الكتاب: دروس في علم الأصول
المؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الجزء: ١
الوفاة: ١٤٠٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤٠٦ - ١٩٨٦ م
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - لبنان / مكتبة المدرسة - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

دروس في
علم الأصول
السيد محمد باقر الصدر
المجلد الأول
يضم الحلقتين الأولى والثانية
كتاب دراسي في علم أصول الفقه
أعد للمبتدئين في دراسة هذا العلم
دار الكتاب اللبناني - مكتبة المدرسة
بيروت - لبنان
3

هاتف: 351433
الطبعة الثانية 1406 ه‍ - 1986
4

إهداء
بسم الله الرحمن الرحيم
يا إلهي وربي يا عليما بضري وفاقتي يا موضع أملي ومنتهى رغبتي بعينك
أي رب وتقربا إليك بذلت هذا الجهد المتواضع في كتابة الحلقات الثلاث
لتكون عونا للسائرين في طريق دراسة شريعتك والمتفقهين في دينك فان
وسعته برحمتك وقبولك وأنت الذي وسعت رحمتك كل شئ فاني أتوسل
إليك يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج أن توصل ثواب ذلك هدية
مني إلى ولدي البار وابني العزيز السيد عبد الغني الأردبيلي (1) الذي فجعت به
وانا على وشك الانتهاء من كتابة هذه الحلقات فلقد كان له قدس الله روحه
الطاهرة الدور البليغ في حثي على كتابتها واخراجها في أسرع وقت وكانت
نفسه الكبيرة وشبابه الطاهر الذي لم يعرف مللا ولا كللا في خدمة الله والحق
الطاقة التي أمدتني وأنا في شبة شيخوخة متهدمة الجوانب بالعزيمة على أن أنجز
جل هذه الحلقات في شهرين من الزمن وكان يحثني باستمرار على الاسراع

(1) يقصد المصنف بذلك الفقيد العزيز العلامة الجليل حجة الاسلام السيد عبد الغني نجل سماحة
آية الله السيد احمد الأردبيلي أحد عيون تلامذته تقوى ونبلا وفضلا وقد تربى على يده
قرابة عشرين عاما وهاجر إلى أردبيل وأسس هناك حوزة جليلة وكان له دور كبير في
حث السيد المصنف على انجاز هذه الحلقات كما كان من أعز أبنائه عليه وأحبهم إليه وقد
فجع بوفاته أخيرا إذ توفي في اليوم الثامن والعشرين من رجب 1397 ه‍ فانا لله وانا إليه
راجعون.
(الناشر)
5

لكي يدشن تدريسها في حوزته الفتية إلي أنشأها بنفسه وغذاها من روحه من
مواطن آبائه الكرام وخطط لكي تكون حوزة نموذجية في دراستها وكل
جوانبها الخلقية والروحية ولكنك يا رب دعوته فجأة إليك فاستجاب طائعا
ووالله ما عرفته خلال العشرين عاما التي تتلمذ فيها علي وترعرع إلى جنبي إلا
سريعا إلى اجابتك نشطا في طاعتك لا يتردد ولا يلين لا يتوقف ولا يتلكأ
ووالله ما رأيته طيلة هذه المدة غضب لنفسه وما أكثر ما رأيته يغضب لك
وينسى ذاته من اجلك. أي رب إني إذا كنت قد عجزت عن مكافأة هذا
الولد البار الذي كان بالنسبة لي وبالنسبة إلى أبيه معا مثالا فريدا للولد
المخلص الذي لا يتردد في الطاعة والتضحية والفداء وإذا كنت قد فجعت به
وأنا في قمة الاعتزاز به وبما تجسدت فيه من عناصر النبل والشهامة والوفاء
والايثار وما تكاملت فيه من خصال التقوى والفضل والايمان وإذا كان القدر
الذي لا راد له قد أطفأ في لحظة أملي في أن أمتد بعد وفاتي وأعيش في
قلوب بارة كقلبه وفي حياة نابضة بالخير كحياته فإني أتوسل إليك يا ربي بعد
حمدك في كل يسر وعسر أن تتلقاه بعظيم لطفك وتحشره مع الصديقين من
عبادك الصالحين وحسن أولئك رفيقا وأن لا تحرمه من قربي ولا تحرمني من
رؤيته بعد وفاته ووفاتي بعد أن حرمت من ذلك في حياته وأرجو أن لا
يكون انتظاري طويلا للاجتماع به في مستقر رحمتك وآخر دعوانا أن الحمد
لله رب العالمين.
6

مقدمة
بحث كتبه سماحته مقدمة
للحلقة الثلاث جميعا لتوضيح
الأسباب التي دعت إلى وضعها
وما لوحظ فيها من خصائص
وبعض الارشادات في مجال
تدريسها.
7

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين. وبعد
فإن الدراسات العلمية لعلم أصول الفقه تمر في مناهج الحوزة عادة بمرحلتين،
إحداهما: تمهيدية وهي ما تسمى بمرحلة السطح. والأخرى: المرحلة العالية
وهي ما تسمى بمرحلة الخارج. وتتخذ هذه الدراسة في مرحلتها التمهيدية
أسلوب البحث في كتب معينة مؤلفة في ذلك العلم يدرسها الطالب على يد
الأساتذة الاكفاء ليتهيأ من خلال ذلك لحضور أبحاث الخارج. وقد جرى
العرف العام في حوزاتنا جميعا على اختيار المعالم والقوانين والرسائل والكفاية
كتبا دراسية للمرحلة المذكورة، وهذا عرف جرت عليه مناهج الحوزة منذ
أكثر من نصف قرن ولم يطرأ تغيير ملحوظ باستثناء تضاؤل دور كتاب
القوانين من بين هذه الكتب الأربعة ككتاب دراسي بالتدريج، وانصراف
عدد كبير من الطلبة في الفترة الأخيرة عن دراسته، واستبداله بكتاب أصول
الفقه كحلقة وسيطة بين المعالم وكتابي الرسائل والكفاية.
والحقيقة أن الكتب الأربعة المتقدمة الذكر لها مقامها العلمي، وهي على
العموم تعتبر حسب مراحلها التاريخية كتبا تجديدية ساهمت إلى درجة كبيرة
في تطوير الفكر العلمي الأصولي على اختلاف درجاتها في هذه المساهمة،
وقد يكون اختيار هذه الكتب الأربعة كتبا دراسية نتيجة عامل مشترك وهو
ما أثاره كل واحد منها عند صدوره من شعور عميق لدى العلماء بأهميته
9

العلمية وما اشتمل عليه من أفكار ونكات، هذا إضافة إلى ما تميزت به بعض
تلك الكتب من ايجاز للمطالب وضغط في العبارة كالكفاية مثلا.
وقد أدت هذه الكتب الأربعة - مشكورة - دورا جليلا في هذا المضمار،
وتخرج من حلقاتها الدراسية خلال نصف قرن الآلاف من الطلبة الذين
وجدوا فيها سلمهم إلى أبحاث الخارج. ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن
نستشعر - بعمق - بما لأصحاب هذه الكتب الأبرار قدس الله اسرارهم
الزكية من فضل عظيم على الحوزة ومسيرتها العلمية، ومن جميل لا يمكن أن
ينساه أي شخص عاش على موائد تلك الأفكار الحافلة ونهل من نمير علومها
ونحن إذ نقول هذا نبتهل إلى المولى سبحانه ان يتغمد مؤلفي هذه الكتب من
علمائنا الاعلام بعظيم رحمته، ويثيبهم بأفضل ثواب المحسنين.
غير أن هذا لا يحول دون أن نحاول تطوير الكتب الدراسية وتحسينها إذا
وجدت مبررات تدعو إلى ذلك وأمكن وضع كتب دراسية أكثر قدرة على
أداء دورها العلمي في تنمية الطالب واعداده للمرحلة العليا.
وقد كنا منذ زمن نجد أكثر من سبب يدعو إلى التفكير في استبدال هذه
الكتب بكتب أخرى في مجال التدريس، لها مناهج الكتب الدراسية بحق
وأساليبها في التعبير وشرائطها. ومبررات التفكير في هذا الاستبدال وان
كانت عديدة ولكن يمكن اختصارها في مبررات أساسية محددة كما يلي:
المبرر الأول: ان هذه الكتب الأربعة تمثل مراحل مختلفة من الفكر
الأصولي، فالمعالم تعبر عن مرحلة قديمة تاريخيا من علم الأصول، والقوانين
تمثل مرحلة خطاها علم الأصول واجتازها إلى مرحلة أعلى على يد الشيخ
الأنصاري وغيره من الاعلام، والرسائل والكفاية نفسهما نتاج أصولي يعود لما
قبل مائة سنة تقريبا وقد حصل علم الأصول بعد الرسائل والكفاية على خبرة
مائة سنة تقريبا من البحث والتحقيق على يد أجيال متعاقبة من العلماء
10

المجددين، وخبرة ما يقارب مائة سنة من البحث العلمي الأصولي جديرة بأن
تأتي بأفكار جديدة كثيرة وتطور طريقة البحث في جملة من المسائل
وتستحدث مصطلحات لم تكن تبعا لما تتكون من مسالك ومبان، ومن
الضروري ان تنال الكتب الدراسية حظا مناسبا لها من هذه الأفكار
والتطورات والمصطلحات لئلا يفاجأ بها الطالب في بحث الخارج دون سابق
إعداد.
وهكذا يوجد الآن فاصل معنوي كبير بين محتويات الكتب الدراسية
الأربعة وبين أبحاث الخارج، فبينما بحث الخارج يمثل حصيلة المائة عام الأخيرة
من التفكير والتحقيق ويعبر بقدر ما يتاح للأستاذ من قدرة عن ذروة تلك
الحصيلة، نجد ان كتب السطح تمثل في أقربها عهدا الصورة العامة لعلم
الأصول قبل قرابة مائة عام ساكتة عن كل ما استجد خلال هذه الفترة من
أفكار ومصطلحات. ونذكر على سبيل المثال لما استجد من مطالب: أفكار
باب التزاحم، وما أشاده الميرزا من مسلك جعل الطريقية بتعميقاته وتفريعاته
في مسائل قيام الامارات مقام القطع الموضوعي وحكومة الامارات على
الأصول ورفع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بجعل الحجية، وفكرة جعل الحكم
بنحو القضية الحقيقية بآثارها الممتدة في كثير من أبحاث علم الأصول كبحث
الواجب المشروط والشرط المتأخر والواجب المعلق واخذ العلم بالحكم في
موضوع الحكم، والوجه الجديد لبحث المعاني الحرفية الذي يختلف اختلافا
أساسيا عن الصورة الغريبة التي تخلقها آراء صاحب الكفاية في ذهن الطالب.
فان هذا المطالب وغيرها مما أصبحت تشكل محاور للفكر الأصولي
الحديث هي نتاج الفترة المتأخرة الذي يظل طالب السطوح جاهلا به تماما إلى أن
يواجه أبحاث الخارج وهو لا يملك تصورات ابتدائية أو وسطى عن تلك
المطالب.
11

فالطالب لكي يتسلل من كتب السطح إلى درس الخارج كأنه
يكلف بطفرة وبأن يقطع في لحظة مسافة لم يقطعها علم الأصول خلال تطوره
التدريجي إلا في مائة عام.
وكأن اختيار الكتب الدراسية من مراحل مختلفة للفكر الأصولي نشأ من
الشعور بلزوم التدرج في الكتب الدراسية من الأبسط إلى الأعمق، ولما كان
علم الأصول في وضعه على عهد صاحب المعالم أبسط منه في عهد صاحب
القوانين. وفي هذا العهد أبسط منه في عهد الرسائل والكفاية، فقد لوحظ ان
هذا يحقق التدرج المطلوب إذا جعل الكتاب الدراسي الأول نتاج مرحلة قديمة
من علم الأصول وما يتلوه نتاج مرحلة متأخرة وهكذا.
وهذا الشعور يشتمل على حقيقة وعلى خطأ.
اما الحقيقة فهي لزوم التدرج في الكتب الدراسية من الأبسط إلى الأعمق،
واما الخطأ فهو ان هذا التدرج لا ينبغي أن يكون منتزعا من تاريخ علم
الأصول ومعبرا عما مر به هذا العلم نفسه من تدرج خلال نموه، لان هذا
يكلف الطالب ان يصرف وقتا كثيرا في مطالب وأفكار لم يعد لها موضع في
العلم بحسب وضعه الفعلي، وانما الوضع الصحيح في الكتب الدراسية الذي
يشتمل على التدرج المطلوب هو ان تتجه هذه الكتب جميعا على اختلاف
مراحلها الدراسية لعرض آخر ما وصل إليه العلم من أفكار وتحقيقات
ومصطلحات، ولكن بدرجات من العرض تختلف من ناحية الكم أو
الكيف أو من الناحيتين معا، والاختلاف في الكم يعني التفاوت في المقدار
المعطى من الأفكار، فبدلا عن استعراض خمسة اعتراضات على الاستدلال
بآية النبأ مثلا يبدأ في الحلقة الأولى باعتراض أو اعتراضين ثم يستعرض عدد
أكبر من الاعتراضات في حلقة تالية، والاختلاف في الكيف يعني التفاوت في
درجة عمق ما يطرح من فكرة، فحينما يراد الحديث عن مسلك جعل
12

الطريقية مثلا يعرض في حلقة ابتدائية عرضا ساذجا بدون تعميق ثم يعمق في
حلقة لاحقة، فيعرض على نحو يميز فيه بين التنزيل والاعتبار، وقد يعرض في
حلقة أخرى حينئذ على نحو المقارنة بين هذين النحوين في النتائج والآثار.
المبرر الثاني: ان الكتب الأربعة السالفة الذكر - على الرغم من أنها
استعملت ككتب دراسية منذ أكثر من خمسين عاما - لم تؤلف من قبل
أصحابها لهذا الهدف، وانما ألفت لكي تعبر عن آراء المؤلف وأفكاره في
المسائل الأصولية المختلفة، وفرق كبير بين كتاب يضعه مؤلفه لكي يكون
كتابا دراسيا وكتاب يؤلفه ليعبر فيه عن أعمق وأرسخ ما وصل إليه من
أفكار وتحقيقات، لان المؤلف في الحالة الأولى يضع نصب عينيه الطالب
المبتدئ الذي يسير خطوة فخطوة في طريق التعرف على كنوز هذا العلم
وأسراره، واما في الحالة الثانية فيضع المؤلف في تصوره شخصا نظيرا له
مكتملا من الناحية العلمية ويحاول ان يشرح له وجهة نظره ويقنعه بها بقدر
ما يتاح من وسائل الاقناع العلمي. ومن الواضح ان كتابا يوضع بهذا
الاعتبار لا يصلح أن يكون كتابا دراسيا مهما كانت قيمته العلمية وابداعه
الفكري، ومن أجل ذلك كانت الكتب الدراسية المتقدمة الذكر غير صالحة
للقيام بهذا الدور على جلالة قدرها العلمي لأنها ألفت للعلماء والناجزين لا
للمبتدئين والسائرين. فمن هنا لم يحرص في هذه الكتب وأمثالها من الكتب
العلمية المؤلفة للعلماء على ابراز كل خطوات الاستدلال وحلقات التفكير في
المسألة الواحدة، فقد تحذف بعض الحلقات في الأثناء أو البداية لوضوحها
لدى العالم، غير أن الصورة حينئذ تصبح غير واضحة في ذهن الطالب وعلى
سبيل المثال لتوضيح الفكرة نذكر انه بحث في التعبدي والتوصلي عن
استحالة اخذ قصد الامتثال في متعلق الامر، وفرع عليه ان التعبدي لا يتميز
عن التوصلي في مرحلة الامر بل في مرحلة الغرض إذ لا يستوفى غرضه إلا
بقصد الامتثال، واستنتج من ذلك عدم امكان التمسك باطلاق الامر لاثبات
13

كون الواجب توصليا، وهذا لا يصلح أن يكون بيانا مدرسيا لان البيان
المدرسي بحاجة لتكميل الصورة في ذهن الطالب - إلى إضافة عنصرين
آخرين تركا لوضوحهما أحدهما ان قصد الامتثال إذا كان بالامكان اخذه في
متعلق الامر فحاله حال سائر القيود يمكن نفيه باطلاق الامر، والآخر ان
الخطاب والدليل مدلوله الامر والحكم لا الملاك والغرض وان استكشاف
اطلاق الغرض دائما انما يتم عن طريق استكشاف اطلاق متعلق الامر مع
افتراض التطابق بين متعلق الامر ومتعلق الغرض فحيث لا يتبرهن هذا
الافتراض لا يمكن الاستكشاف المذكور.
ومثال آخر من باب التزاحم فان جل احكام هذا الباب مبنية على اخذ
القدرة شرطا في التكليف وعدم كونه دخيلا في الإدانة والمنجزية فقط، بينما
هذا المطلب لم يبحث بصورة مباشرة، ولم يوضح الربط المذكور بل بقي
مستترا.
وأيضا أبرزت كيفية دلالة المطلق على الاطلاق بصورة مباشرة، بينما لم
تبرز كيفية دلالة المقيد على اخذ القيد في الموضوع كذلك وإنما بحث ذلك
ضمنا خلال بحث حمل المطلق على المقيد وكيفية علاج التعارض بينهما.
ومن هنا لم يراع فيها أيضا ما يجب ان يراعى في الكتب الدراسية من
التدرج في عرض الأفكار من البسيط إلى المعقد ومن الأسبق رتبة إلى المتأخر،
بحيث تعرض المسألة المتفرعة ذاتا في تصوراتها على حيثيات مسائل أخرى بعد
أن تكون تلك الحيثيات قد طرحت وبحثت. وعلى سبيل المثال لتوضيح
الفكرة لاحظ بحث توقف العموم على اجراء الاطلاق ومقدمات الحكمة في
المدخول فان تصور هذا الافتراض يستبطن الفراغ مسبقا عن تصور مقدمات
الحكمة ووظيفتها، بينما يذكر ذلك البحث في العام والخاص وتذكر مقدمات
الحكمة بعد ذلك في مباحث المطلق والمقيد. ولاحظ أيضا الشرط المتأخر
14

للحكم مثلا فان تصور المشكلة فيه وتصور حلولها مرتبط بمجموعة أفكار عن
الواجب المشروط، وطريقة السير من البسيط إلى المعقد تقتضي تقديم هذه
المجموعة من الأفكار على عرض مشكلة الشرط المتأخر وبحثها بينما وقع
العكس في الكفاية وغيرها. ومثال آخر ان تصور التخيير بين الأقل والأكثر
وافتراض استحالته دخيل في استيعاب قاعدة اجزاء الأوامر الاضطرارية عن
الواقع فإذا بحثت هذه القاعدة بعد افتراض تصور مسبق عن التخيير المذكور
كان فهمها للطالب وتصورها أيسر.
ومن هنا لم يراع فيها ما يجب ان يراعى في الكتب الدراسية من توفير فهم
مسبق عند الطالب للمسائل والقواعد التي يستعان بها لاثبات المدعى في مسألة
أخرى والبرهنة عليها، أو لاقتناص الثمرة الأصولية لها. فالاطلاق ومقدمات
الحكمة تدخل كدليل لاثبات دلالة الامر على الوجوب، ولاثبات دلالته على
العينية والتعيينية والنفسية، ولاثبات دلالة الجملة الشرطية وغيرها على المفهوم
وهكذا، مع أن الطالب في الكتب القائمة لا يعطى فكرة عن الاطلاق
ومقدمات الحكمة إلا بعد الفراغ عن جميع مباحث الأوامر والنواهي والمفاهيم
واحكام التعارض بما فيها قواعد الجمع العرفي قد تدخل في علاج كثير من
ألوان التعارض بين الأدلة اللفظية المستدل بها على حجية امارة أو أصل من
الأصول فيقال مثلا (ان دليل وجوب الاحتياط حاكم على دليل البراءة أو
وارد أو ان دليل البراءة مخصص) قبل اعطاء تصورات وأفكار محددة عن
احكام التعارض وقواعد الجمع بين الأدلة التي لا تقع إلا في نهاية أبحاث
الأصول.. ومسألة اقتضاء النهي للبطلان تدخل عندهم في اقتناص الثمرة من
بحث الضد، إذ جعلوا ثمرة اقتضاء الامر بشئ للنهي عن ضده بطلان العبادة
وفي اقتناص الثمرة من بحث امتناع اجتماع الأمر والنهي، إذ جعلوا ثمرة هذا
البحث بطلان العبادة بناء على القول بالامتناع وتقديم جانب النهي، مع أن
الطالب لا يدرس مسألة اقتضاء النهي للبطلان ولا يأخذ عنها تصورا علميا
15

إلا بعد الفراغ عن مسألتي الضد والامتناع وهكذا إلى كثير من هذه النظائر.
ومن هنا لم يحرص أيضا على ابراز الثمرة بكثير من المطالب التي يتبين من
خلالها الارتباط بين تلك المطالب بعضها ببعض، فأهملت في كثير من
الأحيان أوجه العلاقة بين الأفكار الأصولية ولم يتعرض لها إلا بقدر ما يحتاج
إليه في مقام الاستدلال على مطلب أو ابطاله، فبحث مثلا المعنى الحرفي
وجزئيته وكليته ولكن لم يربط ذلك بالتمسك بالاطلاق في المعاني الحرفية
وظل الطلبة يكررون ان البحث في المعاني الحرفية لا أثر له، وبحث الوجوب
التخييري والكفائي بحثا تحليليا ولكن لم يربط ذلك بأثره في التمسك
بالاطلاق أو الأصل العملي عند الشك في نوعية الواجب وبدا كأنه بحث
تحليلي بحت.
ومن هنا لم يحرص أيضا على وضع كثير من النكات والمباحث في موضعها
الواقعي وبصيغة تتناسب مع كليتها وأهميتها، وانما دست دسا في مقام علاج
مشكلة أو دفع توهم أو أثيرت من خلال تطبيق من تطبيقاتها ومن الواضح ان
الممارس العالم يستطيع من خلال ذلك أن يضع النكتة في موضعها الواقعي
ويعطيها حدودها المناسبة، ولكن قلما يتاح ذلك للطالب فيبقى فهمه لتلك
النكات والمطالب فهما تجزيئيا وضمن دوائر محدودة. خذ مثالا على ذلك
أركان تنجيز العلم الاجمالي الأربعة التي عرضناها في الحلقة الثانية، فان الكتب
التي تتحدث عنها حينما تناولت منجزية العلم الاجمالي لم تضع لها أركانها
بصيغها الفنية العامة، وانما عقدت تنبيهات لحالات جزئية طبقت من خلالها
ضمنا تلك الأركان اثباتا ونفيا، وفي حالة من هذا القبيل لن يخرج الطالب
غالبا بصورة محددة ورؤية واضحة لهيكل تنجيز العلم الاجمالي بما يشتمل عليه
من قواعد وأركان.
ومن هنا لم يحرص أيضا على اجتناب استعمال مصطلحات لم يأت بعد
16

تفسيرها، لان الحديث في تلك الكتب مع العالم لا مع الطالب، والعالم محيط
بتلك المصطلحات منذ البدء، ولهذا نجد في الصفحة الأولى من الكفاية استعمال
مصطلح حجية الظن بناء على تقرير دليل الانسداد على الحكومة وهو مصطلح
لا يكشف النقاب عنه إلا في أواسط الجزء الثاني من الكتاب.
المبرر الثالث: وهو أيضا ناتج عن الحالة العامة التي لوحظت في المبرر
السابق، وهي ان المؤلفين كانوا يكتبون لأمثالهم لا للمبتدئين. وحاصل هذا
المبرر ان المقدار الذي ينبغي ان يعطى من الفكر العلمي الأصولي في مرحلة
السطح يجب ان يحدد وقفا للغرض المفروض لهذه المرحلة، والذي أعرفه
غرضا لهذه المرحلة تكوين ثقافة عامة عن علم الأصول لمن يريد أن يقتصر على
تلك المرحلة، والاعداد للانتقال إلى مرحلة الخارج لمن يريد مواصلة الدرس
وهذا هو أهم الغرضين فلا بد إذن أن يكون المعطى بقدر يكفل ثقافة عامة
تحقق هذا الاعداد وتوجد في الطالب فهما مسبقا بدرجة معقولة لما سوف
يتلقى درسه من مسائل، ومرتبة من العمق والدقة تتيح له ان يهضم ما يواجهه
في أبحاث الخارج من أفكار دقيقة موسعة وبناءات فكرية شامخة، ومن الواضح
ان هذا يكفي فيه أن توفر الكتب الدراسية على اعطاء علم الأصول بهيكله
العام، ولا يلزم ان يمتد البحث في تلك الكتب إلى التفريعات الثانوية ويتلقى
وجهات نظر فيها بل الأفضل ان تترك هذه التفريعات على العموم إلى أبحاث
الخارج ما دامت المفاتيح التي سوف يتسلمها الطالب كافية لمساعدته على
الدخول فيها بعد ذلك مع أستاذ بحث الخارج. وعلى هذا الأساس نرى من
المهم ان يحصل الطالب على تصورات شبه معمقة عن الأحكام الظاهرية
وطريقة الجمع بينها وبين الواقع والفرق بين الامارات والأصول وسنخ
المجعول في أدلة الحجية واثر ذلك على أبواب مختلفة كباب حكومة الامارة
على الأصل وحكومة الاستصحاب على البراءة وقيام الامارة مقام القطع
الموضوعي، لان هذه الأفكار تعتبر أساسية بالنسبة إلى الهيكل العام لعلم
17

الأصول، واما ان يحاط الطالب علما بأن استصحاب عدم التذكية مثلا حاكم
على أصالة البراءة ويستطرق من ذلك إلى بحث طويل ومعمق في نفس جريان
استصحاب عدم التذكية وموارد جريانه في الشبهات الموضوعية والحكمية،
فهذا مما لا يدخل في نطاق الغرض من مرحلة بحث السطح. هذا فضلا عن
الاستطرادات التي وقعت فيها تلك الكتب كاستطرادها للحديث عن قاعدة
لا ضرر ولا ضرار ونحو ذلك، أو التوسعات التي تزيد عن الحاجة لمرحلة
السطح في استعراض الأقوال ونقل الأدلة واستيعاب النقض والابرام حتى
بلغت الأقوال التي أحصاها الشيخ في الرسائل في الاستصحاب وبحث كل
واحد منها بحثا مفصلا أربعة عشر قولا.
المبرر الرابع: ان الطريقة المتبعة في تحرير المسائل وتحديد كل مسألة بعنوان
من العناوين الموروثة تاريخيا في علم الأصول لم تعد تعبر عن الواقع تعبيرا
صحيحا، وذلك لان البحث الأصولي من خلال اتساعه وتعميقه بالتدريج
منذ أيام الوحيد البهبهاني إلى يومنا هذا طرح قضايا كثيرة جديدة ضمن
معالجاته للمسائل الأصولية الموروثة تاريخيا، وكثير من هذه القضايا تعتبر من
الناحية الفنية ومن الناحية العملية معا أهم من جملة من تلك المسائل الموروثة،
بينما ظلت هذه القضايا تحت الشعاع ولا تبرز إلا بوصفها مقدمات أو
استطرادات في مباحث تلك المسائل. ويمكنك ان تلاحظ بهذا الصدد المباحث
العقلية التي أدرجت في الجزء الأول من الكفاية تحت عناوين البحث عن
الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته والملازمة بين الامر بالشئ والنهي
عن ضده وهكذا، فان هذه العناوين باعتبار كونها تاريخية وموروثة في عام
الأصول استأثرت بالمسائل المبحوثة مع أنه وقع البحث في داخل تلك المسائل
عن كثير من القضايا العقلية المهمة التي بقيت بلا عنوان وكأنها مجرد أبحاث
تمهيدية أو استطرادية، فامكان الشرط المتأخر أو استحالته وامكان الواجب
المعلق أو استحالته وضرورة تقيد التكليف بعدم الاشتغال بالمزاحم وعدم
18

جواز تضييع المقدمات المفوتة إلى غير ذلك من القضايا بقيت كأجزاء من
أبحاث تلك العناوين التاريخية، بينما كل واحدة منها تشكل بحثا أصوليا مهما
من الناحية الفنية ومن ناحية ترتب الثمرة الأصولية ولا تقل أهمية عن تلك
المسائل التاريخية الموروثة بل قد تكون أهم منها، فالأصوليون مثلا حاروا في
كيفية تصوير الثمرة لبحث الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته مع أنهم
لم يتوصلوا إلى أفكارهم عن الواجب المعلق أو الشرط المتأخر ونحوهما الا
لتحقيق ثمرات عملية واضحة، ومع هذا حشروا كل هذه الأفكار ضمن
تلك المسألة التي لا يعرفون كيف يوضحون ثمرتها العملية وضاعت بذلك
على الطالب قيمة تلك الأفكار ومغزاها العملي، حتى أن كثيرا من الطلبة
يرون ان التوسع في داخل المسألة التي ليس من الواضح ان لها ثمرة عملية مجرد
تطويل وتوسيع لعملية لغو لا مبرر له. بل إن هذا الحشر في كثير من
الأحيان يؤدي إلى ايحاءات خاطئة، فمثلا مشكلة المقدمات المفوتة ووجوب
تحصيلها حشرت في سياق الوجوب الغيري وفرعت على تبعية الوجوب الغيري
للوجوب النفسي في الاطلاق والاشتراط وهذا يوحي بالارتباط، مع أن
مشكلة المقدمات المنحوتة مشكلة قائمة تحتاج إلى تفسير واكتشاف قانونها
الأصولي سواء قلنا بالوجوب الغيري أو لا فهي ترتبط بالمسؤولية المولوية تجاه
المقدمة وهي مسؤولية لا شك فيها ولا شك في تبعيتها لفعلية الوجوب النفسي
سواء كانت هذه المسؤولية عقلية بحتة ومن تبعات محركية الوجوب النفسي أو
كانت مشتملة على ما يسمى بالوجوب الغيري.
هذه هي أهم المبررات التي تدعو إلى التفكير بصورة جادة في استبدال
الكتب الدراسية القائمة والاعتقاد بعدم صلاحيتها في مجال التدريس على
الرغم من قدسيتها العلمية والتأريخية.
وقد صدرت في العقود الثلاثة الأخيرة عدة محاولات للاستبدال والتطوير
19

في الكتب الدراسية وكان من نتاج هذه المحاولات كتاب (مختصر الفصول)
كتعويض عن القوانين وكتاب (الرسائل الجديدة) اختصارا للرسائل
كتعويض عنها وكتاب (أصول الفقه) كحلقة وسيطة بين المعالم وكتابي
الرسائل والكفاية وهي محاولات مشكورة وتمثل جهودا مخلصة في هذا الطريق
وقد يكون أكثرها استقلالية وأصالة هو المحاولة الثالثة باعتبارها تصنيفا
مستقلا وليس مجرد اختصار لكتاب سابق ولكنها لا تفي مع ذلك بالحاجة
لعدة أسباب:
منها: انها لا يمكن الاقتصار عليها في السطح والاكتفاء بها عن جميع
الكتب الدراسية الأصولية وانما هي مرشحة لتكون الحلقة الوسيطة بين المعالم
وكتابي الكفاية والرسائل على ما يبدو من ظروف وضعها، ومن الواضح ان
هذا أشبه ما يكون بعملية الترقيع فهي وان حرصت على أن تعطى للطالب
غالبا الأفكار الحديثة في علم الأصول بقدر ما أتيح للمؤلف ادراكه
واستيعابه، ولكنها تصبح قلقة حين توضع في مرحلة وسطى فيبدأ الطالب
بالمعالم ليقرأ أفكارا أصولية ومناهج أصولية في البحث وفقا لما كان عليه العلم
قبل مئات السنين، ثم ينتقل من ذلك فجأة وبقدرة قادر ليلتقي في (أصول
الفقه) أفكارا أصولية حديثة مستقاة من مدرسة المحقق النائيني على الأغلب
ومن تحقيقات المحقق الأصفهاني أحيانا، وبعد ان يفترض ان الطالب فهم
هذه الأفكار نرجع به خطوة إلى الوراء ليلتقي في الرسائل والكفاية بأفكار
أقدم تاريخيا بعد أن نوقش جملة منها في الحلقة السابقة واستبدلت جملة منها
بأفكار أمتن، وهذا يشوش على الطالب مسيرة العلمي في مرحلة السطح ولا
يجعله يتحرك في الاتجاه الصحيح.
ومنها: ان أصول الفقه على الرغم من انه غير من المظهر العام لعلم الأصول
إذ قسمه إلى أربعة أقسام بدلا عن قسمين وأدرج مباحث الاستلزامات
20

والاقتضاءات في نطاق المباحث العقلية بدلا عما درج عليه المؤلفون من
ذكرها ضمن مباحث الألفاظ، ولكن هذا لم يتجاوز التصرف في كيفية
تقسيم مجموعة المسائل الأصولية المطروحة في الكتب السابقة إلى مجاميع، فقد
صنفت في أربعة مجاميع كما أشرنا بدلا عن مجموعتين، ولم يمس هذا التصرف
جوهر تلك المسائل ولم يستطع ان يكتشف مثلا في مقدمات مسألة الملازمة بين
وجوب الشئ ووجوب مقدمته مسائل أصولية لها استحقاقها الفني لان تعرض
كمسائل أصولية في نطاق الأدلة العقلية. وهكذا اقتصر التغيير على المظهر ولم
يتجاوزه إلى الجوهر.
ومنها: ان الكتاب لا تعبر بحوثه عن مستوى واحد من العطاء كيفا وكما
أو عن مستويات متقاربة، بل إن الكتاب في بعض مباحثه يتوسع ويتعمق بينما
يختصر ويوجز في مباحث أخرى، فلاحظ مثلا ما يشتمل عليه من تحقيق
موسع فيما يتصل باعتبارات الماهية في بحث المطلق والمقيد، وما يشتمل عليه
من توسع واطناب في مباحث الحسن والقبح العقليين، وما يشتمل عليه من
توسع كذلك في اثبات جريان الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي، بل
الملحوظ في كثير من بحوث الكتاب انه لا تنسيق بينها وبين بحوث الكفاية التي
فرض منهجيا ان تكون بعده في الخط الدراسي، فجملة من المسائل تعرض
بنحو أوسع مما في الكفاية وأعمق لا يبقى مبررا لدراسة المسألة نفسها من
جديد في الكفاية، وجملة أخرى من المسائل تعرض موجزة أو ساذجة على نحو
يبقى للكفاية قدرتها على اعطاء المزيد أو التعميق.
وقد رأينا ان الاستبدال يجب ان يتم بصورة كاملة فيعوض عن مجموعة
الكتب الدراسية الأصولية القائمة فعلا بمجموعة أخرى مصممة بروح واحدة
وعلى أسس مشتركة وعلى ثلاث مراحل، وهذا ما قمنا به بعون الله وتوفيقه
آخذين بعين الاعتبار النقاط التالية:
21

أولا: ان الهدف الذي جعلنا على عهدة الحلقات الثلاث تحقيقه وصممناها
وفقا لذلك هو ما أشرنا إليه سابقا من ايصال الطالب إلى مرحلة الاعداد
لبحث الخارج وجعله على درجة من الاستيعاب للهيكل العام لعلم الأصول
ومن الدقة في فهم معالمه وقواعده تمكنه من هضم ما يعطى له في أبحاث الخارج
هضما جيدا.
ولهذا حرصنا على أن نطرح في الحلقات الثلاث أحدث ما وصل إليه علم
الأصول من أفكار ومطالب من دون تقيد بما هو الصحيح من تلك الأفكار
والمطالب، لان الاعداد المذكور لا يتوقف على تلقي الصحيح بل على الممارسة
الفنية لتلك الأفكار، وان كنا آثرنا اختيار الصحيح كلما لم نجد محذورا
منهجيا وتدريسيا في ذلك، ولكنا أحيانا طرحنا وجهات نظر غير صحيحة
وان كانت حديثة لان طرح وجهة النظر الصحيحة لم يكن بالامكان ان يتم
إلا من خلال طرح وجهة النظر غير الصحيحة ومناقشتها ومستوى الحلقة لا
يتحمل استيعاب كل ذلك فاقتصرنا على اعطاء وجهة النظر غير الصحيحة
مؤجلين اعطاء وجهة النظر النهائية إلى حلقة تالية أو إلى أبحاث الخارج ومن
هنا لا يمكن التعرف على آرائنا النهائية من خلال هذه الحلقات حتى ولو صيغ
بيان الرأي فيها صياغة تدل على التبني والارتضاء.
ثانيا: ان الحلقات الثلاث تحمل جميعا منهجا واحدا تستوعب كل واحدة
منها علم الأصول بكامله ولكنها تختلف في مستوى العرض كما وكيفا وتتدرج
في ذلك فيعطى لطالب الحلقة الأولى أو الثانية قدر محدد من البحث في كل
مسألة ويؤجل قدر آخر إلى المسألة من الحلقة التالية، وهذا التأجيل يقوم، اما
على أساس تقدير قابلية استيعاب الطالب وتفادي تحميله ما يفوق هذه
القابلية، أو على أساس ان القدر الآخر مبني على مطالب ونكات متواجدة في
مباحث أخرى من المسائل الأصولية ولم تعط فعلا للطالب فيؤجل ذلك القدر
22

من المسألة إلى أن يعطى للطالب هذه النكات التي يرتبط ذلك القدر بها..
ولم يتمثل التدرج في العرض في كل حلقة بالنسبة إلى سابقتها بل تمثل
أيضا في نفس الحلقة الواحدة وفقا لنفس الأسباب من الناحية الفنية، فالحلقة
الثانية تتصاعد بالتدريج والحلقة الثالثة يعتبر الجزء الثاني منها أعلى درجة من
الجزء الأول، لان الطالب كلما قطع شوطا أكبر في الدراسة تعمق ذهنيا من
ناحية وازداد استيعابا للمطالب الأصولية من ناحية أخرى، وذلك يرشحه
لتقبل المزيد من التحقيق فيما يرتبط بتلك المطالب، ويتوقف عليها من نكات
المسائل الأخرى وحيثياتها.
ثالثا: انا لم نجد من الضروري حتى على مستوى الحلقة الثالثة استيعاب كل
الأدلة التي يستدل بها على هذا القول أو ذاك فبالنسبة إلى أصل البراءة
والاحتياط مثلا لم نحط بكل الآيات والروايات التي استدل بها على هذا أو
ذلك، لان هذه الإحاطة انما تلزم في بحث الخارج أو في تأليف يخاطب به
العلماء من أجل تكوين رأي نهائي فلا بد حينئذ من فحص كامل، واما في
الكتب الدراسية لمرحلة السطح فليس الغرض منها كما تقدم إلا الثقافة العامة
والاعداد، وعلى هذا الأساس كنا نؤثر في كل مسألة الأدلة ذات المغزى
الفني ونهمل ما لا يكون له محصل من الناحية الفنية.
رابعا: انا تجاوزنا التحديد الموروث تاريخيا للمسائل الأصولية وأبرزنا ما
استجد من مسائل وأعطيناها عناوينها المناسبة. واما بالنسبة إلى التصنيف
الموروث للمسائل الأصولية إلى مجموعتين وهما مباحث الألفاظ والأدلة العقلية
فلم نجد مبررا للعدول عن التصنيف الثنائي إلى مجموعتين إلى تصنيف آخر
ولكن أدخلنا تعديلا عليه بجعل المجموعتين هما مباحث الأدلة ومباحث
الأصول العملية، ثم صنفنا المجموعة الأولى إلى الدليل الشرعي والدليل
العقلي، وقسمنا الكلام في الدليل الشرعي إلى البحث في الدلالة والبحث في
23

السند والبحث في حجية الظهور، كل ذلك من أجل تقريب التصنيف
الأصولي للمسائل إلى واقع عملية الاستنباط وما يقع فيها من تصنيف
للمواقف، فكما أن عملية الاستنباط تشتمل على مرحلتين مترتبتين وهما الأدلة
والأصول كذلك البحث في علم الأصول يصنف إلى هذين الصنفين، وكما ان
الفقيه في مجال الأدلة تارة يستدل بالدليل الشرعي وأخرى بالدليل العقلي
كذلك علم الأصول يبحث الأدلة الشرعية تارة والأدلة العقلية أخرى، وكما
ان الفقيه حين يواجه دليلا شرعيا يتكلم عنه دلالة وسندا وجهة كذلك علم
الأصول يبحث الجهات الثلاث في الدليل الشرعي. وهذا الحرص على تطبيق
التصنيف الأصولي للقواعد على عملية الاستنباط قد لا يكون له مغزى من
الناحية الفنية البحتة ولكنه مهم من الناحية التربوية وجعل الطالب مأنوس
الذهن بالقواعد الأصولية بمواقعها المحددة في عملية الاستنباط، وهذا يمتاز
على التصنيف الثنائي المشهور ويمتاز على التصنيف الرباعي الذي اقترحه المحقق
الأصفهاني وسار عليه كتاب (أصول الفقه) إذ في كلا التصنيفين تفصل
حجية الظهور وحجية السند عن أبحاث الدلالة بينما الجهات الثلاث متلاحمة
مترابطة في عملية الاستنباط، فلكي يوحي التصنيف بصورة للقواعد
الأصولية تتفق مع مواقعها في عملية الاستنباط لا بد من اتباع ما ذكرناه.
خامسا: انا لاحظنا في استعراضنا لآحاد المسائل ضمن التصنيف المذكور
الابتداء بالبسيط والانتهاء إلى المعقد والتدرج في عرضها حسب درجات
تعقيداتها وترابطاتها، وحرصنا على أن لا نعرض مسألة إلا بعد أن نكون قد
استوفينا مسبقا كل ما له دخل في تحديد التصورات العام فيها، وان لا
نعطى في كل مسألة من الاستدلال والبحث إلا بالقدر الذي تكون أصوله
الموضوعية مفهومة بلا حاجة إلى الرجوع إلى مسألة لاحقة. وقد كلفنا هذا في
جملة من الأحيان ان نغير ترتيب المسائل من حلقة إلى أخرى، فمثلا قدمنا
الكلام عن امتناع اجتماع الأمر والنهي على الكلام عن بحث الملازمة بين
24

وجوب الشئ ووجوب مقدمته في الحلقة الثانية بينما عكسنا المطلب في الحلقة
الثالثة، والنكتة في ذلك أن ابراز بعض النكات في مسألة الوجوب الغيري
للمقدمة، يتوقف على فهم مسبق لمسألة الامتناع من قبيل اقتناص الثمرة
بلحاظ أداء القول بالوجوب الغيري لمطلق المقدمة إلى سقوط الحرمة حتى عن
المقدمة غير الموصلة لامتناع اجتماع الأمر والنهي، كما أن إبراز بعض النكات
في مسألة الامتناع ينبغي أن يكون بعد الإحاطة بحال الوجوب الغيري من
قبيل ان امتناع الاجتماع كما يكون في الامر النفسي مع النهي كذلك في الامر
الغيري مع النهي أيضا، ففي الحلقة الثانية أبرزنا الثمرة في بحث الوجوب
الغيري فناسب تأخيره عن بحث الامتناع، وفي الحلقة الثالثة أبرزنا تعميم
الامتناع للأوامر الغيرية فناسب تأخيره عن بحث الوجوب الغيري وهكذا جاء
الترتيب بين المسائل مختلفا في الحلقتين لنكتة من هذا القبيل أو لنكات أخرى
مقاربة.
سادسا: وجدنا ان تعدد الحلقات شئ ضروري لتحقيق المنهج الذي
رسمناه لان إعطاء مجموع الكمية الموزعة للمسألة الواحدة في الحلقات الثلاث
ضمن حلقة واحدة تحميل فجائي للطالب فوق ما يطيقه ويكون جزء من
تلك الكمية عادة مبنيا على مسأل أخرى بعد لم يتضح للطالب حالها، بل انا
وجدنا ان تثليث الحلقات شئ ضروري أيضا على الرغم من أن الحلقة الأولى
يبدو انها ضئيلة الأهمية وقد يتصور الملاحظ في بادئ الامر امكان
الاستغناء عنها نهائيا، ولكن الصحيح عدم امكان ذلك لأننا بحاجة - قيل
أن نبدأ بحلقة استدلالية تشمل على نقض وإبرام - إلى تزويد الطالب
بتصورات عن المطالب والقواعد الأصولية حتى يكون بالامكان في
تلك الحلقة الاستدلالية ان نضمن استدلالنا ونقضنا وإبرامنا لهذه المسألة
أو تلك هذا المطلب الأصولي أو ذاك، ولهذا رأينا ان نضع الحلقة
الأولى لاعطاء هذه التصورات العلمية فيخرج منها الطالب وهو يعرف معنى
25

الظهور التصوري والتصديقي والامارة والأصل والمنجزية والمعذرية والجعل
والمجعول والمعنى الاسمي والحرفي والحاكم والوارد والمخصص والقرينة المتصلة
والمنفصلة والاطلاق والعموم والفرق بينهما إلى كثير من هذه المصطلحات
والمقولات الأصولية التي تحتاج الحلقة الاستدلالية إلى استخدامها باستمرار.
ونضع الحلقة الثانية بوصفها حلقة استدلالية بحق ولكن بدرجة تتناسب
معها. وتمثل الحلقة الثالثة المستوى الأعلى من الاستدلال الذي يكفي لتحقيق
الهدف المطلوب من دراسة السطح.
سابعا: ان كل حلقة وان كانت تستعرض علم الأصول ومباحثه على
العموم ولكن مع هذا قد نذكر بعض المسائل الأصولية أو النكات في حلقة ثم
لا نعيد بحثها في الحلقة التالية اكتفاءا بما تقدم لاستيفاء حاجة المرحلة - اي
مرحلة السطح - بذلك المقدار، وهذا ما وقع مثلا في بحث الطرق التي يمكن
استعمالها لاثبات السيرة المعاصرة للمعصومين عليهم السلام فإننا استعرضنا
أربع طرق في الحلقة الثانية ولم نجد موجبا لإعادة البحث عن ذلك في الحلقة
الثالثة.
وانما نجمع كل الكمية التي تحتاجها مرحلة السطح في حلقة متقدمة أحيانا
لاحد أسباب، اما لسهولة مفردات الكمية وامكان تفهمها من قبل طلبة تلك
الحلقة، واما لوجود حاجة ماسة إلى تفهم تلك الكمية بكاملها في تلك الحلقة
بالذات لارتباط فهم جملة من مسائلها الأخرى بذلك، واما للامرين معا كما
هو الحال في البحث المشار إليه - أي بحث الطرق لاثبات السيرة المعاصرة -
فإنه بحث عرفي قريب من الفهم وليس طالب الحلقة الثانية بحاجة إلى مران
علمي أكبر لاستيعابه وهو في نفس الوقت يشكل الأساس لفهم طريقة
استدلال الحلقة نفسها بالسيرة على حجية خبر الثقة وعلى حجية الظهور وعلى
حجية الاطمئنان.
26

ثامنا: انا لم ندخل على العبارة الأصولية تطويرا مهما ولم نتوخ ان تكون
العبارة في الحلقات الثلاث وفقا لأساليب التعبير الحديث وانما حاولنا ذلك إلى
حد ما في الحلقة الأولى فقط، واما في الحلقتين الثانية والثالثة فقد حرصنا ان
تكون العبارة سليمة ووافية بالمعنى ولكن لم نحاول جعلها حديثة، ولهذا جاء
التعبير في الحلقتين العاليتين مقاربا في روحه العامة للتعبير المألوف في الكتب
العلمية الأصولية وان تميز عنه بالسلامة والوضوح ووفاء العبارة بالمعنى وليس
ذلك لعدم ايماننا بأهمية تنشئة الطالب الحوزوي على أساليب التعبير الحديث
بل لاعتبارين آخرين قدمناهما على ذلك.
أحدهما: اننا نريد ان نمكن الطالب تدريجا من الرجوع إلى الكتب العلمية
الأصولية القائمة فعلا وفهمها، وهذا لا يتأتى إلا إذا خاطبناه بعبارة قريبة
من مفردات تلك الكتب ولقناه من خلال الحلقات الثلاث المطالب الأصولية
بنفس المصطلحات التي تستعملها تلك الكتب حتى ولو كانت هذه
المصطلحات تشتمل على خطأ في تركيبها اللفظي، واما إذا كتبنا الحلقات
الثلاث بأساليب التعبير الحديث ووضعنا بديلا مناسبا عن المصطلحات القديمة
فسوف تنقطع صلة الطالب بمراجع هذا العلم وكتبه ويتعسر عليه الرجوع
إليها، وهذا يشكل عقبة كبيرة تواجه نموه العلمي. وعلى هذا الأساس اكتفينا
من التجديد في أساليب التعبير الأصولي بما أنجز في الحلقة الأولى وانتقلنا
بالطالب في الحلقتين العاليتين إلى أرضية لغوية قريبة مما هو مألوف في كتب
الأصول.
والاعتبار الآخر: ان الكتب الدراسية الأصولية والفقهية المكتوبة باللغة
العربية تتميز عن أي كتاب دراسي عربي في العلوم المدنية بأنها كتب لا
تختص بأبناء لغة دون لغة، وكما يدرسها العربي كذلك يدرسها العربي كذلك
يدرسها الفارسي والهندي والأفغاني وغيرهم من أبناء الشعوب المختلفة في
27

العالم الاسلامي على الرغم من كونها كتبا عربية، وهؤلاء يتلقون ثقافتهم
العربية من المصادر القديمة التي لا تهيئ لهم قدرة كافية لفهم اللغة العربية
بأساليبها الحديثة، فما لم يحصل بصورة مسبقة تطوير وتعديل في أساليب
تثقيف هؤلاء وتعليمهم اللغة العربية يصعب اتخاذ أساليب التعبير الحديث
أساسا للتعبير في الكتب الدراسية الأصولية.
تاسعا: أشرنا آنفا إلى انا حرصنا على سلامة العبارة وان تكون واضحة
وافية بالمعنى ولكن هذا لا يعني ان تفهم المطالب من العبارة رأسا، وانما
توخينا الوضوح والسلامة بالدرجة التي تضمن ان تفهم المطالب من العبارة في
حالة دراستها على الأستاذ المختص بالمادة، لان الكتاب الدراسي لا يطلب منه
التبسيط أكثر من ذلك كما هو واضح. نعم يمكن للطالب الألمعي في بعض
الحالات ان يمر على الحلقة الأولى مرورا سريعا مع الأستاذ أو يقرأها بصورة
منفردة ويراجع الأستاذ في بعض النقاط منها، الا ان هذا استثناء والمفروض
على العموم ان تدرس الحلقات الثلاث جميعا.
وبهذا تختلف الحلقات الثلاث عن الكتب الدراسية الأصولية القائمة فعلا
وتتفق مع مناهج الكتب الدراسية الحديثة، فان الكتب الدراسية الأصولية
القائمة فعلا لا تحتوي على الصعوبة والتعقيد في الجانب المعنوي والفكري منها
فقط، بل انها تشتمل على الصعوبة والتعقيد في الجانب اللفظي والتعبيري أيضا
ولهذا تجد عادة ان المدرس حتى بعد أن يشرح الفكرة للطالب تظل العبارة
مستعصية على الفهم ويحس الطالب بالحاجة إلى عون الأستاذ في سبيل تطبيق
تلك الفكرة على العبارة جملة جملة، وليس ذلك إلا لان العبارة قد طعمت
بشئ من الألغاز اما لايجازها أو للالتواء في صياغتها أو لكلا الامرين، بينما
الكتب الدراسية التي تسير عليها مناهج الدراسة في العالم اليوم لا تحتوي على
هذه الصعوبة لان العبارة فيها وافية وهذا ما جرينا عليه في هذه الحلقات،
28

فقد جاءت العبارة فيها وافية بالمراد لا بمعنى ان الطالب يقتنص المراد من
العبارة فقط بل بمعنى انه حين يشرح له أستاذه المعنى يجده منطبقا على العبارة
ولا يحس في التعبير بالتواء وتعقيد.
عاشرا: أجدني راغبا في التأكيد من جديد على أن تبني وجهة نظر أو
طريقة استدلال أو مناقشة برهان في هذه الحلقات لا بدل على اختيار ذلك
حقا، كما أن المضمون الكامل للحلقات الثلاث لا يمثل الوضع التفصيلي
لمباحثنا الأصولية ولا يصل إلى مداها كما أو كيفا. ومن هنا كان على
الراغبين في الاطلاع على متبنياتنا الحقيقية في الأصول وعلى نظرياتنا
وأساليب استدلالنا بكامل ابعادها ان يرجعوا إلى (بحوث في علم الأصول).
بقي أخيرا ان نوجه بعض الارشادات إلى الطلبة الكرام الذين أعدت هذه
الحلقات الثلاث لهم وإلى أساتذتهم الاعلام وذلك ضمن ما يلي:
أولا: ان الجدير بتدريس (الكفاية) قادر على تدريس الحلقات الثلاث
جميعا، كما أن القادر على تدريس (المعالم) قادر على تدريس الحلقة الأولى،
والقادر على تدريس (أصول الفقه) يقدر على تدريس الحلقة الثانية بدون
شك فضلا عن الأولى.
ثانيا: ان المرجع لطلبة الحلقة الثالثة ان يطالعوا قبل درس كل مسألة
فيها المسألة نفسها من الحلقة السابقة لان ذلك يساعدهم على سرعة تفهم
الدرس الجديد الذي كثيرا ما يشتمل جزء منه على نفس المطالب المتقدمة في
الحلقة السابقة ولكن بشكل مضغوط وموجز.
كما انا نرجح لمن يقوم بتدريس الحلقة الثانية ان يطالع عند التحضير
نفس المبحث من الحلقة الثالثة لان ذلك يعطيه رؤية أوضح لما يريد أن يتولى
تدريسه.
29

ثالثا: ان طلبة الحلقة الأولى يناسبهم ان يطالعوا المعالم الجديدة في الأصول
لان هذه الحلقة هي اختصار مع شئ من التعديل والتطوير لكتاب المعالم
الجديدة في الأصول، والفارق بينهما ان كتاب المعالم الجديدة حينما وضعناه
أدخلنا في حسابنا الهواة أيضا وحاولنا ان نشرح الأفكار فيه بطريقة تتيح لهم
ان يفهموها من الكتاب نفسه بدون حاجة إلى مدرس، واما الحلقة الأولى من
هذه الحلقات الثلاث فقد وضعناها لطلبة العلم خاصة وافترضنا انها تتلقى من
خلال الدرس.
رابعا: ان من المفيد ان يتخذ الطالب من بعض الكتب الدراسية القديمة
مراجع له ككتابي (أصول الفقه) و (الكفاية) خلال البحث، وحيث إن
المنهجة مختلفة فالمأمول في مدرسي الحلقة الثالثة ان يرشدوا تلاميذهم إلى
موضع المسألة التي يدرسونها ومحل التعرض لها في كتابي أصول الفقه والكفاية
لان ذلك يوسع من مدارك الطالب ويسرع به نحو النضج العلمي المطلوب.
خامسا: ينبغي للطالب ان يحاول استيعاب شرح الأستاذ وكتابته لكي
تنمو لديه ملكة الكتابة العلمية وتترسخ في ذهنه مصطلحات العلم ولغته
وأفكاره ويكون أكثر استعدادا لكتابة أبحاث الخارج فيما بعد.
هذا ونسأل المولى سبحانه وتعالى ان يتقبل هذا بلطفه وينفع به طلبتنا
وأبناءنا الأعزاء في الحوزات العلمية وان ينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون
إلا من أتى الله بقلب سليم والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم. النجف الأشرف
محمد باقر الصدر
18 رجب 1397 ه‍.
30

الحلقة الأولى
التمهيد
31

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين. وبعد
فإن هذه هي الحلقة الأولى من دروس في علم الأصول وضعناها للمبتدئين
بدراسة هذا العلم وتتبعها حلقتان أخريان إن شاء الله تعالى ويتكامل من خلال
الحلقات الثلاث إعداد الطالب للدراسة العليا وحضور أبحاث الخارج وقد
شرحنا في مقدمة هذه الحلقة ما يتعلق بهذه الحلقات الثلاث ومنهجها وطريقة
تدريسها إن شاء الله تعالى ومن الله سبحانه نستمد العون والتوفيق.
النجف الأشرف
محمد باقر الصدر
جمادي الأولى 1397 ه‍.
33

بسم الله الرحمن الرحيم
التعريف بعلم الأصول
كلمة تمهيدية
بعد أن آمن الانسان بالله والإسلام والشريعة، وعرف أنه مسؤول بحكم
كونه عبد لله تعالى عن امتثال أحكامه، يصبح ملزما بالتوفيق بين سلوكه في
مختلف مجالات الحياة والشريعة الاسلامية، وباتخاذ الموقف العملي الذي تفرضه
عليه تبعيته للشريعة، ولأجل هذا كان لزاما على الانسان أن يعين هذا
الموقف العملي، ويعرف كيف يتصرف في كل واقعة.
ولو كانت أحكام الشريعة في كل الوقائع واضحة وضوحا بديهيا للجميع
لكان تحديد الموقف العملي المطلوب تجاه الشريعة في كل واقعة أمرا
ميسورا لكل أحد، ولما احتاج إلى بحث علمي ودراسة واسعة، ولكن عوامل
عديدة منها بعدنا ألزمني عن عصر التشريع أدت إلى عدم وضوح عدد كبير
من أحكام الشريعة واكتنافها بالغموض.
وعلى هذا الأساس كان من الضروري أن يوضع علم يتولى دفع الغموض
عن الموقف العملي تجاه الشريعة في كل واقعة بإقامة الدليل على تعيينه.
وهكذا كان فقد أنشى علم الفقه للقيام بهذه المهمة، فهو يشتمل على
تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا استدلاليا والفقيه في علم الفقه
يمارس إقامة الدليل على تعيين الموقف العملي في كل حدث من أحداث
35

