على عدم صدور
الترخيص من المولى واقعا ولو بصورة منفصلة عن الامر، أو على عدم
احراز الترخيص ويقين المكلف به؟ والكل لا يمكن الالتزام به.
اما الأول فلانه يعني ان الامر إذا ورد ولم يتصل به ترخيص تم
بذلك موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال، وهذا يستلزم كون الترخيص
المنفصل منافيا لحكم العقل باللزوم فيمتنع، وهذا اللازم واضح البطلان.
واما الثاني: فلانه يستلزم عدم احراز الوجوب عند الشك في
الترخيص المنفصل واحتمال وروده، لان الوجوب من نتائج حكم العقل
بلزوم الامتثال وهو معلق بحسب الغرض على عدم ورود الترخيص ولو
منفصلا فمع الشك في ذلك يشك في الوجوب.
واما الثالث: فهو خروج عن محل الكلام، لان الكلام في الوجوب
الواقعي الذي يشترك فيه الجاهل والعالم لا في المنجزية.
القول الثالث: ان دلالة الامر على الوجوب بالاطلاق وقرينة الحكمة
وتقريب ذلك بوجوه:
أحدها: ان الامر يدل على ذات الإرادة، وهي تارة شديدة كما في
72

الواجبات، وأخرى ضعيفة كما في المستحبات.
وحيث إن شدة الشئ من سنخه بخلاف ضعفه، فتتعين بالاطلاق
الإرادة الشديدة لأنها بحدها لا تزيد على الإرادة بشئ، فلا يحتاج حدها
إلى بيان زائد على بيان المحدود، بينما تزيد الإرادة الضعيفة بحدها عن
حقيقة الإرادة.
فلو كانت هي المعبر عنها بالأمر لكان اللازم نصب القرينة على حدها
الزائد، لان الامر لا يدل الا على ذات الإرادة.
وقد أجيب على ذلك بان اختلاف حال الحدين أمر عقلي بالغ الدقة
وليس عرفيا فلا يكون مؤثرا في اثبات اطلاق عرفي يعين أحد الحدين.
ثانيها: وهو مركب من مقدمتين:
المقدمة الأولى: ان الوجوب ليس عبارة عن مجرد طلب الفعل، لان
ذلك ثابت في المستحبات أيضا فلا بد من فرض عناية زائدة بها يكون
الطلب وجوبا وليست هذه العناية عبارة عن انضمام النهي والمنع عن
الترك إلى طلب الفعل، لان النهي عن شئ ثابت في باب المكروهات
أيضا، وانما هي عدم ورود الترخيص في الترك، لان هذا الامر العدمي
هو الذي يميز الوجوب عن باب المستحبات والمكروهات، ونتيجة ذلك أن
المميز للوجوب امر عدمي وهو عدم الترخيص في الترك فيكون مركبا من
أمر وجودي وهو طلب الفعل، وأمر عدمي وهو عدم الترخيص في الترك،
والمميز للاستحباب امر وجودي وهو الترخيص في الترك، فيكون مركبا من
أمرين وجوديين.
المقدمة الثانية: انه كلما كان الكلام وافيا بحيثية مشتركة ويتردد
أمرها بين حقيقتين المميز لإحداهما أمر عدمي والمميز للأخرى أمر وجودي،
تعين بالاطلاق الحمل على الأول لان الامر العدمي أسهل مؤونة من
الامر الوجودي، فإذا كان المقصود ما يتميز الامر الوجودي مع أنه لم يذكر
73

الامر الوجودي، فهذا خرق عرفي واضح لظهور حال المتكلم في بيان تمام
المراد بالكلام. واما إذا كان المقصود ما يتميز بالأمر العدمي فهو ليس خرقا
لهذا الظهور بتلك المثابة عرفا لان المميز حينما يكون امرا عدميا كأنه لا يزيد
على الحيثية المشتركة التي يفي بها الكلام.
ومقتضى هاتين المقدمتين تعين الوجوب بالاطلاق.
ويرد عليه المنع من اطلاق المقدمة الثانية، فإنه ليس كل أمر عدمي
لا يلحظ أمرا زائدا عرفا، ولهذا لا يرى في المقام ان النسبة عرفا بين
الوجوب والاستحباب نسبة الأقل والأكثر، بل النسبة بين مفهومين متباينين
فلا موجب لتعيين أحدهما بالاطلاق.
ثالثها: ان صيغة الامر تدل على الارسال والدفع بنحو المعنى
الحرفي، ولما كان الارسال والدفع مساوقا لسد تمام أبواب العدم للتحرك
والاندفاع، فمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوري والمدلول
التصديقي ان الطلب والحكم المبرز بالصيغة سنخ حكم يشتمل على سد
تمام أبواب العدم، وهذا يعني عدم الترخيص في المخالفة، ولعل هذا
التقريب أوجه من سابقيه، فان تم فهو، وإن لم يتم يعين كون الدلالة
على الوجوب بالوضع، وتترتب فوارق عملية عديدة بين هذه الأقوال على
الرغم من اتفاقها على الدلالة على الوجوب، ومن جملتها ان إرادة
الاستحباب من الامر مرجعها على القول الأول إلى التجوز واستعمال اللفظ
في غير ما وضع له، ومرجعها على القول الأخير إلى تقييد الاطلاق، واما
على القول الوسط فلا ترجع إلى التصرف في مدلول اللفظ أصلا.
وعليه فإذا جاءت أوامر متعددة في سياق واحد وعلم أن أكثرها أوامر
استحبابية اختل ظهور الباقي في الوجوب على القول الأول، إذ يلزم من
إرادة الوجوب منه حينئذ تغاير مدلولات تلك الأوامر مع وحدة سياقها،
وهو خلاف ظهور السياق الواحد في إرادة المعنى الواحد من الجميع.
واما على القول الثاني: فالوجوب ثابت في الباقي لعدم كونه دخيلا
74

في مدلول اللفظ لتثلم وحدة المعنى في الجميع وكذلك الحال على القول
الثالث، لان التفكيك بين الأوامر وكون بعضها وجوبية وبعضها استحبابية
لا يعني على هذا القول تغاير مدلولاتها، بل كلها ذات معنى واحد، ولكنه
أريد في بعضها مطلقا وفي بعضها مقيدا.
الأوامر الارشادية:
ومهما يكن فالأصل في دلالة الامر انه يدل على طلب المادة وايجابها،
ولكنه يستعمل في جملة من الأحيان للارشاد، فالامر في قولهم استقبل
القبلة بذبيحتك ليس مفاده الطلب والوجوب لوضوح ان شخصا لو لم
يستقبل القبلة بالذبيحة لم يكن آثما، وانما تحرم عليه الذبيحة، فمفاد الامر
اذن الارشاد إلى شرطية الاستقبال في التذكية، وقد يعبر عن ذلك
بالوجوب الشرطي، باعتبار ان الشرط واجب في المشروط.
والامر في اغسل ثوبك من البول، ليس مفاده طلب الغسل
ووجوبه، بل الارشاد إلى نجاسته بالبول وان مطهره هو الماء. وأمر
الطبيب للمريض باستعمال الدواء ليس مفاده الا الارشاد إلى ما في الدواء
من نفع وشفاء، وفي كل هذه الحالات تحتفظ صيغة الامر بمدلولها
التصوري الوضعي وهو النسبة الارسالية، غير أن مدلولها التصديقي
الجدي يختلف من مورد إلى آخر.
القسم الثاني
ونقصد به الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب والكلام حولها
يقع في مرحلتين:
الأولى: في تفسير دلالتها على الطلب، مع أنها جملة خبرية مدلولها
التصوري يشتمل على صدور المادة من الفاعل ومدلولها التصديقي قصد
الحكاية، فما هي العناية التي تعمل لإفادة الطلب بها؟ وفي تصوير هذه
75

العناية وجوه:
الأول: ان يحافظ على المدلول التصوري والتصديقي معا، فتكون
الجملة اخبارا عن وقوع الفعل من الشخص، غير أنه يقيد الشخص الذي
يقصد الحكاية عنه ممن كان يطبق عمله على الموازين الشرعية، وهذا
التقييد قرينته نفس كون المولى في مقام التشريع لا نقل أنباء خارجية.
الثاني: ان يحافظ على المدلول التصوري، وعلى إفادة قصد
الحكاية، ولكن يقال: ان المقصود حكايته ليس نفس النسبة الصدورية
المدلولة تصورا، بل أمر ملزوم لها وهو الطلب من المولى فتكون من قبيل
الاخبار عن كرم زيد بجملة زيد كثير الرماد على نحو الكناية.
الثالث: ان يفرض استعمال الجملة الخبرية في غير مدلولها التصوري
الوضعي مجازا، وذلك بان تستعمل كلمة أعاد أو يعيد في نفس مدلول
أعد، أي النسبة الارسالية.
ولا شك في أن الأقرب من هذه الوجوه هو الأول لعدم اشتماله على
أي عناية سوى التقييد الذي تتكفل به القرينة المتصلة الحالية.
الثانية: في دلالتها على الوجوب، اما بناء على الوجه الأول في
اعمال العناية، فدلالتها على الوجوب واضحة لان افتراض الاستحباب
يستوجب تقييدا زائدا في الشخص الذي يكون الاخبار بلحاظه، إذ لا
يكفي في صدق الاخبار فرضه ممن يطبق عمله على الموازين الشرعية، بل
لا بد من فرض انه يطبقه على أفضل تلك الموازين.
واما بناء على الوجه الثاني فتدل الجملة على الوجوب أيضا، لان
الملازمة بين الطلب والنسبة الصدورية المصححة للاخبار عن الملزوم ببيان
اللازم، انما هي في الطلب الوجوبي، واما الطلب الاستحبابي فلا ملازمة
بينه وبين النسبة الصدورية، أو هناك ملازمة بدرجة أضعف.
واما بناء على الالتزام بالتجوز في مقام استعمال الجملة الخبرية، كما
76

هو مقتضى الوجه الأخير فيشكل دلالتها على الوجوب، إذ كما يمكن ان
تكون مستعملة في النسبة الارسالية الناشئة من داع لزومي، كذلك يمكن
ان تكون مستعملة في النسبة الارسالية الناشئة من داع غير لزومي.
وكل ما قلناه في جانب مادة الامر وهيئته والجملة الخبرية المستعملة في
مقام الطلب، يقال عن مادة النهي وهيئته، والنفي الخبري المستعمل في
مقام النهي، غير أن مفاد الامر طلب الفعل، ومفاد النهي الزجر عنه،
وكما توجد أوامر ارشادية توجد نواه ارشادية أيضا، والمرشد إليه تارة يكون
حكما شرعيا كالمانعية في لا تصل فيما لا يؤكل لحمه. وأخرى نفي حكم
شرعي من قبيل لا تعمل بخبر الواحد فإنه ارشاد إلى عدم الحكم
بحجيته. وثالثة يكون المرشد إليه شيئا تكوينيا، كما في نواهي الأطباء
للمريض عن استعمال بعض الأطعمة ارشادا إلى ضررها.
ثم إن الامر لا يدل على الفور ولا على التراخي، اي انه لا يستفاد
منه لزوم الاسراع بالاتيان بمتعلقه، ولا لزوم التباطؤ، لان الامر لا
يقتضى الا الاتيان بمتعلقه، ومتعلقه هو مدلول المادة، ومدلول المادة
طبيعي الفعل الجامع بين الفرد الآني والفرد المتباطأ فيه، كما أن الامر لا
يدل على المرة، ولا على التكرار، اي انه لا يستفاد منه لزوم الاتيان بفرد
واحد أو بافراد كثيرة، وانما تلزم به الطبيعة، والطبيعة بعد اجراء قرينة
الحكمة فيها يثبت اطلاقها البدلي فتصدق على ما يأتي به المكلف من وجود
لها، سواء كان في ضمن فرد واحد أو أكثر.
فلو قال الآمر تصدق تحقق الامتثال باعطاء فقير واحد درهما، كما
يتحقق باعطاء فقيرين درهمين في وقت واحد، واما إذا تصدق المكلف
بصدقتين مترتبتين زمانا، فالامتثال يتحقق بالفرد الأول خاصة.
77

الاطلاق واسم الجنس
الاطلاق يقابل التقييد، فان تصورت معنى واخذت فيه وصفا زائدا
أو حالة خاصة كالانسان العالم كان ذلك تقييدا، وإذا تصورت مفهوم
الانسان العالم كان ذلك تقييدا، وإذا تصورت مفهوم الانسان ولم تضف
إليه شيئا من ذلك، فهذا هو الاطلاق، وقد وقع الكلام في أن اسم
الجنس هل هو موضوع للمعنى الملحوظ بنحو الاطلاق فيكون الاطلاق قيدا
في المعنى الموضوع له أو لذات المعنى الذي يطرأ عليه الاطلاق تارة والتقييد
أخرى.
ولتوضيح الحال تقدم عادة مقدمة لتوضيح انحاء لحاظ المعنى،
واعتبار الماهية في الذهن لكي تحدد نحو المعنى الموضوع له اللفظ على
أساس ذلك، وحاصلها مع اخذ ماهية الانسان وصفة العلم، كمثال ان
ماهية الانسان إذا تتبعنا انحاء وجودها في الخارج، نجد ان هناك حصتين
ممكنتين لها من ناحية صفة العلم، وهما: الانسان الواجد للصفة خارجا،
والانسان الفاقد لها خارجا، ولا يتصور لها حصة ثالثة ينتفي فيها الوجدان
والفقدان معا لاستحالة ارتفاع النقيضين، ومن هنا نعرف ان مفهوم
الانسان الجامع بين الواجد والفاقد ليس حصة ثابتة في الخارج في عرض
الحصتين السابقتين، ولكن إذا تجاوزنا الخارج إلى الذهن وتتبعنا عالم الذهن
في معقولاته الأولية التي ينتزعها من الخارج مباشرة نجد ثلاث حصص أو
78

ثلاثة انحاء من لحاظ الماهية كل واحد يشكل صورة للماهية في الذهن
تختلف عن الصورتين الأخريين، لان لحاظ ماهية الانسان في الذهن تارة
يقترن مع لحاظ صفة العلم، وهذا ما يسمى بالمقيد، أو لحاظ الماهية
بشرط شئ، وأخرى يقترن مع لحاظ عدم صفة العلم، وهذا نحو آخر
من المقيد، ويسمى لحاظ الماهية بشرط لا، وثالثة لا يقترن بأي واحد من
هذين اللحاظين، وهذا ما يسمى بالمطلق أو لحاظ الماهية لا بشرط،
وهذه حصص ثلاث عرضية في اللحاظ في وعاء الذهن.
وإذا دققنا النظر وجدنا ان هذه الحصص الثلاث من لحاظ الماهية
تتميز بخصوصيات ذهنية وجودا وعدما، وهي لحاظ الوصف ولحاظ عدمه
وعدم اللحاظين، واما الحصتان الممكنتان للماهية في الخارج فتتميز كل
واحدة منهما بخصوصية خارجية وجودا وعدما، وهي وجود الوصف خارجا
وعدمه كذلك، وتسمى الخصوصيات التي تتميز بها الحصص الثلاث
للحاظ الماهية في الذهن بعضها عن بعض بالقيود الثانوية، وتسمى
الخصوصيات التي تتميز بها الحصتان في الخارج إحداهما عن الأخرى بالقيود
الأولية.
ونلاحظ ان القيد الثانوي المميز للحاظ الماهية بشرط شئ، وهو
لحاظ صفة العلم مرآة لقيد أولي، وهو نفس صفة العلم المميز لاحدى
الحصتين الخارجيتين، ومن هنا كان لحاظ الماهية بشرط شئ مطابقا
للحصة الخارجية، الأولى كما نلاحظ ان القيد الثانوي المميز للحاظ الماهية
بشرط لا، وهو لحاظ عدم صفة العلم مرآة لقيد أولي وهو عدم صفة
العلم المميز للحصة الخارجية الأخرى.
ومن هنا كان لحاظ الماهية بشرط لا مطابقا للحصة الخارجية الثانية.
واما القيد الثانوي المميز للحاظ الماهية لا بشرط، وهو عدم كلا
اللحاظين - فليس مرآة لقيد أولي لأنه عدم اللحاظ، وعدم اللحاظ ليس
مرآة لشئ.
79

ومن هنا كان المرئي بلحاظ الماهية لا بشرط ذات الماهية المحفوظة في
ضمن المطلق والمقيد، وعلى هذا الأساس صح القول بان المرئي والملحوظ
باللحاظ الثالث اللا بشرطي جامع بين المرئيين والملحوظين باللحاظين
السابقين لانحفاظه فيهما، وان كانت نفس الرؤية واللحاظ متباينة في
اللحاظات الثلاثة، فاللحاظ اللا بشرطي بما هو لحاظ يقابل اللحاظين
الآخرين، وقسم ثالث لهما، ولهذا يسمى باللا بشرط القسمي، ولكن إذا
التفت إلى ملحوظه مع الملحوظ في اللحاظين الآخرين كان جامعا بينهما لا
قسما في مقابلهما بدليل انحفاظه فيهما معا، والقسم لا يحفظ في القسم
المقابل له.
ثم إذا تجاوزنا وعاء المعقولات الأولية للذهن إلى وعاء المعقولات
الثانية التي ينتزعها الذهن من لحاظاته وتعقلاته الأولية، وجدنا ان الذهن
ينتزع جامعا بين اللحاظات الثلاثة للماهية المتقدمة، وهو عنوان لحاظ
الماهية من دون ان يقيد هذا اللحاظ بلحاظ الوصف ولا بلحاظ عدمه ولا
بعدم اللحاظين، وهذا جامع بين لحاظات الماهية الثلاثة في الذهن ويسمى
بالماهية اللا بشرط المقسمي تمييزا له عن لحاظ الماهية اللا بشرط المقسمي،
لان ذاك أحد الأقسام الثلاثة للماهية في الذهن، وهذا هو الجامع بين
تلك الأقسام الثلاثة.
إذا توضحت هذه المقدمة فنقول لا شك في أن اسم الجنس ليس
موضوعا للماهية اللا بشرط المقسمي، لان هذا جامع - كما عرفت - بين
الحصص واللحاظات الذهنية لا بين الحصص الخارجية، كما أنه ليس
موضوعا للماهية المأخوذة بشرط شئ أو بشرط لا لوضوح عدم دلالة اللفظ
على القيد غير الداخل في حاق المفهوم فيتعين كونه موضوعا للماهية المعتبرة
على نحو اللا بشرط القسمي، وهذا المقدار مما لا ينبغي الاشكال فيه،
وانما الكلام في أنه هل هو موضوع للصورة الذهنية الثالثة - التي تمثل الماهية
اللا بشرط القسمي - بحدها الذي تتميز به عن الصورتين الأخريين أو
80

لذات المفهوم المرئي بتلك الصورة، وليست الصورة بحدها الا مرآة لما هو
الموضوع له، فعلى الأول يكون الاطلاق مدلولا وضعيا للفظ، وعلى الثاني
لا يكون كذلك، لان ذات المرئي والملحوظ بهذه الصورة لا يشتمل الا
على ذات الماهية المحفوظة في ضمن المقيد أيضا، ولهذا أشرنا سابقا إلى أن
المرئي باللحاظ الثالث جامع بين المرئيين والملحوظين باللحاظين السابقين
لانحفاظه فيهما.
ولا شك في أن الثاني هو المتعين، وقد استدل على ذلك:
أولا: بالوجدان العرفي واللغوي.
وثانيا: بان الاطلاق حد للصورة الذهنية الثالثة فأخذه قيدا معناه
وضع اللفظ للصورة الذهنية المحددة به، وهذا يعني ان مدلول اللفظ امر
ذهني ولا ينطبق على الخارج.
وعلى هذا فاسم الجنس لا يدل بنفسه على الاطلاق، كما لا يدل
على التقييد ويحتاج إفادة كل منهما إلى دال والدال على التقييد خاص عادة،
واما الدال على الاطلاق فهو قرينة عامة تسمى بقرينة الحكمة على ما يأتي
ان شاء الله تعالى.
التقابل بين الاطلاق والتقييد:
عرفنا ان الماهية عند ملاحظتها من قبل الحاكم أو غيره تارة تكون
مطلقة، وأخرى مقيدة، وهذان الوصفان متقابلان، غير أن الاعلام
اختلفوا في تشخيص هوية هذا التقابل، فهناك القول بأنه من تقابل التضاد
وهو مختار السيد الأستاذ، وقول آخر: بأنه من تقابل العدم والملكة،
وقول ثالث بأنه من تقابل التناقض، وذلك لان الاطلاق ان كان هو مجرد
عدم لحاظ وصف العلم وجودا وعدما تم القول الثالث، وان كان عدم
لحاظه حيث يمكن لحاظه تم القول الثاني، وان كان الاطلاق لحاظ رفض
81

القيد تم القول الأول.
والفوارق بين هذه الأقوال تظهر فيما يلي:
1 - لا يمكن تصور حالة ثالثة غير الاطلاق والتقييد على القول الثالث
لاستحالة ارتفاع النقيضين، ويمكن افتراضها على القولين الأولين، وتسمى
بحالة الاهمال.
2 - يرتبط امكان الاطلاق بامكان التقييد على القول الثاني، فلا
يمكن الاطلاق في كل حالة لا يمكن فيها التقييد.
ومثال ذلك: ان تقييد الحكم بالعلم به مستحيل، فيستحيل
الاطلاق أيضا على القول المذكور، لان الاطلاق بناء عليه هو عدم التقييد
في الموضع القابل، فحيث لا قابلية للتقييد لا اطلاق.
وهذا خلافا لما إذا قيل بان مرد التقابل بين الاطلاق والتقييد إلى
التناقض، فان استحالة أحدهما حينئذ تستوجب كون الآخر ضروريا
لاستحالة ارتفاع النقيضين.
واما إذا قيل بان مرده إلى التضاد فتقابل التضاد بطبيعته لا يفترض
امتناع أحد المتقابلين بامتناع الآخر ولا ضرورته.
والصحيح هو القول الثالث دون الأولين، وذلك لان الاطلاق نريد
به الخصوصية التي تقتضي صلاحية المفهوم للانطباق على جميع الافراد،
وهذه الخصوصية يكفي فيها مجرد عدم لحاظ اخذ القيد الذي هو نقيض
للتقييد، لان كل مفهوم له قابلية ذاتية للانطباق على كل فرد يحفظ فيه
ذلك المفهوم، وهذه القابلية تجعله صالحا لاسراء الحكم الثابت له إلى
افراده شموليا أو بدليا، وهذه القابلية بحكم كونها ذاتية لازمة له ولا
تتوقف على لحاظ عدم اخذ القيد، ولا يمكن ان تنفك عنه، والتقييد لا
يفكك بين هذا اللازم وملزومه، وانما يحدث مفهوما جديدا مباينا للمفهوم
الأول - لان المفاهيم كلها متباينة في عالم الذهن حتى ما كان بينهما عموم
82

مطلق في الصدق - وهذا المفهوم الجديد له قابلية ذاتية أضيق دائرة من
قابلية المفهوم الأول، وهكذا يتضح ان الاطلاق يكفي فيه مجرد عدم
التقييد.
وبهذا الصدد يجب ان نميز التقابل بين الاطلاق الثبوتي والتقييد المقابل
له وهذا ما كنا نتحدث عنه فعلا - عن التقابل بين الاطلاق الاثباتي، اي
عدم ذكر القيد الكاشف عن الاطلاق بقرينة الحكمة والتقييد المقابل له فان
مرد التقابل بين الاطلاق الاثباتي والتقييد المقابل له إلى تقابل العدم والملكة
فعدم ذكر القيد انما يكشف عن الاطلاق في حالة يمكن فيها للمتكلم ذكر
القيد كما مر في الحلقة السابقة.
83

احترازية القيود وقرينة الحكمة
قد يقول المولى (أكرم الفقير العادل) وقد يقول (أكرم الفقير) ففي
الحالة الأولى يكون موضوع الحكم في مرحلة المدلول التصوري للكلام
حصة خاصة من الفقير اي الفقير العادل، وبحكم الدلالة التصديقية
الأولى نثبت ان المتكلم قد استعمل الكلام لاخطار صورة حكم متعلق
بالحصة الخاصة. وبحكم الدلالة التصديقية الثانية نثبت ان المولى جاد في
هذا الكلام بمعنى ان هذا الحكم مجعول وثابت في نفسه حقيقة وليس
هازلا.
وبحكم ظهور الحال في التطابق بين الدلالة التصديقية الأولى
والدلالة التصديقية الثانية، يثبت ان الحكم الجدي المدلول للدلالة
التصديقية الثانية متعلق بالحصة الخاصة كما هو كذلك في الدلالة التصديقية
الأولى، وبهذا الطريق نستكشف من اخذ قيد العدالة في المثال أو اي قيد
من هذا القبيل في مرحلة المدلول التصوري والتصديقي الأولي كونه قيدا في
موضوع ذلك الحكم المدلول عليه بالخطاب جدا، وذلك ما يسمى بقاعدة
احترازية القيود ومرجع ظهور التطابق الذي يبرر هذه القاعدة، إلى ظاهر
حال المتكلم ان كل ما يقوله يريده جدا.
والدلالة التصورية والدلالة التصديقية الأولى بمجموعهما يكونان
الصغرى لهذا الظهور، إذ يثبتان ما يقوله المتكلم فتنطبق حينئذ الكبرى
84

التي هي مدلول لظهور التطابق المذكور.
وقاعدة الاحترازية التي تقوم على أساس هذا الظهور تقتضي انتفاء
الحكم بانتفاء القيد، الا انها انما تنفي شخص الحكم المدلول لذلك
الخطاب، ولا تنفي اي حكم آخر من قبيله، وبهذا اختلفت عن المفهوم
في موارد ثبوته حيث إنه يقتضي انتفاء طبيعي الحكم وسنخه بانتفاء الشرط
على ما تقدم في الحلقة السابقة.
واما في الحالة الثانية فقد أنيط الحكم في مرحلة المدلول التصوري
بذات الفقير، وقد تقدم ان مدلول اسم الجنس لا يدخل فيه التقييد ولا
الاطلاق، والدلالة التصديقية الأولية انما تنطبق على ذلك بمقتضى التطابق
بينها وبين الدلالة التصورية للكلام، وبهذا ينتج ان المتكلم قد أفاد بقوله
ثبوت الحكم للفقير، ولم يفد دخل قيد العدالة في الحكم ولم يقل ذلك،
لا انه أفاد الاطلاق وقال به، لان صدق ذلك يتوقف على أن يكون
الاطلاق دخيلا في مدلول اللفظ وضعا، وقد عرفت عدمه فقصارى ما
يمكن تقريره انه لم يذكر القيد ولم يقله، وهذا يحقق صغرى لظهور حالي
سياقي، وهو ظهور حال المتكلم في أنه في مقام بيان موضوع حكمه الجدي
بالكامل وهو يستتبع ظهور حاله في أن ما لا يقوله من القيود لا يريده في
موضوع حكمه.
وبذلك نثبت ان قيد العدالة غير مأخوذ في موضوع الحكم في الحالة
الثانية، وهو معنى الاطلاق، وهذا ما يسمى بقرينة الحكمة (أو مقدمات
الحكمة).
وبالمقارنة نجد ان الظهور الذي يعتمد عليه الاطلاق غير الظهور
الذي تعتمد عليه قاعدة احترازية القيود، فتلك تعتمد على ظهور حال
المتكلم في أن ما يقوله يريده.
والاطلاق يعتمد على ظهور حاله في أن ما لا يقوله لا يريده، ويمكن
85

القول بان الظهور الأول هو ظهور التطابق بين المدلول اللفظي للكلام
والمدلول التصديقي الجدي ايجابيا (نريد بالمدلول اللفظي المدلول المتحصل
من الدلالة التصورية والدلالة التصديقية الأولى).
وان الظهور الثاني هو ظهور التطابق بينهما سلبيا، ويلاحظ ان ظهور
حال المتكلم في التطابق الايجابي - اي في أن ما يقوله يريده - أقوى من
ظهور حاله في التطابق السلبي - اي في أن ما لا يقوله لا يريده -.
ومن هنا صح القول بأنه متى ما تعارض المدلول اللفظي لكلام مع
اطلاق كلام آخر، قدم المدلول اللفظي على الاطلاق وفقا لقواعد الجمع
العرفي.
ويتضح ما ذكرناه ان جوهر الاطلاق يتمثل في مجموع امرين:
الأول: يشكل الصغرى لقرينة الحكمة، وهو ان تمام ما ذكر وقيل
موضوعا للحكم بحسب المدلول اللفظي للكلام هو الفقير ولم يؤخذ فيه
قيد العدالة.
والثاني: يشكل الكبرى لقرينة الحكمة، وهو ان ما لم يقله ولم
يذكره اثباتا لا يريده ثبوتا، لان ظاهر حال المتكلم انه في مقام بيان تمام
موضوع حكمه الجدي بالكلام، وتسمى هاتان المقدمتان بمقدمات
الحكمة.
فإذا تمت هاتان المقدمتان تكونت للكلام دلالة على الاطلاق وعدم
دخل اي قيد لم يذكر في الكلام.
ولا شك في أن هذه الدلالة لا توجد في حالة ذكر القيد في نفس
الكلام، لان دخله في موضوع الحكم يكون طبيعيا حينئذ ما دام القيد
داخلا في جملة ما قاله وتختل بذلك المقدمة الصغرى.
وانما وقع الشك والبحث في حالتين:
86

الأولى: إذا ذكر القيد في كلام منفصل آخر فهل يؤدي ذلك إلى
عدم دلالة الكلام الأول على الاطلاق رأسا كما هي الحالة في ذكره
متصلا، أو ان دلالة الكلام الأول على الاطلاق تستقر بعدم ذكر القيد
متصلا والكلام المنفصل المفترض يعتبر معارضا لظهور قائم بالفعل وقد
يقدم عليه وفقا لقواعد الجمع العرفي؟
ويتحدد هذا البحث على ضوء معرفة ان ذلك الظهور الحالي الذي
يشكل الكبرى، هل يقتضي كون المتكلم في مقام بيان تمام موضوع الحكم
بشخص كلامه أو بمجموع كلماته؟ فعلى الأول يكون صغراه عدم ذكر
القيد متصلا بالكلام، ويكون ظهور الكلام في الاطلاق منوطا بعدم ذكر
القيد في شخص ذلك الكلام فلا ينهدم بمجئ التقييد في كلام منفصل.
وعلى الثاني تكون صغراه عدم ذكر القيد ولو في كلام منفصل فينهدم أصل
الظهور بمجئ القيد في كلام آخر.
والمتعين بالوجدان العرفي الأول، بل يلزم على الثاني عدم امكان
التمسك بالاطلاق في موارد احتمال البيان المنفصل لان ظهور الكلام في
الاطلاق إذا كان منوطا بعدم ذكر القيد ولو منفصلا فلا يمكن احرازه مع
احتمال ورود القيد في كلام منفصل.
الثانية: إذا كان هناك قدر متيقن في مقام التخاطب، فهل يمنع عن
دلالة الكلام على الاطلاق أو لا؟ وتوضيح ذلك أن المطلق إذا صدر من
المولى، فتارة تكون حصصه متكافئة في الاحتمال فيكون من الممكن
اختصاص الحكم بهذه الحصة دون تلك أو بالعكس أو شموله لهما معا،
وهذا معناه عدم وجود قدر متيقن وفي مثل ذلك تتم قرينة الحكمة بلا
اشكال.
وثانية تكون احدى الحصتين أولى بالحكم من الحصة الأخرى، غير أنها
أولوية علمت من خارج ذلك الكلام الذي اشتمل على المطلق، وهذا
ما يسمى بالقدر المتيقن من الخارج، والمعروف في مثل ذلك تمامية قرينة
87

الحكمة أيضا.
وثالثة يكون نفس الكلام صريحا في تطبيق الحكم على احدى
الحصتين، كما إذا كانت هي مورد السؤال وجاء المطلق كجواب على هذا
السؤال من قبيل ان يسأل شخص من المولى عن اكرام الفقير العادل فيقول
له أكرم الفقير، وهذا ما يسمى بالقدر المتيقن في مقام التخاطب، وقد
اختار صاحب الكفاية رحمه الله ان هذا يمنع من دلالة الكلام على
الاطلاق، إذ في هذه الحالة قد يكون مراده مختصا بالقدر المتيقن وهو الفقير
العادل في المثال لان كلامه واف ببيان القدر المتيقن، فلا يلزم حينئذ أن يكون
قد أراد ما لم يقله.
والجواب على ذلك أن ظاهر حال المتكلم، كما عرفت في كبرى قرينة
الحكمة انه في مقام بيان تمام الموضوع لحكمه الجدي بالكلام، فإذا كانت
العدالة جزءا من الموضوع يلزم أن لا يكون تمام الموضوع بينا، إذ لا يوجد
ما يدل على قيد العدالة.
ومجرد ان الفقير العادل هو المتيقن في الحكم لا يعني اخذ قيد العدالة
في الموضوع، فقرينة الحكمة تقتضي اذن عدم دخل قيد العدالة حتى في
هذه الحالة.
وبذلك يتضح ان قرينة الحكمة - اي ظهور الكلام في الاطلاق - لا
تتوقف على عدم المقيد المنفصل ولا على عدم القدر المتيقن بل على عدم
ذكر القيد متصلا.
هذا هو البحث في أصل الاطلاق وقرينة الحكمة، وتكميلا لنظرية
الاطلاق لا بد من الإشارة إلى عدة تنبيهات:
التنبيه الأول: ان أساس الدلالة على الاطلاق، كما عرفت، هو
الظهور الحالي السياقي، وهذا الظهور دلالته تصديقية، ومن هنا كانت
قرينة الحكمة الدالة على الاطلاق ناظرة إلى المدلول التصديقي للكلام
88

ابتداء، ولا تدخل في تكوين المدلول التصوري خلافا لما إذا قيل بان
الدلالة على الاطلاق وضعية لاخذه قيدا في المعنى الموضوع له، فإنها تدخل
حينئذ في تكوين المدلول التصوري.
التنبيه الثاني: ان الاطلاق تارة يكون شموليا يستدعي تعدد الحكم
بتعدد ما لطرفه من افراد، وأخرى بدليا يستدعي وحدة الحكمة.
فإذا قيل: أكرم العالم كان وجوب الاكرام متعددا بتعدد افراد
العالم، ولكنه لا يتعدد في كل عالم بتعدد افراد الاكرام. وقد يقال: ان
قرينة الحكمة تنتج تارة الاطلاق الشمولي، وأخرى الاطلاق البدلي،
ويعترض على ذلك بان قرينة الحكمة واحدة فكيف تنتج تارة الاطلاق
الشمولي، وأخرى الاطلاق البدلي؟
وقد أجيب على هذا الاعتراض بعدة وجوه:
الأول: ما ذكره السيد الأستاذ من أن قرينة الحكمة لا تثبت الا
الاطلاق بمعنى تقييد القيد، واما البدلية والاستغراقية فيثبت كل منهما بقرينة
إضافية، فالبدلية في الاطلاق في متعلق الامر مثلا تثبت بقرينة إضافية،
وهي ان الشمولية غير معقولة لان ايجاد جميع افراد الطبيعة غير مقدور
للمكلف عادة، والشمولية في الاطلاق في متعلق النهي مثلا، تثبت بقرينة
إضافية، وهي ان البدلية غير معقولة، لان ترك أحد افراد الطبيعة على
البدل ثابت بدون حاجة إلى النهي.
ولا يصلح هذا الجواب لحل المشكلة إذ توجد حالات يمكن فيها
الاطلاق الشمولي والبدلي معا، ومع هذا يعين الشمولي بقرينة الحكمة،
كما في كلمة عالم في قولنا أكرم العالم، فلا بد اذن من أساس لتعيين
الشمولية أو البدلية غير مجرد كون بديله مستحيلا.
الثاني: ما ذكره المحقق العراقي رحمه الله من أن الأصل في قرينة
الحكمة انتاج الاطلاق البدلي، والشمولية عناية إضافية بحاجة إلى قرينة،
89

وذلك لان هذه القرينة تثبت ان موضوع الحكم ذات الطبيعة بدون قيد
والطبيعة بدون قيد تنطبق على القليل والكثير وعلى الواحد والمتعدد.
فلو قيل: أكرم العالم وجرت قرينة الحكمة لاثبات الاطلاق كفى في
الامتثال اكرام الواحد لانطباق الطبيعة عليه، وهذا معنى كون الاطلاق من
حيث الأساس بديلا دائما، واما الشمولية فتحتاج إلى ملاحظة الطبيعة
سارية في جميع افرادها، وهي مؤونة زائدة تحتاج إلى قرينة.
الثالث: ان يقال خلافا لذلك، ان الماهية عندما تلحظ بدون قيد
وينصب عليها حكم، انما ينصب عليها ذلك بما هي مرآة للخارج فيسري
الحكم نتيجة لذلك إلى كل فرد خارجي تنطبق عليه تلك المرآة الذهنية،
وهذا معنى تعدد الحكم وشموليته.
واما البدلية كما في متعلق الامر، فهي التي تحتاج إلى عناية، وهي
تقييد الماهية بالوجود الأول، فقول (صل) يرجع إلى الامر بالوجود
الأول، ومن هنا لا يجب الوجود الثاني، وعلى هذا فالأصل في الاطلاق
الشمولية ما لم تقم قرينة على البدلية، وتحقيق الحال في المسألة يوافيك في
بحث أعلى ان شاء الله تعالى.
التنبيه الثالث: إذا لاحظنا متعلق النهي في " لا تكذب "، ومتعلق
الامر في " صل "، نجد ان الحكم في الخطاب الأول يشتمل على تحريمات
متعددة بعدد افراد الكذب وكل كذب حرام بحرمة تخصه، ولو كذب
المكلف كذبتين يعصي حكمين ولا يستحق عقابين.
واما الحكم في الخطاب الثاني فلا يشتمل الا على وجوب واحد. فلو
ترك المكلف الصلاة لكان ذلك عصيانا واحدا ويستحق بسببه عقابا
واحدا، وهذا من نتائج الشمولية في اطلاق متعلق النهي التي تقتضي تعدد
الحكم والبدلية في اطلاق متعلق الامر الذي يقتضى وحدة الحكم.
ولكن قد يتجاوز هذا ويفترض النهي في حالة لا يعبر إلا عن تحريم
90

واحد، كما في النهي المتعلق بماهية لا تقبل التكرار من قبيل (لا تحدث)
بناء على أن الحدث لا يتعدد، ففي هذه الحالة يكون التحريم واحدا، كما أن
الوجوب في (صل) واحد، ولكن مع هذا نلاحظ ان هناك فارقا يظل
ثابتا بين الأمر والنهي أو بين الوجوب والتحريم، وهو ان الوجوب الواحد
المتعلق بالطبيعة لا يستدعي الا الاتيان بفرد من افرادها، واما التحريم
الواحد المتعلق بها فهو يستدعي اجتناب كل افرادها ولا يكفي ان يترك
بعض الافراد.
وهذا الفارق ليس مرده إلى الاختلاف في دلالة اللفظ أو الاطلاق،
بل إلى امر عقلي وهو ان الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، ولكنها لا تنعدم
الا بانعدام جميع افرادها.
وحيث إن النهي عن الطبيعة يستدعي انعدامها فلا بد من ترك سائر
افرادها.
وحيث إن الامر بها يستدعي ايجادها فيكفي ايجاد فرد من افرادها.
التنبيه الرابع: انه في الحالات التي يكون الاطلاق فيها شموليا
يسري الحكم إلى كل الافراد فيكون كل فرد من الطبيعة المطلقة شموليا
موضوعا لفرد من الحكم، كما في الاطلاق الشمولي للعالم في (أكرم العالم)
ولكن هذا التكثر في الحكم والتكثر في موضوعه ليس على مستوى الجعل
ولحاظ المولى عند جعله للحكم بوجوب الاكرام على طبيعي العالم، فان
المولى في مقام الجعل يلاحظ طبيعي العالم ولا يلحظ العلماء بما هم كثرة،
فبنظره الجعلي ليس لديه الا موضوع واحد وحكم واحد، ولكن التكثر
يكون في مرحلة المجعول، وقد ميزنا سابقا بين الجعل والمجعول، وعرفنا
ان فعلية المجعول تابعة لفعلية موضوعه خارجا فيتكثر وجوب الاكرام
المجعول في المثال تبعا لتكثر افراد العالم في الخارج.
والخطاب الشرعي مفاده ومدلوله التصديقي، انما هو الجعل، اي
91

الحكم على نحو القضية الحقيقية، وليس ناظرا إلى فعلية المجعول، وهذا
يعني ان الشمولية وتكثر الحكم في موارد الاطلاق الشمولي انما يكون في
مرتبة غير المرتبة التي هي مفاد الدليل.
ومن هنا صح القول بان السريان بمعنى تعدد الحكم وتكثره الثابت
بقرينة الحكمة ليس من شؤون مدلول الكلام، بل هو من شؤون عالم
التحليل والمجعول.
92

أدوات العموم
تعريف العموم وأقسامه:
العموم هو الاستيعاب المدلول عليه باللفظ، وباشتراط أن يكون
مدلولا عليه باللفظ يخرج المطلق الشمولي، فان الشمولية فيه ليست مدلولة
للكلام لأنها من شؤون عالم المجعول، والكلام انما ينظر إلى عالم الجعل
خلافا للعام فان تكثر الافراد فيه ملحوظ في نفس مدلول الكلام وفي عالم
الجعل. ودلالة الكلام على الاستيعاب تفترض عادة دالين:
أحدهما: يدل على نفس الاستيعاب ويسمى بأداة العموم.
والآخر: يدل على المفهوم المستوعب لافراده ويسمى بمدخول
الأداة.
ففي قولنا: أكرم كل فقير الدال على الاستيعاب كلمة (كل)
والدال على المفهوم المستوعب لافراده كلمة (فقير). وأداة العموم الدالة
على الاستيعاب، تارة تكون اسما وتدل على الاستيعاب بما هو مفهوم
اسمي، كما في كل وجميع.
وأخرى تكون حرفا وتدل عليه بما هو نسبة استيعابية، كما في لام
الجمع في قولنا: العلماء بناء على أن الجمع المعرف باللام يدل على
العموم، فان أداة العموم فيه هي اللام، واللام حرف فإذا دلت على
93

الاستيعاب، فهي انما تدل عليه بما هو نسبة، وسيأتي تصوير ذلك أن شاء
الله تعالى.
ثم إن العموم ينقسم إلى الاستغراقي والبدلي والمجموعي لان
الاستيعاب لكل افراد المفهوم يعني مجموعة تطبيقاته على افراده، وهذه
التطبيقات تارة تلحظ عرضية، وأخرى تبادلية، فالثاني هو البدلي، والأول
ان لوحظت فيه عناية وحدة تلك التطبيقات، فهو المجموعي والا فهو
عموم استغراقي.
وقد يقال ان انقسام العموم إلى هذه الأقسام انما هو في مرحلة تعلق
الحكم به، لان الحكم ان كان متكثرا بتكثر الافراد فهو استغراقي، وان
كان واحدا ويكتفي في امتثاله بأي فرد من الافراد فهو بدلي، وان كان
يقتضى الجمع بين الافراد فهو مجموعي.
ولكن الصحيح ان هذا الانقسام يمكن افتراضه بقطع النظر عن
ورود الحكم لوضوح الفرق بين التصورات التي تعطيها كلمات من قبيل
جميع العلماء، واحد العلماء، ومجموع العلماء، حتى لو لوحظت بما هي
كلمات مفردة وبدون افتراض حكم، فالاستغراقية والبدلية والمجموعية
تعبر عن ثلاث صور ذهنية للعموم ينسجها ذهن المتكلم وفقا لغرضه،
توطئة لجعل الحكم المناسب عليها.
نحو دلالة أدوات العموم:
لا شك في وجود أدوات تدل على العموم بالوضع، ككلمة كل
وجميع ونحوهما من الألفاظ الخاصة بإفادة الاستيعاب، غير أن النقطة
الجديرة بالبحث فيها وفي كل ما يثبت انه من أدوات العموم هي ان اسراء
الحكم إلى تمام افراد مدخول الأداة - اي (عالم) مثلا في قولنا (أكرم كل
عالم) - هل يتوقف على اجراء الاطلاق وقرينة الحكمة في المدخول أو ان
دخول أداة العموم على الكلمة ينفيها عن قرينة الحكمة وتتولى الأداة نفسها
94

دور تلك القرينة.
وظاهر كلام صاحب الكفاية رحمه الله ان كلا الوجهين ممكن من
الناحية النظرية، لان أداة العموم إذا كانت موضوعة لاستيعاب ما يراد من
المدخول، تعين الوجه الأول، لان المراد بالمدخول لا يعرف حينئذ من
ناحية الأداة بل من قرينة الحكمة. وإذا كانت موضوعة لاستيعاب تمام ما
يصلح المدخول للانطباق عليه تعين الوجه الثاني، لان مفاد المدخول صالح
ذاتا للانطباق على تمام الافراد فيتم تطبيقه عليها فعلا بتوسط الأداة مباشرة
وقد استظهر - بحق - الوجه الثاني.
وقد يبرهن على ابطال الوجه الأول ببرهانين:
البرهان الأول: لزوم اللغوية منه، كما تقدم توضيحه في الحلقة
السابقة. ولكن التحقيق عدم تمامية هذا البرهان لعدم لزوم لغوية وضع
الأداة للعموم من قبل الواضع، ولا لغوية استعمالها في مقام التفهيم من
قبل المتكلم، وذلك لان العموم والاطلاق ليس مفادهما مفهوما وتصورا
شئ واحد، فان أداة العموم مفادها الاستيعاب وإراءة الافراد في مرحلة
مدلول الخطاب، واما قرينة الحكمة فلا تفيد الاستيعاب، ولا ترى الافراد
في مرحلة مدلول الخطاب، بل تفيد نفي الخصوصيات ولحاظ الطبيعة مجردة
عنها، فالتكثر ملحوظ في العموم بينما الملحوظ في الاطلاق ذات الطبيعة،
وهذا يكفي لتصحيح الوضع حتى لو لم ينته إلى نتيجة عملية بالنسبة إلى
الحكم الشرعي، لان الفائدة المترقبة من الوضع انما هي إفادة المعاني
المختلفة، وكذلك يكفي لتصحيح الاستعمال، إذ قد يتعلق غرض
المستعمل بإفادة التكثر بنفس مدلول الخطاب.
البرهان الثاني: ان قرينة الحكمة ناظرة كما تقدم في بحث الاطلاق
إلى المدلول التصديقي الجدي، فهي تعين المراد التصديقي، ولا تساهم في
تكوين المدلول التصوري، وأداة العموم تدخل في تكوين المدلول التصوري
للكلام، فلو قيل بأنها موضوعة لاستيعاب المراد من المدخول الذي تعينه
95