الحياة، وهذا ما نطلق عليه اسم عملية استنباط الحكم الشرعي.
ولأجل هذا يمكن القول بأن علم الفقه هو: علم استنباط الأحكام الشرعية
أو علم عملية الاستنباط بتعبير آخر.
وتحديد الموقف العملي بدليل يتم في علم الفقه بأسلوبين:
أحدهما: تحديده بتعيين الحكم الشرعي.
والآخر: تحديد الوظيفة العملية تجاه الحكم المشكوك بعد استحكام الشك
وتعذر تعيينه. والأدلة التي تستعمل في الأسلوب الأول نسميها بالأدلة أو
الأدلة المحرزة إذ يحرز بها الحكم الشرعي والأدلة التي تستعمل في الأسلوب
الثاني تسمى بالأدلة العملية أو الأصول العملية.
وفي كلا الأسلوبين يمارس الفقيه في علم الفقه استنباط الحكم الشرعي أي
يحدد الموقف العملي تجاهه بالدليل.
وعمليات الاستنباط التي يشتمل عليها علم الفقه بالرغم من تعددها
وتنوعها تشترك في عناصر موحدة وقواعد عامة تدخل فيها على تعددها
وتنوعها، وقد تطلبت هذه العناصر المشتركه في عملية الاستنباط وضع علم
خاص بها لدراستها وتحديدها وتهيئتها لعلم الفقه فكان علم الأصول.
تعريف علم الأصول
وعلى هذا الأساس نرى أن يعرف علم الأصول بأنه " العلم بالعناصر
المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي ".
ولكي نستوعب هذا التعريف يجب أن نعرف ما هي العناصر المشتركة في
عملية الاستنباط.
ولنذكر - لاجل ذلك - نماذج بدائية من هذه العملية في صيغ مختصرة
36

لكي نصل عن طريق دراسة هذه النماذج والمقارنة بينها إلى فكرة العناصر
المشتركة في عملية الاستنباط.
افرضوا أن فقيها واجه هذه الأسئلة:
1 - هل يحرم على الصائم أن يرتمس في الماء؟
2 - هل يجب على الشخص إذا ورث مالا من أبيه أن يؤدي خمسه؟
3 - هل تبطل الصلاة بالقهقهة في أثنائها؟
فإذا أراد الفقيه أن يجيب على هذه الأسئلة فإنه سوف يجيب على السؤال
الأول مثلا بالايجاب وانه يحرم الارتماس على الصائم ويستنبط ذلك بالطريقة
التالية: قد دلت رواية يعقوب بن شعيب عن الإمام الصادق (عليه السلام)
على حرمة الارتماس على الصائم فقد جاء فيها أنه قال: لا يرتمس المحرم في
الماء ولا الصائم. والجملة بهذا التركيب تدل في العرف العام على الحرمة
وراوي النص يعقوب ين شعيب ثقة والثقة وإن كان قد يخطئ أو يشذ أحيانا
ولكن الشارع أمرنا بعدم إتهام الثقة بالخطإ أو الكذب واعتبره حجة،
والنتيجة هي أن الارتماس حرام.
ويجيب الفقيه على السؤال الثاني بالنفي لان رواية علي بن مهزيار جاءت في
مقام تحديد الأموال التي يجب فيها الخمس وورد فيها أن الخمس ثابت في
الميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن، والعرف العام يفهم من هذه
الجملة أن الشارع لم يجعل خمسا على الميراث الذي ينتقل من الأب إلى ابنه،
والراوي ثقة وخبر الثقة حجه، والنتيجة هي أن الخمس في تركة الأب غير
واجب.
ويجيب الفقيه على السؤال الثالث بالايجاب بدليل رواية زرارة عن الإمام الصادق
أنه قال: " القهقهة لا تنقض الوضوء وتنقض الصلاة " والعرف العام
37

يفهم من النقض أن الصلاة تبطل بها وزرارة ثقة وخبر الثقة حجة، فالصلاة
مع القهقهة باطلة إذن.
وبملاحظة هذه المواقف الفقهية الثلاثة نجد أن الاحكام التي استنبطها
الفقيه كانت من أبواب شتى من الفقه، وأن الأدلة التي استند إليها الفقيه
مختلفة، فبالنسبة إلى الحكم الأول استند إلى رواية يعقوب بن شعيب،
وبالنسبة إلى الحكم الثاني استند إلى رواية علي ابن مهزيار، وبالنسبة إلى
الحكم الثالث استند إلى رواية زرارة ولكل من الروايات الثلاث
متنها وتركيبها اللفظي الخاص الذي يجب أن يدرس بدقة ويحدد معناه،
ولكن توجد في مقابل هذا التنوع وهذه والاختلافات بين المواقف الثلاثة
عناصر مشتركة أدخلها الفقيه في عمليه الاستنباط في المواقف الثلاثة
جميعا. فمن تلك العناصر المشتركة الرجوع إلى العرف العام في فهم
الكلام الصادر عن المعصوم، وهو ما يعبر عنه بحجية الظهور العرفي فحجية
الظهور إذن عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث، وكذلك يوجد
عنصر مشترك آخر وهو حجية خبر الثقة. وهكذا نستنتج أن عمليات
الاستنباط تشتمل على عناصر مشتركة كما تشتمل على عناصر خاصة، ونعني
بالعناصر الخاصة تلك العناصر التي تتغير من مسألة إلى أخرى فرواية يعقوب
ابن شعيب عنصر خاص في عملية استنباط حرمة الارتماس لأنها لم تدخل في
عمليات الاستنباط الأخرى بل دخلت بدلا عنها عناصر خاصة أخرى
كرواية علي بن مهزيار ورواية زرارة. ونعني بالعناصر المشتركة القواعد العامة
التي تدخل في عمليات استنباط أحكام عديدة في أبواب مختلفة.
وفي علم الأصول تدرس العناصر المشتركة وفي علم الفقه تدرس العناصر
الخاصة في كل مسألة.
وهكذا يترك للفقيه في كل مسألة أن يفحص بدقة الروايات والمدارك
38

الخاصة التي ترتبط بتلك المسألة ويدرس قيمة تلك الروايات ويحاول فهم
ألفاظها وظهورها العرفي وأسانيدها بينما يتناول الأصولي البحث عن حجية
الظهور وحجية الخبر وهكذا.
وعلم الأصول لا يحدد العناصر المشتركة فحسب بل يحدد أيضا درجات
استعمالها والعلاقة بينها كما سنرى في البحوث المقبلة إن شاء الله تعالى.
موضوع علم الأصول
لكل علم - عادة - موضوع أساسي ترتكز جميع بحوثه عليه وتدور حوله
وتستهدف الكشف عما يرتبط بذلك الموضوع من خصائص وحالات وقوانين،
فالفيزياء مثلا موضوعها الطبيعة وبحوث الفيزياء ترتبط كلها بالطبيعة وتحاول
الكشف عن حالاتها وقوانينها العامة. والنحو موضوعه الكلمة لأنه يبحث عن
حالات إعرابها وبنائها رفعها ونصبها. فما هو موضوع علم الأصول الذي
تدور حوله بحوثه؟.
ونحن إذا لاحظنا التعريف الذي قدمناه لعلم الأصول استطعنا أن نعرف
أن علم الأصول يدرس في الحقيقة الأدلة المشتركة في علم الفقه لاثبات
دليليتها، وبهذا صح القول بأن موضوع علم الأصول هو الأدلة المشتركة في
عملية الاستنباط. علم الأصول منطق الفقه
ولا بد أن معلوماتكم عن علم المنطق تسمح لنا أن نستخدمه كمثال لعلم
الأصول، فإن علم المنطق كما تعلمون يدرس في الحقيقة عملية التفكير مهما
كان مجالها وحقلها العلمي، ويحدد النظام الذي يجب أن تتعبه لكي
يكون التفكير سليما، مثلا يعلمنا علم المنطق كيف يجب أن ننهج في الاستدلال
39

بوصفه عملية تفكير لكي يكون الاستدلال صحيحا، كيف نستدل على أن
سقراط فان؟ وكيف نستدل على أن نار الموقد الموضوع أمامي محرقة؟ وكيف
نستدل على أن مجموع زوايا المثلث تساوي قائمتين؟ وكيف نستدل على أن
الخط الممتد بدون نهاية مستحيل؟ كل هذا يجيب عليه علم المنطق بوضع
المناهج العامة للاستدلال كالقياس والاستقراء، فهو إذن علم لعملية التفكير
إطلاقا. و
وعلم الأصول يشابه علم المنطق من هذه الناحية غير أنه يبحث عن نوع
خاص من عملية التفكير أي عن عملية التفكير الفقهي في استنباط الاحكام،
ويدرس العناصر المشتركة التي يجب أن تدخل فيها لكي يكون الاستنباط
سليما، فهو يعلمنا كيف نستنبط الحكم بحرمة الارتماس على الصائم؟ وكيف
نستنبط اعتصام ماء الكر؟ وكيف نستنبط الحكم باستحباب صلاة العيد أو
وجوبها؟ وذلك بوضع المناهج العامة وتحديد العناصر المشتركة لعملية
الاستنباط.
وعلى هذا الأساس يصح أن يطلق على علم الأصول اسم منطق علم الفقه
لأنه بالنسبة إليه بمثابة المنطق بالنسبة إلى الفكر البشري بصورة عامة.
أهمية علم الأصول في عملية الاستنباط
ولسنا بعد ذلك بحاجة إلى التأكيد على أهمية علم الأصول وخطورة دوره
في عالم الاستنباط لأنه ما دام يقدم لعملية الاستنباط عناصرها المشتركة
ويضع لها نظامها العام فهو عصب الحياة فيها، وبدون علم الأصول يواجه
الشخص في الفقه ركاما متناثرا من النصوص والأدلة دون أن يستطيع
استخدامها والاستفادة منها في الاستنباط، كإنسان يواجه أدوات النجارة
ويعطى منشارا وفأسا وما إليها من أدوات دون أن يملك أفكارا عامة عن
40

عملية النجارة وطريقة استخدام تلك الأدوات. وكما أن العناصر المشتركة
ضرورية لعملية الاستنباط فكذلك العناصر الخاصة التي تختلف من مسألة إلى
أخرى كمفردات الآيات والروايات المتناثرة فإنها الجزء الضروري الآخر
فيها، فلا يكفي مجرد الاطلاع على العناصر المشتركة التي يمثلها علم الأصول
ومن يحاول الاستنباط على أساس الاطلاع الأصولي فحسب نظير من يملك
معلومات نظرية عامة عن عملية النجارة ولا يوجد لديه فأس ولا منشار وما
إليهما من أدوات النجارة فكما يعجز هذا عن صنع سرير خشبي مثلا كذلك
يعجز الأصولي عن الاستنباط إذ لم يفحص بدقة العناصر الخاصة المتغيرة من
مسألة إلى أخرى.
فالعناصر المشتركة والعناصر الخاصة قطبان مندمجان في عملية الاستنباط
ولا غنى للعملية عنهما معا.
الأصول والفقه يمثلان النظرية والتطبيق
ونخشى أن نكون قد أوحينا إليكم بتصور خاطئ حين أوضحنا أن
المستنبط يدرس في علم الأصول العناصر المشتركة ويحددها ويتناول في بحوث
علم الفقه العناصر الخاصة ليكمل بذلك عملية الاستنباط، إذ قد يتصور
البعض أنا إذا درسنا في علم الأصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط
وعرفنا مثلا حجية الخبر وحجية الظهور وما إليهما من العناصر الأصولية فلا
يبقى علينا بعد ذلك أي جهد علمي، إذ لا نحتاج ما دمنا نملك تلك العناصر
إلا إلى مجرد استخراج الروايات والنصوص من مواضعها لكي تضاف إلى
العناصر المشتركة ويستنبط منها الحكم الشرعي، وهو عمل سهل بطبيعته لا
يشتمل على جهد علمي.
ولكن هذا التصور خاطئ إلى درجة كبيرة لان المجتهد إذا مارس
41

العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وحددها في علم الأصول لا يكتفي بعد
ذلك بتجميع أعمى للعناصر الخاصة من كتب الأحاديث والروايات مثلا بل
يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة ونظرياتها
العامة على العناصر الخاصة، والتطبيق مهمة فكرية بطبيعتها تحتاج إلى درس
وتمحيض، ولا يغني الجهد العلمي المبذول أصوليا عن بذل جهد جديد في
التطبيق، فلنفرض مثلا أن المجتهد آمن في علم الأصول بحجية الظهور العرفي
فهل يكفيه أن يضع إصبعه على رواية علي بن مهزيار التي حددت مجالات
الخمس مثلا يضيفها إلى العنصر المشترك ويستنبط من ذلك عدم وجوب
الخمس في ميراث الأب؟ أو ليس المجتهد بحاجة إلى تدقيق مدلول النص في
الرواية لمعرفة نوع مدلوله في العرف العام ودراسة كل ما يرتبط بتحديد
ظهوره العرفي من قرائن وإمارات داخل إطار النص أو خارجه لكي يتمكن
بأمانة من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجية الظهور العرفي؟ وفي هذا الضوء
نعرف أن البحث الفقهي عن العناصر الخاصة في عملية الاستنباط ليس مجرد
عملية تجميع، بل هو مجال التطبيق للنظريات الأصولية، وتطبيق النظريات
العامة له دائما موهبته الخاصة ودقته ومجرد الدقة في النظريات العامة لا يغني
عن الدقة في تطبيقها، ألا ترون أن من يدرس بعمق النظريات العامة في
الطب يحتاج في مجال تطبيقها على حالة مرضية إلى دقة وانتباه كامل وتفكير
في تطبيق تلك النظريات على المريض الذي بين يديه.
التفاعل بين الفكر الأصولي والفكر الفقهي
عرفنا أن علم الأصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه والعلاقة
بينهما علاقة النظرية والتطبيق، وهذا الترابط الوثيق بينهما يفسر لنا التفاعل
المتبادل بين الذهنية الأصولية على صعيد النظريات من ناحية وبين الذهنية
الفقهية على صعيد التطبيق من ناحية أخرى، لان توسع بحوث التطبيق يدفع
42

بحوث النظرية خطوة إلى الامام لأنه يثير أمامها مشاكل ويضطرها إلى وضع
النظريات العامة لحولها، كما أن دقة البحث في النظريات الأصولية تنعكس
على صعيد التطبيق إذ كلما كانت النظريات أوفر وأدق تطلبت طريقة
تطبيقها دقة وعمقا أكبر. وهذا التفاعل بين الذهنيتين الأصولية والفقهية
يؤكده تاريخ العلمين على طول الخط، وتكشف عنه بوضوح دراسة المراحل
التي مر بها البحث الفقهي والبحث الأصولي في تاريخ العلم، فقد نشأ علم
الأصول في أحضان علم الفقه كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث.
ولم يكن علم الأصول مستقلا عن علم الفقه في البداية ومن خلال نمو علم
الفقه واتساع أفق التفكير الفقهي أخذت الخيوط العامة، والعناصر المشتركة في
عملية الاستنباط تبدو وتتكشف وأخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون
اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامة لا يمكن استخراج الحكم الشرعي
بدونها، وكان ذلك إيذانا بمولد علم الأصول واتجاه الذهنية الفقهية اتجاها
أصوليا، فانفصل علم الأصول عن علم الفقه في البحث والتصنيف وأخذ يتسع
ويشرى تدريجا من خلال نمو الفكر الأصولي من ناحية وتبعا لتوسع البحث
الفقهي من ناحية أخرى، لان اتساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار
الممارسين إلى مشاكل جديدة فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة وتتخذ الحلول
صورة العناصر المشتركة في علم الأصول.
وكلما بعد الفقيه عن عصر النص تعدد جوانب الغموض في فهم الحكم
من مداركه الشرعية وتنوعت الفجوات في عملية الاستنباط نتيجة للبعد
ألزمني، فيحس أكثر فأكثر بالحاجة إلى تحديد قواعد عامة يعالج بها جوانب
الغموض ويملا بها تلك الفجوات، وبهذا كانت الحاجة إلى علم الأصول
تاريخية بمعنى أنها تشتد وتتأكد كلما ابتعد الفقيه تاريخيا عن عصر النص
وتراكمت الشكوك على عملية الاستنباط التي يمارسها. وعلى هذا الأساس
43

يمكن أن نفسر الفارق ألزمني بين إزدهار علم الأصول في نطاق التفكير
الفقهي السني وازدهاره في نطاق تكفيرنا الفقهي الامامي، فإن التاريخ يشير
إلى أن علم الأصول ترعرع وازدهر نسبيا في نطاق الفقه السني قبل ترعرعه
وازدهاره في نطاقنا الفقهي الامامي، وذلك لان المذهب السني كان يزعم
انتهاء عصر النصوص بوفاة النبي صلى الله عليه وآله فحين اجتاز الفكر الفقهي السني القرن
الثاني كان قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافة زمنية كبيرة تخلق بطبيعتها
الثغرات والفجوات. وأما الامامية فقد كانوا وقتئذ يعيشون عصر النص
الشرعي لان الامام امتداد لوجود النبي فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء
الامامية في الاستنباط أقل بكير إلى الدرجة التي لا تفسح المجال للاحساس
بالحاجة الشديدة إلى وضع علم الأصول ولهذا نجد أن الامامية بمجرد ان انتهى
عصر النصوص بالنسبة إليهم ببدء الغيبة أو بانتهاء الغيبة الصغرى بوجه خاص
تفتحت ذهنيتهم الأصولية وأقبلوا على درس العناصر المشتركة. وهذا لا يعني
طبعا أن بذور التفكير الأصولي لم توجد لدى فقهاء أصحاب الأئمة بل قد
وجدت هذه البذور منذ أيام الصادقين عليهما السلام على المستوى المناسب
لتلك المرحلة، ومن الشواهد التاريخية على ذلك ما ترويه كتب الحديث من
أسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وجهها عدد من
الرواه إلى الإمام الصادق وغيره من الأئمة عليهم السلام وتلقوا جوابا منهم،
فإن تلك الأسئلة تكشف عن وجود بذرة التفكير الأصولي عندهم. ويعزز
ذلك أن بعض أصحاب الأئمة ألفوا رسائل في بعض المسائل الأصولية
كهشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق الذي روي أنه ألف رسالة في
الألفاظ.
44

جواز عملية الاستنباط
ما دام علم الأصول يرتبط بعملية الاستنباط ويحدد عناصرها المشتركة
فيجب أن نعرف قبل كل شئ موقف الشريعة من هذه العملية، فهل سمح
الشارع لاحد بممارستها لكي يوجد مجال لوضع علم لدراسة عناصرها
المشتركة؟
والحقيقة أن مسألة جواز الاستنباط حين تطرح للبحث بالصيغة التي
طرحناها لا يبدو أنها جديرة بالنقاش، لأننا حين نتسأل هل يجوز لنا ممارسة
عملية الاستنباط أو لا؟ يجي الجواب على البداهة بالايجاب، لان عملية
الاستنباط كما تقدم عبارة عن تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا
استدلاليا، ومن البديهي أن الانسان بحكم تبعيته للشريعة ملزم بتحديد
موقفه العملي منها، ولما لم تكن أحكام الشريعة غالبا في البداهة والوضوح
بدرجة تغني عن إقامة الدليل، فليس من المعقول أن يحرم على الناس جميعا
تحديد الموقف العملي تحديدا استدلاليا.
ولكن لسوء الحظ اتفق لهذه المسألة أن اكتسبت صيغة أخرى لا تخلو عن
غموض وتشويش، فأصبحت مثارا للاختلاف نتيجة لذلك الغموض
والتشويش، فقد استخدمت كلمة الاجتهاد للتعبير عن عملية الاستنباط.
وطرح السؤال هكذا هل يجوز الاجتهاد في الشريعة؟ وحينما دخلت كلمة
الاجتهاد في السؤال وهي كلمة مرت بمصطلحات عديدة في تاريخها - أدت
45

إلى إلقاء ظلال تلك المصطلحات السابقة على البحث، ونتج عن ذلك أن
أجاب البعض على السؤال بالنفي، وأدى ذلك إلى شجب علم الأصول كله
لأنه إنما يراد لاجل الاجتهاد، فإذا الغي الاجتهاد لم تعد حاجة إلى علم
الأصول.
وفي سبيل توضيح ذلك يجب أن نذكر التطور الذي مرت به كلمة
الاجتهاد، لكي نتبين كيف أن النزاع الذي وقع حول جواز عملية الاستنباط
والضجة التي أثيرت ضدها لم يكن إلا نتيجة فهم غير دقيق للاصطلاح
العلمي، وغفلة عن التطورات التي مرت بها كلمة الاجتهاد في تاريخ العلم.
الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد وهو " بذل الوسع للقيام بعمل ما "
وقد استعملت هذه الكلمة - لأول مرة - على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن
قاعدة من القواعد التي قررتها بعض مدارس الفقه السني وسارت على أساسها
وهي القاعدة القائلة: " إن الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكما شرعيا ولم يجد
نصا يدل عليه في الكتاب أو السنة رجع إلى الاجتهاد بدلا عن النص ".
والاجتهاد هنا يعني التفكير الشخصي، فالفقيه حيث لا يجد النص يرجع إلى
تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما يرجع في فكره الشخصي من تشريع،
وقد يعبر عنه بالرأي أيضا.
والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلا من أدلة الفقيه ومصدرا من مصادره،
فكما أن الفقيه قد يستند إلى الكتاب أو السنة ويستدل بهما معا كذلك يستند
في حالات عدم توفر النص إلى الاجتهاد الشخصي ويستدل به.
وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، وعلى
رأسها مدرسة أبي حنيفة. ولقي في نفس الوقت معارضة شديدة من أئمة أهل
46

البيت (ع) والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم.
وتتبع كلمة الاجتهاد يدل على أن الكلمة حملة هذا المعنى وكانت
تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمة إلى القرن السابع فالروايات المأثورة عن
أئمة أهل البيت (ع) تذم الاجتهاد وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتخذ
من التفكير الشخصي مصدرا من مصادر الحكم، وقد دخلت الحملة ضد هذا
المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمة أيضا والرواة الذين حملوا آثارهم،
وكانت الحملة تستعمل كلمة الاجتهاد غالبا للتعبير عن ذلك المبدأ وفقا
للمصطلح الذي جاء في الروايات، فقد صنف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري
كتبا أسماه " الاستفادة في الطعون على الأوائل والرد على أصحاب الاجتهاد
والقياس ". وصنف هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني كتابا في الموضوع
باسم كتاب " الرد على من رد آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول "،
وصنف في عصر الغيبة الصغرى أو قريبا منه إسماعيل بن علي ابن إسحاق بن
أبي سهل النوبختي كتابا في الرد على عيسى بن أبان في الاجتهاد، كما نص على
ذلك كله النجاشي صاحب الرجال في ترجمة كل واحد من هؤلاء.
وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل
تلك الحملة، ونذكر له على سبيل المثال تعقيبه على قصة موسى والخضر، إذ
كتب يقول: " أن موسى مع كمال عقله وفضله ومحله من الله تعالى لم
يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر حتى اشتبه عليه وجه الامر
به، فإذا لم يجز لأنبياء الله ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان من
دونهم من الأمم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك... فإذا لم يصلح موسى للاختيار
- مع فضله ومحله - فكيف تصلح الأمة لاختيار الامام، وكيف يصلحون
لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة ".
وفي أواخر القرن الرابع يجئ الشيخ المفيد فيسير على نفس الخط ويهجم
47

على الاجتهاد، وهو يعبر بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف
الذكر ويكتب كتابا في ذلك باسم " النقض على ابن الجنيد في اجتهاد
الرأي ".
ونجد المصطلح نفسه لدى السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس، إذ
كتب في الذريعة يذم الاجتهاد ويقول: " إن الاجتهاد باطل، وإن الامامية لا
يجوز عندهم العمل بالظن ولا الرأي ولا الاجتهاد ". وكتب في كتابه الفقهي
" الانتصار " معرضا بابن الجنيد - قائلا: " إنما عول ابن الجنيد في هذه
المسألة على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطأه ظاهر " وقال في مسألة مسح
الرجلين في فصل الطهارة من كتاب الانتصار: " إنا لا نرى الاجتهاد ولا
نقول به ".
واستمر هذا الاصطلاح في كلمة الاجتهاد بعد ذلك أيضا فالشيخ
الطوسي الذي توفي في أواسط القرن الخامس يكتب في كتاب العدة قائلا:
" إما القياس والاجتهاد فعندنا إنهما ليسا بدليلين، بل محظور في الشريعة
استعمالها ".
وفي أواخر القرن السادس يستعرض ابن إدريس في مسألة تعارض البينتين
من كتابه السرائر عددا من المرجحات لاحدى البينتين على الأخرى ثم يعقب
ذلك قائلا: " ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا، والقياس والاستحسان
والاجتهاد باطل عندنا ".
وهكذا تدل هذه النصوص بتعاقبها التاريخي المتتابع على أن كلمة
الاجتهاد كانت تعبيرا عن ذلك المبدأ الفقهي المتقدم إلى أوائل القرن السابع،
وعلى هذا الأساس اكتسبت الكلمة لونا مقيتا وطابعا من الكراهية
والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الامامية نتيجة لمعارضة ذلك المبدأ والايمان
ببطلانه.
48

ولكن كلمة الاجتهاد تطورت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا ولا يوجد
لدينا الآن نص شيعي يعكس هذا التطور أقدم تاريخا من كتاب المعارج
للمحقق الحلي المتوفى سنة (676 ه‍)، إذ كتب المحقق تحت عنوان حقيقة
الاجتهاد يقول: " وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية
، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الاحكام من أدلة الشرع اجتهادا،
لأنها تبتني على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في
الأكثر، سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره، فيكون القياس على هذا
التقرير أحد أقسام الاجتهاد.
فإن قيل: يلزم - على هذا - أن يكون الامامية من أهل الاجتهاد.
قلنا: الامر كذلك لكن فيه إيهام من حيث أن القياس من جملة
الاجتهاد، فإذا استثني القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الاحكام
بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس ".
ويلاحظ على هذا النص بوضوح أن كلمة الاجتهاد كانت لا تزال في
الذهنية الأساسية مثقلة بتبعة المصطلح الأول، ولهذا يلمح النص إلى أن هناك
من يتحرج من هذا الوصف ويثقل عليه أن يسمي فقهاء الامامية مجتهدين.
ولكن المحقق الحلي لم يتحرج عن اسم الاجتهاد بعد أن طوره أو تطور في
عرف الفقهاء تطويرا يتفق مع مناهج الاستنباط في الفقه الامامي، إذ بينما كان
الاجتهاد مصدرا للفقيه يصدر عنه ودليلا يستدل به كما يصدر عن آية أو
رواية، أصبح في المصطلح الجديد يعبر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في
استخراج الحكم الشرعي من أدلته ومصادره، فلم يعد مصدرا من مصادر
الاستنباط، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه.
والفرق بين المعنيين جوهري للغاية، إذ كان على الفقيه - على أساس
49

المصطلح الأول للاجتهاد - أن يستنبط من تفكيره الشخصي وذوقه الخاص في
حالة عدم توفر النص، فإذا قيل له: ما هو دليلك ومصدر حكمك هذا؟
استدل بالاجتهاد وقال: الدليل هو اجتهادي وتفكيري الخاص. واما
المصطلح الجديد فهو لا يسمح للفقيه أن يبرر أي حكم من الاحكام
بالاجتهاد لان الاجتهاد بالمعنى الثاني ليس مصدرا للحكم بل هو عملية
استنباط الاحكام من مصادرها، فإذا قال الفقيه " هذا اجتهادي " كان معناه
أن هذا هو ما استنبطه من المصادر والأدلة، فمن حقنا أن نسأله ونطلب منه
أن يدلنا على تلك المصادر والأدلة التي استنبط الحكم منها.
وقد مر هذا المعنى الجديد لكلمة الاجتهاد بتطور أيضا، فقد حدده
المحقق الحلي في نطاق عمليات الاستنباط التي لا تستند إلى ظواهر النصوص،
فكل عملية استنباط لا تستند إلى ظواهر النصوص تسمى اجتهادا دون ما
يستند إلى تلك الظواهر. ولعل الدافع إلى هذا التحديد أن استنباط الحكم
من ظاهر النص ليس فيه كثير جهد أو عناء علمي ليسمى اجتهادا.
ثم اتسع نطاق الاجتهاد بعد ذلك فأصبح يشمل عملية استنباط الحكم من
ظاهر النص أيضا، لان الأصوليين بعد هذا لاحظوا بحق أن عملية استنباط
الحكم من ظاهر النص تستبطن كثيرا من الجهد العلمي في سبيل معرفة الظهور
وتحديده وإثبات حجية الظهور العرفي. ولم يقف توسع الاجتهاد كمصطلح
عند هذا الحد، بل شمل في تطور حديث عملية الاستنباط بكل ألوانها،
فدخلت في الاجتهاد كل عملية يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العملي تجاه
الشريعة عن طريق إقامة الدليل على الحكم الشرعي أو على تعيين الموقف
العملي مباشرة.
وهكذا أصبح الاجتهاد يرادف عملية الاستنباط، وبالتالي أصبح علم
50

الأصول العلم الضروري للاجتهاد لأنه العلم بالعناصر المشتركة في عملية
الاستنباط.
* * *
وعلى هذا الضوء يمكننا أن نفسر موقف جماعة من علمائنا الأخيار ممن
عارضوا كلمة الاجتهاد بما تحمل من تراث المصطلح الأول الذي شن أهل
البيت حملة شديدة عليه وهو يختلف عن الاجتهاد بالمعنى الثاني، وما دمنا قد
ميزنا بين معنيي الاجتهاد فنستطيع أن نعيد إلى المسألة بداهتها ونتبين بوضوح
جواز الاجتهاد بالمعنى المرادف لعملية الاستنباط، وتترتب على ذلك ضرورة
الاحتفاظ بعلم الأصول، لدراسة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط.
51

الحكم الشرعي وتقسيمه
عرفنا ان علم الأصول يدرس العناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم
الشرعي، ولأجل ذلك يجب ان نكون فكرة عامة منذ البدء عن الحكم
الشرعي الذي يقوم علم الأصول بتحديد العناصر المشتركة في عملية استنباطه.
الحكم الشرعي هو: التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الانسان.
والخطابات الشرعية في الكتاب والسنة مبرزة للحكم وكاشفة عنه، وليست هي
الحكم الشرعي نفسه.
وعلى هذا الضوء يكون من الخطأ تعريف الحكم الشرعي بالصيغة المشهورة
بين قدماء الأصوليين، إذ يعرفونه بأنه الخطاب الشرعي المتعلق بأفعال
المكلفين، فان الخطاب كاشف عن الحكم والحكم هو مدلول الخطاب.
أضف إلى ذلك أن الحكم الشرعي لا يتعلق بأفعال المكلفين دائما، بل قد
يتعلق بذواتهم أو بأشياء أخرى ترتبط بهم، لان الهدف من الحكم الشرعي
تنظيم حياة الانسان، وهذا الهدف كما يحصل بخطاب متعلق بأفعال المكلفين
كخطاب " صل " و " صم " و " لا تشرب الخمر " كذلك يحصل بخطاب
متعلق بذواتهم أو بأشياء أخرى تدخل في حياتهم من قبيل الاحكام
والخطابات التي تنظم علاقة الزوجية وتعتبر المرأة زوجة للرجل في ظل شروط
معينة، أو تنظيم علاقة الملكية وتعتبر الشخص مالكا للمال في ظل شروط
معينه، فان هذه الأحكام ليست متعلقة بأفعال المكلفين بل الزوجية حكم
52

شرعي متعلق بذواتهم والملكية حكم شرعي متعلق بالمال. فالأفضل إذن
استبدال الصيغة المشهور بما قلناه من أن الحكم الشرعي هو التشريع الصادر
من الله لتنظيم حياة الانسان سواء كان متعلقا بأفعال أو بذاته أو بأشياء
أخرى داخلة في حياته.
تقسيم الحكم إلى تكليفي ووضعي.
وعلى ضوء ما سبق يمكننا تقسيم الحكم إلى قسمين:
أحدهما: الحكم الشرعي المتعلق بأفعال الانسان والموجه لسلوكه مباشرة في
مختلف جوانب حياته الشخصية والعبادية والعائلية والاجتماعية التي عالجتها
الشريعة ونظمتها جميعا، كحرمة شرب الخمر ووجوب الصلاة ووجوب
الانفاق على بعض الأقارب، وإباحة إحياء الأرض، ووجوب العدل على
الحاكم. والاخر الحكم الشرعي الذي لا يكون موجها مباشرا للانسان في
أفعاله وسلوكه، وهو كل حكم يشرع وضعا معينا يكون له تأثير غير مباشر
في سلوك الانسان، من قبيل الاحكام التي تنظم علاقات الزوجية، فإنها
تشرع بصورة مباشرة علاقة معينة بين الرجل والمرأة وتؤثر بصورة غير
مباشرة في السلوك وتوجهه لان المرأة بعد أن تصبح زوجة مثلا تلزم بسلوك
معين تجاه زوجها، ويسمى هذا النوع من الاحكام بالاحكام الوضعية.
والارتباط بين الأحكام الوضعية والاحكام التكليفية وثيق، إذ لا يوجد
حكم وضعي إلا ويوجد إلى جانبه حكم تكليفي، فالزوجية حكم شرعي
وضعي توجد إلى جانبه احكام تكليفية وهي وجوب إنفاق الزوج على زوجته
ووجوب التمكين على الزوجة، والملكية حكم شرعي وضعي توجد إلى جانبه
احكام تكليفية من قبيل حرمة تصرف غير المالك في المال إلا باذنه، وهكذا.
53

أقسام الحكم التكليفي
ينقسم الحكم التكليفي - وهو الحكم المتعلق بأفعال الانسان والموجه لها
مباشرة - إلى خمسة أقسام، وهي كما يلي: 1 - " الوجوب " وهو حكم شرعي يبعث نحو الشئ الذي تعلق به
بدرجة الالزام، نحو وجوب الصلاة ووجوب إعادة المعوزين على ولي الامر.
2 - " الاستحباب " وهو حكم شرعي، يبعث نحو الشئ الذي تعلق به
بدرجة دون الالزام، ولهذا توجد إلى جانبه دائما رخصة من الشارع في
مخالفته، كاستحباب صلاة الليل.
3 - " الحرمة " وهي حكم شرعي يزجر عن الشئ الذي تعلق به بدرجة
الالزام، نحو حرمة الربا وحرمة الزنا وبيع الأسلحة من أعداء الاسلام.
4 - " الكراهة " وهي حكم شرعي يزجر عن الشئ الذي تعلق به
بدرجة دون الالزام، فالكراهة في مجال الزجر كالاستحباب في مجال البعث،
كما أن الحرمة في مجال الزجر كالوجوب في مجال البعث، ومثال المكروه خلف
الوعد.
5 - " الإباحة " وهي ان يفسح الشارع المجال للمكلف لكي يختار
الموقف الذي يريده، ونتيجة ذلك أن يتمتع المكلف بالحرية فله ان يفعل وله
ان يترك.
54

القسم الثاني
بحوث علم الأصول
55

تنويع البحث
حينما يتناول الفقيه مسألة كمسألة الإقامة للصلاة، ويحاول استنباط
حكمها يتسأل في البداية: ما هو نوع الحكم الشرعي المتعلق بالإقامة؟ فان
حصل على دليل يكشف عن نوع الحكم الشرعي للإقامة كان عليه ان يحدد
موقفه العملي واستنباطه على أساسه، فيكون استنباطا قائما على أساس الدليل.
وإن لم يحصل الفقيه على دليل يعين نوع الحكم الشرعي المتعلق بالإقامة
فسوف يظل الحكم الشرعي مجهولا للفقيه وفي هذه الحالة يستبدل الفقيه سؤاله
الأول الذي طرحه في البداية سؤال جديد كما يلي: ما هي القواعد التي تحدد
الموقف العملي تجاه الحكم الشرعي المجهول؟ وهذه القواعد تسمى بالأصول
العملية، ومثالها أصالة البراءة، وهي القاعدة القائلة ان كل إيجاب أو تحريم
مجهول لم يقم عليه دليل فلا أثر له على سلوك الانسان وليس الانسان ملزما
بالاحتياط من ناحيته والتقيد به، ويقوم الاستنباط في هذه الحالة على أساس
الأصل العملي بدلا عن الدليل والفرق بين الأصل والدليل ان الأصل لا يحرز
الواقع وانما يحدد الوظيفة العملية تجاهه وهو نحو من الاستنباط ولأجل هذا
يمكننا تنويع عملية الاستنباط إلى نوعين: أحدهما الاستنباط القائم على أساس
الدليل، كالاستنباط المستمد من نص دال على الحكم الشرعي، والاخر
الاستنباط القائم على أساس الأصل العملي كالاستنباط المستمد من إصالة
البراءة.
57

ولما كان علم الأصول هو العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط فهو
يزود كلا النوعين بعناصره المشتركة، وعلى هذا الأساس ننوع البحوث
الأصولية إلى نوعين نتكلم في النوع الأول عن العناصر المشتركة في عملية
الاستنباط التي تتمثل في أدلة محرزة للحكم، ونتكلم في النوع الثاني عن
العناصر المشتركة في عملية الاستنباط التي تتمثل في أصول عملية.
العنصر المشترك بين النوعين
ويوجد بين العناصر المشتركة في عملية الاستنباط عنصر مشترك يدخل في
جميع عمليات استنباط الحكم الشرعي بكلا نوعيها: ما كان منها قائما على
أساس الدليل وما كان قائما على أساس الأصل العملي.
وهذا العنصر هو حجية القطع ونريد بالقطع انكشاف قضية من القضايا
بدرة لا يشوبها شك. ومعنى حجية القطع يتلخص في أمرين:
أحدهما: أن العبد إذا تورط في مخالفة المولى نتيجة لعمله بقطعه واعتقاده،
فليس للمولى معاقبته، وللعبد أن يعتذر عن مخالفته للمولى بأنه عمل على وفق
قطعه، كما إذا قطع العبد خطأ بان الشراب الذي أمامه ليس خمرا فشربه
اعتمادا على قطعه وكان الشراب خمرا في الواقع، ليس للمولى أن يعاقبه على
شربه للخمر ما دام قد استند إلى قطعه، وهذا أحد الجانبين من حجية العلم
ويسمى بجانب المعذرية.
والآخر: أن العبد إذا تورط في مخالفة المولى نتيجة لتركه العمل بقطعه
فللمولى ان يعاقبه ويحتج عليه بقطعه، كما إذا قطع العبد بان الشراب الذي
أمامه خمر فشربه وكان خمرا في الواقع، فإن من حق المولى ان يعاقبه على
مخالفته، لان العبد كان على علم بحرمة الخمر وشربه فلا يعذر في ذلك، وهذا
هو الجانب الثاني من حجية القطع ويسمى بجانب المنجزية.
58

وبديهي أن حجية القطع بهذا المعنى الذي شرحناه لا يمكن ان تستغني عنه
أي عملية من عمليات استنباط الحكم الشرعي، لان الفقيه يخرج من عملية
الاستنباط دائما بنتيجة، وهي العلم بالموقف العملي تجاه الشريعة وتحديده على
أساس الدليل أو على أساس الأصل العملي، ولكي تكون هذه النتيجة ذات
أثر لا بد من الاعتراف مسبقا بحجية القطع، إذ لو لم يكن القطع حجة ولم
يكن صالحا للاحتجاج به من المولى على عبده ومن العبد على مولاه لكانت
النتيجة التي خرج بها الفقيه من عملية الاستنباط لغوا، لان عمله ليس حجة،
ففي كل عملية استنباط لا بد إذن أن يدخل عنصر حجية القطع لكي تعطي
العملية ثمارها ويخرج منها الفقيه بنتيجة إيجابية.
وبهذا أصبحت حجية القطع أعم العناصر الأصولية المشتركة وأوسعها
نطاقا.
وليست حجية القطع عنصرا مشتركا في عمليات استنباط الفقيه للحكم
الشرعي فحسب، بل هي في الواقع شرط أساسي في دراسة الأصولي للعناصر
المشتركة نفسها أيضا، فنحن حينما ندرس مثلا مسألة حجية الخبر أو حجية
الظهور العرفي إنما نحاول بذلك تحصيل العلم بواقع الحال في تلك المسألة، فإذا
لم يكن العلم والقطع حجة فأي جدوى في دراسة حجية الخبر والظهور العرفي.
فالفقيه والأصولي يستهدفان معا من بحوثهما تحصيل العلم بالنتيجة الفقهية
" تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة " أو الأصولية " العنصر المشترك "،
فبدون الاعتراف المسبق بحجية العلم والقطع تصبح بحوثهما عبثا لا طائل تحته، وحجية القطع ثابتة بحكم العقل، فإن العقل يحكم بان للمولى سبحانه حق
الطاعة على الانسان في كل ما يعمله من تكاليف المولى وأوامره ونواهيه فإذا
علم الانسان بحكم إلزامي من المولى " وجوب أو حرمة " دخل ذلك الحكم
الالزامي ضمن نطاق حق الطاعة، وأصبح من حق المولى على الانسان ان
59

يمتثل ذلك الالزام الذي علم به، فإذا قصر في ذلك أو لم يؤد حق الطاعة
كان جديرا بالعقاب، وهذا هو جانب المنجزية في حجية القطع، ومن ناحية
أخرى يحكم العقل أيضا بان الانسان القاطع بعدم الالزام من حقه أن
يتصرف كما يحلو له، وإذا كان الالزام ثابتا في الواقع والحالة هذه فليس من
حق المولى على الانسان أن يمتثله ولا يمكن للمولى أن يعاقبه على مخالفته ما
دام الانسان قاطعا بعدم الالزام، وهذا هو جانب المعذرية في حجية القطع.
والعقل كما يدرك حجية القطع كذلك يدرك أن الحجية لا يمكن أن
تزول عن القطع بل هي لازمه له، ولا يمكن حتى للمولى أن يجرد القطع من
حجيته ويقول: إذا قطعت بعدم الالزام فأنت لست معذورا، أو يقول: إذا
قطعت بالالزام فلك أن تهمله، فإن كل هذا مستحيل بحكم العقل، لان
القطع لا تنفك عنه المعذرية والمنجزية بحال من الأحوال، وهذا معنى القاعدة
الأصولية القائلة باستحالة صدور الردع من الشارع عن القطع.
وقد تقول: هذا المبدأ الأصولي يعني أن العبد إذا تورط في عقيدة خاطئة
فقطع مثلا بان شرب الخمر حلال فليس للمولى ان ينبه على الخطأ.
والجواب: أن المولى بإمكانه التنبيه على الخطأ وإخبار العبد بان الخمر ليس
مباحا، لان ذلك يزيل القطع من نفس العبد ويرده إلى الصواب، والمبدأ
الأصولي الآنف الذكر إنما يقرر استحالة صدور الردع من المولى عن العمل
بالقطع مع بقاء القطع ثابتا، فالقطع بحلية شرب الخمر يمكن للمولى أن يزيل
قطعه ولكن من المستحيل أن يردعه عن العمل بقطعه ويعاقبه على ذلك ما دام
قطعه ثابتا ويقينه بالحلية قائما.
60

النوع الأول
الأدلة المحرزة
مبادئ عامة
الدليل الذي يستند إليه الفقيه في استنباط الحكم الشرعي، إما أن يؤدي
إلى العلم بالحكم الشرعي أو لا:
ففي الحالة الأولى يكون الدليل قطعيا ويستمد شرعيته وحجيته من حجية
القطع، لأنه يؤدي إلى القطع بالحكم، والقطع حجة بحكم العقل فيتحتم على
الفقيه أن يقيم على أساسه استنباطه للحكم الشرعي. ومن نماذجه القانون القائل
" كلما وجب الشئ وجبت مقدمته " فان هذا القانون يعتبر دليلا قطعيا على
وجوب الوضوء بوصفه مقدمة للصلاة.
وأما في الحالة الثانية فالدليل ناقص لأنه ليس قطعيا، والدليل الناقص إذا
حكم الشارع بحجيته وأمر بالاستناد إليه في عملية الاستنباط على الرغم من
نقصانه، أصبح كالدليل القطعي وتحتم على الفقيه الاعتماد عليه.
ومن نماذج الدليل الناقص الذي جعله الشارع حجة خبر الثقة، فان خبر
الثقة لا يؤدي إلى العلم لاحتمال الخطأ فيه أو الشذوذ، فهو دليل ظني ناقص
وقد جعله الشارع حجة وأمر باتباعه وتصديقه، فارتفع بذلك في عملية
الاستنباط إلى مستوى الدليل القطعي.
وإذا لم يحكم الشارع بحجية الدليل الناقص فلا يكون حجة ولا يجوز
61

الاعتماد عليه في الاستنباط، لأنه ناقص يحتمل فيه الخطأ.
وقد نشك ولا نعلم هل جعل الشارع الدليل الناقص حجة أو لا يتوفر لدينا
الدليل الذي يثبت الحجية شرعا أو ينفيها، وعندئذ يجب أن نرجع إلى قاعدة
عامة يقررها الأصوليون بهذا الصدد، وهي القاعدة القائلة: " ان كل دليل
ناقص، ليس حجة ما لم يثبت بالدليل الشرعي العكس "، وهذا هو معنى ما
يقال في علم الأصول من أن " الأصل في الظن هو عدم الحجية إلا ما خرج
بدليل قطعي " ونستخلص من ذلك أن الدليل الجدير بالاعتماد عليه فقهيا هو
الدليل القطعي أو الدليل الناقص الذي ثبت حجيته شرعا بدليل قطعي.
تقسيم البحث
والدليل المحرز في المسألة الفقهية سواء كان قطعيا أو لا ينقسم إلى
قسمين:
الأول: الدليل الشرعي، ونعني به كل ما يصدر من الشارع مما له دلالة
على الحكم الشرعي ويشتمل ذلك على الكتاب الكريم وعلى السنة وهي قول
المعصوم وفعله وتقريره.
الثاني: الدليل العقلي، ونعني به القضايا التي يدركها العقل ويمكن أن
يستنبط منها حكم شرعي، كالقضية العقلية القائلة بان إيجاب شئ يستلزم
إيجاب مقدمته.
والقسم الأول بدوره إلى نوعين:
أحدهما: الدليل الشرعي اللفظي وهو كلام الشارع كتابا وسنة.
والآخر الدليل الشرعي غير اللفظي كفعل المعصوم وتقريره أي سكوته
عن فعل غيره بنحو يدل على قبوله.
62

وفي القسم الأول بكلا نوعيه نحتاج إلى أن نعرف:
أولا: دلالة الدليل الشرعي وأنه على ماذا يدل بظهوره العرفي.
والثاني: حجية تلك الدلالة وذلك الظهور ووجوب التعويل عليه.
وثالثا: صدور الدليل من الشارع حقا.
ومن هنا كان البحث في القسم الأول موزعا إلى ثلاثة أبحاث وفقا لهذا
التفصيل، فالبحث الأول في تحديد الدلالة. والبحث الثاني في إثبات حجية ما
له من دلالة وظهور. والبحث الثلث في إثبات صدور الدليل من الشارع.
63

1 - الدليل الشرعي
أ - الدليل الشرعي اللفظي
الدلالة
تمهيد
لما كانت دلالة الدليل اللفظي ترتبط بالنظام اللغوي العام للدلالة نجد من
الراجح أن نمهد للبحث في دلالات الأدلة اللفظية بدراسة إجمالية لطبيعة
الدلالة اللغوية وكيفية تكونها ونظرة عامة فيها.
ما هو الوضع والعلاقة اللغوية
في كل لغة تقوم علاقات بين مجموعة من الألفاظ ومجموعة من المعاني،
ويرتبط كل لفظ بمعنى خاص ارتباطا يجعلنا كلما تصورنا اللفظ انتقل ذهننا
فورا إلى تصور المعنى وهذا الاقتران بين تصور اللفظ وتصور المعنى وانتقال
الذهن من أحدهما إلى الآخر هو ما نطلق عليه اسم " الدلالة " فحين نقول:
" كلمة الماء تدل على السائل الخاص " نريد بذلك أن تصور كلمة الماء يؤدي
إلى تصور ذلك السائل الخاص، ويسمى اللفظ " دالا " والمعنى " مدلولا "
وعلى هذا الأساس نعرف أن العلاقة بين تصور اللفظ وتصور المعنى تشابه إلى
درجة ما العلاقة التي نشاهدها في حياتنا الاعتيادية بين النار والحرارة أو بين
طلوع الشمس والضوء، فكما أن النار تؤدي إلى الحرارة وطلوع الشمس يؤدي
إلى الضوء، كذلك تصور اللفظ يؤدي إلى تصور المعنى ولأجل هذا يمكن
القول بأن تصور اللفظ سبب لتصور المعنى كما تكون النار سببا للحرارة
64

وطلوع الشمس سببا للضوء، غير أن علاقة السببية بين تصور اللفظ وتصور
والسؤال الأساسي بشأن هذه العلاقة التي توجد في اللغة بين اللفظ والمعنى
هو السؤال عن مصدر هذه العلاقة وكيفية تكونها، فكيف تكونت علاقة
السببية بين اللفظ والمعنى؟ وكيف أصبح تصور اللفظ سببا لتصور المعنى مع
أن اللفظ والمعنى شيئان مختلفان كل الاختلاف؟ ويذكر في علم الأصول عادة
إتجاهان في الجواب على هذ السؤال الأساسي، يقوم الاتجاه الأول على أساس
الاعتقاد بأن علاقة اللفظ بالمعنى نابعة من طبيعة اللفظ ذاته كما نبعث
علاقة النار بالحرارة من طبيعة النار ذاتها، فلفظ " الماء " مثلا له بحكم
طبيعته علاقة بالمعنى الخاص الذي نفهمه منه، ولأجل هذا يؤكد هذا الاتجاه
أن دلالة اللفظ على المعنى ذاتية وليست مكتسبة من أي سبب خارجي.
ويعجز هذا الاتجاه عن تفسير الموقف تفسيرا شاملا، لان دلالة
اللفظ على المعنى وعلاقته به إذا كانت ذاتية وغير نابعة من أي سبب خارجي
وكان اللفظ بطبيعته يدفع الذهن البشري إلى تصور معناه فلماذا يعجز غير
العربي عن الانتقال إلى تصور معنى كلمة " الماء " عند تصوره للكلمة؟ ولماذا
يحتاج إلى تعلم اللغة العربية لكي ينتقل ذهنه إلى المعنى عند سماع الكلمة
العربية وتصورها؟ إن هذا دليل على أن العلاقة التي تقوم في ذهننا بين تصور
اللفظ وتصور المعنى ليست نابعة من طبيعة اللفظ بل من سبب آخر يتطلب
الحصول عليه إلى تعلم اللغة، فالدلالة إذن ليست ذاتية.
وأما الاتجاه الآخر فينكر بحق الدلالة الذاتية، ويفترض أن العلاقات
اللغوية بين اللفظ والمعنى نشأت في كل لغة على يد الشخص الأول أو
الاشخاص الأوائل الذين استحدثوا تلك اللغة وتكلموا بها، فإن هؤلاء
خصصوا ألفاظا معينة لمعان خاصة، فاكتسبت الألفاظ نتيجة لذلك
التخصيص علاقة بتلك المعاني وأصبح كل لفظ يدل على معناه الخاص،
65

وذلك التخصيص الذي مارسه أولئك الأوائل ونتجت عنه الدلالة يسمى
ب‍ (الوضع)، ويسمى الممارس له (واضعا)، واللفظ (موضوعا)، والمعنى
(موضوعا له).
والحقيقة أن هذا الاتجاه وإن كان على حق في إنكاره للدلالة الذاتية
ولكنه لم يتقدم إلا خطوة قصيرة في حل المشكلة الأساسية التي لا تزال قائمة
حتى بعد الفرضية التي يفترضها أصحاب هذا الاتجاه فنحن إذا افترضنا معهم
أن علاقة السببية نشأت نتيجة لعمل قام به مؤسسو اللغة إذ خصصوا كل
لفظ لمعنى خاص فلنا أن نتسأل منا هو نوع هذا العمل الذي قام به هؤلاء
المؤسسون؟ وسوف نجد أن المشكلة لا تزال قائمة لان اللفظ والمعنى ما دام لا
يوجد بينهما علاقة ذاتية ولا أي إرتباط مسبق فكيف استطاع مؤسس اللغة
أن يوجد علاقة السببية بين شيئين لا علاقة بينهما؟ وهل يكفي مجرد تخصيص
المؤسس للفظ وتعيينه له سببا لتصور المعنى لكي يصبح سببا لتصور المعنى
حقيقة؟ وكلنا نعلم أن المؤسس وأي شخص آخر يعجز أن يعجل من حمرة
الحبر الذي يكتب به سببا لحرارة الماء، ولو كرر المحاولة مائة مرة قائلا
خصصت حمرة الحبر الذي أكتب به لكي تكون سببا لحرارة الماء، فكيف
استطاع أن ينجح في جعل اللفظ سببا لتصور المعنى بمجرد تخصيصه لذلك
دون أي علاقة سابقة بين اللفظ والمعنى؟. وهكذا نواجه المشكلة كما كنا
نواجهها، فليس يكفي لحلها أن نفسر علاقة اللفظ بالمعنى على أساس عملية
يقوم بها مؤسس اللغة، بل يجب أن نفهم محتوى هذه العملية لكي نعرف
كيف قامت علاقة السببية بين شيئين لم تكن بينهما علاقة.
والصحيح في حل المشكلة أن علاقة السببية التي تقوم في اللغة بين اللفظ
والمعنى توجد وفقا لقانون عام من قوانين الذهن البشري.
والقانون العام هو أن كل شيئين إذا اقترن تصور أحدهما مع تصور
66

الآخر في ذهن الانسان مرارا عديدة ولو على سبيل الصدفة قامت بينهما
علاقة وأصبح أحد التصورين سببا لانتقال الذهن إلى تصور الآخر.
ومثال ذلك في حياتنا الاعتيادية أن نعيش مع صديقين لا يفترقان في
مختلف شؤون حياتهما نجدهما دائما معا، فإذا رأينا بعد ذلك أحد هذين
الصديقين منفردا أو سمعنا باسمه أسرع ذهننا إلى تصور الصديق الآخر،
لان رؤيتهما معا مرارا كثيرا أوجد علاقة في تصورنا وهذه العلاقة تجعل
تصورنا لأحدهما سببا لتصور الآخر.
وقد يكفي أن تقترن فكرة أحد الشيئين بفكرة الآخر مرة واحدة لكي
تقوم بينهما علاقة، وذلك إذا أقرنت الفكرتان في ظرف مؤثر، ومثاله إذا
سافر شخص إلى بلد ومني هناك بالملاريا الشديدة ثم شفي منها ورجع فقد
ينتج ذلك الاقتران بين الملاريا والسفر إلى ذلك البلد علاقة بينهما، فمتى
تصور ذلك البلد انتقل ذهنه إلى تصور الملاريا. وإذا درسنا على هذا
الأساس علاقة السببية بين اللفظ والمعنى زالت المشكلة، إذا نستطيع أن نفسر
هذه العلاقة بوصفها نتيجة لاقتران تصور المعنى بتصور اللفظ بصورة متكررة
أو في ظرف مؤثر، الامر الذي أدى إلى قيام علاقة بينهما كما وقع في
الحالات المشار إليها.
ويبقى علينا بعد هذا أن نتسأل: كيف اقترن تصور اللفظ بمعنى خاص
مرارا كثيرة أو في ظرف مؤثر فأنتج قيام العلاقة اللغوية بينهما؟.
والجواب على هذا السؤال: أن بعض الألفاظ اقترنت بمعان معينة مرارا
عديدة بصورة تلقائية فنشأت بينهما العلاقة اللغوية. وقد يكون من هذا القبيل
كلمة (آه) إذا كانت تخرج من فم الانسان بطبيعته كلما أحس بالألم،
فارتبطت كلمة (آه) في ذهنه بفكرة الالم، فأصبح كلما سمع كلمة (آه)
انتقل ذهنه إلى فكرة الالم.
67

ومن المحتمل أن الانسان قبل أن توجد لديه أي لغة قد استرعى انتباهه
هذه العلاقات التي قامت بين الألفاظ من قبيل (آه) ومعانيها نتيجة لاقتران
تلقائي بينهما، وأخذ ينشئ على منوالها علاقات جديدة بين الألفاظ والمعاني.
وبعض الألفاظ قرنت بالمعنى في عملية واعية مقصودة لكي تقوم بينهما علاقة
سببية. وأحسن نموذج لذلك الاعلام الشخصية فأنت حين تريد أن تسمي
ابنك عليا تقرن اسم على بالوليد الجديد لكي تنشئ بينها علاقة لغوية ويصبح
اسم علي دالا على وليدك. ويسمى عملك هذا " وضعا " فالوضع هو عملية
تقرن بها لفظا بمعنى نتيجتها أن يقفز الذهن إلى المعنى عند تصور اللفظ
دائما.
ونستطيع أن نشبه الوضع على هذا الأساس بما تصنعه حين تسأل عن
طبيب العيون فيقال لك: هو (جابر) فتريد أن تركز اسمه في ذاكرتك
وتجعل نفسك تستحضره متى أردت فتحاول أن تقرن بينه وبين شئ قريب
من ذهنك فتقول مثلا: أنا بالأمس قرأت كتابا أخذ من نفسي مأخذا كبيرا
اسم مؤلفه جابر فلا تذكر دائما أن اسم طبيب العيون هو اسم صاحب ذلك
الكتاب. وهكذا توجد عن هذا الطريق ارتباطا خاصا بين صاحب الكتاب
والطبيب جابر، وبعد ذلك تصبح قادرا على استذكار اسم الطبيب متى
تصورت ذلك الكتاب.
وهذه الطريقة في إيجاد الارتباط لا تختلف جوهريا عن إتخاذ الوضع
كوسيلة لايجاد العلاقة اللغوية.
وعلى هذا الأساس نعرف أن من نتائج الوضع انسباق المعنى الموضوع له
وتبادره إلى الذهن بمجرد سماع اللفظ بسبب تلك العلاقة التي يحققها الوضع
ومن هنا يمكن الاستدلال على الوضع بالتبادر وجعله علامة على أن المعنى
المتبادر هو المعنى الموضوع له لان المعلول يكشف عن العلة كشفا إنيا ولهذا
68

عد التبادر من علامات الحقيقة.
ما هو الاستعمال؟
بعد أن يوضع اللفظ لمعنى يصبح تصور اللفظ سببا لتصور المعنى، ويأتي
عندئذ دور الاستفادة من هذه العلاقة اللغوية التي قامت بينهما فإذا كنت
تريد أن تعبر عن ذلك لشخص آخر وتجعله يتصوره في ذهنه فبإمكانك أن
تنطق بذلك اللفظ الذي أصبح سببا لتصور المعنى، ويحن يسمعه صاحبك
ينتقل ذهنه إلى معناه بحكم علاقة السببية بينهما ويسمى استخدامك اللفظ
بقصد اخطار معناه في ذهن السامع (استعمالا). فاستعمال اللفظ في معناه يعني
إيجاد الشخص لفظا لكن يعد ذهن غيره للانتقال إلى معناه، ويسمى اللفظ
(مستعملا) والمعنى (مستعملا فيه) وإرادة المستعمل اخطار المعنى في
ذهن السامع عن طريق اللفظ (إرادة استعمالية).
ويحتاج كل استعمال إلى تصور المستعمل للفظ وللمعنى غير أن تصوره
للفظ يكون عادة على نحو اللحاظ الآلي المرآتي وتصوره للمعنى على نحو
اللحاظ الاستقلالي فهما كالمرآة والصورة، فكما تلحظ المرآة وأنت غافل عنها
وكل نظرك إلى الصورة كذلك تلحظ اللفظ بنفس الطريقة بما هو مرآة
للمعنى وأنت غافل عنه وكل نظرك إلى المعنى.
فإن قلت كيف ألحظ اللفظ وأنا غافل عنه هل هذا الا تناقض؟
أجابوك بأن لحاظ اللفظ المرآتي إفناء للفظ في المعنى أي أنك تلحظه
مندكا في المعنى وبنفس لحاظ المعنى وهذا النحو من لحاظ شئ فانيا في شئ
آخر يجتمع مع الغفلة عنه.
وعلى هذا الأساس ذهب جماعة كصاحب الكفاية رحمه الله إلى استحالة
استعمال اللفظ في معنيين وذلك لان هذا يتطلب إفناء اللفظ في هذا المعنى
69

وفي ذاك ولا يعقل إفناء الشئ الواحد مرتين في عرض واحد.
فإن قلت بإمكاني أن أوحد بين المعنيين بأن أكون منهما مركبا مشتملا
عليهما معا وافني اللفظ لحاظ في ذلك المركب، كان الجواب أن هذا ممكن
ولكنه استعمال للفظ في معنى واحد لا في معنيين.
الحقيقة والمجاز
ويقسم الاستعمال إلى حقيقي ومجازي، فالاستعمال الحقيقي هو استعمال
اللفظ في المعنى الموضوع له الذي قامت بينه وبين اللفظ علاقة لغوية بسبب
الوضع، ولهذا يطلق على المعنى الموضوع له اسم " المعنى الحقيقي ".
والاستعمال المجازي هو استعمال اللفظ في معنى آخر لم يوضع له ولكنه
يشابه ببعض الاعتبارات المعنى الذي وضع اللفظ له، ومثاله أن تستعمل كلمة
" البحر " في العالم العزير علمه لأنه يشابه البحر من الماء في الغزارة والسعة،
ويطلق على المعنى المشابه للمعنى الموضوع له اسم " المعني المجازي " وتعتبر
علاقة اللفظ بالمعنى المجازى علاقة ثانوية ناتجة عن علاقاته اللغوية الأولية
بالمعنى الموضوع له، لأنها تنبع عن الشبه القائم بين المعنى الموضوع له والمعنى
المجازي.
والاستعمال الحقيقي يؤدي غرضه، وهو انتقال ذهن السامع إلى تصور
المعنى بدون أي شرط، لان علاقة السببية القائمة في اللغة بين اللفظ والمعنى
الموضوع له كفيلة بتحقيق هذا الغرض.
وأما الاستعمال المجازي فهو لا ينقل ذهن السامع إلى المعنى، إذ لا توجد
علاقة لغوية وسببية بين لفظ البحر والعالم، فيحتاج المستعمل لكي يتحقق
غرضه في الاستعمال المجازي إلى قرينة تشرح مقصوده فإذا قال مثلا: " بحر
في العلم " كانت كلمة " في العلم " قرينة على المعنى المجازي، ولهذا يقال عادة
70

أن الاستعمال المجازي يحتاج إلى قرينة دون الاستعمال الحقيقي.
ونميز المعنى الحقيقي عن المعنى المجازي بالتبادر من حاق اللفظ لان
التبادر كذلك يكشف عن الوضع كما تقدم.
قد ينقلب المجاز حقيقة
وقد لاحظ الأصوليون بحق أن الاستعمال المجازي - وإن كان يحتاج إلى
قرينة في بداية الامر - ولكن إذا كثر استعمال اللفظ في المعنى المجازي بقرينة
وتكرر ذلك بكثرة قامت بين اللفظ والمعنى المجازي علاقة جديدة،
وأصبح اللفظ نتيجة لذلك موضوعا لذلك المعنى وخرج عن المجاز إلى
الحقيقة ولا تبقى بعد ذلك حاجة إلى قرينة وتسمى هذه الحالة بالوضع
التعييني بينما تسمى عملية الوضع المتصور من الواضع بالوضع التعييني. وهذه
الظاهرة يمكننا تفسيرها بسهولة على ضوء طريقتنا في شرح حقيقة الوضع
والعلاقة اللغوية لأننا عرفنا أن العلاقة اللغوية تنشأ في شرح حقيقة الوضع
والعلاقة اللغوية لأننا عرفنا أن العلاقة اللغوية تنشأ من اقتران اللفظ بالمعنى
مرارا عديدة أو في ظرف مؤثر، فإذا استعمل اللفظ في معنى مجازي مرارا
كثيرة اقترن تصور اللفظ الاقتران بتصور ذلك المعنى المجازي في ذهن
السامع اقترانا متكررا، وأدى هذا الاقتران المتكرر إلى قيام العلاقة اللغوية
بينهما.
تصنيف اللغة إلى معان إسمية وحرفية
تنقسم كلمات اللغة كما قرأتم في النحو إلى اسم وفعل وحرف.
فالأسماء تدل على معان نفهمها من تلك الأسماء سواء سمعنا الاسم مجردا
أو في ضمن كلام.
وأما الحرف لا يتحصل له معنى إلا إذا سمعناه ضمن كلام. ومدلول
71

الحرف دائما هو الربط بين المعاني الاسمية على إختلاف أنحائه ففي قولنا
(النار في الموقد تشتعل) تدل (في) على ربط مخصوص بين مفهومين اسميين
وهما النار والموقد. والدليل على أن مفاد الحروف هو الربط امران:
أحدهما أن معنى الحرف لا يظهر إذا فصل الحرف عن الكلام وليس
ذلك إلا لان مدلوله هو الربط بين معنيين فحيث لا توجد معان أخرى في
الكلام لا مجال لافتراض الربط.
والآخر أن الكلام لا شك في أن مدلوله مترابط الاجراء ولا شك في أن
هذا المدلول المترابط يشتمل على ربط ومعان مرتبطة ولا يمكن أن يحصل هذا
الربط ما لم يكن هناك دال عليه وإلا أتت المعاني إلى الذهن وهي متناثرة غير
مترابطة وليس الاسم هو الدال على هذا الربط وإلا لما فهمنا معناه إلا ضمن
الكلام لان الربط لا يفهم إلا في إطار المعاني المترابطة فيتعين أن يكون الدال
على الربط هو الحرف. وتختلف الحروف باختلاف أنحاء الربط التي تدل عليها
ولما كان كل ربط يعني نسبة بين طرفين صح أن يقال إن المعاني الحرفية معان
ربطية نسبية وإن المعاني الاسمية معان استقلالية وكل ما يدل على معنى
ربطي نسبي نعبر عنه أصوليا بالحرف وكل ما يدل على معنى استقلالي نعبر
عنه أصوليا بالاسم.
واما الفعل فهو مكون من مادة وهيئة ونريد بالمادة الأصل الذي إشتق
الفعل منه ونريد بالهيئة الصيغة الخاصة التي صيغت بها المادة.
أما المادة في الفعل فهي لا تختلف عن أي اسم من الأسماء فكلمه (تشتعل)
مادتها الاشتعال وهذا له مدلول اسمي ولكن الفعل لا يساوي مدلول مادته
بل يزيد عليها بدليل عدم جواز وضع كلمة اشتعال موضع كلمة (تشتعل)
وهذا يكشف عن أن الفعل يزيده بمدلوله على مدلول المادة وهذه الزيادة تنشأ
من الهيئة وبذلك نعرف أن هيئة الفعل موضوعة لمعنى وهذا المعنى ليس معنى
72

اسميا استقلاليا بدليل أنه لو كان كذلك لأمكن التعويض عن الفعل بالاسم
الدال على ذلك المعنى والاسم الدال على المدلول مادته مع أنا نلاحظ أن الفعل
لا يمكن التعويض عنه في سياق الكلام بمجموع اسمين وبذلك يثبت أن
مدلول الهيئة معنى نسبي ربطي ولهذا استحال التعويض المذكور وهذا الربط
الذي تدل عليه هيئة الفعل ربط قائم بين مدلول المادة ومدلول آخر في الكلام
كالفاعل في قولنا تشتعل النار فإن هيئة الفعل مفادها الربط بين الاشتغال
والنار.
ونستخلص من ذلك أن الفعل مركب من اسم وحرف فمادته اسم وهيئته
حرف ومن هنا صح القول بأن اللغة تنقسم إلى قسمين: الأسماء والحروف.
هيئة الجملة
عرفنا أن الفعل له هيئة تدل على معنى حرفي - أي على الربط - وكذلك
الحال في الجملة أيضا، ونريد بالجملة كل كلمتين أو أكثر بينهما ترابط ففي
قولنا: (علي إمام) نفهم من كلمة (" علي " معناه الاسمي، ومن كلمة
" الامام " معناها الاسمي، ونفهم إضافة إلى ذلك ارتباطا خاصا بين هذين
المعنيين الاسميين، وهذا الارتباط الخاص لا تدل عليه كلمة " علي " بمفردها
ولا كلمة " إمام " بمفردها، وإنما تدل عليه الجملة بتركيبها الخاص، وهذا
يعني أن هيئة الجملة تدل على نوع من الربط - أي على معنى حرفي -.
نستخلص مما تقدم أن اللغة يمكن تصنيفها من وجهة نظر تحليلية إلى
فئتين: أحداهما فئة المعاني الاسمية وتدخل هذه الفئة الأسماء ومواد الأفعال،
والأخرى فئة المعاني الحرفية - أي الروابط - وتدخل فيها الحروف وهيئات
الأفعال وهيئات الجمل.
73

الجملة التامة والجملة الناقصة
وإذا لاحظنا الجمل وجدنا أن بعض الجمل تدل على معنى مكتمل يمكن
للمتكلم الاخبار عنه ويمكن للسامع تصديقه أو تكذيبه وبعض الجمل ناقصة لا
يتأتى فيها ذلك وكأنها في قوة الكلمة الواحدة فحينما تقول (المفيد العالم)
نبقى ننتظر كما لو قلت (المفيد) وسكت على ذلك بخلاف ما إذا قلت المفيد
عالم فإن الجملة حينئذ مكتملة وتامة.
ومرد الفرق بين الجملة التامة والجملة الناقصة إلى نوع الربط الذي تدل
عليه هيئة الجملة وسنخ النسبة فهيئة الجملة الناقصة تدل على نسبة اندماجية
أي يندمج فيها الوصف بالموصوف على نحو يصبح المجموع مفهوما واحدا
خاصا وحصة خاصة ومن أجل ذلك تكون الجملة الناقصة في قوة الكلمة
المفردة وأما الجملة التامة فهي تدل على نسبة غير اندماجية يبقى فيها الطرفان
متميزين أحدهما عن الآخر ويكون أمام الذهن شيئان بينهما كالمبتدأ والخبر.
وقد تشتمل الجملة الواحدة على نسب اندماجية وغير اندماجية كما في
قولنا المفيد العالم مدرس فإن النسبة بين الوصف والموصوف المبتدأ اندماجية
والنسبة بين المبتدأ والخبر غير اندماجية وتمامية الجملة نشأت من اشتمالها على
النسبة الثانية.
ونحن إذا دققنا في الجملة الناقصة وفي الحروف من قبيل من وإلى نجد انها
جميعا تدل على نسب ناقصة لا يصح السكوت عليها فكما لا يجوز ان تقول
المفيد العالم وتسكت، كذلك لا يجوز ان تقول السير من البصرة وتسكت
وهذا يعني ان مفردات الحروف وهيئات الجمل الناقصة كلها تدل على نسب
اندماجية خلافا لهيئة الجملة التامة فان مدلولها نسبة غير اندماجية سواء كانت
جملة فعلية أو اسمية.
74

المدلول اللغوي والمدلول التصديقي
قلنا سابقا: إن دلالة اللفظ على المعنى هي أن يؤدي تصور اللفظ إلى
تصور المعنى، ويسمى اللفظ " دالا " والمعنى الذي نتصوره عند سماع اللفظ
" مدلولا ".
وهذه الدلالة لغوية، ونقصد بذلك أنها تنشأ عن طريق وضع اللفظ
للمعنى، لان الوضع يوجد علاقة السببية بين تصور اللفظ وتصور المعنى،
وعلى أساس هذه العلاقة تنشأ تلك الدلالة اللغوية ومدلولها هو المعنى اللغوي
للفظ.
ولا تنفك هذه الدلالة عن اللفظ مهما سمعناه ومن أي مصدر كان،
فجملة " الحق منتصر " إذا سمعناها انتقل ذهننا فورا إلى مدلولها اللغوي
سواء سمعناها من متحدث واع أو من نائم في حالة عدم وعيه، وحتى لو
سمعناها نتيجة لاحتكاك حجرين، فنتصور معنى كلمة " الحق " ونتصور
معنى كلمة " منتصر "، ونتصور النسبة التامة التي وضعت هيئة الجملة لها،
وتسمى هذه الدلالة لاجل ذلك " دلالة تصورية ".
ولكنا إذا قارنا بين تلك الحالات وجدنا أن الجملة حين تصدر من النائم
أو تتولد نتيجة لاحتكاك بين حجرين لا يوجد لها إلا مدلولها اللغوي ذاك،
ويقتصر مفعولها على إيجاد تصورات للحق والانتصار والنسبة التامة في ذهننا،
وأما حين نسمع الجملة من متحدث واع فلا تقف الدلالة عند مستوى
التصور بل تتعداه إلى مستوى التصديق، إذ تكشف الجملة عندئذ عن أشياء
نفسية في نفس المتكلم فنحن نستدل عن طريق صدور الجملة منه على وجود
إرادة استعمالية في نفسه، أي إنه يريد أن يخطر المعنى اللغوي لكلمة " الحق "
وكلمة " المنتصر " وهيئة الجملة في أذهاننا وأن نتصور هذه المعاني، كما
نعرف أيضا أن المتكلم إنما يريد منا أن نتصور تلك المعاني لا لكي يخلق
75

تصورات مجردة في ذهننا فحسب بل لغرض في نفسه، وهذا الغرض الأساسي
هو في المثال المتقدم - أي في جملة " الحق منتصر " - الاخبار عن ثبوت الخبر
للمبتدأ، فإن المتكلم إنما يريد منا أن نتصور معاني الجملة لاجل أن يخبرنا عن
ثبوتها في الواقع، ويطلق على الغرض الأساسي في نفس المتكلم اسم " الإرادة
الجدية " وتسمى الدلالة على هذين الامرين - الإرادة الاستعمالية والإرادة
الجدية - " دلالة تصديقية "، لأنها دلالة تكشف عن إرادة المتكلم وتدعو إلى
تصديقنا بها لا إلى مجرد التصور الساذج.
وهكذا نعرف أن الجملة التامة لها إضافة إلى مدلولها التصوري اللغوي
مدلولان تصديقيان:
أحدهما: الإرادة الاستعمالية، إذ نعرف عن طريق صدور الجملة من
المتكلم أنه يريد منا أن نتصور معاني كلماتها. والآخر الإرادة الجدية، وهي
الغرض الأساسي الذي من أجله أراد المتكلم أن نتصور تلك المعاني.
وأحيانا تتجرد الجملة عن المدلول التصديقي الثاني، وذلك إذا صدرت
من المتكلم في حالة الهزل لا في حالة الجد، وإذا لم يكن يستهدف منها إلا
مجرد إيجاد تصورات في ذهن السامع لمعاني كلماتها. فلا توجد في هذه الحالة
إرادة جدية بل إرادة استعمالية فقط.
والدلالة التصديقية ليست لغوية، أي انها لا تعبر عن علاقة ناشئة عن
الوضع بين اللفظ والمدلول التصديقي، لان الوضع انما يوجد علاقة بين تصور
اللفظ وتصور المعنى لا بين اللفظ والمدلول التصديقي، وانما تنشأ الدلالة
التصديقية من حال المتكلم، فان الانسان إذا كان في حالة وعي وانتباه وجدية
وقال: " الحق منتصر " يدل حاله على أنه لم يقل هذه الجملة ساهيا ولا هازلا
وانما قالها بإرادة معينة واعية.
76

وهكذا نعرف أنا حين نسمع جملة كجملة " الحق منتصر " نتصور المعاني
اللغوية للمبتدأ والخبر بسبب الوضع الذي أوجد علاقة السببية بين تصور
اللفظ وتصور المعنى، ونكشف الإرادة الواعية للمتكلم بسبب حال المتكلم،
وتصورنا ذلك يمثل الدلالة التصورية واكتشافنا هذا يمثل الدلالة التصديقية
والمعنى الذي نتصوره هو المدلول التصوري واللغوي للفظ والإرادة التي
نكتشفها في نفس المتكلم هي المدلول التصديقي والنفسي الذي يدل عليه حال
المتكلم.
وعلى هذا الأساس نكتشف مصدرين للدلالة:
أحدهما اللغة بما تشتمل عليها من أوضاع، وهي مصدر الدلالة التصورية.
والآخر حال المتكلم، وهو مصدر الدلالة التصديقية، أي دلالة اللفظ على
مدلوله النفسي التصديقي، فإن اللفظ إنما يكشف عن إرادة المتكلم إذا صدر
في حال يقظة وانتباه وجدية، فهذه الحالة هي مصدر الدلالة التصديقية ولهذا
نجد أن اللفظ إذا صدر من المتكلم في حالة نوم أو ذهول لا توجد له دلالة
تصديقية ومدلول نفسي.
الجملة الخبرية والجملة الانشائية
تقسم الجملة عادة إلى خبرية وإنشائية، ونحن في حياتنا الاعتيادية نحس
بالفرق بينهما، فأنت حين تتحدث عن بيعك للكتاب بالأمس وتقول: " بعت
الكتاب بدينار " ترى أن الجملة تختلف بصورة أساسية عنها حين تريد أن
تعقد الصفقة مع المشتري فعلا فتقول له: " بعتك الكتاب بدينار ".
وبالرغم من أن الجملة في كلتا الحالتين تدل على نسبة تامة بين البيع والبائع
- أي بينك وبين البيع -، يختلف فهمنا للجملة وتصورنا للنسبة في الحالة
الأولى عن فهمنا للجملة وتصورنا للنسبة في الحالة الثانية، فالمتكلم حين يقول
77

في الحالة الأولى: " بعت الكتاب بدينار " يتصور النسبة بما هي حقيقة واقعة لا
يملك من أمرها فعلا شيئا إلا أن يخبر عنها إذا أراد، وأما حين يقول في
الحالة الثانية " بعتك الكتاب بدينار " فهو يتصور النسبة لا بما هي حقيقة
واقعة مفروغ عنها بل يتصورها بوصفها نسبة يراد تحقيقها.
ونستخلص من ذلك: أن الجملة الخبرية موضوعة للنسبة التامة منظورا
إليها بما هي حقيقة واقعة وشئ مفروغ عنه، والجملة الانشائية موضوعة
للنسبة التامة منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها.
وهناك من يذهب من العلماء كصاحب الكفاية رحمه الله إلى أن النسبة التي
تدل عليها (بعت) في حال الاخبار و (بعت) في حال الانشاء واحدة ولا
يوجد أي فرق في مرحلة المدلول التصوري بين الجملتين وانما الفرق في
مرحلة المدلول التصديقي لان البائع يقصد بالجملة ابراز اعتبار التمليك بها
وانشاء المعارضة عن هذا الطريق وغير البائع يقصد بالجملة الحكاية عن
مضمونها فالمدلول التصديقي مختلف دون المدلول التصوري.
ومن الواضح ان هذا الكلام إذا تعقلناه فإنما يتم في الجملة المشتركة بلفظ
واحد بين الانشاء والاخبار كما في (بعت) ولا يمكن ان ينطبق على ما يختص
به الانشاء والاخبار من جمل فصيغة الامر مثلا جملة انشائية ولا تستعمل
للحكاية عن وقوع الحدث وإنما تدل على طلب وقوعه ولا يمكن القول هنا
بأن المدلول التصوري لا يفعل نفس المدلول التصوري للجملة الخيرية وان
الفرق بينهما في المدلول التصديقي فقط والدليل على عدم امكان هذا القول انا
نحس بالفرق بين الجملتين حتى في حالة تجردهما عن المدلول التصديقي
وسماعهما من لافظ لا شعور له.
78

الدلالات التي يبحث عنها علم الأصول
نستطيع أن نقسم العناصر اللغوية من وجهة نظر أصولية إلى عناصر
مشتركة في عملية الاستنباط وعناصر خاصة في تلك العملية.
فالعناصر المشتركة هي كل أداة لغوية تصلح للدخول في أي دليل مهما
كان نوع الموضوع الذي يعالجه الدليل، ومثاله صيغة فعل الامر، فان
بالامكان استخدامها بالنسبة إلى أي موضوع.
والعناصر الخاصة في عملية الاستنباط هي كل أداة لغوية لا تصلح
للدخول إلا في الدليل الذي يعالج موضوعا معينا، ولا أثر لها في استنباط
حكم موضوع آخر، ككلمة " الاحسان " فإنها لا يمكن أن تدخل في دليل
سوى الدليل الذي يشتمل على حكم مرتبط بالاحسان، ولا علاقة للأدلة التي
تشتمل على حكم الصلاة مثلا بكلمة " الاحسان "، فلهذا كانت كلمة
" الاحسان " عنصرا خاصا في عملية استنباط. وعلى هذا الأساس يدرس
علم الأصول من اللغة القسم الأول من الأدوات اللغوية التي تعتبر عناصر
مشتركة في عملية الاستنباط، فيبحث عن مدلول صيغة فعل الامر وأنها هل
تدل على الوجوب أو الاستحباب؟ ولا يبحث عن مدلول كلمة
" الاحسان ". ويدخل في القسم الأول من الأدوات اللغوية أداة الشرط أيضا،
لأنها تصلح للدخول في استنباط الحكم من أي دليل لفظي مهما كان نوع
الموضوع الذي يتعلق به، فنحن نستنبط من النص القائل: " إذا زالت الشمس وجبت الصلاة "، أن وجوب الصلاة مرتبط بالزوال بدليل أداة الشرط
ونستنبط من النص القائل: " إذا هل هلال شهر رمضان وجب الصوم "، ان
وجوب الصوم مرتبط بالهلال، ولأجل هذا يدرس علم الأصول أداة الشرط
بوصفها عنصرا مشتركا، ويبحث عن نوع الربط الذي تدل عليه ونتائجه في
استنباط الحكم الشرعي.
79

وكذلك الحال في صيغة الجمع المعرف باللام، لأنها أداة لغوية صالحة
للدخول في الدليل اللفظي مهما كان نوع الموضوع الذي يتعلق به.
وفيما يلي نذكر بعض النماذج من هذه الأدوات المشتركة التي يدرسها
الأصوليون:
صيغة الامر
صيغة فعل الامر نحو " إذهب " و " صل " و " صم " و " جاهد " إلى غير
ذلك من الأوامر.
والمقرر بين الأصوليين عادة هو القول بأن هذه الصيغة تدل لغة على
الوجوب.
وهذا القول يدعونا أن نتسأل هل يريد هؤلاء الاعلام من القول بأن
صيغة فعل الامر تدل على الوجوب وأن صيغة فعل الامر تدل على نفسه ما
تدل عليه كلمة الوجوب؟ فيكونان مترادفين وكيف يمكن افتراض ذلك؟ مع
أننا نحس بالوجدان أن كلمة الوجوب وصيغة فعل الامر ليستا مترادفتين،
والا لجاز أن نستبدل إحداهما بالأخرى وما دام هذا الاستبدال غير جائز
فنعرف أن صيغة فعل الامر تدل على معنى يختلف عن المعنى الذي تدل عليه
كلمة الوجوب، ويصبح من الصعب عندئذ فهم القول السائد بين الأصوليين
بأن صيغة فعل الامر تدل على الوجوب.
والحقيقة أن هذا القول يحتاج إلى تحليل مدلول صيغة فعل الامر لكي
نعرف كيف تدل على الوجوب، فنحن حين ندقق في فعل الامر نجد أنه يدل
على نسبة بين مادة الفعل والفاعل منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها
وإرسال المكلف نحو إيجادها. أرأيت الصياد حين يرسل كلب الصيد إلى
فريسته؟ إن تلك الصورة التي يتصورها الصياد عن ذهاب الكلب إلى فريسة
80

وهو يرسله إليها، هي نفس الصورة التي يدل عليها فعل الامر، ولهذا يقال في
علم الأصول إن مدلول صيغة الامر هو النسبة الارسالية.
وكما أن الصياد حين يرسل الكلب إلى فريسته قد يكون إرساله هذا ناتجا
عن شوق شديد إلى الحصول على تلك الفريسة ورغبة أكيدة في ذلك وقد
يكون ناتجا عن رغبة غير أكيدة وشوق غير شديد، كذلك النسبة الارسالية
التي تدل عليها الصيغة في فعل الامر قد نتصورها ناتجة عن شوق شديد
وإلزام أكيد وقد نتصورها ناتجة عن شوق أضعف ورغبة أقل درجة. وعلى
هذا الضوء نستطيع الآن أن نفهم معنى ذلك القول الأصولي القائل: إن
صيغة فعل الامر تدل على الوجوب، فإن معناه أن الصيغة قد وضعت للنسبة
الارسالية بوصفها ناتجة عن شوق شديد وإلزام أكيد، ولهذا يدخل معنى
الالزام والوجوب ضمن الصورة التي نتصور بها المعنى اللغوي للصيغة عند
سماعها دون أن يصبح فعل الامر مرادفا لكلمة الوجوب. وليس معنى دخول
الالزام والوجوب في معنى الصيغة أن صيغة الامر لا يجوز استعمالها في مجال
المستحبات، بل قد استعملت كثيرا في موارد الاستحباب كما استعملت في
موارد الوجوب، ولكن استعمالهما في موارد الوجوب استعمال حقيقي، لأنه
استعمال للصيغة في المعنى الذي وضعت له، واستعمالها في موارد الاستحباب
استعمال مجازي يبرره الشبه القائم بين الاستحباب والوجوب.
والدليل على أن صيغة الامر موضوعة للوجوب بالمعنى الذي قلنا هو
التبادر فإن المنسبق إلى ذهن العرف ذلك بشهادة أن الآمر العرفي إذا أمر
المكلف بصيغة الامر ولم يأت المكلف بالمأمور به معتذرا بأني لم أكن أعرف
أن هذا واجب أو مستحب لا يقبل منه العذر ويلام على تخلفه عن الامتثال
وليس ذلك إلا لانسباق الوجوب عرفا من اللفظ وتبادره والتبادر علامة
الحقيقة.
81

صيغة النهي
صيغة النهي نحو (لا تذهب) والمقرر بين الأصوليين هو القول بأن صيغة
النهي تدل على الحرمة، ويجب أن نفهم هذا القول بصورة مماثلة لفهمنا القول
بأن صيغة الامر تدل على الوجوب مع فارق وهو أن النهي إمساك ومنع
والامر إرسال وطلب فصيغة النهي إذن تدل على نسبه إمساكية.
أي إنا حين نسمع جملة " اذهب " نتصور نسبة بين الذهاب والمخاطب
ونتصور أن المتكلم يرسل المخاطب نحوها ويبعثه إلى تحقيقها كما يرسل الصياد
كلبه نحو الفريسة، وأما حين نسمع جملة " لا تذهب " فنتصور نسبة بين الذهاب
والمخاطب ونتصور أن المتكلم يمسك مخاطبه عن تلك النسبة ويزجره عنها، كما
لو حاول كلب الصيد أن يطارد الفريسة فأمسك به الصياد، ولهذا نطلق عليها
اسم " النسبة الامساكية " وتدخل الحرمة في مدلول النهي بالطريقة التي دخل
بها الوجوب إلى مدلول الامر، ولنرجع بهذا الصدد إلى مثال الصياد، فإنا
نجد أن الصياد حين يمسك كلبه عن تتبع الفريسة قد يكون إمساكه هذا ناتجا
عن كراهة تتبع الكلب للفريسة بدرجة شديدة، وقد ينتج عن كراهة ذلك
بدرجة ضعيفة ونظير هذا تماما نتصور في النسبة الامساكية التي نتحدث
عنها، فإنا قد نتصورها ناتجة عن كراهة شديدة للمنهي عنه، وقد نتصورها
ناتجة عن كراهة ضعيفة.
ومعنى القول بأن صيغة النهي تدل على الحرمة في هذا الضوء أن الصيغة
موضوعة للنسبة الامساكية بوصفها ناتجة عن كراهة شديدة وهي الحرمة،
فتدخل الحرمة ضمن الصورة التي نتصور بها المعنى اللغوي لصيغة النهي عند
سماعها. والدليل على إنها موضوعة كذلك هو التبادر كما تقدم في صيغة
الامر.
وفي نفس الوقت قد نستعمل صيغة النهي في موارد الكراهة، فينهي عن
82

المكروه أيضا بسب الشبه القائم بين الكراهة والحرمة، ويعتبر استعمالها في
موارد المكروهات استعمالا مجازيا.
3 - الاطلاق
وتوضيحه أن الشخص إذ أراد أن يأمر ولده بإكرام جاره المسلم فلا
يكتفي عادة بقوله: " أكرم الجار " بل يقول: " أكرم الجار المسلم "، وأما إذا
كان يريد من ولده أن يكرم جاره مهما كان دينه فيقول: " أكرم الجار "
ويطلق كلمة الجار - أي لا يقيدها بوصف خاص - ويفهم من قوله عندئذ أن
الامر لا يختص بالجار المسلم بل يشمل الجار الكافر أيضا، وهذا الشمول
نفهمه نتيجة لذكر كلمة الجار مجردة عن القيد، ويسمى هذا ب (الاطلاق)
ويسمى اللفظ في هذه الحالة " مطلقا ".
وعلى هذا الأساس يعتبر تجرد الكلمة من القيد اللفظي في الكلام دليلا
على شمول الحكم، ومثال ذلك من النص الشرعي قوله تعالى: " أحل الله
البيع "، فقد جاءت كلمة البيع هنا مجردة عن أي قيد في الكلام، فيدل هذا
الاطلاق على شمول الحكم بالحلية لجميع أنواع البيع. وأما كيف أصبح ذكر
الكلمة بدون قيد في الكلام دليلا على الشمول وما مصدر هذه الدلالة فهذا
ما لا يمكن تفصيل الكلام فيه على مستوى هذه الحلقة.
ولكن نقول على نحو الايجاز أن ظاهر حال المتكلم حينما يكون له مرام في
نفسه يدفعه إلى الكلام أن يكون في مقام بيان تمام ذلك المرام فإن قال أكرم
الجار وكان مرامه الجار المسلم خاصة لم يكتف بما قال بل يردفه عادة بما يدل
على قيد الاسلام وفي كل حالة لا يأتي بما يدل على القيد نعرف أن هذا القيد
غير داخل في مرامه إذ لو كان داخلا في مرامه ومع هذا سكت عنه لكان
ذلك على خلاف ظاهر حاله القاضي بأنه في مقام بيان تمام المراد بالكلام،
83

فبهذا الاستدلال نستكشف الاطلاق من السكوت وعدم ذكر القيد ويعبر عن
ذلك بقرينة الحكمة.
4 - أدوات العموم
أدوات العموم مثالها " كل " في قولنا: " احترم كل عادل " وذلك أن
الآمر حين يريد أن يدلل على شمول حكمه وعمومه قد يكتفي بالاطلاق
وذكر الكلمة بدون قيد كما شرحناه آنفا فيقول: " أكرم الجار " وقد يريد
مزيدا من التأكيد على العموم والشمول فيأتي بأداة خاصة. للدلالة على ذلك
فيقول: في المثال المتقدم مثلا " أكرم كل جار "، فيفهم السامع من ذلك
مزيدا من التأكيد على العموم والشمول، ولهذا تعتبر كلمة " كل " من أدوات
العموم لأنها موضوعة في اللغة لذلك، ويسمى اللفظ الذي دلت الأداة على
عمومه " عاما " ويعبر عنه ب‍ " مدخول الأداة "، لان أداة العموم دخلت
عليه وعممته.
ونستخلص من ذلك أن التدليل على العموم يتم بإحدى طريقتين:
الأولى سلبية وهي الاطلاق، أي ذكر الكلمة بدون قيد.
والثانية إيجابية وهي استعمال أداة للعموم نحو " كل " و " جميع "
و " كافة " وما إليها من ألفاظ.
وقد إختلف الأصوليون في صيغة الجمع المعرف باللام من قبيل
" الفقهاء "، " العقود ":
فقال بعضهم: إن هذه الصيغة نفسها من أدوات العموم أيضا مثل كلمة
" كل " فأي جمع من قبيل " فقهاء " إذا أراد المتكلم إثبات الحكم لجميع أفراده
والتدليل على عمومه بطريقة إيجابية أدخل عليه اللام فيجعله جمعا معرفا
84

باللام ويقول: " احترم الفقهاء " أو " أوفوا بالعقود ".
وبعض الأصوليين يذهب إلى أن صيغة الجمع المعرف باللام ليست من
أدوات العموم، ونحن إنما نفهم الشمول في الحكم عندما نسمع المتكلم يقول
" احترام الفقهاء " مثلا بسبب الاطلاق وتجرد الكلمة عن القيود لا بسبب
دخول اللام على الجمع، أي بطريقة سلبية لا إيجابية، فلا فرق بين أن يقال:
" أكرم الفقهاء " أو " أكرم الفقيه " فكما يستند فهمنا للشمول في الجملة الثانية
إلى الاطلاق كذلك الحال في الجملة الأولى، فالمفرد والجمع المعرفان لا يدلان
على الشمول إلا بالطريقة السلبية.
5 - أداة الشرط
أداة الشرط مثالها " إذا " في قولنا: " إذا زالت الشمس فصل " و " إذا
أجرمت للحج فلا تتطيب "، وتسمى الجملة التي تدخل عليها أداة الشرط
جملة شرطية، وهي تختلف في وظيفتها اللغوية عن غيرها من الجمل التي لا
توجد فيها أداة شرط، فإن سائر الجمل تقوم بربط كلمة بأخرى، نظير ربط
الخبر بالمبتدأ في القضية الحملية.
وأما الجملة الشرطية فهي تربط بين جملتين وهما جملة الشرط وجملة الجزاء
وكل من هاتين الجملتين تتحول بسبب هذا الربط الشرطي من جملة تامة إلى
جملة ناقصة وتكون الجملة التامة هي الجملة الشرطية بكاملها.
وإذا لاحظنا المثالين المتقدمين للجملة الشرطية وجدنا أن الشرط في المثال
الأول زوال الشمس، وفي المثال الثاني هو الاحرام للحج، وأما المشروط فهو
مدلول جملة " صل " و " لا تتطيب ". ولما كان مدلول " صل " بوصفه صيغة
أمر هو الوجوب ومدلول " لا تتطيب " بوصفه صيغة نهي هو الحرمة كما
تقدم، فنعرف أن المشروط هو الوجوب أو الحرمة أي الحكم الشرعي،
85

ومعنى أن الحكم الشرعي مشروط بزوال الشمس أو بالاحرام للحج أنه
مرتبط بالزوال أو الاحرام ومقيد بذلك، والمقيد ينتفي إذا انتفى قيده.
وينتج عن ذلك أن أداة الشرط تدل على انتفاء الحكم الشرعي في حالة
انتفاء الشرط، لان ذلك نتيجة لدلالتها على تقييد الحكم الشرعي وجعله
مشروطا، فيدل قولنا: " إذا زالت الشمس فصل " على عدم وجوب الصلاة
قبل الزوال، ويدل قولنا: " إذا أحرمت للحج فلا تتطيب " على عدم حرمة
الطيب في حالة عدم الاحرام للحج، وبذلك تصبح الجملة ذات مدلولين:
أحدهما إيجابي والآخر سلبي.
فالإيجابي هو ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط ومدلولها السلبي هو انتفاء
الجزاء عند انتفاء الشرط.
ويسمى المدلول الايجابي " منطوقا " للجملة، والمدلول السلبي " مفهوما "
وكل جملة لها مثل هذا المدلول السلبي يقال في العرف الأصولي: إن هذه
الجملة أو القضية ذات مفهوم.
وقد وضع بعض الأصوليين قاعدة عامة لهذا المدلول السلبي في اللغة فقال:
إن كل أداة لغوية تدل على تقييد الحكم وتحديده لها، مدلولها سلبي، إذ تدل
على انتفاء الحكم خارج نطاق الحدود التي تضعها للحكم، وأداة الشرط تعتبر
مصداقا لهذه القاعدة العامة، لأنها تدل على تحديد الحكم بالشرط.
ومن مصاديق القاعدة أيضا أداة الغاية حين تقول مثلا: " صم حتى تغيب
الشمس " فإن " صم " هنا فعل أمر يدل على الوجوب، وقد دلت حتى
بوصفها أداة غاية على وضع حد وغاية لهذا الوجوب الذي تدل عليه صيغة
الامر، ومعنى كونه غاية له، تقييده فيدل عليه انتفاء وجوب الصوم بعد
مغيب الشمس، وهذا هو المدلول السلبي الذي نطلق عليه اسم المفهوم. ويسمى
86

المدلول السلبي الشرطية ب‍ " مفهوم الشرط " كما يسمى المدلول السلبي
لأداة الغاية - من قبيل حتى في المثال المتقدم ب‍ " مفهوم الغاية ". وإما إذا
قيل " أكرم الفقير العادل " فلا يدل القيد هنا على أن غير العادل لا يجيب
إكرامه لان هذا القيد ليس قيدا للحكم بل هو وصف للفقير وقيد له
والفقير هو موضوع الحكم لا نفسه وما دام التقييد لا يعود إلى الحكم مباشرة
فلا دلالة على المفهوم ومن هنا أنه لا مفهوم للوصف ويراد به ما كان من
قبيل كلمة العادل في هذا المثال.
87

1 - الدليل الشرعي
أ - الدليل الشرعي اللفظي
حجية الظهور
إذا واجهنا دليلا شرعيا فليس المهم أن نفسره بالنسبة إلى مدلوله
التصوري اللغوي فحسب، بل أن نفسره بالنسبة إلى مدلوله التصديقي
لنعرف ماذا أراد الشارع به وكثيرا ما نلاحظ أن اللفظ صالح لدلالات لغوية
وعرفية متعددة فكيف نستطيع أن نعين مراد المتكلم منه.
وهنا نستعين بظهورين: أحدهما ظهور اللفظ في مرحلة الدلالة التصورية
في معنى معين، ومعنى الظهور في هذه المرحلة أن هذا المعنى أسرع انسباقا
إلى تصور الانسان عند سماع اللفظ من غيره من المعاني فهو أقرب المعاني إلى
اللفظ لغة. والآخر ظهور حال المتكلم في أن ما يريده مطابق لظهور اللفظ في
مرحلة الدلالة التصويرية أي أنه يريد أقرب المعاني ألى اللفظ لغة وهذا ما
يسمى بظهور التطابق بين مقام الاثبات ومقام الثبوت، ومن المقرر في علم
الأصول أن ظهور حال المتكلم في إرادة أقرب المعاني إلى اللفظ، حجة.
ومعنى حجية الظهور اتخاذه أساسا لتفسير الدليل اللفظي على ضوئه،
فنفترض دائما أن المتكلم قد أراد المعنى الأقرب إلى اللفظ في النظام اللغوي
العام (1) أخذا بظهور حاله. ولأجل ذلك يطلق على حجية الظهور اسم
.

(1) لا نريد باللغة والنظام اللغوي العام هنا اللغة في مقابل العرف، بل النظام القائم بالفعل
لدلالة الألفاظ سواء كان لغويا أوليا أو ثانويا
88

" أصالة الظهور " لأنها تجعل الظهور هو الأصل لتفسير الدليل اللفظي.
وفي ضوء هذا نستطيع أن نعرف لماذا كنا نهتم في البحث السابق بتحديد
المدلول اللغوي الأقرب للكلمة والمعنى الظاهر لها بموجب النظام اللغوي
العام. مع أن المهم عند تفسير الدليل اللفظي هو اكتشاف ماذا أراد المتكلم
باللفظ من معنى؟ لا ما هو المعنى الأقرب إليه في اللغة؟ فإنا ندرك في ضوء
إصالة الظهور أن الصلة وثيقة جدا بين اكتشاف مراد المتكلم وتحديد المدلول
اللغوي الأقرب للكلمة، لان أصالة الظهور تحكم بأن مراد المتكلم من اللفظ
هو نفس المدلول اللغوي الأقرب، أي المعني الظاهر من اللفظ لغة، فلكي
نعرف مراد المتكلم يجب أن نعرف المعنى الأقرب إلى اللفظ لغة لنحكم بأنه
هو المعنى المراد للمتكلم.
والدليل على حجية الظهور يتكون من مقدمتين:
الأولى: إن الصحابة وأصحاب الأئمة كانت سيرتهم قائمة على العمل
بظواهر الكتاب والسنة واتخاذ الظهور أساسا لفهمها كما هو واضح تاريخيا من
عملهم وديدنهم.
الثانية: أن هذه السيرة على مرأى ومسمع من المعصومين عليهم السلام ولم
يعترضوا عليها بشئ وهذا يدل على صحتها شرعا وإلا لردعوا عنها، وبذلك
يثبت إمضاء الشارع للسيرة القائمة على العمل بالظهور وهو معنى حجية
الظهور شرعا.
تطبيقات حجية الظهور على الأدلة اللفظية
ونستعرض فيما يلي ثلاث حالات لتطبيق قاعدة حجية الظهور:
الأولى: أن يكون للفظ في الدليل معنى وحيد في اللغة ولا يصلح للدلالة
على معنى آخر في النظام اللغوي والعرفي العام.
89

والقاعدة العامة تحتم في هذه الحالة أن يحمل اللفظ على معناه الوحيد
ويقال: " إن المتكلم أراد ذلك المعنى "، لان المتكلم يريد باللفظ دائما المعنى
المحدد له في النظام اللغوي العام، ويعتبر الدليل في مثل هذه الحالة صريحا في
معناه ونصا.
الثانية: أن يكون للفظ معان متعددة متكافئة في علاقتها باللفظ بموجب
النظام اللغوي العام من قبيل المشترك، وفي هذه الحالة لا يمكن تعيين المراد
من اللفظ على أساس تلك القاعدة: إذ لا يوجد معنى أقرب إلى اللفظ من
ناحية لغوية لتطبيق القاعدة عليه، ويكون الدليل في هذه الحالة مجملا.
الثالثة: أن يكون للفظ معان متعددة في اللغة وأحدها أقرب إلى اللفظ
لغويا من سائر معانيه، ومثاله كلمة " البحر " التي لها معنى حقيقي قريب وهو
" البحر من الماء " ومعنى مجازي بعيد وهو " البحر من العلم "، فإذا قال
الآمر: " إذهب إلى البحر في كل يوم " وأردنا أن نعرف ماذا أراد المتكلم
بكلمة البحر من هذين المعنيين؟ يجب علينا أن ندرس السياق الذي جاءت
فيه كلمة البحر ونريد ب‍ " السياق " كل ما يكشف اللفظ الذي نريد فهمه من
دوال أخرى، سواء كانت لفظية كالكلمات التي تشكل مع اللفظ الذي نريد
فهمه كلاما متحدا مترابطا، أو حالية كالظروف والملابسات التي تحيط
بالكلام وتكون ذات دلالة في الموضوع.
فإن لم نجد في سائر الكلمات التي وردت في السياق ما يدل على خلاف
المعنى الظاهر من كلمة البحر كان لزاما علينا أن نفسر كلمة البحر على
أساس المعنى اللغوي الأقرب تطبيقا للقاعدة العامة القائلة بحجية الظهور.
وقد نجد في سائر أجزاء الكلام ما لا يتفق مع ظهور كلمة البحر، ومثاله
أن يقول الآمر: " اذهب إلى البحر في كل يوم واستمع إلى حديثه باهتمام ".
فإن الاستماع إلى حديث البحر لا يتفق مع المعنى اللغوي الأقرب إلى كلمة
90

البحر وإنما يناسب العالم الذي يشابه البحر لغزارة علمه - وفي هذه الحالة -
نجد أنفسنا تتساءل ماذا أراد المتكلم بكلمة البحر، هل أراد بها البحر من العلم
بدليل أنه أمرنا بالاستماع إلى حديثه، أو أراد بها البحر من الماء ولم يقصد
بالحديث هنا المعنى الحقيقي بل أراد به الاصغاء إلى صوت أمواج البحر؟
وهكذا نظل مترددين بين كلمة البحر وظهورها اللغوي من ناحية، وكلمة
الحديث وظهورها اللغوي من ناحية أخرى، ومعنى هذا أنا نتردد بين
صورتين: إحديهما صورة الذهاب إلى بحر من الماء المتموج والاستماع إلى
صوت موجه، وهذه الصورة هي التي توحي بها كلمة البحر والاخر صورة
الذهاب إلى عالم غزير العلم والاستماع إلى كلامه، وهذه الصورة هي التي توحي
بها كلمة الحديث.
وفي هذا المجال يجب أن نلاحظ السياق جميعا كلكل ونرى أي هاتين
الصورتين أقرب إليه في النظام اللغوي العام؟ أي إن هذا السياق إذا ألقي
على ذهن شخص يعيش اللغة ونظامها بصورة صحيحة هل سوف تسبق إلى
ذهنه الصورة الأولى أو الصورة الثانية؟ فإن عرفنا أن إحدى الصورتين أقرب
إلى السياق بموجب النظام اللغوي العام - ولنفرضها الصورة الثانية - تكون
للسياق - ككل - ظهور في الصورة الثانية ووجب أن نفسر الكلام على أساس
تلك الصورة الظاهرة.
ويطلق على كلمة الحديث في هذا المثال اسم " القرينة " لأنها هي التي
دلت على الصورة الكاملة للسياق وأبطلت مفعول كلمة البحر وظهورها.
وأما إذا كانت الصورتان متكافئتين في علاقتهما بالسياق فهذا يعني أن
الكلام أصبح مجملا ولا ظهور له، فلا يبقى مجال لتطبيق القاعدة العامة.
91

القرينة المتصلة والمنفصلة
عرفنا أن كلمة " الحديث " في المثال السابق قد تكون قرينة في ذلك
السياق، وتسمى " قرينة متصلة " لأنها متصلة بكلمة البحر التي أبطلت مفعولها
وداخلة معها في سياق واحد، والكلمة التي يبطل مفعولها بسبب القرينة تسمى
ب‍ " ذي القرينة ".
ومن أمثلة القرينة المتصلة الاستثناء من العام، كما إذا قال الآمر: " أكرم
كل فقير إلا الفساق "، فإن كلمة " كل " ظاهرة في العموم لغة، وكلمة
" الفساق " تتنافى مع العموم، وحين ندرس السياق ككل نرى أن الصورة
التي تقتضيها هذه الكلمة أقرب إليه من صورة العموم التي تقتضيها كلمة
" كل "، بل لا مجال للموازنة بينهما، وبهذا تعتبر أداة الاستثناء قرينة على
المعنى العام للسياق.
فالقرينة المتصلة هي كل ما يتصل بكلمة، فيبطل ظهورها ويوجه المعنى
العام للسياق الوجهة التي تنسجم معه.
وقد يتفق أن القرينة بهذا المعنى لا تجئ متصلة بالكلام بل منفصلة عنه
فتسمى " قرينة منفصلة ".
ومثاله أن يقول الآمر: " أكرم كل فقير " ثم يقول في حديث آخر بعد
ساعة: " لا تكرم فساق الفقراء "، فهذا النهي لو كان متصلا بالكلام الأول
لاعتبر قرينة متصلة ولكنه انفصل عنه في هذا المثال.
وفي هذا الضوء نفهم معنى القاعدة الأصولية القائلة: إن ظهور القرينة
مقدم على ظهور ذي القرينة سواء كانت القرينة متصلة أو منفصلة.
92

1 - الدليل الشرعي
أ - الدليل الشرعي اللفظي
إثبات الصدور
لكي نعمل بكلام بوصفه دليلا شرعيا لا بد من إثبات صدوره من
المعصوم وذلك بأحد الطرق التالية:
(الأول) التواتر وذلك بأن ينقله عدد كبير من الرواة وكل خبر من هذا
العدد الكبير يشكل احتمالا للقضية وقرينة لاثباتها وبتراكم الاحتمالات والقرائن
يحصل اليقين بصدور الكلام، وحجية التواتر قائمة على أساس إفادته للعلم ولا
تحتاج حجيته إلى جعل وتعبد شرعي.
(الثاني) الاجماع والشهرة وتوضيح ذلك أنا إذا لاحظنا فتوى الفقيه
الواحد بوجوب الخمس في المعادن مثلا. نجد أنها تشكل قرينة إثبات ناقصة
على وجود دليل لفظي مسبق يدل على هذا الوجوب لان فتوى الفقيه تجعلنا
نحتمل تفسيرين لها:
أحدهما أن يكون قد استند في فتواه إلى دليل لفظي مثلا بصورة
صحيحة، والآخر أن يكون مخطئا في فتواه.
وما دمنا نحتمل فيها هذين التفسيرين معا فهي قرينة إثبات ناقص، فإذا
أضفنا إليها فتوى فقيه آخر بوجوب الخمس في المعان أيضا، كبر احتمال
وجود دليل لفظي يدل على الحكم نتيجة لاجتماع قرينتين ناقصتين، وحين
93

ينضم إلى الفقيهين فقيه ثالث نزداد ميلا إلى الاعتقاد بوجود الدليل اللفظي
وهكذا نزداد ميلا إلى الاعتقاد بذلك كلما ازداد عدد الفقهاء بوجوب
الخمس في المعادن، فإذا كان الفقهاء قد اتفقوا جميعا على هذه الفتوى سمي
ذلك " إجماعا "، وإذا يشكلون الأكثرية فقط سمي ذلك " شهرة ".
فالاجماع والشهرة طريقان لاكتشاف وجود الدليل اللفظي في جملة من
الأحيان.
وحكم الاجماع والشهرة من ناحية أصولية أنه متى حصل العلم بالدليل
الشرعي بسبب الاجماع أو الشهرة وجب الاخذ بذلك في عملية الاستنباط،
وأصبح الاجماع والشهرة حجة، وإذا لم يحصل العلم بسبب الاجماع أو الشهرة،
فلا إعتبار بهما، إذ لا يفيدان حينئذ إلا الظن ولا دليل على حجية هذا الظن
شرعا فالأصل عدم حجيته، لان هذا هو الأصل في كل ظن كما تقدم.
(الثالث) سيرة المتشرعة، وهي السلوك العام للمتدينين في عصر
المعصومين من قبيل اتفاقهم على إقامة صلاة الظهر في يوم الجمعة بدلا عن
صلاة الجمعة، أو على عدم دفع الخمس من الميراث.
وهذا السلوك العام إذا حللناه إلى مفرداته، ولاحظنا سلوك كل واحد
بصورة مستقلة، نجد أن سلوك الفرد المتدين الواحد في عصر التشريع، يعتبر
قرينة إثبات ناقصة على صدور بيان شرعي يقرر ذلك السلوك، ونحتمل في
نفس الوقت أيضا الخطأ والغفلة وحتى التسامح.
فإذا عرفنا أن فردين في عصر التشريع كانا يسلكان نفس السلوك
ويصليان الظهر مثلا في يوم الجمعة ازدادت قوة الاثبات. وهكذا تكبر قوة
الاثبات حتى تصل إلى درجة كبيرة، عندما نعرف أن ذلك السلوك كان
سلوكا عاما يتبعه جمهرة المتدينين في عصر التشريع، إذ يبدو من المؤكد
حينئذ أن سلوك هؤلاء جميعا لم ينشأ عن خطأ أو غفلة أو تسامح لان
94

الخطأ، والغفلة أو التسامح قد يقع فيه هذا أو ذاك، وليس من المحتمل أن
يقع في جمهرة المتدينين في عصر التشريع جميعا.
وهكذا نعرف أن السلوك العام مستند إلى بيان شرعي يدل على إمكان
إقامة الظهر في يوم الجمعة، وعدم وجوب الخمس في الميراث. وهي في
الغالب تؤدي إلى الجزم بالبيان الشرعي ضمن شروط لا مجال لتفصيلها الآن.
ومتى كانت كذلك فهي حجة، وأما إذا لم يحصل منها الجزم فلا إعتبار
بها لعدم الدليل على الحجية حينئذ.
وهذه الطرق الثلاث كلها مبينة على تراكم الاحتمالات وتجمع القرائن.
(الرابع) خبر الواحد الثقة ونعبر بخبر الواحد عن كل خبر لا يفيد العلم،
وحكمه أنه إذا كان المخبر ثقة أخذ به وكان حجة وإلا فلا، وهذه الحجية
ثابتة شرعا لا عقلا لأنها لا تقوم على أساس حصول القطع، بل على أساس
أمر الشارع بإتباع خبر الثقة، فقد دلت أدلة شرعية عديدة على ذلك، ويأتي
بيانها في حلقة مقبلة إن شاء الله تعالى.
ومن تلك الأدلة آية النبأ وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن
جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا..) الآية، (1) فإنه يشتمل على جملة شرطية
وهي تدل منطوقا على إناطة وجوب التبين بمجئ الفاسق بالنبأ وتدل مفهوما
على نفي وجوب التبين في حالة مجئ النبأ من قبل غير الفاسق، وليس ذلك
إلا لحجيته فيستفاد من الآية الكريمة حجية خبر العادل الثقة.
ويدل على حجية خبره أيضا أن سيرة المتشرعة والعقلاء عموما على

(1) الحجرات 6.
95

الاتكال عليه، ونستكشف من انعقاد سيرة المتشرعة على ذلك واستقرار عمل
أصحاب الأئمة والرواة عليه أن حجيته متلقاة لهم من قبل الشارع وفقا لما
تقدم من حديث عن سيرة المتشرعة، وكيفية الاستدلال بها.
96

1 - الدليل الشرعي
ب - الدليل الشرعي غير اللفظي
الدليل الشرعي غير اللفظي كل ما يصدر من المعصوم مما له دلالة على
الحكم الشرعي وليس من نوع الكلام.
ويدخل ضمن ذلك فعل المعصوم، فإن أتى المعصوم بفعل دل على
جوازه، وأن تركه، دل على عدم وجوبه، وأن أوقعه بعنوان كونه طاعة لله
تعالى دل على المطلوبية، ويثبت لدينا صدور هذه الانحاء من التصرف عن
المعصوم بنفس الطرق المتقدمة التي يثبت بها صدور الدليل الشرعي اللفظي.
ويدخل ضمن ذلك تقرير المعصوم، وهو السكوت منه عن تصرف
يواجهه، فإنه يدل على الامضاء وإلا لكان على المعصوم أن يردع عنه
فيستكشف من عدم الردع الامضاء والارتضاء.
والتصرف تارة يكون شخصيا في واقعة معينة كما إذا توضأ انسان أمام
الامام فمسح منكوسا وسكت الامام عنه، وأخرى يكون نوعيا كالسيرة
العقلائية، وهي عبارة عن ميل عام عند العقلاء نحو سلوك معين دون أن
يكون للشرع دور إيجابي في تكوين هذا الميل، ومثال ذلك الميل العام لدى
العقلاء نحو الاخذ بظهور كلام المتكلم أو خبر الثقة أو باعتبار الحيازة سببا
لتملك المباحات الأولية، والسيرة العقلائية بهذا المعنى تختلف عن سيرة
المتشرعة التي تقدم أنها إحدى الطرق لكشف صدور الدليل الشرعي، فإن
سيرة المتشرعة بما هم كذلك تكون عادة وليدة البيان الشرعي، ولهذا تعتبر
97