قرينة الحكمة وهو المدلول التصديقي، كان معنى ذلك ربط المدلول
التصوري للأداة بالمدلول التصديقي لقرينة الحكمة، وهذا واضح البطلان
لان المدلول التصوري لكل جزء من الكلام انما يرتبط بما يساويه من مدلول
الاجزاء الأخرى، اي بمدلولاتها التصورية، ولا شك في أن للأداة مدلولا
تصوريا محفوظا حتى لو خلا الكلام الذي وردت فيه من المدلول التصديقي
نهائيا، كما في حالات الهزل، فكيف يناط مدلولها الوضعي بالمدلول
التصديقي.
العموم بلحاظ الاجزاء والافراد:
يلاحظ ان كلمة " كل " مثلا ترد على النكرة فتدل على العموم
والاستيعاب لافراد هذه النكرة، وترد على المعرفة فتدل على العموم
والاستيعاب أيضا، لكنه استيعاب لاجزاء مدلول تلك المعرفة لا
لافرادها. ومن هنا اختلف قولنا " اقرأ كل كتاب " عن قولنا " اقرأ كل
الكتاب "، وعلى هذا الأساس يطرح السؤال التالي:
هل ان لأداة العموم وضعين لنحوين من الاستيعاب والا كيف فهم
منها في الحالة الأولى استيعاب الافراد، وفي الحالة الثانية استيعاب
الاجزاء؟
وقد أجاب المحقق العراقي (رحمه الله) على هذا السؤال: بان
(كل) تدل على استيعاب مدخولها للافراد، ولكن اتجاه الاستيعاب نحو
الاجزاء في حالة كون المدخول معرفا باللام، من أجل ان الأصل في اللام
أن يكون للعهد، والعهد يعني تشخيص الكتاب في المثال المتقدم، ومع
التشخيص لا يمكن الاستيعاب للافراد فيكون هذا قرينة عامة على اتجاه
الاستيعاب نحو الاجزاء كلما كان المدخول معرفا باللام.
96

دلالة الجمع المعرف باللام على العموم:
قد عد الجمع المعرف باللام من أدوات العموم ولا بد من تحقيق
كيفية دلالة ذلك على العموم ثبوتا أولا، ثم تفصيل الكلام في ذلك اثباتا.
اما الامر الأول: فهناك تصويرات لهذه الدلالة: منها ان ان يقال:
إن الجمع المعرف باللام يشتمل على ثلاث دوال:
وأخرى: مادة الجمع التي تدل في كلمة (العلماء) على طبيعي العالم.
والآخر: هيئة الجمع التي تدل على مرتبة من العدد لا تقل عن
ثلاثة من افراد تلك المادة.
والثالث: اللام وتفترض دلالتها على استيعاب هذه المرتبة لتمام
افراد المادة، ويكون الاستيعاب مدلولا للام بما هو معنى حرفي، ونسبة
استيعابية قائمة بين المستوعب (بالكسر) وهو مدلول هيئة الجمع،
والمستوعب (بالفتح) وهو مدلول مادة الجمع.
واما الامر الثاني: فإثبات اقتضاء اللام الداخلة على الجمع للعموم
يتوقف على احدى دعويين:
اما ان يدعى وضعها للعموم ابتداء، وحيث إن اللام الداخلة على
المفرد لا تدل على العموم، فلا بد أن يكون المدعى وضع اللام الداخلة
على الجمع بالخصوص لذلك.
واما ان يدعى انها تدل على معنى واحد في موارد دخولها على المفرد
وعلى الجمع، وهو التعين في المدخول على ما تقدم في معنى اللام الداخلة
على اسم الجنس في الحلقة السابقة.
فإذا كان مدخولها اسم الجنس، كفى في التعين المدلول عليه باللام
97

تعين الجنس الذي هو نحو تعين ذهني للطبيعة كما تقدم في محله.
وإذا كان مدخولها الجمع، ولا يكفي التعين الذهني للطبيعة المدلولة
لمادة الجمع، وتعين الجمع بما هو جمع انما يكون بتحدد الافراد الداخلة
فيه، وهذا التحدد لا يحصل الا مع إرادة المرتبة الأخيرة من الجمع المساوقة
للعموم لان اي مرتبة أخرى لا يتميز فيها - من ناحية اللفظ - الفرد الداخل
عن الخارج.
النكرة في سياق النهي أو النفي:
ذكر بعض ان وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي من أدوات
العموم، وأكبر الظن ان الباعث على هذه الدعوى ان النكرة كما تقدم في
حالات اسم الجنس من الحلقة السابقة يمتنع اثبات الاطلاق الشمولي لها
بقرينة الحكمة، لان مفهومها يأتي عن ذلك، بينما نجد اننا نستفيد
الشمولية في حالات وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي، فلا بد أن يكون
الدال على هذه الشمولية شيئا غير اطلاق النكرة نفسها، فمن هنا
يدعى ان السياق - اي وقوع النكرة متعلقا للنهي أو النفي - من أدوات
العموم ليكون هو الدال على هذه الشمولية.
ولكن التحقيق ان هذه الشمولية - سواء كانت على نحو شمولية العام
أو على نحو شمولية المطلق - بحاجة إلى افتراض مفهوم اسمي قابل
للاستيعاب والشمول لافراده بصورة عرضية لكي يدل السياق حينئذ على
استيعابه لافراده، والنكرة لا تقبل الاستيعاب العرضي كما تقدم.
فمن أين يأتي المفهوم الصالح لهذا الاستيعاب لكي يدل السياق على
عمومه وشموله؟
ومن هنا نحتاج اذن إلى تفسير للشمولية التي نفهمها من النكرة
الواقعة في سياق النهي والنفي، ويمكن أن يكون ذلك بأحد الوجهين
98

التاليين:
الأول: ان يدعى كون السياق قرينة على اخراج الكلمة عن كونها
نكرة، فيكون دور السياق اثبات ما يصلح للاطلاق الشمولي.
واما الشمولية فتثبت باجراء قرينة الحكمة في تلك الكلمة بدون
حاجة إلى افتراض دلالة السياق نفسه على الشمولية والعموم.
الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية (رحمه الله) من أن الشمولية ليست
مدلولا لفظيا، وانما هي بدلالة عقلية، لان النهي يستدعي اعدام
متعلقه، والنكرة لا تنعدم ما دام هناك فرد واحد.
غير أن هذه الدلالة العقلية انما تعين طريقة امتثال النهي، وان
امتثاله لا يتحقق الا بترك جميع افراد الطبيعة، ولا تثبت الشمولية بمعنى
تعدد الحكم والتحريم بعدد تلك الافراد كما هو واضح.
99

المفاهيم
تعريف المفهوم:
لا شك في أن المفهوم مدلول التزامي للكلام، ولا شك أيضا في أنه
ليس كل مدلول التزامي يعتبر مفهوما بالمصطلح الأصولي.
ومن هنا احتجنا إلى تعريف يميز المفهوم عن بقية المدلولات
الالتزامية.
وقد ذكر المحقق النائيني (رحمه الله) بهذا الصدد ان المفهوم هو
اللازم البين مطلقا أو اللازم البين بالمعنى الأخص في مصطلح المناطقة.
ونلاحظ على ذلك أن بعض الأدلة التي تساق لاثبات مفهوم الشرط
مثلا تثبت المفهوم كلازم عقلي بحت دون أن يكون مبينا على ما يأتي ان
شاء الله تعالى.
فالأولى ان يقال: ان المدلول الالتزامي تارة يكون متفرعا على
خصوصية الموضوع في القضية المدلولة للكلام بالمطابقة على نحو يزول
باستبداله بموضوع آخر.
وأخرى يكون متفرعا على خصوصية المحمول بهذا النحو، وثالثة
يكون متفرعا على خصوصية الربط القائم بين طرفي القضية على نحو يكون
100

محفوظا لو تبدل كلا الطرفين، فقولنا: " إذا زارك ابن كريم وجب
احترامه " يدل التزاما على وجوب احترام الكريم نفسه عند زيارته وعلى
وجوب تهيئة المقدمات التي يتوقف عليها احترام الابن الزائر، وعلى انه لا
يجب الاحترام المذكور في حالة عدم الزيارة.
والمدلول الأول مرتبط بالموضوع، فلو بدلنا ان الكريم باليتيم
مثلا، لم يكن له هذا المدلول.
والمدلول الثاني مرتبط بالمحمول وهو الوجوب، فلو بدلناه بالإباحة لم
يكن له هذا المدلول.
والمدلول الثالث متفرع على الربط الخاص بين الجزاء والشرط، ومهما
غيرنا من الشرط والجزاء يظل المدلول الثالث بروحه ثابتا معبرا عن انتفاء
الجزاء بانتفاء الشرط، وان كان التغيير ينعكس عليه فيغير من مفرداته تبعا
لما يحدث في المنطوق من تغير في المفردات.
وهذا هو المفهوم، لكن على أن يتضمن انتفاء طبيعي الحكم لا
شخص الحكم المدلول عليه بالخطاب تمييزا للمفهوم عن قاعدة احترازية
القيود التي تقتضي انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد.
ضابط المفهوم:
ونريد الآن ان نعرف الربط المخصوص الذي يؤخذ في المنطوق
ويكون منتجا للمفهوم، وتوضيح ذلك أنا إذا اخذنا الجملة الشرطية كمثال
للقضايا التي يبحث عن ضابط ثبوت المفهوم لها، نجد ان لها مدلولا
تصوريا، ومدلولا تصديقيا.
وحينما نفترض المفهوم للجملة الشرطية تارة، نفترضه على مستوى
مدلولها التصوري، بمعنى ان الضابط الذي به يثبت المفهوم يكون داخلا في
المدلول التصوري للجملة، وأخرى نفترضه على مستوى مدلولها
101

التصديقي، بمعنى ان الضابط الذي به يثبت المفهوم لا يكون مدلولا عليه
بدلالة تصورية بل بدلالة تصديقية.
اما الضابط لإفادة المفهوم في مرحلة المدلول التصوري، فهو أن يكون
الربط المدلول عليه بالأداة أو الهيئة في هذه المرحلة من النوع الذي
يستلزم الانتفاء عند الانتفاء، لان ربط قضية أو حادثة بقضية أو حادثة
أخرى إذا أردنا ان نعبر عنه بمعنى اسمي وجدنا بالامكان التعبير عنه
بشكلين:
فنقول تارة (زيارة شخص للانسان تستلزم أو توجد وجوب
اكرامه).
ونقول أخرى (ان وجوب اكرام شخص يتوقف على زيارته، أو هو
معلق على فرض الزيارة وملتصق بها).
ففي القول الأول استعملنا معنى الاستلزام، وفي القول الثاني
استعملنا معنى التوقف والتعليق والالتصاق. والمعنى الأول لا يدل التزاما
على الانتفاء عند الانتفاء، والثاني يدل عليه.
فلكي تكون الجملة الشرطية مثلا، مشتملة في مرحلة المدلول
التصوري على ضابط إفادة المفهوم، لا بد ان تكون دالة على ربط الجزاء
بالشرط بما هو معنى حرفي مواز للمعنى الاسمي للتوقف والالتصاق لا على
الربط بما هو معنى حرفي مواز للمعنى الاسمي لاستلزام الشرط للجزاء.
ولا بد إضافة إلى ذلك أن يكون المرتبط على نحو التوقف والالتصاق
طبيعي الوجوب لا وجوبا خاصا، والا لم يقتض التوقف الا انتفاء ذلك
الوجوب الخاص، وهذا القدر من الانتفاء يتحقق بنفس قاعدة احترازية
القيود ولو لم نفترض مفهوما.
وإذا ثبتت دلالة الجملة في مرحلة المدلول التصوري على النسبة
التوقفية والالتصاقية ثبت المفهوم، ولو لم يثبت كون الشرط علة للجزاء أو
102

جزء علة له بل ولو لم يثبت اللزوم اطلاقا وكان التوقف لمجرد صدقة. واما
على مستوى المدلول التصديقي للجملة فقد تكشف الجملة في هذه المرحلة
عن معنى يبرهن على أن الشرط علة منحصرة، أو جزء علة منحصرة
للجزاء، وبذلك يثبت المفهوم، وهذا من قبيل المحاولة الهادفة لاثبات
المفهوم تمسكا بالاطلاق الأحوالي للشرط لاثبات كونه مؤثرا على اي حال
سواء سبقه شئ آخر أو لا، ثم لاستنتاج انحصار العلة بالشرط من
ذلك، إذ لو كانت للجزاء علة أخرى لما كان الشرط مؤثرا في حال سبق
تلك العلة، فان هذا انتزاع للمفهوم من المدلول التصديقي، لان
الاطلاق الأحوالي للشرط مدلول لقرينة الحكمة، وقد تقدم سابقا ان قرينة
الحكمة ذات مدلول تصديقي ولا تساهم في تكوين المدلول التصوري.
هذا ما ينبغي ان يقال في تحديد الضابط.
واما المشهور فقد اتجهوا إلى تحديد الضابط للمفهوم في ركنين - كما مر
بنا في الحلقة السابقة -.
أحدهما: استفادة اللزوم العلي الانحصاري.
والآخر: كون المعلق مطلق الحكم لا شخصه، ولا كلام لنا فعلا
في الركن الثاني. واما الركن الأول فالالتزام بركنيته غير صحيح، إذ
يكفي في اثبات المفهوم - كما تقدم - دلالة الجملة على الربط بنحو التوقف
ولو كان على سبيل الصدفة.
مورد الخلاف في ضابط المفهوم:
ثم إن المحقق العراقي (رحمه الله) ذهب إلى أنه لا خلاف في أن
جميع الجمل التي تكلم العلماء عن دلالتها على المفهوم تدل على الربط
الخاص المستدعي للانتفاء عند الانتفاء، اي على التوقف، وذلك بدليل
ان الكل متفقون على انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد - شرطا أو وضعا -
103

وانما اختلفوا في انتفاء طبيعي الحكم، فلولا اتفاقهم على أن الجملة تدل
على الربط الخاص المذكور لما تسالموا على انتفاء الحكم ولو شخصا بانتفاء
القيد، وعلى هذا الأساس فالبحث في اثبات المفهوم في مقابل المنكرين له
ينحصر في مدى امكان اثبات ان طرف الربط الخاص المذكور ليس هو
شخص الحكم، بل طبيعيه ليكون هذا الربط مستدعيا لانتفاء الطبيعي
بانتفاء القيد، وامكان اثبات ذلك مرهون باجراء الاطلاق، وقرينة الحكمة
في مفاد هيئة الجزاء ونحوها مما يدل على الحكم في القضية.
وهكذا يعود البحث في ثبوت المفهوم لجملة إذا كان الانسان عالما
فأكرمه أو لجملة أكرم الانسان العالم، إلى أنه هل يجري الاطلاق في مفاد
أكرم في الجملتين لاثبات ان المعلق على الشرط أو الوصف طبيعي الحكم
أولا، ونسمي هذا بمسلك المحقق العراقي في اثبات المفهوم.
مفهوم الشرط:
ذهب المشهور إلى دلالة الجملة الشرطية على المفهوم، وقرب ذلك
بعدة وجوه:
الأول: دعوى دلالة الجملة الشرطية بالوضع على أن الشرط علة
منحصرة للجزاء، وذلك بشهادة التبادر، وعلى الرغم من صحة هذا
التبادر.
اصطدمت الدعوى المذكورة بملاحظة، وهي انها تؤدي إلى افتراض
التجوز عند استعمال الجملة الشرطية في موارد عدم الانحصار، وهو
خلاف الوجدان، فكأنه يوجد في الحقيقة وجدانان لا بد من التوفيق
بينهما:
أحدهما: وجدان التبادر المدعي في هذا الوجه.
والآخر: وجدان عدم الإحساس بالتجوز عند استعمال الجملة
104

الشرطية في حالات عدم الانحصار.
الثاني: دعوى دلالة الجملة الشرطية على اللزوم وضعا، وعلى كونه
لزوما عليا انحصاريا بالانصراف لأنه أكمل افراد اللزوم، ولوحظ على
ذلك أن الأكملية لا توجب الانصراف، وان الاستلزام في فرض الانحصار
ليس بأقوى منه في فرض عدم الانحصار.
الثالث: دعوى دلالة الأداة على الربط اللزومي وضعا، ودلالة
تفريع الجزاء على الشرط في الكلام على تفرعه عنه ثبوتا، وكون الشرط
علة تامة له لأصالة التطابق بين مقام الاثبات والكلام، ومقام الثبوت
والواقع، ودلالة الاطلاق الأحوالي في الشرط على أنه علة تامة بالفعل
دائما، وهذا يستلزم عدم وجود علة أخرى للجزاء والا لكانت العلة في
حال اقترانها المجموع لا الشرط بصورة مستقلة لاستحالة اجتماع علتين
مستقلتين على معلول واحد، فيصبح الشرط جزء العلة، وهو خلاف
الاطلاق الأحوالي المذكور.
ويبطل هذا الوجه بالملاحظات التالية:
أولا: انه لا ينفي - لو تم - وجود علة أخرى للجزاء فيما إذا احتمل
كونها مضادة بطبيعتها للشرط، أو دخالة عدم الشرط في عليتها للجزاء،
فان احتمال علة أخرى من هذا القبيل لا ينافي الاطلاق الأحوالي للشرط،
إذ ليس من أحوال الشرط حينئذ حالة اجتماعه مع تلك العلة.
ثانيا: ان كون الشرط علة للجزاء لا يقتضيه مجرد تفريغ الجزء على
الشرط في الكلام الكاشف عن التفريع الثبوتي والواقعي، وذلك لان
التفريع الثبوتي لا ينحصر في العلية، بدليل ان التفريع بالفاء كما يصح بين
العلة والمعلول، كذلك بين الجزء والكل والمتقدم زمانا والمتأخر، كذلك
فلا معين لاستفادة العلية من التفريع.
ثالثا: إذا سلمنا استفادة علية الشرط للجزاء من التفريع نقول: ان
105

كون الشرط علة تامة للجزاء لا يقتضيه مجرد تفريع الجزاء على الشرط لان
التفريع يناسب مع كون المفرع عليه جزء العلة، وانما يثبت بالاطلاق،
لان مقتضى اطلاق ترتب الجزاء على الشرط انه ترتب عليه في جميع
الحالات مع أنه لو كان الشرط جزءا من العلة الجزء الآخر، فاطلاق ترتب
الجزاء على الشرط في جميع الحالات ينفي كون الشرط جزء العلة، الا انه
انما ينفي النقصان الذاتي للشرط (والنقصان الذاتي معناه كونه بطبيعته
محتاجا في ايجاد الجزاء إلى شئ آخر) ولا ينفي النقصان العرضي
الناشئ مستقلتين على معلوم واحد (حيث إن هذا الاجتماع يؤدي إلى
صيرورة كل منهما جزء العلة)، لان هذا النقصان العرضي لا يضر
بإطلاق ترتب الجزاء على الشرط.
الرابع: ويفترض فيه انا استفدنا العلية على أساس سابق، فيقال
في كيفية استفادة الانحصار انه لو كانت هناك علة أخرى فإما ان تكون كل
من العلتين بعنوانها الخاص سببا للحكم، واما أن يكون السبب هو الجامع
بين العلتين بدون دخل لخصوصية كل منهما في العلة، وكلاهما غير
صحيح، اما الأول فلان الحكم موجود واحد شخصي في عالم التشريع،
والموجود الواحد الشخصي يستحيل ان تكون له علتان. واما الثاني فلان
ظاهر الجملة الشرطية كون الشرط بعنوانه الخاصة دخيلا في الجزاء.
والجواب بامكان اختيار الافتراض الأول ولا يلزم محذور، وذلك
بافتراض جعلين وحكمين متعددين في عالم التشريع.
أحدهما: معلول للشرط بعنوانه الخاص.
والآخر: معلول لعلة أخرى، فالبيان المذكور انما يبرهن على عدم
وجود علة أخرى لشخص الحكم لا لشخص آخر مماثل.
الخامس: ويفترض فيه أيضا انا استفدنا العلية على أساس سابق،
فيقال في كيفية استفادة الانحصار: ان تقييد الجزاء بالشرط على نحوين:
106

أحدهما: أن يكون تقييدا بالشرط فقط.
والآخر: أن يكون تقييدا به أو بعدل له على سبيل البدل.
والنحو الثاني ذو مؤونة ثبوتية تحتاج في مقام التعبير عنها إلى عطف
العدل بأو، فاطلاق الجملة الشرطية بدون عطف ب‍ (أو) يعين النحو
الأول. وقد ذكر المحقق النائيني رحمه الله ان هذا إطلاق في مقابل التقييد
ب‍ (أو) الذي يعني تعدد العلة، كما أن هناك اطلاقا للشرط في مقابل
التقييد بالواو الذي يعني كون الشرط جزء العلة، وكون المعطوف عليه
بالواو الجزء الآخر.
وكل هذه الوجوه الخمسة تشترك في الحاجة إلى اثبات ان المعلق على
الشرط طبيعي الحكم، وذلك بالاطلاق واجراء قرينة الحكمة في مفاد
الجزاء.
والتحقيق ان الربط المفترض في مدلول الجملة الشرطية تارة يكون
بمعنى توقف الجزاء على الشرط، وأخرى بمعنى استلزام الشرط واستتباعه
للجزاء، كما عرفنا سابقا. فعلى الأول يتم إثبات المفهوم بلا حاجة إلى ما
افترضه المحقق النائيني رحمه الله من اطلاق مقابل للتقييد بأو، وذلك لان
الجزاء متوقف على الشرط بحسب الفرض، فلو كان يوجد بدون الشرط لما
كان متوقفا عليه، وعلى الثاني لا يمكن اثبات الانحصار والمفهوم بما سماه
الميرزا بالاطلاق المقابل ل‍ (أو) لان وجود علة أخرى لا يضيق من دائرة
الربط الاستلزامي بين الشرط والجزاء فلا يكون العطف بأو تقييدا لما هو
مدلول الخطاب لينفي بالاطلاق بل إفادة لمطلب إضافي، وليس كلما سكت
المتكلم عن مطلب إضافي أمكن نفيه بالاطلاق ما لم يكن المطلوب السكوت
عنه مؤديا إلى تضييق وتقييد في دائرة مدلول الكلام.
فالأولى من ذلك كله ان يستظهر عرفا كون الجملة الشرطية موضوعة
للربط بمعنى التوقف والالتصاق من قبل الجزاء بالشرط، وعليه فيثبت
107

المفهوم، واما ما تحسه من عدم التجوز في حالات عدم الانحصار فيمكن
ان يفسر بتفسيرات أخرى، من قبيل ان هذه الحالات لا تعنى عدم
استعمال الجملة الشرطية في الربط المذكور، بل عدم إرادة المطلق من مفاد
الجزاء، ومن الواضح ان هذا انما يثلم الاطلاق وقرينة الحكمة، ولا يعني
استعمال اللفظ في غير ما وضع له.
الشرط المسوق لتحقق الموضوع:
يلاحظ في كل جملة شرطية تواجد ثلاثة أشياء وهي: الحكم،
والموضوع، والشرط. والشرط تارة يكون امرا مغايرا لموضوع الحكم في
الجزاء، وأخرى يكون محققا لوجوده.
فالأول، كما في قولنا (إذا جاء زيد فأكرمه) فان موضوع الحكم
زيد والشرط المجئ، وهما متغايران.
والثاني كما في قولنا (إذا رزقت ولدا فاختنه) فان موضوع الحكم
بالختان هو الولد والشرط ان ترزق ولدا، وهذا الشرط ليس مغايرا
للموضوع، بل هو عبارة أخرى عن تحققه ووجوده، ومفهوم الشرط ثابت
في الأول، فكلما كان الشرط مغايرا للموضوع وانتفى الشرط دلت الجملة
الشرطية على انتفاء الحكم عن موضوعه بسبب انتفاء الشرط.
واما حالات الشرط المحقق للموضوع فهي قسمين:
أحدهما: أن يكون الشرط المحقق لوجود الموضوع هو الأسلوب
الوحيد لتحقيق الموضوع، كما في مثال الختان المتقدم.
والآخر: أن يكون الشرط أحد أساليب تحقيقه، كما في (إذا جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا) فان مجئ الفاسق بالنبأ عبارة أخرى عن إيجاد النبأ،
ولكنه ليس هو الأسلوب الوحيد لايجاده، لان النبأ كما يوجده الفاسق
يوجده العادل أيضا.
108

ففي القسم الأول لا يثبت مفهوم الشرط، لان مفهوم الشرط من
نتائج ربط الحكم بالشرط وتقييده به على وجه مخصوص، فإذا كان الشرط
عين الموضوع ومساويا له فليس هناك في الحقيقة ربط للحكم بالشرط وراء
ربطه بموضوعه، فقولنا: إذا رزقت ولدا فاختنه في قوة، قولنا اختن
ولدك.
واما في القسم الثاني فيثبت المفهوم، لان ربط الحكم بالشرط فيه
أمر وراء ربطه بموضوعه، فهو تقييد وتعليق حقيقي وليس قولنا: (إذا
جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) في قوة قولنا تبينوا النبأ، لان القول الثاني لا
يختص بنبأ الفاسق، بينما الأول يختص به، وهذا الاختصاص نشأ من
ربط الحكم بشرطه فيكون للجملة مفهوم.
مفهوم الوصف:
إذا تعلق حكم بموضوع وأنيط بوصف في الموضوع كوصف العدالة
الذي أنيط به وجوب الاكرام في أكرم الفقير العادل، فهل يدل بالمفهوم
على انتفاء طبيعي، الحكم بوجوب الاكرام عن غير العادل من الفقراء بعد
الفراغ عن دلالته على انتفاء شخص الحكم تطبيقا لقاعدة احترازية القيود.
والجواب انه على مسلك المحقق العراقي رحمه الله في إثبات المفهوم،
يفترض ان دلالة الجملة المذكورة على الربط المخصوص المستدعي لانتفاء
الحكم بانتفاء الوصف مسلمة، وانما يتجه البحث إلى أن المربوط
بالوصف، والذي ينتفي بانتفائه، هل يمكن ان نثبت كونه طبيعي الحكم
بالاطلاق وقرينة الحكمة أو لا؟
والصحيح انه لا يمكن، لان مفاد هيئة أكرم مقيدة بمدلول المادة
باعتباره طرفا لها، ومدلول المادة مقيد بالفقير، لان المطلوب أكرم الفقير
والفقير مقيد بالعدالة تقييد الشئ بوصفه، وينتج ذلك أن مفاد هيئة أكرم
109

هو حصة خاصة من وجوب الاكرام يشتمل على التقييد بالعدالة، فغاية ما
يقتضيه الربط المخصوص بين مفاد أكرم والوصف، انتفاء تلك الحصة
الخاصة عند انتفاء العدالة، - وهذا واضح - لا انتفاء طبيعي الحكم.
واما إذا لم نأخذ بمسلك المحقق العراقي، فبالامكان ان نضيف إلى
ذلك أيضا منع دلالة الجملة الوصفية على ذلك الربط المخصوص الذي
يستدعي الانتفاء عند الانتفاء وهو التوقف، فان ربط مفاد أكرم بالوصف
انما هو بتوسط نسبتين ناقصتين تقييديتين، لان مفاد هيئة الامر مرتبط بذاته
بمدلول مادة الفعل وهي مرتبطة بنسبة ناقصة تقييدية بالفقير، وهذا مرتبط
بنسبة ناقصة تقييدية بالعادل، ولا يوجد ما يدل على التوقف والالتصاق لا
بنحو المعنى الاسمي، ولا بنحو المعنى الحرفي، فالصحيح ان الجملة
الوصفية ليس لها مفهوم. نعم لا بأس بالمصير إلى دلالتها على الانتفاء عند
الانتفاء بنحو السالبة الجزئية وفقا لما نبهنا عليه في الحلقة السابقة.
مفهوم الغاية:
ومن الجمل التي وقع الكلام في مفهومها جملة الغاية من قبيل قولنا:
(صم إلى الليل)، فيبحث عن دلالته على انتفاء طبيعي وجوب الصوم
بتحقق الغاية، ولا شك هنا في دلالة الجملة على الربط بالنحو الذي
يستدعي الانتفاء عند الانتفاء، لان معنى الغاية يستبطن ذلك.
فمسلك المحقق العراقي في جملة الغاية واضح الصواب، ومن هنا
يتجه البحث إلى أن المغيى هل هو طبيعي الحكم أو شخص الحكم
المجعول والمدلول لذلك الخطاب؟ فعلى الأول يثبت المفهوم دونه على
الثاني، ولتوضيح المسألة يمكننا ان نحول الغاية من مفهوم حرفي مفاد بمثل
(حتى) أو (إلى) إلى مفهوم اسمي مفاد بنفس لفظ " الغاية " فنقول
تارة: (وجوب الصوم مغيى بالغروب) ونقول أخرى: (جعل الشارع
110

وجوب الصوم المغيي بالغروب) وبالمقارنة بين هذين القولين نجد ان القول
الأول يدل عرفا على أن طبيعي وجوب الصوم مغيى بالغروب لان هذا هو
مقتضى الاطلاق، فكما أن قولنا (الربا ممنوع) يدل على أن طبيعي الربا
ومطلقه ممنوع كذلك قولنا: (وجوب الصوم مغيى) يدل على أن طبيعي
وجوب الصوم مغيى، فوجوب الصوم بمثابة الربا و (مغيى) بمثابة
(ممنوع)، فتجرى قرينة الحكمة على نحو واحد. واما القول الثاني فلا
يدل على أن طبيعي وجوب الصوم مغيى بالغروب بل يدل على إصدار
وجوب مغيى بالغروب، وهذا لا ينافي انه قد يصدر وجوب آخر غير مغيى
بالغروب، فالقول الثاني إذن لا يثبت أكثر من كون الغروب غاية لذلك
الوجوب الذي تحدث عنه.
فإذا اتضح هذا يتبين ان إثبات مفهوم الغاية في المقام وان المغيى،
هو طبيعي الحكم يتوقف على أن تكون جملة (صم إلى الغروب) في قوة
قولنا (وجوب الصوم مغيى بالغروب) لا في قوة قولنا (جعلت وجوبا
للصوم مغيى بالغروب)، ولا شك في أن الجملة المذكورة في قوة القول
الثاني لا الأول، إذ يفهم منها جعل وجوب الصوم فعلا وابرازه بذلك
الخطاب، وهذا ما يفي به القول الثاني دون الأول. فلا مفهوم للغاية
إذن، وانما تدل الغاية على انتفاء شخص الحكم، كما تدل على السالبة
الجزئية التي كان الوصف يدل عليها أيضا كما تقدم.
مفهوم الاستثناء:
ونفس ما تقدم في الغاية يصدق على الاستثناء، فإنه لا شك في
دلالته على نفي حكم المستثنى منه عن المستثنى، ولكن المهم تحقيق ان
المنفي عن المستثنى بدلالة أداة الاستثناء هل هو طبيعي الحكم أو شخص
ذلك الحكم. وهنا أيضا لو حولنا الاستثناء في قولنا يجب اكرام الفقراء الا
الفساق إلى مفهوم اسمي لوجدنا ان بالامكان ان نقول تارة: وجوب اكرام
111

الفقراء يستثنى منه الفساق. وان نقول أخرى: جعل الشارع وجوبا
لاكرام الفقراء مستثنى منه الفساق.
والقول الأول يدل على الاستثناء من الطبيعي.
والقول الثاني يدل على الاستثناء من شخص الحكم. فان رجعت
الجملة الاستثنائية إلى مفاد القول الأول كان لها مفهوم، وان رجعت إلى
مفاد القول الثاني لم يكن لها مفهوم، وهذا هو الأصح، كما مر في الغاية.
مفهوم الحصر:
لا شك في أن كل جملة تدل على حصر حكم بموضوع تدل على
المفهوم، لان الحصر يستبطن انتفاء الحكم المحصور عن غير الموضوع
المحصور به، والحصر بنفسه قرينة على أن المحصور طبيعي الحكم لا حكم
ذلك الموضوع بالخصوص، إذ لا معنى لحصره حينئذ، لان حكم الموضوع
الخاص مختص بموضوعه دائما، وما دام المحصور هو الطبيعي فمقتضى
ذلك ثبوت المفهوم، وهذا مما لا ينبغي الاشكال فيه، وانما الكلام في
تعيين أدوات الحصر.
فمن جملة أدواته كلمة (انما) فإنها تدل على الحصر وضعا بالتبادر
العرفي. ومن أدواته جعل العام موضوعا مع تعريفه، والخاص محمولا،
فيقال: ابنك هو محمد بدلا عن أن نقول محمد هو ابنك، فإنه يدل عرفا
على حصر البنوة بمحمد، والنكتة في ذلك أن المحمول يجب ان يصدق
بحسب ظاهر القضية على كل ما ينطبق عليه الموضوع ولا يتأتى ذلك في
فرض حمل الخاص على العام الا بافتراض انحصار العام بالخاص.
112

تحديد دلالات الدليل الشرعي
2 - الدليل الشرعي غير اللفظي
الدليل الشرعي غير اللفظي يشتمل على الفعل والتقرير فيقع البحث
في كل منهما.
دلالات الفعل:
تقدم منا في الحلقة السابقة الحديث عن دلالات الفعل أو الترك،
وانه ان اقترن بقرينة فيتحدد مدلوله على أساس تلك القرينة، وان وقع
مجردا كان له بعض الدلالات من قبيل دلالة صدور الفعل على عدم
حرمته، ودلالة تركه على عدم وجوبه ودلالة الاتيان به على وجه عبادي
على مطلوبيته إلى غير ذلك، الا ان الحكم المستكشف من الفعل لا يمكن
تعميمه لكل الحالات لعدم الاطلاق في دلالة الفعل، وانما يثبت ذلك
الحكم في كل حالة مماثلة لحالة المعصوم من سائر الجهات المحتمل كونا
مؤثرة في ثبوت ذلك الحكم على ما مر سابقا.
دلالات التقرير:
سكوت المعصوم عن موقف يواجهه يدل على امضائه، اما على
أساس عقلي باعتبار انه لو لم يكن الموقف متفقا مع غرضه، لكان سكوته
113

نقضا للغرض، أو باعتبار انه لو لم يكن الموقف سائغا شرعا لوجب على
المعصوم الردع عنه والتنبيه، واما على أساس استظهاري باعتبار ظهور حال
المعصوم في كونه بصدد المراقبة والتوجيه.
والموقف قد يكون فرديا وكثيرا ما يتمثل في سلوك عام يسمى ببناء
العقلاء أو السيرة العقلائية، ومن هنا كانت السيرة العقلائية دليلا على
الحكم الشرعي ولكن لا بذاتها، بل باعتبار تقرير الشارع لها وامضائه
المكتشف من سكوت المعصوم وعدم ردعه.
وفي هذا المجال ينبغي التمييز بين نوعين من السيرة.
أحدهما: السيرة بلحاظ مرحلة الواقع، ونقصد بذلك السيرة على
تصرف معين باعتباره الموقف الذي ينبغي اتخاذه واقعا في نظر العقلاء،
سواء كان مرتبطا بحكم تكليفي، كالسيرة على إناطة التصرف في مال الغير
بطيب نفسه، ولو لم يأذن لفظيا، أو بحكم وضعي كالسيرة على التملك
بالحيازة في المنقولات.
والنوع الآخر: السيرة بلحاظ مرحلة الظاهر والاكتفاء بالظن،
ونقصد بذلك السيرة على تصرف معين في حالة الشك في أمر واقعي اكتفاء
بالظن مثلا، من قبيل السيرة على الرجوع إلى اللغوي عند الشك في معنى
الكلمة واعتماد قوله، وإن لم يفد سوى الظن أو السيرة على رجوع كل
مأمور في التعرف على أمر مولاه إلى خبر الثقة وغير ذلك من البناءات
العقلائية على الاكتفاء بالظن أو الاحتمال في مورد الشك في الواقع.
اما النوع الأول فيستدل به على احكام شرعية واقعية، كحكم
الشارع بإباحة التصرف في مال الغير بمجرد طيب نفسه، وبان من حاز
يملك، وهكذا ولا ريب في انطباق ما ذكرناه عليه، حيث إن الشارع لا
بد أن يكون له حكم تكليفي أو وضعي فيما يتعلق بذلك التصرف، فان لم
يكن مطابقا لما يفترضه العقلاء ويجرون عليه من حكم كان على المعصوم ان
يردعهم عن ذلك فسكوته يدل على الامضاء.
114

واما النوع الثاني فيستدل به عادة على احكام شرعية ظاهرية،
كحكم الشارع بحجية قول اللغوي وحجية خبر الثقة، وهكذا. وفي هذا
النوع قد يستشكل في تطبيق ما ذكرناه عليه، وتوضيح الاستشكال ان
التعويل على الامارات الظنية كقول اللغوي وخبر الثقة له مقامان.
المقام الأول التعويل عليها بصدد تحصيل الشخص لأغراضه
الشخصية التكوينية من قبيل أن يكون لشخص غرض في أن يستعمل كلمة
معينة في كتابه، فيرجع إلى اللغوي في فهم معناها ليستعملها في الموضع
المناسب، ويكتفي في هذا المجال بالظن الحاصل من قول اللغوي.
المقام الثاني: التعويل عليها بصدد تحصيل الشخص المأمور لمؤمن
امام الآمر، أو تحصيل الشخص الآمر لمنجز للتكليف على مأموره من قبيل
أن يقول الآمر: أكرم العالم ولا يدري المأمور ان كلمة العالم هل تشمل من
كان لديه علم وزال علمه أو لا؟ فيرجع إلى قول اللغوي لتكون شهادته
بالشمول منجزة، وحجة للمولى على المكلف وشهادته بعدم الشمول معذرة
وحجة للمأمور على المولى.
وعلى هذا فبناء العقلاء على الرجوع إلى اللغوي والتعويل على الظن
الناشئ من قوله إن كان المقصود منه بناء العقلاء في المقام الأول، فهذا
لا يعني حجية قول اللغوي بالمعنى الأصولي، اي المنجزية والمعذرية، لان
التنجيز والتعذير انما يكون بالنسبة إلى الأغراض التشريعية التي فيها آمر
ومأمور، لا بالنسبة إلى الأغراض التكوينية، فلا يمكن ان يستدل بالسيرة
المذكورة على الحجية شرعا.
وان كان المقصود بناء العقلاء في المقام الثاني، فمن الواضح ان
جعل شئ منجزا أو معذرا من شأن المولى والحاكم، لا من شأن المأمور،
فمرد بناء العقلاء على جعل قول اللغوي منجزا ومعذرا، إلى أن سيرة
الامرين انعقدت على أن كل آمر يجعل قول اللغوي حجة في فهم المأمور لما
يصدر منه من كلام بنحو ينجز ويعذر، وبعبارة أشمل ان سيرة كل عاقل
115

اتجهت إلى أنه إذا قدر له ان يمارس حالة آمرية يجعل قول اللغوي حجة
على مأموره، ومن الواضح ان السيرة بهذا المعنى لا تفوت على الشارع
الأقدس غرضه، حتى إذا لم يكن قد جعل قول اللغوي حجة ومنجزا
ومعذرا بالنسبة إلى احكامه، وذلك لان هذه السيرة يمارسها كل مولى في
نطاق أغراضه التشريعية مع مأموريه ولا يهم الشارع الأغراض التشريعية
للآخرين، فكم فرق بين سيرة العقلاء على ملكية الحائز وسيرتهم على
حجية قول اللغوي، لان السيرة الأولى تقتضي سلوكا لا يقره الشارع إذا
كان لا يرى الحيازة سببا للملكية، واما ما تقتضيه السيرة الثانية من سلوك
فلا يتجاوز الالتزام بان قول اللغوي منجز ومعذر في علاقات الآمرين
بالمأمورين من العقلاء، ولا يضر الشارع ذلك على اي حال.
فان قال قائل: لماذا لا يفترض بناء العقلاء على أن قول اللغوي
حجة بلحاظ كل حكم وحاكم وأمر وآمر بما فيهم الشارع، فيكون هذا
البناء مضرا بالشارع إذا لم يكن قد جعل الحجية لقول اللغوي.
قلنا إن كون قول اللغوي منجزا لحكم أو معذرا عنه امر لا يعقل
جعله واتخاذ قرار به الا من قبل جاعل ذلك الحكم بالنسبة إلى مأموره
ومكلفه، فكل أب مثلا قد يجعل الامارة الفلانية حجة بينه وبين أبنائه
بلحاظ أغراضه التشريعية التي يطلبها منهم، ولا معنى لان يجعلها حجة
بالنسبة إلى سائر الاباء الآخرين مع أبنائهم، وهكذا يتضح ان الحجية
المتبانى عليها عقلائيا انما هي في حدود الأغراض التشريعية لأصحاب البناء
أنفسهم فلا يضر الشارع ذلك.
وليس بالامكان تصحيح الاستدلال بالسيرة على الحجية بأفضل من
القول بأنها تمس الشارع، لأنها توجب على أساس العادة الجري على طبقها
حتى في نطاق الأغراض التشريعية لمولى لم يساهم في تلك السيرة، وتوحي
ولو ارتكازا وخطأ بان مؤداها مورد الاتفاق من الجميع، وبذلك تصبح
مستدعية للردع على فرض عدم التوافق، ويكون السكوت عندئذ كاشفا عن
116

الامضاء. وبهذا نعرف ان الشرط في الاستدلال بالسيرة العقلائية على
الحجية بمعناها الأصولي - المنجزية والمعذرية - ان تكون السيرة العقلائية في
مجال التطبيق قد افترضت ارتكازا اتفاق الشارع مع غيره في الحجية،
وجرت في علاقتها مع الشارع على أساس هذا الافتراض، أو ان تكون
على الأقل بنحو يعرضها لهذا الافتراض والجري، وهذا معنى قد يثبت في
السيرة العقلائية على العمل بالامارات الظنية في المقام الأول أيضا، اي في
مجال الأغراض الشخصية التكوينية، فإنها كثيرا ما تولد عادة وذوقا في
السلوك يعرض المتشرعة بعقلائيتهم إلى الجري على طبق ذلك في الشرعيات
أيضا، فلا يتوقف إثبات الحجية بالسيرة على أن تكون السيرة جارية في
المقام الثاني، ومنعقدة على الحجية بالمعنى الأصولي.
ومهما يكن الحال، فلا شك في أن معاصرة السيرة العقلائية لعصر
المعصومين شرط في امكان الاستدلال بها على الحكم الشرعي، لان
حجيتها ليست بلحاظ ذاتها، بل بلحاظ استكشاف الامضاء الشرعي من
التقرير وعدم الردع، فلكي يتم هذا الاستكشاف يجب ان تكون السيرة
معاصرة لظهور المعصومين عليهم السلام لكي يدل سكوتهم على الامضاء،
واما السيرة المتأخرة فلا يدل عدم الردع عنها على الامضاء كما تقدم في
الحلقة السابقة، واما كيف يمكن إثبات ان السيرة كانت قائمة فعلا في
عصر المعصومين، فقد مر بنا البحث عن ذلك في الحلقة السابقة.
الا ان اشتراط المعاصرة إنما هو في السيرة التي يراد بها اثبات حكم
شرعي كلي، والكشف بها عن دليل شرعي على ذلك الحكم وهي التي كنا
نقصدها بهذا البحث بوصفها من وسائل اثبات الدليل الشرعي، ولكن
هناك نحو آخر من السيرة لا يكشف عن الدليل الشرعي على حكم كلي،
وانما يحقق صغرى لحكم شرعي كلي قد قام عليه الدليل في المرتبة السابقة،
والى هذا النحو من السيرة ترجع على الأغلب البناءات العقلائية التي يراد
بها تحليل مرتكزات المتعاملين ومقاصدهما النوعية في مقام التعامل بنحو
117

يحقق صغرى لأدلة الصحة والنفوذ في باب المعاملات، ومثال ذلك ما يقال
من انعقاد السيرة العقلائية على اشتراط عدم الغبن في المعاملة، بنحو يكون
هذا الاشتراط مفهوما ضمنا، وإن لم يصرح به. وعلى هذا الأساس يثبت
خيار الغبن بالشرط الضمني في العقد، فان السيرة العقلائية المذكورة لم
تكشف عن دليل شرعي على حكم كلي، وانما حققت صغرى الدليل
(المؤمنون عند شروطهم) وكل سيرة من هذا القبيل لا يشترط في تأثيرها
على هذا النحو ان تكون معاصرة للمعصومين عليهم السلام، لأنها متى ما
وجدت أوجدت صغري لدليل شرعي ثابت فيتمسك باطلاق ذلك الدليل
لتطبيق الحكم على صغراه.
وهناك فوارق أخرى بين السيرتين، فان السيرة التي يستكشف بها
دليل شرعي على حكم كلي تكون نتيجتها ملزمة حتى لمن شذ عن السيرة.
فلو فرض ان شخصا لم يكن يرى - بما هو عاقل - ان طيب نفس المالك
كاف في جواز التصرف في ماله، وشذ في ذلك عن عموم الناس، كانت
النتيجة الشرعية المستكشفة بسيرة عموم الناس ملزمة له لأنها حكم شرعي
كلي. واما السيرة التي تحقق صغرى لمفاد دليل شرعي فلا تكون نتيجتها
ملزمة لمن شذ عنها، لان شذوذه عنها معناه ان الصغرى لم تتحقق بالنسبة
إليه فلا يجري عليه الحكم الشرعي، ففي المثال المتقدم لخيار الغبن إذا شذ
متعاملان عن عرف الناس وبنيا على القبول بالمعاملة والالتزام بها ولو كانت
غبنية، لم يثبت لاي واحد منهما خيار الغبن، لان هذا يعني عدم الاشتراط
الضمني، ومع عدم الاشتراط لا يشملهما دليل (المؤمنون عند شروطهم)
مثلا.
118