كاشفة عنه كشف المعلول عن العلة. وأما السيرة العقلائية فمردها كما عرفنا
إلى ميل عام يوجد عند العقلاء نحو سلوك معين، لا كنتيجة لبيان شرعي بل
نتيجة العوامل والمؤثرات الأخرى التي تتكيف وفقا، لها، ميول العقلاء
وتصرفاتهم، ولأجل هذا لا يقتصر الميل العام الذي تعبر عنه السيرة العقلائية
على نطاق المتدينين خاصة، لان الدين لم يكن من عوامل تكوين هذا الميل.
وبهذا يتضح أن السيرة العقلائية لا تكشف عن البيان الشرعي كشف
المعلول عن العلة، وإنما تدل على الحكم الشرعي عن طريق دلالة التقرير
بالتقريب التالي: وهو أن الميل الموجود عند العقلاء نحو سلوك معين يعتبر قوة
دافعة لهم نحو ممارسة ذلك السلوك، فإذا سكتت الشريعة عن ذلك الميل ولم
يردع المعصوم عن السيرة مع معاصرته لها كشف ذلك عن الرضا بذلك
السلوك وإمضائه شرعا. ومثال ذلك: سكوت الشريعة عن الميل العام عند
العقلاء نحو الاخذ بظهور كلام المتكلم، وعدم ردع المعصومين عن ذلك، فإنه
يدل على أن الشريعة تقر هذه الطريقة في فهم الكلام، وتوافق على إعتبار
الظهور حجة، وإلا لمنعت الشريعة عن الانسياق مع ذلك الميل العام،
وردعت عنه في نطاقها الشرعي.
وبهذا يمكن أن نستدل على حجية الظهور بالسيرة العقلائية، إضافة إلى
استدلالنا سابقا عليها بسيرة المتشرعة المعاصرين للرسول والأئمة عليهم
السلام.
98

2 - الدليل العقلي
دراسة العلاقات العقلية
حينما يدرس العقل العلقات بين الأشياء يتوصل إلى معرفة أنواع عديدة
من العلاقة، فهو يدرك مثلا علاقة التضاد بين السواد والبياض، وهي تعني
استحالة اجتماعهما في جسم واحد، ويدرك علاقة التلازم بين السبب
والمسبب، فإن كل مسبب في نظر العقل ملازم لسببه ويستحيل انفكاكه عنه،
نظير الحرارة بالنسبة إلى النار، ويدرك علاقة التقدم والتأخر في الدرجة بين
السبب والمسبب. ومثاله: إذا أمسكت مفتاحا بيدك وحركت يدك فيتحرك
المفتاح بسبب ذلك، وبالرغم من أن المفتاح في هذا المثال يتحرك في نفس
اللحظة التي تتحرك فيها يدك، فإن العقل يدرك أن حركة اليد متقدمة على
حركة المفتاح، وحركة المفتاح متأخرة عن حركة اليد لا من ناحية زمنية؟
من ناحية تسلسل الوجود، ولهذا نقول حين نريد أن نتحدث عن ذلك:
" حركت يدي فتحرك المفتاح " فالفاء هنا تدل على تأخر حركة المفتاح عن
حركة اليد، مع إنهما وقعا في زمان واحد. فهناك إذن تأخر لا يمت إلى
الزمان بصلة، وإنما ينشأ عن تسلسل الوجود في نظر العقل، بمعنى أن العقل
حين يلحظ حركة اليد وحركة المفتاح، ويدرك أن هذه نابعة من تلك، يرى
أن حركة المفتاح متأخرة عن حركة اليد بوصفها نابغة منها، ويرمز إلى هذا
التأخر بالفاء فيقول: " تحركت يدي فتحرك المفتاح "، ويطلق على هذا
التأخر اسم " التأخر الرتبي ".
وبعد أن يدرك العقل تلك العلاقات يستطيع أن يستفيد منها في اكتشاف
وجود الشئ أو عدمه، فهو عن طريق علاقة التضاد بين السواد والبياض،
يستطيع أن يثبت عدم السواد في جسم إذا عرف أنه أبيض نظرا إلى استحالة
99

اجتماع البياض والسواد في جسم واحد، وعن طريق علاقة التلازم بين المسبب
وسببه، يستطيع العقل أن يثبت وجود المسبب إذا عرف وجود السبب نظرا
إلى استحالة الانفكاك بينهما. وعن طريق علاقة التقدم والتأخر يستطيع العقل
أن يكتشف عدم وجود المتأخر قبل الشئ المتقدم، لان ذلك يناقض كونه
متأخرا، فإذا كانت حركة المفتاح متأخرة عن حركة اليد في تسلسل
الوجود، فمن المستحيل أن تكون حركة المفتاح - والحالة هذه - موجودة
بصورة متقدمة على حركة اليد في تسلسل الوجود.
وكما يدرك العقل هذه العلاقات بين الأشياء ويستفيد منها في الكشف عن
وجود شئ أو عدمه، كذلك يردك العلاقات القائمة بين الاحكام، ويستفيد
من تلك العلاقات في الكشف عن وجود حكم أو عدمه، فهو يدرك مثلا
التضاد بين الوجوب والحرمة، كما كان يدرك التضاد بين السواد والبياض،
وكما كان يستخدم هذه العلاقة في نفي السواد إذا عرف وجود البياض
كذلك يستخدم علاقة التضاد بين الوجوب والحرمة لنفي الوجوب عن الفعل
إذا عرف أنه حرام.
فهناك إذن أشياء تقوم بينها علاقات في نظر العقل، وهناك أحكام تقوم
بينها علاقات في نظر العقل أيضا.
ونطلق على الأشياء اسم " العالم التكويني " وعلى الاحكام اسم " العالم
التشريعي ".
وكما يمكن للعقل أن يكشف وجود الشئ أو عدمه في العالم التكويني عن
طريق تلك العلاقات كذلك يمكن للعقل أن يكشف وجود الحكم أو عدمه في
العالم التشريعي عن طريق تلك العلاقات.
ومن أجل ذلك كان من وظيفة علم الأصول أن يدرس تلك العلاقات في
100

في عالم الاحكام بوصفها قضايا عقلية صالحة لان تكون عناصر مشتركة في
عملية الاستنباط، وفيما يلي نماذج من هذه العلاقات:
تقسيم المبحث
توجد في العالم التشريعي أقسام من العلاقات: فهناك قسم من العلاقات
قائم بين نفس الاحكام - أي بين حكم شرعي، وحكم شرعي آخر -، وقسم
ثان من العلاقات قائم بين الحكم وموضوعه، وقسم ثالث بين الحكم ومتعلقه،
وقسم رابع بين الحكم ومقدماته، وقسم خامس وهو العلاقات القائمة في
داخل الحكم الواحد، وقسم سادس وهو العلاقات القائمة بين الحكم وأشياء
أخرى خارجة عن نطاق العالم التشريعي.
وسوف نتحدث عن نماذج لأكثر هذه الأقسام (1) فيما يلي:

(1) أي لغير القسم السادس، وأما القسم السادس فنريد به ما كان من قبيل علاقة التلازم بين
الحكم العقلي والحكم الشرعي المقرر في المبدأ القائل: " كل ما حكم به العقل حكم به
الشرع " فإن هذه العلاقة تقوم بين الحكم الشرعي وشى خارج عن نطاق العالم التشريعي
وهو حكم العقل. وقد أجلنا دراسة ذلك إلى الحلقات المقبلة.
101

العلاقات القائمة بين نفس الاحكام
علاقة بين الوجود والحرمة
من المعترف به في علم الأصول أنه ليس من المستحيل أن يأتي المكلف
بفعلين في وقت واحد أحدهما واجب والآخر حرام، فيعتبر مطيعا من ناحية
إتيانه بالواجب وجديرا بالثواب، ويعتبر عاصيا من ناحية إتيانه للحرام
ومستحقا للعقاب.
ومثاله أن يشرب الماء النجس ويدفع الزكاة إلى الفقير في وقت واحد.
وأما الفعل الواحد فلا يمكن أن يتصف بالوجوب والحرمة معا، لان
العلاقة بين الوجوب. والحرمة هي علاقة تضاد ولا يمكن اجتماعهما في فعل
واحد كما لا يكن أن يجتمع السواد والبياض في جسم واحد، فدفع الزكاة
إلى الفقير لا يمكن أن يكون - وهو واجب - حراما في نفس الوقت، وشرب
النجس لا يمكن أن يكون - وهو حرام - واجبا في نفس الوقت.
وهكذا يتضح:
(أولا) أن الفعلين المتعددين - كدفع الزكاة وشرب النجس - يمكن أن
يتصف أحدهما بالوجوب والآخر بالحرمة ولو أوجدهما المكلف في زمان
واحد.
(وثانيا) أن الفعل الواحد لا يمكن أن يتصف بالوجوب والحرمة معا.
والنقطة الرئيسية في هذا البحث عند الأصوليين هي أن الفعل قد يكون
واحدا بالذات والوجود، ومتعددا بالوصف والعنوان، وعندئذ فهل يلحق
بالفعل الواحد لأنه واحد وجودا وذاتا؟ أو يلحق بالفعلين لأنه متعدد
102

بالوصف والعنوان؟ ومثاله أن يتوضأ المكلف بماء مغصوب، فأن هذه العملية
التي يؤديها إذا لوحظت من ناحية وجودها فهي شئ واحد، وإذا لوحظت
من ناحية أوصافها فهي توصف بوصفين إذ يقال عن العملية: إنها وضوء،
ويقال عنها في نفس الوقت: إنها غضب وتصرف في مال الغير بدون إذنه،
وكل من الوصفين يسمى " عنوانا ".
ولأجل ذلك تعتبر العملية في هذا المثال واحدة ذاتا ووجودا ومتعددة
وصفا وعنوانا.
وفي هذه النقطة قولان للأصوليين " أحدهما " أن هذه العملية ما دامت
متعددة بالوصف والعنوان تلحق بالفعلين المتعددين، فكما يمكن أن يتصف
دفع الزكاة للفقير بالوجوب وشرب الماء النجس بالحرمة، كذلك يمكن أن
يكون أحد وصفي العملية وعنوانيها واجبا وهو عنوان الوضوء والوصف
الآخر حراما وهو عنوان الغصب. وهذا القول يطلق عليه اسم " القول بجواز
اجتماع الأمر والنهي ". و " القول الآخر " يؤكد على إلحاق العملية بالفعل
الواحد على أساس وحدتها الوجودية، ولا يبرر مجرد تعدد الوصف والعنوان
عنده تعلق الوجوب والحرمة معا بالعملية. وهذا القول يطلق عليه اسم " القول
بامتناع اجتماع الأمر والنهي ".
وهكذا اتجه البحث الأصولي إلى دراسة تعدد الوصف والعنوان من ناحية
أنه هل يبرر اجتماع الوجوب والحرمة معا في عملية الوضوء بالماء المغصوب؟
أو أن العملية ما دامت واحدة وجودا وذاتا فلا يمكن أن توصف بالوجوب
والحرمة في وقت واحد.
فقد يقال إن الاحكام باعتبارها أشياء تقوم في نفس الحاكم إنما تتعلق
بالعناوين والصور الذهنية لا بالواقع الخارجي مباشرة، فيكفي التعدد في
العناوين والصور لارتفاع المحذور، وهذا معناه جواز اجتماع الأمر والنهي.
103

وقد يقال إن الاحكام وإن كانت تتعلق بالعناوين والصور الذهنية ولكنها لا
تتعلق بها بما هي صور ذهنية. إذ من الواضح أن المولى لا يريد الصورة، وإنما
تتعلق الاحكام بالصور بما هي معبرة عن الواقع الخارجي ومرآة له، وحيث
أن الواقع الخارجي واحد، فيستحيل أن يجتمع عليه الوجوب والحرمة ولو
بتوسط عنوانين وصورتين، وعلى هذا الأساس يقال إن تعدد العناوين إن
كان ناتجا عن تعدد الواقع الخارجي وكاشفا عن تكثر الوجود جاز أن يتعلق
الامر بأحدهما والنهي بالآخر وأن كان مجرد تعدد في عالم العناوين والصور
الذي هو الذهن فلا يسوغ ذلك.
هل تستلزم الحرمة البطلان
إن صحة العقد معناها أن يترتب عليه أثره الذي إتفق عليه المتعاقدان،
ففي عقد البيع يعتبر البيع صحيحا ونافذا إذا ترتب عليه نقل ملكية السلعة
من البائع إلى المشتري، ونقل ملكية الثمن من المشتري إلى البائع، ويعتبر
فاسدا وباطلا إذا لم يترتب عليه ذلك.
وبديهي أن العقد لا يمكن أن يكون صحيحا وباطلا في وقت واحد، فإن
الصحة والبطلان متضادان كالتضاد بين الوجوب والحرمة.
والسؤال هو هل يمكن أن يكون العقد صحيحا وحراما؟ ونجيب على
ذلك بالايجاب، إذ لا تضاد بين الصحة والحرمة، ولا تلازم بين الحرمة
والفساد، لان معنى تحريم العقد منع المكلف من إيجاد البيع، ومعنى صحته أن
المكلف إذا خالف هذا المنع والتحريم وباع ترتب الأثر على بيعه وانتقلت
الملكية من البائع إلى المشتري، ولا تنافي بين أن يكون إيجاد المكلف للبيع
مبغوضا للشارع وممنوعا عنه، وأن يترتب عليه الأثر في حالة صدوره من
المكلف، كالظهار فإنه ممنوع شرعا ولكن لو وقع لترتب عليه أثره.
104

ومثال ذلك في حياتنا الاعتيادية: أنك قد لا تريد أن يزورك فلان
وتبغض ذلك أشد البغض، ولكن إذا إتفق وزارك ترى لزاما عليك أن
ترتب الأثر على زيارته وتقوم بضيافته.
وهكذا نعرف أن النهي عن المعاملة - أي عقد البيع ونحوه - لا يستلزم
فسادها بل يتفق مع الحكم بصحة العقد في نفس الوقت، خلافا لعدد من
الأصوليين القائلين بأن النهي عن المعاملة يقتضي بطلانها.
وكما يتعلق التحريم بالعقد والمعاملة كذلك قد يتعلق بالعبادة، كتحريم
صوم يوم العيد أو صلاة الحائض مثلا، وهذا التحريم يقتضي بطلان العبادة
خلافا للتحريم في المعاملة، وذلك لان العبادة لا تقع صحيحة إلا إذا أتى بها
المكلف على وجه قربي وبعد أن تصبح محرمة لا يمكن قصد التقرب بها، لان
التقريب بالمبغوض وبالمعصية غير ممكن فتقع باطلة.
105

العلاقات القائمة بين الحكم وموضوعه
الجعل والفعلية
حين حكمت الشريعة بوجوب الحج على المستطيع وجاء قوله تعالى:
(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (1) أصبح الحج
من الواجبات في الاسلام وأصبح وجوبه حكما ثابتا في الشريعة. ولكن إذا
افترضنا أن المسلمين وقتئذ لم يكن شخص مستطيع تتوفر فيه خصائص
الاستطاعة شرعا فلا يتوجه وجوب الحج إلى أي فرد من أفراد المسلمين
لأنهم ليسوا مستطيعين، والحج إنما يجب على المستطيع، أي إن وجوب الحج
لا يثبت في هذه الحالة لاي فرد بالرغم من كونه حكما ثابتا في الشريعة، فإذا
أصبح الافراد مستطيعا اتجه الوجوب نحوه، وأصبح ثابتا بالنسبة إليه.
وعلى هذا الضوء نلاحظ أن للحكم ثبوتين: أحدهما ثبوت الحكم في
الشريعة. والآخر ثبوته بالنسبة إلى هذا الفرد أو ذاك.
فحين حكم الاسلام بوجوب الحج على المستطيع في الآية الكريمة ثبت هذا
الحكم في الشريعة ولو لم يكن يوجد مستطيع وقتئذ إطلاقا بمعنى أن شخصا
لو سأل في ذلك الوقت ما هي أحكام الشريعة؟ لذكرنا من بينها وجوب
الحج على المستطيع، سواء كان في المسلمين مستطيع فعلا أو لا، وبعد أن
يصبح هذا الفرد أو ذاك مستطيعا يثبت الوجوب عليه.
ونعرف على هذا الأساس أن الحكم بوجوب الحج على المستطيع لا يتوقف
ثبوته في الشريعة بوصفه حكما شرعيا إلا على تشريعه، وجعله من قبل الله
تعالى سواء كانت متوفرة في المسلمين فعلا أو لا.

(1) سورة آل عمران / 97.
106

وأما ثبوت وجوب الحج على هذا المكلف أو ذاك، فيتوقف إضافة إلى
تشريع الله للحكم وجعله له، على توفر خصائص الاستطاعة في المكلف.
والثبوت الأول للحكم - أي ثبوته في الشريعة - يسمى بالجعل " جعل
الحكم ". والثبوت الثاني للحكم - أي ثبوته على هذا المكلف بالذات أو ذاك -
يسمى بالفعلية " فعلية الحكم " أو المجعول، فجعل الحكم معناه تشريعه من
قبل الله، وفعلية الحكم معناها ثبوته فعلا لهذا المكلف أو ذاك.
موضوع الحكم
وموضوع الحكم مصطلح أصولي نريد به مجموع الأشياء التي تتوقف عليها
فعلية الحكم المجعول بمعناها الذي شرحناه، ففي مثال وجوب الحج يكون
وجود المكلف المستطيع موضوعا لهذا الوجوب، لان فعلية هذا الوجوب
تتوقف على وجود مكلف مستطيع.
ومثال آخر: حكمت الشريعة بوجوب الصوم على كل مكلف غير مسافر
ولا مريض إذا هل عليه هلال شهر رمضان، وهذا الحكم يتوقف ثبوته الأول
على جعله شرعا، ويتوقف ثبوته الثاني - أي فعليته - على وجود موضوعه،
أي وجود مكلف غير مسافر ولا مريض وهل عليه هلال شهر رمضان،
فالمكلف وعدم السفر وعدم المرض وهلال شهر رمضان هي العناصر التي
تكون الموضوع الكامل للحكم بوجوب الصوم. وإذا عرفنا معنى موضوع
الحكم، استطعنا أن ندرك أن العلاقة بين الحكم والموضوع تشابه ببعض
الاعتبارات العلاقة بين المسبب وسببه كالحرارة والنار، فكلما أن المسبب
يتوقف على سببه كذلك الحكم يتوقف على موضوعه، لأنه يستمد فعليته من
وجود الموضوع، وهذا معنى العبارة الأصولية القائلة: " إن فعلية الحكم
تتوقف على فعلية موضوعه " أي إن وجود الحكم فعلا يتوقف على وجود
موضوعه فعلا.
107

وبحكم هذه العلاقة بين الحكم والموضوع يكون الحكم متأخرا رتبة عن
الموضوع كما يتأخر كل مسبب عن سببه في الرتبة.
وتوجد في علم الأصول قضايا تستنتج من هذه العلاقة وتصلح للاشتراك
في عمليات الاستنباط.
فمن ذلك أنه لا يمكن أن يكون موضوع الحكم أمرا مسببا عن الحكم
نفسه ومثاله العلم بالحكم فإنه مسبب عن الحكم، لان العلم بالشئ فرع الشئ
المعلوم ولهذا يمتنع أن يكون العلم بالحكم موضوعا لنفسه بأن يقول الشارع
احكم بهذا الحكم على من يعلم بثبوته له لان ذلك يؤدي إلى الدور.
108

العلاقات القائمة بين الحكم ومتعلقه
عرفنا أن وجوب الصوم - مثلا - موضوعه مؤلف من عدة عناصر تتوقف
عليها فعلية الوجوب، فلا يكون الوجوب فعليا وثابتا إلا إذا وجد مكلف
غير مسافر ولا مريض وهل هلال شهر رمضان، وأما متعلق هذا الوجوب
فهو الفعل الذي يؤديه المكلف نتيجة لتوجه الوجوب إليه، وهو الصوم في
هذا المثال.
وعلى هذا الضوء نستطيع أن نميز بين متعلق الوجوب وموضوعه، فإن
المتعلق يوجد بسبب الوجوب، فالمكلف انما يصوم لاجل وجوب الصوم
عليه، بينما يوجد الحكم نفسه بسبب الموضوع، فوجوب الصوم لا يصبح فعليا
إلا إذا وجد مكلف غير مريض ولا مسافر وهل عليه الهلال.
وهكذا نجد أن وجود الحكم يتوقف على وجود الموضوع، بينما يكون سببا
لايجاد المتعلق وداعيا للمكلف نحوه.
وعلى هذا الأساس نعرف أن من المستحيل أن يكون الوجوب داعيا إلى
إيجاد موضوعه ومحركا للمكلف نحوه كما يدعو إلى إيجاد متعلقه، فوجوب
الصوم على كل مكلف غير مسافر ولا مريض لا يمكن أن يفرض على المكلف
أن لا يسافر، وإنما يفرض عليه أن يصوم إذا لم يكن مسافرا، ووجوب الحج
على المستطيع لا يمكن أن يفرض على المكلف أن يكتسب، ليحصل على
الاستطاعة أو إنما يفرض الحج على المستطيع، لان الحكم لا يوجد إلا بعد
وجود موضوعه، فقبل وجود الموضوع لا وجود للحكم لكي يكون داعيا
إلى إيجاد موضوعه، ولأجل ذلك وضعت في علم الأصول القاعدة القائلة:
" إن كل حكم يستحيل أن يكون محركا نحو أي عنصر من العناصر الدخيلة
في تكوين موضوعه، بل يقتصر تأثيره وتحريكه على نطاق المتعلق ".
109

العلاقات القائمة بين الحكم والمقدمات
المقدمات التي يتوقف عليها وجود الواجب على قسمين:
أحدهما المقدمات التي يتوقف عليها وجود المتعلق، من قبيل السفر الذي
يتوقف أداء الحج عليه، أو الوضوء الذي تتوقف الصلاة عليه، أو التسلح
الذي يتوقف الجهاد عليه.
والآخر المقدمات التي تدخل في تكوين موضوع الوجوب، من قبيل نية
الإقامة التي يتوقف عليها صوم شهر رمضان، والاستطاعة التي تتوقف عليها
حجة الاسلام.
والفارق بين هذين القسمين أن المقدمة التي تدخل في تكوين موضوع
الوجوب يتوقف على وجودها الوجوب نفسه، لما شرحناه سابقا من أن الحكم
الشرعي يتوقف وجوده على وجود موضوعه، فكل مقدمة دخيلة في تحقق
موضوع الحكم يتوقف عليها الحكم ولا يوجد بدونها، خلافا للمقدمات التي
لا تدخل في تكوين الموضوع وإنما يتوقف عليها وجود المتعلق فحسب، فإن
الحكم يوجد قبل وجودها، لأنها لا تدخل في موضوعه.
ولنوضح ذلك في مثال الاستطاعة والوضوء: فالاستطاعة مقدمة تتوقف
عليها حجة الاسلام، والتكسب مقدمة للاستطاعة، وذهاب الشخص إلى محله
في السوق مقدمة للتكسب، وحيث أن الاستطاعة تدخل في تكوين موضوع
وجوب الحج، فلا وجوب للحج قبل الاستطاعة، وقبل تلك الأمور التي
تتوقف عليها الاستطاعة.
وأما الوضوء فلا يدخل في تكوين موضوع وجوب الصلاة، لان وجوب
الصلاة لا ينتظر أن يتوضأ الانسان لكي يتجه إليه، بل يتجه إليه قبل ذلك،
110

وإنما يتوقف متعلق الوجوب - أي الصلاة - على الوضوء، ويتوقف الوضوء
على تحضير الماء الكافي، ويتوقف تحضير هذا الماء على فتح خزان الماء مثلا.
فهناك إذن سلسلتان من المقدمات: الأولى سلسلة مقدمات المتعلق أي
الوضوء الذي تتوقف عليه الصلاة وتحضير الماء الذي يتوقف عليه الوضوء
وفتح الخزان الذي يتوقف عليه تحضير الماء.
والثاني سلسلة مقدمات الوجوب، وهي الاستطاعة التي تدخل في تكوين
موضوع وجوب الحج، والتكسب الذي تتوقف عليه الاستطاعة، وذهاب
الشخص إلى محله في السوق الذي يتوقف عليه التكسب. وموقف الوجوب من
هذه السلسلة الثانية وكل ما يندرج في القسم الثاني من المقدمات سلبي دائما،
لان هذا القسم يتوقف عليه وجود موضوع الحكم، وقد عرفنا سابقا أن
الوجوب لا يمكن أن يدعو إلى موضوعه.
وتسمى كل مقدمة من هذا القسم " مقدمة وجوب " أو " مقدمة
وجوبية ". وأما السلسلة الأولى والمقدمات التي تندرج في القسم الأول،
فالمكلف مسؤول عن إيجادها، أي إن المكلف بالصلاة مثلا مسؤول عن
الوضوء لكي يصلي، والمكلف بالحج مسؤول عن السفر لكي يحج، والمكلف
بالجهاد مسؤول عن التسلح لكي يجاهد.
والنقطة التي درسها الأصوليون هي نوع هذه المسؤولية، فقد قدموا لها
تفسيرين:
أحدهما أن الواجب شرعا على المكلف هو الصلاة فحسب دون مقدماتها
من الوضوء ومقدماته، وإنما يجد المكلف نفسه مسؤولا عن إيجاد الوضوء
وغيره من المقدمات عقلا، لأنه يرى أن امتثال الواجب الشرعي لا يتأتى له
إلا بإيجاد تلك المقدمات.
111

والآخر أن الوضوء واجب شرعا لأنه مقدمة للواجب، ومقدمة الواجب
واجبة شرعا، فهناك إذن واجبان شرعيان على المكلف: أحدهما الصلاة،
والآخر الوضوء بوصفه مقدمة الصلاة.
ويسمى الأول ب‍ " الواجب النفسي "، لأنه واجب لاجل نفسه.
ويسمى الثاني ب‍ " الواجب الغيري "، لأنه واجب لاجل غيره، أي لاجل
ذي المقدمة وهو الصلاة.
وهذا التفسير أخذ به جماعة من الأصوليين إيمانا منهم بقيام علاقة تلازم
بين وجوب الشئ، ووجوب مقدمته فكلما حكم الشارع بوجوب فعل حكم
عقيب ذلك مباشرة بوجوب مقدماته.
ويمكن الاعتراض على ذلك بأن حكم الشارع بوجوب المقدمة في هذه
الحالة لا فائدة فيه ولا موجب له، لأنه أراد به إلزام المكلف بالمقدمة فهذا
حاصل بدون حاجة إلى حكمه بوجوبها، إذا بعد أن وجب الفعل المتوقف
عليها يدرك العقل مسؤولية المكلف من هذه الناحية، وأن أراد الشارع بذلك
مطلبا آخر دعاه إلى الحكم بوجوب المقدمة فلا نتعقله، وعلى هذا الأساس
يعتبر حكم الشارع بوجوب المقدمة لغوا فيستحيل ثبوته، فضلا عن أن يكون
ضروري الثبوت كما يدعيه القائل بالتلازم بين وجوب الشئ، ووجوب
مقدمته.
112

العلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد
قد يتعلق الوجوب بشئ واحد، كوجوب السجود على كل من سمع آية
السجدة، وقد يتعلق بعملية تتألف من أجزاء وتشتمل على أفعال متعددة، من
قبيل وجوب الصلاة، فإن الصلاة عملية تتألف من أجزاء وتشتمل على أفعال
عديدة، كالقراءة والسجود والركوع والقيام والتشهد وما إلى ذلك.
وفي هذه الحالة تصبح العملية بوصفها مركبة من تلك الاجزاء، واجبة،
ويصبح كل جزء واجبا أيضا، ويطلق على وجوب المركب اسم " الوجوب
الاستقلالي " ويطلق على وجوب كل جزء فيه اسم " الوجوب الضمني "، لان
الوجوب إنما يتعلق بالجزء بوصفه جزءا في ضمن المركب لا بصورة مستقلة
عن سائر الاجزاء، فوجوب الجزء ليس حكما مستقلا، بل هو جزء من
الوجوب المتعلق بالعملية المركبة.
ولأجل ذلك كان وجوب كل جزء من الصلاة مثلا مرتبطا بوجوب
الاجزاء الأخرى، لان الوجوبات الضمنية لاجزاء الصلاة تشكل بمجموعها
وجوبا واحدا استقلاليا.
ونتيجة ذلك قيام علاقة التلازم في داخل إطار الحكم الواحد بين
الوجوبات الضمنية فيه.
وتعني علاقة التلازم هذه أنه لا تمكن التجزئة في تلك الوجوبات أو
التفكيك بينها، بل إذا سقط أي واحد منهما تحتم سقوط الباقي نتيجة لذلك
التلازم القائم بينها.
ومثال ذلك: إذا وجب على الانسان الوضوء وهو مركب من أجزاء عديدة
كغسل الوجه وغسل اليمنى وغسل اليسرى ومسح الرأس ومسح القدمين،
113

فيتعلق بكل جزء من تلك الاجزاء وجوب ضمني بوصفه جزءا من الوضوء
الواجب، وفي هذه الحالة إذا تعذر على الانسان أن يغسل وجهه لآفة فيه
وسقط لاجل ذلك وجوب الضمني المتعلق بغسل الوجه، كان من المحتم أن
يسقط وجوب سائر الاجزاء أيضا، فلا يبقى على الانسان وجوب غسل يديه
فقط ما دام قد عجز عن غسل وجهه، لان تلك الوجوبات لا بد أن ينظر
إليها بوصفها وجوبا واحدا متعلقا بالعملية كلها أي بالوضوء، وهذا
الوجوب إما أن يسقط كله أو يثبت كله ولا مجال للتفكيك.
وعلى هذا الضوء نعرف الفرق بين ما إذا وجب الوضوء بوجوب
استقلالي، ووجوب الدعاء بوجوب استقلالي آخر فتعذر الوضوء، وبين ما
إذا وجب الوضوء فتعذر جزء منه كغسل الوجه مثلا، ففي الحالة الأولى لا
يؤدي تعذر الوضوء إلا إلى سقوط الوجوب الذي كان متعلقا به. وأما
وجوب الدعاء فيبقى ثابتا، لأنه وجوب مستقل غير مرتبط بوجوب الوضوء،
وفي الحالة الثانية حين يتعذر غسل الوجه ويسقط وجوبه الضمني يؤدي ذلك
إلى سقوط وجوب الوضوء، وارتفاع سائر الوجوبات الضمنية.
قد تقول: نحن نرى أن الانسان يكلف بالصلاة، فإذا أصبح أخرس
وعجز عن القراءة فيها، كلف بالصلاة بدون قراءة، فهل هذا إلا تفكيك
بين الوجوبات الضمنية، ونقض لعلاقة التلازم بينها.
والجواب أن وجوب الصلاة بدون قراءة على الأخرس ليس تجزئه
لوجوب الصلاة الكاملة، وإنما هو وجوب آخر وخطاب جديد تعلق منذ
البدء بالصلاة الصامتة، فوجوب الصلاة الكاملة والخطاب بها قد سقط كله
نتيجة لتعذر القراءة وخلفه وجوب آخر وخطاب جديد.
114

النوع الثاني
الأصول العملية
تمهيد
استعرضنا في النوع الأول الأصولية المشتركة في الاستنباط التي تتمثل في
أدلة محرزة، فدرسنا أقسام الأدلة وخصائصها وميزنا بين الحجة منها وغيرها.
ونريد الآن أن ندرس العناصر المشتركة في حالة أخرى من الاستنباط،
وهي حالة عدم حصول الفقيه على دليل يدل على الحكم الشرعي وبقاء الحكم
مجهولا لديه، فيتجه البحث في هذه الحالة إلى محاولة تحديد الموقف العملي تجاه
ذلك الحكم المجهول بدلا عن اكتشاف نفس الحكم.
ومثال ذلك: حالة الفقيه تجاه التدخين، فإن التدخين نحتمل حرمته شرعا
منذ البدء، ونتجه أولا إلى محاولة الحصول على دليل يعين حكمه الشرعي،
فحيث لا نجد نتسأل ما هو الموقف العملي الذي يتحتم علينا أن نسلكه تجاه
ذلك الحكم المجهول، وهل يتحتم علينا أن نحتاط أولا؟
وهذا هو السؤال الأساسي الذي يعالجه الفقيه في هذه الحالة، ويجيب عليه
في ضوء الأصول العملية بوصفها عناصر مشتركة في عملية الاستنباط، وهذه
الأصول هي موضع درسنا الآن:
115

1 - القاعدة العملية الأساسية
ولكي نعرف القاعدة العملية الأساسية التي نجيب في ضوئها على سؤال
" هل يجب الاحتياط تجاه الحكم المجهول؟ " لا بد لنا أن نرجع إلى المصدر
الذي يفرض علينا إطاعة الشارع، ونلاحظ أن هذا المصدر هل يفرض علينا
الاحتياط في حالة الشك وعدم وجود دليل على الحرمة أو لا؟
ولكي نرجع إلى المصدر الذي يفرض علينا إطاعة المولى سبحانه لا بد لنا
أن نحدده، فما هو المصدر الذي يفرض علينا إطاعة الشارع، ويجب أن
نستفتيه في موقفنا هذا؟
والجواب أن هذا المصدر هو العقل، لان الانسان يدرك بعقله أن لله
سبحانه حق الطاعة على عبيده، وعلى أساس حق الطاعة هذا يحكم العقل على
الانسان بوجوب إطاعة الشارع لكي يؤدي إليه حقه، فنحن إذن نطيع الله
تعالى ونمتثل أحكام الشريعة، لان العقل يفرض علينا ذلك لا لان الشارع
أمرنا بإطاعته، وإلا لأعدنا السؤال مرة أخرى ولماذا نمتثل أمر الشارع لنا
بإطاعة أوامره؟ وما هو المصدر الذي يفرض علينا امتثاله؟ وهكذا حتى
نصل إلى حكم العقل بوجوب الإطاعة القائم على أساس ما يدركه من حق
الطاعة لله سبحانه على الانسان.
وإذا كان العقل هو الذي يفرض إطاعة الشارع على أساس إدراكه لحق
الطاعة، فيجب الرجوع إلى العقل في تحديد الجواب على السؤال المطروح.
ويتحتم علينا عندئذ أن ندرس حق الطاعة الذي يدركه العقل وحدوده، فهل
هو حق لله سبحانه في نطاق التكاليف المعلومة فقط - بمعنى أن الله سبحانه
ليس له حق الطاعة على الانسان إلا في التكاليف التي يعلم بها، وأما التكاليف
التي يشك فيها ولا علم بها، فلا يمتد إليها حق الطاعة - أو أن حق الطاعة كما
116

يدركه العقل في نطاق التكاليف المعلومة يدركه أيضا في نطاق التكاليف
المحتملة بمعنى أن من حق الله على الانسان أن يطيعه في التكاليف المعلومة
والمحتملة، فإذا علم بتكليف كان من حق الله عليه أن يمتثله وإذا احتمل
تكليفا كان من حق الله أن يحتاط، فيترك ما يحتمل حرمته أو يفعل ما يحتمل
وجوبه؟
والصحيح في رأينا هو أن الأصل في كل تكليف محتمل هو الاحتياط
نتيجة لشمول حق الطاعة للتكاليف المحتملة، فإن العقل يدرك أن للمولى
على الانسان حق الطاعة لا في التكاليف المعلومة فحسب، بل في التكاليف
المحتملة أيضا، ما لم يثبت بدليل أن المولى لا يهتم بالتكليف المحتمل إلى
الدرجة التي تدعو إلى إلزام المكلف بالاحتياط.
وهذا يعني أن الأصل بصورة مبدئية كلما احتملنا حرمة أو وجوبا هو أن
نحتاط، فنترك ما نحتمل حرمته ونفعل ما نحتمل وجوبه، ولا نخرج عن هذا
الأصل إلا إذا ثبت بالدليل أن الشارع لا يهتم بالتكليف المحتمل إلى الدرجة
التي تفرض الاحتياط ويرضى بترك الاحتياط، فإن المكلف يصبح حينئذ
غيره مسؤول عن التكليف المحتمل.
فالاحتياط إذن واجب عقلا في موارد الشك، ويسمى هذا الوجوب
أصالة الاحتياط أو أصالة الاشتغال - أي اشتغال ذمة الانسان بالتكليف
المحتمل - ونخرج عن هذا الأصل حين نعرف أن الشارع يرضى بترك
الاحتياط.
وهكذا تكون أصالة الاحتياط هي القاعدة العملية الأساسية.
ويخالف في ذلك كثير من الأصوليين إيمانا منهم بأن الأصل في المكلف
أن لا يكون مسؤولا عن التكاليف المشكوكة، ولو إحتمل أهميتها بدرجة
117

كبيرة، ويرى هؤلاء الاعلام أن العقل هو الذي يحكم بنفي المسؤولية، لأنه
يدرك قبح العقاب من المولى على مخالفة المكلف للتكليف الذي لم يصل إليه،
ولأجل هذا يطلقون على الأصل من وجهة نظرهم اسم " قاعدة قبح العقاب
بلا بيان " أو " البراءة العقلية " أي إن العقل يحكم بأن عقاب المولى للمكلف
على مخالفة التكليف المشكوك قبيح، وما دام المكلف مأمونا من العقاب فهو
غير مسؤول ولا يجب عليه الاحتياط. ويستشهد لذلك بما استقرت عليه سيرة
العقلاء من عدم إدانة الموالي للمكلفين في حالات الشك وعدم قيام الدليل،
فإن هذا يدل على قبح العقاب بلا بيان في نظر العقلاء. ولكي ندرك أن
العقل هل يحكم بقبح معاقبة الله تعالى للمكلف على مخالفة التكليف المشكوك
أو لا؟ يجب أن نعرف حدود حق الطاعة الثابت لله تعالى، فإذا كان هذا
الحق يشمل التكاليف المشكوكة التي يحتمل المكلف أهميتها بدرجة كبيرة
- كما عرفنا - فلا يكون عقاب الله للمكلف إذا خالفها قبيحا لأنه بمخالفتها
يفرط في حق مولاه فيستحق العقاب، وأما ما استشهد به من سيرة العقلاء
فلا دلالة له في المقام لأنه إنما يثبت أن حق الطاعة في الموالي العرفيين يختص
بالتكاليف المعلومة، وهذا لا يستلزم أن يكون حق الطاعة لله تعالى كذلك
أيضا إذ أي محذور في التفكيك بين الحقين والالتزام بأن أحدهما أوسع من
الآخر.
فالقاعدة الأولية إذن هي أصالة الاحتياط.
118

2 - القاعدة العملية الثانوية
وقد انقلبت بحكم الشارع تلك القاعدة العملية الأساسية إلى قاعدة عملية
ثانوية، وهي أصالة البراءة القائلة بعدم وجوب الاحتياط.
والسبب في هذا الانقلاب أنا علمنا عن طريق البيان الشرعي، أن
الشارع، لا يهتم بالتكاليف المحتملة إلى الدرجة التي تحتم الاحتياط على
المكلف، بل يرضى بترك الاحتياط.
والدليل على ذلك نصوص شرعية متعددة، من أشهرها النص النبوي
القائل: " رفع عن أمتي ما لا يعلمون "، بل استدل ببعض الآيات على ذلك
كقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (1). فإن الرسول يفهم
كمثال على البيان والدليل فتدل الآية على أنه لا عقاب بدون دليل، وهكذا
أصبحت القاعدة العملية هي عدم وجوب الاحتياط بدلا عن وجوبه،
وأصالة البراءة شرعا بدلا عن أصالة الاشتغال عقلا.
وتشمل هذه القاعدة العملية الثانوية موارد الشك في الوجوب، وموارد
الشك في الحرمة على السواء، لان النص النبوي مطلق، ويسمى الشك في
الوجوب ب‍ " الشبهة الوجوبية " والشك في الحرمة ب‍ " الشبهة التحريمية " كما
تشمل القاعدة أيضا الشك مهما كان سببه. ولأجل هذا نتمسك بالبراءة إذا
شككنا في التكليف، سواء نشأ شكنا في ذلك من عدم وضوح أصل جعل
الشارع للتكليف أو من عدم العلم بتحقيق موضوعه، ومثال الأول شكنا في
وجوب صلاة العيد أو في حرمة التدخين، ويسمى بالشبهة الحكمية.
ومثال الثاني: شكنا في وجوب الحج لعدم العلم بتوفر الاستطاعة، ومع

(1) الاسراء / 15.
119

علمنا بأن الشارع جعل وجوب الحج على المستطيع. وإن شئت قلت إن
المكلف في الشبهة الحكمية يشك في الجعل وفي الشبهة الموضوعية يشك في
المجعول وكل منهما مجرى للبراءة شرعا.
3 - قاعدة منجزية العلم الاجمالي
تمهيد
قد تعلم أن أخاك الأكبر قد سافر إلى مكة، وقد تشك في سفره، لكنك
تعلم على أي حال أن أحد أخويك " الأكبر أو الأصغر " قد سافر فعلا إلى
مكة، وقد تشك في سفرهما معا ولا تدري هل سافر واحد منهما إلى مكة أو
لا؟.
فهذه حالات ثلاث، ويطلق على الحالة الأولى اسم " العلم التفصيلي " لأنك
في الحالة الأولى تعلم أن أخاك الأكبر قد سافر إلى مكة، وليس لديك في
هذه الحقيقة أي تردد أو غموض، فلهذا كان العلم تفصيليا. ويطلق على
الحالة الثانية اسم " العلم الاجمالي "، لأنك في هذه الحالة تجد في نفس عنصرين
مزدوجين: أحدهما عنصر الوضوح، والآخر عنصر الخلفاء، فعنصر الوضوح
يتمثل في علمك بأن أحد أخويك قد سافر فعلا، فأنت لا تشك في هذه
الحقيقة، وعنصر الخلفاء والغموض يتمثل في شك وترددك في تعيين هذا
الأخ، ولهذا تسمى هذه الحالة ب‍ " العلم الاجمالي " فهي علم لأنك لا تشك في
سفر أحد أخويك، وهي إجمال وشك لأنك لا تدري أي أخويك قد سافر.
ويسمى كل من سفر الأخ الأكبر وسفر الأصغر طرفا للعلم الاجمالي،
لأنك تعلم أن أحدهما لا على سبيل التعيين قد سافر بالفعل.
وأفضل صيغة لغوية تمثل هيكل العلم الاجمالي ومحتواه النفسي بكلا
120

عنصريه هي " إما وإما " إذ تقول في المثال المتقدم: " سافر اما أخي الأكبر
واما أخي الأصغر " فإن جانب الاثبات في هذه الصيغة يمثل عنصر الوضوح
والعلم، وجانب التردد الذي تصوره كلمة " إما " يمثل عنصر الخفاء والشك
وكلما أمكن استخدام صيغة من هذا القبيل دل على وجود علم إجمالي في
نفوسنا.
ويطلق على الحالة الثالثة اسم " الشك الابتدائي " أو " البدوي " أو
" الساذج " وهو شك محض غير ممتزج بأي لون من العلم، ويسمى بالشك
الابتدائي أو البدوي تمييزا له عن الشك في طرف العلم الاجمالي، لان الشك
في طرف العلم الاجمالي يوجد نتيجة للعلم نفسه، فأنت تشك في أن المسافر هل
هو أخوك الأكبر أو الأصغر نتيجة لعلمك بأن أحدهما لا على التعيين قد
سافر حتما، وأما الشك في الحالة الثالثة فيوجد بصورة ابتدائية دون علم مسبق.
وهذه الحالات الثلاث توجد في نفوسنا تجاه الحكم الشرعي، فوجوب
صلاة أصبح معلوم تفصيلا، ووجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة مشكوك
شكا ناتجا عن العلم الاجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة في ذلك اليوم، ووجوب
صلاة العيد مشكوك ابتدائي غير مقترن بالعلم الاجمالي. وهذه الأمثلة كلها
من الشبهة الحكمية، ونفس الأمثلة يمكن تحصيلها من الشبهة الموضوعية
فتكون تارة عالما تفصيلا بوقوع قطرة دم في هذا الاناء، وأخرى عالما إجمالا
بوقوعها في أحد إناءين وثالثة شاكا في أصل وقوعها شكا يدويا.
ونحن في حديثنا عن القاعدة العملية الثانوية التي قلبت القاعدة العملية
الأساسية كنا نتحدث عن الحالة الثالثة، أي حالة الشك البدوي الذي لم
يقترن بالعلم الاجمالي.
والآن ندرس حالة الشك الناتج عن العلم الاجمالي، أي الشك في الحالة
الثانية من الحالات الثلاث السابقة، وهذا يعني أننا درسنا الشك بصورته
121

الساذجة وندرسه الآن بعد أن نضيف إليه عنصرا جديدا وهو العلم الاجمالي،
فهل تجري فيه القاعدة العلمية الثانوية كما كانت تجري في موارد الشك
البدوي أو لا؟.
منجزية العلم الاجمالي
وعلى ضوء ما سبق يمكننا تحليل العلم الاجمالي إلى علم بأحد الامرين وشك
في هذا وشك في ذاك.
ففي يوم الجمعة نعلم بوجوب أحد الامرين " صلاة الظهر أو صلاة
الجمعة " ونشك في وجوب الظهر كما نشك في وجوب الجمعة، والعلم بوجوب
أحد الامرين - بوصفه علما - تشمله قاعدة حجية القطع التي درسناها في بحث
سابق، فلا يسمح لنا العقل لاجل ذلك بترك الامرين معا الظهر والجمعة -،
لأننا لو تركناهما معا لخالفنا علمنا بوجوب أحد الامرين، والعلم حجة عقلا
في جميع الأحوال سواء كان إجماليا أو تفصيليا.
ويؤمن الرأي الأصولي السائد في مورد العلم الاجمالي - لا بثبوت الحجية
للعلم بأحد الامرين فحسب - بل بعدم إمكان انتزاع هذه الحجية منه أيضا
واستحالة ترخيص الشارع في مخالفته بترك الامرين معا، كما لا يمكن للشارع
أن ينتزع الحجية من العلم التفصيلي ويرخص في مخالفته وفقا لما تقدم في بحث
القطع من استحالة صدور الردع من الشارع عن القطع.
وأما كل واحد من طرفي العلم الاجمالي - أي وجوب الظهر بمفرده
ووجوب الجمعة بمفرده - فهو تكليف مشكوك وليس معلوما.
وقد يبدو لأول وهلة أن بالامكان أن تشمله القاعدة العملية الثانوية أي
أصالة البراءة النافية للاحتياط في التكاليف المشكوكة، لان كلا من الطرفين
تكليف مشكوك.
122

ولكن الرأي السائد في علم الأصول يقوم بعدم إمكان شمول القاعدة
العملية الثانوية لطرف العلم الاجمالي، بدليل أن شمولها لكلا الطرفين معا
يؤدي إلى براءة الذمة من الظهر والجمعة وجواز تركهما معا، وهذا يتعارض
مع حجية القطع بوجوب أحد الامرين، لان حجية هذا القطع تفرض علينا
أن نأتي بأحد الامرين على أقل تقدير. فلو حكم الشارع بالبراءة في كل من
الطرفين لكان معنى ذلك الترخيص منه في مخالفة العلم، وهو مستحيل كما
تقدم.
وشمول القاعدة لاحد الطرفين دون الآخر - وإن لم يؤد إلى الترخيص في
ترك الامرين معا - لكنه غير ممكن أيضا، لأننا نتسأل حينئذ أي الطرفين
نفترض شمول القاعدة له ونرجحه على الآخر، وسوف نجد أنا لا نملك مبررا
لترجيع أي من الطرفين على الآخر، لان صلة القاعدة بهما واحدة.
وهكذا ينتج عن هذا الاستدلال القول بعدم شمول القاعدة العملية
الثانوية " أصالة البراءة " لاي واحد من الطرفين، ويعني هذا أن كل طرف
من أطراف العلم الاجمالي يظل مندرجا ضمن نطاق القاعدة العملية الأساسية
القائلة بالاحتياط ما دامت القاعدة الثانوية عاجزة عن شموله.
وعلى هذا الأساس ندرك الفرق بين الشك البدوي والشك الناتج عن العلم
الاجمالي، فالأول يدخل في نطاق القاعدة الثانوية وهي أصالة البراءة، والثاني
يدخل في نطاق القاعدة الأولية وهي أصالة الاحتياط.
وفي ضوء ذلك نعرف أن الواجب علينا عقلا في موارد العلم الاجمالي هو
الاتيان بكلا الطرفين - أي الظهر والجمعة في المثال السابق -، لان كلام منهما
داخل في نطاق أصالة الاحتياط.
ويطلق في علم الأصول على الاتيان بالطرفين معا اسم " الموافقة القطعية "
123

لان المكلف عند إتيانه بهما معا يقطع بأنه وافق تكليف المولى، كما يطلق على
ترك الطرفين معا اسم " المخالفة القطعية ".
وأما الاتيان بأحدهما وترك الآخر فيطلق عليهما اسم " الموافقة الاحتمالية "
و " المخالفة الاحتمالية " لان المكلف في هذه الحالة يحتمل أنه وافق تكليف
المولى ويحتمل أنه خالفه.
انحلال العلم الاجمالي:
إذا وجدت كأسين من ماء قد يكون كلاهما نجسا وقد يكون أحدهما
نجسا فقط، ولكنك تعلم على أي حال بأنهما ليسا طاهرين معا، فينشأ في
نفسك علم إجمالي بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين، فإذا إتفق لك
بعد ذلك أن اكتشفت نجاسة في أحد الكأسين وعلمت أن هذا الكأس المعين
نجس، فسوف يزول علمك الاجمالي بسبب هذا العلم التفصيلي، لأنك الآن
بعد اكتشافك نجاسة ذلك الكأس المعين لا تعلم إجمالا بنجاسة أحد الكأسين
لا على سبيل التعيين، بل تعلم بنجاسة ذلك الكأس المعين علما تفصيليا وتشك
في نجاسة الآخر. لاجل هذا لا تستطيع أن تستعمل الصيغة اللغوية التي تعبر
عن العلم الاجمالي " إما وإما "، فلا يمكنك أن تقول: " إما هذا نجس أو
ذاك " بل هذا نجس جزما وذاك لا تدري بنجاسته.
ويعبر عن ذلك في العرف ب‍ " إنحلال العلم الاجمالي إلى العلم
التفصيلي بأحد الطرفين والشك البدوي في الآخر " لان نجاسة ذلك الكأس
المعين أصبحت معلومة بالتفصيل ونجاسة الآخر أصبحت مشكوكة شكا
إبتدائيا بعد أن زال العلم الاجمالي، فيأخذ العلم التفصيلي مفعوله من الحجية
وتجري بالنسبة إلى الشك الابتدائي أصالة البراءة أي القاعدة العلمية الثانوية
التي تجري في جميع موارد الشك الابتدائي.
124

موارد التردد
عرفنا أن الشك إذا كان بدويا حكمت فيه القاعدة العملية الثانوية القائلة
بأصالة البراءة، وإذا كان مقترنا بالعلم الاجمالي حكمت فيه القاعدة العلمية
الأولية.
وقد يخفى أحيانا نوع الشك فلا يعلم أهو من الشك الابتدائي أو من
الشك المقترن بالعلم الاجمالي - أو الناتج عنه بتعبير آخر -؟ ومن هذا القبيل
مسألة دوران الامر بين الأقل والأكثر كما يسميها الأصوليون، وهي أن
يتعلق وجوب شرعي بعملية مركبة من أجزاء كالصلاة ونعلم باشتمال العملية
على تسعة أجزاء معينة ونشك في اشتمالها على جزء عاشر ولا يوجد دليل يثبت
أو ينفي، ففي هذه الحالة يحاول الفقيه أن يحدد الموقف العملي فيتساءل هل
يجب الاحتياط على المكلف فيأتي بالتسعة ويضيف إليها هذا العاشر الذي
يحتمل دخوله نطاق الواجب لكي يكون مؤديا للواجب على كل تقدير أو
يكفيه الاتيان بالتسعة التي يعلم بوجوبها ولا يطالب بالعاشر المجهول وجوبه؟
وللأصوليين جوابان مختلفان على هذا السؤال يمثل كل منهما اتجاها في
تفسير الموقف، فأحد الاتجاهين يقول بوجوب الاحتياط تطبيقا للقاعدة
العملية الأولية، لان الشك في العاشر مقترن بالعلم الاجمالي، وهذا العلم
الاجمالي هو علم المكلف بأن الشارع أوجب مركبا ما ولا يدري أهو المركب
من تسعة أو المركب من عشرة - أي من تلك التسعة بإضافة واحد -؟
والاتجاه الآخر يطبق على الشك في وجوب العاشر القاعدة العملية الثانوية
بوصفه شكا إبتدائيا غير مقترن بالعلم الاجمالي، لان ذلك العلم الاجمالي الذي
يزعمه أصحاب الاتجاه الأول منحل بعلم تفصيلي، وهو علم المكلف بوجوب
التسعة على أي حال لأنها واجبة سواء كان معها جزء عاشر أو لا، فهذا العلم
التفصيلي يؤدي إلى إنحلال ذلك العلم الاجمالي، ولهذا لا يمكن أن نستعمل
125

الصيغة اللغوية التي تعبر عن العلم الاجمالي، فلا يمكن القول بأننا نعلم إما
بوجوب التسعة أو بوجوب العشرة، بل نحن نعلم بوجوب التسعة على أي حال
ونشك في وجوب العاشر.
وهكذا يصبح الشك في وجوب العاشر شكا إبتدائيا بعد إنحلال العلم
الاجمالي فتجري البراءة.
والصحيح هو القول بالبراءة عن غير الاجزاء المعلومة من الأشياء التي
يشك في دخولها ضمن نطاق الواجب كما ذكرناه.
4 - الاستصحاب
على ضوء ما سبق نعرف أن أصل البراءة يجري في موارد الشبهة البدوية
دون الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي.
ويوجد في الشريعة أصل آخر نظير أصل البراءة وهو ما يطلق عليه
الأصوليون اسم " الاستصحاب ".
ومعنى الاستصحاب حكم الشارع على المكلف بالالتزام عمليا بكل شئ
كان على يقين منه ثم شك في بقائه.
ومثاله: أنا على يقين من أن الماء بطبيعته طاهر، فإذا أصابه شئ متنجس
نشك في بقاء طهارته، لأننا لا نعلم أن الماء هل يتنجس بإصابة المتنجس له أو
لا؟
والاستصحاب يحكم على المكلف بالالتزام عمليا بنفس الحالة السابقة التي
كان على يقين بها، وهي طهارة الماء في المثال المتقدم. ومعنى الالتزام عمليا
بالحالة السابقة ترتيب آثار الحالة السابقة من الناحية العملية، فإذا كانت الحالة
126

السابقة هي الطهارة نتصرف فعلا كما إذا كانت الطهارة باقية، وإذا كانت
الحالة السابقة هي الوجوب نتصرف فعلا كما إذا كان الوجوب باقيا وهكذا
والدليل على الاستصحاب هو قول الإمام الصادق عليه السلام: في صحيحة
زرارة " ولا ينقض اليقين بالشك ".
ونستخلص من ذلك أن كل حالة من الشك البدوي يتوفر فيها القطع
بشئ أو لا والشك في بقائه ثانيا يجري فيها الاستصحاب.
الحالة السابقة المتيقنة:
عرفنا أن وجود حالة سابقة متيقنة شرط أساسي لجريان الاستصحاب،
والحالة السابقة قد تكون حكما عاما نعلم بجعل الشارع له وثبوته في العالم
التشريعي ولا ندري حدود هذا الحكم المفروضة له في جعله ومدى امتداده
في عالمه التشريعي، فتكون الشبهة حكمية، ويجري الاستصحاب في نفس
الحكم كاستصحاب بقاء طهارة الماء بعد إصابة المتنجس له ويسمى
بالاستصحاب الحكمي.
وقد تكون الحالة السابقة شيئا من أشياء العالم التكويني، نعلم بوجوده سابقا
ولا ندري باستمراره وهو موضوع للحكم الشرعي، فتكون الشبهة موضوعية
ويجري الاستصحاب في موضوع الحكم ومثاله استصحاب عدالة الامام الذي
يشك في طرو فسقه واستصحاب نجاسة الثوب الذي يشك في طرو المطهر
عليه ويسمى بالاستصحاب الموضوعي، لأنه استصحاب موضوع، لحكم شرعي
وهو جواز الائتمام في الأول وعدم جواز الصلاة في الثاني.
ويوجد في عالم الأصول إتجاه ينكر جريان الاستصحاب في الشبهة
الحكمية ويخصه بالشبهة الموضوعية، ولا شك في أن الاستصحاب في الشبهة
الموضوعية هو المتيقن من دليله لان صحيحة زرارة التي ورد فيها أعطاء
127

الامام للاستصحاب تتضمن شبهة موضوعية وهي الشك في طرو النوم
الناقض، ولكن هذا لا يمنع عن التمسك بإطلاق كلام الامام في قوله، ولا
ينقض اليقين بالشك لاثبات عموم القاعدة لجميع الحالات، فعلى مدعي
الاختصاص أن يبرز قرينة على تقييد هذا الاطلاق.
الشك في البقاء:
والشك في البقاء هو الشرط الأساسي الآخر لجريان الاستصحاب. ويقسم
الأصوليون الشك في البقاء إلى قسمين تبعا لطبيعة الحالة السابقة التي نشك في
بقائها لان الحالة السابقة قد تكون قابلة بطبيعتها للامتداد زمانيا، وإنما نشك
في بقائها نتيجة لاحتمال وجود عامل خارجي أدى إلى ارتفاعها.
ومثال ذلك: طهارة الماء، فإن طهارة الماء تستمر بطبيعتها وتمتد إذا لم
يتدخل عامل خارجي، وإنما نشك في بقائها لدخول عامل خارجي في
الموقف، وهو إصابة المتنجس للماء.
وكذلك نجاسة الثوب، فإن الثوب إذا تنجس تبقى نجاسته وتمتد ما لم
يوجد عامل خارجي وهو الغسل، ويسمى الشك في بقاء الحالة السابقة التي
من هذا القبيل ب‍ " الشك في الرافع ". وقد تكون الحالة السابقة غير قادرة
على الامتداد زمانيا، بل تنتهي بطبيعتها في وقت معين ونشك في بقائها نتيجة
لاحتمال انتهائها بطبيعتها دون تدخل عامل خارجي في الموقف. ومثاله: نهار
شهر رمضان الذي يجب فيه الصوم إذا شك الصائم في بقاء النهار، فإن النهار
ينتهي بطبيعته ولا يمكن أن يمتد زمانيا، فالشك في بقائه لا ينتج عن احتمال
وجود عامل خارجي وإنما هو نتيجة لاحتمال انتهاء النهار بطبيعته واستنفاده
لطاقته وقدرته على البقاء.
ويسمى الشك في بقاء الحالة السابقة التي من هذا القبيل ب‍ " الشك في
128

المقتضي "، لان الشك في مدى اقتضاء النهار واستعداده للبقاء. ويوجد في
علم الأصول إتجاه ينكر جريان الاستصحاب إذا كان الشك في بقاء الحالة
السابقة من نوع الشك في المقتضي ويخصه بحالات الشك في الرافع. والصحيح
عدم الاختصاص تمسكا باطلاق دليل الاستصحاب.
وحدة الموضوع في الاستصحاب:
ويتفق الأصوليون على أن من شروط الاستصحاب وحدة الموضوع،
ويعنون بذلك أن يكون الشك منصبا على نفس الحالة التي كنا على يقين بها
فلا يجري الاستصحاب إذا كان المشكوك والمتيقن متغايرين مثلا: إذا كنا
على يقين بنجاسة الماء ثم صار بخارا وشككنا في نجاسة هذا البخار لم يجر هذا
الاستحباب: لان ما كنا على يقين بنجاسته هو الماء وما نشك فعلا في
نجاسته هو البخار والبخار غير الماء، فلم يكن مصب اليقين والشك واحدا.
129

تعارض الأدلة
عرفنا فيما سبق أن الأدلة على قسمين: وهما الأدلة المحرزة والأصول
العملية، ومن هنا يقع البحث تارة في التعارض بين دليلين من الأدلة المحرزة،
وأخرى في التعارض بين أصلين عمليين، وثالثة في التعارض بين دليل محرز
وأصل عملي، فالكلام في ثلاث نقاط نذكرها فيما يلي تباعا إن شاء الله تعالى.
1 التعارض بين الأدلة المحرزة
والتعارض بين دليلين محرزين معناه التنافي بين مدلوليهما، وهو على أقسام
منها أن يحصل في نطاق الدليل الشرعي اللفظي بين كلامين صادرين من
المعصوم، ومنها أن يحصل بين دليل شرعي لفظي ودليل عقلي، ومنها أن
يحصل بين دليلين عقليين.
حالة التعارض بين دليلين لفظيين:
في حالة التعارض بين دليلين لفظيين توجد قواعد نستعرض فيما يلي عددا
منها:
1 - من المستحيل أن يوجد كلامان للمعصوم يكشف كل منهما بصورة
قطعية عن نوع من الحكم يختلف عن الحكم الذي يكشف عنه الكلام الآخر،
لان التعارض بين كلامين صريحين من هذا القبيل يؤدي إلى وقوع المعصوم
130

في التناقض، وهو مستحيل.
2 - قد يكون أحد الكلامين الصادرين من المعصوم نصا صريحا وقطعيا،
ويدل الآخر بظهوره على ما ينافي المعنى الصريح لذلك الكلام.
ومثاله: أن يقول الشارع في حديث مثلا: " يجوز للصائم أن يرتمس في
الماء حال صومه " ويقول في حديث آخر: " لا ترتمس في الماء وأنت صائم "،
فالكلام الأول دال بصراحة على إباحة الارتماس للصائم، والكلام الثاني
يشتمل على صيغة نهي، وهي تدل بظهورها على الحرمة لان الحرمة هي
أقرب المعاني إلى صيغة النهي وأن أمكن استعمالها في الكراهة مجازا، فينشأ
التعارض بين صراحة النص الأول في الإباحة وظهور النص الثاني في الحرمة،
لان الإباحة والحرمة لا يجتمعان. وفي الحالة يجب الاخذ بالكلام الصريح
القطعي لأنه يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي فنفسر الكلام الآخر على ضوئه
ونحمل صيغة النهي فيه على الكراهة لكي ينسجم مع النص الصريح القطعي
الدال على الإباحة. وعلى هذا الأساس يتبع الفقيه في استنباطه قاعدة عامة،
وهي الاخذ بدليل الإباحة والرخصة إذا عارضه دليل آخر يدل على الحرمة
أو الوجوب بصيغة نهي أو أمر، لان الصيغة ليست صريحة ودليل الإباحة
والرخصة صريح غالبا.
3 - قد يكون موضوع الحكم الذي يدل عليه أحد الكلامين أضيق
نطاقا وأخص دائرة من موضوع الحكم الذي يدل عليه الكلام الآخر. ومثاله
أن يقال في نص: " الربا حرام " ويقال في نص آخر: " الربا بين الوالد وولده
مباح " فالحرمة التي يدل عليها النص الأول موضوعها عام، لأنها تمنع
بإطلاقها عن التعامل الربوي مع أي شخص، والإباحة في النص الثاني
موضوعها خاص، لأنها تسمح بالربا بين الوالد وولده خاصة، وفي هذه الحالة
تقدم النص الثاني على الأول، لأنه يعتبر بوصفه أخص موضوعا من الأول
131

قرينة عليه، بدليل أن المتكلم لو أوصل كلامه الثاني بكلامه الأول فقال:
" الربا في التعامل مع أي شخص حرام، ولا بأس به بين الوالد وولده "
لأبطل الخاص مفعول العام وظهوره في العموم.
وقد عرفنا سابقا أن القرينة تقدم على ذي القرينة، سواء كانت متصلة أو
منفصلة.
ويسمى تقديم الخاص على العام تخصيصا للعام إذا كان عمومه ثابتا بأداة
من أدوات العموم، وتقليدا له إذا كان عمومه ثابتا بالاطلاق وعدم ذكر
القيد. ويسمى الخاص في الحالة الأولى " مخصصا " وفي الحالة الثانية " مقيدا ".
وعلى هذا الأساس يتبع الفقيه في الاستنباط قاعدة عامة، وهي الاخذ
بالمخصص والمقيد وتقديمهما على العام والمطلق. إلا أن العام والمطلق يظل
حجة في غير ما خرج بالتخصيص والتقييد، إذ لا يجوز رفع اليد عن الحجة
إلا بمقدار ما تقوم الحجة على الأقوى على الخلاف لا أكثر.
4 - وقد يكون أحد الكلامين دالا على ثبوت حكم لموضوع، والكلام
الآخر ينفي ذلك في حالة معينة بنفي ذلك الموضوع. ومثاله أن يقال في كلام
". يجب الحج على المستطيع " ويقال في كلام آخر: " المدين ليس مستطيعا "
فالكلام الأول يوجب الحج على موضوع محدد وهو المستطيع والكلام الثاني
ينفي صفة المستطيع عن المدين، فيؤخذ بالثاني ويسمى " حاكما " ويسمى
الدليل الأول " محكوما ".
وتسمى القواعد التي اقتضت تقديم أحد الدليلين على الآخر في هذه
الفقرة والفقرتين السابقتين بقواعد الجمع العرفي.
5 - إذا لم يوجد في النصين المتعارضين كلام صريح قطعي، ولا ما
يصلح أن يكون قرينة على تفسير الآخر ومخصصا له أو مقيدا أو حاكما عليه
فلا يجوز العمل بأي واحد من الدليلين المتعارضين لأنهما على مستوى واحد
132

ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.
حالات التعارض الأخرى
وحالات التعارض بين دليل لفظي ودليل من نوع آخر أو دليلين من غير
الأدلة اللفظية لها قواعد أيضا نشير إليها ضمن النقاط التالية:
1 - الدليل اللفظي القطعي لا يمكن أن يعارضه دليل عقلي قطعي، لان
دليلا من هذا القبيل إذا عارض نصا صريحا من المعصوم عليه السلام أدى
ذلك إلى تكذيب المعصوم (ع) وتخطئته وهو مستحيل.
ولهذا يقول علماء الشريعة: إن من المستحيل أن يوجد أي تعارض بين
النصوص الشريعة الصريحة وأدلة العقل القطعية.
وهذه الحقيقة لا تفرضها العقيدة فحسب، بل يبرهن عليها الاستقراء في
النصوص الشرعية ودراسة المعطيات القطعية للكتاب والسنة، فإنها جميعا تتفق
مع العقل ولا يوجد فيها ما يتعارض مع أحكام العقل القطعية إطلاقا.
2 - إذا وجد تعارض بين دليل لفظي ودليل آخر ليس لفظيا ولا
قطعيا قدمنا الدليل اللفظي لأنه حجة، وأما الدليل غير اللفظي فهو ليس
حجة ما دام لا يؤدي إلى القطع.
3 - إذا عارض الدليل اللفظي غير الصريح دليلا عقليا قطعيا قدم
العقلي على اللفظي، لان العقلي يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي، وأما الدليل
اللفظي يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي، وأما الدليل اللفظي غير الصريح فهو
إنما يدل بالظهور، والظهور إنما يكون حجة بحكم الشارع إذا لم نعلم ببطلانه،
ونحن هنا على ضوء الدليل العقلي القطعي نعلم بأن الدليل اللفظي لم يرد
المعصوم (ع) منه معناه الظاهر الذي يتعارض مع دليل العقل، فلا مجال
للاخذ بالظهور.
133

4 - إذا تعارض دليلان من غير الأدلة اللفظية فمن المستحيل أن يكون
كلاهما قطعيا، لان ذلك يؤدي إلى التناقض، وإنما قد يكون أحدهما قطعيا
دون الآخر، فيؤخذ بالدليل القطعي.
2 - التعارض بين الأصول
وأما التعارض بين الأصول فالحالة البارزة له هي التعارض بين البراءة
والاستصحاب، ومثالها أنا نعلم بوجوب الصوم عند طلوع الفجر من نهار شهر
رمضان حتى غروب الشمس ونشك في بقاء الوجوب بعد الغروب إلى غياب
الحمرة، ففي هذه الحالة تتوفر أركان الاستصحاب من اليقين بالوجوب أو لا
والشك في بقائه ثانيا، وبحكم الاستصحاب يتعين الالتزام عمليا ببقاء
الوجوب.
ومن ناحية أخرى نلاحظ أن الحالة تندرج ضمن نطاق أصل البراءة لأنها
شبهة بدوية في التكليف غير مقترنة بالعلم الاجمالي، وأصل البراءة ينفي وجوب
الاحتياط ويرفع عنا الوجوب عمليا، فبأي الأصلين نأخذ؟
والجواب أنا نأخذ بالاستصحاب ونقدمه على أصل البراءة، وهذا متفق
عليه بين الأصوليين، والرأي السائد بينهم لتبرير ذلك أن دليل الاستصحاب
حاكم على دليل أصل البراءة، لان دليل أصل البراءة هو النص النبوي القائل
" رفع ما لا يعلمون " وموضوعه كل ما لا يعلم، ودليل الاستصحاب هو
النصل القائل " لا ينقض اليقين أبدا بالشك " وبالتدقيق في النصين نلاحظ أن
دليل الاستصحاب يلغي الشك ويفترض كأن اليقين باق على حاله، فيرفع
بذلك موضوع أصل البراءة.
ففي مثال وجوب الصوم، لا يمكن أن نستند إلى أصل البراءة عن وجوب
الصوم بعد غروب الشمس بوصفه وجوبا مشكوكا، لان الاستصحاب
134

يفترض هذا الوجوب معلوما، فيكون دليل الاستصحاب حاكما على دليل
البراءة، لأنه ينفي موضوع البراءة.
3 - التعارض بين النوعين
ونصل الآن إلى فرضية التعارض بين دليل محرز وأصل عملي كأصل
البراءة أو الاستصحاب.
والحقيقة أن الدليل إذا كان قطعيا فالتعارض غير متصور عقلا بينه وبين
الأصل، لان الدليل القطعي على الوجوب مثلا يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي
ومع العلم بالحكم الشرعي لا مجال للاستناد إلى أي قاعدة عملية، لان القواعد
العملية إنما تجري في ظرف الشك، إذ قد عرفنا سابقا أن أصل البراءة
موضوعه كل ما لا يعلم، والاستصحاب موضوعه أن نشك في بقاء ما كنا
على يقين منه، فإذا كان الدليل قطعيا لم يبق موضوع هذه الأصول والقواعد
العملية.
وإنما يمكن إفتراض لون من التعارض من الدليل والأصل إذا لم يكن
الدليل قطعيا، كما إذا دل خبر الثقة على الوجوب أو الحرمة - وخبر الثقة كما
مر بنا دليل ظني حكم الشارع بوجوب إتباعه واتخاذه دليلا - وكان أصل
البراءة من ناحية أخرى يوسع ويرخص.
ومثاله: خبر الثقة الدال على حرمة الارتماس على الصائم، فإن هذه الحرمة
إذا لاحظناها من ناحية الخبر فهي حكم شرعي قد قام عليه الدليل الظني،
وإذا لاحظناها بوصفها تكليفا غير معلوم نجد أن دليل البراءة - رفع ما لا
يعلمون - يشملها فهل يحدد الفقيه في هذه الحالة موقفه على أساس الدليل
الظني المعتبر أو على أساس الأصل العملي؟.
135

ويسمى الأصوليون الدليل الظني بالامارة، ويطلقون على هذه الحالة اسم
التعارض بين الامارات والأصول.
ولا شك في هذه الحالة لدى علماء الأصول في تقديم خبر الثقة وما إليه
من الأدلة الظنية المعتبرة على أصل البراءة ونحوه من الأصول العملية، لان
الدليل الظني الذي حكم الشارع بحجيته يؤدي بحكم الشارع هذا دور الدليل
القطعي، فكما أن الدليل القطعي بنفي موضوع الأصل ولا يبقي مجالا لاي
قاعدة عملية، فكذلك الدليل الظني الذي أسند إليه الشارع نفس الدور
وأمرنا باتخاذه دليلا، ولهذا يقال عادة: إن الامارة حاكمة على الأصول
العملية.
136

الحلقة الثانية
137

الحلقة الثانية
1 - تمهيد
2 - الأدلة
3 - تعارض الأدلة
تمهيد
1 - تعريف علم الأصول
2 - موضوع علم الأصول وفائدته
3 - الحكم الشرعي وتقسيمه
4 - تنوع البحوث الأصولية
5 - حجية القطع وأحكامه.
139

بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف علم الأصول
يعرف علم الأصول عادة بأنه " العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم
الشرعي ".
وتوضيح ذلك: إن الفقيه في استنباطه مثلا للحكم بوجوب رد التحية من
قوله تعالى " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " (1) يستعين
بظهور صيغة الامر في الوجوب، وحجية الظهور. فهاتان قاعدتان ممهدتان
لاستنباط الحكم الشرعي بوجوب رد التحية. وقد يلاحظ على التعريف أن
تقييد القاعدة بوصف التمهيد يعني أنها تكتسب أصوليتها من تمهيدها
وتدوينها لغرض الاستنباط، مع أننا نطلب من التعريف إبداء الضابط
الموضوعي الذي بموجبه يدون علماء الأصول في علمهم هذه المسألة دون
تلك، ولهذا قد تحذف كلمة التمهيد ويقال إنه العلم بالقواعد التي تقع في
طريق الاستنباط. ولكن يبقى هناك إعتراض أهم وهو أنه لا يحقق الضابط
المطلوب، لان مسائل اللغة كظهور كلمة الصعيد تقع في طريق الاستنباط
أيضا، ولهذا كان الأولى تعريف علم الأصول بأنه: العلم بالعناصر المشتركة في
عملية الاستنباط. ونقصد بالاشتراك صلاحية العنصر للدخول في استنباط
حكم أي مورد من الموارد التي يتصدى الفقيه لاستنباط حكمها مثل ظهور
صيغة الامر في الوجوب، فإنه قابل لان يستنبط منه وجوب الصلاة أو

(1) النساء: 86
141

وجوب الصوم وهكذا. وبهذا تخرج أمثال مسألة ظهور كلمة الصعيد عن علم
الأصول، لأنها عنصر خاص لا يصلح للدخول في استنباط حكم غير متعلق
بمادة الصعيد.
142

موضوع علم الأصول وفائدته
موضوع علم الأصول
يذكر لكل علم موضوع عادة، ويراد به ما يكون جامعا بين موضوعات
مسائله، وينصب البحث في المسائل على أحوال ذلك الموضوع وشؤونه،
كالكلمة العربية بالنسبة إلى النحو مثلا
وعلى هذا الأساس حاول علماء الأصول تحديد موضوع لعلم الأصول،
فذكر المتقدمون منهم أن موضوعه هو: الأدلة الأربعة (الكتاب والسنة
والاجماع والعقل) واعترض على ذلك: بأن الأدلة الأربعة ليست عنوانا
جامعا بين موضوعات مسائله جميعا، فمسائل الاستلزامات مثلا موضوعها
الحكم، إذ يقال مثلا: إن الحكم بالوجوب على شئ هل يستلزم تحريم ضده أو
لا؟ ومسائل حجية الامارات الظنية كثيرا ما يكون موضوعها الذي يبحث
عن حجيته شيئا خارجا عن الأدلة الأربعة، كالشهرة وخبر الواحد، ومسائل
الأصول العملية موضوعها الشك في التكليف على أنحائه وهو أجنبي عن الأدلة
الأربعة أيضا.
ولهذا ذكر جملة من الأصوليين: أن علم الأصول ليس له موضوع واحد،
وليس من الضروري أن يكون للعلم موضوع كون جامع بين موضوعات
مسائله. غير أن بالامكان توجيه ما قيل أولا من كونه الأدلة هي الموضوع مع
عدم الالتزام بحصرها في الأدلة الأربعة بان نقول: إن موضوع علم الأصول
143

هو كل ما يترقب أن يكون دليلا وعنصرا مشتركا في عملية استنباط الحكم
الشرعي والاستدلال عليه، والبحث في كل مسألة أصولية، إنما يتناول شيئا
مما يترقب أن يكون كذلك، ويتجه إلى تحقيق دليليته والاستدلال عليها إثباتا
ونفيا، فالبحث في حجية الظهور أو خبر الواحد أو الشهرة بحث في دليليتها،
والبحث في أن الحكم بالوجوب على شئ، هل يستلزم تحريم ضده بحث في
دليلية الحكم بوجوب شئ على حرمة الضد، ومسائل الأصول العملية يبحث
فيها عن دليلية الشك وعدم البيان على المعذرية، وهكذا. فصح أن موضوع
علم الأصول هو الأدلة المشتركة في الاستدلال الفقهي، والبحث الأصولي
يدور دائما حول دليليتها.
فائدة علم الأصول
اتضح مما سبق أن لعلم الأصول فائدة كبيرة للاستدلال الفقهي، وذلك
أن الفقيه في كل مسألة فقهية يعتمد على نمطين من المقدمات في استدلاله
الفقهي:
أحدهما: عناصر خاصة بتلك المسألة من قبيل الرواية التي وردت في
حكمها، وظهورها في إثبات الحكم المقصود، وعدم وجود معارض لها ونحو
ذلك.
والآخر: عناصر مشتركة تدخل في الاستدلال على حكم تلك المسألة وفي
الاستدلال على حكم مسائل أخرى كثيرة في مختلف أبواب الفقه، من قبيل
أن خبر الواحد الثقة حجة وان ظهور الكلام حجة.
والنمط الأول من المقدمات يستوعبه الفقيه بحثا في نفس تلك المسألة، لان
ذلك النمط من المقدمات مرتبط بها خاصة. وأما النمط الثاني فهو بحكم عدم
اختصاصه بمسألة دون أخرى، أنيط ببحث آخر خارج نطاق البحث الفقهي
144

في هذه المسألة وتلك، وهذا البحث الآخر هو الذي يعبر عنه علم الأصول،
وبقدر ما اتسع الالتفات تدريجا من خلال البحث الفقهي إلى العناصر
المشتركة، اتسع علم الأصول وازداد أهمية، وبذلك صح القول: بأن دور علم
الأصول بالنسبة إلى الاستدلال الفقهي يشابه دور علم المنطق بالنسبة إلى
الاستدلال بوجه عام، حيث إن علم المنطق يزود الاستدلال بوجه عام
بالعناصر المشتركة التي لا تختص بباب من أبواب التكفير دون باب، وعلم
الأصول يزود الاستدلال الفقهي خاصة بالعناصر المشتركة التي لا تختص
بباب من أبواب الفقه دون باب.
145

الحكم الشرعي وتقسيمه
الحكم الشرعي هو التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الانسان
وتوجيهه، وهو على قسمين: أحدهما: الأحكام التكليفية التي تتعلق بأفعال
الانسان ولها توجيه عملي مباشر، والآخر: الاحكام الوضيعة التي ليس لها
توحيه عملي مباشر، وكثيرا ما تقع موضوعا لحكم تكليفي كالزوجية التي تقع
موضوعا لوجوب النفقة مثلا.
مبادئ الحكم التكليفي
ونحن إذا حللنا عملية الحكم التكليفي كالوجوب - كما يمارسها أي مولى
في حياتنا الاعتيادية - نجد أنها تنقسم إلى مرحلتين: إحداهما: مرحلة الثبوت
للحكم، والأخرى مرحلة الاثبات والابراز، فالمولى في مرحلة الثبوت يحدد
ما يشتمل عليه الفعل من مصلحة - وهي ما يسمى بالملاك - حتى إذا أدرك
وجود مصلحة بدرجة معينة فيه تولدت إرادة لذلك الفعل بدرجة تتناسب
مع المصلحة المدركة، وبعد ذلك يصوغ المولى إرادته صياغة جعلية من نوع
الاعتبار، فيعتبر الفعل على ذمة المكلف، فهناك إذن في مرحلة الثبوت ملاك
وإرادة واعتبار، وليس الاعتبار عنصرا ضروريا في مرحلة الثبوت، بل
يستخدم غالبا كعمل تنظيمي وصياغي اعتاده المشركون والعقلاء، وقد سار
الشارع على طريقتهم في ذلك. وبعد اكتمال مرحلة الثبوت بعناصرها الثلاثة
- أو بعنصريها الأولين على أقل تقدير - تبدأ مرحلة الاثبات، وهي المرحلة
146

التي يبرز فيها المولى - بجملة إنشائية أو خبرية - مرحلة الثبوت بدافع من
الملاك والإرادة، وهذا الابراز قد يتعلق بالإرادة مباشرة، كما إذا قال أريد
منكم كذا، وقد يتعلق بالاعتبار الكاشف عن الإرادة، كما إذا قال: (لله
على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا). وإذا تم هذا الابراز من
المولى أصبح من حقه على العبد قضاء لحق مولويته الاتيان بالفعل، وانتزع
العقل عن إبراز المولى لإرادته الصادر منه بقصد التوصل إلى مراده عناوين
متعددة من قبيل البعث والتحريك ونحوهما. وكثيرا ما يطلق على الملاك
والإرادة - وهما العنصران اللازمان في مرحلة الثبوت - اسم (مبادئ الحكم)،
وذلك بافتراض أن الحكم نفسه هو العنصر الثالث من مرحلة الثبوت - أي
الاعتبار - والملاك والإرادة مبادئ له وأن كان روح الحكم وحقيقته - التي
بها يقع موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال - هي نفس الملاك والإرادة
إذا تصدى المولى لابرازهما بقصد التوصل إلى مراده سواء أنشأ اعتبارا أو
لا.
ولكل واحد من الأحكام التكليفية الخمسة مبادئ تتفق مع طبيعته،
فمبادئ الوجوب هي الإرادة الشديد، ومن ورائها المصلحة البالغة درجة
عالية تأبى عن الترخيص في المخالفة. ومبادئ الحرمة هي المبغوضية الشديدة،
ومن ورائها المفسدة البالغة إلى الدرجة نفسها. والاستحباب والكراهة يتولدان
عن مبادئ من نفس النوع، ولكنها أضعف درجة بنحو يسمح المولى معها
بترك المستحب وبارتكاب المكروه. وأما الإباحة فهي بمعنيين، أحدهما:
الإباحة بالمعنى الأخص التي تعتبر نوعا خامسا من الأحكام التكليفية، وهي
تعبر عن مساواة الفعل والترك في نظر المولى. والآخر: الإباحة بالمعنى الأعم،
وقد يطلق عليها اسم الترخيص في مقابل الوجوب والحرمة فتشمل المستحبات
والمكروهات مضافا إلى المباحات بالمعنى الأخص لاشتراكها جميعا في عدم
الالزام.
147

والإباحة قد تنشأ عن خلو الفعل المباح من أي ملاك يدعو إلى الالزام
فعلا أو تركا، وقد تنشأ عن وجود ملاك في أن يكون المكلف مطلق العنان،
وملاكها على الأول لا اقتضائي، وعلى الثاني اقتضائي.
التضاد بين الأحكام التكليفية:
وحين نلاحظ أنواع الحكم التكليفي التي مرت بنا، نجد أن بينها تنافيا
وتضادا، يؤدي إلى استحالة اجتماع نوعين منها في فعل واحد. ومرد هذا
التنافي إلى التنافر بين مبادئ تلك الأحكام، وأما على مستوى الاعتبار فقط
فلا يوجد تنافر، إذ لا تنافي بين الاعتبارات إذا جردت عن الملاك
والإرادة.
وكذلك أيضا لا يمكن أن يجتمع في فعل واحد فردان من نوع واحد،
فمن المستحيل أن يتصف شئ واحد بوجوبين، لان ذلك يعني اجتماع إرادتين
على مراد واحد، وهو من قبيل اجتماع المثلين لان الإرادة لا تتكرر على شئ
واحد، وإنما تقوى وتشتد، والمحذور هنا أيضا بلحاظ المبادئ لا بلحاظ
الاعتبار نفسه.
شمول الحكم الشرعي لجميع وقائع الحياة:
ولما كان الله تعالى عالما بجميع المصالح والمفاسد التي ترتبط بحياة الانسان
في مختلف مجالاته الحياتية، فمن اللطف اللائق برحمته أن يشرع للانسان
التشريع الأفضل وفقا لتلك المصالح والمفاسد في شتى جوانب الحياة، وقد
أكدت ذلك نصوص كثيرة وردت عن أئمة أهل البيت عليهم السلام،
وخلاصتها أن الواقعة لا تخلو من حكم.
148

الحكم الواقعي والحكم الظاهري
ينقسم الحكم الشرعي إلى واقعي وظاهري. فالحكم الواقعي هو: كل حكم
لم يفترض في موضوعه الشك في حكم شرعي مسبق، والحكم الظاهري هو:
كل حكم افترض في موضوعه الشك في حكم شرعي مسبق، من قبيل أصالة
الحل في قوله: كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام وسائر الأصول العملية
الأخرى، ومن قبيل أمره بتصديق الثقة والعمل على وفق خبره وأمره
بتصديق سائر الامارات الأخرى. وعلى هذا الأساس يقال عن الأحكام الظاهرية
بأنها متأخرة رتبة عن الأحكام الواقعية، لأنها قد افترض في
موردها الشك في الحكم الواقعي، ولولا وجود الأحكام الواقعية في الشريعة
لما كانت هناك أحكام ظاهرية.
الامارات والأصول
والاحكام الظاهرية تصنف عادة إلى قسمين:
أحدهما: الحكم الظاهري المرتبط بكشف دليل معين على نحو يكون كشف
ذلك الدليل هو الملاك التام لجعله كالحكم الظاهري بوجوب تصديق خبر
الثقة، والعمل على طبقه سواء كان ذلك الدليل الظني مفيدا للظن الفعلي دائما
أو غالبا، وفي حالات كثيرة، وفي هذه الحالة يسمى ذلك الدليل بالامارة،
ويسمى الحكم الظاهري بالحجية فيقال: إن الشارع جعل الحجية للامارة.
والقسم الآخر الحكم الظاهري الذي أخذ فيه بعين الاعتبار نوع الحكم
المشكوك سواء لم يؤخذ أي كشف معين بعين الاعتبار في مقام جعله أو أخذ،
ولكن لا بنحو يكون هو الملاك التام، بل منضما إلى نوع الحكم المشكوك.
ومثال الحالة الأولى: أصالة الحل فإن الملحوظ فيها كون الحكم المشكوك
والمجهول مرددا بين الحرمة والإباحة، ولم يلحظ فيها وجود كشف معين عن
149

الحلية. ومثال الحالة الثانية: قاعدة الفراغ، فإن التعبد في هذه القاعدة بصحة
العمل المفروغ عنه يرتبط بكاشف معين عن الصحة، وهو غلبة الانتباه وعدم
النسيان في الانسان، ولكن هذا الكاشف ليس هو كل الملاك، بل هناك
دخل لكون المشكوك مرتبطا بعمل تم الفراغ عنه، ولهذا لا يتعبدنا الشارع
بعدم النسيان في جميع الحالات. وتسمى الأحكام الظاهرية في هذا القسم
بالأصول العملية، ويطلق على الأصول العملية في الحالة الأولى اسم الأصول
العملية غير المحرزة، وعليها في الحالة الثانية اسم الأصول العملية الحرزة، وقد
يعبر عنها بالأصول العملية التنزيلية.
اجتماع الحكم الواقعي والظاهري
وبناء على ما تقدم يمكن أن يجتمع في واقعة واحدة حكمان، أحدهما
واقعي، والآخر ظاهري مثلا: إذا كان الدعاء عند رؤية الهلال واجبا واقعا
وقامت الامارة على إباحته، فحكم الشارع بحجية الامارة، وبأن الفعل
المذكور مباح في حق من يشك في وجوبه، فقد اجتمع حكمان تكليفيان على
واقعة واحدة، أحدهما واقعي وهو الوجوب، والآخر ظاهري وهو الإباحة،
وما دام أحدهما من سنخ الأحكام الواقعية، والآخر من سنخ الأحكام الظاهرية
، فلا محذور في اجتماعهما، وإنما المستحيل أن يجتمع في واقعة واحدة
وجوب واقعي وإباحة واقعية.
القضية الحقيقية والقضية الخارجية للاحكام
الحكم الشرعي تارة يجعل على نحو القضية الخارجية وأخرى يجعل على نحو
القضية الحقيقية، وتوضيح ذلك: إن المولى المشرع تارة يشير إلى الافراد
الموجودين فعلا من العلماء مثلا فيقول أكرمهم، وأخرى يفترض وجود العالم
ويحكم بوجوب إكرامه ولو لم يكن هناك عالم موجود فعلا فيقول: إذا وجد
150

عالم فأكرمه. والحكم في الحالة الأولى مجعول على نحو القضية الخارجية، وفي
الحالة الثانية مجعول على نحو القضية الحقيقية، وما هو المفترض فيها نطلق عليه
اسم الموضوع للقضية الحقيقية، والفارق النظري بين القضيتين أننا بموجب
القضية الحقيقية نستطيع أن نقول: لو ازداد عدد العلماء لوجب إكرامهم
جميعا، لان موضوع هذه القضية العالم المفترض، وأي فرد جديد من العالم
يحقق الافتراض المذكور، ولا نستطيع أن نؤكد القول نفسه بلحاظ القضية
الخارجية، لان المولى في هذه القضية أحصى عددا معينا وأمر بإكرامهم،
وليس في القضية ما يفترض تعميم الحكم لو ازداد العدد.
151

تنويع البحث
حينما يستنبط الفقيه الحكم الشرعي، ويستدل عليه تارة، يحصل على دليل
يكشف عن ثبوت الحكم الشرعي فيعول على كشفه، وأخرى يحصل على دليل
يحدد الموقف العملي والوظيفة العملية تجاه الواقعة المجهول حكمها، وهذا ما
يكون في الأصول العملية التي هي أدلة على الوظيفة العملية وليست أدلة على
الواقع.
وعلى هذا الأساس سوف نصنف بحوث علم الأصول إلى نوعين:
أحدهما: البحث في الأدلة من القسم الأول، أي العناصر المشتركة في
عملية الاستنباط التي تتخذ أدلة، باعتبار كشفها عن الحكم الشرعي، ونسميها
بالأدلة المحرزة.
والآخر البحث في الأصول العملية، وهي الأدلة من القسم الثاني أي
العناصر المشتركة في عملية الاستنباط التي تتخذ أدلة على تحديد الوظيفة
العملية تجاه الحكم الشرعي المجهول، ونسميها بالأدلة العملية أو الأصول
العملية.
وكل ما يستند إليه الفقيه في استدلاله الفقهي واستنباطه للحكم الشرعي
لا يخرج عن أحد هذين القسمين من الأدلة. ويمكن القول على العموم: بأن
كل واقعة يعالج الفقيه حكمها يوجد فيها أساسا دليل من القسم الثاني أي
أصل عملي يحدد الوظيفة العملية، فإن توفر للفقيه الحصول على دليل محرز
أخذ به وترك الأصل العملي، وفقا لقاعدة تقدم الأدلة المحرزة على الأصول
152

العملية كما يأتي ان شاء الله تعالى، وإن لم يتوفر دليل محرز أخذ بالأصل
العملي فهو المرجع العام للفقيه حيث لا يوجد دليل محرز.
ويوجد عنصر مشترك يدخل في جميع عمليات استنباط الحكم الشرعي،
سواء ما استند فيه الفقيه إلى دليل من القسم الأول أو إلى دليل من القسم
الثاني، وهذا العنصر هو حجية القطع، ونريد بالقطع انكشاف قضية بدرجة
لا يشوبها شك، ومعنى حجيته كونه منجزا أي مصححا للعقاب إذا خالف
العبد مولاه في تكليف مقطوع به لديه، وكونه معذرا أي نافيا لاستحقاق
العقاب عن العبد إذا خالف مولاه نتيجة عمله بقطعه.
وواضح أن حجية القطع بهذا المعنى لا تستغني عنه جميع عمليات
الاستنباط، لأنها إنما تؤدي إلى القطع بالحكم الشرعي أو بالموقف العملي
تجاهه، ولكي تكون هذه النتيجة ذات أثر، لا بد من الاعتراف مسبقا بحجية
القطع، بل أن حجية القطع مما يحتاجها الأصولي في الاستدلال على القواعد
الأصولية نفسها، لأنه مهما استدل على ظهور صيغة أفعل في الوجوب مثلا
فلن يحصل على أحسن تقدير إلا على القطع بظهورها في ذلك، وهذا لا يفيد
إلا مع إفتراض حجية القطع.
كما إنه بعد إفتراض تحديد الأدلة العامة، والعناصر المشتركة في عملية
الاستنباط، قد يواجه الفقيه حالات التعارض بينها، سواء كان التعارض بين
دليل من القسم الأول، ودليل من القسم الثاني كالتعارض بين الامارة
والأصل، أو بين دليلين من قسم واحد سواء كانا من نوع واحد كخبرين
لثقتين، أو من نوعين كالتعارض بين خبر الثقة وظهور الآية، أو بين أصالة
الحل والاستصحاب.
ومن أجل ذلك سنبدأ فيما يلي بحجية القطع، ثم نتكلم عن القسم الأول من
الأدلة. ثم عن القسم الثاني (الأصول العملية) ونختم بأحكام تعارض الأدلة إن
شاء الله تعالى ومنه نستمد التوفيق.
153

حجية القطع
للقطع كاشفية بذاته عن الخارج. وله أيضا نتيجة لهذه الكاشفية محركية
نحو ما يوافق الغرض الشخصي للقاطع إذا انكشف له بالقطع، فالعطشان إذا
قطع بوجود الماء خلفه تحرك نحو تلك الجهة طلبا للماء. وللقطع إضافة إلى
الكاشفية والمحركية المذكورتين خصوصية ثالثة وهي: الحجية بمعنى ان القطع
بالتكليف ينجز ذلك التكليف، أي يجعله موضوعا لحكم العقل بوجوب امتثاله
وصحة العقاب على مخالفته.
والخصوصية الأولى والثانية بديهيتان ولم يقع بحث فيهما، ولا تفيان بمفردهما
بغرض الأصولي، وهو تنجيز التكليف الشرعي على المكلف بالقطع به، وانما
الذي يفي بذلك الخصوصية الثالثة. كما أنه لا شك في أن الخصوصية الأولى
هي عين حقيقة القطع، لان القطع هو عين الانكشاف والإراءة، لا انه شئ
من صفاته الانكشاف، ولا شك أيضا في أن الخصوصية الثانية من الآثار
التكوينية للقطع بما يكون متعلقا للغرض الشخصي، فالعطشان الذي يتعلق
غرض شخصي له بالماء حينما يقطع بوجوده في جهة، يتحرك نحو تلك الجهة
لا محالة، والمحرك هنا هو الغرض، والمكمل لمحركية الغرض هو قطعة
بوجود الماء، وبإمكان استيفاء الغرض في تلك الجهة.
واما الخصوصية الثالثة وهي حجية القطع، اي منجزيته للتكليف بالمعنى
المتقدم، فهي شئ ثالث غير مستبطن في الخصوصيتين السابقتين، فلا يكون
154

التسليم بهما من الناحية المنطقية تسليما ضمنيا بالخصوصية الثالثة، وليس التسليم
بهما مع إنكار الخصوصية الثالثة تناقضا منطقيا، فلا بد إذن من استئناف نظر
خاص في الخصوصية الثالثة، وفي هذا المجال يقال عادة إن الحجية لازم ذاتي
للقطع كما أن الحرارة لازم ذاتي للنار، فالقطع بذاته يستلزم الحجية
والمنجزية، ولأجل ذلك لا يمكن أن تغلى حجيته ومنجزيته في حال من
الأحوال، حتى من قبل المولى نفسه، لان لازم الشئ لا يمكن ان ينفك عنه،
وانما الممكن للمولى ان يزيل القطع عن القاطع، فيخرجه عن كونه قاطعا
بدلا عن أن يفكك بين القطع والحجية. ويتلخص هذا الكلام في قضيتين:
إحداهما، ان الحجية والمنجزية ثابتة للقطع لأنهما من لوازمه.
والأخرى: انها يستحيل ان تنفك عنه لان اللازم لا ينفك عن الملزوم.
اما القضية الأولى فيمكن ان نتسأل بشأنها، اي قطع هذا الذي تكون
المنجزية من لوازمه؟ هل هو القطع بتكليف المولى أو القطع بتكليف أي آمر؟
ومن الواضح ان الجواب هو الأول لان غير المولى إذا أمر لا يكون تكليفه
منجزا على المأمور ولو قطع به، فالمنجزية إذن تابعة للقطع بتكليف المولى،
فنحن إذن نفترض أولا ان الآمر مولى ثم نفترض القطع بصدور التكليف
منه، وهنا نتسأل من جديد ما معنى المولى؟ والجواب ان المولى هو من له
حق الطاعة اي من يحكم العقل بوجوب امتثاله واستحقاق العقاب على
مخالفته، وهذا يعني ان الحجية (التي محصلها - كما تقدم - حكم العقل
بوجوب الامتثال واستحقاق العقاب على المخالف) قد افترضناها مسبقا
بمجرد افتراض ان الآمر مولى فهي إذن من شؤون كون الآمر مولى،
ومستبطنة في نفس افتراض المولوية، فحينما نقول إن القطع بتكليف المولى
حجة اي يجب امتثاله عقلا كأننا قلنا: إن القطع بتكليف من يجب امتثاله
يجب امتثاله، وهذا تكرار لما هو المفترض، فلا بد ان نأخذ نفس حق الطاعة
155

والمنجزية المفترضة في نفس كون الآمر مولى، لنرى مدى ما للمولى من حق
الطاعة على المأمور، وهل له حق الطاعة في كل ما يقطع به من تكاليفه، أو
أوسع من ذلك بان يفترض حق الطاعة في كل ما ينكشف لديه من تكاليفه
ولو بالظن أو الاحتمال، أو أضيق من ذلك بان يفترض حق الطاعة في بعض
ما يقطع به من التكاليف خاصة، وهكذا يبدو أن البحث في حقيقته بحث عن
حدود مولوية المولى، وما نؤمن به له مسبقا من حق الطاعة، فعلى الأول
تكون المنجزية ثابتة في حالات القطع خاصة، وعلى الثاني تكون ثابتة في كل
حالات القطع والظن والاحتمال، وعلى الثالث تكون ثابتة في بعض حالات
القطع.
والذي ندركه بعقولنا ان مولانا سبحانه وتعالى له حق الطاعة في كل ما
ينكشف لنا من تكاليفه بالقطع أو بالظن أو بالاحتمال ما لم يرخص هو نفسه
في عدم التحفظ، وهذا يعني ان المنجزية ليست ثابتة للقطع بما هو قطع بل بما
هو انكشاف، وان كان انكشاف منجز مهما كانت درجته ما لم يحرز ترخيص
الشارع نفسه في عدم الاهتمام به.
نعم كلما كان الانكشاف بدرجة أكبر كانت الإدانة وقبح المخالفة أشد.
فالقطع بالتكليف يستتبع لا محالة مرتبة أشد من التنجز والإدانة لأنه المرتبة
العليا من الانكشاف.
واما القضية الثانية وهي: ان المنجزية لا تنفك عن القطع بالتكليف،
وليس بامكان المولى نفسه ان يتدخل بالترخيص في مخالفة القطع وتجريده من
المنجزية فهي صحيحة، ودليلها: ان هذا الترخيص إما حكم واقعي أو
حكم ظاهري، والأول مستحيل لان التكليف الواقعي مقطوع به فإذا ثبتت
أيضا إباحة واقعية لزم اجتماع الضدين لما تقدم من التنافي والتضاد بين
الأحكام التكليفية والواقعية. والثاني مستحيل أيضا لان الحكم الظاهري كما
156

تقدم ما أخذ في موضوعه الشك ولا شك مع القطع.
وبهذا يظهر ان القطع لا يتميز عن الظن والاحتمال في أصل المنجزية، وانما
يتميز عنهما في عدم امكان تجريده عن تلك المنجزية، لان الترخيص في
مورده مستحيل كما عرفت، وليس كذلك في حالات الظن والاحتمال، فان
الترخيص الظاهري فيها ممكن لأنه لا يتطلب أكثر من فرض الشك والشك
موجود، ومن هنا صح أن يقال إن منجزية القطع غير معلقة بل ثابتة على
الاطلاق، وان منجزية غيره من الظن والاحتمال معلقة لأنها مشروطة بعدم
إحراز الترخيص الظاهري في ترك التحفظ.
معذرية القطع:
كنا نتحدث حتى الآن عن الجانب التنجيزي والتسجيلي من حجية القطع
(المنجزية)، والآن نشير إلى الجانب الآخر من الحجية وهو المعذرية، اي
كون القطع بعدم التكليف معذرا للمكلف على نحو لو كان مخطئا في قطعه
لما صحت معاقبته على المخالفة، وهذه المعذرية تستند إلى تحقيق حدود مولوية
المولى وحق الطاعة. وذلك لان حق الطاعة هل موضوعه الذي تفرض طاعته
تكاليف المولى بوجودها في الشريعة بقطع النظر عن قطع المكلف بها وشكه
فيها، أو قطعه بعدمها، أي انها تستتبع حق الطاعة في جميع هذه الحالات، أو
ان موضوع حق الطاعة تكاليف المولى المنكشفة للمكلف ولو بدرجة احتمالية
من الانكشاف؟ فعلى الأول لا يكون القطع معذرا إذا خالف الواقع، وكان
التكليف ثابتا على خلاف ما قطع، وعلى الثاني يكون القطع معذرا إذ لا حق
طاعة للمولى في حالة عدم انكشاف التكليف ولو انكشافا احتماليا. والأول من
هذين الاحتمالين غير صحيح، لان حق الطاعة من المستحيل ان يحكم به العقل
بالنسبة إلى تكليف يقطع المكلف بعدمه، إذ لا يمكن للمكلف ان يتحرك عنه
فكيف يحكم العقل بلزوم ذلك، فيتعين الاحتمال الثاني، ومعه يكون القطع
157

بعدم التكليف معذرا عنه لأنه يخرج - في هذه الحالة - عن دائرة حق الطاعة،
اي عن نطاق حكم العقل بوجوب الامتثال.
التجري
إذا قطع المكلف بوجوب أو تحريم فخالفه وكان التكليف ثابتا في الواقع
اعتبر عاصيا، واما إذا قطع بالتكليف وخالفه ولم يكن التكليف ثابتا واقعا
سمي متجريا، وقد وقع البحث في أنه هل يدان مثل هذا المكلف المتجري
بحكم العقل ويستحق العقاب كالعاصي أو لا؟
ومرة أخرى يجب ان نرجع إلى حق الطاعة الذي تمثله مولوية المولى لنحدد موضوعه، فهل موضوعه هو التكليف المنكشف للمكلف أو مجرد الانكشاف
ولو لم يكن مصيبا، بمعنى ان حق المولى على الانسان هل في أن يطيعه في
تكاليفه التي انكشفت لديه أو في كل ما يتراءى له من تكاليفه، سواء كان
هناك تكليف حقا أو لا؟ فعلى الأول لا يكون المكلف المتجري قد أخل
بحق الطاعة إذ لا تكليف، وعلى الثاني يكون قد أخل به فيستحق العقاب.
والصحيح هو الثاني لان حق الطاعة ينشأ من لزوم احترام المولى عقلا ورعاية
حرمته، ولا شك في أنه من الناحية الاحترامية ورعاية الحرمة لا فرق بين
التحدي الذي يقع من العاصي، والتحدي الذي يقع من المتجري، فالمتجري
اذن يستحق العقاب كالعاصي.
العلم الاجمالي
القطع تارة يتعلق بشئ محدد ويسمى بالعلم التفصيلي ومثاله: العلم بوجوب
صلاة الفجر أو العلم بنجاسة هذا الاناء المعين، وأخرى يتعلق بأحد شيئين لا
على وجه التعيين، ويسمى بالعلم الاجمالي ومثاله: العلم بوجوب صلاة ما في
ظهر الجمعة هي اما الظهر أو الجمعة دون ان تقدر على تعيين الوجوب في
158

إحداهما بالضبط، أو العلم بنجاسة أحد الإناءين دون تعين.
ونحن إذا حللنا العلم الاجمالي نجد انه مزدوج من العلم بالجامع بين الشيئين،
ومن شكوك واحتمالات بعدد الأطراف التي يرتدد بينها ذلك الجامع، ففي
المثال الأول يوجد عندنا علم بوجوب صلاة ما، وعندنا احتمالان لوجوب
صلاة الظهر خاصة، ولوجوب صلاة الجمعة خاصة.
ولا شك في أن العلم بالجامع منجز، وان الاحتمال في كل طرف منجز
أيضا وفقا لما تقدم من أن كل انكشاف منجز مهما كانت درجته، ولكن
منجزية القطع على ما عرفت غير معلقة، ومنجزية الاحتمال معلقة، ومن هنا
كان بامكان المولى في حالات العلم الاجمالي ان يبطل منجزية احتمال هذا
الطرف أو ذاك، وذلك بالترخيص الظاهري في عدم التحفظ، فإذا رخص
فقط في احتمال وجوب صلاة الظهر بطلت منجزية هذا الاحتمال وظلت
منجزية احتمال وجوب الجمعة على حالها، وكذلك منجزية العلم بالجامع فإنها
تظل ثابتة أيضا بمعنى ان المكلف لا يمكنه ان يترك كلتا الصلاتين رأسا، وإذا
رخص المولى فقط في إهمال احتمال وجوب صلاة الجمعة بطلت منجزية هذا
الاحتمال وظلت منجزية الباقي كما تقدم، وبإمكان المولى ان يرخص في كل
من الطرفين معا بترخيصين ظاهريين، وبهذا تبطل كل المنجزيات بما فيها
منجزية العلم بالجامع. وقد تقول: ان العلم بالجامع فرد من القطع وقد تقدم ان
منجزية القطع غير معلقة، فكيف ترتفع منجزية العلم بالجامع هنا؟ والجواب
ان القطع الذي تكون منجزيته غير معلقة هو العلم التفصيلي، إذ لا مجال
للترخيص الظاهري في مورده، لان الترخيص الظاهري لا يمكن الا في حالة
الشك، ولا شك مع العلم التفصيلي، ولكن في حالة العلم الاجمالي حيث إن
الشك في كل طرف موجود، فهناك مجال للترخيص الظاهري فتكون منجزية
العلم الاجمالي معلقة على عدم احراز الترخيص الظاهري في كل من الطرفين،
159

هذا من الناحية النظرية ثبوتا، واما من الناحية الواقعية اثباتا، وانه هل صدر
من الشارع ترخيص في كل من طرفي العلم الاجمالي، فهذا ما يقع البحث عنه
في الأصول العملية.
القطع الطريقي والموضوعي
تارة يحكم الشارع بحرمة الخمر مثلا فيقطع المكلف بالحرمة، ويقطع بان
هذا خمر، وبذلك يصبح التكليف منجرا عليه كما تقدم، ويسمى القطع في
هذه الحالة بالقطع الطريقي بالنسبة إلى تلك الحرمة لأنه مجرد طريق وكاشف
عنها وليس له دخل وتأثير في وجودها واقعا، لان الحرمة ثابتة للخمر على
اي حال، سواء قطع المكلف بان هذا خمر أو لا.
وأخرى يحكم الشارع بان ما تقطع بأنه خمر حرام فلا يحرم الخمر إلا إذا
قطع المكلف بأنه خمر، ويسمى القطع في هذه الحالة بالقطع الموضوعي، لأنه دخيل في
وجود الحرمة، وثبوتها للخمر فهو بمثابة الموضوع للحرمة.
والقطع انما ينجز التكليف إذا كان قطعا طريقيا بالنسبة إليه، لان
منجزيته انما هي من أجل كاشفيته، وهو انما يكشف عما يكون قطعا طريقيا
بالنسبة إليه، واما التكليف الذي يكون القطع موضوعا له ودخيلا في أصل
ثبوته، فهو لا يتنجز بذلك القطع، ففي المثال المتقدم للقطع الموضوعي لا
يكون القطع بالخمرية منجزا للحرمة، لأنه لا يكشف عنها وانما يولدها، بل
الذي ينجز الحرمة في هذا المثال القطع بحرمة مقطوع الخمرية. وهكذا ينجز
كل قطع ما يكون كاشفا عنه، وطريقا إليه من التكاليف دون ما يكون
موضوعا ومولدا له من الاحكام. وقد يتفق أن يكون قطع واحد طريقيا
بالنسبة إلى تكليف، وموضوعيا بالنسبة إلى تكليف آخر. كما إذا قال المولى
الخمر حرام، ثم قال من قطع بحرمة الخمر فيحرم عليه بيعه، فان القطع بحرمة
160

الخمر قطع طريقي بالنسبة إلى حرمة الخمر، وقطع موضوعي بالنسبة إلى حرمة
بيع الخمر.
جواز الاسناد إلى المولى:
وهناك جانب ثالث في القطع غير المنجزية والمعذرية، وهو جواز اسناد
الحكم المقطوع إلى المولى، وتوضيح ذلك أن المنجزية والمعذرية ترتبطان
بالجانب العملي فيقال: ان القطع بالحرمة منجز لها بمعنى انه لا بد للقاطع أن لا
يرتكب ما قطع بحرمته، وان القطع بعدم الحرمة معذر عنها، بمعنى ان له
ان يرتكب الفعل، وهناك شئ آخر وهو اسناد الحرمة نفسها إلى المولى، فان
القطع بحرمة الخمر يؤدي إلى جواز اسناد الحرمة إلى المولى، بأن يقول القاطع:
ان الشارع حرم الخمر لأنه قول بعلم، وقد اذن الشارع في القول بعلم، وحرم
القول بلا علم.
وبالتدبر فيما بيناه من التمييز بين القطع الطريقي والقطع الموضوعي يتضح
ان القطع بالنسبة إلى جواز الاسناد قطع موضوعي لا طريقي، لان جواز
الاسناد حكم شرعي اخذ في موضوعه القطع بما يسند إلى المولى.
تلخيص ومقارنة:
اتضح مما ذكرناه ان تنجز التكليف المقطوع لما كان من شؤون حق الطاعة
للمولى سبحانه، وكان حق الطاعة له يشمل كل ما ينكشف من تكاليفه، ولو
انكشافا احتماليا. فالمنجزية إذن ليست مختصة بالقطع، بل تشمل كل انكشاف
مهما كانت درجته، وان كانت بالقطع تصبح مؤكدة وغير معلقة كما تقدم.
وخلافا لذلك مسلك من افترض المنجزية والحجية لازما ذاتيا للقطع،
فإنه ادعى انها من خواص القطع، فحيث لا قطع ولا علم لا منجزية، فكل
161

تكليف لم ينكشف بالقطع واليقين فهو غير منجز ولا يصح العقاب عليه،
وسمي ذلك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان اي بلا قطع وعلم، وفاته ان هذا في
الحقيقة تحديد لمولوية المولى وحق الطاعة له رأسا.
وهذان مسلكان يحدد كل منهما الطريق في كثير من المسائل المتفرعة،
ويوضح للفقيه منهجا مغايرا من الناحية النظرية لمنهج المسلك الآخر.
ونسمي المسلك المختار بمسلك حق الطاعة، والآخر بمسلك قبح العقاب بلا بيان.
162

الحلقة الثانية
2 الأدلة
1 - الأدلة المحرزة
2 - الأصول العملية (أو الأدلة العملية).
163

تحديد المنهج في الأدلة والأصول
عرفنا سابقا ان الأدلة التي يستند إليها الفقيه في استدلاله الفقهي
واستنباطه للحكم الشرعي على قسمين، فهي: اما أدلة محرزة يطلب بها كشف
الواقع، واما أدلة عملية (أصول عملية) تحدد الوظيفة العملية للشاك الذي لا
يعلم بالحكم.
ويمكن القول على العموم بان كل واقعة يعالج الفقيه حكمها يوجد فيها
دليل من القسم الثاني اي أصل عملي يحدد لغير العالم الوظيفة العملية، فان
توفر للفقيه الحصول على دليل محرز أخذ به وترك الأصل العملي وفقا
لقاعدة تقدم الأدلة المحرزة على الأصول العملية، كما يأتي ان شاء الله تعالى
في تعارض الأدلة، وإن لم يتوفر دليل محرز أخذ بالأصل العملي فهو المرجع
العام للفقيه حيث لا يوجد دليل محرز.
وتختلف الأدلة المحرزة عن الأصول العملية في أن تلك تكون أدلة
ومستندا للفقيه بلحاظ كاشفيتها عن الواقع واحرازها للحكم الشرعي، واما
هذه فتكون أدلة من الوجهة العملية فقط، بمعنى انها تحدد كيف يتصرف
الانسان الذي لا يعرف الحكم الشرعي للواقعة. كما أن الأدلة المحرزة تختلف
فيما بينها، لان بعضها أدلة قطعية تؤدي إلى القطع بالحكم الشرعي، وبعضها
أدلة ظنية تؤدي إلى كشف ناقص محتمل الخطأ عن الحكم الشرعي، وهذه
165

الأدلة الظنية هي التي تسمى بالامارات.
المنهج على مسلك حق الطاعة
واعم الأصول العملية - بناء على مسلك حق الطاعة - هو أصالة اشتغال
الذمة، وهذا أصل يحكم به العقل ومفاده ان كل تكليف يحتمل وجوده ولم
يثبت إذن الشارع في ترك التحفظ تجاهه فهو منجز، وتشتغل به ذمة المكلف،
ومرد ذلك إلى ما تقدم من أن حق الطاعة للمولى يشمل كل ما ينكشف من
التكاليف ولو انكشافا ظنيا أو احتماليا.
وهذا الأصل هو المستند العام للفقيه، ولا يرفع يده عنه الا في بعض
الحالات التالية:
أولا: إذا حصل له دليل محرز قطعي على نفي التكليف كان القطع معذرا
بحكم العقل كما تقدم، فيرفع يده عن أصالة الاشتغال إذ لا يبقى لها موضوع.
ثانيا: إذا حصل له دليل محرز قطعي على اثبات التكليف فالتنجز يظل
على حاله، ولكنه يكون بدرجة أقوى وأشد كما تقدم.
ثالثا: إذا لم يتوفر له القطع بالتكليف لا نفيا ولا اثباتا، ولكن حصل له
القطع بترخيص ظاهري من الشارع في ترك التحفظ، فحيث إن منجزية
الاحتمال والظن معلقة على عدم ثبوت إذن من هذا القبيل كما تقدم، فمع
ثبوته لا منجزية فيرفع يده عن أصالة الاشتغال.
وهذا الاذن تارة يثبت بجعل الشارع الحجية للامارة (الدليل المحرز غير
القطعي)، كما إذا أخبر الثقة المظنون الصدق بعدم الوجوب فقال لنا الشارع:
صدق الثقة، وأخرى يثبت بجعل الشارع لأصل عملي من قبله، كأصالة الحل
الشرعية القائلة (كل شئ حلال حتى تعلم انه حرام) والبراءة الشرعية القائلة
(رفع ما لا يعلمون) وقد تقدم الفرق بين الامارة والأصل العملي.
166