البحث الثاني
إثبات صغرى الدليل الشرعي
بعد أن تكلمنا عن الدلالات العامة للدليل الشرعي نريد ان نتكلم
الآن عن وسائل اثبات صدور الدليل من الشارع، وهي على نحوين:
أحدهما وسائل الاثبات الوجداني.
والآخر: وسائل الاثبات التعبدي، فالكلام يقع في قسمين:
القسم الأول
وسائل الاثبات الوجداني
تمهيد:
المقصود بالاثبات الوجداني اليقين، ولما كانت وسائل الاثبات الوجداني
للدليل الشرعي بالنسبة الينا كلها وسائل تقوم على أساس حساب
الاحتمال، كالتواتر والاجماع ونحوهما على ما تقدم في الحلقة السابقة،
فمن المناسب ان نتحدث بايجاز عن كيفية تكون اليقين على أساس حساب
الاحتمال، فنقول: إن اليقين، كما عرفنا في مباحث القطع موضوعي
وذاتي، ونحن حينما نتكلم عن حجية القطع بعد افتراض تحققه لا نفرق
بين القسمين، إذ نقول بحجيتهما معا كما تقدم، ولكن حينما نتكلم عن
119

الوسائل الموجبة للاثبات والاحراز، فمن المعقول ان نهتم بالتمييز بين
أدوات اليقين الموضوعي وغيرها ابتعادا بقدر الامكان عن التورط في غير
اليقين الموضوعي.
واليقين الموضوعي قد يكون أوليا، وقد يكون مستنتجا، واليقين
الموضوعي المستنتج بقضية ما له سببان:
أحدهما: اليقين الموضوعي بقضية أخرى تتضمن أو تستلزم تلك
القضية ويكون الاستنتاج حينئذ قائما على أساس قياس من الأقيسة
المنطقية.
والآخر: اليقين الموضوعي بمجموعة من القضايا لا تتضمن ولا
تستلزم عقلا القضية المستنتجة، ولكن كل واحدة منها تشكل قيمة
احتمالية بدرجة ما لاثبات تلك القضية وبتراكم تلك القيم الاحتمالية تزداد
درجة احتمال تلك القضية حتى يصبح احتمال نقيضها قريبا من الصفر.
وبسبب ذلك يزول لضالته، وكون الذهن البشري مخلوقا على نحو لا
يحتفظ باحتمالات ضئيلة قريبة من الصفر.
ومثال ذلك أن نشاهد اقتران حادثة معينة بأخرى مرات كثيرة جدا،
فان هذه الاقترانات المتكررة لا تتضمن ولا تستلزم ان تكون احدى
الحادثتين علة للأخرى، إذ قد يكون اقترانهما صدفة، ويكون للحادثة
الأخرى علة غير منظورة، ولكن حيث إن من المحتمل في كل اقتران أن لا
يكون صدفة وان لا تكون هناك علة غير منظورة، فيعتبر كل اقتران قرينة
احتمالية على علية احدى الحادثتين للأخرى، وبتعدد هذه القرائن
الاحتمالية يقوى احتمال العلية حتى يتحول إلى اليقين.
ونسمى كل يقين موضوعي بقضية مستنتجة على أساس قياس منطقي
باليقين الموضوعي الاستنباطي، وكل يقين موضوعي بقضية مستنتجة على
أساس تراكم القرائن الاحتمالية باليقين الموضوعي الاستقرائي، والنتيجة
في القياس مستبطنة دائما في المقدمات، لأنها اما أصغر منها أو مساوية لها،
120

والنتيجة في الاستقراء غير مستبطنة في المقدمات التي تكون منها الاستقراء
لأنها أكبر وأوسع من مقدماتها.
والطرق التي تذكر عادة لاثبات الدليل الشرعي واحرازه وجدانا من
التواتر والاجماع والسيرة كلها من وسائل اليقين الموضوعي الاستقرائي، كما
سنرى ان شاء الله تعالى.
1 - التواتر
الخبر المتواتر من وسائل الاثبات الوجداني للدليل الشرعي وقد عرف
في المنطق بأنه اخبار جماعة كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب، وبموجب
هذا التعريف يمكن ان نستخلص، ان المنطق يفترض ان القضية المتواترة
مستنتجة من مجموع مقدمتين:
إحداهما بمثابة الصغرى وهي تواجد عدد كبير من المخبرين.
والأخرى بمثابة الكبرى وهي ان كل عدد من هذا القبيل يمتنع
تواطؤهم على الكذب.
وهذه الكبرى يفترض المنطق انها عقلية ومن القضايا الأولية في
العقل، ومن هنا عد المتواترات في القضايا الضرورية الست التي تنتهي
إليها كل قضايا البرهان.
وهذا التفسير المنطقي للقضية المتواترة يشابه تماما تفسير المنطق نفسه
للقضية التجريبية التي هي إحدى تلك القضايا الست، فإنه يرى ان علية
الحادثة الأولى للحادثة الثانية (التي ثبتت بالتجربة عن طريق اقتران الثانية
بالأولى في عدد كبير من المرات) مستنتجة من مجموع مقدمتين:
إحداهما: بمثابة الصغرى، وهي اقتران الحادثة الثانية بالأولى في عدد
كبير من المرات.
والأخرى: بمثابة الكبرى وهي ان الاتفاق لا يكون دائميا بمعنى انه
121

يمتنع أن يكون هذا الاقتران في كل هذه المرات صدفة، لان الصدفة لا
تتكرر لهذه الدرجة، وهذه الكبرى يعتبرها المنطق قضية عقلية أولية ولا
يمكن في رأيه ان تكون ثابتة بالتجربة، لأنها تشكل الكبرى لاثبات كل
قضية تجريبية فكيف يعقل ان تكون هي بنفسها قضية تجريبية.
وإذا دققنا النظر وجدنا ان الكبرى التي تعتمد عليها القضية المتواترة
مردها إلى نفس الكبرى التي تعتمد عليها القضية التجريبية، لان كذب
المخبر يعني افتراض مصلحة شخصية معينة دعته إلى اخفاء الواقع، وكذب
العدد الكبير من المخبرين معناه افتراض ان مصلحة المخبر الأول في
الاخفاء اقترنت صدفة بمصلحة المخبر الثاني في الاخفاء، والمصلحتان معا
اقترنتا صدفة بمصلحة المخبر الثالث في الشئ نفسه، وهكذا على الرغم
من اختلاف ظروفهم وأحوالهم فهذا يعني أيضا تكرر الصدفة مرات كثيرة.
وعلى هذا الأساس أرجع المنطق الاستدلال على القضية التجريبية
والقضية المتواترة إلى القياس المكون من المقدمتين المشار إليهما، واعتقد بان
القضية المستدلة ليست بأكبر من مقدماتها.
ولكن الصحيح ان اليقين بالقضية التجريبية والمتواترة يقين موضوعي
استقرائي، وان الاعتقاد بها حصيلة تراكم القرائن الاحتمالية الكثيرة في
مصب واحد، فاخبار كل مخبر قرينة احتمالية ومن المحتمل بطلانها لامكان
وجود مصلحة تدعو المخبر إلى الكذب، وكل اقتران بين حادثتين قرينة
احتمالية على العلية بينهما، ومن المحتمل بطلانها - اي القرينة - لامكان
افتراض وجود علة أخرى غير منظورة هي السبب في وجود الحادثة الثانية،
غير أنها اقترنت بالحادثة الأولى صدفة، فإذا تكرر الخبر أو الاقتران تعددت
القرائن الاحتمالية وازداد احتمال القضية المتواترة أو التجريبية وتناقص
احتمال نقيضها حتى يصبح قريبا من الصفر جدا فيزول تلقائيا لضالته
الشديدة، ونفس الكبرى التي افترضها المنطق القديم ليست في الحقيقة الا
قضية تجريبية أيضا، ومن هنا نجد ان حصول اليقين بالقضية المتواترة
122

والتجريبية يرتبط بكل ما له دخل في تقوية القرائن الاحتمالية نفسها،
فكلما كانت كل قرينة احتمالية أقوى وأوضح، كان حصول اليقين من
تجمع القرائن الاحتمالية أسرع. وعلى هذا الأساس نلاحظ ان مفردات
التواتر إذا كانت اخبارات يبعد في كل واحد منها احتمال الاستناد إلى
مصلحة شخصية تدعو إلى الاخبار بصورة معينة - اما لوثاقة المخبر أو
لظروف خارجية - حصل اليقين بسببها بصورة أسرع، وكذلك الحال في
الاقترانات المتكررة بين الحادثتين، فإنه كلما كان احتمال وجود علة غير
منظورة أضعف كانت الدلالة الاحتمالية لكل اقتران على العلية أقوى،
وبالتالي يكون اليقين بالعلية أسرع وأرسخ، وليس ذلك الا لان اليقين في
المتواترات والتجريبيات ناتج عن تراكم القرائن الاحتمالية وتجمع قيمها
الاحتمالية المتعددة في مصب واحد وليس مشتقا من قضية عقلية أولية
كتلك الكبرى التي يفترضها المنطق.
الضابط للتواتر:
والضابط في التواتر الكثرة العددية، ولكن لا يوجد تحديد دقيق
لدرجة هذه الكثرة التي يحصل بسببها اليقين بالقضية المتواترة، لان ذلك
يتأثر بعوامل موضوعية مختلفة وعوامل ذاتية أيضا.
اما العوامل الموضوعية فمنها نوعية الشهود من حيث الوثاقة
والنباهة، ومنها تباعد مسالكهم وتباين ظروفهم، إذ بقدر ما يشتد التباعد
والتباين يصبح احتمال اشتراكهم جميعا في كون هذا الاخبار الخاص ذا
مصلحة شخصية داعية إليه بالنسبة إلى جميع أولئك المخبرين على ما بينهم
من اختلاف في الظروف أبعد بحساب الاحتمال. ومنها: نوعية القضية
المتواترة، وكونها مألوفة أو غريبة، لان غرابتها في نفسها تشكل عاملا
عكسيا، ومنها: درجة الاطلاع على الظروف الخاصة لكل شاهد بالقدر
الذي يبعد أو يقرب بحساب الاحتمال افتراض مصلحة شخصية في
123

الاخبار. ومنها: درجة وضوح المدرك المدعى للشهود، ففرق بين الشهادة
بقضية حسية مباشرة كنزول المطر وقضية ليست حسية، وانما لها مظاهر
حسية كالعدالة، وذلك لان نسبة الخطأ في المجال الأول أقل منها في المجال
الثاني، وبهذا كان حصول اليقين في المجال الأول أسرع. إلى غير ذلك
من العوامل التي يقوم تأثيرها إيجابا أو سلبا على أساس دخلها في حساب
الاحتمال وتقييم درجته.
واما العوامل الذاتية، فمنها: طباع الناس المختلفة في القدرة على
الاحتفاظ بالاحتمالات الضئيلة، فان هناك حدا أعلى من الضآلة لا يمكن
لاي ذهن بشري ان يحتفظ بالاحتمال البالغ إليه مع الاختلاف بالنسبة إلى
ما هو أكبر من الاحتمالات، ومنها: المبتنيات القبلية التي قد توقف ذهن
الانسان وتشل فيه حركة حساب الاحتمال، وإن لم تكن الا وهما خالصا لا
منشأ موضوعيا له، ومنها: مشاعر الانسان العاطفية التي قد تزيد أو تنقص
من تقييمه للقرائن الاحتمالية، أو من قدرته على التشبث بالاحتمال
الضئيل تبعا للتفاعل معه إيجابا أو سلبا.
تعدد الوسائط في التواتر:
إذا كانت القضية الأصلية المطلوبة إثباتها ليست موضعا للاخبار
المباشر في الشهادات المحسوسة، وانما هي منقولة بواسطة شهادات أخرى
كما هو الغالب في الروايات، فلا بد من حصول أحد أمرين ليتحقق ملاك
التواتر.
أحدهما: ان تكون كل واحدة من تلك الشهادات الأخرى موضوعا
للاخبار المباشر المتواتر، وهكذا يلحظ التواتر في كل حلقة.
والآخر: ان تبدأ عملية تجميع القرائن الاحتمالية على أساس
حساب الاحتمال من القيم الاحتمالية للخبر غير المباشر فتلحظ القيمة
124

الاحتمالية لقضية يشهد شخص بوجود شاهد بها، وتجمع مع قيم احتمالية
مماثلة، وهكذا حتى يحصل الاحراز الوجداني، وهذا طريق صحيح غير أنه
يكلف افتراض عدد أكبر من الشهادات غير المباشرة، لان مفردات الجمع
أصغر قيمة منها في حالة الشهادات المباشرة.
أقسام التواتر:
إذا واجهنا عددا كبيرا من الاخبار فسوف نجد احدى الحالات
التالية.
الحالة الأولى: أن لا يوجد بين المدلولات الخبرية مشترك يخبر الجميع
عنه، كما إذا جمعنا بطريقة عشوائية مائة رواية من مختلف الأبواب، وفي
هذه الحالة من الواضح ان كل واحد من تلك المدلولات لا يثبت بالتواتر،
وانما يقع الكلام في اثبات أحدها على سبيل العلم الاجمالي لكي ترتب
عليه آثار العلم الاجمالي، والتحقيق في ذلك أن قيمة
احتمال كذب الجميع ضئيلة جدا لوجود مضعف وهو عدد
الاحتمالات التي ينبغي ان تضرب قيمها من أجل الحصول على قيمة
احتمال كذب الجميع، وكلما كانت عوامل الضرب كسورا تضاءلت نتيجة
الضرب تبعا لزيادة تلك العوامل، وهذا ما نسميه بالمضعف الكمي فيكون
احتمال كذب الجميع ضئيلا جدا ويحصل في المقابل اطمئنان بصدق واحد
على الأقل، ولكن هذا الاطمئنان يستحيل ان يتحول إلى يقين بسبب
الضآلة، ووجه الاستحالة اننا نعلم اجمالا بوجود مائة خبر كاذب في مجموع
الاخبار، وهذه المائة التي التقطناها تشكل طرفا من أطراف ذلك العلم
الاجمالي وقيمة احتمال انطباق المعلوم الاجمالي عليها تساوي قيمة احتمال
انطباقه على أي مائة أخرى تجمع بشكل آخر، فلو كان المضعف الكمي
وحده يكفي لافناء الاحتمال لزال احتمال الانطباق على أي مائة نفرضها،
وهذا يعني زوال العلم الاجمالي وهو خلف.
125

وهكذا نعرف ان درجة احتمال صدق واحد من الاخبار على الأقل
تبقى اطمئنانا، وحجية هذا الاطمئنان مرتبطة بتحديد مدى انعقاد السيرة
العقلائية على العمل بالاطمئنان وهل تشمل الاطمئنان الاجمالي المتكون
نتيجة جمع احتمالات أطرافه أو لا؟ إذ قد يمنع عن شمول السيرة لمثل هذه
الاطمئنانات الاجمالية.
الحالة الثانية: ان يوجد بين المدلولات الخبرية جانب مشترك يشكل
مدلولا تحليليا لكل خبر، اما على نسق المدلول التضمني، أو على نسق
المدلول الالتزامي، مع عدم التطابق في المدلول المطابقي بكامله،
كالاخبارات عن قضايا متغايرة، ولكنها تتضمن جميعا مظاهر من كرم حاتم
مثلا، ولا شك هنا في وجود المضعف الكمي الذي رأيناه في الحلة السابقة
يضاف إليه مضعف آخر، وهو ان افتراض كذب الجميع يعني وجود
مصلحة شخصية لدى كل مخبر دعته إلى الاخبار بذلك النحو، وهذه
المصالح الشخصية إن كانت كلها تتعلق بذلك الجانب المشترك، فهذا يعني
ان هؤلاء المخبرين على الرغم من اختلاف ظروفهم وتباين أحوالهم اتفق
صدفة ان كانت لهم مصالح متماثلة تماما، وان كانت تلك المصالح
الشخصية تتعلق بالنسبة إلى كل مخبر بكامل المدلول المطابقي، فهذا يعني
انها متقاربة، وذلك أمر بعيد بحساب الاحتمالات، وهذا ما نسميه
بالمضعف الكيفي. يضاف إلى ذلك المضعف الكمي، ولهذا نجد ان قوة
الاحتمال التي تحصل في هذه الحالة أكبر منها في الحالة السابقة، والاحتمال
القوي هنا يتحول إلى يقين بسبب ضآلة احتمال الخلاف، ولا يلزم من
ذلك أن ينطبق هذا على كل مائة خبر نجمعها، لان المضعف الكيفي
المذكور لا يتواجد الا في مائة تشترك ولو في جانب من مدلولاتها الخبرية.
الحالة الثالثة: ان تكون الا خيارات مشتركة في المدلول المطابقي
بالكامل، كما إذا نقل المخبرون جميعا انهم شاهدوا قضية معينة من قضايا
كرم حاتم، وفي هذه الحالة يوجد المضعف الكمي والمضعف الكيفي معا،
ولكن المضعف الكيفي هنا أشد قوة منه في الحالة السابقة، وذلك لان
126

مصالح الناس المختلفين كلما افترض تطابقها وتجمعها في محور أضيق كان
ذلك أغرب وأبعد بحساب الاحتمالات لما بينهم من الاختلاف والتباين في
الظروف والأحوال، فكيف أدت مصلحة كل واحد منهم إلى نفس ذلك
المحور الذي أدت إليه مصلحة الآخرين، هذا من ناحية، ومن ناحية
أخرى إذا كان الكل ينقلون واقعة واحدة بالشخص، فاحتمال الخطأ فيهم
جميعا أبعد مما إذا كانوا ينقلون وقائع متعددة بينها جانب مشترك.
وفي هذه الحالة كلما كان التوحد في المدلول أوضح والتطابق في
الخصوصيات بين اخبارات المخبرين أكمل، كان احتمال الصدق أكبر
والمضعف الكيفي أقوى أثرا، ومن هنا كان اشتمال كل خبر على نفس
التفاصيل التي يشتمل عليها الخبر الآخر مؤديا إلى تزايد احتمال الصدق
بصورة كبيرة، ومن أهم أمثلة ذلك التطابق في صيغة الكلام المنقول، كما
إذا نقل الجميع كلاما لشخص بلفظ واحد لأننا نتسأل حينئذ: هل اتفق
ان كانت للجميع مصلحة في ابراز نفس الألفاظ بعينها مع امكان أداء
المعنى نفسه بألفاظ أخرى؟ أو كان هذا التطابق في الألفاظ عفويا وصدفة؟
وكل ذلك بعيد بحساب الاحتمالات، ومن هنا نستكشف ان هذا التطابق
ناتج عن واقعية القضية وتقيد الجميع بنقل ما وقع بالضبط.
وعلى ضوء ما ذكرناه يتضح الوجه في أقوائية التواتر اللفظي من
المعنوي، والمعنوي من الاجمالي، كما هو واضح.
2 الاجماع
الاجماع يبحث عن حجيته في اثبات الحكم الشرعي، تارة على
أساس حكم العقل المدعي بلزوم تدخل الشارع لمنع الاجتماع على الخطأ،
وهو ما يسمى بقاعدة اللطف، وأخرى على أساس قيام دليل شرعي على
حجية الاجماع ولزوم التعبد بمفاده، كما قام على حجية خبر الثقة والتعبد
بمفاده، وثالثة على أساس اخبار المعصوم وشهادته بان الاجماع لا يخالف
127

الواقع، كما في الحديث المدعى لا تجتمع أمتي على خطأ، ورابعة باعتباره
كاشفا عن دليل شرعي، لان المجمعين لا يفتون عادة الا بدليل
فيستكشف بالاجماع وجود الدليل الشرعي على الحكم الشرعي، والفارق
بين الأساس الرابع لحجية الاجماع، والأسس الثلاثة الأولى ان الاجماع على
الأسس الأولى يكشف عن الحكم الشرعي مباشرة، واما على الأساس
الرابع فيكشف عن وجود الدليل الشرعي على الحكم.
والبحث عن حجية الاجماع على الأسس الثلاثة الأولى يدخل في
نطاق البحث عن الدليل غير الشرعي على الحكم الشرعي، والبحث عن
حجيته على الأساس الأخير يدخل في نطاق احراز صغرى الدليل الشرعي
ويعتبر من وسائل اثبات هذا الدليل، وهذا ما نتناوله في المقام.
وقد قسم الأصوليون الملازمة - كما نلاحظ في الكفاية وغيرها - إلى
ثلاثة أقسام، ثم بحثوا عن تحقق أي واحد منها بين الاجماع والدليل
الشرعي، وهي الملازمة العقلية والعادية والاتفاقية، ومثلوا للأولى بالملازمة
بين تواتر الخبر وصدقه، وللثانية بالملازمة بين اتفاق آراء المرؤوسين على
شئ ورأي رئيسهم، وللثالثة بالملازمة بين الخبر المستفيض وصدقه.
والتحقيق ان الملازمة دائما عقلية والتقسيم الثلاثي لها مرده في الحقيقة
إلى تقسيم الملزوم لا الملازمة، فان الملزوم إذا كان ذات الشئ مهما كانت
ظروفه وأحواله سميت الملازمة عقلية كالملازمة بين النار والحرارة، وإذا كان
الملزوم الشئ المنوط بظروف متواجدة فيه غالبا وعادة سميت الملازمة
عادية، وإذا كان الملزوم الشئ المنوط بظروف قد يتفق وجودها فالملازمة
اتفاقية. والصحيح انه لا ملازمة بين التواتر وثبوت القضية فضلا عن
الاجماع، وهذا لا ينفي اننا نعلم بالقضية القائلة (كل قضية ثبت تواترها
فهي ثابتة) لان العلم بان المحمول لا ينفك عن الموضوع غير العلم بأنه لا
يمكن ان ينفك عنه، والتلازم يعني الثاني وما نعلمه هو الأول على أساس
تراكم القيم الاحتمالية وزوال الاحتمال المخالف لضالته لا لقيام برهان على
128

امتناع محتمله عقلا. فالصحيح ربط كشف الاجماع بنفس التراكم المذكور
وفقا لحساب الاحتمال، كما هو الحال في التواتر على فوارق بين مفردات
الاجماع بوصفها اخبارا حدسية، وقد تقدم البحث عن هذه الفوارق في
الحلقة السابقة.
وتقوم الفكرة في تفسير كشف الاجماع بحساب الاحتمال على أن
الفقيه لا يفتي بدون اعتقاد للدليل الشرعي عادة، فإذا افتى فهذا يعني
اعتقاده للدليل الشرعي، وهذا الاعتقاد يحتمل فيه الإصابة والخطأ معا،
وبقدر احتمال الإصابة يشكل قرينة احتمالية لصالح اثبات الدليل
الشرعي، وبتراكم الفتاوى تتجمع القرائن الاحتمالية لاثبات الدليل
الشرعي بدرجة كبيرة تتحول بالتالي إلى يقين لتضاءل احتمال الخلاف.
ويستفاد من كلام المحقق الأصفهاني رحمه الله الاعتراض على
اكتشاف الدليل الشرعي من الاجماع بالنقطتين التاليتين:
الأولى: ان غاية ما يتطلبه افتراض ان الفقهاء لا يفتون بدون
دليل، ان يكونوا قد استندوا إلى رواية عن المعصوم اعتقدوا ظهروها في
اثبات الحكم وحجيتها سندا، وليس من الضروري ان تكون الرواية في
نظرنا لو اطلعنا عليها ظاهرة في نفس ما استظهروه منها، كما أنه ليس من
الضروري أن يكون اعتبار الرواية سندا عند المجمعين مساوقا لاعتبارها،
كذلك عندنا إذ قد لا نبني الا على حجية خبر الثقة ويكون المجمعون قد
عملوا بالرواية لبنائهم على حجية الحسن أو الموثق.
الثانية: ان أصل كشف الاجماع عن وجود رواية خاصة دالة على
الحكم ليس صحيحا، لأننا ان كنا نجد في مصادر الحديث رواية من هذا
القبيل فهي واصلة بنفسها لا بالاجماع، ولا بد من تقييمها بصورة
مباشرة، وان كنا لا نجد شيئا من هذا فلا يمكن ان نفترض وجود رواية،
إذ كيف نفسر حينئذ عدم ذكر أحد من المجمعين لها في شئ من كتب
الحديث أو الاستدلال مع كونها هي الأساس لفتواهم على الرغم من أنهم
129

يذكرون من الاخبار حتى ما لا يستندون إليه في كثير من الأحيان.
ولنبدأ بالجواب على النقطة الثانية فنقول: إن الاجماع من أهل النظر
والفتوى من فقهاء عصر الغيبة المتقدمين لا نريد به ان نكتشف رواية على
النحو الذي فرضه المعترض لكي يبدو عدم ذكرها في كتب الحديث والفقه
غريبا، وانما نكتشف به - في حالة عدم وجود مستند لفظي محدد
للمجمعين - ارتكازا ووضوحا في الرؤية متلقى من الطبقات السابقة على
أولئك الفقهاء والمتقدمين، لان تلقي هذا الارتكاز والوضوح هو الذي يفسر
حينئذ اجماع فقهاء عصر الغيبة المتقدمين على الرغم من عدم وجود مستند
لفظي مشخص بأيديهم، وهذا الارتكاز والوضوح لدي تلك الطبقات التي
تشتمل على الرواة وحملة الحديث من معاصري الأئمة عليهم السلام
يكشف عادة عن وجود مبررات كافية في مجموع السنة التي عاصروها من
قول وفعل وتقرير أوحت إليهم بذلك الوضوح والارتكاز، وبهذا يزول
الاستغراب المذكور، إذ لا يفترض تلقي المجمعين من فقهاء عصر الغيبة
رواية محددة وعدم إشارتهم إليها، وانما تلقوا جوا عاما من الاقتناع
والارتكاز الكاشف فمن الطبيعي أن لا تذكر رواية بعينها.
وعلى هذا الضوء يتضح الجواب على النقطة الأولى أيضا، لان
المكتشف بالاجماع ليس رواية اعتيادية ليعترض باحتمال عدم تماميتها سندا
أو دلالة، بل هذا الجو العام من الاقتناع والارتكاز الذي يكشف عن
الدليل الشرعي وجوهر النكتة في المقام هو افتراض الوسيط بين اجماع اهل
النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة والدليل الشرعي المباشر من المعصوم،
وهذا الوسيط هو الارتكاز لدى الطبقات السابقة من حملة الحديث وأمثالهم
من معاصري الأئمة، وهذا الارتكاز هو الكاشف الحقيقي عن الدليل
الشرعي، ولهذا فان أي بديل للاجماع المذكور في إثبات هذا الوسيط
والكشف عنه يؤدي نفس دور الاجماع، فإذا أمكن ان نستكشف بقرائن
مختلفة ان سيرة المتشرعة المعاصرين للائمة والمخالطين لهم واقتناعاتهم
ومرتكزاتهم كانت منعقدة على الالتزام بحكم معين كفى ذلك في اثبات هذا
130

الحكم وقد سبق عند الكلام عن طرق إثبات السيرة في الحلقة السابقة ما
ينفع في مجال تشخيص بعض هذه القرائن.
الشروط المساعدة على كشف الاجماع:
وعلى أساس ما عرفنا من طريقة اكتشاف الدليل الشرعي بالاجماع
وتسلسلها، يمكن ان نذكر الأمور التالية كشروط أساسية لكشف الاجماع
عن الدليل الشرعي بالطريقة المتقدمة الذكر أو مساعدة على ذلك.
الأول: أن يكون الاجماع من قبل المتقدمين من فقهاء عصر الغيبة
الذين يتصل عهدهم بعهد الرواة وحملة الحديث والمتشرعين المعاصرين
للمعصومين، لان هؤلاء هم الذين يمكن ان يكشفوا عن ارتكاز عام لدى
طبقة الرواة ومن إليهم دون الفقهاء المتأخرين.
الثاني: أن لا يكون المجمعون أو جملة معتد بها منهم قد صرحوا
بمدرك محدد لهم، بل أن لا يكون هناك مدرك معين من المحتمل استناد
المجمعين إليه والا كان المهم تقييم ذلك المدرك، نعم في هذه الحالة قد
يشكل استناد المجمعين إلى المدرك المعين قوة فيه، ويكمل ما يبدو من
نقصه، ومثال ذلك: ان يثبت فهم معنى معين للرواية من قبل كل الفقهاء
المتقدمين القريبين من عصر تلك الرواية والمتاخمين لها، فان ذلك قد يقضي
على التشكيك المعاصر في ظهورها في ذلك المعنى نظرا لقرب أولئك من
عصر النص واحاطتهم بكثير من الظروف المحجوبة عنا.
الثالث: أن لا توجد قرائن عكسية تدل على أنه في عصر الرواة
والمتشرعة المعاصرين للائمة عليهم السلام لا يوجد ذلك الارتكاز والرؤية
الواضحة اللذين يراد اكتشافهما عن طريق اجماع الفقهاء المتقدمين، والوجه
في هذا الشرط واضح بعد أن عرفنا كيفية تسلسل الاكتشاف ودور الوسيط
المشار إليه فيه.
131

الرابع: ان تكون المسألة من المسائل التي لا مجال لتلقي حكمها
عادة الا من قبل الشارع، واما إذا كان بالامكان تلقيه من قاعدة عقلية
مثلا أو كانت مسألة تفريعية قد يستفاد حكمها من عموم دليل أو اطلاق
فلا يتم الاكتشاف المذكور.
مقدار دلالة الاجماع:
لما كان كشف الاجماع قائما على أساس تجمع انظار اهل الفتوى على
قضية واحدة اختص بالمقدار المتفق عليه ففيما إذا اختلفت الفتاوى بالعموم
والخصوص لا يتم الاجماع الا بالنسبة لمورد الخاص. ويعتبر كشف الاجماع
عن أصل الحكم بنحو القضية المهملة أقوى دائما من كشفه عن الاطلاقات
التفصيلية للحكم، وذلك لأنا عرفنا سابقا ان كشف الاجماع يعتمد على ما
يشير إليه من الارتكاز في طبقة الرواة ومن إليهم، وحينما نلاحظ الارتكاز
المكتشف بالاجماع نجد ان احتمال وقوع الخطأ في تشخيص حدوده
وامتداداته من قبل المجمعين أقوى نسبيا من احتمال خطأهم في أصل
ادراك ذلك الارتكاز، فان الارتكاز بحكم كونه قضية معنوية غير منصبة في
ألفاظ محددة قد يكتنف الغموض بعض امتداداته واطلاقاته.
الاجماع البسيط والمركب:
يقسم الاجماع إلى بسيط ومركب: فالبسيط هو الاتفاق على رأي
معين في المسألة، والمركب هو انقسام الفقهاء إلى رأيين من مجموع ثلاثة
وجوه أو أكثر، فيعتبر نفي الوجه الثالث ثابتا بالاجماع المركب وما تقدم من
الكلام كان الملحوظ فيه الاجماع البسيط، واما المركب من الاجماع فان
افترضنا ان كل فقيه من المجمعين يبنى على نفي الوجه الثالث بصورة
مستقلة عن تبنيه لرأيه، فهذا يرجع في الحقيقة إلى الاجماع البسيط على
132

نفي الثالث، وان افترضنا ان نفي الوجه الثالث عند كل فقيه كان مرتبطا
باثبات ما تبناه من رأي، فهذا هو الاجماع المركب على نفي الثالث ولا
حجية فيه، لان حجيته إنما هي باعتبار كشفه الناشئ من تجمع القيم
الاحتمالية لعدم الخطأ، وفي المقام نعلم بالخطأ عند أحد الفريقين المتنازعين
فلا يمكن ان تدخل القيم الاحتمالية كلها في تكوين الكشف للاجماع
المركب لأنها متعارضة في نفسها، كما هو واضح.
3 - الشهرة
كلمة الشهرة بمعنى الذيوع والوضوح لغة، وتضاف في علم الأصول
إلى الحديث تارة والى الفتوى أخرى، ويراد بالشهرة في الحديث تعدد رواة
الحديث بدرجة دون التواتر، ويراد بالشهرة في الفتوى انتشار الفتوى المعينة
بين الفقهاء وشيوعها بدرجة دون الاجماع.
ونحن إذا حددنا التواتر تحديدا كيفيا بالتعدد الواصل إلى درجة
موجبة للعلم ولو بمعنى يشمل الاطمئنان، فسوف لا تتجاوز الشهرة في
الحديث التي فرض فيها ان تكون دون التواتر درجة الظن، والخبر الظني
ليس من وسائل الاحراز الوجداني للدليل الشرعي، بل يحتاج ثبوت
حجيته إلى التعبد الشرعي كما يأتي.
وإذا حددنا الاجماع تحديدا كيفيا بتعدد المفتين إلى درجة موجبة
للعلم - ولو بمعنى يشمل الاطمئنان - فسوف لا تتجاوز الشهرة في الفتوى
التي فرض فيها ان تكون دون الاجماع درجة الظن بالدليل الشرعي، وهو
ليس كافيا ما لم يقم دليل على التعبد بحجيته. وإذا حددنا الاجماع تحديدا
كميا عدديا باتفاق مجموعة الفقهاء كان معنى الشهرة في الفتوى تطابق الجزء
الأكبر من هذه المجموعة، اما مع عدم وجود فكرة عن آراء الآخرين، أو
مع الظن بموافقتهم أيضا، أو مع العلم بخلافهم، والشهرة بهذا المعنى قد
تدخل في الاجماع بالتحديد الكيفي المتقدم وتوجب احراز الدليل الشرعي
133

بحساب الاحتمال وهو أمر يختلف من مورد إلى آخر، كما أن احراز مخالفة
البعض يعيق عن الكشف القطعي للشهرة بدرجة تختلف تبعا لنوعية
البعض وموقعه ولخصوصيات أخرى.
ثم إن في الشهرة في الفتوى بحثا آخر في حجيتها الشرعية تعبدا،
وهذا خارج عن محل الكلام، وانما يدخل في قسم الدليل غير الشرعي.
134

القسم الثاني
وسائل الاثبات التعبدي
واهم ما يذكر في هذا المجال عادة خبر الواحد، وهو كل خبر لا
يفيد العلم، ولا شك في أنه ليس حجة على الاطلاق وفي كل الحالات،
ولكن الكلام في حجية بعض أقسامه كخبر الثقة مثلا والكلام يقع على
مرحلتين:
المرحلة الأولى: في اثبات حجية خبر الواحد على نحو القضية
المهملة.
المرحلة الثانية: في تحديد دائرة هذه الحجية وشروطها.
المرحلة الأولى
في اثبات أصل حجية الاخبار
والمشهور بين العلماء هو المصير إلى حجية خبر الواحد وقد استدل
على الحجية، بالكتاب الكريم، والسنة، والعقل.
1 - أما ما استدل به من الكتاب الكريم، فآيات منها آية النبأ وهي
قوله: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا
135

على ما فعلتم نادمين) (1).
ويمكن الاستدلال بها بوجهين:
الوجه الأول: ان يستدل بمفهوم الشرط فيها على أساس انها تشتمل
على جملة شرطية تربط الامر بالتبين عن النبأ بمجئ الفاسق به فينتفي
بانتفائه، وهذا يعني عدم الامر بالتبين عن النبأ في حالة مجئ العادل به،
وبذلك تثبت حجية نبأ العادل لان الامر بالتبين الثابت في منطوق الآية،
اما أن يكون ارشادا إلى عدم الحجية، واما أن يكون ارشادا إلى كون
التبين شرطا في جواز العمل بخبر الفاسق وهو ما يسمى بالوجوب
الشرطي، كما تقدم في مباحث الامر. فعلى الأول يكون نفيه بعينه معناه
الحجية.
وعلى الثاني يعني نفيه ان جواز العمل بخبر العادل ليس مشروطا بالتبين،
وهذا بذاته يلائم جواز العمل به بدون تبين - وهو معنى الحجة - ويلائم
عدم جواز العمل به حتى مع التبين لان الشرطية منتفية في كلتا الحالتين.
ولكن الثاني غير محتمل لأنه يجعل خبر العادل أسوأ من خبر الفاسق، ولأنه
يوجب المنع عن العمل بالدليل القطعي، نظرا إلى أن الخبر بعد تبين
صدقه يكون قطعيا فيتعين الأول وهو المطلوب.
ويوجد اعتراضان مهمان على الاستدلال بمفهوم الشرط في المقام:
أحدهما: ان الشرط في الجملة مسوق لتحقق الموضوع، وفي مثل
ذلك لا يثبت للجملة الشرطية مفهوم. والتحقيق ان الموضوع والشرط في
الجملة الشرطية المذكورة يمكن تصويرها بأنحاء:
منها: أن يكون الموضوع طبيعي النبأ، والشرط مجئ الفاسق به.
ومنها: أن يكون الموضوع نبأ الفاسق، والشرط مجيئه به فكأنه قال

(1) الحجرات 6.
136

نبأ الفاسق إذا جاءكم به فتبينوا.
ومنها: أن يكون الموضوع الجائي بالخبر والشرط فسقه فكأنه قال
الجائي بالخبر إذا كان فاسقا فتبينوا، ولا شك في ثبوت المفهوم في النحو
الأخير لعدم كون الشرط حينئذ محققا للموضوع، كما لا شك في عدم
المفهوم في النحو الثاني لان الشرط حينئذ هو الأسلوب الوحيد لتحقيق
الموضوع.
واما في النحو الأول، فالظاهر ثبوت المفهوم وان كان الشرط محققا
للموضوع لعدم كونه هو الأسلوب الوحيد لتحقيقه، وفي مثل ذلك يثبت
المفهوم، كما تقدم توضيحه في مبحث مفهوم الشرط، والظاهر من الآية
الكريمة هو النحو الأول فالمفهوم اذن ثابت.
والاعتراض الآخر يتلخص في محاولة لابطال المفهوم عن طريق عموم
التعليل بالجهالة الذي يقتضي اسراء الحكم المعلل إلى سائر موارد عدم
العلم.
ويجاب على هذا الاعتراض بوجوه:
أحدها - ان المفهوم مخصص لعموم التعليل، لأنه يثبت الحجية لخبر
العادل غير العلمي والتعليل يقتضي عدم حجية كل ما لا يكون علميا،
فالمفهوم أخص منه.
ويرد عليه، ان هذا انما يتم إذا انعقد للكلام ظهور في المفهوم ثم
عارض عموما من العمومات فإنه يخصصه. واما في المقام فلا ينعقد للكلام
ظهور في المفهوم لأنه متصل بالتعليل وهو صالح للقرينية على عدم انحصار
الجزاء بالشرط، ومعه لا ينعقد الظهور في المفهوم لكي يكون مخصصا.
ثانيها - ان المفهوم حاكم على عموم التعليل على ما ذكره المحقق
النائيني - رحمه الله - وذلك لان مفاده حجية خبر العادل، وحجيته معناها
على مسلك جعل الطريقية اعتباره علما، والتعليل موضوعه الجهل وعدم
137

العلم، فباعتبار خبر العادل علما يخرج عن موضوع التعليل وهو معنى كون
المفهوم حاكما ويرد عليه، انه إذا كان مفاد المفهوم اعتبار خبر العادل علما
فمفاد المنطوق نفي هذا الاعتبار عن خبر الفاسق، وعليه فالتعليل يكون
ناظرا إلى توسعة دائرة هذا النفي، وتعميمه على كل ما لا يكون علميا،
فكأن التعليل يقول إن كل ما لا يكون علما وجدانا لا اعتبره علما. وبهذا
يكون مفاد التعليل، ومفاد المفهوم في رتبة واحدة أحدهما يثبت اعتبار خبر
العادل علما، والآخر ينفي هذا الاعتبار ولا موجب لحكومة أحدهما على
الآخر.
ثالثها - ما ذكره المحقق الخراساني - رحمه الله - من أن الجهالة المذكورة
في التعليل ليست بمعنى عدم العلم بل بمعنى السفاهة، والتصرف غير
المتزن فلا يشمل خبر العادل الثقة لأنه ليس سفاهة ولا تصرفا غير متزن.
الوجه الثاني: ان يستدل بمفهوم الوصف حيث أنيط وجوب التبين
بفسق المخبر فينتفي بانتفائه ومفهوم الوصف تارة يستدل به في المقام بناء
على ثبوت المفهوم للوصف عموم، وتارة يستدل به لامتياز في المقام، حتى
لو أنكرنا مفهوم الوصف في موارد أخرى، وذلك بان يقال ان مقتضى
قاعدة احترازية القيود انتفاء شخص ذلك الوجوب للتبين بانتفاء الفسق
وعليه فوجوب التبين عن خبر العادل ان أريد به شمول شخص ذلك
الوجوب له فهو خلاف القاعدة المذكورة، وان أريد به شخص آخر من
وجوب التبين مجعول على عنوان خبر العادل، فهذا غير محتمل لان معناه
ان خبر العادل بما هو خبر العادل دخيل في وجوب التبين هذا، وهو غير
محتمل، فان وجوب التبين اما أن يكون بملاك مطلق خبر، أو بملاك كون
المخبر فاسقا ولا يحتمل دخل عدالة المخبر في جعل وجوب للتبين.
اما اللحاظ الأول للاستدلال بمفهوم الوصف فجوابه انكار المفهوم للوصف
خصوصا في حالة ذكر الوصف بدون ذكر الموصوف.
واما اللحاظ الثاني للاستدلال فجوابه ان وجوب التبين ليس حكما
مجعولا، بل هو تعبير آخر عن عدم الحجية ومرجع ربطه بعنوان إلى أن
138

ذلك العنوان لا يقتضى الحجية فلا محذور في أن يكون خبر العادل موضوعا
لوجوب التبين بهذا المعنى، لان موضوعيته لهذا الوجوب مرجعها إلى عدم
موضوعيته للحجية.
ومنها: آية النفر، وهي قوله سبحانه وتعالى: (فلولا نفر من كل
فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم
لعلهم يحذرون) (1).
وتقريب الاستدلال بها يتم من خلال الأمور التالية:
أولا: انها تدل على وجوب التحذر لوجوه:
أحدها - انه وقع مدخولا لأداة الترجي الدالة على المطلوبية في مثل
المقام، ومطلوبية التحذر مساوقة لوجوبه لان الحذر ان كان له مبرر فهو
واجب، والا لم يكن مطلوبا.
ثانيها - ان التحذر وقع غاية للنفر الواجب، وغاية الواجب واجبة.
ثالثها - انه بدون افتراض وجوب التحذر يصبح الامر بالنفر،
والانذار لغوا.
ثانيا: ان وجوب التحذر واجب مطلقا سواء أفاد الانذار العلم
للسامع أو لا، لان الوجوه المتقدمة لافادته تقتضي ثبوته كذلك.
ثالثا: ان وجوب التحذر حتى مع عدم حصول العلم لدى السامع،
مساوق للحجية شرعا. إذ لو لم يكن اخبار المنذر حجة شرعا، لما وجب
العمل به الا في حال حصول العلم منه.
وقد يناقش في الامر الأول بوجوهه الثلاثة وذلك بالاعتراض على أول
تلك الوجوه بان الأداة مفادها وقوع مدخولها موقع الترقب لا الترجي،
ولذا قد يكون مدخولها مرغوبا عنه، كما في قوله: (لعلك عن بابك

(1) سورة التوبة - الآية 122.
139

طردتني). والاعتراض على ثاني تلك الوجوه، بان غاية الواجب ليست
دائما واجبة، وان كانت محبوبة حتما، ولكن ليس من الضروري ان
يتصدى المولى لايجابها، بل قد يقتصر في مقام الطلب على تقريب المكلف
نحو الغاية، وسد باب من أبواب عدمها وذلك عند وجود محذور مانع عن
التكليف بها، وسد كل أبواب عدمها كمحذور المشقة وغيره، والاعتراض
على ثالث تلك الوجوه بان الامر بالنفر، والانذار ليس لغوا مع عدم الحجية
التعبدية لأنه كثيرا ما يؤدي إلى علم السامع فيكون منجزا، ولما كان المنذر
يحتمل دائما ترتب العلم على إنذاره، أو مساهمة إنذاره في حصول العلم
ولو لغير السامع المباشر فمن المعقول أمره بالانذار مطلقا.
وهذه المناقشة إذا تمت جزئيا فلا تتم كليا، لان دلالة كلمة (لعل)
على المطلوبية غير قابلة للانكار. وكون مفادها الترقب، وان كان صحيحا
ولكن كونه ترقب المحبوب، أو ترقب المخوف يتعين بالسباق ولا شك في
تعيين السياق في المقام للأول.
وقد يناقش في الامر الثاني - بعد تسليم الأول - بان الآية الكريمة لا
تدل على اطلاق وجوب التحذر لحالة عدم علم السامع بصدق المنذر وذلك
لوجهين:
أحدهما: ان الآية لم تسق من حيث الأساس لإفادة وجوب التحذر
لنتمسك باطلاقها لاثبات وجوبه على كل حال، وانما هي مسوقة لإفادة
وجوب الانذار فيثبت باطلاقها ان وجوب الانذار ثابت على كل حال، وقد
لا يوجب المولى التحذر الا على من حصل له العلم، ولكنه يوجب الانذار
على كل حال، وذلك احتياطا منه في مقام التشريع لعدم تمكنه من اعطاء
الضابطة للتمييز بين حالات استتباع الانذار للعلم أو مساهمته فيه وغيرها.
والوجه الآخر ما يدعى من وجود قرينة في الآية على عدم الاطلاق
لظهورها في تعلق الانذار بما تفقه فيه المنذر في هجرته، وكون الحذر
المطلوب مترقبا عقيب هذا النحو من الانذار فمع شك السامع في ذلك لا
140

يمكن التمسك باطلاق الآية لاثبات مطلوبية الحذر.
ويمكن النقاش في الامر الثالث بان وجوب التحذر مترتب على عنوان
الانذار، لا مجرد الاخبار، والانذار يستبطن وجود خطر سابق، وهذا
يعني ان الانذار ليس هو المنجز، والمستتبع لاحتمال الخطر بجعل الشارع
الحجية له، وانما هو مسبوق بتنجز الاحكام في المرتبة السابقة بالعلم
الاجمالي، أو الشك قبل الفحص هذا مضافا إلى أن تنجز الأحكام الإلزامية
بالاخبار غير القطعي لا يتوقف على جعل الحجية للخبر شرعا بناء
على مسلك حق الطاعة كما هو واضح.
2 - وأما السنة:
واما السنة فهناك طريقان لاثباتها:
أحدهما: الاخبار الدالة على الحجية. ولكي يصح الاستدلال بها
على حجية خبر الواحد، لا بد ان تكون قطعية الصدور وتذكر في هذا
المجال طوائف عديدة من الروايات والظاهر أن كثيرا منها لا يدل على
الحجية.
وفيما يلي نستعرض بايجاز جل هذه الطوائف ليتضح الحال.
الطائفة الأولى: ما دل على التصديق الواقعي ببعض روايات
الثقات، من قبيل ما ورد عن العسكري عليه السلام عندما عرض عليه
كتاب يوم وليلة ليونس بن عبد الرحمن إذ قال: (هذا ديني ودين آبائي
وهو الحق كله). وهذا مرده إلى الاخبار عن المطابقة للواقع، وهو غير
الحجية التعبدية التي تجعل عند الشك في المطابقة.
الطائفة الثانية: ما تضمن الحث على تحمل الحديث، وحفظه من
قبيل قول النبي صلى الله عليه وآله: " من حفظ على أمتي أربعين حديثا بعثه الله
فقيها عالما يوم القيامة ". وهذا لا يدل على الحجية أيضا إذ لا شك في أن
141

تحمل الحديث وحفظه من أهم المستحبات، بل من الواجبات الكفائية
لتوقف حفظ الشريعة عليه، ولا يلزم من ذلك وجوب القبول تعبدا مع
الشك. ومثل ذلك ما دل على الثناء المحدثين، أو الامر بحفظ الكتب،
والترغيب في الكتابة.
الطائفة الثالثة: ما دل على الامر بنقل بعض النكات، والمضامين
من قبيل قول أبي عبد الله (ع) " يا ابان إذا قدمت الكوفة فارو هذا
الحديث... " والصحيح ان الامر بالنقل يكفي في وجاهته احتمال تمامية
الحجة بذلك بحصول الوثوق لدى السامعين، ولا يتوقف على افتراض
الحجية التعبدية.
الطائفة الرابعة: ما دل على أن انتفاع السامع بالرواية قد يكون
أكثر من انتفاع الراوي من قبيل قولهم " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه
منه ".
ونلاحظ ان هذه الطائفة ليست في مقام بيان ان النقل يثبت المنقول
للسامع تعبدا وإلا لكان الناقل دائما من هذه الناحية أفضل حالا من
السامع لان الثبوت لديه وجداني بل هي بعد افتراض ثبوت المنقول تريد أن
توضح ان المهم ليس حفظ الألفاظ، بل ادراك المعاني واستيعابها. وفي
ذلك قد يتفوق السامع على الناقل.
الطائفة الخامسة: ما دل على ذم الكذب عليهم، والتحذير من
الكذابين عليهم فإنه لو لم يكن خبر الواحد مقبولا لما كان هناك اثر للكذب
ليستحق التحذير.
والصحيح ان الكذب كثيرا ما يوجب اقتناع السامع خطأ، وإذا
افترض في مجال العقائد وأصول الدين، كفى في خطره مجرد ايجاد
الاحتمال والظن. فاهتمام الأئمة بالتحذير من الكاذب لا يتوقف على
افتراض الحجية التعبدية.
142

الطائفة السادسة: ما ورد في الارجاع إلى آحاد من أصحاب الأئمة
بدون اعطاء ضابطة كلية للارجاع. من قبيل ارجاع الامام إلى زرارة
بقوله: " إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس "، أو قول الإمام الهادي
(ع) " فأسال عنه عبد العظيم بن عبد الله الحسني واقرأه مني السلام ".
وروايات الارجاع التي هي من هذا القبيل لما كانت غير متضمنة
للضابطة الكلية فلا يمكن اثبات حجية خبر الثقة بها مطلقا حتى في حالة
احتمال تعمد الكذب إذ من الممكن أن يكون ارجاع الامام بنفسه معبرا
عن ثقته ويقينه بعدم تعمد الكذب ما دام ارجاعا شخصيا غير معلل.
الطائفة السابعة: ما دل على ذم من يطرح ما يسمعه من حديث
بمجرد عدم قبول طبعه له من قبيل قوله (ع): " وأسوأهم عندي حالا،
وامقتهم الذي يسمع الحديث ينسب الينا، ويروى عنا فلم يقبله اشمئز
منه وجحده. وكفر من دان به وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا
خرج، والينا أسند "، إذ قد يقال لولا حجية الخبر لما استحق الطارح هذا
الذم.
والجواب: انه استحقه على الاعتماد على الذوق، والرأي في طرح
الرواية بدون تتبع، واعمال للموازين وعلى التسرع بالنفي والانكار مع أن
مجرد عدم الحجية لا يسوغ الانكار والتكفير.
الطائفة الثامنة: ما ورد في الخبرين المتعارضين من الترجيح بموافقة
الكتاب، ومخالفة العامة، فلولا ان خبر الواحد حجة، لما كان هناك معنى
لفرض التعارض بين الخبرين، واعمال المرجحات بينهما.
ونلاحظ ان دليل الترجيح هذا يناسب الحديثين القطعيين صدورا إذا
تعارضا فلا يتوقف تعقله على افتراض الحجية التعبدية.
الطائفة التاسعة: ما ورد في الخبرين المتعارضين من الترجيح
بالأوثقية، ونحوها من الصفات الدخيلة في زيادة قيمة الخبر، وقوة الظن
143

بصدوره، وتقريب الاستدلال كما تقدم في الطائفة السابقة.
ولا يمكن هنا حمل هذا الدليل على الحديثين القطعيين لان الأوثقية لا
اثر لها فيهما ما دام كل منهما مقطوع الصدور.
الطائفة العاشرة: ما دل بشكل وآخر على الارجاع إلى كلي الثقة اما
ابتداء، واما تعليلا للارجاع إلى اشخاص معينين على نحو يفهم منه
الضابط الكلي. وهذه الطائفة هي أحسن ما في الباب.
وفي روايات هذه الطائفة ما لا يخلو من مناقشة أيضا من قبيل قوله:
" فإنه لا عذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا قد عرفوا
بأننا نفاوضهم بسرنا، ونحمله إياهم إليهم " فان عنوان ثقاتنا أخص من
عنوان الثقات ولعله يتناول خصوص الاشخاص المعتمدين شخصيا
للامام، والمؤتمنين من قبله فلا يدل على الحجية في نطاق أوسع من ذلك.
وفي روايات هذه الطائفة ما لا مناقشة في دلالتها، من قبيل ما رواه
محمد بن عيسى: " قال: قلت لابي الحسن الرضا: جعلت فداك اني لا
أكاد أصل إليك لأسألك عن كل ما احتاج إليه من معالم ديني أفيونس بن
عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني، فقال: نعم " ولما
كان المركز في ذهن الراوي ان مناط التحويل هو الوثاقة، وأقره الامام على
ذلك دل الحديث على حجية خبر الثقة.
غير أن عدد الروايات التامة دلالة على هذا المنوال لا يبلغ مستوى
التواتر لأنه عدد محدود. نعم قد تبذل عنايات في تجميع ملاحظات توجب
الاطمئنان الشخصي بصدور بعض هذه الروايات لمزايا في رجال سفدها
ونحو ذلك.
والطريق الآخر لاثبات السنة هو السيرة وذلك بتقريبين.
الأول: الاستدلال بسيرة المتشرعة من أصحاب الأئمة على العمل
باخبار الثقات وقد تقدم في الحلقة السابقة بيان الطريق لاثبات هذه
144

السيرة، كما تقدم كيفية استكشاف الدليل الشرعي عن طريق السيرة سواء
كانت سيرة أولئك المتشرعة على ما ذكرناه بوصفهم الشرعي، أو بما هم
عقلاء. الثاني: الاستدلال بسيرة العقلاء على التعويل على اخبار الثقات،
وذلك أن شأن العقلاء سواء - في مجال أغراضهم الشخصية التكوينية، أو
في مجال الأغراض التشريعية وعلاقات الآمرين بالمأمورين - العمل بخبر
الثقة، والاعتماد عليه، وهذا الشأن العام للعقلاء يوجب قريحة، وعادة
لو ترك العقلاء على سجيتهم لأعملوها في علاقاتهم مع الشارع، ولعولوا
على اخبار الثقات في تعيين احكامه وفي حالة من هذا القبيل لو أن الشارع
كان لا يقر حجية خبر الثقة لتعين عليه الردع عنها حفاظا على غرضه،
فعدم الردع حينئذ معناه التقرير ومؤداه الامضاء.
والفارق بين التقريبين ان التقريب الأول يتكفل مؤونة اثبات جري
أصحاب الأئمة فعلا على العمل بخبر الثقة، بينما التقريب الثاني لا يدعي
ذلك، بل يكتفي باثبات الميل العقلائي العام إلى العمل بخبر الثقة الامر
الذي يفرض على الشارع الردع عنه - على فرض عدم الحجية - لئلا يتسرب
هذا الميل إلى مجال الشرعيات.
وهناك اعتراض يواجه الاستدلال بالسيرة، وهو ان السيرة مردوع
عنها بالآيات الناهية عن العمل بالظن الشاملة باطلاقها لخبر الواحد.
وتوجد عدة أجوبة على هذا الاعتراض:
الجواب الأول: ما ذكره المحقق النائيني - رحمه الله - من أن السيرة
حاكمة على تلك الآيات لأنها تخرج خبر الثقة عن الظن، وتجعله علما بناء
على مسلك جعل الطريقية في تفسير الحجية.
ونلاحظ على ذلك:
أولا - انه إذا كان معنى الحجية جعل الامارة علما، كان مفاد الآيات
145

النافية لحجية غير العلم نفي جعلها علما، وهذا يعني ان مدلولها في عرض
مدلول ما يدل على الحجية. وكلا المدلولين موضوعها ذات الظن فلا معنى
لحكومته المذكورة.
ثانيا - " ان الحاكم ان كان هو نفس البناء العقلائي فهذا غير معقول
لان الحاكم يوسع موضوع الحكم. أو يضيقه في الدليل المحكوم، وذلك
من شأن نفس جاعل الحكم المراد توسيعه، أو تضيقه ولا معنى لان يوسع
العقلاء، أو يضيقون حكما مجعولا من قبل غيرهم.
وان كان الحاكم الموسع والمضيق هو الشارع بإمضائه للسيرة، فهذا
يعنى انه لا بد لنا من العلم بالامضاء لكي نحرز الحاكم. والكلام في أنه
كيف يمكن احراز الامضاء مع وجود النواهي المذكورة الدالة على عدم
الحجية؟
الجواب الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية - رحمه الله - من أن الردع
عن السيرة بتلك العمومات الناهية غير معقولا لأنه دور، وبيانه ان الردع
بالعمومات عنها يتوقف على حجية تلك العمومات في العموم وهذه الحجية
تتوقف على عدم وجود مخصص لها، وعدم وجود مخصص يتوقف على كونها
رادعة عن السيرة، والا لكانت مخصصة بالسيرة ولسقطت حجيتها في
العموم.
والجواب على ذلك أن توقف الردع بالعمومات على حجيتها في
العموم صحيح غير أن حجيتها كذلك لا تتوقف على عدم وجود مخصص
لها، بل على عدم احراز المخصص، وعدم احراز المخصص حاصل فعلا
ما دامت السيرة ما لم يعلم بامضائها فلا دور.
الجواب الثالث: ما ذكره المحقق الأصفهاني - رحمه الله - من أن ظهور
العمومات المدعى ردعها لا دليل على حجيته، لان الدليل على حجية
الظهور هو السيرة العقلائية، ومع انعقادها على العمل بخبر الثقة لا يمكن
146

انعقادها على العمل بالظهور المانع عن ذلك لان العمل بالمتناقضين غير
معقول.
وهذا الجواب غريب لان انعقاد السيرة على العمل بالظهور معناه
انعقادها على اكتشاف مراد المولى بالظهور، وتنجزه بذلك، وهذا لا ينافي
استقرار عمل آخر لهم على خلاف ما تنجز بالظهور، فالعمل العقلائي
بخبر الثقة ينافي مدلول الظهور في العمومات الناهية ولا ينافي نفس بنائهم
على العمل بهذا الظهور وجعله كاشفا وحجة.
فالصحيح في الجواب ان يقال إنه ان ادعي كون العمومات رادعة
عن سيرة المتشرعة المعاصرين للمعصومين من صحابة ومحدثين، فهذا
خلاف الواقع، لأننا أثبتنا في التقريب الأول ان هذه السيرة كانت قائمة
فعلا على الرغم من تلك العمومات. وهذا يعني انها لم تكن كافية للردع،
وإقامة الحجة وان ادعي كونها رادعة عن السيرة العقلائية بالتقريب الثاني،
فقد يكون له وجه، ولكن الصحيح مع هذا عدم صلاحيتها لذلك أيضا،
لان مثل هذا الامر المهم لا يكتفي في الردع عنه عادة باطلاق دليل من
هذا القبيل.
3 - واما دليل العقل فله شكلان:
أ - الشكل الأول ويتلخص في الاستدلال على حجية الروايات
الواصلة الينا عن طريق الثقات من الرواة بالعلم الاجمالي وبيانه: انا نعلم
اجمالا بصدور عدد كبير من هذه الروايات عن المعصومين عليهم السلام،
والعلم الاجمالي منجز بحكم العقل كالعلم التفصيلي على ما تقدم في حلقة
سابقة. فتجب موافقته القطعية، وذلك بالعمل بكل تلك الروايات التي
يعلم اجمالا بصدور قسط وافر منها.
وقد اعترض على هذا الدليل باعتراضين:
147

الأول - نقضي: وحاصله انه لو تم هذا، لأمكن بنفس الطريقة
اثبات حجية كل خبر حتى اخبار الضعاف لأننا إذا لاحظنا مجموع الاخبار
بما فيها الاخبار الموثقة وغيرها نجد انا نعلم اجمالا أيضا بصدور عدد كبير
منها، فهل يلتزم بوجوب العمل بكل تلك الأخبار تطبيقا لقانون منجزية
العلم الاجمالي؟
والجواب على هذا النقض ما ذكره صاحب الكفاية من انحلال أحد
العلمين الاجماليين بالآخر وفقا لقاعدة انحلال العلم الاجمالي الكبير،
بالعلم الاجمالي الصغير - المتقدمة في الحلقة السابقة - إذ يوجد لدينا علمان
اجماليان: الأول: العلم الذي أبرز من خلال هذا النقض وأطرافه كل
الاخبار.
والثاني: العلم المستدل به وأطرافه اخبار الثقات.
ولانحلال علم اجمالي بعلم اجمالي ثان وفقا للقاعدة التي أشرنا إليها
شرطان - كما تقدم في محله -:
أحدهما: ان تكون أطراف الثاني بعض أطراف الأول.
والآخر: أن لا يزيد المعلوم بالأول عن المعلوم بالثاني، وكلا
الشرطين منطبقان في المقام فان العلم الاجمالي الثاني في المقام - اي العلم
المستدل به على الحجة - أطرافه بعض أطراف العلم الأول الذي أبرز في
النقض، والمعلوم في الأول لا يزيد على المعلوم فيه فينحل الأول بالثاني
وفقا للقاعدة المذكورة.
الثاني جواب حلي،: وحاصله ان تطبيق قانون تنجيز العلم
الاجمالي لا يحقق الحجية بالمعنى المطلوب في المقام، وذلك:
أولا - لان هذا العلم لا يوجب لزوم العمل بالاخبار المتكفلة
للاحكام الترخيصية لان العلم الاجمالي انما يكون منجزا، وملزما في حالة
كونه علما اجماليا بالتكليف لا بالترخيص بينما الحجية المطلوبة هي حجية
148

خبر الثقة بمعنى كونه منجزا إذا أنبأ عن التكليف، ومعذرا إذا أنبأ عن
الترخيص.
وثانيا - لان العمل باخبار الثقات على أساس العلم الاجمالي انما هو
من أجل الاحتياط للتكاليف المعلومة بالاجمال.
ومن الواضح ان الاحتياط لا يسوغ ان يجعل خبر الثقة مخصصا
لعام، أو مقيدا لمطلق في دليل قطعي الصدور، فان التخصيص والتقييد
معناه رفع اليد عن عموم العام، أو اطلاق المطلق في دليل قطعي
الصدور، ومعلوم الحجية.
ومن الواضح انه لا يجوز رفع اليد عما هو معلوم الحجية الا بحجية
أخرى تخصيصا، أو تقييدا، فما لم تثبت حجية خبر الثقة لا يمكن
التخصيص بها، أو التقييد، فإذا ورد مطلق قطعي الصدور يدل على
الترخيص في اللحوم مثلا: وورد خبر ثقة على حرمة لحم الأرنب لم يكن
بالامكان الالتزام بتقييد ذلك المطلق بهذا الخبر ما لم تثبت حجيته بدليل
شرعي اللهم الا ان يقال ان مجموعة العمومات، والمطلقات الترخيصية في
الأدلة القطعية الصدور يعلم اجمالا بطرق التخصيص والتقييد عليها، فإذا
لم تثبت حجية خبر الثقة بدليل خاص فسوف لن نستطيع ان نعين مواطن
التخصيص والتقييد، وهذا يجعلنا لا نعمل بها جميعا تنفيذا لقانون تنجيز
العلم الاجمالي، وبهذا ننتهي إلى طرح اطلاق ما دل على حلية اللحوم في
المثال، والتقيد احتياطا بما دل على حرمة لحم الأرنب مثلا. وهذه نتيجة
مشابهة للنتيجة التي ينتهى إليها عن طريق التخصيص والتقييد.
ب - الشكل الثاني للدليل العقلي ما يسمى بدليل الانسداد وهو - لو
تم - يثبت حجية الظن بدون اختصاص بالظن الناشئ من الخبر فيكون
دليلا على حجية مطلق الامارات الظنية بما في ذلك اخبار الثقات وقد بين
ضمن مقدمات:
149

الأولى - انا نعلم اجمالا بتكاليف شرعية كثيرة في مجموع الشبهات،
ولا بد من التعرض لامتثالها بحكم تنجيز العلم الاجمالي.
الثانية - انه لا يوجد طريق معتبر - لا قطعي وجداني، ولا تعبدي
قام الدليل الشرعي الخاص على حجيته - يمكن التعويل عليه في تعيين
مواطن تلك التكاليف ومحالها، وهذا ما يعبر عنه بانسداد باب العلم
والعلمي.
الثالثة ان الاحتياط بالموافقة القطعية للعلم الاجمالي المذكور في
المقدمة الأولى غير واجب، لأنه يؤدي إلى العسر والحرج نظرا إلى كثرة
أطراف العلم الاجمالي.
الرابعة - انه لا يجوز الرجوع إلى الأصول العملية في كل شبهة
باجراء البراءة ونحوها، لان ذلك على خلاف قانون تنجيز العلم الاجمالي.
الخامسة - انه ما دام لا يجوز إهمال العلم الاجمالي، ولا يتيسر تعيين
المعلوم الاجمالي بالعلم والعلمي، ولا يراد منا الاحتياط في كل واقعة، ولا
يسمح لنا بالرجوع إلى الأصول العملية فنحن إذن بين امرين: اما ان
نأخذ بما نظنه من التكاليف ونترك غيرها، واما ان نأخذ بغيرها، ونترك
المظنونات.
والثاني ترجيح للمرجوح على الراجح فيتعين الأول، وبهذا يثبت
حجية الظن بما في ذلك اخبار الثقات.
ونلاحظ على هذا الدليل:
أولا - انه يتوقف على عدم قيام دليل شرعي خاص على حجية خبر
الثقة، والا كان باب العلمي مفتوحا وأمكن باخبار الثقات تعيين التكاليف
المعلومة بالاجمال فكأن دليل الانسداد ينتهي إليه حيث لا يحصل الفقيه على
اي دليل شرعي خاص يدل على حجية بعض الامارات الشائعة.
150

وثانيا - ان العلم الاجمالي المذكور في المقدمة الأولى منحل بالعلم
الاجمالي في دائرة الروايات الواصلة الينا عن طريق الثقات، كما تقدم.
والاحتياط التام في حدود هذا العلم الاجمالي ليس فيه عسر ومشقة.
وثالثا - انا إذا سلمنا عدم وجوب الاحتياط التام - لأنه يؤدي إلى
العسر والحرج - فهذا انما يقتضى رفع اليد عن المرتبة العليا من الاحتياط
بالقدر الذي يندفع به العسر والحرج، مع الالتزام بوجوب سائر مراتبه،
لان الضرورات تقدر بقدرها فيكون الاخذ بالمظنونات حينئذ باعتباره مرتبة
من مراتب الاحتياط الواجبة وأين هذا من حجية الظن. اللهم الا ان
يدعى قيام الاجماع. على أن الشارع لا يرضى بابتناء التعامل مع الشريعة
على أساس الاحتياط فإذا ضمت هذه الدعوى أمكن ان نستكشف حينئذ
انه جعل الحجية للظن.
وقد تلخص من استعراض أدلة الحجية ان الاستدلال بآية النبأ تام،
وكذلك بالسنة الثابتة بطريق قطعي كسيرة المتشرعة، والسيرة العقلائية.
المرحلة الثانية
في تحديد دائرة حجية الاخبار
ونأتي الآن إلى المرحلة الثانية في تحديد دائرة هذه الحجية، وشروطها
والتحقيق في ذلك أن مدرك حجية الخبر ان كان مختصا بآية النبأ فهو لا
يثبت سوى حجية خبر العادل خاصة، ولا يشمل خبر الثقة غير العادل
واما إذا لم يكن المدرك مختصا بذلك وفرض الاستدلال بالسيرة والروايات
أيضا على ما تقدم فلا شك في وفاء السيرة والروايات باثبات الحجية لخبر
الثقة ولو لم يكن عادلا.
ومن هنا قد توقع المعارضة بالعموم من وجه بين ما دل على حجية
151

خبر الثقة الشامل باطلاقه للثقة الفاسق، ومنطوق آية النبأ الدال باطلاقه
على عدم حجية خبر الفاسق ولو كان ثقة.
وقد يقال حينئذ بالتعارض والتساقط والرجوع إلى أصالة عدم حجية
خبر الثقة الفاسق إذ لم يتم الدليل على حجيته، ولكن الصحيح انه لا
اطلاق في منطوق الآية الكريمة لخبر الثقة الفاسق لان التعليل بالجهالة
يوجب اختصاصه بموارد يكون العمل فيها بخبر الفاسق سفاهة وهذا يختص
بخبر غير الثقة فلا تعارض اذن، وبذلك يثبت حجية خبر الثقة دون
غيره.
وهل يسقط خبر الثقة عن الحجية إذا وجدت امارة ظنية نوعية على
كذبه؟ وهل يرتفع خبر غير الثقة إلى مستوى الحجية إذا توفرت امارة من
هذا القبيل على صدقه؟ فيه بحث وكلام، وقد تقدم وكلام موجز عن
تحقيق ذلك في الحلقة السابقة.
ولا شك في أن أدلة حجية خبر الثقة، والعادل، لا تشمل الخبر
الحدسي المبني على النظر والاستنباط، وانما تختص بالخبر الحسي المستند إلى
الإحساس بالمدلول كالاخبار عن نزول المطر، أو الإحساس بآثاره ولوازمه
العرفية كالاخبار عن العدالة.
وعلى هذا فقول المفتي ليس حجة على المفتي الآخر بلحاظ أدلة
حجية خبر الثقة لان اخباره بالحكم الشرعي ليس حسيا، بل حدسيا
واجتهاديا نعم هو حجة على مقلديه بدليل حجية قول اهل الخبرة والذكر.
ومن أجل ذلك يقال بان الشخص إذا اكتشف بحدسه، واجتهاده
قول المعصوم عن طريق اتفاق عدد معين من العلماء على الفتوى فأخبر
بقول المعصوم استنادا إلى اتفاق ذلك العدد لم يكن اخباره حجة في اثبات
قول المعصوم، لأنه ليس اخبارا حسيا عنه وانما يكون حجة في اثبات اتفاق
ذلك العدد من العلماء على الفتوى - إذا لم يعلم منه التسامح عادة في مثل
152

ذلك - لان اخباره عن اتفاق هذا العدد حسي فإن كان اتفاق هذا العدد
يكشف في رأينا عن قول المعصوم استكشفناه وإلا فلا.
وعلى هذا الأساس نعرف الحال في الاجماعات المنقولة فإنه كان يقال
عادة ان نقل الاجماع حجة في اثبات الحكم الشرعي لأنه نقل بالمعنى لقول
المعصوم واخبار عنه. وقد اعترض على ذلك المحققون المتأخرون بأنه ليس
نقلا حسيا لقول المعصوم، بل هو نقل حدسي مبني على ما يراه الناقل من
كشف اتفاق الفتاوى التي لاحظها عن قول المعصوم فلا يكون حجة في
اثبات قول المعصوم بل في اثبات تلك الفتاوى فقط
. حجية الخبر مع الواسطة:
ولا شك في أن حجية الخبر تتقوم بركنين:
أحدهما: بمثابة الموضوع لها وهو نفس الخبر.
والآخر: بمثابة الشرط وهو وجود اثر شرعي لمدلول الخبر لوضوح انه
إذا لم يكن لمدلوله اثر كذلك فلا معنى للتعبد به وجعل الحجية له.
والحجية متأخرة رتبة عن الخبر تأخر الحكم عن موضوعه، وعن
افتراض اثر شرعي لمدلول الخبر تأخر المشروط عن شرطه. وعلى هذا
الأساس قد يستشكل في شمول دليل الحجية للخبر مع الواسطة وتوضيح
ذلك انا إذا سمعنا زرارة ينقل عن الامام ان السورة واجبة أمكننا التمسك
بدليل الحجية بدون شك، لان كلا الركنين ثابت، فان خبر زرارة ثابت
لدينا وجدانا بحسب الفرض، ومدلوله ذو أثر شرعي لأنه يتحدث عن
وجوب السورة، واما إذا نقل شخص عن زرارة الكلام المذكور فقد يتبادر
إلى الذهن اننا نتمسك بدليل الحجية أيضا وذلك بتطبيقه على الشخص
الناقل عن زرارة أولا، فان اخباره ثابت لنا وجدانا وعن طريق حجيته
يثبت لدينا خبر زرارة، كما لو كنا سمعنا منه وحينئذ نطبق دليل الحجية
153

على خبر زرارة لاثبات كلام الامام، ولكن قد استشكل في ذلك وقيل بان
تطبيق دليل الحجية على هذا الترتيب مستحيل وبيان الاستحالة بتقريبين:
الأول - انه يلزم منه اثبات الحكم لموضوعه مع أن الحكم متأخر رتبة
عن موضوعه وذلك لان خبر زرارة لم يثبت الا بلحاظ دليل الحجية مع أنه
موضوع للحجية المستفادة من ذلك الدليل وهذا معنى اثبات الحكم
لموضوعه.
الثاني - انه يلزم منه اتحاد الحكم مع شروطه على الرغم من تأخر
الحكم رتبة عن شرطه، وذلك لان حجية خبر الناقل عن زرارة مشروطة
بوجود اثر شرعي لما ينقله هذا الناقل وهو انما ينقل خبر زرارة، ولا أثر
شرعيا لخبر زرارة الا الحجية فقد صارت الحجية محققة لشرط نفسها.
وجواب كلا التقريبين: ان حجية الخبر مجعولة على نهج القضية
الحقيقية على موضوعها، وشرطها المقدر الوجود، وفعلية الحجية المجعولة
بفعلية الموضوع والشرط المقدر وتعدد الحجية الفعلية بتعددهما، كما هو
الشأن في سائر الاحكام المجعولة على هذا النحو.
وعليه فنقول: انه توجد في المقام حجيتان:
الأولى: حجية خبر الناقل عن زرارة.
والثانية: حجية خبر زرارة.
وما هو الموضوع للحجية الثانية هو خبر زرارة لم يثبت بالحجية
الثانية، بل بالحجية الأولى فلا يلزم المحذور المذكور في التقريب الأول،
كما أن الشرط المصحح للحجية الأولى وهو الأثر الشرعي يتمثل في الحجية
الثانية لا في الحجية الأولى فلا يلزم المحذور المذكور في التقريب الثاني.
154

قاعدة التسامح في أدلة السنن:
ذكرنا أن موضوع الحجية ليس مطلق الخبر، بل خبر الثقة على
تفصيلات متقدمة، ولكن قد يقال في خصوص باب المستحبات، أو
الاحكام غير الالزامية عموما ان موضوع الحجية مطلق الخبر، ولو كان
ضعيفا استنادا إلى روايات دلت على أن من بلغه عن النبي ثواب على عمل
فعمله كان له مثل ذلك وان كان النبي لم يقله، كصحيحة هشام ابن سالم
عن أبي عبد الله عليه السلام: " قال: من سمع شيئا من الثواب على
شئ فصنعه كان له اجره وإن لم يكن على ما بلغه " بدعوى أن هذه
الروايات تجعل الحجية لمطلق البلوغ في موارد المستحبات.
والتحقيق ان هذه الروايات فيها - بدوا - أربعة احتمالات:
الأول: ان تكون في مقام جعل الحجية لمطلق البلوغ.
الثاني: ان تكون في مقام انشاء استحباب واقعي نفسي، على طبق
البلوغ بوصفه عنوانا ثانويا.
الثالث: ان تكون ارشادا إلى حكم العقل بحسن الاحتياط،
واستحقاق المحتاط للثواب.
الرابع: ان تكون وعدا مولويا لمصلحة في نفس الوعد، ولو كانت
هذه المصلحة هي الترغيب في الاحتياط باعتبار حسنه عقلا.
والفارق بين هذه الاحتمالات الأربعة من الناحية النظرية واضح.
فالاحتمال الثالث يختلف عن الباقي في عدم تضمنه اعمال المولوية بوجه.
والاحتمالان الأخيران يختلفان عن الأولين في عدم تضمنهما جعل
الحكم، ويختلف الأول عن الثاني - مع اشتراكهما في جعل الحكم - في أن
الحكم المجعول على الأول ظاهري، وعلى الثاني واقعي.
155

واما الأثر العملي لهذه الاحتمالات فهو واضح أيضا إذ لا يبرر
الاحتمالان الأخيران الافتاء بالاستحباب بينما يبرر الاحتمالان الأولان
ذلك.
ولكن قد يقال - كما عن السيد الأستاذ -: انه لا ثمرة عملية يختلف
بموجبها الاحتمالان الأولان لأنهما معا يسوغان الفتوى بالاستحباب ولا فرق
بينهما في الآثار، ولكن التحقيق وجود ثمرات عملية يختلف بموجبها
الاحتمال الأول عن الاحتمال الثاني خلافا لما افاده - دام ظله - ونذكر فيما
يلي جملة من الثمرات:
الثمرة الأولى: ان يدل خبر ضعيف على استحباب فعل، وخبر ثقة
على نفي استحبابه فإذا بني على الاحتمال الأول وقع التعارض بين الخبرين
لحجية كل منهما بحسب الفرض ونظرهما معا إلى حكم واقعي واحد اثباتا
ونفيا. وإذا بني على الاحتمال الثاني فلا تعارض لان الخبر الضعيف
الحاكي عن الاستحباب لا يثبت مؤداه ليعارض الخبر النافي له بل هو
بنفسه يكون موضوعا لاستحباب واقعي مترتب على عنوان البلوغ، والبلوغ
محقق، وكونه معارضا لا ينافي صدق عنوان البلوغ فيثبت الاستحباب.
الثمرة الثانية: ان يدل خبر ضعيف على وجوب شئ فعلى
الاحتمال الثاني لا شك في ثبوت الاستحباب لأنه مصداق لبلوغ الثواب
على عمل، واما على الاحتمال الأول فلا يثبت شئ لان اثبات الوجوب
بالخبر الضعيف متعذر لعدم حجيته في اثبات الأحكام الإلزامية، واثبات
الاستحباب به متعذر أيضا لأنه لا يدل عليه فكيف يكون طريقا وحجة
لاثبات غير مدلوله، واثبات الجامع بين الوجوب الاستحباب به متعذر
أيضا لأنه مدلول تحليلي للخبر فلا يكون حجة لاثباته عند من يرى -
كالسيد الأستاذ - ان حجية الخبر في المدلول التحليلي متوقفة على حجيته في
المدلول المطابقي بكامله.
الثمرة الثالثة: ان يدل خبر ضعيف على استحباب الجلوس في
156

المسجد إلى طلوع الشمس مثلا على نحو لا يفهم منه ان الجلوس بعد ذلك
مستحب أولا.
فعلى الاحتمال الأول يجري استصحاب بقاء الاستحباب وعلى الثاني
لا يجري لأنه مجعول بعنوان ما بلغه ثواب عليه وهذا مقطوع الارتفاع
لاختصاص البلوغ بفترة ما قبل الطلوع.
ومهما يكن فلا شك في أن الاحتمال الأول مخالف لظاهر الدليل كما
تقدم في الحلقة السابقة فلا يمكن الالتزام بتوسعة دائرة حجية الخبر في باب
المستحبات.
157

البحث الثالث
في حجية الظهور
أقسام الدلالة:
الدليل الشرعي قد يكون مدلوله مرددا بين امرين، أو أمور، وكلها
متكافئة في نسبتها إليه، وهذا هو المجمل، وقد يكون مدلوله متعينا في امر
محدد ولا يحتمل مدلولا آخر بدلا عنه، وهذا هو النص، وقد يكون قابلا
لاحد مدلولين، ولكن واحدا منهما هو الظاهر عرفا، والمنسبق إلى ذهن
الانسان العرفي، وهذا هو الدليل الظاهر.
اما المجمل فيكون حجة في اثبات الجامع بين المحتملات إذا كان له
على اجماله اثر قابل للتنجيز ما لم يحصل سبب من الخارج يبطل هذا
التنجيز، اما بتعيين المراد من المجمل مباشرة، واما بنفي أحد المحتملين،
فإنه بضمه إلى المجمل يثبت كون المراد منه المحتمل الآخر، واما بمجمل
آخر مردد بين محتملين، ويعلم بان المراد بالمجملين معا معنى واحد وليس
هناك الا معنى واحد قابل لهما معا فيحملان عليه، واما بقيام دليل على
اثبات أحد محتملي المجمل فإنه وان كان لا يكفي لتعيين المراد من المجمل
في حالة عدم التنافي بين المحتملين، ولكنه يوجب سقوط حجية المجمل
في اثبات الجامع وعدم تنجزه، لان تنجز الجامع بالمجمل انما هو لقاعدة
منجزية العلم الاجمالي، وهذه القاعدة لها أركان أربعة وفي مثل الفرض
المذكور يختل ركنها الثالث، كما أوضحنا ذلك في الحلقة السابقة حيث إن
158

أحد المحتملين إذا ثبت بدليل فلا يبقى محذور في نفي المحتمل الاخر
بالأصل العملي المؤمن.
واما النص فلا شك في لزوم العمل به ولا يحتاج إلى التعبد بحجية
الجانب الدلالي منه إذا كان نصا في المدلول التصوري، والمدلول التصديقي
معا.
دليل حجية الظهور:
واما الظهر فظهوره حجة وهذه الحجية هي التي تسمى بأصالة
الظهور، ويمكن الاستدلال عليها بوجوه:
الوجه الأول: الاستدلال بالسنة المستكشفة من سيرة المتشرعين من
الصحابة، وأصحاب الأئمة عليهم السلام حيث كان عملهم على الاستناد
إلى ظواهر الأدلة الشرعية في تعيين مفادها، وقد تقدم في الحلقة السابقة
توضيح الطريق لاثبات هذه السيرة.
الوجه الثاني: الاستدلال بالسيرة العقلائية على العمل بظواهر
الكلام، وثبوت هذه السيرة عقلائيا مما لا شك فيه لأنه محسوس
بالوجدان، ويعلم بعدم كونها سيرة حادثة بعد عصر المعصومين إذ لم يعهد
لها بديل في مجتمع من المجتمعات، ومع عدم الردع الكاشف عن التقرير
والامضاء شرعا تكون هذه السيرة دليلا على حجية الظهور.
الوجه الثالث: التمسك بما دل على لزوم التمسك بالكتاب والسنة،
والعمل بهما بتقريب ان العمل بظاهر الآية، أو الحديث مصداق عرفا لما
هو المأمور به في تلك الأدلة فيكون واجبا، ومرجع هذا الوجوب إلى
الحجية.
وبين هذه الوجوه فوارق. فالوجه الثالث مثلا بحاجة إلى تمامية دليل
159

على حجية الظهور، ولو في الجملة دونهما لان مرجعه إلى الاستدلال بظهور
الأحاديث الآمرة بالتمسك واطلاقها، فلا بد من فرض حجية هذا الظهور
في الرتبة السابقة.
كما أن الوجهين الأولين يجب أن لا يدخل في تتميمهما التمسك
بظهور حال المولى لاثبات الامضاء، لان الكلام الآن في حجيته، كما
أشرنا إلى ذلك في الحلقة السابقة.
وقد يلاحظ على الوجه الأول ان سيرة المتشرعة وان كان من المعلوم
انعقادها في أيام النبي صلى الله عليه وآله والأئمة على العمل بظواهر الدليل الشرعي،
ولكن الشواهد التاريخية انما تثبت ذلك على سبيل الاجمال ولا يمكن التأكد
من استقرار سيرتهم على العمل بالظواهر في جميع الموارد، فهناك حالات
تكون حجية الظهور أخفي من غيرها كحالة احتمال اتصال الظهور بقرينة
متصلة فقد بني المشهور على حجية الظهور في هذه الحالة خلافا لما اخترناه
في حلقة سابقة.
وهنا نقول إن مدرك الحجية إذا كان هو سيرة المتشرعة المعاصرين
للمعصومين فكيف نستطيع ان نتأكد انها جرت فعلا على العمل بالظهور في
هذه الحالة بالذات، واما إذا كان مدرك الحجية السيرة العقلائية، فيمكن
للقائلين بالحجية ان يدعوا شمول الوجدان العقلائي لهذه الحالة أيضا.
وقد يلاحظ على الوجه الثاني وهو الاستدلال بالسيرة العقلائية
امران:
أحدهما: انه قاصر عن الشمول لموارد وجود امارة معتبرة عقلائيا على
خلاف الظهور ولو لم تكن معتبرة شرعا، كالقياس مثلا - لو قيل بان
العقلاء يعتمدون عليه في رفع اليد عن الظهور - فلا يمكن اثبات حجية
الظهور المبتلى بهذه الامارة على الخلاف بالسيرة العقلائية إذ لا سيرة من
العقلاء على العمل بمثل هذا الظهور فعلا - اللهم - الا إذا استفيد من دليل
160

اسقاطها عن الحجية تنزيلها منزلة العدم بلحاظ تمام الآثار. ولكن
الصحيح ان هذا الكلام انما يتجه لو قيل بان الامضاء يتحدد بحدود
العمل الصامت للعقلاء.
غير انك عرفت في الحلقة السابقة ان الامضاء يتجه إلى النكتة
المرتكزة التي هي أساس العمل وهي في المقام الحجية الاقتضائية للظهور
مطلقا. وكل حجة كذلك لا يرفع اليد عنها الا بحجة، والمفروض عدم
حجية الامارة على الخلاف شرعا فيتعين العمل بالظهور.
والامر الآخر الذي يلاحظ على الوجه الأول ان السيرة العقلائية انما
انعقدت على العمل بالظهور، واتخاذه أساسا لاكتشاف المراد في المتكلم
الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة عادة والشارع ليس من
هذا القبيل فان اعتماده على القرائن المنفصلة يعتبر حالة متعارفة ولا توجد
حالات مشابهة في العرف لحالة الشارع ليلاحظ موقف العقلاء منها. وهذا
الاعتراض انما قد يتجه إذا كان دليل الامضاء متطابقا في الموضوع مع
السيرة العقلائية. فكما أن السيرة العقلائية موضوعها المتكلم الاعتيادي
الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة، كذلك دليل الامضاء، ولكن
دليل الامضاء أوسع من ذلك لان السيرة العقلائية وان كانت مختصة بالمتكلم
الاعتيادي الا انها تقتضي الجري على طبقها في كلمات الشارع أيضا اما
للعادة، أو لعدم الاطلاع إلى فترة من الزمن على خروج الشارع في
اعتماده على القرائن المنفصلة عن الحالة الاعتيادية، وهذا يشكل خطرا على
الأغراض الشرعية يحتم الردع لو لم يكن الشارع موافقا على الاخذ بظواهر
كلامه. ومن هنا يكشف عدم الردع عن اقرار الشارع لحجية الظهور في
الكلام الصادر منه.
تشخيص موضوع الحجية:
ظهور الكلام في المعنى الحقيقي قسمان - كما تقدم - تصوري، وتصديقي.
161

والظهور التصوري كثيرا ما لا ينثلم حتى في حالة قيام القرينة المتصلة على
الخلاف. فإذا قال المولى: (اذهب إلى البحر، وخذ العلم منه) كانت
الجملة قرينة على أن المراد بالبحر معنى آخر غير معناه الحقيقي وعلى الرغم
من وجود القرينة فان الظهور التصوري لكلمة البحر في معناها الحقيقي لا
يزول، وانا يزول الظهور التصديقي في إرادة المتكلم لذلك المعنى
الحقيقي، ومن هنا صح القول بأن الظهور التصوري للفظ في معنى
الحقيقي محفوظ حتى مع القرينة المتصلة على الخلاف. وان الظهور
التصديقي له في ذلك منوط بعدم القرينة المتصلة غير أنه محفوظ حتى مع
ورود القرينة المنفصلة فان القرينة المنفصلة لا تحول دون تكون أصل
الظهور التصديقي للكلام في إرادة المعنى الحقيقي وانما تسقطه عن الحجية،
كما مر بنا في حلقة سابقة.
وعلى ضوء التمييز بين الظهور التصوري، والظهور التصديقي وبعد
الفراغ عن حجية الظهور عقلائيا، وعن سقوطها مع ورود القرينة لا بد من
البحث عن تحديد موضوع هذه الحجية، وكيفية تطبيقها على موضوعها
وبهذا الصدد نواجه عدة محتملات بدوا:
المحتمل الأول: أن يكون موضوع الحجية هو الظهور التصوري مع
عدم العلم بالقرينة على الخلاف متصلة، أو منفصلة.
المحتمل الثاني: أن يكون موضوع الحجية هو الظهور التصديقي مع
عدم صدور القرينة المنفصلة.
المحتمل الثالث: أن يكون موضوع الحجية هو الظهور التصديقي
الذي لا يعلم بوجود قرينة منفصلة على خلافه. والفارق بين هذا وسابقه
ان عدم القرينة واقعا دخيل في موضوع الحجية على الاحتمال الثاني،
وليس دخيلا على الاحتمال الثالث بل يكفي عدم العلم بالقرينة.
وتختلف هذه الاحتمالات في كيفية تطبيق الحجية على موضوعها،
162

فإنه على الاحتمال الأول تطبق حجية الظهور على موضوعها ابتداء حتى في
حالة احتمال القرينة المتصلة فضلا عن المنفصلة لان موضوعها هو الظهور
التصوري بحسب الفرض، وهذا لا يتزعزع بالقرينة المتصلة المحتملة،
فضلا عن المنفصلة، كما عرفت فلا تحتاج اذن الا إلى أصالة الظهور، واما
على الاحتمال الثاني فإنما يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرة مع الجزم
بعدم القرينة، ولا يمكن الرجوع إليها كذلك مع احتمال القرينة المتصلة
لان موضوع الحجية على هذا الاحتمال - الظهور التصديقي - وهو غير محرز
مع احتمال القرينة المتصلة على الخلاف فلو قيل بحجية الظهور في هذه
الحالة لكان اللازم أولا افتراض أصل عقلائي ينفي القرينة المتصلة لكي
ينقح موضوع أصالة الظهور بأصالة عدم القرينة. وكذلك لا يمكن الرجوع
إلى أصالة الظهور مباشرة - على الاحتمال الثاني - مع احتمال القرينة
المنفصلة لان المفروض انه قد أخذ عدمها في موضوع حجية الظهور، فمع
الشك فيها لا تحرز حجية الظهور بل يحتاج إلى أصالة عدم القرينة أولا
لتنقيح موضوع الحجية في أصالة الظهور.
واما الاحتمال الثالث فهو كالاحتمال الثاني، في عدم امكان الرجوع
إلى أصالة الظهور مباشرة، مع احتمال القرينة المتصلة لان موضوع الحجية
وهو الظهور التصديقي غير محرز مع هذا الاحتمال، الا ان الاحتمال
الثالث يختلف عن سابقه في امكان الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرة مع
احتمال القرينة المنفصلة. لان موضوع الحجية - على الاحتمال الثالث -
محرز حتى مع هذا الاحتمال بينما لم يكن محرزا معه على الاحتمال الثاني.
والتحقيق في تمحيص هذه الاحتمالات، ان الاحتمال الأول ساقط
لان المقصود من حجية الظهور، تعيين مراد المتكلم بظهور كلامه وهي انما
تناط عقلائيا بالحيثية الكاشفة عن هذا المقصود إذ ليس مبنى العقلاء في
الحجية على التعبد المحض، وما يكشف عن المراد ليس هو الظهور
التصوري، بل التصديقي فإناطة الحجية بغير حيثية الكشف بلا موجب
163