رابعا: إذا لم يتوفر له القطع بالتكليف لا نفيا ولا اثباتا، ولكن حصل له
القطع بان الشارع لا يأذن في ترك التحفظ، فهذا يعني ان منجزية الاحتمال
والظن تظل ثابتة غير أنها أكد وأشد مما إذا كان الاذن محتملا.
وهنا أيضا تارة يثبت عدم الاذن من الشارع في ترك التحفظ، بجعل
الشارع الحجية للامارة، كما إذا أخبر الثقة المظنون الصدق بالوجوب فقال
الشارع: ولا ينبغي التشكيك فيما يخبر به الثقة أو قال: صدق الثقة، وأخرى
يثبت بجعل الشارع لأصل عملي من قبله كأصالة الاحتياط الشرعية المجعولة
في بعض الحالات.
فائدة المنجزية والمعذرية الشرعية:
وبما ذكرناه ظهر انه في الحالتين الأولى والثانية لا معنى لتدخل الشارع في
ايجاد معذرية أو منجزية، لان القطع ثابت، وله معذرية ومنجزية كاملة، وفي
الحالتين الثالثة الرابعة يمكن للشارع ان يتدخل في ذلك، فإذا ثبت عنه جعل
الحجية للامارة النافية للتكليف أو جعل أصل مرخص كأصالة الحل،
ارتفعت بذلك منجزية الاحتمال أو الظن. لان هذا الجعل منه إذن في ترك
التحفظ، والمنجزية المذكورة معلقة على عدم ثبوت الاذن المذكور، وإذا ثبت
عنه جعل الحجية لامارة مثبتة للتكليف أو لأصل يحكم بالتحفظ، تأكدت
بذلك منجزية الاحتمال، لان ثبوت ذلك الجعل معناه العلم بعدم الاذن في
ترك التحفظ ونفي لأصالة الحل ونحوها.
المنهج على مسلك قبح العقاب بلا بيان:
وما تقدم كان بناء على مسلك حق الطاعة، واما بناء على مسلك قبح
العقاب بلا بيان فالامر على العكس تماما والبداية مختلفة، فان أعم الأصول
العملية حينئذ هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان وتسمى أيضا بالبراءة العقلية
167

ومفادها: ان المكلف غير ملزم عقلا بالتحفظ تجاه اي تكليف ما لم ينكشف
بالقطع واليقين، وهذا الأصل لا يرفع الفقيه يده عنه الا في بعض الحالات:
ولنستعرض الحالات الأربع المتقدمة لنرى حال الفقيه فيها بناء على مسلك
قبح العقاب بلا بيان.
اما الحالة الأولى: فيظل فيها قبح العقاب ثابتا (أي المعذرية) غير أنه
يتأكد بحصول القطع بعدم التكليف.
واما الحالة الثانية: فيرتفع فيها موضوع البراءة العقلية، لان عدم البيان
على التكليف تبدل إلى البيان والقطع فيتنجز التكليف.
واما الحالة الثالثة: فيظل فيها قبح العقاب ثابتا، غير أنه يتأكد بثبوت
الاذن من الشارع في ترك التحفظ.
واما الحالة الرابعة: فأصحاب هذا المسلك يلتزمون عمليا فيها، بان
التكليف يتنجز على الرغم من انه غير معلوم، ويتحيرون نظريا في كيفية
تخريج ذلك على قاعدتهم القائلة بقبح العقاب بلا بيان، بمعنى ان الامارة
المثبتة للتكليف بعد جعل الحجية لها أو أصالة الاحتياط، كيف تقوم مقام
القطع الطريقي فتنجز التكليف مع أنه لا يزال مشكوكا وداخلا في نطاق
قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وسيأتي في الحلقة التالية بعض أوجه العلاج
للمشكلة عند أصحاب هذا المسلك.
168

الأدلة
1 - الأدلة المحرزة
1 - الدليل الشرعي
2 - الدليل العقلي
169

تقسيم البحث في الأدلة المحرزة
يعتمد الفقيه في عملية الاستنباط على عناصر مشتركة تسمى بالأدلة
المحرزة كما تقدم، وهي اما أدلة قطعية، بمعنى انها تؤدي إلى القطع بالحكم
فتكون حجة على أساس حجية القطع الناتج عنها، واما أدلة ظنية، ويقوم
دليل قطعي على حجيتها شرعا، كما إذا علمنا بان المولى أمر باتباعها فتكون
حجة بموجب الجعل الشرعي.
والدليل المحرز في الفقه سواء كان قطعيا أو لا، ينقسم إلى قسمين.
الأول: الدليل الشرعي ونعني به كل ما يصدر من الشارع مما له دلالة على
الحكم، ككلام الله سبحانه أو كلام المعصوم.
الثاني: الدليل العقلي ونعني به القضايا التي يدركها العقل ويمكن ان يستنبط
منها حكم شرعي كالقضية العقلية القائلة بان إيجاب شئ يستلزم ايجاب
مقدمته.
والقسم الأول ينقسم بدوره إلى نوعين:
أحدهما: الدليل الشرعي اللفظي، وهو كلام المعصوم كتابا أو سنة.
والآخر: الدليل الشرعي غير اللفظي، ويتمثل في فعل المعصوم سواء كان
تصرفا مستقلا أو موقفا امضائيا تجاه سلوك معين وهو الذي يسمى بالتقرير.
171

والبحث في هذا القسم بكلا نوعيه تارة يقع في تحديد دلالات الدليل
الشرعي، وأخرى في ثبوت صغراه، وثالثة في حجية تلك الدلالة ووجوب
الاخذ بها، ففي الدليل الشرعي إذن ثلاثة أبحاث.
ولكن قبل البدء بهذه الأبحاث على الترتيب المذكور نستعرض بعض
المبادئ والقواعد العامة في الأدلة المحرزة.
الأصل عند الشك في الحجية:
عرفنا ان للشارع دخلا في جعل الحجية للأدلة المحرزة غير القطعية
(الامارات)، فان أحرزنا جعل الشارع الحجية لامارة فهو، وإذا شككنا في
ذلك لم يكن بالامكان التعويل على تلك الامارة لمجرد احتمال جعل الشارع
الحجية لها، لأنها إن كانت نافية للتكليف ونريد ان نثبت بها المعذرية فمن
الواضح بناء على ما تقدم عدم امكان ذلك ما لم نحرز جعل الحجية لها الذي
يعني إذن الشارع في ترك التحفظ تجاه التكليف المشكوك، إذ بدون إحراز
هذا الاذن تكون منجزية الاحتمال للتكليف الواقعي قائمة بحكم العقل، ولا
ترتفع هذه المنجزية الا بإحراز الاذن في ترك التحفظ، ومع الشك في الحجية
لا احراز للاذن المذكور. وان كانت الامارة مثبتة للتكليف، ونريد ان نثبت
بها المنجزية خروجا عن أصل معذر كأصالة الحل المقررة شرعا، فواضح
أيضا انا ما لم نقطع بحجيتها لا يمكن رفع اليد بها عن دليل أصالة الحل مثلا،
فدليل الأصل الجاري في الواقعة والمؤمن عن التكليف المشكوك، هو المرجع
ما لم يقطع بحجية الامارة المثبتة للتكليف. وبهذا صح القول ان الأصل عند
الشك في الحجية عدم الحجية، بمعنى ان الأصل نفوذ الحالة المفترضة لولا
تلك الامارة من منجزية أو معذرية.
172

مقدار ما يثبت بالأدلة المحرزة
الدليل المحرز له مدلول مطابقي ومدلول التزامي، فكلما كان الدليل
المحرز حجة ثبت بذلك مدلوله المطابقي، واما مدلوله الالتزامي ففيه بحث،
وحاصله ان الدليل المحرز إذا كان قطعيا فلا شك في ثبوت مدلولاته
الالتزامية به لأنها تكون قطعية أيضا، فتثبت بالقطع كما يثبت المدلول
المطابقي بذلك، وإذا كان الدليل ظنيا وقد ثبتت حجيته بجعل الشارع كما في
الامارة مثل خبر الثقة وظهور الكلام فهنا حالتان:
الأولى: أن يكون موضوع الحجية - اي ما حكم الشارع بأنه حجة -
صادقا على الدلالة الالتزامية كصدقها على الدلالة المطابقية، ومثال ذلك: ان
يرد دليل على حجية خبر الثقة، ويقال بان الاخبار عن شئ اخبار عن
لوازمه، وفي هذه الحالة يثبت المدلول الالتزامي لأنه مما أخبر عنه الثقة
بالدلالة الالتزامية فيشمله دليل الحجية المتكفل للامر بالعمل بكل ما أخبر به
الثقة مثلا.
الثانية: أن لا يكون موضوع الحجية صادقا على الدلالة الالتزامية، ومثال
ذلك: ان يرد دليل على حجية ظهور اللفظ، فان الدلالة الالتزامية غير
العرفية ليست ظهورا لفظيا فلا تشكل فردا من موضوع دليل الحجية، فمن
هنا يقع البحث في حجية الدليل لاثبات المدلول الالتزامي في حالة من هذا
القبيل، وقد يستشكل في ثبوت هذه الحجية بدليل حجية الظهور، لان دليل
حجية الظهور لا يثبت الحجية الا لظهور اللفظ، والدلالة الالتزامية لهذا
الظهور ليست ظهورا لفظيا فلا تكون حجة، ومجرد علمنا من الخارج بان
ظهور اللفظ إذا كان صادقا فدلالته الالتزامية صادقة أيضا، لا يبرر استفادة
الحجية للدلالة الالتزامية، لان الحجية حكم شرعي، وقد يخصصه بإحدى
الدلالتين دون الأخرى على الرغم من تلازمهما في الصدق.
173

ويوجد في هذا المجال اتجاهان:
أحدهما للمشهور وهو: ان دليل الحجية كلما استفيد منه جعل الحجية
لشئ بوصفه إمارة على الحكم الشرعي كان ذلك كافيا لاثبات لوازمه
ومدلولاته الالتزامية. وعلى هذا الأساس وضعوا قاعدة مؤداها ان مثبتات
الامارات حجة، اي ان الامارة كما يعتبر اثباتها لمدلولها المطابقي حجة،
كذلك اثباتها لمدلولها الالتزامي.
والاتجاه الآخر للسيد الأستاذ حيث ذهب إلى أن مجرد قيام دليل حجية
إمارة على أساس ما لها من كشف عن الحكم الشرعي لا يكفي لذلك، إذ من
الممكن ثبوتا ان الشارع يتعبد المكلف بالمدلول المطابقي من الامارة فقط، كما
يمكنه ان يتعبده بكل ما تكشف عنه مطابقة أو التزاما، وما دام كلا هذين
الوجهين ممكنا ثبوتا، فلا بد لتعيين الأخير منهما من وجود اطلاق في دليل
الحجية يقتضي امتداد التعبد وسريانه إلى المداليل الالتزامية.
والصحيح هو الاتجاه الأول، وذلك لأننا عرفنا سابقا ان الامارة معناها
الدليل الظني الذي يستظهر من دليل حجيته، ان تمام الملاك بحجيته هو
كشفه بدون نظر إلى نوع المنكشف، وهذا الاستظهار متى ما تم في دليل
الحجية كان كافيا لاثبات الحجية في المدلولات الالتزامية أيضا، لان نسبة
كشف الامارة إلى المدلول المطابقي والالتزامي بدرجة واحدة دائما، وما دام
الكشف هو تمام الملاك للحجية بحسب الفرض، فيعرف من دليل الحجية ان
مثبتات الامارة كلها حجة. وعلى خلاف ذلك الأصول العملية تنزيلية أو
غيرها فإنها لما كانت مبنية على ملاحظة نوع المؤدى كما تقدم فلا يمكن ان
يستفاد من دليلها اسراء التعبد إلى كل اللوازم الا بعناية خاصة في لسان
الدليل، ومن هنا قيل إن الأصول العملية ليست حجة في مثبتاتها اي في
مدلولاتها الالتزامية، وسيأتي تفصيل الكلام عن ذلك في أبحاث الأصول
العملية ان شاء الله تعالى.
174

تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية
عرفنا ان الامارات حجة في المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي معا،
والمدلول الالتزامي تارة يكون مساويا للمدلول المطابقي، وأخرى يكون أعم
منه، ففي حالة المساواة إذا علم بان المدلول المطابقي باطل فقد علم ببطلان
المدلول الالتزامي أيضا، وبذلك تسقط الامارة بكلا مدلوليها عن الحجية،
واما إذا كان اللازم أعم وبطل المدلول المطابقي، فالمدلول الالتزامي يظل
محتملا، ومن هنا يأتي البحث التالي: وهو ان حجية الامارة في اثبات المدلول
الالتزامي هل ترتبط بحجيتها في اثبات المدلول المطابقي أو لا؟ فالارتباط
يعني انها إذا سقطت عن الحجية في المدلول المطابقي للعلم ببطلانه مثلا،
سقطت أيضا عن الحجية في المدلول الالتزامي وهو معنى التبعية، وعدم
الارتباط يعني ان كلا من الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية حجة ما لم يعلم
ببطلان مفادها بالخصوص، ومجرد العلم ببطلان المدلول المطابقي لا يوجد
خللا في حجية الدلالة الالتزامية ما دام المدلول الالتزامي محتملا ولم يتضح
بطلانه بعد.
وقد يستدل على الارتباط بأحد الوجهين التاليين:
الأول: ان الدلالة الالتزامية متفرعة في وجودها على الدلالة المطابقية،
فتكون متفرعة في حجيتها أيضا. ويلاحظ على ذلك أن التفرع في الوجود
لماذا يستلزم التفرع في الحجية؟ أو لا يمكن ان نفترض ان كل واحدة من
الدلالتين موضوع مستقل للحجية بلحاظ كاشفيتها؟
الثاني ان نفس السبب الذي يوجب سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية،
يوجب دائما سقوط الدلالة الالتزامية، فإذا علم مثلا بعدم ثبوت المدلول
المطابقي وسقطت بذلك حجية الدلالة المطابقية، فان هذا العلم بنفسه يعني
العلم أيضا بعدم ثبوت المدلول الالتزامي، لان ما تحكي عنه الدلالة الالتزامية
175

دائما حصة خاصة من اللازم، وهي الحصة الناشئة أو الملازمة للمدلول
المطابقي لا طبيعي اللازم على الاطلاق، وتلك الحصة مساوية للمدلول
المطابقي دائما.
وبكلمة أخرى ان ذات اللازم وان كان أعم أحيانا، ولكنه بما هو مدلول
التزامي مساو دائما للمدلول المطابقي فلا يتصور ثبوته بدونه، فموت زيد
وان كان أعم من احتراقه بالنار ولكن من أخبر باحتراقه بالمطابقة فهو لا يخبر
التزاما بالموت الأعم ولو كان بالسم، بل مدلوله الالتزامي هو الموت الناشئ
من الاحتراق خاصه، فإذا كنا نعلم بعدم الاحتراق فكيف نعمل بالمدلول
الالتزامي؟ وسيأتي تكميل البحث عن ذلك وتعميقه في الحلقة الآتية ان شاء
الله تعالى.
وفاء الدليل بدور القطع الموضوعي
الدليل المحرز إذا كان قطعيا فهو يفي بما يقتضيه القطع الطريقي من
منجزية ومعذرية، لأنه يوجد القطع في نفس المكلف بالحكم الشرعي، كما أنه
يفي بما يترتب على القطع الموضوعي من احكام شرعيه، لان هذه الأحكام
يتحقق موضوعها وجدانا.
والدليل المحرز غير القطعي (اي الامارة) يفي بما يقتضيه القطع الطريقي
من منجزية ومعذرية، فالامارة الحجة شرعا إذا دلت على ثبوت التكليف
أكدت منجزيته وإذا دلت على نفي التكليف كانت معذرا عنه ورفعت أصالة
الاشتغال كما لو حصل القطع الطريقي بنفي التكليف كما تقدم توضيحه،
وهذا معناه قيام الامارة مقام القطع الطريقي، ولكن هل تفي الامارة بالقيام
مقام القطع الموضوعي فيه بحث وخلاف فلو قال المولى كل ما قطعت بأنه
خمر فأرقه وقامت الامارة الحجة شرعا على أن هذا خمر ولم يحصل القع
بذلك، فهل يترتب وجوب الإراقة على هذه الامارة كما يترتب على القطع
176

أولا؟ وهنا تفصيل وهو انا تارة نفهم من دليل وجوب إراقة مقطوع
الخمرية، ان مقصود هذا الدليل من المقطوع ما قامت حجة منجزة على
خمريته وليس القطع الا كمثال، وأخرى نفهم منه إناطة الحكم بوجوب
الإراقة بالقطع بوصفه كاشفا تاما لا يشوبه شك ففي الحالة الأولى تقوم
الامارة الحجة مقام القطع الموضوعي ويترتب عليها وجوب الإراقة لأنها تحقق
موضوع هذا الوجوب وجدانا وهو الحجة.
وفي الحالة الثانية لا يكفي مجرد كون الامارة حجة وقيام دليل على
حجيتها ووجوب العمل بها لكي تقوم مقام القطع الموضوعي، لان وجوب
الإراقة منوط بالقطع بما هو كاشف تام، والامارة وان أصبحت حجة
ومنجزة لمؤداها بجعل الشارع، ولكنها ليست كاشفا تاما على اي حال، فلا
يترتب عليها وجوب الإراقة، إلا إذا ثبت في دليل الحجية أو في دليل آخر،
ان المولى اعمل عناية ونزل الامارة منزلة الكاشف التام في احكامه الشرعية،
كما نزل الطواف منزلة الصلاة في قوله: الطواف بالبيت صلاة، وهذه عناية
إضافية لا يستبطنها مجرد جعل الحجية للامارة. وبهذا صح القول إن دليل
حجية الامارة بمجرد افتراضه الحجية لا يفي لإقامتها مقام القطع الموضوعي.
اثبات الدليل لجواز الاستناد
من المقرر فقهيا ان اسناد حكم إلى الشارع بدون علم غير جائز، وعلى هذا
الأساس فإذا قام على الحكم دليل وكان الدليل قطعيا، فلا شك في جواز
اسناد مؤداه إلى الشارع لأنه اسناد بعلم. واما إذا كان الدليل غير قطعي كما في
الامارة التي قد جعل الشارع لها الحجية وأمر باتباعها فهل يجوز هنا اسناد
الحكم إلى الشارع؟
لا ريب في جواز اسناد نفس الحجية والحكم الظاهري إلى الشارع لأنه
177

معلوم وجدانا. واما الحكم الواقعي الذي تحكي عنه الامارة فقد يقال: إن
اسناده غير جائز لأنه لا يزال غير معلوم، ومجرد جعل الحجية للامارة لا
يبرر الاسناد بدون علم، وانما يجعلها منجزة ومعذرة من الوجهة العملية. وقد
يقال إن هذا مرتبط بالبحث السابق في قيام الامارة مقام القطع الموضوعي،
لان القطع أخذ موضوعا لجواز اسناد الحكم إلى المولى، فإذا استفيدت من
دليل الحجية تلك العناية الإضافية التي تقوم الامارة بموجبها مقام القطع
الموضوعي، ترتب عليها جواز اسناد مؤدى الامارة إلى الشارع وإلا فلا.
178

الدليل الشرعي
1 - تحديد
دلالات الدليل الشرعي
1 - الدليل الشرعي اللفظي
2 - الدليل الشرعي غير اللفظي.
179

الأدلة المحرزة
الدليل الشرعي
1 - تحديد دلالات الدليل الشرعي
2 - إثبات صغرى الدليل الشرعي
3 - إثبات حجية الدلالة في الدليل الشرعي.
181

1 - الدليل الشرعي اللفظي
تمهيد
لما كان الدليل الشرعي اللفظي يتمثل في ألفاظ يحكمها نظام اللغة.. ناسب
ذلك أن نبحث في مستهل الكلام عن العلاقات اللغوية بين الألفاظ والمعاني،
ونصنف اللغة بالصورة التي تساعد على ممارسة الدليل اللفظي والتمييز بين
درجات من الظهور اللفظي.
الظهور التصوري والظهور التصديقي
إذا سمعنا كلمة مفردة كالماء من آلة انتقل ذهننا إلى تصور المعنى،
وكذلك إذا سمعناها من انسان متلفت، ولكننا في هذه الحالة لا نتصور
المعنى فحسب بل نستكشف من اللفظ إن الانسان قصد بتلفظه أن يخطر
ذلك المعنى في ذهننا، بينما لا معنى لهذا الاستكشاف حينما تصدر الكلمة من
آلة، فهناك إذن دلالتان لكلمة الماء أحدهما: الدلالة الثابتة حتى في حالة
الصدور من آلة وتسمى بالدلالة التصورية. والأخرى: الدلالة التي توجد عند
صدور الكلمة من المتلفظ الملتفت وتسمى بالدلالة التصديقية.
وإذا ضم المتلفظ الملتفت كلمة أخرى فقال (الماء بارد) استكشفنا أنه يريد
أن يخطر في ذهننا معنى الماء ومعنى بارد، ومعنى جملة الماء بارد ككل. ولكن
183

لماذا يريد أن نتصور ذلك كله؟ والجواب أن تلفظه بهذه الجملة يدل عادة
على أن المتكلم يريد بذلك أن يخبرنا ببرودة الماء ويقصد الحكاية عن ذلك،
بينما في بعض الحالات لا يكون قاصدا ذلك كما في حالات الهزل، فإن الهازل
لا يقصد إلا إخطار صورة المعنى في ذهن السامع فقط على خلاف المتكلم
الجاد. فالمتكلم الجاد حينما يقول الماء بارد يكتسب كلامه ثلاث دلالات وهي:
الدلالة التصورية المتقدمة، والدلالة التصديقية المتقدمة، ولنسميها بالدلالة
التصديقية الأولى، ودلالة ثالثة هي الدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن
برودة الماء، وتسمى بالدلالة على المراد الجدي، كما تسمى بالدلالة التصديقية
الثانية. وأما الهازل حين يقول الماء بارد، فلكلامه دلالة تصورية ودلالة
تصديقية أولى دون الدلالة التصديقية الثانية، لأنه ليس جادا ولا يريد
الاخبار حقيقية، وأما الآلة حين تردد الجملة ذاتها فليس لها إلا دلالة
تصورية فقط. وهكذا أمكن التمييز بين ثلاثة أقسام من الدلالة.
الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدمة
والدلالة التصويرية هي في حقيقتها علاقة سببية بين تصور اللفظ وتصور
المعنى، ولما كانت السببية بين شيئين لا تحصل بدون مبرر، اتجه البحث إلى
تبريرها، ومن هنا نشأت عدة احتمالات.
الأول: احتمال السببية الذاتية بأن يكون اللفظ بذاته دالا على المعنى وسببا
لاحضار صورته. ولا شك في سقوط هذا الاحتمال لما هو معروف بالخبرة
والملاحظة من عدم وجود أية للفظ لدى الانسان قبل الاكتساب
والتعلم.
الثاني: إفتراض أن السببية المذكورة نشأت من وضع الواضع اللفظ
للمعنى، والوضع نوع إعتبار يجعله الواضع وإن إختلف المحققون في نوعية
184

المعتبر، فهناك من قال إنه إعتبار سببية اللفظ لتصور المعنى، ومن قال إنه إعتبار كون اللفظ أداة لتفهيم المعنى، ومن قال إنه إعتبار كون اللفظ على
المعنى، كما توضع الأعمدة على رؤوس الفراسخ. ويرد على هذا المسلك بكل
محتملاته أن سببية اللفظ لتصور المعنى سببية واقعية بعد الوضع، ومجرد إعتبار
كون شئ سببا لشئ أو إعتبار ما يقارب هذا المعنى لا يحقق السببية واقعا،
فلا بد لأصحاب مسلك الاعتبار في الوضع أن يفسروا كيفية نشوء السببية
الواقعية من الاعتبار المذكور، وقد يكون عجز هذا المسلك عن تفسير ذلك
أدى بآخرين إلى اختيار الاحتمال الثالث الآتي:
الثالث: أن دلالة اللفظ تنشأ من الوضع، والوضع ليس اعتبارا، بل هو
تعهد من الواضع بأن لا يأتي باللفظ إلا عند قصد تفهيم المعنى، وبذلك تنشأ
ملازمة بين الاتيان باللفظ وقصد تفهيم المعنى، ولازم ذلك أن يكون الوضع
هو السبب في الدلالة التصديقية المستبطنة ضمنا للدلالة التصورية، بينما على
مسلك الاعتبار لا يكون الوضع سببا الا للدلالة التصورية. وهذا فرق مهم
بين المسلكين، وهناك فرق آخر وهو أنه بناء على التعهد يجب إفتراض كل
متكلم متعهدا وواضعا لكي تتم الملازمة في كلامه، وأما بناء على مسلك
الاعتبار فيفترض ان الوضع إذا صدر في البداية من المؤسس أوجب دلالة
تصورية عامة لكل من علم به بدون حاجة إلى تكرار عملية الوضع من الجميع.
ويرد على مسلك التعهد.
أولا: ان المتكلم لا يتعهد عادة، بأن لا يأتي باللفظ إلا إذا قصد تفهيم
المعنى الذي يريد وضع اللفظ له، لان هذا يعني التزامه ضمنا بأن لا يستعمله
مجازا، مع أن كل متكلم كثيرا ما يأتي باللفظ به تفهيم المعنى المجازي،
فلا يحتمل صدور الالتزام الضمني المذكور من كل متكلم.
185

وثانيا: أن الدلالة اللفظية والعلقة اللغوية بموجب هذا المسلك تتضمن
استدلالا منطقيا وإدراكا للملازمة وانتقالا من أحد طرفيها إلى الآخر، مع
أن وجودها في حياة الانسان يبدأ منذ الأدوار الأولى لطفولته وقبل أن
ينضح أي فكر استدلالي له، وهذا يبرهن على إنها أبسط من ذلك.
والتحقيق أن الوضع يقوم على أساس قانون تكويني للذهن البشري،
وهو: أنه كلما ارتبط شيئان في تصور الانسان ارتباطا مؤكدا أصبح
بعد ذلك تصور أحدهما مستدعيا لتصور الآخر. وهذا الربط بين
تصورين تارة يحصل بصورة عفوية، كالربط بين سماع الزئير
وتصور الأسد الذي حصل نتيجة التقارن الطبيعي المتكرر بين سماع الزئير
ورؤية الأسد، وأخرى يحصل بالعناية التي يقوم بها الواضع، إذ يربط بين
اللفظ وتصور معنى مخصوص في ذهن الناس فينتقلون من سماع اللفظ إلى
تصور المعنى، والاعتبار الذي تحدثنا عنه في الاحتمال الثاني، ليس إلا طريقة
يستعملها الواضع في ايجاد ذلك الربط والقرن المخصوص بين اللفظ وصورة
المعنى. فمسلك الاعتبار هو الصحيح، ولكن بهذا المعنى وبذلك صح أن
يقال إن الوضع قرن مخصوص بين تصور اللفظ وتصور المعنى بنحو أكيد
لكي يستتبع حالة إثارة أحدهما للآخر في الذهن.
ومن هنا نعرف أن الوضع ليس سببا إلا للدلالة التصورية، وأما
الدلالتان التصديقيتان الأولى والثانية، فمنشأهما الظهور الحالي والسياقي
للكلام لا الوضع.
الوضع التعييني والتعيني:
وقد قسم الوضع من ناحية سببه إلى تعييني وتعيني، فقيل إن العلاقة بين
اللفظ والمعنى أن نشأت من جعل خاص فالوضع تعييني، وإن نشأت من كثرة
186

الاستعمال بدرجة توجب الألفة الكاملة بين اللفظ والمعنى فالوضع تعيني.
ويلاحظ على هذا التقسيم بأن الوضع إذا كان هو الاعتبار أو التعهد، فلا
يمكن أن تنشأ عن كثرة الاستعمال مباشرة، لوضوح أن الاستعمال المتكرر لا
يولد بمجرده اعتبارا ولا تعهدا، فلا بد من إفتراض أن كثرة الاستعمال
تكشف عن تكون هذا الاعتبار أو التعهد، فالفرق بين الوضعين في نوعية
الكاشف عن الوضع.
وهذه الملاحظة لا ترد على ما ذكرناه في حقيقة الوضع من أنه القرن
الأكيد بين تصور اللفظ وتصور المعنى، فإن حالة القرن الأكيد تحصل بكثرة
الاستعمال أيضا لأنها تؤدي إلى تكرر الاقتران بين تصور اللفظ وتصور المعنى
فيكون القرن بينهما أكيدا بهذا التكرر إلى أن يبلغ إلى درجة تجعل أحد
التصورين صالحا لتوليد التصور الآخر فيتم بذلك الوضع التعيني.
توقف الوضع على تصور المعنى:
ويشترط في كل وضع يباشره الواضع أن يتصور الواضع المعنى الذي يريد
أن يضع اللفظ له لان الوضع بمثابة الحكم على المعنى واللفظ، وكل حاكم لا
بد له من استحضار موضوع حكمه عند جعل ذلك الحكم. وتصور المعنى
تارة يكون باستحضاره مباشرة وأخرى باستحضار عنوان منطبق عليه
وملاحظته بما هو حاك عن ذلك المعنى. وهذا الشرط يتحقق في ثلاث
حالات:
الأولى: أن يتصور الواضع معنى كليا كالانسان ويضع اللفظ بإزائه
ويسمى بالوضع العام والموضوع له العام.
الثانية: إن يتصور الواضع معنى جزئيا كزيد ويضع اللفظ بإزائه ويسمى
بالوضع الخاص والموضوع له الخاص.
187

الثالثة: أن يتصور الواضع عنوانا مشيرا إلى فرده ويضع اللفظ بإزاء الفرد
الملحوظ من خلال ذلك العنوان المشير ويسمى بالوضع العام والموضوع له
الخاص.
وهناك حالة رابعة لا يتوفر فيها الشرط المذكور ويطلق عليها اسم الوضع
الخاص والموضوع له العام وهي أن يتصور الفرد ويضع اللفظ لمعنى جامع،
وهذا مستحيل لان الفرد والخاص ليس عنوانا منطبقا على ذلك المعنى الجامع
ليكون مشيرا إليه، فالمعنى الجامع في هذه الحالة لا يكون مستحضرا بنفسه
ولا بعنوان مشيرا إليه ومنطبق عليه.
ومثال الحالة الأولى أسماء الأجناس، ومثال الحالة الثانية الاعلام
الشخصية، وأما الحالة الثالثة فقد وقع الخلاف في جعل الحروف مثالا لها
وسيأتي الكلام عن ذلك في بحث مقبل إن شاء الله تعالى.
توقف الوضع على تصور اللفظ:
كما يتوقف الوضع على تصور المعنى كذلك يتوقف على تصور اللفظ، أما
بنفسه فيسمى الوضع شخصيا، وأما بعنوان مشير إليه فيسمى الوضع نوعيا.
ومثال الأول: وضع أسماء الأجناس. ومثال الثاني: وضع الهيئة المحفوظة في
ضمن كل أسماء الفاعلين لمعنى هيئة اسم الفاعل، فإن الهيئة لما كانت
لا تنفصل في مقام التصور عن المادة وكان من الصعب إحضار تمام
المواد عند وضع اسم الفاعل اعتاد الواضع أن يحضر الهيئة في ضمن مادة
معينة كفاعل، ويضع كل ما كان على هذه الوتيرة للمعنى الفلاني فيكون
الوضع نوعيا.
188

المجاز:
يكتسب اللفظ بسبب وضعه للمعنى الحقيقي صلاحية الدلالة على المعنى
الحقيقي من أجل الاقتران الخاص بينهما، كما يكتسب صلاحية الدلالة على
كل معنى مقترن بالمعنى الحقيقي اقترانا خاصا كالمعاني المجازية المشابهة، غير
أنها صلاحية بدرجة أضعف، لأنها تقوم على أساس مجموع اقترانين، ومع
اقتران اللفظ بالقرينة على المعنى المجازي تصبح هذه الصلاحية فعلية ويكون
اللفظ دالا فعلا على المعنى المجازي.
وأما في حالة عدم وجود القرينة فالذي ينسبق إلى الذهن من اللفظ تصور
المعنى الموضوع له، ومن هنا يقال إن ظهور الكلام في مرحلة المدلول
التصوري يتعلق بالمعنى الموضوع له دائما بمعنى أنه هو الذي تأتي صورته إلى
الذهن بمجرد سماع اللفظ دون المعنى المجازي.
وما ذكرناه من اكتساب اللفظ صلاحية الدلالة على المعنى المجازي لا
يحتاج إلى وضع خاص وراء وضع اللفظ لمعناه الحقيقي، وإنما يحصل بسبب
وضعه للمعنى الحقيقي:
وإنما الكلام في أنه هل يصح استعمال اللفظ في المعنى المجازي ما دام
أصبح صالحا للدلالة عليه أو تتوقف صحته على وضع معين، وعلى تقدير
القول بالتوقف لا بد من تصوير الوضع المصحح للاستعمال المجازي بنحو
يختلف عن الوضع للمعنى الحقيقي - وإلا لانقلب المعنى المجازي إلى حقيقي
وهو خلف - ويحفظ الطولية بين الوضعين على نحو يفسر أسبقية المعنى الحقيقي
إلى الذهن عند سماع اللفظ المجرد عن القرينة، وذلك بأن يدعى مثلا وضع
اللفظ المنضم إلى القرينة للمعنى المجازي فحيث لا قرينة تنحصر علاقة اللفظ
بالمعنى الحقيقي ولا يزاحمه المعنى المجازي.
والصحيح عدم الاحتياج إلى وضع المجاز لتصحيح الاستعمال، لأنه إن
189

أريد بصحة الاستعمال حسنة فواضح أن كل لفظ له صلاحية الدلالة على
معنى يحسن استعماله فيه وقصد تفهيمه به، واللفظ له هذه الصلاحية بالنسبة
إلى المعنى المجازي كما عرفت فيصح استعماله فيه، وان أريد بصحة الاستعمال
انتسابه إلى اللغة التي يريد المتكلم التكلم بها فيكفي في ذلك أن يكون
الاستعمال مبنيا على صلاحية في اللفظ للدلالة على المعنى ناشئة من أوضاع
تلك اللغة.
علامات الحقيقة والمجاز:
ذكر المشهور عدة علامات لتمييز المعنى الحقيقي عن المجازي.
منها: التبادر من اللفظ أي انسباق المعنى إلى الذهن منه لان المعنى
المجازي لا يتبادر من اللفظ إلا بضم القرينة، فإذا حصل التبادر بدون قرينة
كشف عن كون المتبادر معنى حقيقيا. وقد يعترض على ذلك بأن تبادر
المعنى الحقيقي من اللفظ يتوقف على علم الشخص بالوضع فإذا توقف علمه
بالوضع على هذه العلامة لزم الدور. وأجيب على ذلك بأن التبادر يتوقف
على العلم الارتكازي بالمعنى وهو العلم المترسخ في النفس الذي يلتئم مع
الغفلة عنه فعلا والمطلوب من التبادر العلم الفعلي المتقوم بالالتفات فلا دور،
كما أن افتراض كون التبادر عند العالم علامة عند الجاهل لا دور فيه أيضا.
والتحقيق أن الاعتراض بالدور لا محل له أساسا لأنه مبني على
افتراض ان انتقال الذهن إلى المعنى من اللفظ فرع العلم بالوضع مع إنه
فرع نفس الوضع أي وجود عملية القرن الأكيد بين تصور اللفظ
وتصور المعنى في ذهن الشخص، فالطفل الرضيع الذي اقترنت عنده كلمة
" ماما " برؤية أمه يكفي نفس هذا الاقتران الأكيد ليتصور أمه عندما
يسمع كلمة " ماما " مع إنه ليس عالما بالوضع إذ لا يرعف معنى الوضع.
فالتبادر إذن يتوقف على وجود عملية القرن الأكيد بين التصورين في ذهن
190

الشخص، والمطلوب من التبادر تحصيل العلم بالوضع أي العلم بذلك القرن
الأكيد فلا دور.
ومنها: صحة الحمل فإن صح الحمل الأولي الذاتي للفظ المراد استعلام
حاله على معنى ثبت كونه هو المعنى الموضوع له، وإن صح الحمل الشايع
ثبت كون المحمول عليه مصداقا لعنوان هو المعنى له اللفظ، وإذا لم
يصح كلا الحملين ثبت عدم كون المحمول عليه نفسه المعنى الموضوع له ولا
مصداقه. والصحيح أن صحة الحمل إنما تكون علامة على كون المحمول عليه
هو نفس المعنى المراد في المحمول أو مصداق المعنى المراد، أما أن هذا المعنى
المراد في جانب المحمول هل هو معنى حقيقي للفظ أو مجازى، فلا سبيل إلى
تعيين ذلك عن طريق صحة الحمل، بل لا بد أن يرجع الانسان إلى
مرتكزاته لكي يعين ذلك.
ومنها: الاطراد وهو أن يصح استعمال اللفظ في المعنى المشكوك كونه
حقيقيا في جميع الحالات، وبلحاظ أي فرد من أفراد ذلك المعنى فيدل
الاطراد في صحة الاستعمال على كونه هو المعنى الحقيقي للفظ، إذ لا إطراد
في صحة الاستعمال في المعنى المجازي.
وقد أجيب على ذلك بأن الاستعمال في معنى إذا صح مجازا ولو في حال
وبلحاظ فرد صح دائما، وبلحاظ سائر الافراد مع الحفاظ على كل
الخصوصيات والشؤون التي بها صح الاستعمال في تلك الحالة أو في ذلك
الفرد، فالاطراد ثابت إذن في المعاني المجازية أيضا مع الحفاظ على
الخصوصيات التي بها صح الاستعمال.
تحويل المجاز إلى حقيقة:
إذا استعمل الانسان كلمة الأسد مثلا الموضوعة للحيوان المفترس في
191

الرجل الشجاع فهذا استعمال مجازي. وقد يحتال لتحويله إلى استعمال حقيقي
بأن يستعمله في الحيوان المفترس ويطبقه على الرجل الشجاع، بافتراض أنه
مصداق للحيوان المفترس، إذ بالامكان أن يفترض غير المصداق مصداقا
بالاعتبار والعناية، ففي هذه الحالة لا يوجد تجوز في الكلمة لأنها استعملت
فيما وضعت له، وإنما العناية في تطبيق مدلولها على غير مصداقه فهو مجاز عقلي
لا لفظي.
استعمال اللفظ وإرادة الخاص:
إذا استعمل اللفظ وأريد به معنى مباين لما وضع له فهو مجاز بلا شك.
وإما إذا كان المعنى الموضوع له اللفظ ذا حصص وحالات كثيرة وأريد به
بعض تلك الحصص، كما إذا أتيت بلفظ الماء وأردت ماء الفرات فهذا له
حالتان: الأولى: أن تستعمل لفظة الماء بمفردها في تلك الحصة بالذات
أي في ماء الفرات بما هو ماء خاص، وهذا يكون مجازا لان اللفظ
لم يوضع للخاص بما هو خاص. الثانية: ان تستعمل لفظة الماء معناها
المشترك بين ماء الفرات وغيره وتأتي بلفظ آخر يدل على خصوصية الفرات
بان تقول ائتني بماء الفرات، فالحصة الخاصة قد أفيدت بمجموع
كلمتي ماء والفرات لا بكلمة ماء فقط، وكل من الكلمتين قد استعملت في
معناها الموضوعة له فلا تجوز، ونطلق على إرادة الخاص بهذا النحو طريقة
تعدد الدال والمدلول، فطريقة تعدد الدال والمدلول نعني بها إفادة مجموعة من
المعاني بمجموعة من الدوال وبإزاء كل دال واحد من تلك المعاني.
الاشتراك والترادف:
لاشك في إمكان الاشتراك وهو وجود معنيين للفظ واحد والترادف
وهو وجود لفظين لمعنى واحد بناء على غير مسلك التعهد في تفسير الوضع،
192

ومجرد كون الاشتراك مؤديا إلى الاجمال وتردد السامع في المعنى المقصود لا
يوجب فقدان الوضع المتعدد لحكمته، لان حكمته إنما هي إيجاد ما يصلح
للتفهيم في مقام الاستعمال ولو بضم القرينة. وأما على مسلك التعهد إذا فلا
يخلو تصوير الاشتراك والترادف من إشكال، لان التعهد إذا كان بمعنى
الالتزام بعدم الآيتان باللفظ، إلا إذا قصد تفهيم المعنى الذي يضع له اللفظ
امتنع الاشتراك المتضمن لتعهدين من هذا القبيل بالنسبة إلى لفظ واحد،
إذ يلزم أن يكون عند الاتيان باللفظ قاصدا لكلا المعنيين وفاء بكلا
التعهدين، وهو غير مقصود من المتعهد جزما، وإذا كان التعهد بمعنى
الالتزام بالاتيان باللفظ عند قصد تفهيم المعنى امتنع الترادف المتضمن
لتعهدين من هذا القبيل بالنسبة إلى معنى واحد، إذ يلزم أن يأتي بكلا
اللفظين عند قصد تفهيم المعنى، وهو غير مقصود من المتعهد جزما. وحل
الاشكال اما بافتراض تعدد المتعهد أو وحدة المتعهد بان يكون متعهدا بعدم
الاتيان باللفظ إلا إذا قصد تفيهم أحد المعنيين بخصوصه، أو متعهدا
عند قصد تفيهم المعنى بالاتيان بأحد اللفظين، أو فرض تعهدين مشروطين
على نحو يكون المتعهد به في كل منهما مقيدا بعدم الآخر.
تصنيف اللغة:
تنقسم اللغة إلى كلمة بسيطة وكلمة مركبة، وهيئة تركيبية، تقوم بأكثر
من كلمة، فالكلمة البسيطة هي الكلمة الموضوعة بمادة حروفها وتركيبا
الخاص، بوضع واحد للمعنى، من قبيل أسماء الأجناس وأسماء الاعلام
والحروف. والكلمة المركبة هي الكلمة التي يكون لهيئتها وضع، ولمادتها وضع
آخر من قبيل الفعل، والهيئة التركيبية وهي الهيئة التي تحصل بانضمام كلمة إلى
أخرى وتكون موضوعة لمعنى خاص. والهيئات والحروف عموما لا تستقل
معانيها بنفسها لأنها من سنخ النسب والارتباطات، ففي قولنا: السير إلى مكة
193

المكرمة واجب، تدل (إلى) على نسبة خاصة بين السير ومكة، حيث إن السير
ينتهي بمكة، وتدل هيئة مكة المكرمة على نسبة وصفية وهي كون (المكرمة)
وصاف لمكة وتدل هيئة جملة السير.. واجب على نسبة خاصة بين السير
وواجب، وهي أن الوجوب ثابت فعلا للسير. والنسبة التي يدل عليها الحرف
غير كافية بمفردها لتكوين جملة تامة، ولهذا تسمى بالنسبة الناقصة. وأما
الهيئات فبعضها يدل على النسبة الناقصة كهيئة الجملة الوصفية وبعضها يدل
على النسبة التي تتكون بها جملة تامة وتسمى نسبة تامة، وذلك كهيئة الجملة
الخبرية أو هيئة الجملة الانشائية من قبيل زيد عالم وصم.
ويصطلح أصوليا على التعبير بالمعنى الحرفي عن كل نسبة، سواء كانت
مدلولة للحرف أو الهيئة الجملة الناقصة أو لهيئة الجملة التامة، وبالمعنى الاسمي
عما سوى ذلك من المدلولات. ويختلف المعنى الحرفي عن المعني الاسمي في
أمور منها: أن المعنى الحرفي باعتباره نسبة وكل نسبة متقومة بطرفيها فلا
يمكن أن يلحظ دائما ضمن طرفي النسبة، وأما المعنى الاسمي فيمكن أن
يلحظ بصورة مستقلة.
وقد ذهب المحقق النائيني (رحمه الله) إلى التفرقة بين المعاني الاسمية
والمعاني الحرفية بأن الأولى إخطارية والثانية ايجادية. والمستفاد من ظاهر
كلمات مقرري بحثه أن مراده بكون المعني الاسمي إخطاريا، أن الاسم يدل
على معنى ثابت في ذهن المتكلم في المرتبة السابقة على الكلام، وليس دور
الاسم إلا التعبير عن ذلك المعنى، ومراده بكون المعنى الحرفي ايجاديا أن
الحرف أداة للربط بين مفردات الكلام فمدلوله هو نفس الربط الواقع في
مرحلة الكلام بين مفرداته، ولا يعبر عن معنى أسبق رتبة من هذه المرحلة،
ومن هنا يكون الحرف موجدا لمعناه لان معناه ليس إلا الربط الكلامي الذي
يحصل به.
194

وهذا المعنى من الايجابية للحرف واضح البطلان لان الحرف وإن كان
يوجد الربط في مرحلة الكلام ولكنه إنما يوجد ذلك بسبب دلالته على معنى،
أي على الجانب النسبي والربطي في الصورة الذهنية ونسبته إلى الربط القائم في
الصورة الذهنية على حد ربط الاسم بالمعاني الاسمية الداخلة في تلك الصورة،
فلا تصح التفرقة بين المعاني الاسمية والحرفية بالاخطارية والايجادية. نعم
هناك معنى آخر دقيق ولطيف لايجادية المعاني الحرفية تتميز بها عن المعاني
الاسمية تأتي الإشارة إليه في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى.
المقارنة بين الحروف والأسماء الموازية لها:
كل حرف نجد تعبيرا إسميا موازيا له ف‍ (إلى) يوازيها في الأسماء
(انتهاء) و (من) يوازيها (ابتداء) و (في) توازيها (ظرفية) وهكذا، وعلى
الرغم من الموازاة، فإن الحرف والاسم الموازي له ليسا مترادفين بدليل أنه لا
يمكن استبدال أحدهما في موضع الآخر كما هو الشأن في المترادفين عادة.
والسبب في ذلك يعود إلى أن الحرف يدل على النسبة، والاسم يدل على
مفهوم اسمي يوازي تلك النسبة ويلازمها، ومن هنا لم يكن بالامكان أن
يفصل مدلول (إلى) عن طرفيه ويلحظ مستقلا، لان النسبة لا تنفصل عن
طرفيها بينما بالامكان أن نلحظ كلمة الانتهاء بمفردها ونتصور معناها.
ونفس الشئ نجده في هيئات الجمل مع أسماء موازية لها، فقولك: زيد
عالم إخبار بعلم زيد، فالاخبار بعلم زيد تعبير اسمي عن مدلول هيئة زيد
عالم، إلا أنه لا يرادفه لوضوح أنك لو نطقت بهذا التعبير الاسمي لكنت قد
قلت جملة ناقصة لا يصح السكوت عليها، بينما (زيد عالم) جملة تامة يصح
السكوت عليها.
195

تنوع المدلول التصديقي:
عرفنا فيما سبق أن الألفاظ لها دلالة تصورية تنشأ من الوضع، ولها دلالة
تصديقية تنشأ من السياق. والدلالة التصديقية الأولى تشترك فيها الكلمات
والجمل الناقصة والجمل التامة. والدلالة التصديقية الثانية على المراد الجدي
تختص بها الجمل التامة. وسنخ المدلول التصديقي الأول واحد في جميع
الألفاظ وهو قصد المتكلم إخطار صورة المعنى في ذهن السامع. وأما سنخ
المدلول التصديقي الثاني أن المراد الجدي فيختلف من جملة تامة إلى جملة تامة
أخرى. فالجملة الخبرية مثل (زيد عالم) مدلولها الجدي قصد الاخبار
والحكاية عن النسبة التامة التي تدل عليها هيئتها، والجملة الاستفهامية (هل
زيد عالم) مدلولها الجدي طلب الفهم والاطلاع على وقوع تلك النسبة التامة،
والجملة الطلبية (صل) مدلولها الجدي طلب إيقاع النسبة التامة التي تدل عليها
هيئة صل أي طلب وقوع الصلاة من المخاطب.
ويختلف في ذلك السيد الأستاذ فإنه بنى - كما عرفنا سابقا - على أن
الوضع عبارة عن التعهد وفرع عليه أن الدلالة اللفظية الناشئة من الوضع دلالة
تصديقية لا تصورية بحتة، وعلى هذا الأساس اختار أن كل جملة تامة
موضوعة بالتعهد لنفس مدلولها التصديقي الجدي مباشرة وقد عرفت الحال
في مبناه سابقا.
المقارنة بين الجمل التامة والناقصة:
لا شك في أن المعنى الموضوع له للجملة التامة يختلف عن المعنى الموضوع
له للجملة الناقصة، لان الأولى يصح السكوت عليها دون الثانية. وهذا
الاختلاف يوجد تفسيران له:
أحدهما مبني على أن المعنى الموضوع له هو المدلول التصديقي مباشرة كما
196

إختاره السيد الأستاذ تفريعا على تفسيره للوضع بالتعهد. وحاصله أن الجملة
التامة في قولنا: (المفيد عالم) موضوعة لقصد الحكاية والاخبار عن ثبوت
المحمول للموضوع، والجملة الناقصة الوصفية في قولنا: (المفيد عالم)
موضوعة لقصد إخطار صورة هذه الحصة الخاصة.
والجواب على ذلك ما تقدم من أن المعنى الموضوع له غير المدلول
التصديقي بل هو المدلول التصوري، والمدلول التصوري للحروف والهيئات
هو النسبة، فلا بد من إفتراض فرق بين نحوين من النسبة أحدهما يكون
مدلولا للجملة التامة، والآخر مدلول للجملة الناقصة.
والتفسير الآخر أن هيئة كلتا الجملتين موضوعة للنسبة ولكنها في أحدهما
اندماجية وفي الأخرى غير اندماجية، وكل جملة موضوعة للنسبة الاندماجية
فهي ناقصة، لأنها تحول المفهومين إلى مفهوم واحد وتصير الجملة في قوة
كلمة واحدة، وكل جملة موضوعة للنسبة غير الاندماجية فهي جملة تامة.
وقد تقدم في الحلقة السابقة بعض الحديث عن ذلك.
الدلالات الخاصة والمشتركة:
هذه نبذة تمهيدية عن الدلالة اللفظية وعلاقات الألفاظ بالمعاني نكتفي بها
للدخول في الحديث عن تحديد دلالات الدليل الشرعي اللفظي، ومن الواضح ان
هذه الدلالات على قسمين: فبعضها دلالات خاصة ترتبط ببعض المسائل الفقهية
كدلالة كلمة الصعيد أو الكعب، وبعضها دلالات عامة تصلح أن تكون
عنصرا مشتركا في عملية الاستنباط في مختلف أبواب الفقه كدلالة الامر على
الوجوب. وقد عرفت سابقا أن ما يدخل في البحث الأصولي إنما هو القسم
الثاني، ولهذا فسوف يكون البحث عن الدلالات العامة للدليل الشرعي
اللفظي.
197

الأمر والنهي
الامر:
الامر تارة يستعمل بمادته فيقال: (آمرك بالصلاة) وأخرى بصيغته
فيقال: (صل).
أما مادة الامر فلا شك في دلالتها بالوضع على الطلب، ولكن لا بنحو
تكون مرادفة للفظ الطلب، لان لفظ الطلب ينطبق بمفهومه على الطلب
التكويني كطلب العطشان للماء والطلب التشريعي سواء صدر من العالي أو من
غيره، بينما الامر لا يصدق إلا على الطلب التشريعي من العالي، سواء كان
مستعليا أي متظاهرا بعلوه أو لا.
كما أن مادة الامر لا ينحصر معناها لغة بالطلب، بل ذكرت لها معان
أخرى كالشئ والحادثة والغرض، وعلى هذا الأساس تكون مشتركا لفظيا
وتعيين الطلب بحاجة إلى قرينة، ومتى دلت القرينة على ذلك يقع الكلام في
أن المادة تدل على الطلب بنحو الوجوب أو تلائم مع الاستحباب؟ فقد
يستدل على إنها تدل على الوجوب بوجوه:
منها: قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) (1) وتقريبه أن
الامر لو كان يشمل الطلب الاستحبابي لما وقع على إطلاقه موضوعا للحذر

(1) سورة النور آية 63.
198

من العقاب. ومنها قوله: صلى الله عليه وآله (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك).
وتقريبه أن الامر لو كان يشمل الاستحباب لما كان الامر مستلزما للمشقة
كما هو ظاهر الحديث. ومنها: التبادر فإن المفهوم عرفا من كلام المولى حين
يستعمل كلمة الامر أنه في مقام الايجاب والالزام والتبادر علامة الحقيقة.
وأما صيغة الامر فقد ذكرت لها عدة معان كالطلب والتمني والترجي
والتهديد والتعجيز وغير ذلك، وهذا في الواقع خلط بين المدلول التصوري
للصيغة، والمدلول التصديقي الجدي لها باعتبارها جملة تامة وتوضيحه أن
الصيغة - أي هيئة فعل الامر - لها مدلول تصوري ولا بد أن تكون من سنخ
المعنى الحرفي كما هو الشأن في سائر الهيئات والحروف، فلا يصح أن يكون
مدلولها نفس الطلب بما هو مفهوم اسمي، ولا مفهوم الارسال نحو المادة،
بل نسبة طلبية أو ارسالية توازي مفهوم الطلب أو مفهوم الارسال،
كما توازي النسبة التي تدل عليها (إلى) مفهوم (الانتهاء)، والعلاقة بين
مدلول الصيغة بوصفه معنى حرفيا ومفهوم الارسال أو الطلب تشابه العلاقة
بين مدلول (من) و (إلى) و (في) ومدلول (الابتداء) و (الانتهاء)
و (الظرفية). فهي علاقة موازاة لا ترادف. ونقصد بالنسبة
الطلبية أو الارسالية الربط المخصوص الذي يحصل بالطلب أو بالارسال بين
المطلب والمطلوب منه، أو بين المرسل والمرسل إليه، وهذا هو المدلول
التصوري للصيغة الثابت بالوضع. وللصيغة باعتبارها جملة تامة
مكونة من فعل وفاعل، مدلول تصديقي جدي بحكم السياق لا الوضع،
إذ تكشف سياقا عن أمر ثابت في نفس المتكلم هو الذي دعاه إلى
استعمال الصيغة، وفي هذه المرحلة تتعد الدواعي التي يمكن أن تدل
عليها الصيغة بهذه الدلالة، فتارة يكون الداعي هو الطلب، وأخرى الترجي
وثالثة التعجيز، وهكذا مع انحفاظ المدلول التصوري للصيغة في الجميع.
199

هذا كله على المسلك المختار المشهور القائل بأن الدلالة الوضيعة هي
الدلالة التصورية. وأما بناء على مسلك التعهد القائل بأن الدلالة الوضعية هي
الدلالة التصديقية، وأن المدلول الجدي للجملة التامة هو المعنى الموضوع له
ابتداء فلا بد من الالتزام بتعدد المعنى في تلك الموارد لاختلاف المدلول
الجدي.
ثم إن الظاهر من الصيغة أن المدلول التصديقي الجدي هو الطلب دون
سائر الدواعي الأخرى، وذلك لأنه ان قيل بأن المدلول التصوري هو النسبة
الطلبية، فواضح أن الطلب مصداق حقيقي للمدلول التصوري دون سائر
الدواعي، فيكون أقرب إلى المدلول التصوري وظاهر كل كلام أن مدلوله
التصديقي أقرب ما يكون للتطابق والمصداقية للمدلول التصوري، وأما إذا
قيل بأن المدلول التصوري هو النسبة الارسالية، فلان المصداق الحقيقي لهذه
النسبة إنما ينشأ من الطلب لا من سائر الدواعي فيتعين داعي الطلب بظهور
الكلام.
ولكن قد ينفق أحيانا أن يكون المدلول الجدي هو قصد الاخبار عن
حكم شرعي آخر غير طلب المادة أو إنشاء ذلك الحكم وجعله، كما في قوله:
(اغسل ثوبك من البول) فإن المراد الجدي من إغسل ليس طلب الغسل، إذ
قد يتنجس ثوب الشخص فيهمله ولا يغسله ولا إثم عليه، وإنما المراد بيان أن
الثوب يتنجس بالبول. وهذا حكم وضعي وإنه يطهر بالغسل، وهذا حكم
وضعي آخر، وفي هذه الحالة تسمى الصيغة بالأمر الارشادي لأنها إرشاد
وإخبار عن ذلك الحكم.
وكما أن المعروف في دلالة مادة الامر على الطلب أنها تدل على الطلب
الوجوبي، كذلك الحال في صيغة الامر بمعنى أنها تدل على النسبة الارسالية
الحاصلة من إرادة لزومية، وهذا هو النسبة للتبادر بحسب الفهم العرفي
العام.
200

وكثيرا ما يستعمل غير فعل الامر من الأفعال في إفادة الطلب، أما
بادخال لام الامر عليه فيكون الاستعمال بلا عناية، وأما بدون إدخاله، كما
إذا قيل يعيد ويغتسل، ويشتمل الاستعمال حينئذ على عناية، لان الجملة
حينئذ خبرية بطبيعتها، وقد استعملت في مقام الطلب. وفي الأول يدل على
الوجوب بنحو دلالة الصيغة عليه، وفي الثاني يوجد خلاف في الدلالة على
الوجوب، ويأتي الكلام عن ذلك في حلقة مقبلة إن شاء الله تعالى.
دلالات أخرى للامر
عرفنا أن الامر يدل على الطلب ويدل على أن الطلب على نحو الوجوب.
وهناك دلالات أخرى محتملة وقع البحث عن ثبوتها له وعدمه.
منها: دلالته على نفي الحرمة بدلا عن دلالته على الطلب والوجوب في
حالة معينة، وهي ما إذا ورد عقيب التحريم أو في حالة يحتمل فيها ذلك.
والصحيح أن صيغة الامر على مستوى المدلول التصوري لا تتغير دلالتها
في هذه الحالة، بل تظل دالة على النسبة الطلبية، غير أن مدلولها التصديقي هنا
يصبح مجملا ومرددا بين الطلب الجدي وبين نفي التحريم، لان ورود الامر في
إحدى الحالتين المذكورتين يوجب الاجمال من هذه الناحية.
ومنها: الأدلة الامر بالفعل الموقت بوقت محدد على وجوب القضاء خارج
الوقت، على من لم يأت بالواجب في وقته. وتوضيح الحال في ذلك أن الامر
بالفعل الموقت تارة يكون أمرا واحدا بهذا الفعل المقيد فلا يقتضي إلا
الاتيان به، فإن لم يأت به حتى إنتهى الوقت فلا موجب من قبله للقضاء، بل
يحتاج إيجاب القضاء إلى أمر جديد، وتارة أخرى يكون الامر بالفعل الموقت
أمرين مجتمعين في بيان واحد، أحدهما: أمر بذات الفعل على الاطلاق،
والآخر أمر بإيقاعه في الوقت الخاص، فإن فات المكلف امتثال الامر الثاني
201