عقلائيا فيتعين أن يكون موضوع الحجية هو الظهور التصديقي.
كما أن الاحتمال الثاني ساقط أيضا، باعتبار انه يفترض الحاجة في
مورد الشك في القرينة المنفصلة إلى اجراء أصالة عدم القرينة أولا، ثم
أصالة الظهور مع أن نفي القرينة المنفصلة عند احتمالها لا مبرر له
عقلائيا، الا كاشفية الظهور التصديقي عن إرادة مفاده وان ما قاله
يريده، وهي كاشفية مساوقة لنفي القرينة المنفصلة.
وحيث إن الأصول العقلائية تعبر عن حيثيات من الكشف المعتبرة
عقلائيا وليست مجرد تعبدات بحتة فلا معنى حينئذ لافتراض أصالة
القرينة، ثم أصالة الظهور بل يرجع إلى أصالة الظهور مباشرة، لان
كاشفيته هي المناط في نفي القرينة المنفصلة، لا انها مترتبة على نفي القرينة
بأصل سابق.
وهكذا يتعين الاحتمال الثالث، وعليه فان علم بعدم القرينة
مطلقا، أو بعدم القرينة المتصلة خاصة مع الشك في المنفصلة رجعنا إلى
أصالة الظهور ابتداء وان شك في القرينة المتصلة، فهناك ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يكون الشك في وجودها لاحتمال غفلة السامع
عنها. وفي هذه الحالة تجري أصالة عدم الغفلة لأنها على خلاف العادة،
وظهور الحال وبها تنفي القرينة، وبالتالي ينقح الظهور الذي هو موضوع
الحجية. ونسمي أصالة عدم الغفلة في هذه الصورة بأصالة عدم القرينة
لأنه بها تنتفي القرينة.
الصورة الثانية: أن يكون الشك في وجودها لاحتمال اسقاط الناقل
لها. وفي هذه الحالة يمكن نفيها بشهادة الراوي المفهومة من كلامه، ولو
ضمنا بأنه استوعب في نقله تمام ما له دخل في إفادة المرام، وبذلك يحرز
موضوع أصالة الظهور.
الصورة الثالثة: أن يكون الشك في وجودها غير ناشئ من احتمال
164

الغفلة، ولا من الاسقاط المذكور فلا يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور
ابتداء للشك في موضوعها وهو الظهور التصديقي، ولا يمكن تنقيح
موضوعها باجراء أصالة عدم القرينة لأنه لا توجد حيثية كاشفة عقلائيا عن
عدم القرينة المحتملة لكي يعتبرها العقلاء، ويبنون على أصالة عدم
القرينة، وبهذا نعرف ان احتمال القرينة المتصلة في مثل هذه الحالة يوجب
الاجمال.
وبما ذكرناه اتضح ان أصالة الظهور، وأصالة عدم القرينة كل منهما
أصل عقلائي في مورده، فالأول يجري في كل مورد أحرزنا فيه الظهور
التصديقي وجدانا، أو بأصل عقلائي آخر، والثاني يجري في كل مورد
شك فيه في القرينة المتصلة لاحتمال الغفلة، ولا يرجع أحد الأصلين إلى
الآخر خلافا للشيخ الأنصاري (رحمه الله) حيث ارجع أصالة الظهور،
إلى أصالة عدم القرينة، ولصاحب الكفاية (رحمه الله) حيث ارجع أصالة
عدم القرينة إلى أصالة الظهور.
الظهور الذاتي، والظهور الموضوعي:
الظهور سواء كان تصوريا، أو تصديقيا تارة يراد به الظهور في ذهن
انسان معين وهذا هو الظهور الذاتي، وأخرى يراد به الظهور بموجب
علاقات اللغة، وأساليب التعبير العام، وهذا هو الظهور الموضوعي.
والأول يتأثر بالعوامل والظروف الشخصية للذهن التي تختلف من فرد إلى
آخر تبعا إلى أنسه الذهني، وعلاقاته بخلاف الثاني الذي له واقع محدد
يتمثل في كل ذهن يتحرك بموجب علاقات اللغة، وأساليب التعبير العام،
وما هو موضوع الحجية الظهور الموضوعي لان هذه الحجية قائمة على
أساس ان ظاهر حال كل متكلم إرادة المعنى الظاهر من اللفظ ومن الواضح
ان ظاهر حاله باعتباره انسانا عرفيا إرادة ما هو المعنى الظاهر موضوعيا لا ما
هو الظاهر نتيجة لملابسات شخصية في ذهن هذا السامع أو ذاك.
165

واما الظهور الذاتي وهو ما قد يعبر عنه بالتبادر، أو الانسباق فيمكن
ان يقال بأنه امارة عقلائية على تعيين الظهور الموضوعي فكل انسان إذا
انسبق إلى ذهنه معنى مخصوص من كلام ولم يجد بالفحص شيئا محددا
شخصيا يمكن ان يفسر ذلك الانسباق فيعتبر هذا الانسباق دليلا على
الظهور الموضوعي.
وبهذا ينبغي ان يميز بين التبادر على مستوى الظهور الذاتي، والتبادر
على مستوى الظهور الموضوعي.
فالأول: كاشف عن الظهور الموضوعي وبالتالي عن الوضع.
والثاني: كاشف إني تكويني - مع عدم القرينة - عن الوضع.
الظهور الموضوعي في عصر النص:
لا شك في أن ظواهر اللغة والكرم تتطور، وتتغير على مر الزمن
بفعل مؤثرات مختلفة لغوية، وفكرية، واجتماعية. فقد يكون ما هو
المعنى الظاهر في عصر صدور الحديث مخالفا للمعنى الظاهر في عصر
السماع الذي يراد العمل فيه بذلك الحديث، وموضوع حجية الظهور في
عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له لأنها حجية عقلائية قائمة
على أساس حيثية الكشف والظهور الحالي.
ومن الواضح ان ظاهر حال المتكلم إرادة ما هو المعنى الظاهر فعلا
في زمان صدور الكلام منه وعليه فنحن بالتبادر نثبت - بطريق الإن -
الظهور الذاتي، وبالظهور الذاتي نثبت الظهور الموضوعي في عصر السماع
ويبقى علينا ان نثبت ان الظهور الموضوعي في عصر السماع،
مطابق للظهور الموضوعي في عصر الكلام الذي هو موضوع الحجية وهذا
ما نثبته بأصل عقلائي يطلق عليه أصالة عدم النقل وقد
نسميه بأصالة الثبات في اللغة، وهذا الأصل العقلائي يقوم على
166

أساس ما يخيل لأبناء العرف، نتيجة للتجارب الشخصية - من استقرار
اللغة وثباتها، فان الثبات النسبي، والتطور البطئ للغة يوحي للافراد
الاعتياديين بفكرة عدم تغيرها وتطابق ظواهرها على مر الزمن، وهذا
الايحاء وان كان خادعا، ولكنه على اي حال إيحاء عام استقر بموجبه البناء
العقلائي على إلغاء احتمال التغيير في الظهور باعتباره حالة استثنائية نادرة
تنفي بالأصل، وبامضاء الشارع للبناء المذكور نثبت شرعية أصالة عدم
النقل، أو أصالة الثبات، ولا يعني الامضاء تصويب الشارع للايحاء
المذكور، وانما يعني من الناحية التشريعية جعله احتمال التطابق حجة ما لم
يقم دليل على خلافه.
ولا شك أيضا في أن المتشرعة الذين عاصروا المعصومين خلال أجيال
عديدة طيلة قرنين ونصف من الزمان، كانت سيرتهم على العمل بأصالة
عدم النقل، وعلى الاستناد في أواسط هذه الفترة وأواخرها إلى ما يرونه
من ظواهر الكلام الصادر في بدايات تلك الفترة مع أنها كانت فترة حافلة
بمختلف المؤثرات، والتجديدات الاجتماعية، والفكرية التي قد يتغير
الظهور بموجبها.
ولكن أصالة عدم النقل لا تجري فيما إذا علم بأصل التغير في
الظهور أو الوضع، وشك في تاريخه لعدم انعقاد البناء العقلائي في هذه
الحالة على افتراض عدم النقل في الفترة المشكوكة، والسر في ذلك أن
البناءات العقلائية انما تقوم على أساس حيثيات كشف عامة نوعية فحينما
يلغى احتمال النقل عرفا يستند العقلاء في تبرير ذلك إلى أن النقل حالة
استثنائية في حياة اللغة بحسب نظرهم، واما حيث تثبت هذه الحالة
الاستثنائية فلا تبقى حيثية كشف مبررة للبناء على نفي احتمال تقدمها.
بل لا يخلو التمسك بأصالة عدم النقل من اشكال في الموارد التي
علم فيها بوجود ظروف معينة بالامكان ان تكون سببا في تغير مدلول
167

الكلمة، وانما المتيقن منها عقلائيا حالات الاحتمال الساذج للتغير والنقل.
التفصيلات في الحجية:
توجد عدة أقوال تتجه إلى التفصيل في حجية الظهور وقد أشرنا إلى
أحدها في الحلقة السابقة - ونذكر فيما يلي اثنين من تلك الأقوال.
القول الأول: التفصيل بين المقصود بالافهام وغيره. فالمقصود
بالافهام يعتبر الظهور حجة بالنسبة إليه لان احتمال القرينة المتصلة على
الخلاف بالنسبة إليه لا موجب له - مع عدم احساسه بها - الا احتمال
غفلته عنها فينفي ذلك بأصالة عدم الغفلة باعتبارها أصلا عقلائيا، واما
غيره فاحتماله للقرينة لا ينحصر منشؤه بذلك بل له منشأ آخر وهو احتمال
اعتماد المتكلم على قرينة، ثم التواطؤ عليها بصورة خاصة بينه وبين
المقصود بالافهام خاصة، وهذا الاحتمال لا تجدي أصالة عدم الغفلة لنفيه
فلا يكون الظهور حجة في حقه.
وقد اعترض على ذلك جملة من المحققين بان أصالة عدم القرينة
أصل عقلائي برأسه، يجري لنفي احتمال القرينة في الحالة المذكورة،
وليس مردها إلى أصالة عدم الغفلة ليتعذر اجراؤها في حق غير المقصود
بالافهام الذي يحتمل تواطؤ المتكلم مع من يقصد افهامه على القرينة.
والتحقيق ان هذا المقدار من البيان لا يكفي لان الأصل العقلائي لا
بد ان يستند إلى حيثية كشف نوعية، لئلا يكون أصلا تعبديا على خلاف
المرتكزات العقلائية، موفتة لنفي احتمال القرينة المتصلة الناشئ من
احتمال غفلة السامع عنها. فإذا أريد نفي احتمال القرينة المتصلة الناشئ
من سائر المناشئ أيضا بأصل عقلائي فلا بد من ابراز حيثية كشف نوعية
تنفي ذلك، وعلى هذا الأساس ينبغي ان نفتش عن مناشئ احتمال إرادة
خلاف الظاهر عموما، وملاحظة مدى امكان نفي كل واحد منها بحيثية
168

كشف نوعية مصححة لاجراء أصل عقلائي مقتض لذلك. ومن هنا
نقول: ان شك الشخص غير المقصود بالافهام في إرادة المتكلم للمعنى
الظاهر ينشأ من أحد أمور:
الأول: احتمال كون المتكلم متسترا بمقصوده، وغير مريد لتفهيمه
بكلامه.
الثاني: احتمال كونه معتمدا على قرينة منفصلة.
الثالث: احتمال كونه معتمدا على قرينة متصلة غفل عنها السامع.
الرابع: احتمال كونه معتمدا على قرينة ذات دلالة خاصة متفق
عليها بين المتكلم، وشخص آخر كان نظر المتكلم إليه.
الخامس: احتمال وجود قرينة متصلة التفت إليها السامع، ولكنه لم
ينقلها الينا ولو من أجل انها كانت متمثلة في لحن الخطاب، أو قسمات
وجه المتكلم، ونحو ذلك مما لا يعتبر لفظا.
والفرق بين المقصود بالافهام وغيره. ان المقصود بالافهام لا يوجد
الاحتمال الأول بشأنه، وكذلك الاحتمال الرابع، كما أن الاحتمال
الخامس غير موجود في شأن السامع المحيط بالمشهد سواء كان مقصودا
بالافهام، أو لا.
وحجية الظهور في حق غير السامع ممن لم يقصد افهامه تتوقف على
وجود حيثيات كشف مبررة عقلائية لالغاء الاحتمالات الخمسة بشأنه وهي
موجودة فعلا بالبيان التالي:
اما الاحتمال الأول فينفي بظهور حال المتكلم في كونه في مقام تفهيم
مراده بكلامه.
واما الاحتمال الثاني فينفي بظهور حاله في أن ما يقوله يريده، اي
انه في مقام تفهيم مراده بشخص كلامه.
169

واما الاحتمال الثالث فينفي بأصالة عدم الغفلة.
واما الاحتمال الرابع وهو ما أبرزه المفصل فينفي بظهور حال المتكلم
العرفي في استعمال الأدوات العرفية للتفهيم، والجري وفق أساليب التعبير
العام.
واما الاحتمال الخامس فينفي بشهادة الناقل - ولو ضمنا - بعدم
حذف ماله دخل من القرائن الخاصة في فهم المراد.
القول الثاني: وتوضيحه ان ظهور الكلام يقتضي بطبعه حصول
الظن - على الأقل - بان مراد المتكلم هو المعنى الظاهر لأنه امارة ظنية
كاشفة عن ذلك، فإذا لم تحصل امارة ظنية على خلاف ذلك اثر الظهور
فيما يقتضيه، وحصل الظن الفعلي بالمراد وإذا حصلت امارة ظنية على
الخلاف وقع التزاحم بين الامارتين، فقد لا يحصل حينئذ ظن فعلي بإرادة
المعنى الظاهر، بل قد يحصل الظن على خلاف الظهور تأثرا بالامارة الظنية
المزاحمة.
وعلى هذا فقد يستثنى من حجية الظهور حالة الظن الفعلي بعدم
إرادة المعنى الظاهر، بل قد يقال بان حجية الظهور أساسا مختصة بصورة
حصول الظن الفعلي على وفق الظهور. ويمكن تبرير هذا القول بان حجية
الظهور ليست حكما تعبديا وانما هي على أساس كاشفية الظهور، فلا معنى
لثبوتها في فرض عدم تأثير الظهور في الكشف الظني الفعلي على وفقه.
وقد اعترض الاعلام على هذا التفصيل بان مدرك الحجية بناء
العقلاء، والعقلاء لا يفرقون بين حالات الظن بالوفاق وغيرها، بل
يعملون بالظهور فيها جميعا، وهذا يكشف عن الحجية المطلقة.
وهذا الاعتراض من الاعلام قيد يبدو غير صحيح بمراجعة حال
الناس، فانا نجد ان التاجر لا يعمل بظهور كلام تاجر آخر في تحديد
الأسعار، إذا ظن بأنه لا يريد ما هو ظاهر كلامه، وان المشتري لا يعتمد
170

على ظهور كلام البائع في تحديد وزن السلعة إذا ظن بأنه يريد غير ما هو
ظاهر كلامه وهكذا.
ومن هنا عمق المحقق النائيني (رحمه الله) اعتراض الاعلام إذ ميز
بين العمل بالظهور في مجال الأغراض التكوينية الشخصية، والعمل به في
مجال الامتثال، وتنظيم علاقات الآمرين بالمأمورين.
ففي المجال الأول لا يكتفي بالظهور لمجرد اقتضائه النوعي ما لم
يؤثر هذا الاقتضاء في درجة معتد بها من الكشف الفعلي، وفي المجال
الثاني يكتفي بالكشف النوعي الاقتضائي للظهور تنجيزا، وتعذيرا، ولو لم
يحصل ظن فعلي بالوفاق، أو حصل ظن فعلي بالخلاف.
والأمثلة المشار إليها تدخل في المجال الأول لا الثاني
وهذا الكلام وان كان صحيحا، وتعميقا لاعتراض الاعلام، ولكنه
لا يبرز نكتة الفرق بين المجالين، ولا يحل الشبهة التي يستند إليها
التفصيل على النحو الذي شرحناه آنفا.
فالتحقيق الذي يفي بذلك ان يقال ان ملاك حجية الظهور هو
كشفه، ولكن لا كشفه عند المكلف، بل كشفه في نظر المولى، بمعنى ان
المولى حينما يلحظ ظواهر كلامه فتارة يلحظها بنظرة تفصيلية فيستطيع بذلك
ان يميز بصورة جازمة ما أريد به ظاهره عن غيره لأنه الأعرف بمراده،
وأخرى يلحظها بنظرة اجمالية، فيرى أن الغالب هو إرادة المعنى الظاهر،
وذلك يجعل الغلبة كاشفا ظنيا عند المولى عن إرادة المعنى الظاهر بالنسبة إلى
كل كلام صادر منه حينما يلحظه بنحو الاجمال، وهذا الكشف هو ملاك
الحجية لوضوح ان حجية الامارة حكم ظاهري وارد لحفظ الأغراض
الواقعية الأكثر أهمية، وهذه الأهمية قد اكتسبتها الأغراض الواقعية التي
تحفظها الامارة المعتبرة بلحاظ قوة الاحتمال، كما تقدم في محله.
ومن الواضح ان قوة الاحتمال المؤثرة في اهتمام المولى انما هي قوة
171

احتماله، لا قوة احتمال المكلف. فمن هنا تناط الحجية بحيثية الكشف
الملحوظة للمولى وهي الظهور لا بالظن الفعلي لدى المكلف، وعلى هذا
الأساس اختلف مجال الأغراض التكوينية عن مجال علاقات الآمرين
بالمأمورين، إذ المناط في المجال الأول كاشفيته الظهور لدي نفس العامل به
فقد يكون منوطا بحصول الظن له، والمناط في المجال الثاني مقدار كشفه
لدي الآمر الموجب لشدة اهتمامه الداعية إلى جعل الحجية.
الخلط بين الظهور والحجية:
اتضح مما تقدم ان مرتبة الظهور التصوري متقومة بالوضع، ومرتبة
الظهور التصديقي بلحاظ الدلالة التصديقية الأولى، الدلالة التصديقية
الثانية متقومة بعدم القرينة المتصلة لان ظاهر حال المتكلم انه يفيد مراده
بشخص كلامه، فإذا كانت القرينة متصلة دخلت في شخص الكلام ولم
يكن إرادة ما تقتضيه منافيا للظهور الحالي.
واما عدم القرينة المنفصلة فلا دخل له في أصل الظهور وليس مقوما
له، وانما هو شرط في استمرار الحجية بالنسبة إليه.
ومن هنا يتضح وجه الخلط في كلمات جملة من الأكابر الموهمة،
لوجود ثلاث رتب من الظهور كلها سابقة على الحجية ككلام المحقق
النائيني رحمه الله.
الأولى: مرتبة الظهور التصوري.
الثانية: مرتبة الظهور التصديقي على نحو يسوغ لنا التأكيد على أنه
قال كذا وفقا لهذا الظهور
. الثالثة: مرتبة الظهور التصديقي الكاشف عن مراده الواقعي على
نحو يسوغ لنا التأكيد على أنه أراد كذا وفقا لهذه المرتبة من الظهور.
172

والأولى لا تتقوم بعدم القرينة، والثانية تتقوم بعدم القرينة المتصلة،
والثالثة تتقوم بعدم القرينة مطلقا ولو منفصلة.
والحجية حكم مترتب على المرتبة الثالثة من الظهور فمتى وردت
القرينة المنفصلة - فضلا عن المتصلة - هدمت المرتبة الثالثة من الظهور،
ورفعت بذلك موضوع الحجية.
وهذا الكلام لا يمكن قبوله بظاهره، فإنه وان كان على حق في جعل
الظهور التصديقي موضوعا للحجية كما تقدم. غير أن الظهور التصديقي
للكلام في إرادة المعنى الحقيقي استعمالا جديا ليس متقوما بعدم القرينة
المنفصلة، بل بعدم القرينة المتصلة فقط لان هذا الظهور منشؤه ظهور
حال المتكلم في التطابق بين المدلول التصوري لكرمه، والمدلول
التصديقي، والتطابق بين المدلول التصديقي الأول، والمدلول التصديقي
الثاني. والمنظور في هذين التطابقين شخص الكلام بكل ما يتضمنه من
خصوصيات، فإذا اكتمل شخص الكلام، وتحدد مدلوله التصوري والمعنى
المستعمل فيه، تنجز ظهور حال المتكلم في أن ما قاله، وما استعمل فيه
اللغظ هو المراد جدا ومجئ القرينة المنفصلة تكذيب لهذا الظهور الحالي لا
انه يعني نفيه موضوعا، ولهذا كان الاعتماد على القرينة المنفصلة خلاف
الأصل العقلائي لان ذلك على خلاف الظهور الحالي، ولو كان الاعتماد
عليها وورودها يوجب نفي المرتبة التي هي موضوع الحجية من الظهور لما
كان ذلك على خلاف الطبع ولكان حاله حال الاعتماد على القرائن المتصلة
التي تمنع عن انعقاد الظهور التصديقي على طبق المدلول التصوري.
الظهور الحالي:
وكما ان الظهور اللفظي حجة، كذلك ظهور الحال، ولو لم يتجسد
في لفظ أيضا، فكلما كان للحال مدلول عرفي ينسبق إليه ذهن الملاحظ
173

اجتماعيا اخذ به غير أن اثبات الحجية لهذه الظواهر غير اللفظية لا يمكن
أن يكون بسيرة المتشرعة وقيامها فعلا في عصر المعصومين على العمل في
مقام استنباط الاحكام بظواهر الأفعال، والأحوال غير اللفظية لان طريق
اثبات قيامها في الظواهر اللفظية قد لا يمكن تطبيقه في المقام لعدم شيوع
ووفرة هذه الظواهر الحالية المجردة عن الألفاظ لتنتزع السيرة من الحالات
المتعددة، كما لا يمكن أن يكون اثبات الحجية لها بالأدلة اللفظية الآمرة
بالتمسك بالكتاب وأحاديث النبي (ص) والأئمة (ع)، كما هو واضح
لعدم كونها كتابا، ولا حديثا، وانما الدليل هو السيرة العقلائية على أن لا
يدخل في اثبات امضائها التمسك بظهور حال المولى، وسكوته في التقرير
والامضاء لان الكلام في حجية هذا الظهور.
الظهور التضمني:
إذا كان للكلام ظهور في مطلب، فظهوره في ذلك المطلب بكامله
ظهور استقلالي، وله ظهور ضمني في كل جزء من اجزاء ذلك المطلب.
ومثال ذلك أداة العموم في قولنا: " أكرم كل من في البيت " ونفرض
ان في البيت مائة شخص فلأداة العموم ظهور في الشمول للمائة
باعتبار دلالتها على الاستيعاب، ولها ظهور ضمني في الشمول لكل
واحد من وحدات هذه المائة، ولا شك في حجية كل ظواهرها الضمنية.
ولكن إذا ورد مخصص منفصل دل على عدم وجوب بعض افراد العام،
ولنفرض ان هذا البعض يشمل عشرة من المائة فهذا يعني ان بعض
الظواهر الضمنية سوف تسقط عن الحجية لمجئ المخصص. والسؤال هنا
هو ان الظواهر الضمنية الأخرى التي تشمل التسعين الباقين، هل تبقى
على الحجية أو لا؟ فان قيل بالأول كان معناه ان الظهور التضمني غير تابع
للظهور الاستقلالي في الحجية، وان قيل بالثاني كان معناه التبعية، كما
تكون الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية في الحجية. والأثر العملي
بين القولين انه على الأول نتمسك بالعام لاثبات الحكم لتمام من لم
174

يشملهم التخصيص، وعلى الثاني تسقط حجية الظواهر التضمنية جميعا ولا
يبقي دليل حينئذ على أن الحكم هل يشمل تمام الباقي أو لا؟
وقد ذهب بعض الأصوليين إلى سقوط الظواهر، والدلالات
التضمنية جميعا عن الحجية، وذلك لان ظهور الكلام في الشمول لكل
واحد من المائة في المثال المذكور، انما هو باعتبار نكتة واحدة وهي الظهور
التصديقي لأداة العموم في أنها مستعملة في معناها الحقيقي وهو
الاستيعاب. وبعد ان علمنا ان الأداة لم تستعمل في الاستيعاب بدليل
ورود المخصص، واخراج عشرة من المائة نستكشف ان المتكلم خالف
ظهور حاله، واستعمل اللفظ في المعنى المجازي وبهذا تسقط كل الظواهر
الضمنية عن الحجية لأنها كانت تعتمد على هذا الظهور الحالي الذي علم
بطلانه، وفي هذه الحالة يتساوى افتراض ان تكون الأداة في المثال
مستعملة في التسعين أو في تسعة وثمانين لان كلا منهما مجاز، وأي فرق
بين مجاز ومجاز؟
وقد أجاب على ذلك جملة من المحققين كصاحب الكفاية - رحمه الله -
بان المخصص المنفصل لا يكشف عن مخالفة المتكلم لظهور حاله في
استعمال الأداة في معناها الحقيقي، وانما يكشف فقط عن عدم تعلق
ارادته الجدية باكرام الافراد الذين تناولهم المخصص، فبالامكان الحفاظ
على هذا الظهور وهو ما كنا نسميه بالظهور التصديقي الأول فيما تقدم،
ونتصرف في الظهور التصديقي الثاني وهو ظهور حال المتكلم في أن كل ما
قاله، وأبرزه باللفظ مراد له جدا، فان هذا الظهور لو خلي وطبعه يثبت
ان كل ما يدخل في نطاق المعنى المستعمل فيه فهو مراد جدا. غير أن
المخصص يكشف عن أن بعض الافراد ليسوا كذلك فكل فرد كشف
المخصص عن عدم شمول الإرادة الجدية لهم نرفع اليد عن الظهور
التصديقي الثاني بالنسبة إليه، وكل فرد لم يكشف المخصص عن ذلك فيه
نتمسك بالظهور التصديقي الثاني، لاثبات حكم العام له.
175

وفي بادئ الامر قد يخطر في ذهن الملاحظ ان هذا الجواب ليس
صحيحا لأنه لم يصنع شيئا سوى انه نقل التبعيض في الحجية من مرحلة
الظهور التصديقي الأول، إلى مرحلة الظهور التصديقي الثاني. فإذا كان
الظهور التضمني غير تابع للظهور الاستقلالي في الحجية فلماذا لا نعمل
على التبعيض في مرحلة الظهور التصديقي الأول؟ وإذا كان تابعا له كذل
فكيف نعمله في مرحلة الظهور التصديقي الثاني، ونلتزم بحجية بعض
متضمناته دون بعض.
وردنا على هذه الملاحظة ان فذلكة الجواب، ونكتة نقل التبعيض من
مرحلة إلى مرحلة هي ان الظواهر الضمنية في مرحلة الظهور التصديقي
الأول مترابطة، ولها نكتة واحدة، فان ثبت بطلان تلك النكتة لم يسلم
شئ من تلك الظواهر الضمنية، والنكتة هي ظهور حال المتكلم في أنه
يستعمل اللفظ استعمالا حقيقيا، فان هذا هو الذي يجعلنا نستظهر ان هذا
الفرد من المائة داخل في نطاق الاستعمال، وذاك داخل وهكذا. فإذا
علمنا بان اللفظ قد استعمل مجازا، وان المتكلم قد خالف ظهوره الحالي
المذكور فلا موجب بعد ذلك لافتراض ان هذا الفرد أو ذاك داخل في نطاق
الاستعمال، وهذا خلافا للظواهر الضمنية في مرحلة الظهور التصديقي
الثاني، فان نكتة كل واحدة منها مستقلة عن نكتة الباقي فان كل جزء من
اجزاء مدلول الكلام - اي المعنى المستعمل فيه - ظاهر في الجدية، فإذا
علمنا ببطلان هذا الظهور في بعض اجزاء الكلام فلا يسوغ ذلك رفع اليد
عن ظهور الاجزاء الأخرى من مدلول الكلام في الجدية، وهكذا يثبت ان
العام حجة في الباقي.
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أن الاستشكال في حجية العام في تمام
الباقي بعد التخصيص - على النحو المتقدم - انما أثير في المخصصات
المنفصلة دون المتصلة، نظرا إلى أنه في حالات المخصص المتصل، كما في
" أكرم كل من في البيت الا العشرة " تكون الأداة مستعملة في استيعاب
176

افراد مدخولها حقيقة غير أن المخصص المتصل يساهم في تعيين هذا
المدخول وتحديده فلا تجوز ليقال اي فرق بين مجاز ومجاز.
وعلى اي حال فبالنسبة إلى الصيغة الأساسية للمسألة المطروحة،
وهي حجية الظهور التضمني، اتضح ان الظواهر التضمنية إذا كانت جميعا
بنكتة واحدة، وعلم ببطلان تلك النكتة سقطت عن الحجية كلها، وإذا
كانت استقلالية في نكاتها، لم يسقط بعضها عن الحجية بسبب سقوط
البعض الآخر.
177

2 - الدليل العقلي
الدليل العقلي كل قضية يدركها العقل، ويمكن ان يستنبط منها حكم
شرعي. والبحث عن القضايا العقلية تارة يقع صغرويا في ادراك العقل
وعدمه، وأخرى كبرويا في حجية الادراك العقلي.
ولا شك في أن البحث الكبروي أصولي، واما البحث الصغروي
فهو كذلك إذا كانت القضية العقلية المبحوث عنها تشكل عنصرا مشتركا في
عملية الاستنباط، واما القضايا العقلية التي ترتبط باستنباط احكام معينة
ولا تشكل عنصرا مشتركا، فليس البحث عنها أصوليا.
ثم إن القضايا العقلية التي يتناولها علم الأصول، اما ان تكون
قضايا فعلية، واما ان تكون قضايا شرطية. فالقضية الفعلية من قبيل
ادراك العقل استحالة تكليف العاجز. والقضية الشرطية من قبيل ادراك
العقل ان وجوب شئ يستلزم وجوب مقدمته، فان مرد هذا إلى ادراكه
لقضية شرطية مؤداها إذا وجب شئ وجبت مقدمته. ومن قبيل ادراك
العقل ان قبح فعل يستلزم حرمته، فان مرده إلى قضية شرطية مؤداها إذا
قبح فعل حرم.
والقضايا الفعلية اما ان تكون تحليلية، أو تركيبية. والمراد بالتحليلية
ما يكون البحث فيها عن تفسير ظاهرة من الظواهر وتحليلها كالبحث عن
حقيقة الوجوب التخييري، أو عن حقيقة علاقة الحكم بموضوعه. والمراد
178

بالتركيبية ما يكون البحث فيها عن استحالة شئ بعد الفراغ عن تصوره،
وتحديد معناه من قبيل البحث عن استحالة الحكم الذي يؤخذ العلم به في
موضوعه مثلا.
والقضايا الشرطية اما أن يكون الشرط فيها مقدمة شرعية من قبيل
المثال الأول لها، واما أن لا يكون كذلك من قبيل المثال الثاني لها.
وكل القضايا الشرطية التي يكون شرطها مقدمة شرعية، تسمى
بالدليل العقلي غير المستقل، لاحتياجها في مقام استنباط الحكم منها إلى
اثبات تلك المقدمة من قبل الشارع، وكل القضايا الشرطية التي يكون
شرطها مقدمة غير شرعية، تسمى بالدليل العقلي المستقل، لعدم احتياجها
إلى ضم اثبات شرعي.
وكذلك تعتبر القضايا العقلية الفعلية التركيبية كلها أدلة عقلية
مستقلة، لعدم احتياجها إلى ضم مقدمة شرعية في الاستنباط منها لان
مفادها استحالة أنواع خاصة من الاحكام، فتبرهن على نفيها بلا توقف
على شئ أصلا. ونفي الحكم كثبوته مما يطلب استنباطه من القاعدة
الأصولية.
واما القضايا الفعلية التحليلية، فهي تقع في طريق الاستنباط عادة
عن طريق صيرورتها وسيلة لاثبات قضية عقلية تركيبية، والبرهنة عليها،
أو عن طريق مساعدتها على تحديد كيفية تطبيق القاعدة الأصولية.
ومثال الأول تحليل الحكم المجعول على نحو القضية الحقيقية، فإنه
يشكل برهانا على القضية العقلية التركيبية القائلة باستحالة اخذ العلم
بالحكم في موضوع نفسه.
ومثال الثاني تحليل حقيقة الوجوب التخييري بارجاعه إلى وجوبين
مشروطين، أو وجوب واحد على الجامع مثلا فان ذلك قد يتدخل في تحديد
كيفية اجراء الأصل العملي عند الشك، ودوران امر الواجب بين كونه
179

تعيينيا عدل له، أو تخييريا ذا عدل.
وسوف نلاحظ ان القضايا العقلية متفاعلة فيما بينها، ومترابطة في
بحوثها. فقد نتناول قضية تحليلية بالتفسير والتحليل فتحصل من خلال
الاتجاهات المتعددة في تفسيرها قضايا عقلية تركيبية، إذ قد يدعي بعض
صيغة تشريعية معينة في تفسيرها فيدعي الآخر استحالة تلك الصيغة،
ويبرهن على ذلك فتحصل بهذه الاستحالة قضية تركيبية، أو قد نطرح
قضية تحليلية للتفسير فيضطرنا تفسيرها إلى تناول قضايا تحليلية أخرى
تساعد على تفسير تلك القضية. وفي مثل ذلك تدرس تلك القضايا
الأخرى عادة ضمن اطار تلك القضية، إذا كان دورها المطلوب مرتبطا بما
لها من دخل في تحليل تلك القضية وتفسيرها.
وسنتناول فيما يلي مجموعة من القضايا العقلية، التي تشكل عناصر
مشتركة في عملية الاستنباط، ثم نتكلم بعد ذلك عن حجية الدليل
العقلي.
180

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور
عملية القدرة ومحلها:
في التكليف مراتب متعددة وهي: الملاك، والإرادة، والجعل،
والإدانة. فالملاك هو المصلحة الداعية إلى الايجاب. والإرادة هي الشوق
الناشئ من ادراك تلك المصلحة. والجعل هو اعتبار الوجوب مثلا، وهذا
الاعتبار تارة يكون لمجرد ابراز الملاك والإرادة، وأخرى يكون بداعي
البعث والتحريك، كما هو ظاهر الدليل الذي يتكفل باثبات الجعل.
والإدانة هي مرحلة المسؤولية، والتنجز، واستحقاق العقاب.
ولا شك في أن القدرة شرط في مرحلة الإدانة، لان الفعل إذا لم
يكن مقدورا فلا يدخل في حق الطاعة للمولى عقلا، كما أن مرتبتي الملاك
والشوق غير آبيتين عن دخالة القدرة كشرط فيهما - بحيث لا ملاك في
الفعل ولا شوق إلى صدوره من العاجز - وعن عدم دخالتها كذلك - بحيث
يكون الفعل واجدا للمصلحة، ومحطا للشوق حتى من العاجز - وقد تسمى
القدرة في الحالة الأولى بالقدرة الشرعية، وفي الحالة الثانية بالقدرة
العقلية. واما في مرتبة جعل الحكم فإذا لوحظت هذه المرتبة بصورة
مجردة، لم نجد مانعا عقليا عن شمولها للعاجز لأنها اعتبار للوجوب
والاعتبار سهل المؤونة وقد يوجه إلى المكلف على الاطلاق لابراز ان
181

المبادئ ثابتة في حق الجميع ولكن قد نفترض جعل الحكم بداعي
البعث، والتحريك المولوي ومن الواضح هنا ان التحريك المولوي، انما
هو بسبب الإدانة وحكم العقل بالمسؤولية ومع العجز لا إدانة، ولا
مسؤولية كما تقدم فيستحيل التحريك المولوي، وبهذا يمتنع جعل الحكم
بداعي التحريك المولوي. وحيث إن مفاد الدليل عرفا هو جعل الحكم
بهذا الداعي فيختص لا محالة بالقادر وتكون القدرة شرطا في الحكم
المجعول بهذا الداعي، والقدرة انما تتحقق في مورد يكون الفعل فيه تحت
اختيار المكلف فإذا كان خارجا عن اختياره فلا يمكن التكليف به لا ايجابا،
ولا تحريما سواء كان ضروري الوقوع تكوينا، أو ضروري الترك كذلك أو
كان مما قد يقع، ولم يقع. ولكن بدون دخالة لاختيار المكلف في ذلك
كنبع الماء في جوف الأرض فإنه في كل ذلك لا تكون القدرة محققة.
وثمرة دخل القدرة في الإدانة واضحة، واما ثمرة دخلها في جعل
الحكم الذي هو مفاد الدليل فتظهر بلحاظ وجوب القضاء وذلك في
حالتين:
الأولى: ان يعجز المكلف عن أداء الواجب في وقته ونفترض ان
وجوب القضاء يدور اثباتا، ونفيا مدار كون هذا العجز مفوتا للملاك على
المكلف، وعدم كونه كذلك فإنه إذا لم نقل باشتراط القدرة في مرتبة جعل
الحكم الذي هو مفاد الدليل أمكن التمسك باطلاق الدليل لاثبات الوجوب
على العاجز - وإن لم تكن هناك إدانة - ونثبت حينئذ بالدلالة الالتزامية
شمول الملاك، ومبادئ الحكم له، وبهذا تعرف ان العاجز قد فوت
العجز عليه الملاك فيجب عليه القضاء وخلافا لذلك ما إذا قلنا بالاشتراط
فان الدليل حينئذ يسقط اطلاقه عن الصلاحية لاثبات الوجوب على
العاجز. وتبعا لذلك تسقط دلالته الالتزامية على المبادئ، فلا يبقى
كاشف عن الفوت المستتبع لوجوب القضاء.
الثانية: أن يكون الفعل خارجا عن اختيار المكلف، ولكنه صدر
182

منه بدون اختيار على سبيل الصدفة. ففي هذه الحالة إذا قيل بعدم
الاشتراط تمسكنا باطلاق الدليل لاثبات الوجوب بمبادئه على هذا المكلف،
ويعتبر ما صدر منه صدفة حينئذ مصداقا للواجب فلا معنى لوجوب القضاء
عليه لحصول الاستيفاء، وخلافا لذلك ما إذا قلنا بالاشتراط فان ما أتى به
لا يتعين بدليل انه مسقط لوجوب القضاء، وناف له، بل لا بد من طلب
حاله من قاعدة أخرى من دليل أو أصل.
حالات ارتفاع القدرة:
ثم إن القدرة التي هي شرط في الإدانة، وفي التكليف قد تكون
موجودة حين توجه التكليف، ثم تزول بعد ذلك وزوالها يرجع إلى أحد
أسباب:
الأول: العصيان فان الانسان قد يعصي، ويؤخر الصلاة حتى لا
يبقى من الوقت ما يتاح له ان يصلي فيه.
الثاني: التعجيز وذلك بان يعجز المكلف نفسه عن أداء الواجب،
بان يكلفه المولى بالوضوء، والماء موجود امامه فيريقه، ويصبح عاجزا.
الثالث: العجز الطارئ لسبب خارج عن اختيار المكلف.
وواضح ان الإدانة ثابتة في حالات السببين الأول والثاني، لان
القدرة حدوثا على الامتثال كافية لادخال التكليف في دائرة حق الطاعة،
واما في الحالة الثالثة فالمكلف إذا فوجئ بالسبب المعجز فلا إدانة وإذا كان
عالما بأنه سيطر أو تماهل في الامتثال حتى طرأ فهو مدان أيضا.
وعلى ضوء ما تقدم يقال عادة ان الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي
الاختيار عقابا، اي انه لا ينفي القدرة بالقدر المعتبر شرطا في الإدانة
والعقاب. ويراد بالاضطرار بسوء الاختيار ما نشأ عن العصيان، أو
التعجيز.
183

واما التكليف فقد يقال إنه يسقط بطرو العجز مطلقا، سواء كان
هذا العجز منافيا للعقاب والإدانة أو لا، لأنه على اي حال تكليف بغير
المقدور وهو مستحيل. ومن هنا يكون العجز الناشئ من العصيان
والتعجيز مسقطا للتكليف وان كان لا يسقط العقاب. وعلى هذا الأساس
يردف ما تقدم من أن الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا
بقولهم انه ينافيه خطابا. ومقصودهم بذلك سقوط التكليف.
والصحيح انهم ان قصدوا بسقوط التكليف سقوط فاعليته، ومحركيته
فهذا واضح إذ لا يعقل محركيته مع العجز الفعلي ولو كان هذا العجز ناشئا
من العصيان، وان قصدوا سقوط فعليته. فيرد عليهم ان الوجوب
المجعول انما يرتفع إذا كان مشروطا بالقدرة ما دام ثابتا، فحيث لا قدرة
بقاء لا وجوب كذلك. واما إذا كان مشروطا بالقدرة بالقدر الذي يحقق
الإدانة والمسؤولية، فهذا حاصل بنفس حدوث القدرة في أول الامر فلا
يكون الوجوب في بقائه منوطا ببقائها. والبرهان على اشتراط القدرة في
التكليف لا يقتضى أكثر من ذلك وهو ان التكليف قد جعل بداعي
التحريك المولوي، ولا تحريك مولوي الا مع الإدانة، ولا إدانة الا مع
القدرة حدوثا، فما هو شرط التكليف اذن بموجب هذا البرهان هو القدرة
حدوثا.
ومن هنا صح ان يقال ان الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي اطلاق
الخطاب، والوجوب المجعول أيضا تبعا لعدم منافاته للعقاب والإدانة.
نعم لا اثر عمليا لهذا الاطلاق إذ سواء قلنا به، أو لا فروح التكليف
محفوظة على كل حال، وفاعليته ساقطة على كل حال والإدانة مسجلة على
المكلف عقلا بلا اشكال.
الجامع بين المقدور وغيره:
ما تقدم حتى الآن كان يعني ان التكليف مشروط بالقدرة على
184

متعلقه. فإذا كان متعلقه بكل حصصه غير مقدور انطبقت عليه قاعدة
استحالة التكليف بغير المقدور، واما إذا كان متعلقه جامعا بين حصتين
إحداهما مقدورة، والأخرى غير مقدورة، فلا شك أيضا في استحالة تعلق
التكليف بالجامع على نحو الاطلاق الشمولي، واما تعلقه بالجامع على نحو
الاطلاق البدلي ففي انطباق القاعدة، المذكورة عليه كلام بين الاعلام.
وقد ذهب المحقق النائيني - رحمه الله - إلى أن التكليف إذا تعلق بهذا الجامع
فيختص لا محالة بالحصة المقدورة منه، ولا يمكن أن يكون للمتعلق اطلاق
للحصة الأخرى، لان التكليف بداعي البعث، والتحريك وهو لا يمكن
الا بالنسبة إلى الحصة المقدورة خاصة فنفس كونه بهذا الداعي يوجب
اختصاص التكليف بتلك الحصة. وذهب المحقق الثاني، ووافقه جماعة من
الاعلام إلى امكان تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره على نحو يكون
للواجب اطلاق بدلي يشمل الحصة غير المقدورة، وذلك لان الجامع بين
المقدور وغير المقدور، مقدور ويكفي ذلك في امكان التحريك نحوه وهذا
هو الصحيح.
وثمرة هذا البحث تظهر فيما إذا وقعت الحصة غير المقدورة من الفعل
الواجب صدفة، وبدون اختيار المكلف فإنه على قول المحقق النائيني يحكم
بعدم اجزائها، ووجوب اتيان الجامع في ضمن حصة أخرى لأنه يفترض
اختصاص الوجوب بالحصة المقدورة فما وقع ليس مصداقا للواجب،
واجزاء غير الواجب عن الواجب يحتاج إلى دليل.
وعلى قول المحقق الثاني نتمسك باطلاق دليل الواجب لاثبات ان
الوجوب متعلق بالجامع بين الحصتين فيكون المأتي به فردا من الواجب
فيحكم باجزائه، وعدم وجوب الإعادة.
185

شرطية القدرة بالمعنى الأعم
تقدم ان العقل يحكم بتقيد التكليف، واشتراطه بالقدرة على متعلقه
لاستحالة التحريك المولوي نحو غير المقدور، ولكن هل يكفي هذا المقدار
من التقييد أو لا بد من تعميقه.
ومن أجل الجواب على هذا السؤال نلاحظ ان المكلف إذا كان قادرا
على الصلاة تكوينا، ولكنه مأمور فعلا بانقاذ غريق تفوت بانقاذه الصلاة
للتضاد بين عمليتي الانقاذ والصلاة وعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما،
فهل يمكن ان يؤمر هذا المكلف بالصلاة والحالة هذه فيجتمع عليه تكليفان
بكلا الفعلين.
والجواب بالنفي لان المكلف وان كان قادرا على الصلاة فعلا قدرة
تكوينية، ولكنه غير قادر على الجمع بينها وبين انقاذ الغريق فلا يمكن ان
يكلف بالجمع، ولا فرق في استحالة تكليفه بالجمع بين أن يكون ذلك
بايجاب واحد، أو بإيجابين يستدعيان بمجموعهما الجمع بين الضدين، وعلى
هذا فلا يمكن ان يؤمر بالصلاة من هو مكلف فعلا بالانقاذ في هذا المثال،
وان كان قادرا عليها تكوينا. وذلك يعني وجود قيد آخر للامر بالصلاة
- ولكل امر - إضافة إلى القدرة التكوينية، وهو أن لا يكون مبتلى بالأمر
بالضد فعلا، فالقيد اذن مجموع امرين: القدرة التكوينية وعدم الابتلاء
بالأمر بالضد. وهذا ما نسميه بالقدرة التكوينية بالمعنى الأعم ولا اشكال
186

في ذلك، وانما الاشكال في معنى عدم الابتلاء الذي يتعين عقلا اخذه
شرطا في التكليف فهل هو بمعنى أن لا يكون مأمورا بالضد، أو بمعنى أن لا
يكون مشغولا بامتثال الامر بالضد، والأول يعني ان كل مكلف بأحد
الضدين لا يكون مأمورا بضده سواء كان بصدد امتثال ذلك التكليف أو
لا. والثاني يعني سقوط الامر بالصلاة عمن كلف بالانقاذ لكن لا بمجرد
التكليف بل باشتغاله بامتثاله، فمع بنائه على العصيان وعدم الانقاذ يتوجه
إليه الامر بالصلاة، وهذا ما يسمى بثبوت الامرين بالضدين على نحو
الترتب.
وقد ذهب صاحب الكفاية - رحمه الله - إلى الأول مدعيا استحالة
الوجه الثاني لأنه يستلزم في حالة كون المكلف بصدد عصيان التكليف
بالانقاذ أن يكون كلا التكليفين فعليا بالنسبة إليه. اما التكليف بالانقاذ
فواضح لان مجرد كونه بصدد عصيانه لا يعني سقوطه، واما الامر بالصلاة
فلان قيده محقق بكلا جزئيه لتوفر القدرة التكوينية، وعدم الابتلاء بالضد
بالمعنى الذي يفترضه الوجه الثاني، وفعلية الامر بالضدين معا مستحيلة فلا
بد اذن من الالتزام بالوجه الأول فيكون التكليف بأحد الضدين بنفس
ثبوته نافيا للتكليف بالضد الآخر.
وذهب المحقق النائيني - رحمه الله - إلى الثاني وهذا هو الصحيح
وتوضيحه ضمن النقاط الثلاث التالية:
النقطة الأولى: ان الامرين بالضدين ليسا متضادين بلحاظ عالم
المبادئ، إذ لا محذور في افتراض مصلحة ملزمة في كل منهما، وشوق
أكيد لهما معا ولا بلحاظ عالم الجعل، كما هو واضح، وانما ينشأ التضاد
بينهما بلحاظ التنافي، والتزاحم بينهما في عالم الامتثال، لان كلا منهما بقدر
ما يحرك نحو امتثال نفسه يبعد عن امتثال الآخر.
النقطة الثانية: ان وجوب أحد الضدين إذا كان مقيدا بعدم امتثال
التكليف بالضد الآخر، أو بالبناء على عصيانه فهو وجوب مشروط على
187

هذا النحو، ويستحيل أن يكون هذا الوجوب المشروط منافيا في فاعليته،
ومحركيته للتكليف بالضد الآخر، إذ يمتنع ان يستند إليه عدم امتثال
التكليف بالضد الآخر، لان هذا العدم مقدمة وجوب بالنسبة إليه، وكل
وجوب مشروط بمقدمة وجوبية لا يمكن أن يكون محركا نحوها، وداعيا
إليها كما تقدم مبرهنا في الحلقة السابقة. وإذا امتنع استناد عدم امتثال
التكليف بالضد الآخر إلى هذا الوجوب المشروط تبرهن ان هذا الوجوب لا
يصلح للمانعية والمزاحمة في عالم التحريك والامتثال.
النقطة الثالثة: ان التكليف بالضد الآخر اما أن يكون مشروطا
بدوره أيضا بعدم امتثال هذا الوجوب المشروط، واما أن يكون مطلقا من
هذه الناحية. فعلى الأول يستحيل أن يكون منافيا للوجوب في مقام
التحريك بنفس البيان السابق. وعلى الثاني يستحيل ذلك أيضا لان
التكليف بالضد الآخر مع فرض اطلاقه وان كان يبعد عن امتثال الوجوب
المشروط، ويصلح ان يستند إليه عدم وقوع الواجب بذلك الوجوب
المشروط، ولكنه انما يبعد عن امتثال الوجوب المشروط بتقريب المكلف
نحو امتثال نفسه الذي يساوق افناء شرط الوجوب المشروط، ونفي
موضوعه، وهذا يعني انه يقتضي نفي امتثال الوجوب المشروط بنفي أصل
الوجوب المشروط، واعدام شرطه لا نفيه مع حفظ الوجوب المشروط،
وحفظ شرطه والوجوب المشروط انما يأبى عن نفي امتثال نفسه مع حفظ
ذاته وشرطه ولا يأبى عن نفي ذلك بنفي ذاته وشرطه رأسا، إذ يستحيل
أن يكون حافظا لشرطه، ومقتضيا لوجوده.
وبهذا يتبرهن ان الامرين بالضدين، إذا كان أحدهما على الأقل
مشروطا بعدم امتثال الآخر كفى ذلك في امكان ثبوتهما معا بدون تناف
بينهما.
وهكذا نعرف ان العقل يحكم بان كل وجوب مشروط - إضافة إلى
القدرة التكوينية - بعدم الابتلاء بالتكليف بالضد الآخر بمعنى عدم الاشتغال
188

بامتثاله، ولكن لا اي تكليف آخر، بل التكليف الذي لا يقل في ملاكه
أهمية عن ذلك الوجوب - سواء ساواه، أو كان أهم منه - واما إذا كان
التكليف الآخر أقل أهمية من ناحية الملاك، فلا يكون الاشتغال بامتثاله
مبررا شرعا لرفع اليد عن الوجوب الأهم، بل يكون الوجوب الأهم
مطلقا من هذه الناحية، كما تفرضه أهميته.
ومن هنا نصل إلى صيغة عامة للتقييد يفرضها العقل على كل
تكليف، وهي تقييده بعدم الاشتغال بامتثال واجب آخر لا يقل عنه
أهمية، وعلى هذا الأساس إذا وقع التضاد بين واجبين كالصلاة وانقاذ
الغريق، أو الصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد، فالتعرف على أن أيهما
وجوبه مطلق، وأيهما وجوبه مقيد بعدم الاشتغال بالآخر، يرتبط بمعرفة
النسبة بين الملاكين فان كانا متساويين كان الاشتغال بكل منهما مصداقا لما
حكم العقل بأخذ عدمه قيدا في كل تكليف، وهذا يعني ان كلا من
الوجوبين مشروط بعدم امتثال الآخر ويسمى بالترتب من الجانبين، وان
كان أحد الملاكين أهم كان الاشتغال بالأهم مصداقا لما حكم العقل بأخذ
عدمه قيدا في وجوب المهم، ولكن الاشتغال بالمهم لا يكون مصداقا لما
حكم العقل بأخذ عدمه قيدا في وجوب الأهم وينتج هذا ان الامر بالأهم
مطلق، والامر بالمهم مقيد، وان المكلف لا بد له من الاشتغال بالأهم
لكي لا يبتلى بمعصية شئ من الامرين، ولو اشتغل بالمهم لابتلي بمعصية
الامر بالأهم.
ويترتب على ما ذكرناه من كون القدرة التكوينية بالمعنى الأعم شرطا
عاما في التكليف بحكم العقل عدة ثمرات مهمة:
منها: انه كلما وقع التضاد بين واجبين بسبب عجز المكلف عن
الجمع بينهما كالصلاة والازالة - وتسمى بحالات التزاحم - فلا ينشأ من
ذلك تعارض بين دليلي وجوب الصلاة، ووجوب الإزالة، لان الدليل
مفاده جعل الحكم على موضوعه الكلي، وضمن قيوده المقدرة الوجود كما
189

مر بنا في الحلقة السابقة، ومن جملة تلك القيود القدرة التكوينية بالمعنى
الأعم المتقدم. ولا يحصل تعارض بين الدليلين الا في حالة وجود تناف
بين الجعلين وحيث لا تنافي بين جعل وجوب الصلاة المقيد بالقدرة
التكوينية بالمعنى الأعم، وجعل وجوب الإزالة المقيد كذلك فلا تعارض
بين الدليلين.
فان قيل: كيف لا يوجد تعارض بين دليلي صل، وأزل، مع أن
الأول يقتضى باطلاقه ايجاب الصلاة سواء أزال أو لا، والثاني يقتضي
باطلاقه ايجاب الإزالة سواء صلى أو لا، ونتيجة ذلك أن يكون الجمع بين
الضدين مطلوبا.
كان الجواب على ذلك أن كلا من الدليلين لا اطلاق فيه بحد ذاته
لحالة الاشتغال بضد لا يقل عنه أهمية لأنه مقيد عقلا بعدم ذلك كما
تقدم، فإن كان الواجبان المتزاحمان متساويين في الأهمية فلا اطلاق في كل
منهما لحالة الاشتغال بالآخر، وان كان أحدهما أهم فلا اطلاق في غير
الأهم لذلك وعلى كل حال فلا يوجد اطلاقان كما ذكر ليقع التعارض
بينهما، وهذا ما يقال من أن باب التزاحم مغاير لباب التعارض، ولا
يدخل ضمنه، ولا تطبق عليه قواعده.
وكما يكون التزاحم بين واجبين يعجز المكلف عن الجمع بينهما،
كذلك يكون بين واجب، وحرام يعجز المكلف عن الجمع بين ايجاد
الواجب منهما، وترك الحرام، كما إذا ضاقت قدرة المكلف في مورد ما عن
اتيان الواجب، وترك الحرام معا.
ومنها: ان القانون الذي تعالج به حالات التزاحم هو تقديم الأهم
ملاكا على غيره، لان الاشتغال بالأهم ينفي موضوع المهم دون العكس،
هذا إذا كان هناك أهم. واما مع التساوي فالمكلف مخير عقلا لان
الاشتغال بكل واحد من المتزاحمين ينفي موضوع الآخر، وإذا ترك المكلف
الواجبين المتزاحمين معا، استحق عقابين لفعلية كلا الوجوبين في هذه
الحالة.
190

ومنها: ان تقديم أحد الواجبين في حالات التزاحم بقانون الأهمية لا
يعني سقوط الواجب الآخر رأسا، كما هي الحالة في تقديم أحد المتعارضين
على الآخر، بل يبقى الآخر واجبا وجوبا منوطا بعدم الاشتغال بالأهم،
وهذا ما يسمى بالوجوب الترتبي. ولا يحتاج اثبات هذا الوجوب الترتبي
إلى دليل خاص، بل يكفيه نفس الدليل العام لان مفاده - كما عرفنا -
وجوب متعلقه مشروطا بعدم الاشتغال بواجب لا يقل عنه أهمية.
والوجوب الترتبي هو تعبير آخر عن ذلك بعد افتراض أهمية المزاحم
الآخر.
ومن نتائج هذه الثمرة ان الصلاة إذا زاحمت انقاذ الغريق الواجب
الأهم. واشتغل المكلف بالصلاة بدلا عن الانقاذ صحت صلاته على ما
تقدم لأنها مأمور بها بالأمر الترتبي وهو امر محقق فعلا في حق من لا يمارس
فعلا امتثال الأهم. واما إذا اخذنا بوجهة نظر صاحب الكفاية - رحمه الله -
القائل بان الامرين بالضدين لا يجتمعان ولو على وجه الترتب فمن الصعب
تصحيح الصلاة المذكورة لان صحتها فرع ثبوت امر بها، ولا امر بها ولو
على وجه الترتب بناء على وجهة النظر المذكورة. فان قيل: " يكفي في
صحتها وفاءها بالملاك وإن لم يكن هناك امر ". كان الجواب: " ان
الكاشف عن الملاك هو الامر، فحيث امر لا دليل على وجود الملاك ".
ما هو الضد؟
عرفنا ان الامر بشئ مقيد عقلا بعد الاشتغال بضده الذي لا يقل
عنه أهمية، وانتهينا من ذلك إلى أن وقوع التضاد بين واجبين بسبب عجز
المكلف عن الجمع بينهما لا يؤدي إلى التعارض بين دليليهما. والآن نتسأل
ماذا نريد بهذا التضاد.
والجواب اننا نريد بذلك حالات عدم امكان الاجتماع الناشئة من
191

ضيق قدرة المكلف، ولكن لا ينطبق هذا على كل ضد فهو:
أولا لا ينطبق على الضد العام، اي النقيض، وذلك لان الامر
بأحد النقيضين يستحيل أن يكون مقيدا بعدم الاشتغال بنقيضه لان فرض
عدم الاشتغال بالنقيض يساوق ثبوت نقيضه ويكون الامر به حينئذ تحصيلا
للحاصل، وهو محال. ومن هنا نعرف ان النقيضين لا يعقل جعل امر
بكل منهما لا مطلقا، ولا مقيدا بعدم الاشتغال بالآخر. اما الأول فلانه
تكليف بالجمع بين نقيضين. واما الثاني فلانه تحصيل للحاصل، وهذا
يعني انه إذا دل دليل على وجوب فعل، ودل دليل آخر على وجوب أو
حرمة فعله كان الدليلان متعارضين لان التنافي بين الجعلين ذاتيهما.
وثانيا لا ينطبق على الضد الخاص في حالة الضدين اللذين لا ثالث
لهما لنفس السبب السابق، حيث إن عدم الاشتغال بأحدهما يساوق وجود
الآخر حينئذ، والحال هنا كالحال في النقيضين. وعلى هذا فعجز المكلف
عن الجمع بين واجبين انما يحقق التزاحم لا التعارض فيما إذا لم يكونا من
قبيل النقيضين، أو الضدين اللذين لا ثالث لهما، والا دخلت المسألة في
باب التعارض. ويمكننا ان نستنتج من ذلك أن ثبوت التزاحم، وانتفاء
التعارض مرهون بامكان الترتب الذي يعني كون كل من الامرين مشروطا
بعدم الاشتغال بمتعلق الآخر. فكلما أمكن ذلك صح التزاحم، وكلما
امتنع الترتب كما في الحالتين المشار إليهما، وقع التعارض.
اطلاق الواجب لحالة المزاحمة:
قد تكون المزاحمة قائمة بين متعلقي امرين على نحو يدور الامر بين
امتثال هذا، أو ذاك، كما إذا كان وقت الصلاة ضيقا وابتلي المكلف
بنجاسة في المسجد تفوت مع ازالتها الصلاة رأسا، وقد لا تكون هناك
مزاحمة على هذا النحو، وانما تكون بين أحد الواجبين وحصة معينة من
192

حصص الواجب الآخر. ومثاله: أن يكون وقت الصلاة موسعا، وتكون
الإزالة مزاحمة للصلاة في أول الوقت، وبإمكان المكلف ان يزيل ثم يصلي
ونحن كنا نتكلم عن الحالة الأولى من المزاحمة. واما الحالة الثانية فقد يقال إنه
لا مزاحمة بين الامرين لامكان امتثالهما معا، فان الامر بالصلاة متعلق
بالجامع بين الحصة المزاحمة وغيرها، والمكلف قادر على ايجاد الجامع مع
الإزالة، فلا تضاد بين الواجبين، وهذا يعني ان كلا من الامرين يلائم
الآخر فإذا ترك المكلف الإزالة، وصلى كان قد أتى بفرد من الواجب المأمور
به فعلا. وقد يقال: ان المزاحمة واقعة بين الامر بالإزالة، واطلاق الامر
بالصلاة للحصة المزاحمة فلا يمكن ان يتلاءم الامر بالإزالة مع هذا الاطلاق
في وقت واحد. والصحيح ان يقال: ان لهذه المسألة ارتباطا بمسألة متقدمة
وهي انه هل يمكن التكليف بالجامع. بين المقدور، وغير المقدور، فان
اخذنا في تلك المسألة بوجهة نظر المحقق النائيني القائل بامتناع ذلك،
واخذنا القدرة التكوينية بالمعنى الأعم المشتمل على عدم الاشتغال بامتثال
واجب مزاحم لا يقل عنه أهمية كان معنى ذلك أن التكليف بالجامع بين
الحصة المبتلاة بمزاحم وغيرها تمنع أيضا فيقوم التزاحم بين الامر بالجامع،
بالإزالة والامر وحينئذ يطبق قانون باب التزاحم وهو التقديم بالأهمية. ولا
شك في أن الامر بالإزالة أهم لان استيفاءه ينحصر بذلك الزمان، بينما
استيفاء الامر بالجامع يتأتى بحصة أخرى، وهذا يعني وفقا لما تقدم ان
الامر بالجامع يكون منوطا بعدم الابتلاء بالإزالة الواجبة. فان فسرنا عدم
الابتلاء بعدم الامر، كما عليه صاحب الكفاية، كان معنى ذلك أن الحصة
المزاحمة من الصلاة لا امر بها، فلا تقع صحيحة إذا آثرها المكلف على
الإزالة. وان فسرنا عدم الابتلاء بعدم الاشتغال بامتثال المزاحم، كما عليه
النائيني كان معنى ذلك أن الامر بالجامع ثابت على وجه الترتب فلو أتى
المكلف بالحصة المزاحمة من الصلاة وقعت منه صحيحة.
193

التقييد بعدم المانع الشرعي:
قلنا إن القانون المتبع في حالات التزاحم هو قانون ترجيح الأهم
ملاكا، ولكن هذا فيما إذا لم يفرض تقييد زائد على ما استقل به العقل من
اشتراط، فقد عرفنا ان العقل يستقل باشتراط مفاد كل من الدليلين
بالقدرة التكوينية بالمعنى الأعم فإذا فرضنا ان مفاد أحدهما كان مشروطا من
قبل الشارع، إضافة إلى ذلك بعدم المانع الشرعي، اي بعدم وجود حكم
على الخلاف دون الدليل الآخر قدم الآخر عليه، ولم ينظر إلى الأهمية في
الملاك ومثاله وجوب الوفاء بالشرط إذا تزاحم مع وجوب الحج، كما إذا
اشترط على الشخص ان يزور الحسين (ع) في عرفة كل سنة، واستطاع
بعد ذلك فان وجوب الوفاء بالشرط مقيد في دليله بان لا يكون هناك حكم
على خلافه بلسان (ان شرط الله قبل شرطكم). واما دليل وجوب الحج
فلم يقيد بذلك فيقدم وجوب الحج، ولا ينظر إلى الأهمية، اما الأول
فلانه ينفي بنفسه موضوع الوجوب الآخر لان وجوب الحج ذاته - وبقطع
النظر عن امتثاله - مانع شرعي عن الاتيان بمتعلق الآخر فهو حكم على
الخلاف، والمفروض اشتراط وجوب الوفاء بعدم ذلك فلا موضوع لوجوب
الوفاء مع فعلية وجوب الحج.
واما الثاني فلان أهمية أحد الوجوبين ملاكا، انما تؤثر في التقديم في
حالة وجود هذا الملاك الأهم، فإذا كان مفاد أحد الدليلين مشروطا بعدم
المانع الشرعي دل ذلك على أن مفاده حكما وملاكا، لا يثبت مع وجود
المانع الشرعي. وحيث إن مفاد الآخر مانع شرعي فلا فعلية للأول حكما
ولا ملاكا مع فعلية مفاد الآخر. وفي هذه الحالة لا معنى لاخذ أهمية ملاك
الأول بعين الاعتبار.
وقد يطلق على الحكم المقيد بالتقييد الزائد المفروض انه مشروط
194

بالقدرة الشرعية، ويطلق على ما لا يكون مقيدا بأزيد مما يستقل به العقل
بأنه مشروط بالقدرة العقلية. وعلى هذا الأساس يقال إنه في حالات
التزاحم يقدم المشروط بالقدرة العقلية، على المشروط بالقدرة الشرعية،
فان كانا معا مشروطين بالقدرة العقلية جرى قانون الترجيح بالأهمية. غير أن
نفس مصطلح المشروط بالقدرة الشرعية وما يقابله قد يطلق على معنى
آخر مر بنا في الحلقة السابقة فلاحظ، ولا تشتبه.
195

قاعدة امكان الوجوب المشروط
للوجوب ثلاث مراحل وهي: الملاك، والإرادة، وجعل الحكم.
وفي كل من هذه المراحل الثلاث قد تؤخذ قيود معينة، فاستعمال الدواء
للمريض واجب مثلا. فإذا اخذنا هذا الواجب في مرحلة الملاك نجد ان
المصلحة القائمة به هي حاجة الجسم إليه، ليسترجع وضعه الطبيعي،
وهذه الحاجة منوطة بالمرض فان الانسان الصحيح لا حاجة به إلى الدواء،
وبدون المرض لا يتصف الدواء بأنه ذو مصلحة. ومن هنا يعبر عن المرض
بأنه شرط في اتصاف الفعل بالملاك وكل ما كان من هذا القبيل يسمى
بشرط الاتصاف. ثم قد نفرض ان الطبيب يأمر بان يكون استعمال الدواء
بعد الطعام، فالطعام هنا شرط أيضا، ولكنه ليس شرطا في اتصاف
الفعل بالمصلحة، إذ من الواضح ان المريض مصلحته في استعمال الدواء
منذ يمرض، وانما الطعام شرط في ترتب تلك المصلحة، وكيفية استيفائها
بعد اتصاف الفعل بها، فالطبيب بأمره المذكور يريد أن يوضح ان المصلحة
القائمة بالدواء لا تستوفي الا بحصة خاصة من الاستعمال، وهي استعماله
بعد الطعام وكل ما كان من هذا القبيل يسمى بشرط الترتب تمييزا له عن
شرط الاتصاف. وشرب الدواء سواء كان مطلوبا تشريعيا من قبل الآمر،
أو مطلوبا تكوينيا لنفس المريض له هذان النحوان من الشروط.
وشروط الاتصاف تكون شروطا لنفس الإرادة في المرحلة الثانية،
خلافا لشروط الترتب فإنها شروط للمراد، لا للإرادة من دون فرق في
196

ذلك كله بين الإرادة التكوينية، والتشريعية.
فالانسان لا يريد أن يشرب الدواء الا إذا رأى نفسه مريضا، ولا
يريد من مأموره ان يشرب الدواء الا إذا كان كذلك. ولكن إرادة شرب
الدواء للمريض، أو لمن يوجهه فعلية قبل أن يتناول الطعام. ولهذا فان
المريض قد يتناول الطعام لا لشئ الا حرصا منه على أن يشرب الدواء
بعده وفقا لتعليمات الطبيب، وهذا يوضح ان تناول الطعام ليس قيدا
للإرادة، بل هو قيد للمراد بمعنى ان الإرادة فعلية، ومتعلقة بالحصة
الخاصة، وهي شرب الدواء المقيد بالطعام، ومن أجل فعليتها كانت
محركة نحو ايجاد القيد نفسه. غير أن الإرادة التي ذكرنا انها مقيدة بشروط
الاتصاف ليست منوطة بالوجود الخارجي لهذه الشروط، بل بوجودها
التقديري اللحاظي لان الإرادة معلولة دائما لادراك المصلحة ولحاظ ما له
دخل في اتصاف الفعل بها لا لواقع تلك المصلحة مباشرة. وما أكثر
المصالح التي لا تؤثر في إرادة الانسان لعدم ادراكه، ولحاظه لها، فشروط
الاتصاف بوجودها الخارجي دخيلة في الملاك، وبوجودها التقديري
اللحاظي دخيلة في الإرادة فلا مصلحة في الدواء الا إذا كان الانسان
مريضا حقا، ولا إرادة للدواء الا إذا لاحظ الانسان المرض وافترضه في
نفسه، أو فيمن يتولى توجيهه.
ونفس الفارق بين شروط الاتصاف، وشروط الترتب ينعكس على
المرحلة الثالثة، وهي مرحلة جعل الحكم، فقد علمنا سابقا ان جعل
الحكم عبارة عن انشائه على موضوعه الموجود، فكل شروط الاتصاف
تؤخذ مقدرة الوجود في موضوع الحكم وتعتبر مشروطا للوجوب المجعول،
واما شروط الترتب فتكون مأخوذة قيودا للواجب.
وإذا لاحظنا المرحلة الثالثة بدقة، وميزنا بين الجعل والمجعول، كما
مر بنا في الحلقة السابقة، نجد ان الجعل باعتباره امرا نفسانيا منوطا،
ومرتبطا بشروط الاتصاف بوجودها التقديري اللحاظي كالإرادة تماما لا
197

بوجودها الخارجي، ولهذا كثيرا ما يتحقق الجعل قبل أن توجد شروط
الاتصاف خارجا. واما فعلية المجعول فهي منوطة بفعلية شروط الاتصاف
بوجودها الخارجي، فما لم توجد خارجا كل القيود المأخوذة في موضوع
الحكم لا يكون المجعول فعليا. واما شروط الترتب فتؤخذ قيودا في
الواجب تبعا لاخذها قيودا في المراد.
وبهذا نعرف ان الوجوب المجعول لا ثبوت له قبل وجود شروط
الاتصاف، لأنه مشروط بها في عالم الجعل.
واما ما يقال من أن الوجوب المشروط غير معقول، لان المولى يجعل
الحكم قبل أن تتحقق الشروط خارجا فكيف يكون مشروطا؟ فهو مندفع
بالتمييز بين الجعل والمجعول، والالتفات إلى ما ذكرناه من إناطة الجعل
بالوجود التقديري للشرط، وإناطة المجعول بالوجود الخارجي له.
واما ثمرة البحث عن امكان الوجوب المشروط، وامتناعه فتظهر في
بحث مقبل ان شاء الله تعالى.
198

المسؤولية تجاه القيود والمقدمات
تنقسم المقدمات الدخيلة في الواجب الشرعي إلى ثلاثة أقسام:
الأول: المقدمات التي تتوقف عليها فعلية الوجوب، وهي انما تكون
كذلك بالتقييد الشرعي، واخذها مقدرة الوجود في مقام جعل الحكم على
نهج القضية الحقيقية لان الوجوب حكم مجعول تابع لجعله، فما لم يقيد
جعلا بشئ لا يكون ذلك الشئ دخيلا في فعليته وتسمى هذه المقدمات
بالمقدمات الوجوبية، كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج.
الثاني: المقدمات التي يتوقف عليها امتثال الامر الشرعي بسبب اخذ
الشارع لها قيدا في الواجب. وتسمى بالمقدمات الشرعية الوجودية،
كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.
الثالث: المقدمات التي يتوقف عليها امتثال الامر الشرعي بدون
اخذها قيدا من قبل الشارع، كقطع المسافة إلى الميقات بالنسبة إلى الحج
الواجب على البعيد، ونصب السلم بالنسبة إلى من وجب عليه المكث في
الطابق الأعلى. وتسمى بالمقدمات العقلية الوجودية.
وبالمقارنة بين هذين القسمين من المقدمات الوجودية، نلاحظ انه في
مورد المقدمة الشرعية الوجودية قد تعلق الامر بالمقيد. والمقيد عبارة عن
ذات المقيد والتقيد، وان المقدمة المذكورة مقدمة عقلية للتقيد، بينما نجد
199

ان المقدمة العقلية الوجودية هي مقدمة لذات الفعل.
والكلام تارة يقع في تحديد مسؤولية المكلف تجاه هذه الأقسام من
المقدمات، وأخرى في تحديد الضابط الذي يسير عليه المولى في جعل
المقدمة من هذا القسم أو ذاك.
اما تحديد مسؤولية المكلف تجاه المقدمات فحاصله ان الوجوب
- وكذلك كل طلب - لا يكون محركا نحو المقدمات الوجوبية، ولا مدينا
للمكلف بها لأنه لا يوجد الا بعد تحققها فكيف يكون باعثا على ايجادها،
وانما يكون محركا نحو المقدمات الوجودية بكلا قسميها لأنه فعلي قبل
وجودها فيحرك لا محالة نحو ايجادها تبعا لتحريكه نحو متعلقه بمعنى ان
المكلف مسؤول عقلا من قبل ذلك التكليف عن ايجاد تلك المقدمات.
وهذا التحريك يبدأ من حين فعلية التكليف المجعول فقبل ان يصبح
التكليف فعليا لا محركية له نحو المقدمات تبعا لعدم محركيته نحو متعلقه
لان المحركية من شؤون الفعلية. وإذا اتفق ان قيدا ما كان مقدمة
وجوبية، ووجودية معا، امتنع تحريك التكليف نحوه لتفرعه على وجوده،
وانما يكون محركا - بعد وجود ذلك القيد - نحو التقيد، وايقاع الفعل مقيدا
به.
واما تحديد الضابط الذي يسير عليه المولى فهو ان كل ما كان من
شروط الاتصاف في مرحلة الملاك فيأخذه قيدا للوجوب لا للواجب فيصبح
مقدمة وجوبية. والوجه في ذلك واضح لأنه لما كان شرطا في الاتصاف فلا
يهتم المولى بتحصيله، بينما لو جعله قيدا للواجب وكان الوجوب فعليا قبله
لأصبح مقدمة وجودية، ولكان التكليف محركا نحو تحصيله فيتعين جعله
مقدمة وجوبية. واما ما كان من شروط الترتب فهو على نحوين:
أحدهما: أن يكون اختياريا للمكلف وفي هذه الحالة يأخذه المولى
قيدا للواجب لأنه يهتم بتحصيله.
والآخر: أن يكون غير اختياري وفي هذه الحالة يتعين اخذه قيدا
200

للوجوب، إضافة إلى اخذه قيدا للواجب.
ولا يمكن الاقتصار على تقييد الواجب به، إذ مع الاقتصار كذلك
يكون التكليف محركا نحوه، ومدينا للمكلف به وهو غير معقول لعدم كونه
اختياريا، وبهذا يتضح ان الضابط في جعل شئ قيدا للوجوب أحد
امرين: اما كونه شرط الاتصاف، واما كونه شرط الترتب مع عدم كونه
مقدورا.
201

القيود المتأخرة زمانا عن المقيد
القيد سواء كان قيدا للحكم المجعول، أو للواجب الذي تعلق به
الحكم، قد يكون سابقا زمانا على المقيد به، وقد يكون مقارنا. فالقيد
المتقدم للحكم من قبيل هلال شهر رمضان الذي هو قيد لوجوب الصيام
مع أن هذا الوجوب يبدأ عند طلوع الفجر، والقيد المقارن للحكم من
قبيل الزوال بالنسبة إلى الصلاة. والقيد المتقدم للواجب من قبيل الوضوء
بناء على كون الصلاة مقيدا بالوضوء لا بحالة مسببة عنه مستمرة. والقيد
المقارن له من قبيل الاستقبال بالنسبة إلى الصلاة. وقد افترض في الفقه
أحيانا كون القيد متأخرا زمانا عن المقيد، ومثاله في قيود الحكم، قيدية
الإجازة لنفوذ عقد الفضولي بناء على القول بالكشف. ومثاله في قيود
الواجب غسل المستحاضة في الليل الدخيل في صحة صيام النهار المتقدم
على قول بعض الفقهاء ومن هنا وقع البحث في امكان الشرط المتأخر
وعدمه، ومنشأ الاستشكال هو ان الشرط والقيد بمثابة العلة، أو جزء
العلة للمشروط والمقيد ولا يعقل ان تتأخر العلة، أو شئ من اجزائها
زمانا عن المعلول والا يلزم تأثير المعدوم في الموجود، لان المتأخر معدوم في
الزمان السابق فكيف يؤثر في وقت سابق على وجوده.
وقد أجيب على هذا البرهان. اما فيما يتعلق بالشرط المتأخر
للواجب فبان كون شئ قيدا للواجب مرجعه إلى تحصيص الفعل
202

بحصة خاصة، وليس القيد علة، أو جزء العلة للفعل والتحصيص، كما
يمكن أن يكون بإضافته إلى امر مقارن، أو متقدم، كذلك يمكن أن يكون
بامر متأخر. واما فيما يتعلق بالشرط المتأخر للحكم فبان الحكم تارة يراد به
الجعل، وأخرى يراد به المجعول. اما الجعل فهو منوط بقيود الحكم
بوجودها التقديري اللحاظي، لا بوجودها الخارجي كما تقدم. ووجودها
اللحاظي مقارن للجعل. واما المجعول فهو وان كان منوطا بالوجود
الخارجي لقيود الحكم، ولكنه مجرد افتراض وليس وجودا حقيقيا خارجيا
فلا محذور في اناطته بامر متأخر.
والتحقيق ان هذا الجواب وحده ليس كافيا وذلك لان كون شرط
قيدا للحكم، والوجوب أو للواجب ليس جزافا، وانما هو تابع للضابط
المتقدم وحاصله ان ما كان دخيلا، وشرطا في اتصاف الفعل بكونه ذا
مصلحة يؤخذ قيدا للوجوب. وما كان دخيلا وشرطا في ترتب المصلحة
على الفعل يؤخذ قيدا للواجب.
والجواب المذكور انما نظر إلى دخل الشرط بحسب عالم الجعل في
تحصيص الواجب، أو في الوجوب المجعول وأغفل ما يكشف عنه ذلك من
دخل قيد الواجب في ترتب المصلحة ووجودها، ودخل قيد الوجوب في
اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة وترتب المصلحة امر تكويني، واتصاف
الفعل بكونه ذا مصلحة امر تكويني أيضا فكيف يعقل أن يكون الامر
المتأخر، كغسل المستحاضة في ليلة الأحد مؤثرا في ترتب المصلحة على
الصوم في نهار السبت السابق إذا اخذ قيدا للواجب؟ وكيف يعقل أن يكون
الامر المتأخر كالغسل المذكور مؤثرا في اتصاف الصوم في يوم السبت
بكونه ذا مصلحة إذا اخذ قيدا للوجوب؟
ومن هنا قد يقال باستحالة الشرط المتأخر، ويلتزم بتأويل الموارد التي
توهم ذلك بتحويل الشرطية من امر متأخر إلى امر مقارن، فيقال مثلا ان
الشرط في نفوذ عقد الفضولي على الكشف ليس هو الإجازة المتأخرة، بل
203

كون العقد ملحوقا بالإجازة. والشرط في صوم المستحاضة يوم السبت كونه
ملحوقا بالغسل وهذه صفة فعلية قائمة بالأمر المتقدم.
وثمرة البحث في الشرط المتأخر امكانا وامتناعا، تظهر من ناحية في
امكان الواجب المعلق وامتناعه، فقد تقدم في الحلقة السابقة ان امكان
الواجب المعلق يرتبط بامكان الشرط المتأخر وتظهر من ناحية أخرى فيما إذا
دل الدليل على شرطية شئ كرضا المالك الذي دل الدليل على شرطيته في
نفوذ البيع وتردد الامر بين كونه شرطا متقدما، أو متأخرا، فإنه على القول
بامتناع الشرط المتأخر يتعين الالتزام بكونه شرطا مقارنا، فيقال في المثال
بصحة عقد الفضولي على نحو النقل لان الحمل على الشرط المتأخر، ان
كان بالمعنى الحقيقي للشرط المتأخر فهو غير معقول، وان كان بالتأويل فهو
خلاف ظاهر الدليل، لان ظاهره شرطية نفس الرضا، لا كون العقد
ملحوقا به، واما على الثاني فلا بد من اتباع ما يقتضيه ظاهر الأدلة اي
شئ كان.
204

زمان الوجوب والواجب
لا شك في أن زمان الوجوب لا يمكن ان يتقدم بكامله على زمان
الواجب، ولكن وقع الكلام في أنه هل يمكن ان يبدأ قبله أولا؟ ومثاله ان
يفترض ان وجوب صيام شهر رمضان يبدأ من حين طلوع هلاله، غير أن
زمان الواجب يبدأ بعد ذلك عند طلوع الفجر.
وقد ذهب جملة من الأصوليين كصاحب الفصول إلى امكان ذلك
وسمي هذا النحو من الوجوب بالمعلق، تمييزا له عن الوجوب المشروط.
فكل منهما ليس ناجزا بتمام المعنى غير أن ذلك في المشروط ينشأ من إناطة
الوجوب بشرط وفي المعلق من عدم مجئ زمان الواجب. فان قيل إذا كان
زمان الواجب متأخرا، ولا يبدأ الا عند طلوع الفجر، فما الداعي للمولى
إلى جعل الوجوب يبدأ من حين طلوع الهلال ما دام وجوبا معطلا عن
الامتثال أو ليس ذلك لغوا؟
كان الجواب ان فعلية الوجوب تابعة لفعلية الملاك، اي لاتصاف
الفعل بكونه ذا مصلحة فمتى اتصف الفعل بذلك استحق الوجوب
الفعلي، فإذا افترضنا ان طلوع الفجر ليس من شروط الاتصاف بل من
شروط الترتب، وان ما هو من شروط الاتصاف طلوع هلال الشهر فقط،
فهذا يعني انه حين طلوع الهلال يتصف صوم النهار بكونه ذا مصلحة،
فيكون الوجوب فعليا، وان كان زمان الواجب مرهونا بطلوع الفجر لان
205

طلوع الفجر دخيل في ترتب المصلحة ولفعلية الوجوب عند طلوع الهلال
آثار عملية على الرغم من عدم امكان امتثاله، وذلك لأنه من حين يصبح
فعليا تبدأ محركيته نحو المقدمات، وتبدأ مسؤولية المكلف عن تهيئة
مقدمات الواجب.
وقد اعترض على امكان الواجب المعلق باعتراضين:
الأول: ان الوجوب حقيقته البعث، والتحريك نحو معلقه، ولكن
لا بمعنى البعث الفعلي، وإلا لكان الانبعاث والامتثال ملازما له، لان
البعث ملازم للانبعاث بل بمعنى البعث الشأني، اي انه حكم قابل
للباعثية، وقابلية البعث تلازم قابلية الانبعاث فحيث لا قابلية للانبعاث،
لا قابلية للبعث فلا وجوب.
ومن الواضح انه في الفترة السابقة على زمان الواجب لا قابلية
للانبعاث فلا بعث شأني، وبالتالي لا وجوب.
ويرد عليه ان الوجوب حقيقته في عالم الحكم أمر اعتباري، وليس
متقوما بالبعث الفعلي، أو الشأني، وانما المستظهر من دليل جعل الوجوب
انه قد جعل بداعي البعث، والتحريك، والمقدار المستظهر من الدليل
ليس بأزيد من أن المقصود من جعل الحكم اعداده لكي يكون محركا شأنيا
خلال ثبوته ولا دليل على أن المقصود جعله كذلك من بداية ثبوته.
الثاني: ان طلوع الفجر اما ان يؤخذ قيدا في الواجب فقط، أو
يؤخذ قيدا في الوجوب أيضا. فعلى الأول يلزم كون الوجوب محركا نحوه
لما تقدم من أن كل قيد يؤخذ في الواجب دون الوجوب يشمله التحريك
المولوي الناشئ من ذلك الوجوب، وهذا غير معقول لان طلوع الفجر
غير اختياري، وعلى الثاني يصبح طلوع الفجر شرطا للوجوب، فإن كان
شرطا مقارنا، فهذا معناه عدم تقدم الوجوب على زمان الواجب. وان
كان شرطا متأخرا يلزم محذور الشرط المتأخر، والشئ نفسه نقوله عن
206

القدرة على الصيام عند طلوع الفجر فإنها كطلوع الفجر في الشقوق
المذكورة، ومن هنا كنا نقول في الحلقة السابقة ان امكان الوجوب المتعلق
يتوقف على افتراض امكان الشرط المتأخر وذلك باختيار الشق الأخير.
واما ثمرة البحث في امكان الواجب المعلق فتأتي الإشارة إليها ان
شاء الله تعالى.
207

المسؤولية عن المقدمات قبل الوقت
اتضح مما تقدم ان المسؤولية تجاه مقدمات الواجب من قبل الوجوب
انما تبدأ ببداية فعلية هذا الوجوب، ويترتب على ذلك أن الواجب إذا كان
له زمن متأخر، وكان يتوقف على مقدمة ولم يكن بالامكان توفيرها في
حينها، ولكن كان بالامكان ايجادها قبل الوقت فلا يجب على المكلف
ايجادها قبل الوقت إذ لا مسؤولية تجاه مقدمات الواجب الا بعد فعلية
الوجوب. وفعلية الوجوب منوطة بالوقت وتسمى المقدمة في هذه الحالة
بالمقدمة المفوتة.
ومثال ذلك أن يعلم المكلف قبل الزوال بأنه إذا لم يتوضأ الآن فلن
يتاح له الوضوء بعد الزوال فيمكنه أن لا يتوضأ، ولا يكون بذلك مخالفا
للتكليف بالصلاة بوضوء، لان هذا التكليف ليس فعليا الآن وانما يصبح
فعليا عند الزوال، وفعليته وقتئذ منوطة بالقدرة على متعلقه في ذلك الظرف
لاستحالة تكليف العاجز. والقدرة في ذلك الظرف على الصلاة بوضوء
متوقفة بحسب الفرض على أن يكون المكلف قد توضأ قبل الزوال.
فالوضوء قبل الزوال إذن يكون من مقدمات الوجوب، وبترك المكلف له
يحول دون تحقق الوجوب، وفعليته في حينه، لا انه يتورط في مخالفته.
ولكن يلاحظ أحيانا ان الواجب قد يتوقف على مقدمة تكون دائما من
هذا القبيل. ومثالها وجوب الحج الموقوت بيوم عرفة، ووجوب الصيام
208

الموقوت بطلوع الفجر مع أن الحج يتوقف على السفر إلى الميقات قبل
ذلك، والصيام من الجنب يتوقف على الاغتسال قبل طلوع الفجر، ولا
شك في أن المكلف مسؤول عن طي المسافة من قبل وجوب الحج وعن
الاغتسال قبل الطلوع من قبل وجوب الصيام. ومن هنا وقع البحث في
تفسير ذلك، وفي تحديد الضوابط التي يلزم المكلف فيها بايجاد المقدمات
المفوتة.
وقد ذكرت في المقام عدة تفسيرات.
التفسير الأول: انكار الوجوب المشروط رأسا وافتراض ان كل
وجوب فعلي قبل تحقق الشروط والقيود المحددة له في لسان الدليل. وإذا
كان فعليا كذلك فتبدأ محركيته نحو مقدمات الواجب قبل مجئ ظرف
الواجب، ومن هنا كان امتناع الوجوب المشروط يعني من الناحية العملية
إلزام المكلف بالمقدمات المفوتة للواجب من قبل ذلك الوجوب، وهذه هي
ثمرة البحث في امكان الوجوب المشروط وامتناعه. وقد تقدم ان الصحيح
امكان الوجوب المشروط خلافا لما في تقريرات الشيخ الأنصاري الذي تقدم
بالتفسير المذكور.
التفسير الثاني: وهو يعترف بامكان الوجوب المشروط، ولكن يقول
بامكان الوجوب المعلق أيضا ويفترض انه في كل مورد يقوم فيه الدليل على
لزوم المقدمة المفوتة من قبل وجوب ذيها نستكشف ان الوجوب معلق، اي
انه سابق على زمان الواجب وفي كل مورد يقوم فيه الدليل على أن الوجوب
معلق، فحكم فيه بمسؤولية المكلف تجاه المقدمات المفوتة، وهذه هي ثمرة
البحث عن امكان الواجب المعلق وامتناعه.
التفسير الثالث: ان القدرة المأخوذة قيدا في الوجوب، ان كانت
عقلية بمعنى انها غير دخيلة في ملاكه، فهذا يعني ان المكلف بتركه للمقدمة
المفوتة يعجز نفسه عن تحصيل الملاك، مع فعليته في ظرفه، وهذا لا يجوز
عقلا، لان تفويت الملاك بالتعجيز، كتفويت التكليف بالتعجيز، وان
209

كانت القدرة شرعية بمعنى انها دخيلة في الملاك أيضا، فلا ملاك في فرض
ترك المكلف للمقدمة المفوتة المؤدى إلى عجزه في ظرف الواجب، وفي هذه
الحالة لا مانع من ترك المقدمة المفوتة. وعلى هذا ففي كل حالة يثبت فيها
كون المكلف مسؤولا عن المقدمات المفوتة نستكشف من ذلك أن القدرة
في زمان الواجب غير دخيلة في الملاك، كما أنه في كل حالة يدل فيها
الدليل على أن القدرة كذلك يثبت لزوم المقدمات المفوتة، غير أن هذا
المعنى يحتاج إلى دليل خاص ولا يكفيه دليل الواجب العام لان دليل
الواجب له مدلول مطابقي وهو الوجوب، ومدلول التزامي وهو الملاك.
ولا شك في أن المدلول المطابقي مقيد بالقدرة، ومع سقوط الاطلاق في
الدلالة المطابقية يسقط في الدلالة الالتزامية أيضا للتبعية فلا يمكن ان نثبت
به كون الملاك ثابتا في حالتي القدرة، والعجز معا.
210

أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم
قد يفترض تارة اخذ القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم،
وأخرى اخذه في موضوع حكم مضاد له، وثالثة اخذه في موضوع مثله،
ورابعة اخذه في موضوع حكم مخالف، ولا شك في امكان الأخير، وانما
وقع الكلام في الافتراضات الثلاثة الأولى.
اخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه:
اما الافتراض الأول، فقد يبرهن على استحالته بأدائه للدور، إذ
يتوقف كل من الحكم والعلم به على الآخر. وقد يجاب بأنه لا دور لان
الحكم وان كان متوقفا على القطع لأنه مأخوذ في موضوعه، الا ان القطع
بالحكم لا يتوقف على ثبوت الحكم، وتحقيق الحال في ذلك أن القطع
بالحكم إذا أخذ في موضوع شخص ذلك الحكم، فاما أن يكون الحكم
المقطوع دخيلا في الموضوع أيضا، وذلك بان يؤخذ القطع بالحكم بما هو
مصيب في الموضوع، واما أن لا يكون لثبوت ذات المقطوع دخل في
الموضوع، ففي الحالة الأولى تعتبر الاستحالة واضحة لوضوح الدور
وتوقف الحكم على نفسه عندئذ، واما في الحالة الثانية فلا يجري الدور
بالتقريب المذكور ولكن الافتراض مع هذا مستحيل وقد برهن على
211