بقي عليه الامر الأول، ويجب عليه أن يأتي بالفعل حينئذ ولو خرج الوقت
فلا يحتاج إيجاب القضاء إلى أمر جديد. وظاهر الدليل الامر بالموقت هو
وحدة الامر، فيحتاج إثبات تعدده على الوجه الثاني إلى قرينة خاصة.
ومنها: دلالة الامر بالأمر بشئ، على الامر بذلك الشئ مباشرة بمعنى أن
الآمر إذا أمر زيدا بأن يأمر خالدا بشئ فهل يستفاد الامر المباشر لخالد من
ذلك أو لا؟ فعلى الأول لو أن خالدا أطلع على ذلك قبل أن يأمره زيد
لوجب عليه الاتيان بذلك الشئ، وعلى الثاني لا يكون ملزما بشئ. ومثاله في
الفقه أمر الشارع لولي الصبي بأن يأمر الصبي بالصلاة، فإن قيل بأن الامر
بالأمر بشئ أمر به كان أمر الشارع هذا أمرا للصبي - ولو على نحو
الاستحباب - بالصلاة.
النهي
كما أن للامر مادة وصيغة، كذلك الحال في النهي، فمادته نفس كلمة
النهي وصيغته من قبيل لا تكذب، والمادة تدل على الزجر بمفهومه الاسمي،
والصيغة تدل على الزجر والامساك بنحو المعنى الحرفي، وإن شئت عبر
بالنسبة الزجرية والامساكية.
وقد وقع الخلاف بين جملة من الأصوليين في أن مفاد النهي هل هو
طلب الترك الذي هو مجرد أمر عدمي، أو طلب الكف عن الفعل الذي هو
أمر وجودي وقد يستدل للوجه الثاني، بأن الترك استمرار للعدم الأزلي
الخارج عن القدرة فلا يمكن تعلق الطلب به. ويندفع هذا الدليل بأن بقاءه
مقدور فيعقل التكليف به، ويندفع الوجه الثاني، بأن من حصل منه
الترك بدون كف لا يعتبر عاصيا للنهي عرفا. والصحيح أن كلا الوجهين
باطل، لان النهي ليس طلبا لا للترك ولا للكف، وإنما هو زجر بنحو المعنى
202

الاسمي - كما في مادة النهي - أو بنحو المعنى الحرفي - كما في صيغة النهي -
وهذا يعني أن متعلقه الفعل لا الترك.
ولا اشكال في دلالة النهي مادة وصيغة على كون الحكم بدرجة التحريم،
ويثبت ذلك بالتبادر والفهم العرفي العام.
203

الاحتراز في القيود
إذا ورد خطاب يشتمل على حكم وقيد له فقد يكون هذا القيد متعلقا
للحكم، كالاكرام في (أكرم الفقير)، وقد يكون موضوعا له كالفقير في
المثال، وقد يكون شرطا كما في الجملة الشرطية، (إذا زالت الشمس فصل)
وقد يكون غاية كما في (صم في الليل) وقد يكون وصفا للموضوع كالعادل
في (اكر الفقير العادل) وهكذا.
وفي كل هذه الحالات يوجد للكلام مدلول تصوري أريد اخطاره في
ذهن السامع، ومدلول تصديقي جدي وهو الحكم الشرعي الذي أبرز وكشف
عنه بذلك الخطاب. ولا شك في أن الصورة التي نتصورها في مرحلة المدلول
التصوري عند سماع الكلام المذكور هي صورة حكم يرتبط بذلك القيد على
نحو من أنحاء الارتباط، ونستكشف من دخول القيد في الصورة التي يدل
عليها الكلام بالدلالة التصورية دخوله أيضا في المدلول التصديقي الجدي،
بمعنى ان القيد مأخوذ في ذلك الحكم الشرعي الخاص الذي كشف عنه ذلك
الكلام، فحينما يقول المولى (أكرم الفقير العادل) نفهم ان الوجوب الذي أراد
كشفه بهذا الخطاب قد جعل على الفقير العادل، واخذت العدالة في موضوعه
وفقا لاخذها في المدلول التصوري للكلام، وذلك لان المولى لو لم
يكن قد أخذ العدالة قيدا في موضوع ذلك الوجوب الذي جعله
وأبرزه بقوله: (أكرم الفقير العادل) لكان هذا يعني انه أخذ في المدلول
204

التصوري لكلامه قيدا ولم يأخذ ذلك القيد في المدلول الجدي لذلك
الكلام، اي انه بين بالدلالة التصورية للكلام شيئا وهو القيد مع أنه
لا يدخل في نطاق مراده الجدي، وهذا خلاف ظهور عرفي سياقي
مفاده: ان كل ما يبين بالكلام في مرحلة المدلول التصوري فهو داخل في
نطاق المراد الجدي، وبكلمة أخرى ان ما يقوله يريده حقيقة، وبهذا الظهور
نثبت قاعدة وهي: قاعدة احترازية القيود، ومؤداها: ان كل قيد يؤخذ في
المدلول التصوري للكلام، فالأصل فيه بحكم ذلك الظهور أن يكون قيدا في
المراد الجدي أيضا، فإن قال: (أكرم الانسان الفقير)، فالفقر قيد في المراد
الجدي بمعنى كونه دخيلا في موضوع الاكرام الذي سيق ذلك
الكلام للكشف عنه. ويترتب على ذلك أنه إذا لم يكن الانسان فقيرا فلا
يشمله ذلك الوجوب، ولكن هذا لا يعني ان إكرامه ليس واجبا باعتبار آخر
فقد يكون هناك وجوب ثان يخص الانسان العالم أيضا، فإذا لم يكن الانسان
فقيرا وكان عالما فقد يجب إكرامه بوجوب ثان. وهكذا نعرف ان قاعدة
احترازية القيود تثبت ان شخص الحكم الذي يشكل المدلول التصديقي الجدي
للكلام المشتمل على القيد لا يشتمل من انتفى عنه القيد ولا تنفي وجود
حكم آخر يشمله.
205

الاطلاق
الاطلاق يقابل التقييد، فان تصورت معنى ولاحظت فيه وصفا خاصا أو
حالة معينة، كان ذلك تقييدا، وان تصورته بدون ان تلحظ معه أي وصف
أو حالة أخرى كان ذلك إطلاقا، فالتقييد إذن هو لحاظ خصوصية زائدة في
الطبيعة، والاطلاق عدم لحاظ الخصوصية الزائدة. والطبيعة محفوظة في كلتا
الحالتين: غير أنها تتميز في الحالة الأولى بأمر وجودي وهو لحاظ الخصوصية،
وتتميز في الحالة الثانية بأمر عدمي وهو عدم لحاظ الخصوصية. ومن هنا يقع
البحث في أن كلمة انسان مثلا أو أي كلمة مشابهة هل هي موضوعة للطبيعة
المحفوظة في كلتا الحالتين فلا التقييد دخيل في المعنى الموضوع له ولا
الاطلاق، بل الكلمة بمدلولها تلائم كلا الامرين، أو ان الكلمة موضوعة
للطبيعة المطلقة فتدل الكلمة بالوضع على الاطلاق وعدم لحاظ القيد. وقد
وقع الخلاف في ذلك، ويترتب على هذا الخلاف أمران:
أحدهما: إن استعمال اللفظ وإرادة المقيد على طريقة تعدد الدال والمدلول
يكون استعمالا حقيقا على الوجه الأول، لان المعنى الحقيقي للكلمة محفوظ
في ضمن المقيد والمطلق على السواء، ويكون مجازا على الوجه الثاني لان الكلمة
لم تستعمل في المطلق مع أنها موضوعة للمطلق، اي للطبيعة التي لم يلحظ معها
قيد بحسب الفرض.
والامر الآخر: إن الكلمة إذا وقعت في دليل حكم، كما إذا أخذت
206

موضوعا للحكم مثلا ولم نعلم ان الحكم هل هو ثابت لمدلول الكلمة على
الاطلاق، أو لحصة مقيدة منه أمكن على الوجه الثاني ان نستدل بالدلالة
الوضعية للفظ على الاطلاق، لأنه مأخوذ في المعنى الموضوع له وقيد له
فيكون من القيود التي ذكرها المتكلم فنطبق عليه قاعدة احترازية القيود فثبت
ان المراد الجدي مطلقا أيضا.
وأما على الوجه الأول فلا دلالة وضعية للفظ على ذلك، لان اللفظ
موضوع بموجبه للطبيعة المحفوظة في ضمن المطلق والمقيد، وكل من الاطلاق
والتقييد خارج عن المدلول الوضعي للفظ. فالمتكلم لم يذكر في كلامه التقييد
ولا الاطلاق فلا يمكن بالطريقة السابقة ان نثبت الاطلاق بل لا بد من
طريقة أخرى.
والصحيح هو الوجه الأول: لان الوجدان العرفي شاهد بان استعمال
الكلمة في المقيد على طريقة تعدد الدال والمدلول ليس فيه تجوز.
وعلى هذا الأساس نحتاج في إثبات الاطلاق إلى طريقة أخرى، إذا ما دام
الاطلاق غير مأخوذ في مدلول اللفظ وضعا فهو غير مذكور في الكلام فلا
يتاح تطبيق قاعدة احترازية القيود عليه.
والطريقة الأخرى هي ما يسميها المحققون المتأخرون بقرينة الحكمة
وجوهرها التمسك بدلالة تصديقية لظهور عرفي سياقي آخر غير ذلك الظهور
الحالي السياقي الذي تعتمد عليه قاعدة احترازية القيود، فقد عرفنا سابقا ان
هذه القاعدة تعتمد على ظهور عرفي سيأتي مفاده، ان ما يقوله يريده حقيقة،
ويوجد ظهور عرفي سياقي آخر مفاده: أن لا يكون شئ دخيلا وقيدا في
مراده الجدي وحكمه ولا يبينه باللفظ، لان ظاهر حال المتكلم انه في مقام
بيان تمام مراده الجدي بخطابه، وحيث إن القيد ليس مبينا في حالة عدم
نصب قرينة على التقييد فهو إذن ليس داخلا في المراد الجدي والحكم
207

الثابت، وهذا هو الاطلاق المطلوب. وهكذا نلاحظ ان كلا من قرينة
الحكمة التي تثبت الاطلاق وقاعدة احترازية القيود تبتنى على ظهور عرفي
سياقي حالي غير الظهور العرفي السياقي الحالي الذي تعتمد عليه الأخرى،
فالقاعدة تبتنى على ظهور حال المتكلم في أن ما يقوله يريده، وقرينة الحكمة
تبتنى على ظهور حال المتكلم في أن كل ما يكون قيدا في مراده الجدي يقوله
في الكلام الذي صدر منه لابراز ذلك المراد الجدي اي انه في مقام بيان تمام
مراده الجدي بخطابه.
وقد يعترض على قرينة الحكمة هذه بان اللفظ إذا لم يكن يدل بالوضع إلا
على الطبيعة المحفوظة في ضمن المقيد والمطلق معا فلا دال على الاطلاق، كما
لا دال على التقييد، مع أن أحدهما ثابت في المراد الجدي جزما، لان موضوع
الحكم في المراد الجدي اما مطلق واما مقيد، وهذا يعني أنه على اي حال لم
يبين تمام مراده بخطابه ولا معين حينئذ لافتراض الاطلاق في مقابل التقييد.
ويمكن الجواب على هذا الاعتراض بان ذلك الظهور الحالي السياقي لا
يعني سوى أن يكون كلامه وافيا بالدلالة على تمام ما وقع تحت لحاظه من
المعاني بحيث لا يكون هناك معنى لحظه المتكلم ولم يأت بما يدل عليه، لا ان
كل ما لم يلحظه لا بد ان يأتي بما يدل على عدم لحاظه، فان ذلك مما لا
يقتضيه الظهور الحالي السياقي، وعليه فإذا كان المتكلم قد أراد المقيد مع أنه لم
ينصب قرينة على القيد، فهذا يعني وقوع أمر تحت اللحاظ، زائد على الطبيعة
وهو تقيدها بالقيد، لان المقيد يتميز بلحاظ زائد ولا يوجد في الكلام ما
يبين هذا التقييد الذي وقع تحت اللحاظ، وإذا كان المتكلم قد أراد المطلق
فهذا لا يعني وقوع شئ تحت اللحاظ زائدا على الطبيعة، لان الاطلاق، كما
تقدم عبارة عن عدم لحاظ القيد، فصح ان يقال: إن المتكلم لو كان قد أراد
المقيد لما كان مبينا لتمام مرامه. لان القيد واقع تحت اللحاظ، وليس مدلولا
للفظ، وإذا كان مراده المطلق، فقد بين تمام ما وقع تحت لحاظه، لان نفس
208

الاطلاق ليس واقعا تحت اللحاظ بل هو عدم لحاظ القيد الزائد.
ونستلخص من ذلك اننا بتوسط قرينة الحكمة نثبت الاطلاق، ونستغني
بذلك عن اثباته بالدلالة الوضعية عن طريق اخذه قيدا في المعنى الموضوع له
اللفظ، ثم تطبيق قاعدة احترازية القيود عليه، لكن يبقى هناك فارق عملي
بين اثبات الاطلاق بقرينة الحكمة، واثبات بالدلالة الوضعية، وتطبيق قاعدة
احترازية القيود، وهذا الفارق العملي يظهر في حالة اكتناف الكلام
بملابسات معينة تفقده الظهور السياقي الذي تعتمد عليه قرينة الحكمة، فلا
يعود لحال المتكلم ظهور في أنه في مقام بيان تمام مراده الجدي بكلامه وأمكن
أن يكون في مقام بيان بعضه، ففي هذه الحالة لا تتم قرينة الحكمة لبطلان
الظهور الذي تعتمد عليه، فلا يمكن اثبات الاطلاق لمن يستعمل قرينة الحكمة
لاثباته، وخلافا لذلك من يثبت الاطلاق بالدلالة الوضعية وتطبيق قاعدة
احترازية القيود، فإن بإمكانه ان يثبت الاطلاق في هذه الحالة أيضا، لان
الظهور الذي تعتمد عليه هذه القاعدة غير الظهور الذي تعتمد عليه قرينة
الحكمة كما عرفنا سابقا، وهو ثابت على أي حال.
ثم إن الاطلاق الثابت بقرينة الحكمة، تارة يكون شموليا، أي مقتضيا
لاستيعاب الحكم لتمام افراد الطبيعة. وأخرى يكون بدليا يكتفى في امتثال
الحكم المجهول فيه إيجاد أحد الافراد. ومثال الأول: اطلاق الكذب في (لا
تكذب)، ومثال الثاني: اطلاق الصلاة في (صل).
والاطلاق تارة يكون أفراديا وأخرى يكون أحواليا، والمقصود بالاطلاق
الافرادي أن يكون للمعنى أفراد فيثبت بقرينة الحكمة انه لم يرد به بعض
الافراد دون بعض، والمقصود بالاطلاق الأحوالي أن يكون للمعنى أحوال،
كما في أسماء الاعلام، فإن مدلول كلمة زيد وإن لم يكن له افراد ولكن له
أحوال متعددة، فيثبت بقرينة الحكمة، انه لم يرد به حال دون حال.
209

الاطلاق في المعاني الحرفية:
مر بنا سابقا ان المعاني في المصطلح الأصولي تارة تكون معاني إسمية
كمدلول عالم، (أكرم العالم)، وأخرى معاني حرفية، كمدلول صيغة الامر
في نفس المثال، ولا شك في أن قرينة الحكمة تجري على المعاني الاسمية،
ويثبت بها إطلاقها، واما المعاني الحرفية فقد وقع النزاع في امكان ذلك
بشأنها، مثلا: إذا شككنا في أن الحكم بالوجوب هل هو مطلق وثابت في كل
الأحوال، أو في بعض الأحوال دون بعض، فهل يمكن ان نطبق قرينة
الحكمة على مفاد (أكرم) في المثال وهو الوجوب المفاد على نهج النسبة الطلبية
والارسالية لاثبات انه مطلق أو لا؟ وسيأتي توضيح الحال في هذا النزاع في
الحلقة الثالثة ان شاء الله تعالى. والصحيح فيه إمكان تطبيق مقدمات الحكمة
في مثل ذلك.
التقابل بين الاطلاق والتقييد:
اتضح مما ذكرناه ان هناك إطلاقا وتقييدا في عالم اللحاظ وفي مقام
الثبوت، والتقييد هنا بمعنى لحاظ القيد، والاطلاق بمعنى عدم لحاظ القيد.
وهناك أيضا إطلاق وتقييد في عالم الدلالة، وفي مقام الاثبات، والتقييد هنا
بمعنى الاتيان في الدليل بما يدل على القيد، والاطلاق بمعنى عدم الاتيان بما
يدل على القيد مع ظهور حال المتكلم في أنه في مقام بيان تمام مراده بخطابه
والاطلاق الاثباتي يدل على الاطلاق الثبوتي، والتقييد الاثباتي يدل على
التقييد الثبوتي. ولا شك في أن الاطلاق والتقييد متقابلان ثبوتا وإثباتا، غير أن
التقابل على أقسام، فتارة يكون بين أمرين وجوديين كالتضاد بين
الاستقامة والانحناء، وأخرى يكون بين وجود عدم، كالتناقض بين وجود
البصر وعدمه، وثالثة يكون بين وجود صفة في موضع معين وعدمها في ذلك
الموضع مع كون الموضع قابلا لوجودها فيه من قبيل البصر والعمى، فان
210

العمى ليس عدم البصر، ولو في جدار، بل عدم البصر في كائن حي يمكن في
شأنه ان يبصر. وعلى هذا الأساس اختلف الاعلام في أن التقابل بين الاطلاق
والتقييد الثبوتيين من أي واحد من هذه الانحاء، ومن الواضح على ضوء ما
ذكرناه انه ليس تضادا، لان الاطلاق الثبوتي ليس امرا وجوديا، بل هو
عدم لحاظ القيد، ومن هنا قيل تارة: بأنه من قبيل تقابل البصر وعدمه،
فالتقييد بمثابة البصر والاطلاق بمثابة عدمه، وقيل أخرى: إنه من قبيل
التقابل بين البصر والعمى، فالتقييد بمثابة البصر والاطلاق بمثابة العمى. واما
التقابل بين الاطلاق والتقييد الاثباتيين فهو من قبيل تقابل البصر والعمى
بدون شك بمعنى ان الاطلاق الاثباتي الكاشف عن الاطلاق الثبوتي هو عدم
ذكر القيد في حالة يتيسر للمتكلم فيها ذكر القيد، والا لم يكن سكوته عن
التقييد كاشفا عن الاطلاق الثبوتي.
الحالات المختلفة لاسم الجنس:
مما ذكرناه يتضح ان أسماء الأجناس لا تدل على الاطلاق بالوضع، بل
بالظهور الحالي وقرينة الحكمة.
ولاسم الجنس ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون معرفا باللام من قبيل كلمة (البيع) في (أحل الله
البيع).
الثانية: أن يكون منكرا، اي منونا بتنوين التنكير من قبيل كلمة (رجل)
في (جاء رجل) أو (جئني برجل).
الثالثة: أن يكون خاليا من التعريف والتنكير، كما في حالة كونه منونا
بتنوين التمكين أو كونه مضافا.
ويلاحظ ان اسم الجنس يبدو بوضعه الطبيعي وبدون تطعيم لمعناه، في
211

الحالة الثالثة، بينما يطعم في الحالة الثانية بشئ من التنكير، وفي الحالة الأولى
بشئ من التعريف اما الحيثية التي طعم بها مدلول اسم الجنس في الحالة
الثانية، فأصبح نكرة، فالمعروف انها حيثية الوحدة، فالنكرة موضوعة
للطبيعة المأخوذة بقيد الوحدة، ولهذا لا يمكن أن يكون الاطلاق شموليا حين
ينصب الامر على نكرة مثل (أكرم عالما)، وذلك لان طبيعة عالم مثلا حين
تتقيد بقيد الوحدة لا يمكن ان تنطبق على أكثر من واحد - أي واحد - وهو
معنى الاطلاق البدلي.
واما الحيثية التي طعم بها مدلول اسم الجنس في الحالة الأولى فأصبح معرفة
فهي التعيين، فاللام تعين مدلول مدخولها وتطبقه على صورة مألوفة، إما
بحضورها فعلا كما في العهد الحضوري، وإما بذكرها سابقا، كما في العهد
الذكري، وإما باستئناس ذهني خاص بها، كما في العهد الذهني، وإما
باستئناس ذهني عام بها، كما في لام الجنس، فان في الذهن لكل جنس
انطباعات معينة تشكل لونا من الاستيناس العام الذهني بمفهوم ذلك الجنس،
فان قيل: (نار) دلت الكلمة على ذات المفهوم وان قيل: (النار) وأريد
باللام لام الجنس أفاد ذلك تطبيق هذا المفهوم على حصيلة تلك
الانطباعات، وبذلك يصبح معرفة.
واسم الجنس في حالة كونه معرفة، وكذلك في الحالة الثالثة التي يخلو فيها
من التعريف والتنكير معا يصلح للاطلاق الشمولي، ولهذا إذا قلت (أكرم
العالم) جرت قرينة الحكمة لاثبات الاطلاق الشمولي في كلمة (العالم).
الانصراف:
قد يتكون - نتيجة لملابسات - أنس ذهني خاص بحصة معينة من حصص
المعنى الموضوع له اللفظ، وهذا الانس على نحوين، أحدهما: أن يكون نتيجة
212

لتواجد تلك الحصة في حياة الناس وغلبة وجودها على سائر الحصص.
والآخر: أن يكون نتيجة لكثرة استعمال اللفظ وإرادة تلك الحصة على طريقة
تعدد الدال والمدلول. اما النحو الأول فلا يؤثر على إطلاق اللفظ شيئا لأنه
انس ذهني بالحصة مباشرة دون ان يؤثر في مناسبة اللفظ لها أو يزيد في
علاقته بما هو لفظ بتلك الحصة خاصة.
واما النحو الثاني فكثرة الاستعمال المذكورة قد تبلغ إلى درجة توجب نقل
اللفظ من وضعه الأول إلى الوضع للحصة، أو تحقق وضعا تعينيا للفظ لتلك
الحصة بدون نقل، وقد لا توجب ذلك أيضا، ولكنها تشكل درجة من
العلاقة والقرن بين اللفظ والحصة بمثابة تصلح ان تكون قرينة على ارادتها،
خاصة من اللفظ، فلا يمكن حينئذ اثبات الاطلاق بقرينة الحكمة، لأنها
تتوقف على أن لا يكون في كلام المتكلم ما يدل على القيد، وتلك العلاقة
والانس الخاص يصلح للدلالة عليه.
الاطلاق المقامي:
الاطلاق الذي استعرضناه وعرفنا انه يثبت بقرينة الحكمة والظهور الحالي
السياقي نسميه الاطلاق اللفظي تمييزا له عن نحو آخر من الاطلاق لا بد من
معرفته، نطلق عليه اسم الاطلاق المقامي.
ونقصد بالاطلاق اللفظي حالة وجود صورة ذهنية للمتكلم وصدور
الكلام منه في مقام التعبير عن تلك الصورة، ففي مثل هذا الحالة إذا ترددنا
في هذه الصورة هل انها تشتمل على قيد غير مذكور في الكلام الذي سبق
للتحدث عنها، كان مقتضى الظهور الحالي السياقي في أن المتكلم يبين تمام
المراد بالخطاب مع عدم ذكره للقيد هو الاطلاق، وهذا هو الاطلاق اللفظي
لأنه يرتبط بمدلول اللفظ.
213

واما الاطلاق المقامي فلا يراد به نفي شئ لو كان ثابتا لكان قيدا في
الصورة الذهنية التي يتحدث عنها اللفظ، وانما يراد به نفي شئ لو كانا ثابتا
لكان صورة ذهنية مستقلة وعنصرا آخر، فإذا قال المتكلم: (الفاتحة جزء في
الصلاة والركوع جزء فيها، والسجود جزء فيها...) وسكت، واردنا ان
نثبت بعدم ذكره لجزئية السورة انها ليست جزءا كان هذا اطلاقا مقاميا.
ويتوقف هذا الاطلاق المقامي على احراز ان المتكلم في مقام بيان تمام اجزاء
الصلاة، إذ ما لم يحرز ذلك لا يكون عدم ذكره لجزئية السورة كاشفا عن
عدم جزئيتها، ومجرد استعراضه لعدد من اجزاء الصلاة لا يكفي لاحراز
ذلك، بل يحتاج احرازه إلى قيام قرينة خاصة على أنه في هذا المقام.
وبذلك يختلف الاطلاق المقامي عن الاطلاق اللفظي، إذ في الاطلاق
اللفظي يوجد ظهور سياقي عام يتكفل إثبات ان كل متكلم يسوق لفظا
للتعبير عن صورة ذهنية، فلا تزيد الصورة الذهنية التي يعبر عنها باللفظ عن
مدلول اللفظ، ولا يوجد في الاطلاق المقامي ظهور مماثل في أن كل من
يستعرض عددا من اجزاء الصلاة فهو يريد الاستيعاب.
بعض التطبيقات لقرينة الحكمة:
يدل الامر - كما تقدم - على الطلب وانه على نحو الوجوب كما تقدم،
وقد يقال بهذا الصدد: إن دلالته على الوجوب ليست بالوضع، وإنما هي
بالاطلاق وقرينة الحكمة، لان الطلب غير الوجوبي طلب ناقص محدود وهذا
التحديد تقييد في هوية الطلب، ومع عدم نصب قرينة على التقييد يثبت
بالاطلاق إرادة الطلب المطلق، اي الطلب الذي لا حد له بما هو طلب وهو
الوجوب.
وللطلب انقسامات عديدة:
كانقسامه إلى الطلب النفسي والغيري: فالأول هو طلب الشئ لنفسه،
214

والثاني هو طلب الشئ لاجل غيره.
وانقسامه إلى الطلب التعييني والتخييري، فالأول هو طلب شئ معين،
والثاني طلب أحد الأشياء على سبيل التخيير.
وانقسامه إلى العيني والكفائي، فالأول هو طلب الشئ من المكلف بعينه،
والثاني طلبه من أحد المكلفين على سبيل البدل. وبالاطلاق وقرينة الحكمة
يمكن ان نثبت كون الطلب نفسيا تعيينيا عينيا، ويقال في توضيح ذلك: ان
الغيرية تقتضي تقييد وجوب الشئ بما إذا وجب ذلك الغير، والتخييرية
تقتضي تقييده بما إذا لم يؤت بالآخر، والكفائية تقتضي تقييده بما إذا لم يأت
الآخر بالفعل، وكل هذه التقييدات تنفى مع عدم القرينة عليها بقرينة
الحكمة فيثبت المعنى المقابل لها.
215

العموم
تعريف العموم:
الاستيعاب تارة يثبت دون أن يكون مدلولا للفظ، وأخرى يكون
مدلولا له، فالأول كاستيعاب الحكم الوارد على المطلق لافراده، فإذا قيل:
(أكرم العالم) اقتضى اسم الجنس استيعاب وجوب الاكرام لافراد العالم، إلا
أن هذا الاستيعاب ليس مدلولا للفظ، وإنما الكلام بدل على نفي القيد،
ومن لوازم ذلك إنحلال الحكم حينئذ في مرحلة التطبيق على جميع أفراد
العالم. والثاني هو العموم، كما في قولنا: (كل رجل) فإن (كل) هنا تدل
بنفسها على الاستيعاب.
وبهذا ظهر أن أسماء العدد كعشرة رغم استيعابها لوحداتها ليست
عموما، لان هذا الاستيعاب صفة واقعية للعشرة فإن كل مركب يستوعب
اجزاءه، وليس مدلولا عليه بنفس لفظ العشرة، فحاله حال إنقسام العشرة
إلى متساويين، فكما أنه صفة واقعية، وليس داخلا في مدلول اللفظ كذلك
الاستيعاب.
أدوات العموم ونحو دلالتها:
لا شك في وجود أدوات تدل على العموم بالوضع مثل كلمة (كل) و
(جميع) ونحوهما من الألفاظ الخاصة بإفادة الاستيعاب، غير أن النقطة
216

الجديرة بالبحث فيها وفي كل ما ثبت أنه من أدوات العموم بالوضع هي: أن
إسراء الحكم إلى تمام أفراد مدخول الأداة، أي (عالم) مثلا في قولنا (أكرم
كل عالم) هل يتوقف على إجراء الاطلاق وقرينة الحكمة في المدخول، أو أن
دخول أداة العموم على الكلمة يغنيها عن مقدمات الحكمة، وتتولى الأداة
بنفسها دور تلك القرينة؟ وقد ذكر صاحب الكفاية (رحمه الله) أن كلا
الوجهين ممكن من الناحية النظرية، لان أداة العموم إذا كانت موضوعة
لاستيعاب ما يراد من المدخول تعين الوجه الأول، لان المراد بالمدخول لا
يعرف حينئذ من ناحية الأداة، بل بقرينة الحكمة، وإذا كانت موضوعة
لاستيعاب تمام ما يصلح المدخول للانطباق عليه تعين الوجه الثاني، لان
المدخول مفاده الطبيعة، وهي صالحة للانطباق على تمام الافراد فيتم تطبيقها،
كذلك بتوسط الأداة مباشرة. وقد استظهر رحمه الله - بحق - الوجه الثاني،
وقد لا يكتفي بالاستظهار في تعيين الوجه الثاني، بل يبرهن على إبطال الوجه
الأول بلزوم اللغوية. إذ بعد فرض الاحتياج إلى قرينة الحكمة لاثبات
الاطلاق في المرتبة السابقة على دخول الأداة يكون دور الأداة لغوا صرفا،
ولا يمكن إفتراض كونها تأكيدا، لان فرض الطولية بين دلالة الأداة وثبوت
الاطلاق بقرينة الحكمة يمنع عن تعقل كون الأداة ذات أثر ولو تأكيدي.
دلالة الجميع المعرف باللام:
ومما ادعيت دلالته على العموم الجمع المعرف باللام بعد التسليم، بأن
الجمع الخالي من اللام لا يدل على العموم وأن المفرد المعرف باللام لا يدل
على ذلك أيضا، وإنما يجري فيه الاطلاق وقرينة الحكمة.
والكلام في ذلك يقع في مرحلتين:
الأولى: تصوير هذه الدلالة ثبوتا، والصحيح في تصويرها أن يقال: إن
الجمع المعرف باللام مشتمل على دوال ثلاثة: أحدها: يدل على المعنى الذي
217

يراد استيعاب أفراده، وهو المادة، وثانيها: يدل على الجمع، وهو هيئة
الجمع، وثالثها: يدل على استيعاب الجمع لتمام أفراد مدلول المادة وهو اللام.
والثانية: في حال هذه الدلالة اثباتا، وتفصيل ذلك أنه تارة يدعي وضع اللام
الداخلة على الجمع للعموم، وأخرى يدعي وضعها لتعيين مدخولها وحيث لا
يوجد معين للافراد الملحوظين في الجمع من عهد ونحوه تتعين المرتبة الأخيرة
من الجمع، لأنها المرتبة الوحيدة التي لا تردد في انطباقها وحدود شمولها،
فيكون العموم من لوازم المدلول الوضعي وليس هو المدلول المباشر وقد
اعترض على كل من الدعويين.
أما على الأولى فبأن لازمها كون الاستعمال في موارد العهد مجازيا، إذ لا
عموم أو البناء على الاشتراك اللفظي بين العهد والعموم وهو بعيد.
وأما الثانية فقد أورد عليها صاحب الكفاية (رحمه الله) بأن التعيين، كما
هو محفوظ في المرتبة الأخيرة من الجمع كذلك هو محفوظ
في المراتب الأخرى. وكأنه يريد بالتعيين المحفوظ في كل تلك
المراتب تعين العدد وماهية المرتبة وعدد وحداتها، بينما
المقصود بالتعين الذي تتميز به المرتبة الأخيرة من الجمع تعين ما هو داخل
من الافراد في نطاق الجمع المعرف، وهذا النحو من التعين لا يوجد إلا لهذه
المرتبة.
218

المفاهيم
تعريف المفهوم:
الكلام له مدلول مطابقي وهو المنطوق، وقد يتفق أن يكون له مدلول
التزامي، والمفهوم مدلول التزامي للكلام، ولكن لا كل مدلول التزامي، بل
المدلول الالتزامي الذي يعبر عن انتفاء الحكم في المنطوق إذا إختلفت بعض
القيود المأخوذة في المدلول المطابقي، فقولك (صلاة الجمعة واجبة) يدل
بالدلالة الالتزامية على أن صلاة الظهر ليست واجبة، ولكن هذا ليس
مفهوما، لأنه لا يعبر عن انتفاء نفس وجوب صلاة الجمعة، أي انتفاء حكم
المنطوق. وتحصل الدلالة الالتزامية على انتفاء الحكم المنطوق باختلال بعض
القيود بسبب أن الربط الخاص المأخوذ في المدلول المطابقي بين الحكم وقيوده
قد أخذ على نحو يستدعي انتفاء الحكم المنطوق بانتفاء ما ربط به.
ولكن ليس كل انتفاء من هذا القبيل للحكم المنطوق مفهوما أيضا، بل
إذا تضمن انتفاء طبيعي الحكم المنطوق، فزيد مثلا قد يجب إكرامه بملاك المجاملة،
وقد يجب إكرامه بملاك مجازاة الاحسان، وقد يجب إكرامه بملاك الشفقة،
وهكذا، فإذا قيل (إذا جاءك زيد فأكرمه) فوجوب الاكرام المبرر بهذا الكلام لا
بد أن يكون واحدا من هذه الافراد للوجوب. ولنفترض أنه الفرد الأول منها مثلا،
وهذا الفرد من الوجوب ينتفي بانتفاء الشرط تطبيقا لقاعدة احترازية
القيود، ولكن هذه القاعدة لا تنفي سائر أفراد الوجوب الأخرى، ولا يعتبر
219

ذلك مفهوما، بل المفهوم أن يدل الربط الخاص المأخوذ في المنطوق بين الحكم
وقيده على انتفاء طبيعي الحكم بانتفاء القيد، فقولنا: (إذا جاء زيد فأكرمه)
في المثال المتقدم، إنما يعتبر له مفهوم إذا دل الربط فيه بين الشرط والجزاء
على إنه في حالات انتفاء الشرط ينتفي طبيعي وجوب الاكرام بكل أفراده
الآنفة الذكر. ومن هنا صح تعريف المفهوم بأنه: انتفاء طبيعي الحكم المنطوق
على أن يكون هذا الانتفاء مدلولا التزاميا لربط الحكم في المنطوق بطرفه.
ضابط المفهوم:
وعلى ضوء ما ذكرناه في تعريف المفهوم نواجه السؤال التالي: ما هو هذا
النحو من الربط الذي يستلزم انتفاء الحكم عند الانتفاء لكي نبحث بعد
ذلك عن الجمل التي يمكن القول بأنها تدل على ذلك النحو من الربط،
وبالتالي يكون لها مفهوم؟
والمعروف أن الربط الذي يحقق المفهوم يتوقف على ركنين أساسيين:
أحدهما: أن يكون الربط معبرا عن حالة لزوم علي انحصاري: وبكلمة
أخرى أن يكون من ارتباط المعلول بعلته المنحصرة، إذ لو كان الربط بين
الجزاء والشرط مثلا مجرد اتفاق بدون لزوم، أو لزوما بدون علية أو علية
بدون انحصار لتوفر علة أخرى، لما انتفى مدلول الجزاء بانتفاء ما ارتبط به
في الجملة من شرط، لامكان وجوده بعلة أخرى.
والركن الآخر: أن يكون المرتبط بتلك العلة المنحصرة طبيعي الحكم،
وسنخه لا شخصه لكي ينتفي الطبيعي بانتفاء تلك العلة لا الشخص فقط، لما
عرفت سابقا من أن المفهوم لا يتحقق إلا إذا كان الربط مستلزما لانتفاء
طبيعي الحكم المنطوق بانتفاء القيد.
ونلاحظ على الركن الأول من هذين الركنين.
220

أولا: أن كون المرتبط به الحكم علة تامة ليس أمرا ضروريا لاثبات
المفهوم، بل يكفي أن يكون جزء العلة إذا افترضنا كونه جزءا لعلة
منحصرة، فالمهم من ناحية المفهوم الانحصار لا العلية.
وثانيا: أن الجملة الشرطية مثلا إذا أفادت كون الجزاء ملتصقا بالشرط
ومتوقفا عليه كفى ذلك في إثبات الانتفاء عند الانتفاء، ولو لم يكن فيها ما
يثبت علية الشرط للجزاء أو كونه جزء العلة، بل وحتى لو لم يكن فيها ما
يدل على اللزوم، ولهذا لو قلنا إن مجئ زيد متوقف صدفة على مجئ عمرو،
لدل ذلك على عدم مجئ زيد في حالة عدم مجئ عمرو، فليست دلالة الجملة
على اللزوم العلي الانحصاري هي الأسلوب الوحيد لدلالتها على المفهوم، بل
يكفي بدلا عن ذلك دلالتها على الالتصاق والتوقف، ولو صدفة من جانب
الجزاء.
مفهوم الشرط:
من أهم الجمل التي وقع البحث عن مفهومها الجملة الشرطية. ولا شك في
دلالتها على ربط الجزاء بالشرط، وأن وقع الاختلاف في الدال على هذا
الربط، فالرأي المعروف أن أداة الشرط هي الدالة على الربط وضعا، وخالف
في ذلك المحقق الأصفهاني، إذ ذهب إلى أن الأداة موضوعة لإفادة أن
مدخولها (أي الشرط) قد افترض، وقدر على نهج الموضوع في القضية
الحقيقية، وأما ربط الجزاء بالشرط وتعليقه عليه، فهو مستفاد من هيئة الجملة
وما فيها من ترتيب للجزاء على الشرط.
وعلي أي حال يتجه البحث حول ما إذا كان هذا الربط المستفاد من
الجملة الشرطية بين الجزاء والشرط يفي بإثبات المفهوم أولا. وفي هذا المجال
نواجه سؤالين على ضوء ما تقدم من الضابط لاثبات المفهوم:
221

أولا: هل المعلق طبيعي الحكم أو شخصه؟
ثانيا: هل يستفاد من الجملة أن الشرط علة منحصرة للمعلق؟
وفيما يتصل بالسؤال الأول يقال عادة: بأن المعلق طبيعي الحكم لا
الشخص، وذلك بإجراء الاطلاق وقرينة الحكمة في مفاد هيئة جملة الجزاء،
فإن مفادها هو المحكوم عليه بالتعليق، ومقتضى الاطلاق أنه لوحظ بنحو
الطبيعي لا بنحو الشخص، ففي جملة (إذ جاء زيد فأكرمه) نثبت بالاطلاق
أن مفاد (أكرم) طبيعي الوجوب المفاد بنحو المعنى الحرفي والنسبة الارسالية.
وفيما يتصل بالسؤال الثاني قد يقال: إن أداة الشرط موضوعة لغة للربط
العلي الانحصاري بين الشرط والجزاء، ولكن يورد على ذلك عادة بأنها لو
كانت موضوعة على هذا النحو لزم أن يكون استعمالها في مورد كون الشرط
علة غير منحصرة مجازا وهو خلاف الوجدان، ومن وهنا اتجه القائلون
بالمفهوم إلى دعوى أخرى وهي: أن اللزوم مدلول وضعي للأداة، والعلية
مستفادة من تفريغ الجزاء على الشرط بالفاء الثابتة حقيقة أو تقديرا، وأما
الانحصار فيثبت بالاطلاق، إذ لو كان للشرط بديل يتحقق عوضا عنه في
بعض الأحيان، لكان لا بد من تقييد الشرط المذكور في الجملة بذلك البديل
بحرف (أو) ونحوها، فيقال مثلا (إن جاء زيد أو مرض فأكرمه) فحيث لم
يذكر ذلك والقي الشرط مطلقا، ثبت بذلك عدم وجود البديل وهو معنى
الانحصار.
الشرط المسوق لتحقيق الموضوع:
يوجد في الجملة الشرطية (إن جاء زيد فأكرمه) حكم وهو وجوب
الاكرام وشرط وهو المجئ، وموضوع ثابت في حالتي وجود الشرط وعدمه،
وهو زيد، وفي هذه الحالة يثبت مفهوم الشرط تبعا لما تقدم من بحوث.
222

ولكننا أحيانا نجد أن الشرط يساوق وجود الموضوع ويعني تحقيقه على نحو لا
يكون في الجملة الشرطية موضوع محفوظ في حالتي وجود الشرط وعدمه، كما
في قولنا: إذا رزقت ولدا فاختنه، وفي مثل ذلك لا مجال للمفهوم إذ مع
عدم الشرط لا موضوع لكي تدل الجملة على نفي الحكم عنه، ويسمى الشرط
في حالات من هذا القبيل بالشرط المسوق لتحقيق الموضوع.
مفهوم الوصف:
إذا قيد متعلق الحكم أو موضوعه بوصف معين، كما في إكرام الفقير
العادل، فهل يدل التقييد بوصف معين، كما في إكرام الفقير العادل، فهل
يدل التقييد بوصف العادل على المفهوم؟
قد يقال بثبوت المفهوم لاحد الوجهين التاليين:
الأول: أنه لو كان يجب إكرام الفقير العادل والفقير غير العادل معا،
فهذا يعني أن العدالة ليس لها دخل في موضوع الحكم بالوجوب، مع أن أخذ
قيد في الخطاب ظاهر عرفا في أنه دخيل في الحكم.
ويرد على ذلك: أن دلالة الخطاب على دخل القيد لا شك فيها، ومردها
إلى ظهور حال المتكلم في أن كل ما يبين بالكلام في مرحلة المدلول التصوري
فهو داخل في نطاق المراد الجدي، وحيث أن الوصف قد بين في مرحلة
المدلول بوصفه قيدا، فيثبت بذلك أنه دخيل في موضوع الحكم المراد جدا،
وعلى أساس ذلك قامت قاعدة احترازية القيود كما تقدم، غير أن ذلك إنما
يقتضي دخل الوصف في شخص الحكم وانتفاء هذا الشخص الذي سيق
الكلام لابرازه بانتفاء الوصف لا انتفاء طبيعي الحكم، وما نقصده بالمفهوم
انتفاء الطبيعي.
الثاني: أنه لو كان يجب إكرام الفقير العادل والفقير غير العادل ولو
223

بفردين من الوجوب وبجعلين، لما كانت هناك فائدة في ذكر المولى لقيد
العدالة، لأنه لو لم يذكره وجاء الخطاب مطلقا لما أضر بمقصوده، وإذا لم
تكن هناك فائدة في ذكر القيد كان لغوا، فيتعين لصيانة كلام المولى عن
اللغوية أن يفترض لذكر القيد فائدة، وهي التنبيه على عدم شمول الحكم
للفقير غير العادل فيثبت المفهوم
وهذا البيان وإن كان متجها، ولكنه إنما يقتضي نفي الثبوت الكلي الشامل
للحكم في حالات انتفاء الوصف ولا ينفي ثبوته في بعض الحالات مع انتفائه
في حالات أخرى، إذ يكون لذكر القيد عندئذ فائدة وهي التحرز عن هذه
الحالات الأخرى، لأنه لو لم يذكر لشمل الخطاب كل حالات الانتفاء.
فالوصف إذن له مفهوم محدود، ويدل على انتفاء الحكم بانتفاء الوصف على
نحو السالبة الجزئية لا على نحو السالبة الكلية.
وينبغي أن نلاحظ في هذا المجال، أن الوصف تارة يذكر مع موصوفه
فيقال مثلا: (احترم العالم الفقيه) وأخرى يذكر مستقلا فيقال: (احترم
الفقيه). والوجه الأول لاثبات المفهوم للوصف لو تم يجري في كلتا الحالتين،
وأما الوجه الثاني فيختص بالحالة الأولى، لان ذكر الوصف في الحالة الثانية لا
يكون لغوا على أي حال ما دام الموصوف غير مذكور.
جمل الغاية والاستثناء:
وهناك جمل أخرى يقال عادة بثبوت المفهوم لها كالجملة المتكلفة لحكم
مغيبي، كما في (صم إلى الليل) أو المتكفلة لحكم مع الاستثناء منه. ولا شك
في أن الغاية والاستثناء يدلان على أن شخص الحكم الذي أريد إبرازه بذلك
الخطاب منفي بعد وقوع الغاية، ومنفي عن المستثنى تطبيقا لقاعدة احترازية
القيود، ولكن هذا لا يكفي لاثبات المفهوم، لان المطلب فيه نفي طبيعي
224

الحكم، كما في الجملة الشرطية، وهذا يتوقف على إثبات كون الغاية أو
الاستثناء غاية لطبيعي الحكم، واستثناء منه على وزان كون المعلق في الجملة
الشرطية طبيعي الحكم، فإن أمكن إثبات ذلك للغاية ولأداة الاستثناء مفهوم
كمفهوم الجملة الشرطية، فتدلان على أن طبيعي الحكم ينتفي عن جميع
الحالات التي تشملها الغاية أو يشملها المستثنى، وإذا لم يكن إثبات ذلك لم
يكن للغاية والاستثناء مفهوم بهذا المعنى. نعم يثبت لها مفهوم محدود بقدر ما
ثبت للوصف بقرينة اللغوية إذ لو كان طبيعي الحكم ثابتا بعد الغاية أو
للمستثنى أيضا ولو بجعل آخر، كان ذكر الغاية أو الاستثناء بلا مبرر عرفي
فلا بد من إفتراض انتفاء الطبيعي في حالات وقوع الغاية وحالات المستثنى
ولو بنحو السالبة الجزئية صيانة للكلام عن اللغوية.
225

التطابق بين الدلالات
تقدم ان الكلام له ثلاث دلالات، وهي: الدلالة التصورية، والدلالة
التصديقية الأولى، والدلالة التصديقية الثانية. وتقدم ان الظاهر من كل لفظ
في مرحلة الدلالة التصويرية هو المعنى الموضوع له اللفظ. ونريد هنا الإشارة
إلى ظهور كل لفظ في مرحلة الدلالة التصديقية الأولى: في أن المتكلم يقصد
باللفظ تفهيم نفس المعنى الظاهر من الدلالة التصورية لا معنى آخر، فإذا قال
المتكلم (أسد) وشككنا في أن المتكلم هل قصد ان يخطر في ذهننا المعنى
الحقيقي وهو الحيوان المفترس أو المعنى المجازي وهو الرجل الشجاع، كان
ظاهر حاله انه يقصد إخطار المعنى الحقيقي، ومرد ذلك في الحقيقة إلى ظهور
حال المتكلم في التطابق بين الدلالة التصورية، والدلالة التصديقية الأولى، فما
دام الظاهر من الأولى هو المعنى الحقيقي، فالمقصود في الثانية هو أيضا،
وهذا الظهور حجة على ما يأتي في قاعدة حجية الظهور ويطلق على حجيته
اسم أصالة الحقيقة.
ولنأخذ الآن الدلالة التصديقية الثانية بعد افتراض تعيين الدلالتين
السابقتين عليها لنجد فيها نفس الشئ، فان الظاهر من الكلام في مرحلة
الدلالة التصديقية الثانية، ان المراد الجدي متطابق مع ما قصد إخطاره في
الذهن في مرحلة الدلالة التصديقية الأولى، فإذا قال المتكلم (أكرم كل
جيراني) وعرفنا ان يريد أن يخطر في ذهننا صورة العموم، ولكن شككنا في
226

ان مراده الجدي هل هو أن نكرم جيرانه جميعا، أو ان نكرم بعضهم، غير أنه
أتى باللفظ عاما وقصد اخطار العموم مجاملة لجيرانه، ففي هذه الحالة نجد
أن ظاهر حال المتكلم انه جاد في التعميم، وان مراده الجدي ذلك، ومرد ذلك
في الحقيقة إلى ظهور حال المتكلم في التطابق بين الدلالة التصديقية الأولى
والدلالة التصديقية الثانية، فما دام الظاهر من الأولى إخطار صورة العموم،
فالظاهر من الثانية إرادة العموم جدا، وهذا الظهور حجة، ويطلق على
حجيته في هذا المثال أصالة العموم.
وقد يقول المتكلم (أكرم فلانا) ويخطر في ذهننا مدلول الكلام، ولكننا
نشك في أنه جاد في ذلك، ونحتمل انه متأثر بظروف خاصة من التقية
ونحوها، وانه ليس له مراد جدي اطلاقا، والكلام فيه كالكلام في المثال
السابق، فان ظهور التطابق بين الدلالتين التصديقيتين يقتضي دلالة الكلام
على أن ما أخطره في ذهننا عند سماع هذا الكلام مراد له جدا، وان الجهة
التي دعته إلى الكلام هي كون مدلوله مرادا جديا له لا التقية، وهذا الظهور
حجة ويسمى بأصالة الجهة.
ونلاحظ على ضوء ما تقدم ان في الكلام ثلاثة ظواهر: أحدهما تصوري،
واثنان تصديقيان، ويختلف التصوري عنهما في أن ظهور اللفظ تصورا في
المعنى الحقيقي لا يتزعزع حتى مع قيام القرينة المتصلة، على أن المتكلم أراد
معنى آخر، واما ظهور الكلام تصديقا في إرادة المتكلم للمعنى الحقيقي
استعمالا وجدا فيزول بقيام القرينة المذكورة ويتحول من المعنى الحقيقي إلى
المعنى الذي تدل عليه القرينة، واما القرينة المنفصلة فلا تزعزع شيئا من هذه
الظواهر، وانما تشكل تعارضا بين ظهور الكلام الأول وبينها، وتقدم عليه
وفقا لقواعد الجمع العرفي.
227

مناسبات الحكم والموضوع
قد يذكر الحكم في الدليل مرتبطا بلفظ له مدلول عام، ولكن العرف
يفهم ثبوت الحكم لحصة من ذلك المدلول، كما إذا قيل (إغسل ثوبك إذا
أصابه البول)، فان الغسل لغة قد يطلق على استعمال اي مائع، ولكن العرف
يفهم من هذا الدليل ان المطهر هو الغسل بالماء.
وقد يذكر الحكم في الدليل مرتبطا بحالة خاصة، ولكن العرف يفهم ان
هذه الحالة مجرد مثال لعنوان عام، وان الحكم مرتبط بذلك العنوان العام،
كما إذا ورد في قربة وقع فيها نجس انه لا تتوضأ منها ولا تشرب، فان
العرف يرى الحكم ثابتا لماء الكوز أيضا، وان القربة مجرد مثال.
وهذه التعميمات وتلك التخصيصات تقوم في الغالب على أساس ما يسمى
بمناسبات الحكم والموضوع، حيث إن الحكم له مناسبات ومناطات مرتكزة في
الذهن العرفي، بسببها ينسبق إلى ذهن الانسان عند سماع الدليل التخصيص
تارة والتعميم أخرى، وهذه الانسباقات حجة، لأنها تشكل ظهورا للدليل،
وكل ظهور حجة وفقا لقاعدة حجية الظهور، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
228

اثبات الملاك بالدليل
عرفنا سابقا ان كل حكم له ملاك، فالوجوب مثلا ملاكه المصلحة
الأكيدة في الفعل، والدليل على الحكم بالمطابقة دليل بالالتزام على ملاكه فله
مدلولان مطابقي والتزامي، فإذا افترضنا في حالة من الحالات ان الحكم تعذر
اثباته بذلك الدليل، كما هو الحال في صورة العجز، فان الحكم بوجوب
الفعل على العاجز غير صحيح، فهذا يعني ان المدلول المطابقي للدليل ساقط
في هذه الصورة، والسؤال بهذا الشأن هو انه هل يمكن إثبات وجود الملاك
بالدليل فيما إذا كان هناك أثر يرتب على إثبات الملاك كوجوب القضاء
مثلا؟
والجواب على هذا السؤال يتعلق بما يتخذ من مبنى في ترابط الدلالة
الالتزامية مع الدلالة المطابقية في الحجية، فان قلنا باستقلال كل من هاتين
الدلالتين في الحجية أمكن إثبات الملاك في المقام بالدلالة الالتزامية للدليل،
لان سقوط دلالته المطابقية لا يؤثر على حجية الدلالة الالتزامية بحسب
الفرض، وان قلنا بتبعية الالتزامية للمطابقية في الحجية، كما هو الصحيح،
فلا يمكن ذلك. وعليه ففي كل حالة يتعذر فيها إثبات نفس الحكم بالدليل
لا يبقى في الدليل ما يثبت وجود الملاك.
ومثل ذلك ما إذا كان الدليل على حكم دالا بالالتزام على حكم آخر،
وسقط المدلول المطابقي، فان محاولة إثبات الحكم المدلول التزاما حينئذ بنفس
229

الدليل كمحاولة إثبات الملاك بالدليل في الحالة الآنفة الذكر. ومثال ذلك:
دليل الوجوب الدال بالالتزام على الحكم بالجواز وعدم الحرمة، فإذا نسخ الوجوب جرى البحث في مدى امكان اثبات الجواز، وعدم الحرمة بنفس
دليل الوجوب المنسوخ، والكلام فيه، كما تقدم في الملاك.
230

2 - الدليل الشرعي غير اللفظي
عرفنا فيما تقدم ان الدليل الشرعي تارة يكون لفظيا، وأخرى غير
لفظي، والدليل الشرعي غير اللفظي هو الموقف الذي يتخذه المعصوم وتكون
له دلالة على الحكم الشرعي. ويتمثل هذا الموقف في الفعل تارة، وفي التقرير
والسكوت عن تصرف معين تارة أخرى، ونتكلم الآن عن دلالات كل من
الفعل والسكوت.
دلالة الفعل
اما الفعل فتارة يقترن بمقال أو بظهور حال يقتضي كونه تعليميا فيكتسب
مدلوله من ذلك، وأخرى يتجرد عن قرينة من هذا القبيل، وحينئذ فان لم
يكن من المحتمل اختصاص المعصوم بحكم في ذلك المورد دل صدور الفعل
منه على عدم حرمته بحكم عصمته، كما يدل الترك على عدم الوجوب لذلك،
ولا يدل بمجرده على استحباب الفعل ورجحانه إلا إذا كان عبادة - فإن عدم
حرمتها مساوق لمشروعيتها ورجحانها - أو أحرزنا في مورد عدم وجود اي
حافز غير شرعي، فيتعين كون الحافز شرعيا فيثبت الرجحان، ويساعد على
هذا الاحراز تكرار صدور العمل من المعصوم، أو مواظبته عليه مع كونه من
الاعمال التي لا يقتضي الطبع تكرارها والمواظبة عليها.
وهل يدل الفعل على عدم كونه مرجوحا، اما مطلقا، واما في حالة
231

تكرار صدوره من المعصوم، أو لا يدل على أكثر مما تقدم من نفي الحرمة في
ذلك؟ وجوه مبنية على أن المعصوم هل يجوز في حقه ترك الأولى وفعل
المكروه، أو يجوز حتى التكرار والمواظبة على ذلك، أو لا يجوز شئ من هذا
بالنسبة إليه؟ ويلاحظ انه على تقدير عدم تجويز ترك الأولى على المعصوم،
اما مطلقا أو بنحو المواظبة على الترك، نستطيع ان نستفيد من الترك عدم
استحباب المتروك، كما نستفيد من الفعل عدم كونه مكروها وعدم كون
الترك مستحبا.
وتبقى هناك نقطة ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار وهي: ان هذه الدلالات
انما تتحقق في اثبات حكم للمكلف عند افتراض وحدة الظروف المحتمل
دخلها في الحكم الشرعي، فان الفعل ما كان دالا صامتا وليس له اطلاق،
فلا يعين ما هي الظروف التي لها دخل في اثبات ذلك الحكم للمعصوم، فما لم
نحرز وحدة الظروف المحتمل دخلها لا يمكن ان نثبت الحكم.
ومن هنا قد يثار اعتراض عام في المقام، وهو ان نفس النبوة والإمامة
ظرف يميز المعصوم دائما عن غيره، فكيف يمكن ان نثبت الحكم على أساس
فعل المعصوم.
والجواب على ذلك: إن احتمال دخل هذا الظرف في الحكم المكتشف ملغي
بقوله تعالى (ولكم في رسول الله أسوة حسنة) (1) وما يناظره من الأدلة
الشرعية الدالة على جعل النبي والامام قدوة، فان فرض ذلك يقتضي إلغاء
دخل النبوة والإمامة في سلوكهما لكي يكون قدوة لغير النبي والامام، فما لم
يثبت بدليل ان الفعل المعين من مختصات النبي والامام يبنى على عدم
الاختصاص.
232