استحالته بوجوه.
منها: ان الافتراض المذكور يجعل الحكم المقطوع منوطا بنفس
القطع، وهذا أمر يستحيل ان يسلم به القاطع لأنه يخالف طبيعة الكاشفية
في القطع، التي تجعل القاطع دائما يرى ان مقطوعه ثابت بقطع النظر عن
قطعه.
ومنها: انه يلزم الدور في مرحلة وصول التكليف لان العلم بكل
تكليف يتوقف على العلم بتحقق موضوعه، وموضوعه بحسب الفرض هو
العلم به فيكون العلم بالتكليف متوقفا على العلم بالعلم بالتكليف.
والعلم بالعلم نفس العلم، لان العلم لا يعلم بعلم زائد بل هو معلوم
بالعلم الحضوري لحضوره لدى النفس مباشرة، وهذا ينتج توقف العلم
على نفسه.
الا ان كل هذا إنما يرد إذا اخذ العلم بالمجعول في موضوعه، ولا
يتجه إذا اخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول. فبإمكان المولى ان
يتوصل إلى المقصود بتقييد المجعول بالعلم بالجعل، واما من لم يأخذ هذا
المخلص بعين الاعتبار كالمحقق النائيني (رحمه الله) فقد وقع في حيرة من
ناحيتين:
الأولى: انه كيف يتوصل الشارع إلى تخصيص الحكم بالعالم به إذا
كان التقييد المذكور مستحيلا؟
الثانية: انه إذا استحال التقييد استحال الاطلاق بناء على مختاره من أن
التقابل بين الاطلاق، والتقييد الثبوتيين تقابل العدم والملكة، وهذا
يعنى ان الجعل الشرعي يبقى مهملا بلا تقييد، ولا اطلاق، فكيف يرفع
هذا الاهمال ويتعين في المطلق تارة وفي المقيد أخرى؟
وقد حل (رحمه الله) ذلك بافتراض جعل ثان يتكفل اثبات نفس
الحكم للعالم بالجعل الأول خاصة إذا أريد التقييد، وللمكلف مطلقا من
212

حيث علمه بالجعل الأول وجهله به ان أريد الاطلاق وبذلك تتحقق نتيجة
التقييد والاطلاق. وانما نعبر بالنتيجة لا بها لان ذلك لم يحصل بالجعل
الأول المهمل، وانما عوض عن اطلاقه وتقييده بجعل ثان على الوجه المذكور
ولا يلزم من التعويض المذكور محذور التقييد، والاطلاق في نفس الجعل
الأول، لان العلم بالحكم الأول اخذ قيدا في الحكم الثاني لا في نفسه فلا
دور، ونظرا إلى أن الجعلين قد نشئا من غرض واحد ولأجل ملاك فارد
كان التقييد في الثاني منهما في قوة التقييد في الأول، ولهذا عبر عن الثاني
بمتمم الجعل الأول.
ويرد عليه انه إن أراد تقييد الحكم في الجعل الثاني بالعلم بالجعل
الأول فهذا التقييد ممكن في الجعل الأول مباشرة كما عرفت، وان أراد
تقييد الحكم في الجعل الثاني بالعلم بفعلية المجعول في الجعل الأول
المهمل، فهذا غير معقول لأنه يفترض ان فعلية المجعول بالجعل الثاني فرع
العلم بفعلية المجعول بالجعل الأول المهمل. وحينئذ نتسأل ان المجعول
بالجعل المهمل هل ترتبط فعليته بالعلم به أو لا؟ فعلى الأول يعود المحذور
وهو توقف الشئ على العلم به، وعلى الثاني يلزم الخلف وأن يكون
الجعل المهمل الذي لا اطلاق فيه مطلقا لان ثبوت مجعوله بدون توقف على
القيد هو معنى الاطلاق.
وثمرة هذا البحث تظهر في امكان التمسك باطلاق دليل الحكم،
لنفي دخل قيد العلم في موضوعه فإنه إن بني على امكان التقييد والاطلاق
معا أمكن ذلك كما هو الحال في نفي سائر القيود المحتملة بالاطلاق وان بني
على مسلك المحقق النائيني القائل باستحالة التقييد، والاطلاق معا، فلا
يمكن ذلك لان الاطلاق في الحكم مستحيل، فكيف يتمسك باطلاق
الدليل اثباتا لاكتشاف امر مستحيل وان بني على أن التقييد مستحيل،
والاطلاق ضروري، كما يرى ذلك من يقول بان التقابل بين التقييد
والاطلاق، تقابل التناقض، أو تقابل الضدين اللذين لا ثالث لهما فلا
213

يمكن التمسك باطلاق الدليل لان اطلاق الدليل انما يكشف عن اطلاق
مدلوله، وهو الحكم وهذا معلوم بالضرورة على هذا المبني وانما الشك في
اطلاق الملاك وضيقه ولا يمكن استكشاف اطلاق الملاك لا باطلاق الحكم
المدلول للدليل، ولا باطلاق نفس الدليل، اما الأول فلان اطلاق الحكم
انما يكشف عن اطلاق الملاك إذا كان بامكان المولى ان يجعله مقيدا فلم
يفعل والمفروض في المقام استحالة التقييد، واما الثاني فلان الدليل مفاده
مباشرة هو الحكم لا الملاك.
اخذ العلم بالحكم في موضوع ضده أو مثله:
واما الافتراض الثاني فهو مستحيل لان القاطع سواء كان مصيبا في
قطعه أو مخطئا، يرى في ذلك اجتماع الحكمين المتضادين فيمتنع عليه ان
يصدق بالحكم الثاني وما يمتنع تصديق المكلف به لا يمكن جعله، وفي
حالات إصابة القطع للواقع يستبطن الافتراض المذكور اجتماع الضدين
حقيقة.
وهذا الافتراض في حقيقته نحو من الردع عن العمل بالقطع بجعل
حكم على القاطع مضاد لمقطوعه، واستحالته بتعبير آخر هي استحالة
الردع عن العمل بالقطع.
واما الافتراض الثالث فقد يطبق عليه نفس المحذور المتقدم، ولكن
باستبدال محذور اجتماع الضدين بمحذور اجتماع المثلين. وقد يجاب على
ذلك بان محذور اجتماع المثلين يرتفع بالتأكد والتوحد، كما هو الحال في
أكرم العادل وأكرم الفقير فإنهما يتأكدان في العادل الفقير ولكن هذا الجواب
ليس صحيحا لان التأكد على نحو التوحد انما يكون في مثلين لا طولية
وترتب بينهما، كما في المثال لا في المقام حيث إن أحدهما متأخر رتبة عن
الآخر لترتبه على القطع به فلا يمكن ان يرتفع محذور اجتماع المثلين
بالتأكد.
214

الواجب التوصلي والتعبدي
لا شك في وجود واجبات لا يخرج المكلف عن عهدتها، الا إذا أتى
بها بقصد القربة والامتثال، وفي مقابلها واجبات يتحقق الخروج عن
عهدتها بمجرد الاتيان بالفعل بأي داع كان.
والقسم الأول يسمى بالتعبدي، والثاني يسمى بالتوصلي. والكلام
يقع في تحليل الفرق بين القسمين فهل الاختلاف بينهما مرده إلى عالم الحكم
والوجوب بمعنى ان قصد القربة والامتثال يكون مأخوذا قيدا، أو جزءا في
متعلق الوجوب التعبدي ولا يكون كذلك في الوجوب التوصلي، أو ان مرد
الاختلاف إلى عالم الاملاك دون عالم الحكم بمعنى ان الوجوب في كل من
القسمين متعلق بذات الفعل ولكنه في القسم الأول ناشئ عن ملاك لا
يستوفى الا بضم قصد القربة، وفي القسم الثاني ناشئ عن ملاك يستوفى
بمجرد الاتيان بالفعل.
ومنشأ هذا الكلام هو احتمال استحالة اخذ قصد امتثال الامر في
متعلق الامر فان ثبتت هذه الاستحالة تعين تفسير الاختلاف بين التعبدي
والتوصلي بالوجه الثاني، والا تعين تفسيره بالوجه الأول.
ومن هنا يتجه البحث إلى تحقيق حال هذه الاستحالة وقد برهن
عليها بوجوه:
215

الأول: ان قصد امتثال الامر متأخر رتبة عن الامر لتفرعه عليه فلو
اخذ قيدا، أو جزءا في متعلق الامر والوجوب لكان داخلا في معرض الامر
ضمنا، ومتقدما على الامر تقدم المعروض على عارضه فيلزم كون الشئ
الواحد متقدما ومتأخرا.
والجواب ان ما هو متأخر عن الامر، ومتفرع على ثبوته قصد
الامتثال من المكلف خارجا لا عنوانه وتصور مفهومه في دهن المولى وما
يكون متقدما على الامر تقدم المعروض على عارضه هو عنوان المتعلق
وتصوره في ذهن المولى لأنه ما لم يتصور الشئ لا يمكنه ان يأمر به، واما
الوجود الخارجي للمتعلق فليس متقدما على الامر بل هو من نتائجه دائما
فلا محذور.
وكأن صاحب هذا البرهان اشتبه عليه المتعلق بالموضوع. فقد عرفنا
سابقا ان فعلية الوجوب المجعول تابعة لوجود الموضوع خارجا وحيث
اختلط على هذا المبرهن المتعلق، والموضوع، فخيل له ان قصد الامتثال
إذا كان داخلا في المتعلق فهو داخل في الموضوع ويكون الوجوب الفعلي
تابعا لوجوده، بينما وجوده متفرع على الوجوب. ونحن قد ميزنا سابقا بين
المتعلق والموضوع، وميزنا بين الجعل والمجعول. وعرفنا ان المجعول تابع
في فعليته لوجود الموضوع خارجا لا لوجود المتعلق. وان الجعل منوط
بالوجود الذهني لأطرافه من المتعلق والموضوع لا الخارجي فلا تنطوي علينا
المغالطة المذكورة.
الثاني: ان قصد امتثال الامر عبارة عن محركية الامر. والامر لا
يحرك الا نحو متعلقه، فلو كان نفس القصد المذكور داخلا في المتعلق
لادى إلى أن الامر يحرك نحو نفس هذه المحركية وهذا مستحيل. وببيان
آخر ان المكلف لا يمكنه ان يقصد امتثال الامر الا بالاتيان بما تعلق به ذلك
الامر، فإن كان القصد المذكور دخيلا في المتعلق، فهذا يعنى ان الامر لم
يتعلق بذات الفعل، فلا يمكن للمكلف ان يقصد الامتثال بذات الفعل.
216

وإن شئت قلت إن قصد امتثال الامر بفعل يتوقف على أن يكون
مصداقا لمتعلق الامر وكونه كذلك - على فرض اخذ القصد في المتعلق -
يتوقف على انضمام القصد المذكور إليه، وهذا يؤدي إلى توقف الشئ
على نفسه، واستحالة الامتثال.
وقد أجيب على ذلك بان القصد إذا كان داخلا في المتعلق انحل
الامر إلى امرين ضمنيين لكل منهما محركية نحو متعلقه.
أحدهما: الامر بذات الفعل.
والآخر: الامر بقصد امتثال الامر الأول وجعله محركا فيندفع البيان
الأول في البرهان المذكور بان الامر الثاني يحرك نحو محركية الامر الأول لا
نحو محركية نفسه ويدفع البيان الثاني بان ذات الفعل متعلق للامر وهو
الامر الضمني الأول.
الثالث: ان قصد امتثال الامر إذا أخذ في متعلق الامر كان نفس
الامر قيدا من قيود الواجب. وحيث إنه قيد غير اختياري فلا بد من اخذه
قيدا في موضوع الوجوب. وهذا يعني اخذ الامر في موضوع نفسه وهو
محال. وقد مر بنا هذا البرهان في الحلقة السابقة. وقد يعترض عليه بان
القيد غير الاختياري للواجب انما يلزم ان يؤخذ قيدا في موضوع الوجوب
لأنه لو لم يؤخذ كذلك لكان الامر محركا نحو المقيد وهو يساوق التحريك
نحو القيد مع أنه غير اختياري فلا بد من اخذه في الموضوع ليكون وجود
الامر ومحركيته بعد افتراض وجود القيد. وفي هذه الحالة لا يحرك الا إلى
التقيد وذات المقيد. وهذا البيان انما يبرهن على اخذ القيد غير الاختياري
للواجب قيدا في موضوع الوجوب، إذا لم يكن مضمون الوجود بنفس
جعل هذا الوجوب، واما إذا كان مضمونا كذلك فلن يحرك الامر حينئذ
نحو القيد لأنه موجود بنفس وجوده، بل يتجه في تحريكه دائما نحو التقيد،
وذات المقيد والمقام مصداق لذلك لان الامر يتحقق بنفس الجعل
الشرعي، فأي حاجة إلى اخذه قيدا في الموضوع.
217

هذه أهم براهين الاستحالة مع بعض التعليق عليها.
وثمرة هذا البحث ان الاختلاف بين القسمين إذا كان مرده إلى عالم
الحكم فبالامكان عند الشك في كون الواجب تعبديا، أو توصليا،
التمسك باطلاق دليل الواجب لنفي دخل قصد الامتثال في متعلق
الوجوب، كما هو الحال في كل القيود المحتملة فثبتت التوصلية، واما إذا
كان مرده إلى عالم الملاك بسبب استحالة اخذ القصد المذكور في متعلق
الامر، فلا يمكن التمسك بالاطلاق المذكور لاثبات التوصلية، لان
التوصلية لا تثبت حينئذ الا باثبات عدم دخل قصد الامتثال في الملاك،
وهذا ما لا يمكن اثباته بدليل الامر لا مباشرة لان مفاد الدليل هو الامر لا
الملاك، ولا بصورة غير مباشرة عن طريق اثبات الاطلاق في متعلق الامر،
لان الاطلاق في متعلق الامر انما يكشف عن الاطلاق في متعلق الملاك إذا
كان بامكان المولى ان يأمر بالمقيد فلم يفعل والمفروض هنا عدم الامكان.
وقد تذكر ثمرة أخرى في مجال الأصل العملي عند الشك في
التعبدية، وعدم قيام الدليل وهي ان هذا الشك مجرى للبراءة إذا كان
قصد الامتثال مما يؤخذ في الواجب على تقدير اعتباره إذ يدخل في كبرى
دوران الواجب بين الأقل والأكثر، ومجرى لأصالة الاشتغال إذا كان قصد
الامتثال مما لا يؤخذ كذلك إذ لا شك في وجوب شئ شرعا، وانما الشك
في سقوط الواجب المفروغ عن ثبوته.
218

التخيير في الواجب
التخيير تارة يكون عقليا، وأخرى شرعيا. فان كانت البدائل
مذكورة على نحو التردد متعلقا للامر في لسان الدليل، فالتخيير شرعي،
والا فهو عقلي، وقد وقع الكلام في تحليل واقع الوجوب في موارد
التخيير، وكيفية تعلقه.
وفي ذلك عدة اتجاهات:
الاتجاه الأول: ان الوجوب في موارد التخيير العقلي متعلق بالجامع،
وفي موارد التخيير الشرعي متعلق بكل واحد من البدائل، ولكن مشروطا
بترك البدائل الأخرى.
وقد يلاحظ عليه بان الوجوبات المشروطة تستلزم أمورا لا تناسب
الوجوب التخييري كما تقدم في الحلقة السابقة من قبيل تعدد العقاب بترك
الجميع.
الاتجاه الثاني: ارجاع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي فيلتزم بان
الوجوب يتعلق بالجامع دائما، اما ببرهان استحالة الوجوبات المشروطة،
كما أشير إليه فيتعين هذا، واما ببرهان ان الوجوب التخييري له ملاك
واحد والواحد لا يصدر الا من واحد فلا بد من فرض جامع بين البدائل
يكون هو علة تحصيل ذلك الملاك.
219

الاتجاه الثالث: التسليم بان الوجوب في موارد التخيير يتعلق بالجامع
دائما، ولكن يقال ان وجوب الجامع يستلزم الوجوبات المشروطة
للحصص، والافراد، اي وجوب كل واحدة منها بشرط انتفاء الحصص
الأخرى.
وهذه الوجوبات بمجموعها لما كانت روحا نفس ذلك الوجوب المتعلق
بالجامع فليس من ناحيتها الا عقاب واحد في فرض ترك الجميع، والفرق
بين هذا الاتجاه وسابقه ان هذا يقول بسراية الوجوب إلى الحصة بالنحو
المذكور، واما ذاك الاتجاه فلا يلتزم بالسراية وعليه لا تكون الحصة
معروضة للوجوب بل مصداقا لمعروض الوجوب. فالوجوب بالنسبة إلى
الحصة في موارد التخيير كالنوعية بالنسبة إلى افراد الانسان فان هذا الفرد أو
ذاك مصداق لمعروض النوعية لا معروض لها.
وقد يعترض على الاتجاه الثالث بان الوجوب فعل اختياري للشارع
يجعله حيثما أراد، فإذا جعله على الجامع لا يعقل ان يسري بنفسه إلى غير
الجامع. فان أريد بالوجوبات المشروطة سريان نفس ذلك الوجوب فهو
مستحيل، وان أريد ان الشارع يجعل وجوبات أخرى مشروطة فهو بلا
موجب فيكون لغوا ويمكن ان يجاب على ذلك بان هذا انما يتم في مرحلة
جعل الحكم والايجاب لا في مرحلة الشوق والإرادة، إذ لا مانع من دعوى
الملازمة في هذه المرحلة بين حب الجامع، وانحاء من الحب المشروط
للحصص، ولا يأتي الاعتراض باللغوية، لان الكلام هنا عن المبادئ
التكوينية للحكم وهذه الملازمة لا برهان عليها ولكنها مطابقة للوجدان.
وهذا التحليل للوجوب التخييري له ثمرات منها ما سوف يظهر في
مسألة اجتماع الأمر والنهي، ومنها ما قد يقال من انه إذا شك في واجب
انه تخييري، أو تعييني فعلى القول برجوع التخيير الشرعي إلى ايجاب
الجامع يكون المقام من موارد دوران الامر بين التعيين، والتخيير، فان قيل
هناك بالبراءة قيل بها هنا باجرائها عن التعيين، وإلا فلا وعلى القول
220

برجوع التخيير الشرعي إلى الوجوبات المشروطة، كما يقرره الاتجاه الأول،
فالشك مرجعه إلى الشك في اطلاق الوجوب، واشتراطه اي في ثبوته في
حال الاتيان بما يحتمل كونه بديلا وعدلا، وهذا شك في الوجوب الزائد
بلا اشكال فتجري البراءة.
221

الوجوب الغيري لمقدمات الواجب
تعريف الواجب الغيري:
اتضح مما تقدم ان المكلف مسؤول عن مقدمات الواجب من قبل
نفس الوجوب المتعلق بها، لأنه يحرك نحوها تبعا لتحريكه نحو متعلقه،
وهذه المسؤولية في حدودها العقلية متفق عليها باعتبارها من شؤون حكم
العقل بلزوم الامتثال، وانما وقع الكلام في دعوى الوجوب الشرعي
للمقدمة. فالمشهور بين الأصوليين هو ان ايجاب الشئ يستلزم ايجاب
مقدمته فتتصف المقدمة بوجوب شرعي غير أنه تبعي. اما بمعنى انه معلول
لوجوب ذي المقدمة، أو بمعنى ان الوجوبين معا معلولان للملاك القائم
بذي المقدمة، فهذا الملاك بنفسه يؤدي إلى ايجاب ذي المقدمة نفسيا،
وبضم مقدمية المقدمة يؤدي إلى ايجابها غيريا وعلى كلا الوجهين فالتلازم
بين الوجوبين محفوظ.
ويعرف هؤلاء القائلون بالملازمة الواجب الغيري بأنه ما وجب
لغيره، أو ما وجب لواجب آخر. والواجب النفسي بأنه ما وجب لنفسه،
أو ما وجب لا لواجب آخر، وعلى هذا الأساس يصنفون الواجبات في
الشريعة إلى قسمين: فالصلاة، والصيام، والحج، ونحوها واجبات
نفسية. والوضوء، والغسل، وطي المسافة، واجبات غيرية. وقد لوحظ
عليهم ان الصلاة ونحوها من الواجبات لم يوجبها الشارع الا لما يترتب
222

عليها من الفوائد والمصالح وهي مغايرة وجودا لتلك الفوائد والمصالح،
فيصدق عليها انها وجبت للغير، وهذا يعني ان كل هذه الواجبات تصبح
غيرية ولا يبقي في نطاق الواجب النفسي الا ما كانت مصلحته ذاتية له
كالايمان بالله سبحانه وتعالى.
وأجاب هؤلاء على الملاحظة المذكورة بان الصلاة وان كانت واجبة
من أجل المصلحة المترتبة عليها الا ان هذا لا يدرجها في تعريف الواجب
الغيري، لان الواجب الغيري ليس كل ما وجب لغيره، بل ما وجب
لواجب آخر، والمصلحة الملحوظة في ايجاب الصلاة ليست متعلقا للوجوب
بنفسها فلا يصدق على الصلاة انها وجبت لواجب آخر. فان سألت كيف
لا تكون تلك المصلحة واجبة مع أن الصلاة الواجبة انما أوجبت من
أجلها.
كان الجواب ان الايجاب مرجعه إلى الاعتبار. والجعل الذي هو
العنصر الثالث من عناصر تكوين الحكم في مقام الثبوت، وغاية الواجب
انما يجب ان تكون مشاركة للواجب بدرجة أقوى في عالم الحب والإرادة لان
حبه انما هو لاجلها لا في عالم الجعل والاعتبار. لان الجعل قد يحدد به
المولى مركز حق الطاعة على نحو يكون مغايرا لمركز حب الأصيل لما تقدم
في بداية هذه الحلقة من أن المولى له ان يحدد مركز حق الطاعة في مقدمات
مراده الأصيل بجعل الايجاب عليها لا عليه، فتكون هي الواجبة في عالم
الجعل دونه.
وعلى هذا فإذا جعل الشارع الايجاب على الصلاة ابتداء وحددها
مركزا لحق الطاعة، ولم يدخل المصلحة المنظورة له في العهدة كانت الصلاة
واجبا نفسيا لا غيريا، لأنها لم تجب لواجب آخر وان وجبت لمصلحة مترتبة
عليها وخلافا لذلك الوضوء فإنه وجب من أجل الصلاة الواجبة فينطبق
عليه تعريف الواجب الغيري
223

خصائص الوجوب الغيري:
ولا شك لدي الجميع في أن الوجوب الغيري للمقدمة - إذا كان
ثابتا - فهو لا يتمتع بجملة من خصائص الوجوب النفسي ويمكن تلخيص أحوال الوجوب الغيري فيما يلي:
أولا: انه ليس صالحا للتحريك المولوي بصورة مستقلة، ومنفصلة
عن الوجوب النفسي بمعنى ان من لا يكون بصدد التحرك عن الوجوب
النفسي للحج لا يمكن ان يتحرك بروحية الطاعة، والاخلاص للمولى عن
الوجوب الغيري لطي المسافة لان إرادة العبد المنقاد التكوينية يجب ان
تتطابق مع إرادة المولى التشريعية. ولما كانت إرادة المولى للمقدمة في إطار
مطلوبية ذيها، ومن أجل التوصل إليه، فلا بد ان تكون إرادة العبد المنقاد
لها في اطار امتثال ذيها.
وثانيا: ان امتثال الوجوب الغيري لا يستتبع ثوابا بما هو امتثال له
وذلك لان المكلف ان أتى بالمقدمة بداعي امتثال الواجب النفسي كان عمله
بداية في امتثال الوجوب النفسي، ويستحق الثواب عندئذ من قبل هذا
الوجوب، وان أتى بالمقدمة وهو منصرف عن امتثال الواجب النفسي فلن
يكون بامكانه ان يقصد بذلك امتثال الوجوب الغيري لما تقدم من عدم
صلاحية الوجوب الغيري للتحريك المولوي.
وثالثا: ان مخالفة الوجوب الغيري بترك المقدمة ليست موضوعا
مستقلا لاستحقاق العقاب، إضافة إلى ما يستحق من عقاب على مخالفة
الوجوب النفسي. وذلك لان استحقاق العقاب على مخالفة الواجب انما هو
بلحاظ ما يعبر عنه الواجب من مبادئ، وملاكات تفوت بذلك، ومن
الواضح ان الواجب الغيري ليس له مبادئ، وملاكات سوى ما للواجب
النفسي من ملاك فلا معنى لتعدد استحقاق العقاب.
224

ورابعا: ان الوجوب الغيري ملاكه المقدمية وهذا يفرض تعلقه
بواقع المقدمة دون ان يؤخذ فيه اي شئ إضافي لا دخل له في حصول
ذي المقدمة. ومن هنا كان قصد التوصل بالمقدمة إلى امتثال المولى،
والتقرب بها نحوه تعالى خارجا عن دائرة الواجب الغيري لعدم دخل ذلك
في حصول الواجب النفسي فطي المسافة إلى الميقات كيفما وقع وباي داع
اتفق يحقق الواجب الغيري، ولا يتوقف الحج على وقوع هذا الطي بقصد
قربي. وهذا معنى ما يقال من أن الواجبات الغيرية توصلية.
مقدمات غير الواجب:
كما تتصف مقدمات الواجب بالوجوب الغيري عند القائلين
بالملازمة، كذلك تتصف مقدمات المستحب بالاستحباب الغيري لنفس
السبب. واما مقدمات الحرام فهي على قسمين:
أحدهما: ما لا ينفك عنه الحرام ويعتبر بمثابة العلة التامة، أو الجزء
الأخير من العلة التامة له، كإلقاء الورقة في النار الذي يترتب عليه
الاحتراق.
والقسم الآخر: ما ينفك عنه الحرام، وبالامكان ان يوجد ومع هذا
يترك الحرام.
فالقسم الأول من المقدمات يتصف بالحرمة الغيرية، دون القسم
الثاني، لان المطلوب في المحرمات ترك الحرام وهو يتوقف على ترك القسم
الأول من المقدمات، ولا يتوقف على ترك القسم الثاني.
ومقدمات المكروه كمقدمات الحرام.
الثمرة الفقهية للنزاع في الوجوب الغيري:
ومسألة الملازمة بين وجوب الشئ، ووجوب مقدمته على الرغم من
225

كونها من المسائل الأصولية العريقة في علم الأصول قد وقع شئ من
التحير لدى باحثيها في ثمرتها الفقهية. وقد يبدو لأول نظرة ان ثمرتها
اثبات الوجوب الغيري وهو حكم شرعي نستنبطه من الملازمة المذكورة.
ولكن الصحيح عدم صواب هذه النظرة، لان الحكم الشرعي الذي يبحثه
علم الفقه - ويطلب من علم الأصول ذكر القواعد التي يستنبط منها - انما
هو الحكم القابل للتحريك المولوي الذي تقع مخالفته موضوعا لاستحقاق
العقاب. وقد عرفت أن الوجوب الغيري - على تقدير ثبوته - ليس كذلك
فهو لا يصلح أن يكون بنفسه ثمرة لهذه المسألة الأصولية.
وأفضل ما يمكن ان يقال بهذا الصدد تصوير الثمرة كما يلي:
أولا: انه إذا اتفق ان أصبح واجب علة تامة لحرام وكان الواجب.
أهم ملاكا من الحرام، فتارة ننكر الملازمة، وأخرى نقبلها، فعلى الأول
يكون الفرض من حالات التزاحم بين ترك الحرام وفعل الواجب، فنرجع
إلى قانون باب التزاحم، وهو تقديم الأهم ملاكا ولا يسوغ تطبيق قواعد
باب التعارض، كما عرفنا سابقا، وعلى الثاني يكون دليل الحرمة ودليل
الوجوب متعارضين، لان الحرمة تقتضي تعلق الحرمة الغيرية بنفس
الواجب، ويستحيل ثبوت الوجوب والحرمة على فعل واحد، وهذا يعني
ان التنافي بين الجعلين، وكلما كان التنافي بين الجعلين دخل الدليلان في
باب التعارض وطبقت عليه قواعده بدلا عن قانون باب التزاحم.
ثانيا: انه إذا اتفق عكس ما تقدم في الثمرة السابقة فأصبح الواجب
صدفة متوقفا على مقدمة محرمة كإنقاذ الغريب إذا توقف على اجتياز الأرض
المغصوبة، فلا شك في أن المكلف إذا اجتاز الأرض المغصوبة وأنقذ
الغريق لم يرتكب حراما، لان الحرمة تسقط في هذه الحالة رعاية للواجب
الأهم، واما إذا اجتاز الأرض المغصوبة ولم ينقذ الغريق فقد ارتكب حراما
إذا أنكرنا الملازمة، وكذلك إذا قلنا بان الوجوب الغيري يختص بالحصة
الموصلة من المقدمة ولم يرتكب حراما إذا قلنا بالملازمة، وان الوجوب
226

الغيري لا يختص بالحصة الموصلة، اما انه ارتكب حراما على الأولين فلان
اجتياز الأرض المغصوبة حرام في نفسه ولا يوجد ما يحول دون اتصافه - في
حالة عدم التوصل به إلى الانقاذ - بالحرمة، واما انه لم يرتكب حراما على
الأخير فلان الوجوب الغيري يحول دون اتصافه بالحرمة.
شمول الوجوب الغيري:
قام القائلون بالملازمة بعدة تقسيمات للمقدمة، وبحثوا في أن
الوجوب الغيري هل يشمل كل تلك الأقسام أولا؟
ونذكر فيما يلي أهم تلك التقسيمات:
التقسيم الأول: تقسيم المقدمة إلى داخلية وخارجية، ويراد
بالداخلية جزء الواجب، وبالخارجية ما توقف عليه الواجب من أشياء سوى
اجزائه، وقد وقع البحث بينهم في أن الوجوب الغيري هل يعم المقدمات
الداخلية أو يختص بالمقدمات الخارجية، فقد يقال بالتعميم، لان ملاكه
التوقف، والواجب كما يتوقف على المقدمة الخارجية يتوقف أيضا على وجود
جزئه، إذ لا يوجد مركب الا إذا وجدت اجزاؤه. ويقال في مقابل ذلك
بالاختصاص ونفي الوجوب الغيري عن الجزء، اما لعدم المقتضى له أو
لوجود المانع وبيان عدم المقتضى ان يقال: ان التوقف والمقدمية يستبطن
المغايرة بين المتوقف والمتوقف عليه لاستحالة توقف الشئ على نفسه،
والجزء ليس مغايرا للمركب في الوجود الخارجي فلا معنى لاتصافه بالوجوب
الغيري. وبيان المانع بعد افتراض المقتضى إن يقال إن الجزء متصف
بالوجوب النفسي الضمني، فلو اتصف بالوجوب الغيري لزم اجتماع
المثلين، فان قيل يمكن ان يفترض تأكدهما وتوحدهما من خلال ذلك في
وجوب واحد فلا يلزم محذور، كان الجواب ان التأكد والتوحد هنا
مستحيل، لان الوجوب الغيري إذا كان معلولا للوجوب النفسي كما يقال
227

فيستحيل ان يتحد معه وجودا لاستحالة الوحدة بين العلة والمعلول في
الوجود.
التقسيم الثاني: تقسيم المقدمة إلى مقدمة واجب، ومقدمة وجوب،
ولا شك في أن المقدمة الوجوبية كما لا يكون المكلف مسؤولا عنها من قبل
ذلك الوجوب على ما تقدم، كذلك لا يتعلق الوجوب الغيري بها لأنه من
معلول للوجوب النفسي أو معه فلا يعقل ثبوته الا في فرض ثبوت الوجوب
النفسي، وفرض ثبوت الوجوب النفسي يعني ان مقدمات الوجوب قد
تمت ووجدت فلا معنى لايجابها.
التقسيم الثالث: تقسيم المقدمة إلى شرعية وعقلية وعملية. والمقدمة
الشرعية ما أخذها الشارع قيدا في الواجب، والمقدمة العقلية ما يتوقف
عليها ذات الواجب تكوينا، والمقدمة العلمية هي ما يتوقف عليها تحصيل
العلم بالاتيان بالواجب، كالجمع بين أطراف العلم الاجمالي. ولا شك في أن
الوجوب الغيري لا يتعلق بالمقدمة العلمية لأنها مما لا يتوقف عليها نفس
الواجب، بل احرازه، كما لا شك في تعلقه بالمقدمة العقلية إذا ثبتت
الملازمة، وانما الكلام في تعلقه بالمقدمة الشرعية، إذ ذهب بعض الاعلام
كالمحقق النائيني (رحمه الله) إلى أن المقدمة الشرعية كالجزء تتصف
بالوجوب النفسي الضمني، وعلى هذا الأساس أنكر وجوبها الغيري،
ودعوى الوجوب النفسي للمقدمة الشرعية تقوم على افتراض ان مقدميتها
بأخذ الشارع لها في الواجب النفسي، ومع اخذها في الواجب ينبسط عليها
الوجوب، ونرد على هذه الدعوى بما تقدم من أن اخذها قيدا يعني
تحصيص الواجب بها وجعل الامر متعلقا بالتقيد فيكون تقيد الفعل بمقدمته
الشرعية واجبا نفسيا ضمنيا لا القيد نفسه، فان قيل إن التقيد منتزع عن
القيد، فالامر به امر بالقيد كان الجواب ان القيد وان كان دخيلا في
حصول التقيد لأنه طرف له، لكن هذا لا يعني كونه عينه بل التقيد بما هو
معنى حرفي له حظ من الوجود والواقعية مغاير لوجود طرفيه، وذلك هو
228

متعلق الامر النفسي ضمنا، فالمقدمة الشرعية إذن تتصف بالوجوب الغيري
كالمقدمة العقلية إذا تمت الملازمة.
تحقيق حال الملازمة:
والصحيح انكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والايجاب مع
التسليم بالشوق الغيري في مرحلة الإرادة.
اما الأول فلان الوجوب الغيري إن أريد به الوجوب المترشح بصورة
قهرية من قبل الوجوب النفسي، فهذا غير معقول، لان الوجوب جعل
واعتبار، والجعل فعل اختياري للجاعل ولا يمكن ترشحه بصورة قهرية
وان أريد به وجوب يجعل بصورة اختيارية من قبل المولى، فهذا يحتاج إلى
مبرر ومصحح لجعله، مع أن الوجوب الغيري لا مصحح لجعله لان
المصحح للجعل - كما تقدم في محله - اما إبراز الملاك بهذا اللسان
التشريعي، واما تحديد مركز حق الطاعة والإدانة، وكلا الامرين لا معنى
له في المقام، لان الملاك مبرز بنفس الوجوب النفسي، والوجوب الغيري
لا يستتبع إدانة لا يصلح للتحريك، كما مر بنا فيلغو جعله.
واما الثاني فمن أجل التلازم بين حب شئ وحب مقدمته، وهو
تلازم لا برهان عليه، وانما نؤمن به لشهادة الوجدان، وبذلك صح
افتراض الحب في جل الواجبات النفسية التي تكون محبوبة بما هي مقدمات
لمصالحها وفوائدها المترتبة عليها ولو أنكرنا الملازمة بين حب الشئ وحب
مقدمته لما أمكن التسليم بمحبوبية هذه الواجبات النفسية.
حدود الواجب الغيري:
وفي حالة التسليم بالواجب الغيري في مرحلتي الجعل والحب معا أو
في احدى المرحلتين على الأقل، يقع الكلام في أن متعلق الوجوب الغيري
229

هل هو الحصة الموصلة من المقدمة أو طبيعي المقدمة.
قد يقال بان المسألة مبنية على تعيين الملاك والغرض من الواجب
الغيري، فإن كان الغرض هو التمكن من الواجب النفسي فمن الواضح
ان هذا الغرض يحصل بطبيعي المقدمة ولا يختص بالحصة الموصلة، فيتعين
أن يكون الوجوب الغيري تبعا لغرضه متعلقا بالطبيعي أيضا، وان كان
الغرض حصول الواجب النفسي فهو يختص بالمقدمة الموصلة ويثبت حينئذ
اختصاص الوجوب بها أيضا تبعا للغرض، وفي المسألة قولان، فقد ذهب
صاحب الكفاية وجماعة إلى الأول، وذهب صاحب الفصول وجماعة إلى
الثاني.
ويمكن ان يبرهن على الأول بان الوجوب الغيري لو كان متعلقا
بالحصة الموصلة إلى الواجب النفسي خاصة لزم أن يكون الواجب النفسي
قيدا في متعلق الوجوب الغيري والقيد مقدمة للمقيد، وهذا يؤدي إلى أن
يصبح الواجب النفسي مقدمة للواجب الغيري.
ويمكن ان يبرهن على الثاني، بان غرض الوجوب الغيري ليس هو
التمكن بل نفس حصول الواجب النفسي، لان دعوى أن الغرض هو
التمكن ان أريد بها ان التمكن غرض نفسي فهو باطل بداهة وخلف أيضا
لأنه يجعل المقدمة موصلة دائما لعدم انفكاكها عن التمكن الذي هو غرض
نفسي مع اننا نتكلم عن المقدمة التي تنفك خارجا عن الغرض النفسي،
وان أريد بها ان التمكن غرض غيري فهو بدوره طريق إلى غرض نفسي لا
محالة، إذ وراء كل غرض غيري غرض نفسي، فإن كان الغرض النفسي
منه حصول الواجب النفسي ثبت ان هذا هو الغرض الأساسي من
الواجبات الغيرية والا تسلسل الكلام حتى يعود إليه لا محالة، فالصحيح
اذن اختصاص الوجوب بالحصة الموصلة، ولكن لا بمعنى اخذ الواجب
النفسي قيدا في متعلق الوجوب الغيري كما توهم في البرهان على القول
الأول، بل بمعنى ان الوجوب الغيري متعلق بمجموعة المقدمات التي متى
230

ما وجدت كان وجود الواجب بعدها مضمونا.
مشاكل تطبيقية:
استعرضنا فيما سبق أربع خصائص وحالات للوجوب الغيري وتنص
الثانية منها على أن امتثال الوجوب الغيري لا يستتبع ثوابا، وتنص الرابعة
منها على أن الواجب الغيري توصلي، وقد لوحظ ان ما ثبت من ترتب
الثواب على جملة من المقدمات كما دلت عليه الروايات، ينافي الحالة الثانية
للوجوب الغيري، وان ما ثبت من عبادية الوضوء والغسل والتيمم واعتبار
قصد القربة فيها ينافي الحالة الرابعة له.
والجواب اما فيما يتصل بالحالة الثانية فهو انها تنفي استتباع امتثال
الوجوب الغيري بما هو امتثال له للثواب، ولا تنفي ترتب الثواب على
المقدمة بما هي شروع في امتثال الوجوب النفسي، وذلك فيما إذا أتى بها
بقصد التوصل بها إلى امتثاله، وما ثبت بالروايات من الثواب على
المقدمات يمكن تطبيقه على ذلك.
واما فيما يتصل بالحالة الرابعة فإنها في الحقيقة انما تنفي دخول اي
شئ في دائرة الواجب الغيري زائدا على ذات المقدمة التي يتوقف عليها
الواجب النفسي، فإذا كان الواجب النفسي متوقفا على ذات الفعل امتنع
اخذ قصد القربة في متعلق الوجوب الغيري لعدم توقف الواجب النفسي
عليه، وإذا كان الواجب النفسي متوقفا على الفعل مع قصد القربة تعين
تعلق الوجوب الغيري بهما معا، لان قصد القربة في هذه الحالة يعتبر جزءا
من المقدمة، وفي كل مورد يقوم فيه الدليل على عبادية المقدمة نستكشف
انطباق هذه الحالة عليها.
فان قيل أليس قصد القربة معناه التحرك عن محرك مولوي لايجاد
الفعل، وقد فرضنا ان الامر الغيري لا يصلح للتحريك المولوي، كما
نصت عليه الحالة الأولى من الحالات الأربع المتقدمة للوجوب الغيري فما
231

هو المحرك المولوي نحو المقدمة
. كان الجواب ان المحرك المولوي نحوها هو الوجوب النفسي المتعلق
بذيها، وهذا التحريك يتمثل في قصد التوصل، هذا إضافة إلى امكان
افتراض وجود امر نفسي متعلق بالمقدمة، أحيانا بقطع النظر عن
مقدميتها، كما هو الحال في الوضوء على القول باستحبابه النفسي.
232

دلالة الأوامر الاضطرارية والظاهرية على الاجزاء
لا شك في أن الأصل اللفظي - في كل واجب لدليله اطلاق - انه لا
يجزي عنه شئ آخر، لان اجزاءه عنه معناه كونه مسقطا ومرجع مسقطية
غير الواجب للواجب اخذ عدمه قيدا في الوجوب، وهذا التقييد منفي
باطلاق دليل الواجب، وهذا ما قد يسمى بقاعدة عدم الاجزاء، ولكن
يدعى الخروج عن هذه القاعدة في بعض الحالات استنادا إلى ملازمة
عقلية، كما في حالة الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الاتيان بالمأمور
به بالأمر الظاهري، إذ قد يقال بان الامر الاضطراري أو الظاهري يدل
دلالة التزامية عقلية على اجزاء متعلقه عن الواجب الواقعي على أساس
وجود ملازمة بين جعله وبين نكتة تقتضي الاجزاء والتفصيل كما يلي:
دلالة الأوامر الاضطرارية على الاجزاء عقلا:
إذا تعذر الواجب الأصلي على المكلف فأمر بالميسور اضطرارا كالعاجز
عن القيام تشرع في حقه الصلاة من جلوس، فتارة يكون الامر
الاضطراري مقيدا باستمرار العذر في تمام الوقت، وأخرى يكون ثابتا
بمجرد عدم التمكن في أول الوقت. ولنبدأ بالثاني فنقول: إذا بادر المريض
فصلى جالسا في أول الوقت، ثم ارتفع العذر في أثناء الوقت، فلا تجب
233

عليه الإعادة، والبرهان على ذلك أن المفروض ان الصلاة من جلوس التي
وقعت منه في أول الوقت كانت مصداقا للواجب بالأمر الاضطراري.
وحينئذ نتسأل ان وجوبها هل هو تعييني أو تخييري، والجواب هو
انه تخييري ولا يحتمل أن يكون تعيينيا لوضوح ان هذا المريض كان بامكانه
ان يؤخر صلاته إلى آخر الوقت فيصلي عن قيام وإذا كان وجوبها تخييريا
فهذا يعني وجود عدلين وبديلين يخير المكلف بينهما فإن كان هذان العدلان
هما الصلاة الاضطرارية والصلاة الاختيارية فقد ثبت المطلوب لان معنى
ذلك أن الواجب هو الجامع بين الصلاتين وقد حصل فلا موجب للإعادة
وان كان هذان العدلان هما مجموع الصلاتين من ناحية والصلاة الاختيارية
من ناحية أخرى بمعنى ان المكلف مخير بين ان يصلي من جلوس أولا ومن
قيام أخيرا وبين ان يقتصر على الصلاة من قيام في آخر الوقت، فهذا تخيير
بين الأقل والأكثر وهو مستحيل، وبهذا يتبرهن الاجزاء.
واما إذا كان الامر الاضطراري مقيدا باستيعاب العذر لتمام الوقت
فتارة يصلي المريض في أول الوقت ثم يرتفع عذره في الأثناء، وأخرى
صلي في جزء من الوقت ويكون عذره مستوعبا للوقت حقا، ففي الحالة
الأولى لا يقع ما أتى به مصداقا للواجب الاضطراري إذ لا امر اضطراري
في هذه الحالة ليبحث عن دلالته على الاجزاء. وفي الحالة الثانية لا مجال
للإعادة ولكن يقع الكلام عن وجوب القضاء، فقد يقال بعدم وجوب
القضاء لان الامر الاضطراري يكشف عقلا عن وفاء متعلقه بملاك الواجب
الاختياري إذ لولا ذلك لما امر به، ومع الوفاء لا فوت ليجب القضاء.
ولكن يرد على ذلك أن الامر الاضطراري يصح جعله في هذه الحالة
إذا كانت الوظيفة الاضطرارية وافية بجزء من ملاك الواقع مع بقاء جزء
آخر مهم لا بد من استيفائه، إذ في حالة من هذا القبيل يمكن للمولى ان
يأمر بالوظيفة الاضطرارية في الوقت ادراكا لذلك الجزء من الملاك في وقته
الأصلي ثم يأمر بعد ذلك بالقضاء استيفاء للباقي فلا دلالة للامر
234

الاضطراري عقلا على الاجزاء في هذه الحالة، بل يبقى على الفقيه
استظهار الحال من لسان دليل الامر الاضطراري واطلاقه فقد يستظهر منه
الاجزاء لظهور لسانه في وفاء البدل بتمام مصلحة المبدل أو ظهور حاله في أنه
في مقام بيان تمام ما يجب ابتداء وانتهاء فان سكوته عن وجوب القضاء
حينئذ يدل على عدمه.
دلالة الأوامر الظاهرية على الاجزاء عقلا:
قد تؤدي الحجة إلى تطبيق الواجب المعلوم على غير مصداقه الواقعي
بان تدل على أن الواجب صلاة الظهر مع أنه صلاة الجمعة أو على أن
الثوب طاهر مع أنه نجس فإذا أتى المكلف بالوظيفة وفقا للحجة
الظاهرية، فهل يجزي ذلك عن الواجب الواقعي بلا حاجة إلى قيام دليل
خاص على الاجزاء أو يحتاج اثبات الاجزاء في كل مورد إلى دليل خاص
وبدونه يرجع إلى قاعدة عدم الاجزاء.
قد يقال بالاجزاء بدعوى الملازمة العقلية بين الامر الظاهري وبينه
لان الامر الظاهري في حالات المخالفة للواقع يكشف عن وجود مصلحة
في مورده على نحو يستوفي به الملاك الواقعي الذي يفوت على المكلف
بسبب التعبد بالحجة الظاهرية وذلك ببرهان انه لولا افتراض مصلحة من
هذا القبيل لكان جعل الامر الظاهري قبيحا لأنه يكون مفوتا للمصلحة
على المكلف وملقيا له في المفسدة ومع اكتشاف مصلحة من هذا القبيل
يتعين الاجزاء فلا تجب الإعادة فضلا عن القضاء لحصول الملاك الواقعي
واستيفائه، والبناء على الاكتشاف المذكور يسمى بالقول بالسببية في جعل
الحجية بمعنى ان الامارة الحجة تكون سببا في حدوث ملاك في موردها.
ويرد على ذلك:
أولا: ان الأحكام الظاهرية على ما تقدم احكام طريقية لم تنشأ من
235

مصالح وملاكات في متعلقاتها بل من نفس ملاكات الأحكام الواقعية، وقد
مر دفع محذور استلزام الأحكام الظاهرية لتفويت المصلحة والالقاء في
المفسدة ولو كانت الأحكام الظاهرية ناشئة من مصالح وملاكات على ما
ادعي للزم التصويب، إذ بعد فرض وفاء الوظيفة الظاهرية بنفس ملاك
الواجب الواقعي يستحيل ان يبقى الوجوب الواقعي مختصا بمتعلقه الأولى
بل ينقلب لا محالة ويتعلق بالجامع بين الامرين وهذا نحو من التصويب.
وثانيا: إذا سلمنا ان ما يفوت على المكلف بسبب الحجة الظاهرية
من مصالح لا بد ان تضمن الحجة تداركه الا ان هذا لا يقتضي افتراض
مصلحة الا بقدر ما يفوت بسببها، فإذا فرضنا انكشاف الخلاف في أثناء
الوقت لم يكن ما فات بسبب الحجة الا فضيلة الصلاة في أول وقتها مثلا لا
أصل ملاك الواقع لامكان استيفائه معا، وهذا يعني ان المصلحة المستكشفة
من قبل الامر الظاهري انما هي في سلوك الامارة والتعبد العملي بها بالنحو
الذي يجبر ما يخسره المكلف بهذا السلوك وليست قائمة بالمتعلق وبالوظيفة
الظاهرية بذاتها فإذا انقطع التعبد في أثناء الوقت بانكشاف الخلاف انتهى
امد المصلحة، وهذا ما يسمى بالمصلحة السلوكية وعليه فلا موجب
للاجزاء عقلا.
نعم يبقى امكان دعوى الاجزاء بتوهم حكومة بعض أدلة الحجية
على أدلة الأحكام الواقعية وتوسعتها لموضوعها، وقد أوضحنا ذلك سابقا
وهو إجزاء مبني على الاستظهار من لسان دليل الحجية ولا علاقة له
بالملازمة العقلية، ويأتي دفع هذا التوهم عند التمييز بين الحكومة الواقعية
والحكومة الظاهرية في مباحث التعارض ان شاء الله تعالى.
236

امتناع اجتماع الأمر والنهي
لا شك في التضاد بين الأحكام التكليفية الواقعية وعلى هذا الأساس
يمتنع اجتماع الأمر والنهي لتضادهما بلحاظ المبادئ وعالم الملاك وبلحاظ
النتائج وعالم الامتثال. اما الأول فلان مبادئ الامر هي المصلحة
والمحبوبية ومبادئ النهي هي المفسدة والمبغوضية. واما الثاني فلضيق قدرة
المكلف عن امتثالهما معا وعدم امكان الترتب بينهما وقد سبق في مباحث
القدرة انه كلما ضاقت قدرة المكلف عن الجمع بين شيئين ولم يكن بالامكان
الترتب بين أمريهما وحكميهما امتنع جعل الحكمين.
وعلى هذا الأساس إذا دل دليل على الامر بشئ ودل دليل آخر على
النهي عنه من قبيل (صل) و (لا تصل) كان الدليلان متعارضين للتنافي
بين الجعلين بسبب التضاد في عالم الملاك أولا، وبسبب ضيق قدرة المكلف
عن الجمع بين الامتثالين مع عدم امكان الترتب ثانيا.
وهذا مما لا اشكال فيه من حيث الأساس، ولكن قد نفترض بعض
الخصوصيات في الأمر والنهي التي قد تخرجهما عن كونهما مجتمعين حقا على
شئ واحد فيزول الامتناع ولا ينشأ التعارض بين دليليهما ويمكن تلخيص
تلك الخصوصيات فيما يلي:
الخصوصية الأولى ان نفترض تعلق الامر بالطبيعة على نحو التخيير
237

العقلي بين حصصها وتعلق النهي بحصة معينة من حصصها من قبيل
(صل) و (لا تصل في الحمام) وهذا الافتراض يوجب اختلاف المتعلقين
بالاطلاق والتقييد، ولا شك في أن ذلك يوجب زوال السبب الثاني للتنافي
وهو ضيق قدرة المكلف عن الجمع بين الامتثالين، وذلك لأنه إذا كان
بامكان المكلف ان يصلي في غير الحمام فهو قادر على الجمع بين
الامتثالين، وانما المهم تحقيق حال السبب الأول للتنافي وهو التضاد في عالم
المبادئ فقد يقال بزواله أيضا لان الوجوب بمبادئه متعلق بالجامع ولا
يسري إلى الحصة، والحرمة بمبادئها قائمة بالحصة فلم يتحد المعروض
لهما، وهذا مبني على بحث تقدم في التخيير العقلي وانه هل يستبطن تخييرا
شرعيا ووجوبات مشروطة للحصص ولو بلحاظ عالم المبادئ، فان قيل
باستبطانه ذلك لم يجد اختلاف المتعلقين بالاطلاق والتقييد في التغلب على
السبب الأول للتنافي لان وجوب الجامع يسري ولو بمبادئه إلى الحصص،
وان أنكرنا الاستبطان المذكور اتجه القول بعدم التنافي وجواز الامر بالمطلق
والنهي عن الحصة.
غير أن مدرسة المحقق النائيني (رحمه الله) برهنت على التنافي بين
الامر بالمطلق والنهي عن الحصة بطريقة أخرى منفصلة عن الاستبطان
المذكور، وهي ان الامر بالمطلق يعنى ان الواجب لوحظ مطلقا من ناحية
حصصه، والاطلاق مؤداه الترخيص في تطبيق الجامع على اي واحدة من
تلك الحصص وهذا متعدد بعدد الحصص وعليه فالترخيص في تطبيق
الجامع على الحصة للنهي ينافي هذا النهي لا محالة، لان نفس الحصة
معروفة لهما معا فالتنافي لا يقع بالذات بين النهي عن الحصة والامر بالمطلق
بل بين النهي عن الحصة والترخيص فيها الناتج عن اطلاق متعلق الامر.
والفرق بين اثبات التنافي بطريقة الميرزا هذه واثباتها بدعوى
الاستبطان المذكور سابقا انه على طريقة الميرزا لا يكون هناك تناف بين
وجوب المطلق والنهي على نحو الكراهة عن حصة من حصصه لان الكراهة
238

لا تنافي الترخيص، ومن هنا فسر الميرزا كراهة الصلاة في الحمام وأمثالها.
واما على مسلك الاستبطان المذكور سابقا فالتنافي واقع بين الامر بالمطلق
والنهي عن الحصة سواء كان تحريميا أو كراهتيا.
ولكن التحقيق ان طريقة الميرزا هذه في اثبات التنافي غير وجيهة لان
الاطلاق ليس ترخيصا في التطبيق ولا يستلزمه. اما انه ليس ترخيصا،
فلان حقيقة الاطلاق كما تقدم عدم لحاظ القيد مع الطبيعة عندما يراد
جعل الحكم عليها. واما انه لا يستلزم الترخيص، فلان عدم لحاظ القيد
انما يستلزم عدم المانع من قبل الامر في تطبيق متعلقه على اي حصة من
الحصص وعدم المانع من قبل الامر شئ وعدم المانع من قبل جاعل الامر
المساوق للترخيص الفعلي شئ آخر، وما ينافي النهى عقلا هو الثاني دون
الأول.
وعلى اي حال فإذا تجاوزنا هذه الخصوصية وافترضنا الامتناع والتنافي
على الرغم من الاختلاف بالاطلاق والتقييد بين المتعلقين نصل حينئذ إلى
الخصوصية الأخرى، كما يلي:
الخصوصية الثانية ان نفترض تعدد العنوان وتعلق الامر بعنوان،
والنهي بعنوان آخر وتعدد العنوان قد يسبب جواز الاجتماع ورفع التنافي
بأحد وجهين، الأول ان تعدد العنوان يبرهن على تعدد المعنون، والثاني
دعوى الاكتفاء بمجرد تعدد العنوان في دفع التنافي مع الاعتراف بوحدة
المعنون والوجود خارجا.
اما الوجه الأول فهو إذا تم يدفع التنافي بكلا تقريبيه اي بتقريب
استبطان الامر بالجامع للوجوبات المشروطة بالحصص وبتقريب استلزامه
الترخيص في التطبيق على الحصة المنافي للنهي إذ مع تعدد الوجود الخارجي
لا يجري كلا هذين التقريبين، ولكن الاشكال في تمامية هذا الوجه إذ لا
برهان على أن مجرد تعدد العنوان يكشف عن تعدد المعنون خارجا لان
بالامكان انتزاع عنوانين من موجود خارجي واحد. نعم إذا ثبت ان
239

العنوان ماهية حقيقية للشئ تمثل حقيقته النوعية فمن الواضح ان تعدده
يساوق تعدد الشئ خارجا إذ لا يمكن أن يكون للشئ الخارجي الواحد
ماهيتان نوعيتان، ولكن ليس كل عنوان يشكل الماهية النوعية لمعنونه بل
كثيرا ما يكون من العناوين العرضية المنتزعة.
واما الوجه الثاني فحاصله ان الاحكام انما تتعلق بالعناوين والصور
الذهنية لا بالوجود الخارجي مباشرة فإذا كان العنوان في أفق الذهن متعددا
كفى ذلك في عدم التنافي فان قيل إن العناوين في الذهن انما يعرض لها
الأمر والنهي بما هي مرآة للخارج، وهذا يعني استقرار الحكم في النهاية
على الوجود الخارجي بتوسط العنوان والوجود الخارجي واحد فلا يمكن ان
يثبت امر ونهي عليه ولو بتوسط عنوانين.
كان الجواب على ذلك أن ملاحظة العنوان في الذهن مرآة للخارج
عند جعل الحكم عليه لا يعني ان الحكم يسري إلى الخارج حقيقة وانما
يعني ان العنوان ملحوظ بما هو صلاة أو غصب لا بما هو صورة ذهنية.
وهذا الوجه إذا تم انما يدفع التنافي بالتقريب الأول اي بدعوى
الاستبطان المذكور سابقا فان الامر بجامع الصلاة إذا كان يستبطن وجوبات
مشروطة بعدد الحصص فكل وجوب متعلق بحصة من حصص الصلاة
بهذا العنوان لا بها بما هي حصة من حصص الغصب، فلا تنافي بين
الوجوبات المشروطة والنهى بعد افتراض تعدد العنوان، ولكن الوجه
المذكور لا يدفع التنافي بالتقريب الثاني الذي افاده المحقق النائيني وهو
المنافاة بين النهي عن الحصة والترخيص في التطبيق لان اطلاق الواجب
لحالة غصبية الصلاة إذا كان يعني الترخيص في تطبيقه على المقيد بهذه
الحالة فهو مناف لتحريم هذه الغصبية لا محالة.
الخصوصية الثالثة ان نسلم بان الخصوصيتين السابقتين غير نافعتين
لدفع التنافي وان الصلاة في المكان المغصوب لا يمكن ان يجتمع عليها امر
ونهي بعنوانين، ولكننا نفترض انها متعلقة للامر والنهي مع عدم تعاصرهما
240

في الفعلية زمانا فيبحث عما إذا كان هذا نافعا في دفع التنافي أو لا. ومثاله
المقصود حالة طرو الاضطرار بسوء الاختيار، وتوضيحه ان الانسان تارة
يدخل إلى الأرض المغصوبة بدون اختياره وأخرى يدخلها بسوء اختياره،
وفي كلتا الحالتين يصبح بعد الدخول مضطرا إلى التصرف في المغصوب
بالمقدار الذي يتضمنه الخروج غير أن هذا المقدار يكون مضطرا إليه لا
بسوء الاختيار في الحالة الأولى ومضطر إليه بسوء الاختيار في الحالة الثانية
ويترتب على ذلك أن هذا المقدار في الحالة الأولى يكون مرخصا فيه من قبل
الشارع خلافا للحالة الثانية لان الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي المسؤولية
والإدانة، كما تقدم، ولكن النهي ساقط على القول المتقدم بان الاضطرار
بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وينافيه خطابا وعليه فلو كان وقت
الصلاة ضيقا وكان بامكان المكلف ان يصلي حال الخروج بدون ان تطول
بذلك مدة الخروج فصلي بنفس خروجه، فهذه صلاة في المكان المغصوب
ولا شك في وجوبها في الحالة الأولى لان الخروج باعتباره مضطرا إليه لا
بسوء الاختيار غير منهي عنه منذ البدء. وما في الحالة الثانية فقد يقال
بأنها منهي عنها ومأمور بها غير أن النهي والامر غير متعاصرين زمانا. ومن
هنا جاز ثبوتهما معا وذلك لان النهي سقط خطابا بالاضطرار الحاصل بسوء
الاختيار وإن لم يسقط عقابا وإدانة والامر توجه إلى الصلاة حال الخروج
بعد سقوط النهي فلم يجتمعا في زمان واحد.
ولكن التحقيق ان ذلك لا يدفع بين الأمر والنهي لان سقوط النهي
لو كان لنسخ وتبدل في تقدير الملاكات لأمكن ان يطرأ الامر بعد ذلك.
واما إذا كان بسبب الاضطرار بسوء الاختيار الذي هو نحو من العصيان،
فهذا انما يقتضى سقوط الخطاب لا المبادئ فالتنافي بلحاظ المبادئ ثابت
على كل حال. هذا إذا اخذنا بالقول السابق الذي يقول بان الاضطرار
بسوء الاختيار ينافي الاختيار خطابا وإذا أنكرنا هذه المنافاة فالامر أوضح.
وقد واجه الأصوليون هنا مشكلة اجتماع الأمر والنهي من ناحية
241

أخرى في المقام وحاصلها انه قد افترض كون الخروج مقدمة للتخلص
الواجب من الغصب ومقدمة الواجب واجبة فيكون الخروج واجبا فعلا مع
كونه منهيا عنه بالنهي السابق الذي لا يزال فعليا بخطابه وروحه معا أو
بروحه وملاكه فقط على الأقل فهل يلتزم بان الخروج ليس مقدمة للواجب
أو بتخصيص في دليل حرمة التصرف في المغصوب على نحو ينفي وجود
نهي من أول الامر عن هذه الحصة من التصرف أو بانخرام في قاعدة
وجوب المقدمة وجوه بل أقوال.
اما الوجه الأول: فحاصله ان الخروج والبقاء متضادان والواجب
هو ترك البقاء وفعل أحد الضدين ليس مقدمة لترك ضده، كما تقدم في
الحلقة السابقة، وهذا الوجه حتى إذا تم لا يحل المشكلة على العموم لان
هذه المشكلة لا نواجهها في هذا المثال فقط بل في حالات أخرى لا يمكن
انكار المقدمية فيها من قبيل من سبب بسوء اختياره إلى الوقوع في مرض
مهلك ينحصر علاجه بشرب الشراب المحرم فان مقدمية الشرب في هذه
الحالة واضحة.
واما الوجه الثاني: فلا يمكن الاخذ به الا مع قيام برهان على
التخصيص المذكور بتعذر اي حل آخر للمشكلة.
واما الوجه الثالث: فهو المتعين وذلك بان يقال ان المقدمة من ناحية
انقسامها إلى فرد مباح وفرد محرم على أقسام:
أحدها: ان تكون منقسمة إلى فردين من هذا القبيل فعلا، وفي
هذه الحالة يتجه الوجوب الغيري نحو غير المحرم خاصة لان الملازمة التي
يدركها العقل لا تقتضي أكثر من ذلك.
ثانيها: ان تكون منحصرة أساسا - وبدون دخل للمكلف في ذلك -
في الفرد المحرم وفي هذه الحالة يتجه الوجوب الغيري نحو الفرد المحرم
إذا كان الوجوب النفسي أهم من حرمته وتسقط الحرمة حينئذ.
242

ثالثها: ان تكون منقسمة أساسا إلى فرد مباح وفرد محرم غير أن
المكلف عجز نفسه بسوء اختياره عن الفرد المباح وفي هذه الحالة يدرك
العقل ان الانحصار في الفرد المحرم غير مسوغ لتوجه الوجوب الغيري
نحوه ما دام بسوء الاختيار، فالفرد المحرم يظل على ما هو عليه من الحرمة
ويكون تعجيز المكلف نفسه عن الفرد المباح من المقدمة مع بقاء الفرد
المحرم على حرمته تعجيزا له شرعا عن الاتيان بذي المقدمة لان المنع شرعا
عن مقدمة الواجب تعجيز شرعي عن الواجب، ولما كان هذا التعجيز
حاصلا بسوء اختيار المكلف فيسقط الخطاب المتكفل للامر بذي المقدمة على
القول المشهور دون العقاب والإدانة غير أن العقل يحكم بلزوم تحصيل ذي
المقدمة ولو بارتكاب المقدمة المحرمة لان ذلك أهون الامرين، وهذا يؤدي
إلى اضطراره إلى ارتكاب الفرد المحرم من المقدمة غير أنه لما كان منشأ هذا
الاضطرار أساسا سوء الاختيار فيسقط الخطاب على القول المشهور دون
العقاب وينتج عن ذلك أن الخطابات كلها ساقطة فعلا وان روحها بما
تستتبعه من إدانة ومسؤولية ثابت.
وفي كل حالة يثبت فيها امتناع اجتماع الأمر والنهي لا يختلف الحال
في ذلك بين الأمر والنهي النفسيين أو الغيريين أو الغيري مع النفسي لان
ملاك الامتناع مشترك، فكما لا يمكن أن يكون شئ واحد محبوبا ومبغوضا
لنفسه كذلك لا يمكن أن يكون محبوبا لغيره ومبغوضا لنفسه مثلا لان الحب
والبغض متنافيان بسائر أنحائهما، ونحن وان كنا ذهبنا إلى انكار الوجوب
الغيري في مرحلة الجعل والحكم، ولكنا اعترفنا به في مرحلة المبادئ،
وهذا كاف في تحقيق ملاك الامتناع لان نكتة الامتناع تنشأ من ناحية
المبادئ وليست قائمة بالوجود الجعلي للحكمين.
واما ثمرة البحث في مسألة الاجتماع فهي انه على الامتناع يدخل
الدليلان المتكفلان للامر والنهي في باب التعارض ويقدم دليل النهي على
دليل الامر لان دليل النهي اطلاقه شمولي ودليل الامر اطلاقه بدلي
243

والاطلاق الشمولي أقوى.
واما على القول بالجواز فلا تعارض بين الدليلين وحينئذ فان لم
ينحصر امتثال الواجب بالفعل المشتمل على الحرام وكانت للمكلف مندوحة
في مقام الامتثال فلا تزاحم أيضا والا وقع التزاحم بين الواجب والحرام.
واما صحة امتثال الواجب بالفعل المشتمل على الحرام فترتبط بما
ذكرنا من التعارض والتزاحم بان يقال: إنه إذا بني على التعارض بين
الدليلين وقدم دليل النهي فلا يصح امتثال الواجب بالفعل المذكور سواء كان
واجبا توصليا أو عباديا لان مقتضى تقديم دليل النهي سقوط اطلاق الامر
وعدم شموله له فلا يكون مصداقا للواجب واجزاء غير الواجب عن
الواجب على خلاف القاعدة، كما تقدم وإذا بني على عدم التعارض فينبغي
التفصيل بين أن يكون الواجب توصليا أو عباديا فإن كان توصليا صح
وأجزأ سواء وقع التزاحم لعدم وجود المندوحة أو لا، لأنه مصداق
للواجب والامر ثابت به على وجه الترتب في حالة التزاحم، وعلى الاطلاق
في حالة عدم التزاحم ووجود المندوحة، وان كان عباديا صح وأجزأ كذلك
إذا كان مبني عدم التعارض هو القول بالجواز بملاك تعدد المعنون. واما إذا
كان مبناه القول بالجواز بملاك الاكتفاء بتعدد العنوان مع وحدة المعنون فقد
يستشكل في الصحة والاجزاء لان المفروض حينئذ ان الوجود الخارجي
واحد وانه حرام ومع حرمته لا يمكن التقرب به نحو المولى فتقع العبادة
باطلة لاجل عدم تأتي قصد القربة لا لمحذور في اطلاق دليل الامر.
وفي كل حالة حكمنا فيها بعدم صحة العمل من أجل افتراض
التعارض فلا يختلف الحال في ذلك بين الجاهل والعالم بها لان التعارض
تابع للتنافي بين الوجوب والحرمة، وهذا التنافي قائم بين وجوديهما الواقعيين
بقطع النظر عن علم المكلف وجهله، وفي كل حالة حكمنا فيها بعدم
صحة العمل من أجل كونه عبادة وتعذر قصد التقرب به فينبغي ان
244

يخصص البطلان بصورة تنجز الحرمة. واما مع الجهل بها وعدم تنجزها،
فالتقرب بالفعل ممكن فيقع عبادة ولا موجب للبطلان حينئذ.
245

اقتضاء وجوب الشئ لحرمة ضده
وقع البحث في أن وجوب شئ هل يقتضى حرمة ضده أو لا ويراد
بالضد المنافي على نحو يشمل الضد العام والضد الخاص، ويراد بالاقتضاء
استحالة ثبوت وجوب الشئ مع انتفاء حرمة ضده سواء كانت هذه
الاستحالة ناشئة من أن أحدهما عين الآخر أو من أن أحدهما جزء الآخر أو
من الملازمة بينهما.
والمشهور في الضد العام هو القول بالاقتضاء وان اختلف في وجهه
فقال البعض انه بملاك العينية وهو غريب لان الوجوب غير التحريم فكيف
يقال بالعينية، وقد يوجه ذلك تارة بان وجوب الشئ عين حرمة الضد
العام في مقام التأثير لا عينه في عالم الحكم والإرادة. فكما أن حرمة الضد
العام تبعد عنه كذلك وجوب الشئ يبعد عن ضده العام بنفس مقربيته
نحو الفعل ومحركيته إليه وتارة أخرى بان النهي عن الشئ عبارة عن طلب
نقيضه فالنهي عن الترك عبارة عن طلب نقيضه، وهو الفعل، فصح ان
يقال ان الامر بالفعل عين النهي عن الضد العام، ويرد على التوجيه الأول
انه لا يفي باثبات حرمة الضد حقيقة، وعلى التوجيه الثاني بان يرجع إلى
مجرد التسمية، هذا مضافا إلى أن النهي عن شئ معناه الزجر عنه لا
طلب نقيضه.
وقال البعض انه بملاك الجزئية والتضمن لان الوجوب مركب من
246

طلب الفعل والمنع عن الترك وقد تقدم في بحث دلالة الامر على الوجوب
ابطال دعوى التركب في الوجوب على هذا النحو.
وقال البعض انه بملاك الملازمة، وذلك لان المولى بعد امره بالفعل
يستحيل ان يرخص في الترك وعدم الترخيص يساوق التحريم. والجواب
ان عدم الترخيص في الترك يساوق ثبوت حكم الزامي، وهو كما يلائم
تحريم الترك كذلك يلائم ايجاب الفعل فلا موجب لاستكشاف التحريم.
واما الضد الخاص فقد يقال باقتضاء وجوب الشئ لحرمته بأحد
دليلين:
الدليل الأول: وهو مكون من مقدمات:
الأولى: ان الضد العام للواجب حرام.
الثانية: ان الضد الخاص ملازم للضد العام.
الثالثة: ان كل ما هو ملازم للحرام فهو حرام.
ويبطل هذا الدليل بإنكار مقدمته الأولى، كما تقدم، وبانكار المقدمة
الثالثة إذ لا دليل عليها.
الدليل الثاني: وهو مكون من مقدمات أيضا:
الأولى: ان ترك أحد الضدين مقدمة لضده
الثانية: ان مقدمة الواجب واجبة وعليه فترك الضد الخاص للواجب
واجب.
الثالثة: إذا وجب ترك الضد الخاص حرم نقيضه وهو ايقاع الضد
الخاص وبذلك يثبت المطلوب.
وقد نستغني عن المقدمة الثالثة ونكتفي باثبات وجوب ترك الضد
الخاص لان هذا يحقق الثمرة المطلوبة من القول بالاقتضاء وهي عدم امكان
247

الامر بالضد الخاص ولو على وجه الترتب. ومن الواضح انه كما لا يمكن
الامر به مع حرمته كذلك مع الامر بنقيضه لاستحالة ثبوت الامر بالنقيضين
معا.
كما أن المقدمة الثانية لا نريد بها اثبات الوجوب الغيري للمقدمة في
كل مراحل الحكم بما فيها عالم الجعل، بل يكفي ثبوته بلحاظ عالم المبادئ
وعليه فهذه المقدمة ثابتة. والمهم اذن تحقيق حال المقدمة الأولى وقد برهن
عليها بان أحد الضدين مانع عن وجود ضده وعدم المانع أحد اجزاء العلة
فتثبت مقدمية عدم أحد الضدين بهذا البيان، ونجيب على هذا البرهان
بجوابين:
الجواب الأول: يتكفل حل الشبهة التي صيغ بها البرهان وبيانه ان
العلة مركبة من المقتضى والشرط وعدم المانع فالمقتضى هو السبب الذي
يترشح منه الأثر والشرط دخيل في ترشح الأثر من مقتضيه والمانع هو الذي
يمنع المقتضى من التأثير. ومن هنا يتوقف وجود الأثر على المقتضى والشرط
وعدم المانع وينشأ عدم الأثر من عدم المقتضى أو عدم الشرط أو وجود
المانع، ولكنه لا ينشأ من وجود المانع الا في حالة وجود المقتضى لان تأثير
المانع انما هو بمنعه للمقتضى عن التأثير ومع عدم وجود المقتضي لا معنى
لهذا المنع وهذا يعني ان المانع انما يكون مانعا إذا أمكن ان يعاصر المقتضي
لكي يمنعه عن التأثير، واما إذا استحال ان يعاصره استحالت مانعيته له
وبالتالي لا يكون عدمه من اجزاء العلة، وعلى هذا الأساس إذا لاحظنا
الصلاة بوصفها ضدا لإزالة النجاسة عن المسجد نجد ان المقتضي لها هو
إرادة المكلف ويستحيل ان تجتمع الإزالة مع إرادة المكلف للصلاة. وهذا
معناه ان مانعية الإزالة عن الصلاة مستحيلة فلا يمكن أن يكون عدمها أحد
اجزاء العلة وإن شئت قلت إنه مع وجود الإرادة للصلاة لا حالة منتظرة
ومع عدمها لا مقتضي للصلاة ليفرض كون الإزالة مانعة عن تأثيره. فان
قيل كيف تنكرون ان الإزالة مانعة مع أنها لو لم تكن مانعة لاجتمعت مع
248

الصلاة والمفروض عدم امكان ذلك.
كان الجواب ان المانعية التي تجعل المانع علة لعدم الأثر وتجعل عدم
المانع أحد اجزاء العلة للأثر انما هي مانعية الشئ عن تأثير المقتضي في
توليد الأثر. وقد عرفت أن هذه المانعية انما تثبت لشئ بالامكان معاصرته
للمقتضي. واما المانعية بمعنى مجرد التمانع وعدم امكان الاجتماع في
الوجود كما في الضدين فلا دخل لها في التأثير إذ متى ما تم المقتضي لاحد
المتمانعين بهذا المعنى مع الشرط وانتفى المانع عن تأثير المقتضى اثر اثره لا
محالة في وجود أحد المتمانعين ونفي الآخر ونتيجة ذلك أن وجود أحد
الضدين مع عدم ضده في رتبة واحدة ولا مقدمية بينهما.
الجواب الثاني: ان افتراض المقدمية يستلزم الدور، كما أشرنا إليه
في الحلقة السابقة فلاحظ.
وعليه فالصحيح ان وجوب شئ لا يقتضي حرمة ضده الخاص.
واما ثمرة هذا البحث فهي - كما أشرنا في الحلقة السابقة - تشخيص
حكم الصلاة المضادة لواجب أهم إذا اشتغل بها المكلف وترك الأهم،
وكذلك اي واجب آخر مزاحم من هذا القبيل، فإذا قلنا بالاقتضاء تعذر
ثبوت الامر بالصلاة ولو على وجه الترتب فلا تصح وإذا لم نقل بالاقتضاء
صحت بالأمر الترتبي وبصيغة أشمل في صياغة هذه الثمرة انه على القول
بالاقتضاء يقع التعارض بين دليلي الواجبين المتزاحمين لان كلا من الدليلين
يدل بالالتزام على ترحيم مورد الآخر، فيكون التنافي في أصل الجعل وهذا
ملاك التعارض كما مر بنا. واما على القول بعدم الاقتضاء فلا تعارض لان
مفاد كل من الدليلين ليس إلا وجوب مورده وهو وجوب مشروط بالقدرة
وعدم الاشتغال بالمزاحم كما تقدم، ولا تنافي بين وجوبين من هذا القبيل
في عالم الجعل.
249

اقتضاء الحرمة للبطلان
لا شك في أن النهي المتعلق بالعبادة أو بالمعاملة ارشادا إلى شرط أو
مانع يكشف عن البطلان بفقد الشرط أو وجود المانع، وانما الكلام في
الحرمة التكليفية واقتضائها لبطلان العبادة بمعنى عدم جواز الاكتفاء بها في
مقام الامتثال وبطلان المعاملة بمعنى عدم ترتب الأثر عليها فهنا مبحثان:
اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة:
والمعروف بينهم ان الحرمة تقتضي بطلان العبادة، ويمكن أن يكون
ذلك لاحد الملاكات التالية:
الأول: انها تمنع عن اطلاق الامر خطابا ودليلا لمتعلقها لامتناع
الاجتماع ومع خروجه عن كونه مصداقا للواجب لا يجزي عنه وهو معنى
البطلان.
الثاني: انها تكشف عن كون العبادة. مبغوضة للمولى، ومع كونها
مبغوضة يستحيل التقرب بها.
الثالث: انها تستوجب حكم العقل بقبح الاتيان بمتعلقها لكونه
معصية مبعدة عن المولى ومعه يستحيل التقرب بالعبادة.
250

وهذه الملاكات على تقدير تماميتها تختلف نتائجها فنتيجة الملاك الأول
لا تختص بالعبادة بل تشمل الواجب التوصلي أيضا، ولا تختص بالعالم
بالحرمة بل تشمل حالة الجهل أيضا، ولا تختص بالحرمة النفسية بل تشمل
الغيرية أيضا.
ونتيجة الملاك الثاني تختص بالعبادة إذ لا يعتبر قصد القربة في غيرها
وبالعالم بالحرمة لان من يجهل كونها مبغوضة يمكنه التقرب.
ونتيجة الملاك الثالث تختص بالعبادة وبفرض تنجز الحرمة، وأيضا
تختص بالنهي النفسي لان الغيري ليس موضوعا مستقلا لحكم العقل بقبح
المخالفة كما تقدم في مبحث الوجوب الغيري.
ثم إذا افترضنا ان حرمة العبادة تقتضي بطلانها، فان تعلقت
بالعبادة بكاملها فهو ما تقدم، وان تعلقت بجزئها بطل هذا الجزء لان
جزء العبادة عبادة وبطل الكل إذا اقتصر على ذلك المفرد من الجزء. واما
إذا أتى بفرد آخر غير محرم من الجزء صح المركب إذا لم يلزم من هذا
التكرار للجزء محذور آخر من قبيل الزيادة المبطلة لبعض العبادات، وان
تعلقت الحرمة بالشرط نظر إلى الشرط فإن كان في نفسه عبادة كالوضوء
بطل وبطل المشروط بتبعه والا لم يكن هناك موجب لبطلانه ولا لبطلان
المشروط، اما الأول فلعدم كونه عبادة، واما الثاني فلان عبادية المشروط
لا تقتضي بنفسها عبادية الشرط ولزوم الاتيان به على وجه قربي لان الشرط
والقيد ليس داخلا تحت الامر النفسي المتعلق بالمشروط والمقيد، كما تقدم
في محله.
اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة:
وتحلل المعاملة إلى السبب والمسبب، والحرمة تارة تتعلق بالسبب
وأخرى بالمسبب، فان تعلقت بالسبب، فالمعروف بين الأصوليين انها لا
251

تقتضي البطلان إذ لا منافاة بين أن يكون الانشاء والعقد مبغوضا وان
يترتب عليه مسببه ومضمونه.
وان تعلقت بالمسبب اي بمضمون المعاملة الذي يراد التوصل إليه
بالعقد باعتباره فعلا بالواسطة للمكلف وأثرا تسبيبيا له فقد يقال بان ذلك
يقتضي البطلان لوجهين:
الأول: ان هذا التحريم يعني مبغوضية المسبب، اي التمليك
بعوض في مورد البيع مثلا، ومن الواضح ان الشارع إذا كان يبغض ان
تنتقل ملكية السلعة للمشتري فلا يعقل ان يحكم. بذلك وعدم الحكم
بذلك عبارة أخرى عن البطلان.
والجواب ان تملك المشتري للسلعة يتوقف على امرين:
أحدهما: ايجاد المتعاملين للسبب وهو العقد.
والآخر: جعل الشارع للمضمون وقد يكون غرض المولى متعلقا
باعدام المسبب من ناحية الامر الأول خاصة لا باعدامه من ناحية الامر
الثاني، فلا مانع من أن يحرم المسبب على المتعاملين ويجعل بنفسه المضمون
على تقدير تحقق السبب.
الثاني: ما ذكره المحقق النائيني من أن هذا التحريم مساوق الحجر
على المالك وسلب سلطنته على نقل المال فيصبح حاله حال الصغير ومع
الحجر لا تصح المعاملة.
والجواب ان الحجر على شخص له معنيان:
أحدهما: الحجر الوضعي بمعنى الحكم بعدم نفوذ معاملاته.
والآخر: الحجر التكليفي بمعنى منعه، فان أريد ان التحريم يساوق
الحجر بالمعنى الأول فهو أول الكلام وان أريد انه يساوقه بالمعنى الثاني فهو
252

مسلم، ولكن من قال إن هذا يستتبع الحجر الوضعي، فالظاهر أن تحريم
المسبب لا يقتضي البطلان بل قد يقتضي الصحة، كما أشرنا في حلقة
سابقة.
253

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع
يقسم الحكم العقلي إلى قسمين:
أحدهما: الحكم النظري وهو ادراك ما يكون واقعا.
والآخر: الحكم العملي وهو ادراك ما ينبغي أو ما لا ينبغي ان
يقع. وبالتحليل نلاحظ رجوع الثاني إلى الأول لأنه ادراك لصفة واقعية في
الفعل وهي انه ينبغي ان يقع وهو الحسن أو لا ينبغي وهو القبح. وعلى
هذا نعرف ان الحسن والقبح صفتان واقعيتان يدركهما العقل، كما يدرك
سائر الصفات والأمور الواقعية، غير أنهما تختلفان عنها في اقتضائهما بذاتهما
جريا عمليا معينا خلافا للأمور الواقعية الأخرى. وعلى هذا الأساس يمكن
ان يقال ان الحكم النظري هو ادراك الأمور الواقعية التي لا تقتضي بذاتها
جريا عمليا معينا، والحكم العملي هو ادراك الأمور الواقعية التي تقتضي
بذاتها ذلك، ويدخل ادراك العقل للمصلحة والمفسدة في الحكم النظري
لان المصلحة ليست بذاتها مقتضية للجري العملي ويختص الحكم العملي
من العقل بادراك الحسن والقبح. وسنتكلم فيما يلي عن الملازمة بين كلا
هذين القسمين من الحكم العقلي وحكم الشارع.
الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشارع:
لا شك في أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد وان الملاك
254

متى ما تم بكل خصوصياته وشرائطه وتجرد عن الموانع عن التأثير كان
بحكم العلة التامة الداعية للمولى إلى جعل الحكم على طبقه وفقا لحكمته
تعالى، وعلى هذا الأساس فمن الممكن نظريا ان نفترض ادراك العقل
النظري لذلك الملاك بكل خصوصياته وشؤونه، وفي مثل ذلك يستكشف
الحكم الشرعي لا محالة استكشافا لميا، اي بالانتقال من العلة إلى
المعلول. ولكن هذا الافتراض صعب التحقق من الناحية الواقعية في كثير
من الأحيان لضيق دائرة العقل وشعور الانسان بأنه محدود الاطلاع، الامر
الذي يجعله يحتمل غالبا أن يكون قد فاته الاطلاع على بعض نكات
الموقف، فقد يدرك المصلحة في فعل، ولكنه لا يجزم عادة بدرجتها وبمدى
أهميتها وبعدم وجود اي مزاحم لها، وما لم يجزم بكل ذلك لا يتم
الاستكشاف.
الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشارع:
عرفنا ان مرجع الحكم العملي إلى الحسن والقبح وانهما امران واقعيان
يدركهما العقل، وقبل الدخول في الحديث عن الملازمة ينبغي ان نقول
كلمة عن واقعية هذين الامرين، فان جملة من الباحثين فسر الحسن والقبح
بوصفهما حكمين عقلائيين، اي مجعولين من قبل العقلاء تبعا لما يدركون
من مصالح ومفاسد للنوع البشري، فما يرونه مصلحة كذلك يجعلونه
حسنا، وما يرونه مفسدة كذلك يجعلونه قبيحا، وتميزهما عن غيرهما من
التشريعات العقلائية اتفاق العقلاء عليهما وتطابقهم على تشريعهما لوضوح
المصالح والمفاسد التي تدعو إلى جعلهما. وهذا التفسير خاطئ وجدانا
وتجربة. اما الوجدان فهو قاض بان قبح الظلم ثابت بقطع النظر عن
جعل اي جاعل كامكان الممكن، واما التجربة فلان الملحوظ خارجيا عدم
تبعية الحسن والقبح للمصالح والمفاسد فقد تكون المصلحة في القبيح أكثر
من المفسدة فيه ومع هذا يتفق العقلاء على قبحه فقتل انسان لاجل
255

استخراج دواء مخصوص من قلبه يتم به انقاذ انسانين من الموت إذا لوحظ
من زاوية المصالح والمفاسد فقط، فالمصلحة أكبر من المفسدة، ومع هذا لا
يشك أحد في أن هذا ظلم وقبيح عقلا، فالحسن والقبح اذن ليسا تابعين
للمصالح والمفاسد بصورة بحتة بل لهما واقعية تلتقي مع المصالح والمفاسد
في كثير من الأحيان وتختلف معها أحيانا.
والمشهور بين علمائنا الملازمة بين الحكم العملي العقلي والحكم
الشرعي. وهناك من ذهب إلى استحالة حكم الشارع في موارد الحكم
العملي العقلي بالحسن والقبح، فهذان اتجاهان.
اما الاتجاه الأول فقد قرب بان الشارع أحد العقلاء وسيدهم فإذا
كان العقلاء متطابقين بما هم عقلاء على حسن شئ وقبحه فلا بد أن يكون
الشارع داخلا ضمن ذلك أيضا.
والتحقيق انا تارة نتعامل مع الحسن والقبح بوصفهما امرين واقعيين
يدركهما العقل، وأخرى بوصفهما مجعولين عقلائيين رعاية للمصالح
العامة، فعلى الأول لا معنى للتقريب المذكور لان العقلاء بما هم عقلاء انما
يدركون الحسن والقبح ولا شك في أن الشارع يدرك ذلك، وانما الكلام
في أنه هل يجعل حكما تشريعيا على طبقهما أولا؟ وعلى الثاني ان أريد
استكشاف الحكم الشرعي بلحاظ ما أدركه العقلاء من المصالح العامة التي
دعتهم إلى التحسين والتقبيح، فهذا استكشاف للحكم الشرعي بالحكم
العقلي النظري لا العملي لان مناطه هو إدراك المصلحة ولا دخل للحسن
والقبح فيه، وان أريد استكشاف الحكم الشرعي بلحاظ حكم العقلاء
وجعلهم الحسن والقبح فلا مبرر لذلك، إذ لا برهان على لزوم صدور
جعل من الشارع يماثل ما يجعله العقلاء.
واما الاتجاه الثاني فقد قرب بان جعل الشارع للحكم في مورد حكم
العقل بالحسن والقبح لغو لكفاية الحسن والقبح للإدانة والمسؤولية
والمحركية.
256

ويرد على ذلك أن حسن الأمانة وقبح الخيانة مثلا وان كانا يستبطنان
درجة من المسؤولية والمحركية غير أن حكم الشارع على طبقهما يؤدي إلى
نشوء ملاك آخر للحسن والقبح وهو طاعة المولى ومعصيته، وبذلك تتأكد
المسؤولية والمحركية فإذا كان المولى مهتما بحفظ واجبات العقل العملي
بدرجة أكبر مما تقتضيه الاحكام العملية نفسها حكم على طبقها، وإلا فلا
، وبذلك يتضح انه لا ملازمة بين الحكم العقلي العملي وحكم الشارع
على طبقه ولا بينه وبين عدم حكم الشارع على طبقه، فكلا الاتجاهين غير
تام.
257

حجية الدليل العقلي
الدليل العقلي ان كان ظنيا فهو بحاجة إلى دليل على حجيته ولا دليل
على حجية الظنون العقلية. واما إذا كان قطعيا فهو حجة من أجل
حجية القطع. ونسب إلى بعضهم القول بعدم حجية القطع الناشئ من الدليل
العقلي وهو بظاهره غير معقول لان حجية القطع الطريقي غير قابلة
للانفكاك عنه مهما كان سببه. ومن هنا حاول بعض الاعلام توجيهه ثبوتا
بدعوى تحويل القطع من طريقي إلى موضوعي، وذلك بان يفرض عدم
القطع العقلي قيدا في موضوع الحكم المجعول فمع القطع العقلي لا حكم
ليكون القطع منجزا له.
ويرد على ذلك:
أولا: ان القطع العقلي الذي يؤخذ عدمه في موضوع الحكم هل
هو القطع بالحكم المجعول أو بالجعل. والأول واضح الاستحالة لان
القطع بالمجعول يساوق في نظر القاطع ثبوت المجعول فعلا، فكيف يعقل
ان يصدق بأنه يساوق انتفاءه. واما الثاني فلا تنطبق عليه هذه الاستحالة
إذ قد يصدق القاطع بالجعل بعدم فعلية المجعول، ولكن التصديق بذلك
هنا خلاف المفروض لان المفروض قيام الدليل العقلي القطعي على ثبوت
تمام الملاك للحكم، فكيف يعقل التصديق بإناطة الحكم بقيد آخر،
وبكلمة موجزة ان المكلف إذا كان قاطعا عقلا بثبوت تمام الملاك للحكم
258

فلا يمكن ان يصدق بإناطته بغير ما قطع عقلا ثبوته، وإذا كان قاطعا عقلا
بثبوت الملاك للحكم، ولكن على نحو لا يجزم بأنه ملاك تام ويحتمل دخل
بعض القيود فيه، فليس هذا القطع حجة في نفسه بلا حاجة إلى بذل
عناية في تحويله من طريقي إلى موضوعي.
وثانيا: ان القطع العقلي لا يؤدي دائما إلى ثبوت الحكم بل قد
يؤدي إلى نفيه من قبيل ما يستدل به على استحالة الامر بالضدين ولو على
وجه الترتب، فماذا يقال بهذا الشأن، وهل يفترض ان المولى يجعل الحكم
المستحيل في حق من وصلت إليه الاستحالة بدليل عقلي على الرغم من
استحالته.
فالصحيح اذن ان المنع شرعا عن حجية الدليل العقلي القطعي غير
معقول لا بصورة مباشرة ولا بتحويله من القطع الطريقي إلى الموضوعي.
ولكن القائلين بعدم حجية الدليل العقلي استندوا إلى جملة من
الروايات التي نددت بالعمل بالأدلة العقلية، وأكدت على عدم قبول اي
عمل غير مبني على الاعتراف بأهل البيت ونحو ذلك من الألسنة.
والصحيح ان الروايات المذكورة لا دلالة فيها على ما يدعى وانما هي
بصدد أمور أخرى، فبعضها بصدد المنع من التعويل على الرأي
والاستحسان ونحو ذلك من الظنون العقلية، وبعضها بصدد بيان كون
الولاية شرطا في صحة العبادة، وبعضها بصدد بيان عدم جواز الانصراف
عن الأدلة الشرعية والتوجه رأسا إلى الاستدلالات العقلية، مع أن التوجه
إلى الأدلة الشرعية كثيرا ما يحول دون حصول القطع من الاستدلال العقلي
كما هو الحال في رواية ابان الواردة في دية أصابع المرأة.
وبهذا ينتهي البحث في الدليل العقلي وبذلك نختم الكلام في مباحث
الأدلة من الحلقة الثالثة، وقد كان الشروع فيها في اليوم التاسع عشر من
جمادي الثانية 1397 ه‍ وكان الفراغ في اليوم الثالث والعشرين من شهر
259

رجب 1397 ه‍ وبما ذكرناه يتم الجزء الأول من الحلقة الثالثة ويتلوه الجزء
الثاني الذي تكتمل به هذه الحلقة ان شاء الله تعالى وهو في مباحث
الأصول العملية والى المولى سبحانه نبتهل ان يتقبل منا هذا بلطفه ويوفقنا
لمراضيه والحمد لله أولا وآخرا
260