دلالة السكوت والتقرير:
واما السكوت فقد يقال: إنه دليل الامضاء وتوضيح ذلك، ان المعصوم
إذا واجه سلوكا معينا، فاما ان يبدي موقف الشرع منه، وهذا يعني وجود
الدليل الشرعي اللفظي، واما ان يسكت، وهذا السكوت يمكن ان يعتبر
دليلا على الامضاء، ودلالته على الامضاء تارة تدعى على أساس عقلي،
وأخرى على أساس الظهور الحالي. اما الأساس العقلي فيمكن توضيحا: إما
بملاحظة المعصوم مكلفا، فيقال: إن هذا السلوك لو لم يكن مرضيا لوجب
النهي عنه على المعصوم لوجوب النهي عن المنكر، أو لوجوب تعليم الجاهل،
فعدم نهيه وسكوته مع عصمته يكشف عقلا عن كون السلوك مرضيا، واما
بملاحظة المعصوم شارعا وهادفا، فيقال: إن السلوك الذي يواجهه المعصوم لو
كان يفوت عليه غرضه بما هو شارع لتعين الوقوف في وجهه، ولما صح
السكوت لأنه نقض للغرض، ونقض الغرض من العاقل الملتفت مستحيل.
وكل من اللحاظين له شروطه، فاللحاظ الأول يتوقف على توفر شروط
وجوب النهي عن المنكر. واللحاظ الثاني يتوقف على أن يكون السلوك
المسكوت عنه مما يهدد بتفويت غرض شرعي فعلي بان يكون مرتبطا بالمجال
الشرعي مباشرة، كالسلوك القائم على العمل بأخبار الآحاد الثقات في
الشرعيات، أو ناشئا من نكتة تقتضي بطبعها الامتداد إلى المجال الشرعي على
نحو يتعرض الغرض الشرعي للخطر والتفويت، كما لو كان العمل باخبار
الآحاد قائما في المجالات العرفية، ولكن بنكتة تقتضي بطبعها تطبيق ذلك
على الشرعيات أيضا عند الحاجة.
واما الأساس الاستظهاري فيقوم على دعوى أن ظاهر حال المعصوم
- بوصفه المسؤول العام عن تبليغ الشريعة وتقويم الزيغ - عند سكوته عن
سلوك يواجهه ارتضاء ذلك السلوك، وهذا ظهور حالي، وتكون الدلالة
233

حينئذ استظهارية ولا تخضع لجملة من الشروط التي يتوقف عليها الأساس
العقلي.
السيرة:
ومن الواضح ان السكوت انما يدل على الامضاء في حالة مواجهة المعصوم
لسلوك معين، وهذه المواجهة على نحوين:
أحدهما: مواجهة سلوك فرد خاص يتصرف أمام المعصوم، كأن يمسح
أمام المعصوم في وضوئه منكوسا ويسكت عنه.
والآخر: مواجهة اجتماعي وهو ما يسمى بالسيرة العقلائية كما إذا
كان العقلاء بما هم عقلاء يسلكون سلوكا معينا في عصر المعصوم، فإنه بحكم
تواجده بينهم يكون مواجها لسلوكهم العام، ويكون سكوته دليلا على
الامضاء. ومن هنا أمكن الاستدلال بالسيرة العقلائية عن طريق استكشاف
الامضاء من سكوت المعصوم. والامضاء المستكشف بالسكوت ينصب على
النكتة المركوزة عقلائيا لا على المقدار الممارس من السلوك خاصة. وهذا يعني
أولا: ان الممضى ليس هو العمل الصامت لكي لا يدل على أكثر من الجواز،
بل هو النكتة، اي المفهوم العقلائي المرتكز عنه فقد يثبت به حكم تكليفي أو
حكم وضعي. وثانيا: ان الامضاء لا يختص بالعمل المباشر فيه عقلائيا في
عصر المعصوم، ففيما إذا كانت النكتة أوسع من حدود السلوك الفعلي كان
الظاهر من حال المعصوم امضاءها كبرويا وعلى امتدادها.
وعلى ضوء ما ذكرناه نعرف ان ما يمكن الاستدلال به على اثبات حكم
شرعي هو السيرة المعاصرة للمعصومين، لأنها هي التي ينعقد لسكوت
المعصوم عنها ظهور في الامضاء دون السيرة المتأخرة. وقد يتوهم ان السيرة
المتأخرة معاصرة أيضا للمعصوم، وان كان غائبا فيدل سكوته عنها على
234

امضائه، وليست لدينا سيرة غير معاصرة للمعصوم.
والجواب على هذا التوهم: ان سكوت المعصوم في غيبته لا يدل على
امضائه لا على أساس العقل ولا على أساس استظهاري، اما الأول فلانه غير
مكلف في حالة الغيبة بالنهي عن المنكر وتعليم الجاهل، وليس الغرض بدرجة
من الفعلية تستوجب الحفاظ عليه بغير الطريق الطبيعي الذي سبب الناس
أنفسهم إلى سده بالتسبيب إلى غيبته. واما الثاني فلان الاستظهار مناطه حال
المعصوم، ومن الواضح ان حال الغيبة لا يساعد على استظهار الامضاء من
السكوت.
وعلى هذا يعرف ان كشف السيرة العقلائية عن امضاء الشارع، انما هو
بملاك دلالة السكوت عنها على الامضاء لا بملاك ان الشارع سيد العقلاء
وطليعتهم، فما يصدق عليهم يصدق عليه كما يظهر من بعض الأصوليين،
وذلك لان كونه كذلك بنفسه يوجب احتمال تميزه عنهم في بعض المواقف،
وتخطئته لهم في غير ما يرجع إلى المدركات السليمة الفطرية لعقولهم كما
واضح.
235

الدليل الشرعي
1 - إثبات
صغرى الدليل الشرعي
1 - وسائل الاثبات الوجداني
2 - وسائل الاثبات التعبدي
237

تمهيد
الدليل الشرعي شئ يصدر من الشارع وله دلالة على حكم شرعي، وقد
تقدم في البحث الأول عدد من الضوابط الكلية للدلالة. وهنا نتكلم عن كيفية
إثبات كون الدليل صادرا من الشارع، وهذا ما نعبر عنه بإثبات صغرى
الدليل الشرعي.
وهذا الاثبات على نحوين: أحدهما: الاثبات الوجداني وذلك بإحراز
الصدور وجدانا، والآخر: الاثبات التعبدي وذلك بأن يتعبد الشارع
بالصدور كأن يقول مثلا: اعملوا بما يرويه الثقاة، وهذا معنى جعل الحجية
فالكلام يقع في قسمين:
239

1 - وسائل الاثبات الوجداني
وسائل الاثبات الوجداني للدليل الشرعي - بالنسبة إلى غير المعاصرين
للشارع - هي الطرق التي توجب العلم بصدور الدليل من الشارع، ولا يمكن
حصر هذه الطرق ولكن يمكن إبراز ثلاث طرق رئيسية وهي:
أولا: الاخبار الحسي المتعدد بدرجة توجب اليقين، وهو المسمى بالخبر
المتواتر.
ثانيا: الاخبار الحدسي المتعدد بالدرجة نفسها، وهو المسمى بالاجماع.
ثالثا: آثار محسوسة تكشف على سبيل الآن عن الدليل الشرعي، ونتكلم
الآن عن كل واحد من هذه الطرق تباعا.
الخبر المتواتر:
كل خبر حسي يحتمل في شأنه - بما هو خبر - الموافقة للواقع والمخالفة
له، واحتمال المخالفة يقوم على أساس احتمال الخطأ في المخبر، أو احتمال تعمد
الكذب لمصلحة معينة له تدعوه إلى إخفاء الحقيقة، فإذا تعدد الاخبار عن
محور واحد، تضاءل احتمال المخالفة للواقع، لان احتمال الخطأ أو تعمد
الكذب في كل مخبر بصورة مستقلة إذا كان موجودا بدرجة ما، فاحتمال
الخطأ أو تعمد الكذب في مخبرين عن واقعة واحدة معا أقل درجة، لان
درجة احتمال ذلك ناتج ضرب قيمة احتمال الكذب في أحد المخبرين بقيمة
241

إحتماله في المخبر الآخر، وكلما ضربنا قيمة احتمال بقيمة احتمال آخر، تضاءل
الاحتمال، لان قيمة الاحتمال تمثل دائما كسرا محددا من رقم اليقين. فإذا
رمزنا إلى رقم اليقين بواحد، فقيمة الاحتمال هي؟ أو؟ أو أي كسر
آخر من هذا القبيل، وكلما ضربنا كسرا بكسر آخر خرجنا بكسر أشد
ضآلة كما هو واضح. وفي حالة وجود مخبرين كثيرين لا بد من تكرار
الضرب بعدد اخبارات المخبرين لكي نصل إلى قيمة احتمال كذبهم جميعا،
ويصبح هذا الاحتمال ضئيلا جدا، ويزداد ضآلة كلما ازداد المخبرون حتى
يزول عمليا، بل واقعيا لضالته، وعدم إمكان احتفاظ الذهن البشري
بالاحتمالات الضئيلة جدا. ويسمى حينئذ ذلك العدد من الاخبارات التي
يزول معها هذا الاحتمال عمليا أو واقعيا بالتواتر، ويسمى الخبر بالخبر
المتواتر.
ولا توجد هناك درجة معينة للعدد الذي يحصل به ذلك. لان هذا يتأثر
إلى جانب الكم بنوعية المخبرين، ومدى وثاقتهم ونباهتهم وسائر العوامل
الدخيلة في تكوين الاحتمال.
وبهذا يظهر أن الاحراز في الخبر المتواتر يقوم على أساس حساب
الاحتمالات،
والتواتر تارة يكون لفظيا، وأخرى معنويا، وثالثة إجماليا، وذلك أن
المحور المشترك لكل الاخبارات أن كان لفظا محددا، فهذا من الأول، وإن
كان قضية معنوية محددة، فهذا من الثاني، وإن كان لازما منتزعا، فهذا من
الثالث. وكلما كان المحور أكثر تحديدا كان حصول التواتر الموجب لليقين
بحساب الاحتمالات أسرع إذ يكون إفتراض تطابق مصالح المخبرين جميعا
بتلك الدرجة من الدقة رغم إختلاف أحوالهم وأوضاعهم أبعد في منطق
حساب الاحتمالات.
242

وكما تدخل خصائص المخبرين من الناحية الكمية والكيفية في تقييم
الاحتمال، كذلك تدخل خصائص المخبر عنه - أي مفاد الخبر - وهي على
نحوين:
خصائص عامة وخصائص نسبية والمراد بالخصائص العامة، كل خصوصية
في المعنى تشكل بحساب الاحتمال عاملا مساعدا على كذب الخبر أو صدقه،
بقطع النظر عن نوعية المخبر. ومثال ذلك غرابة القضية المخبر عنها فإنها
عامل مساعد على الكذب في نفسه فيكون موجبا لتباطؤ حصول اليقين
بالتواتر، وعلى عكس ذلك كون القضية اعتيادية ومتوقعة ومنسجمة مع سائر
القضايا الأخرى المعلومة، فإن ذلك عامل مساعد على الصدق ويكون حصول
اليقين حينئذ أسرع. والمراد بالخصائص النسبية كل خصوصية في المعنى تشكل
بحساب الاحتمال عاملا مساعدا على صدق الخبر أو كذبه فيما إذا لوحظ نوعية
الشخص الذي جاء بالخبر، ومثال ذلك: غير الشيعي إذا نقل ما يدل على
إمامة أهل البيت عليهم السلام، فان مفاد الخبر نفسه يعتبر بلحاظ خصوصية
المخبر عاملا مساعدا لاثبات صدقه بحساب الاحتمال، لان إفتراض مصلحة
خاصة تدعوه إلى الافتراء بعيد. وقد تجتمع خصوصية عامة وخصوصية نسبية
معا لصالح صدق الخبر كما في المثال المذكور، إذا فرضنا صدور الخبر في ظل
حكم بني أمية، وأمثالهم ممن كانوا يحاولون المنع من أمثال هذه الأخبار،
ترهيبا وترغيبا. فإن خصوصية المضمون بقطع النظر عن مذهب المخبر شاهد
قوي على الصدق وخصوصية المضمون مع اخذ مذهب المخبر بعين الاعتبار
أقوى شهادة على ذلك.
الاجماع:
الاجماع اتفاق عدد كبير من أهل النظر والفتوى في الحكم بدرجة توجب
243

إحراز الحكم الشرعي، وذلك أن فتوى الفقيه في مسألة شرعية بحتة تعتبر
إخبارا حدسيا عن الدليل الشرعي، والاخبار الحدسي هو الخبر المبني على
النظر والاجتهاد في مقابل الخبر الحسي القائم على أساس المدارك الحسية، وكما
يكون الخبر الحسي ذا قيمة احتمالية في إثبات مدلوله، كذلك فتوى الفقيه
بوصفها خبرا حدسيا يحتمل فيه الإصابة والخطأ معا، وكما أن تعدد
الاخبارات الحسية يؤدي بحسب الاحتمالات إلى نمو احتمال المطابقة وضالة
احتمال المخالفة، كذلك الحال في الاخبارات الحدسية حتى تصل إلى درجة
توجب ضآلة احتمال الخطأ في الجميع جدا، وبالتالي زوال هذا الاحتمال عمليا
أو واقعيا. وهذا ما يسمى بالاجماع. فالاجماع والخبر المتواتر مشتركان في
طريقة الاثبات بحساب الاحتمالات، ويعتمد الكشف في كل منهما على هذا
الحساب، ولكنهما يتفاوتان في درجة الكشف. فإن نمو الاحتمال الموافق
وتضاؤل احتمال المخالفة أسرع حركة في التواتر منه في الاجماع وذلك لعدة
أمور يمكن ابراز أهمها في النقاط التالية:
الأولى: ان القيمة الاحتمالية للمفردات في الاجماع أصغر من القيمة
الاحتمالية في التواتر، لان نسبة وقوع الخطأ في الحدسيات أكبر من نسبة
وقوعه في الحسيات.
الثانية: أن الخطأ في مفردات الاجماع لا يتعين أن يكون ذا مركز
واحد، بينما يكون الخطأ في الاخبار الحسية منصبا على مركز واحد عادة.
فحينما يفتي فقهاء عديدون بوجوب غسل الشعر في غسل الجنابة، ويكونون
على خطأ مثلا، قد يكون خطأ أحدهم ناشئا من اعتماده على رواية غير تامة
السند، وخطأ الآخر ناشئا من اعتماده على رواية غير تامة الدلالة، وخطأ
الثالث ناشئا من اعتماده على أصالة الاحتياط وهكذا. وكلما كان المركز
المحتمل للأخطاء المتعددة واحدا أو متقاربا، كان احتمال تراكم الأخطاء عليه
244

أضعف والعكس صحيح.
الثالثة: ان احتمال تأثير الخبر الأول في الخبر الثاني موجود في مجال الاخبار
الحدسية، وغير موجود عادة في مجال الاخبار الحسية، وهذا يعني أن احتمال
الخطأ في الخبر الأول يتضمن في مجال الحدسيات احتمالا للخطأ في الخبر الثاني،
بينما هو في مجال الحسيات حيادي تجاه كون الثاني مخطئا أو مصيبا.
الرابعة: ان احتمال الخطأ في قضية حسية يقترن عادة بإحراز وجود
المقتضى للإصابة، وهو سلامة الحواس والفطرة، وينشأ من احتمال وجود المانع
عن تأثير المقتضى، وأما احتمال الخطأ في قضية نظرية حدسية، فهو يتضمن
أحيانا احتمال عدم وجود المقتضى للإصابة، أي احتمال كون عدم الإصابة
ناشئا من القصور لا لعارض من قبيل الذهول أو ارتباك البال.
الخامسة: أن الأخطاء المحتملة في مجموع الاخبار الحدسية يحتمل نشوؤها
من نكتة مشتركة، وأما الأخطاء المحتملة في مجموعة الاخبار الحسية فلا يحتمل
فيها ذلك عادة، بل هي ترتبط في كل مخبر بظروفه الخاصة، وكلما كان
هناك احتمال النكتة المشتركة موجودا، كان احتمال المجموع أقرب من إحتماله
في حالة عدم وجودها.
ويتأثر حساب الاحتمال في الاجماع بعوامل عديدة منها: نوعية العلماء
المتفقين من الناحية العلمية، ومن ناحية قربهم من عصر النصوص.
ومنها: طبيعة المسألة المتفق على حكمها، وكونها من المسائل المترقب ورود
النص بشأنها، أو من التفصيلات والتفريعات.
ومنها: درجة ابتلاء الناس بتلك المسألة وظروفها الاجتماعية فقد يتفق أنها
بنحو يقتضي توافر الدواعي والظروف إشاعة الحكم المقابل لو لم يكن الحكم
المجمع عليه ثابتا في الشريعة حقا.
245

ومنها: لحن كلام أولئك المجمعين في مقام الاستدلال على الحكم، ومدى
احتمال إرتباط موقفهم بمدارك نظرية موهونة إلى غير ذلك من النكات
والخصوصيات.
ولما كان استكشاف الدليل الشرعي من الاجماع مرتبطا بحساب الاحتمال،
لم يكن للاجماع بعنوانه موضوعية في حصوله، فقد يتم الاستكشاف حتى مع
وجود المخالف إذا كان الخلاف بنحو لا يؤثر على حساب الاحتمال المقابل،
وهذا يرتبط إلى درجة كبيرة بتشخيص نوعية المخالف وعصره، ومدى
تغلغله في الخط العلمي وموقعه فيه. كما أنه قد لا يكفي الاجماع بحساب
الاحتمال للاستكشاف، فتضم إليه قرائن احتمالية أخرى على نحو يتشكل من
المجموع ما يقتضي الكشف بحساب الاحتمال.
سيرة المتشرعة:
ويناظر الاجماع السيرة المعاصرة والقريبة من عصر المعصومين عليهم السلام
للمتشرعة بما هوم متشرعة. وتوضيح ذلك أن العقلاء المعاصرين للمعصومين
إذا اتجهوا إلى سلوك معين، فتارة يسلكونه بما هم عقلاء كسلوكهم القائم على
التملك بالحيازة مثلا، وأخرى يسلكونه بما هم متشرعة كمسحهم القدم في
الوضوء ببعض الكف مثلا. والأول هو السيرة العقلائية، والثاني سيرة
المتشرعة، والفرق بين السيرتين أن الأولى لا تكون بنفسها كاشفة عن موقف
الشارع، وإنما تكشف عن ذلك بضم السكوت الدال على الامضاء، كما تقدم،
وأما سيرة المتشرعة، فبالامكان اعتبارها بنفسها كاشفة عن الدليل الشرعي
على أساس أن المتشرعة حينما يسلكون بوصفهم متشرعة، يجب أن يكونوا
متلقين ذلك من الشارع، وهناك في مقابل ذلك احتمال أن يكون السلوك
المذكور مبنيا على الغفلة عن الاستعلام. أو الغفلة في فهم الجواب على تقدير
الاستعلام، غير أن هذا الاحتمال يضعف بحساب الاحتمال كلما لوحظ شمول
246

السيرة، وتطابق عدد كبير من المتشرعة عليها، ومن هنا قلنا أن سيرة
المتشرعة تناظر الاجماع لأنها معا يقومان في كشفهما على أساس حساب
الاحتمال. غير أن الاجماع يمثل موقفا فتوائيا نظريا للفقهاء، والآخر يمثل
سلوكا عمليا دينيا للمتشرعة.
وكثيرا ما تشكل سيرة المتشرعة بالمعنى المذكور الحلقة الوسيطة بين
الاجماع والدليل الشرعي، بمعنى أن تطابق أهل الفتوى على حكم مع عدم
كونه منصوبا فيما بأيدينا من نصوص يكشف بظن غالب اطمئناني عن تطابق
سلوكي، وارتكازي من المتشرعة المعاصرين لعصر النصوص، وهذا بدوره
يكشف عن الدليل الشرعي. وبكلمة أخرى إن الاجماع المذكور يكشف عن
رواية غير مكتوبة، ولكنها معاشة سلوكا وارتكازا بين عموم المتشرعة.
الاحراز الوجداني للدليل الشرعي غير اللفظي:
مر بنا أن دليل السيرة العقلائية يعتمد على ركنين: أحدهما: قيام السيرة
المعاصرة للمعصومين من العقلاء على شئ والآخر: سكوت المعصوم الذي يدل
- كما تقدم - على الامضاء. والسؤال الآن كيف يمكن أن نحرز كل واحد من
هذين الركنين؟ فإننا بحكم عدم معاصرتنا لهما زمانا يجب أن نستدل عليهما
بقضايا معاصرة ثابتة وجدانا لكي نحرز بذلك هذا النوع من الدليل الشرعي.
أما السيرة المعاصرة للمعصومين عليهم السلام، فهناك طرق يمكن أن
يدعى الاستدلال بها عليها، وقد تستعمل نفس الطرق لاثبات السيرة
المعاصرة للمعصومين من المتشرعة بوصفهم الشرعي:
الطريق الأول: أن نستدل على ماضي السيرة العقلائية بواقعها المعاصر لنا.
وهذا الاستدلال يقوم على إفتراض الصعوبة في تحول السيرة من سلوك إلى
سلوك مقابل، وكون السيرة العقلائية معبرة - بوصفها عقلائية - عن نكات
247

فطرية وسليقة نوعه وهي مشتركة بين العقلاء في كل زمان.
ولكن الصحيح عدم صحة هذا الاستدلال، إذ لا صعوبة في تصور تحول
السيرة بصورة تدريجية وبطيئة إلى أن تتمثل في السلوك المقابل بعد فترة طويلة
من الزمن، وما هو صعب الافتراض التحول الفجائي العفوي، كما أن
السلوك العقلائي ليس منبثقا دائما عن نكات فطرية مشتركة، بل يتأثر
بالظروف والبيئة والمرتكزات الثقافية إلى غير ذلك من العوامل المتغيرة، فلا
يمكن ان يعتبر الواقع المعاصر للسيرة دليلا على ماضيها البعيد.
الطريق الثاني: النقل التاريخي أما في نطاق التاريخ العام، أو في نطاق
الروايات والأحاديث الفقهية. ويتوقف إعتبار هذا النقل أما على كونه موجبا
للوثوق والعلم، أو على تجمع شرائط الحجية التعبدية فيه، وفي هذا المجال
يمكن الاستفادة من الروايات نفسها، لأنها تعكس ضمنا جوانب من حياة
الرواة والناس وقتئذ، كما يمكن الاستفادة أيضا من فتاوى الجمهور في نطاق
المعاملات مثلا باعتبارها منتزعة أحيانا عن الوضع العام المرتكز عقلائيا إلى
جانب دلالات التاريخ العام.
الطريق الثالث: أن يكون لعدم قيام السيرة المعاصرة للمعصومين على
الحكم المطلوب لازم يعتبر انتفاؤه وجدانيا فيثبت بذلك قيام السيرة على
ذلك النحو. ولنوضح ذلك في مثال كما يأتي:
لنفرض أننا نريد أن نثبت أن السيرة المعاصرة للائمة عليهم السلام،
كانت قائمة على الاجتزاء بالمسح ببعض الكف في الوضوء، فنقول: إن السيرة
إذا كانت منعقدة على ذلك حقا، فهذا سوف يكون دليلا على عدم
الوجوب لدى من يحاول الاستعلام عن حكم المسألة فيغنيه عن السؤال، وأما
إذا لم تكن السيرة منعقدة على ذلك وكان إفتراض المسح بتمام الكف واردا في
السلوك العملي لكثير من المتشرعة وقتئذ، فهذا يعني أن استعلام حكم المسألة
248

ينحصر بالسؤال من المعصومين، أو الرجوع إلى رواياتهم - لان مسح المتشرعة
بتمام الكف لا يكفي لاثبات الوجوب - وحيث إن المسألة محل الابتلاء لعموم
أفراد المكلفين، ووجوب المسح بتمام الكف، يستنبطن عناية فائقة تحفز على
السؤال، فمن الطبيعي أن تكثر الأسئلة في هذا المجال وتكثر الأجوبة تبعا
لذلك، وفي هذه الحالة يفترض عادة أن يصل الينا مقدار من ذلك على أقل
تقدير لاستبعاد اختفاء جلها، مع توفر الدواعي على نقلها، وعدم وجود ما
يبرر الاختفاء، فإذا لم يصل إلينا ذلك نعرف أنه لم تكن هناك أسئلة وأجوبة
كثيرة، وبالتالي لم تكن هناك حاجة إلى استعلام حكم المسألة عن طريق
السؤال والجواب. وهذا يعين إفتراض قيام السيرة على الاجتزاء بالمسح ببعض
الكف.
وهذا الاستدلال يتوقف، كما لاحظنا على أن المسألة محل الابتلاء
للعموم، وكون الحكم المقابل - كوجوب المسح بتمام الكف في المثال - يتطلب
سلوكا لا يقتضيه الطبع بنفسه، وتوفر الدواعي على نقل ما يراد في حكم
المسألة، وعدم وجود مبررات للاخفاء، وعدم وصول شئ معتد به في هذا
المجال، لاثبات الحكم المقابل من الروايات وفتاوى المتقدمين.
الطريق الرابع: أن يكون للسلوك الذي يراد إثبات كونه سلوكا عاما
للمعاصرين للائمة سلوك بديل على نحو لو لم نفترض ذاك يتعين إفتراض
هذا البديل، ويكون هذا السلوك البديل معبرا عن ظاهرة اجتماعية غريبة لو
كانت واقعة حقا لسجلت وانعكست علينا باعتبارها على خلاف المألوف،
وحيث لم تسجل يعرف أن الواقع خارجا كان هو المبدل لا البدل. ومثال
ذلك: أن نقول إن السلوك العام المعاصر للمعصومين كان منعقدا على إعتبار
الظواهر والعمل بها. إذ لولا ذلك لكان لا بد من سلوك بديل يمثل طريقة
أخرى في التفهيم، ولما كانت الطريقة البديلة تشكل ظاهرة غريبة عن المألوف
كان من الطبيعي أن تنعكس ويشار إليها والتالي غير واقع فكذلك المقدم،
249

وبذلك يثبت استقرار السيرة على العمل بالظواهر.
الطريق الخامس: الملاحظة التحليلية الوجدانية بمعنى: ان الانسان إذا
عرض مسألة على وجدانه ومرتكزاته العقلائية، فرأى أنه منساق إلى اتخاذ
موقف معين، ولاحظ ان هذا الموقف واضح في وجدانه بدرجة كبيرة،
واستطاع ان يتأكد من عدم ارتباطه بالخصوصيات المتغيرة من حال إلى حال،
ومن عاقل إلى عاقل بملاحظة تحليلية وجدانية، أمكنه ان ينتهي إلى الوثوق
بان ما ينساق إليه من موقف حالة عامة في كل العقلاء. وقد يدعم ذلك
باستقراء حالة العقلاء في مجتمعات عقلائية مختلفة للتأكد من هذه الحالة
العامة. وهذا طريق قد يحصل للانسان الوثوق بسببه، ولكنه ليس طريقا
استدلاليا موضوعيا الا بقدر ما يتاح للملاحظ من استقراء للمجتمعات
العقلائية المختلفة.
واما سكوت المعصوم الدال على الامضاء فقد يقال: إن من الصعوبة
بمكان الجزم به، إذ كيف نعرف انه لم يصدر من المعصوم ما يدل على الردع
عن السيرة المعاصرة له، وغاية ما نستطيع ان نتأكد منه هو عدم وجود هذا
الردع فيما بأيدينا من نصوص غير أن ذلك لا يعني عدم صدوره، إذا لعله قد
صدر ولم يصل.
غير أن الطريقة التي نتغلب بها على هذه الصعوبة تتم كما يأتي:
نطرح القضية الشرطية القائلة: لو كان قد ردع المعصوم عن السيرة لوصل
الينا، والتالي باطل لان المفروض عدم وصول الردع، فالمقدم مثله. ووجه
الشرطية ان الردع عن سيرة عقلائية مستحكمة لا يتحقق بصورة جادة بمجرد
نهي واحد أو نهيين، بل يجب ان يتناسب حجم الردع مع قوة السيرة
وترسخها، فالردع إذن يجب ان يتمثل في نواه كثيرة، وهذه النواهي بنفسها
تخلق ظروفا مناسبة لأمثالها لأنها تلفت انظار الرواة إلى السؤال وتكثر الأسئلة
والأجوبة، والدواعي متوفرة لضبط هذه النواهي من قبل الرواة، فيكون من
250

الطبيعي ان يصل الينا شئ منها. وفي حالة عدم وصول شئ بالقدر الذي
تفترضه الظروف المشار إليها، نستكشف عدم صدور الردع، وبذلك يتم كلا
الركنين لدليل السيرة:
درجة الوثوق في وسائل الاحراز الوجداني:
وسائل الاحراز الوجداني التي يقوم كشفها على حساب الاحتمال، تؤدي
تارة إلى القطع بالدليل الشرعي، وأخرى إلى قيمة احتمالية كبيرة، ولكن
تناظرها في الطرف المقابل قيمة احتمالية معتد بها، وثالثة إلى قيمة احتمالية
كبيرة تقابلها في الطرف المقابل قيمة احتمالية ضئيلة جدا، وتسمى القيمة
الاحتمالية الكبيرة في هذه الحالة بالاطمئنان، وفي الحالة السابقة بالظن. ولا
شك في حجية الاحراز الواصل إلى درجة القطع تطبيقا لمبدأ حجية
القطع، كما لا شك في أن الاحراز الظني غير كاف للمقصود ما لم يقم دليل
شرعي على التعبد به فيدخل في نطاق الاحراز التعبدي. واما الاطمئنان
فقد يقال بحجيته الذاتية عقلا تنجيزا وتعذيرا كالقطع، بمعنى ان حق
الطاعة الثابت عقلا، كما يشمل حالة القطع بالتكليف، كذلك يشمل حالة
الاطمئنان به، وكما لا يشمل حالة القطع بعدم التكليف، كذلك لا يشمل
حالة الاطمئنان بعدمه، فان صحت هذه الدعوى لم نكن بحاجة إلى
تعبد شرعي للعمل بالاطمئنان مع فارق، وهو امكان الردع عن العمل
بالاطمئنان، مع عدم امكانه في القطع كما تقدم، وإن لم تصح هذه الدعوى،
تعين طلب الدليل على التعبد الشرعي بالاطمئنان. والدليل هو السيرة العقلائية
الممضاة بدلالة السكوت. وفي مقام الاستدلال على حجية الاطمئنان شرعا
بالسيرة العقلائية مع سكوت الشارع عنها، لا بد من افتراض القطع بهذين
الركنين، ولا يكفي الاطمئنان، والا كان من الاستدلال على حجية
الاطمئنان بالاطمئنان.
251

2 - وسائل الاحراز التعبدي
وأهم ما يبحث عنه في علم الأصول كوسيلة تعبدية لاحراز صدور الدليل
من الشارع، خبر الواحد، ويراد به الخبر الذي لم يحصل منه القطع بثبوت
مؤداه.
والكلام فيه في ثلاث مراحل:
إحداها: استعراض الأدلة المدعاة على حكم الشارع بحجيته.
وثانيتها: استعراض الأدلة المدعى كونها معارضة لذلك.
والمرحلة الثالثة: تحديد دائرة الحجية وشروطها بعد فرض ثبوتها، وسنبحث هذه المراحل تباعا.
أدلة حجية خبر الواحد:
وقد استدل على الحجية بالكتاب والسنة.
اما الكتاب الكريم فبآيات.
منها آية النبأ، وهي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق
بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (1).

(1) الحجرات 6.
252

وتقريب الاستدلال ان الجملة في الآية الكريمة شرطية، والحكم فيها هو
الامر بالتبين، وموضوع الحكم النبأ وشرطه مجئ الفاسق به، فتدل بالمفهوم
على انتفاء وجوب التبين عن النبأ إذا انتفى الشرط ولم يجئ به الفاسق، وهذا
يعني انه لا يجب التبين في حالة مجئ العادل بالنبأ، وليس ذلك إلا لحجيته.
وقد نوقش في الاستدلال المذكور بوجهين:
الأول، ان مجئ الفاسق بالنبأ شرط محقق للموضوع لأنه هو الذي يحقق
النبأ، وليس للجملة الشرطية مفهوم إذا كان الشرط مسوقا لتحقق الموضوع،
كما تقدم في بحث مفهوم الشرط.
وحاول صاحب الكفاية ان يدفع هذه المناقشة بدعوى انها انما تتم على
الافتراض المتقدم في تعيين الموضوع والشرط، واما إذا قيل بان الموضوع هو
الجائي بالنبأ، والشرط هو الفسق، كانت الآية في قوة قولنا، إذا كان الجائي
بالنبأ فاسقا فتبينوا. ومن الواضح حينئذ ان الشرط هنا ليس محققا
للموضوع، فيتم المفهوم. ولكن مجرد امكان هذه الفرضية لا يكفي لتصحيح
الاستدلال ما لم يثبت كونها هي المستظهرة عرفا من الآية الكريمة.
الثاني: ان الحكم بوجوب التبين معلل في الآية الكريمة بالتحرز من
الإصابة بجهالة، والعلة مشتركة بين اخبار الآحاد لان عدم العلم ثابت فيها
جميعا، فتكون بمثابة القرينة المتصلة على إلغاء المفهوم.
وأجيب عن ذلك تارة بان الجهالة ليست مجرد عدم العلم، بل تستبطن
السفاهة، وليس في العمل بخبر العادل سفاهة لان سيرة العقلاء عليه. وأخرى
بان المفهوم أخص من عموم التعليل لأنه يقتضي حجية خبر العادل بينما
التعليل يدل على عدم حجية كل ما هو غير علمي، ويشمل باطلاقه خبر
العادل، فليكن المفهوم مقيدا لعموم التعليل.
253

وثالثة: بان المفهوم مفاده ان خبر العادل لا حاجة إلى التبين بشأنه لأنه
بين واضح، وهذا يعني افتراضه بمثابة الدليل القطعي، والامر بالتعامل معه
على أساس أنه بين ومعلوم، وبهذا يخرج عن موضوع عموم التعليل، لان
العموم في التعليل موضوعه عدم العلم. فإذا كان خبر العادل واضحا بينا
بحكم الشارع، فهو علم ولا يشمله التعليل.
ومنها آية النفر، وهي قوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم لعلم يحذرون) (1).
وتقريب الاستدلال بها انها تدل على مطلوبية التحذر عنه الانذار بقرينه
وقوع الحذر موقع الترجي بدخول لعل عليه، وجعله غاية للانذار الواجب،
ومقتضى الاطلاق كون التحذر واجبا عند الانذار، ولو لم يحصل العلم من
قوله المنذر، وهذا يكشف عن حجية اخبار المنذر.
والجواب على ذلك:
أولا: ان وجوب التحذر عند الانذار لا يكشف عن كون الحذر الواجب
بملاك حجية خبر المنذر، وذلك لان الانذار يفترض العقاب مسبقا، وكون
الحكم منجزا بمنجز سابق، كالعلم الاجمالي أو الشك قبل الفحص، ولا
يصدق عنوان الانذار على الاخبار عن حكم لا يستتبع عقابا الا بسبب هذا
الاخبار.
وثانيا: لو سلمنا ان خبر المنذر بنفسه كان منجزا، فهذا لا يساوق
الحجية بمعناها الكامل لما سبق من أن اي دليل احتمالي على التكليف. فهو
ينجزه بحكم العقل، فغاية ما تفيده الآية الكريمة انها تنفي جعل أصالة البراءة

(1) سورة التوبة: 122.
254

شرعا في موارد قيام الخبر على التكليف، ولا تثبت جعل الشارع الحجية
للخبر. نعم بناء على مسلك قبح العقاب بلا بيان يكشف ما ذكر عن الجعل
الشرعي، إذ لولا الجعل الشرعي لجرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وثالثا: ان الآية الكريمة لو دلت على حجية قول المنذر شرعا، فإنما تدل
على حجيته بما هو رأي ونظر، لا بما هو اخبار وشهادة، لان الانذار يعني
مزج الاخبار بتشخيص المعنى واقتناص النتيجة.
ومنها آية الكتمان، وهي قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من
البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يعلنهم الله ويعلنهم
اللاعنون) (1).
وتقريب الاستدلال بها انها تدل بالاطلاق على حرمة الكتمان. ولو في حالة
عدم ترتب العلم على الابداء، وهذا يكشف عن وجوب القبول في هذه الحالة،
لان تحريم الكتمان من دون ايجاب القبول لغو، ووجوب القبول مع عدم العلم
يساوق حكم الشارع بالحجية.
والجواب على ذلك:
أولا: ان الكتمان انما يصدق في حالة الاخفاء مع توفر مقتضيات الوضوح
والعلم، فلا يشمل الاطلاق المذكور عدم الاخبار في مورد لا تتوفر فيه
مقتضيات العلم.
وثانيا: ان تعميم حرمة الكتمان لعله بدافع الاحتياط من قبل المولى لعدم
امكان اعطاء قاعدة للتمييز بين موارد ترتب العلم على الاخبار وغيرها، فان
الحاكم قد يوسع موضوع حكمه الواقعي بدافع الاحتياط، وهذا غير الامر
بالاحتياط.

(1) سورة البقرة: 159.
255

ومنها آية السؤال من اهل الذكر، وهي قوله تعالى: (وما أرسلنا من
قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (1).
وتقريب الاستدلال ان الامر بالسؤال يدل باطلاقه على وجوب قبول
الجواب، ولو لم يفد العلم لأنه بدون ذلك يكون الامر بالسؤال في حال عدم
إفادة الجواب للعلم لغوا، وإذا وجب قبول الجواب ولو لم يفد العلم، ثبتت
الحجية.
وقد اتضح الجواب مما سبق إضافة إلى أن الامر بالسؤال في الآية ليس
ظاهرا في الامر المولوي لكي يستفاد منه ذلك، لأنه وارد في سياق الحديث
مع المعاندين والمتشككين في النبوة من الكفار، ومن الواضح ان هذا السياق لا
يناسب جعل الحجية التعبدية، وانما يناسب الارشاد إلى الطرق التي توجب
زوال التشكك، ودفع الشبهة بالحجة القاطعة، لان الطرف ليس ممن يتعبد
بقرارات الشريعة.
ونلاحظ أيضا ان الامر بالسؤال مفرع على قوله: (وما أرسلنا من قبلك
إلا رجالا نوحي إليهم) والتفريع يمنع عن انعقاد اطلاق في متعلق السؤال
لكي يثبت الامر بالسؤال في غير مورد المفرع عليه وأمثاله. هذا على أن مورد
الآية لا حجية فيه لاخبار الآحاد لأنه يرتبط بأصول الدين.
وإذا قطعنا النظر عن كل ذلك، فالاستدلال يتوقف على حمل اهل الذكر
على العلماء والرواة لا أهل النبوات السابقة بحمل الذكر على العلم لا على
الرسالة الإلهية.
واما السنة فلا بد لكي يصح الاستدلال بها في المقام ان تكون ثابتة
بوسيلة من وسائل الاحراز الوجداني، ولا يكفي ثبوتها بخبر الواحد لئلا يلزم

(1) سورة النحل 43.
256

الدور. وهنا وسيلتان للاحراز الوجداني:
إحداهما التواتر في الروايات الدالة على حجية خبر الواحد، والأخرى
السيرة.
اما الوسيلة الأولى فتقريب الاستدلال بها: ان حجية خبر الواحد يمكن
اقتناصها من ألسنة روايات كثيرة تشترك جميعا في إفادة هذا المعنى وان
اختلفت مضامينها، وبذلك يحصل التواتر الاجمالي، ويثبت بالتواتر حجية
خبر الواحد الواجد من المزايا لما يجعله مشمولا لمجمع تلك الروايات المكونة
للتواتر، فإذا اتفق وجود خبر من هذا القبيل يدل على حجية خبر الواحد في
دائرة أوسع أخذ به.
واما الوسيلة الثانية، فتقريب الاستدلال بها يشتمل على الأمور التالية:
أولا: اثبات السيرة وكون المتشرعة، والرواة في عصر الأئمة كانوا
يعملون باخبار الثقات، ولو لم تفدهم الاطمئنان الشخصي، وفي هذا المجال
يمكن استعمال الطريق الثالث من طرق إثبات السيرة المتقدمة، وذلك لتوفر
شروطه، فإنه لا شك في وجود عدد كبير من هذه الروايات بأيدي المتشرعة
المعاصرين للائمة ودخول حكمها في محل ابتلائهم على أوسع نطاق، فاما ان
يكونوا قد انعقدت سيرتهم على العمل بها من أجل تلقي ذلك من الشارع، أو
جريا على سجيتهم، واما ان يكونوا قد توقفوا عن العمل بها.
والأول هو المطلوب إذ تثبت بذلك السيرة الممتدة في تطبيقها إلى المجال
الشرعي.
واما الثاني فليس من المحتمل ان يؤدي توقفهم إلى طرح تلك الروايات
جميعا بدون استعلام الحكم الشرعي تجاها، لان ارتكاز الاعتماد على اخبار
الثقات، وكون طرح خبر الثقة على خلاف السجية العقلائية، يحول عادة دون
257

التوافق على الطرح بلا استعلام، والاستعلام يجب أن يكون بحجم أهمية
المسألة، وهذا يقتضي افتراض أسئلة وأجوبة كثيرة، فلو لم يكن خبر الثقة
حجة لكان هذا يعني تضافر النصوص بذلك في مقام الجواب على أسئلة
الرواة، ومع توفر الدواعي على نقل ذلك لا بد من وصول هذه النصوص
الينا، ولو في الجملة، بينما لم يصل الينا شئ من ذلك، بل وصل ما يعزز
الحجية، وهذا يعين اما استقرار العمل باخبار الثقات بدون استعلام، واما
استقراره على ذلك بسبب الاستعلام وصدور البيانات المثبتة للحجية.
ثانيا: ان السيرة الثابتة بالبيان السابق إذ كانت سيرة لأصحاب الأئمة بما
هم متشرعة، فهي تكشف عن الدليل الشرعي بلا حاجة إلى ضم مقدمة، وإذا
كانت سيرة لهم بما هم عقلاء، ضممنا إليها مقدمة أخرى وهي: ان الشارع لم
يردع عنها إذ لو كان قد ردع بالدرجة الكافية لاثر هذا الردع من ناحية في
هدم السيرة، ولو صل الينا شئ من نصوص الردع.
ثالثا: ان الآيات الناهية عن العمل بالظن قد يتوهم انها تردع عن السيرة،
لان خبر الواحد امارة ظنية فيشمله اطلاق النهي عن العمل بالظن، ولكن
الصحيح انها لا تصلح ان تكون رادعة، وذلك لأننا أثبتنا بالفعل انعقاد
السيرة المعاصرة للائمة على العمل باخبار الثقات في الشرعيات، وهذا يعني
بعد استبعاد العصيان. اما وصول دليل إليهم على الحجية، أو غفلتهم عن
اقتضاء تلك النواهي للردع، أو عدم كونها دالة على ذلك في الواقع، وعلى
كل من هذه التقادير لا يكون الردع تاما. ومثل ذلك يقال في مقابل التمسك
بأدلة الأصول كدليل أصالة البراءة مثلا لاثبات الردع باطلاقها لحالة قيام
خبر الثقة على خلاف الأصل المقرر فيها.
رابعا: ان عدم الردع يكشف عن الامضاء، وهذا واضح بعد اثبات
امتداد السيرة إلى الشرعيات وجريانها على اثبات الحكم الشرعي بخبر الثقة،
258

الامر الذي يعرض الأغراض الشرعية للتفويت، لو لم تكن مرضية، مضافا
إلى أن ظاهر الحال في أمثال المقام هو الامضاء، كما تقدم.
أدلة نفي الحجية:
وقد استدل على نفي الحجية بالكتاب والسنة.
اما الكتاب فبما ورد فيه من النهي عن اتباع الظن، كقوله تعالى: * (ولا
تقف ما ليس لك به علم) * (1).
وقد يجاب على ذلك بان النهي المذكور، انما يدل على نفي الحجية عن
خبر الواحد بالاطلاق، وهذا الاطلاق يقيد بدليل حجية خبر الواحد، سواء
كان لفظيا أو سيرة.
اما على الأول فواضح، واما على الثاني فلان إطلاق الآيات لا يصلح أن يكون
رادعا عن السيرة كما تقدم، وهذا يعني استقرار حجية السيرة فتكون
مقيدة للاطلاق.
واما السنة ففيها ما دل على عدم جواز العمل بالخبر غير العلمي، وفيها ما
دل على عدم جواز العمل بخبر لا يكون عليه شاهد من الكتاب الكريم. اما
الفريق الأول فيرد عليه:
أولا: انه من اخبار الآحاد الضعيفة سندا ولا دليل على حجيته.
وثانيا: انه يشمل نفسه لأنه خبر غير علمي بالنسبة الينا، ولا نحتمل الفرق
بينه وبين سائر الاخبار غير العلمية، وهذا يعني امتناع حجية هذا الخبر، لان
حجيته تؤدي إلى نفي حجيته والتعبد بعدمها.

(1) الاسراء 36.
259

واما الفريق الثاني فيرد عليه، انه لو تم في نفسه لكان مطلقا شاملا
للاخبار الواردة في أصول الدين، والاخبار الواردة في الاحكام، فيعتبر ما
دل على الحجية في القسم الثاني بالخصوص صالحا لتقييد اطلاق تلك
الروايات.
تحديد دائرة الحجية:
وبعد افتراض ثبوت الحجية يقع الكلام في تحديد دائرتها، وتحديد الدائرة
تارة بلحاظ صفات الراوي، وأخرى بلحاظ المروي.
اما باللحاظ الأول فصفوة القول في ذلك: ان مدرك الحجية إذا كان
مفهوم آية النبأ، فهو يقتضي حجية خبر العادل ولا يشمل خبر الفاسق الثقة،
وإذا كان المدرك السنة على أساس الروايات والسيرة، فلا شك في أن
موضوعها خبر الثقة، ولو لم يكن عادلا من غير جهة الاخبار، الا ان وثاقة
الراوي تارة تؤخذ مناطا للحجية على وجه الموضوعية، وأخرى تؤخذ مناطا
لها على وجه الطريقية، وبما هي سبب للوثوق غالبا، بصدق الراوي، وصحة
نقله، فان استظهر الأول لزم القول بحجية خبر الثقة، ولو قامت امارة
عكسية مكافئة لوثاقة الراوي في كشفها، وان استظهر الثاني لزم سقوط خبر
الثقة عن الحجية في حالة قيام امارة من هذا القبيلي. وعليه يترتب ان اعراض
القدماء من علمائنا عن العمل بخبر ثقة، يوجب سقوطه عن الحجية - إذا لم
يحتمل فيه كونه قائما على أساس اجتهادي - لأنه يكون إمارة على وجود خلل
في النقل.
واما خبر غير الثقة فان لم تكن هناك إمارات ظنية على صدقه، فلا
اشكال في عدم حجيته، وان كانت هناك امارات كذلك، فان أفادت
الاطمئنان الشخصي كان حجة لحجية الاطمئنان، كما تقدم، والا ففي حجية
الخبر وجهان مبنيان على أن وثاقة الراوي هل هي مأخوذة مناطا للحجية على
260

وجه الموضوعية، أو بما هي سبب للوثوق الغالب بالمضمون على نحو يكون
السبب والمسبب كلاهما دخيلين في الحجية، أو بما هي معرف صرف للوثوق
الغالب بالمضمون دون أن يكون لوثاقة الراوي دخل بعنوانها.
فعلى الأول والثاني لا يكون الخبر المذكور حجة، وعلى الثالث يكون
حجة. وعلى هذه التقادير تبتنى اثباتا ونفيا مسألة انجبار الخبر الضعيف بعمل
المشهور من قدماء العلماء. فان عمل المشهور به يعتبر امارة على صحة النقل،
فقد يدخل في نطاق الكلام السابق.
واما باللحاظ الثاني فيعتبر في الحجية امران:
أحدهما: أن يكون الخبر حسيا لا حدسيا، والآخر أن لا يكون مخالفا
لدليل قطعي الصدور من الشارع، كالكتاب الكريم.
اما الأول فلعدم شمول أدلة الحجية للاخبار الحدسية.
واما الثاني فلما دل من الروايات على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب
الكريم، فإنه يقيد أدلة حجية الخبر بغير صورة المخالفة للكتاب الكريم، أو ما
كان بمثابته من الأدلة الشرعية القطعية صدورا وسندا.
قاعدة التسامح في أدلة السنن:
ذكرنا أن خبر غير الثقة إذا لم تكن هناك امارات على صدقه، فهو ليس
بحجة، ولكن قد يستثنى من ذلك الاخبار الدالة على المستحبات، أو على
مطلق الأوامر والنواهي غير الالزامية، فيقال، بأنها حجة في اثبات
الاستحباب أو الكراهة ما لم يعلم ببطلان مفادها. ويستند في ذلك إلى
روايات فيها الصحيحة وغيرها، دلت على أن من بلغه عن النبي ثواب على
عمل فعمله كان له مثل ذلك الثواب، وان كان النبي لم يقله، بدعوى أن
261

هذه الروايات تجعل الحجية لمطلق البلوغ في موارد المستحبات، ومن أجل هذا
يعبر عن ذلك بالتسامح في أدلة السنن. والتحقيق ان هذه الروايات فيها بدوا
عدة احتمالات:
الأول: أن تكون في مقام جعل الحجية لمطلق البلوغ
الثاني: أن تكون في مقام إنشاء استحباب واقعي نفسي على طبق البلوغ،
فيكون بلوغ استحباب الفعل عنوانا ثانويا له يستدعي ثبوت استحباب واقعي
بهذا العنوان.
الثالث: أن تكون ارشادا إلى حكم العقل بحسن الاحتياط واستحقاق
المحتاط للثواب.
الرابع: أن تكون وعدا مولويا لمصلحة في نفس الوعد، ولو كانت هذه
المصلحة هي الترغيب في الاحتياط باعتبار حسنه عقلا.
والاستدلال بالروايات على ما ذكر مبني على الاحتمال الأول، وهو غير متعين
بل ظاهر لسان الروايات ينفيه لأنها تجعل للعامل الثواب، ولو مع مخالفة الخبر
للواقع. فلو كان وضع نفس الثواب تعبيرا عن التعبد بثبوت المؤدي، وحجية
البلوغ، لما كان هناك معنى للتصريح بأن نفس الثواب محفوظ حتى مع مخالفة
الخبر للواقع. كما أن الاحتمال الثاني لا موجب لاستفادته أيضا الا دعوى أن
الثواب على عمل فرع كونه مطلوبا، وهي مدفوعة بأنه يكفي حسن الاحتياط
عقلا ملاكا للثواب. فالمتعين هو الاحتمال الثالث، ولكن مع تطعيمه بالاحتمال
الرابع، لان الاحتمال الثالث بمفرده لا يفسر إعطاء العامل نفس الثواب الذي
بلغه، لان العقل إنما يحكم باستحقاق العامل للثواب لا لشخص ذلك
الثواب، فلا بد من الالتزام بأن هذه الخصوصية مردها إلى وعد مولوي.
262

الذليل الشرعي
3 - إثبات
حجية الدلالة في الدليل الشرعي
263

تمهيد
الدليل الشرعي قد يدل على حكم دلالة واضحة توجب اليقين أو
الاطمئنان. بأن هذا الحكم هو المدلول المقصود. وفي هذه الحالة يعتبر حجة
في دلالته على إثبات ذلك الحكم، لان اليقين حجة والاطمئنان حجة، من
دون فرق بين أن يكون هذا الوضوح واليقين بالدلالة قائما على أساس كونها
دلالة عقلية آنية من قبيل دلالة فعل المعصوم على عدم الحرمة، أو على أساس
كون الدليل لفظا لا يتحمل بحسب نظام اللغة وأساليب التعبير، سوى إفادة
ذلك المدلول وهو المسمى بالنص، أو على أساس احتفاف الدليل اللفظي
بقرائن حالية أو عقلية تنفي احتمال مدلول آخر، وإن كان ممكنا من وجهة
نظر لغوية وعرفية عامة.
وقد يدل الدليل الشرعي على أحد أمرين أو أمور على نحو تكون
صلاحيته لإفادة أي واحد منها مكافئة لصلاحيته لإفادة غيره، بحسب نظام
اللغة، وأساليب التعبير العرفي، وهذا هو المجمل. ويكون حجة في إثبات
الجامع على أساس العلم بان المراد لا يخلو من واحد محتمليه أو محتملاته. هذا فيما
إذا كان للجامع أثر قابل للتنجيز بالعلم المذكور، وأما كل واحد من المحتملات
بخصوصه فلا يثبت بالدليل المذكور إلا مع الاستعانة بدليل خارجي على نفي
المحتمل الآخر، فيضم إلى إثبات الجامع فينتج التعين في المحتمل البديل.
وقد يدل الدليل الشرعي على أحد أمرين مع أولوية دلالته على أحدهما
265

بنحو مسبق إلى الذهن تصورا على مستوى المدلول التصوري، وتصديقا على
مستوى المدلول التصديقي، وإن كانت إفادة المعنى الآخر تصورا وتصديقا
بالدليل المذكور ممكنة، ومحتملة أيضا بحسب نظام اللغة وأساليب التعبير،
وهذا هو الدليل الظاهر في معنى وفي مثل ذلك يحمل على المعنى الظاهر، لان
الظهور حجة في تعيين مراد المتكلم. وهذه الحجية لا تقوم على أساس إعتبار
العلم، لان الظهور لا يوجب العلم دائما، بل على أساس حكم الشارع بذلك.
ويعبر عن حجية الظهور بأصالة الظهور، وعلى وزان ذلك يقال أصالة
العموم وأصالة الاطلاق وأصالة الحقيقة وأصالة الجد، وغير ذلك من
مصاديق لكبري حجية الظهور.
الاستدلال على حجية الظهور
وحكم الشارع بحجية الظهور يمكن الاستدلال عليه بالسيرة بأحد النحوين
التاليين:
النحو الأول: أن نتمسك بالسيرة العقلائية بمعنى استقرار بناء العقلاء على
إتخاذ الظهور وسيلة كافية لمعرفة مقاصد المتكلم، وترتيب ما يرى لها من آثار
بحسب الأغراض التكوينية أو التشريعية، وهذه السيرة بحكم استحكامها
تشكل دافعا عقلائيا عاما للعمل بالظهور في الشرعيات لو ترك المتشرعة إلى
ميولهم العقلائية، وفي حالة من هذا القبيل يكون عدم الردع والسكوت كاشفا
عن الامضاء.
وقد تقدم في بحث دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي استعراض عدد
من الأوجه لتفسير دلالة السكوت على الامضاء، ويلاحظ هنا أن واحدا من
تلك الأوجه لا يمكن تطبيقه في المقام، وهو تفسير الدلالة على أساس الظهور
الحالي، لان الكلام هنا في حجية الظهور، فلا يكفي في إثباتها ظهور حال
266

المعصوم في الامضاء.
النحو الثاني: أن نتمسك بسيرة المتشرعة من أصحاب الأئمة، وفقهائهم،
فإننا لا نشك في أن علمهم في مقام الاستنباط كان يقوم فعلا على العمل
بظواهر الكتاب والسنة، ويمكن إثبات ذلك باستعمال الطريق الرابع من طرق
إثبات السيرة المتقدمة فلاحظ. وعلى هذا تكون السيرة المذكورة كاشفة كشفا
أنيا مباشرا عن الامضاء، ولا حاجة حينئذ إلى توسيط قاعدة أن السكوت
كاشف عن الامضاء على ما تقدم من الفرق بين سيرة المتشرعة والسيرة
العقلائية.
ويواجه الاستدلال بالسيرة هنا نفس ما واجهه الاستدلال بالسيرة في بحث
حجية الخبر. إذ يعترض بأن هذه السيرة مردوع عنها بالمطلقات الناهية عن
العمل بالظن أو باطلاق أدلة الأصول.
والجواب على الاعتراض يعرف مما تقدم في بحث حجية الخبر، مضافا إلى
أن ما دل على النهي عن العمل بالظن يشمل إطلاق نفسه، لأنه دلالة ظنية
أيضا، ولا نحتمل الفرق بينها وبين غيرها من الدلالات والظواهر الظنية،
فيلزم من حجيته التعبد بعدم حجية نفسه، وما ينفي نفسه كذلك لا يعقل
الاكتفاء به في مقام الردع.
موضوع الحجية:
عرفنا سابقا أن الدلالة تصورية وتصديقية. وعليه فهناك ظهور على
مستوى الدلالة التصورية، وهناك ظهور على مستوى الدلالة التصديقية.
ومعنى الظهور الأول أن يكون أحد المعنيين أسرع انسباقا إلى تصور
الانسان وذهنه من الآخر عند سماع اللفظ.
ومعنى الظهور الثاني أن يكون كشف الكلام تصديقا عما في نفس المتكلم،
267

يبرز هذا المعنى دون ذاك فيقال حينئذ: إنه ظاهر فيه بحسب الدلالة
التصديقية.
وقد تقدم أن الظاهر من كل كلام أن يتطابق مدلوله التصوري مع
مدلوله التصديقي.
وعلى أي حال، فموضوع الحجية هو الظهور على مستوى الدلالة
التصديقية، لان الحجية معناها إثبات مراد المتكلم وحكمه بظهور الكلام،
والكاشف عن المراد والحكم إنما هو الدلالة التصديقية والظهور التصديقي.
وأما الدلالة التصورية فلا تكشف عن شئ لكي تكون حجة في إثباته، وإنما
هي مجرد إخطار وتصور، نعم الظهور على مستوى الدلالة التصورية هو الذي
يعين لنا عادة الظهور التصديقي، لان ظاهر الكلام هو التطابق بين ما هو
الظاهر تصورا، وما هو المراد تصديقا وجدا. فالظهور التصوري إذن يؤخذ
كأداة لتعيين الظهور التصديقي الذي هو موضوع الحجية لا أنه موضوع لها
مباشرة.
وقد يوضح المتكلم في نفس كلامه، ان مراده الجدي يختلف عما هو
الظاهر من الكلام في مرحلة المدلول التصوري، وبهذا يصبح الظهور
التصديقي الذي هو موضوع الحجية مختلفا عن الظهور التصوري، كما إذا
قال، جئني بأسد وأعني به الرجل الشجاع، وتسمى الجملة التي سببت هذا
الاختلاف بالقرينة المتصلة. وهذه القرينة تارة يكون تواجدها في الكلام
مؤكدا، كما في هذا المثال، وأخرى يكون محتملا، كما لو كنا نستمع إلى
المتكلم، ثم ذهلنا عن الاستماع واحتملنا أنه قال شيئا من ذلك القبيل.
وفي كل من الحالتين لا يمكن الاخذ بالظهور التصديقي للكلام في إرادة
الحيوان المفترس، إذ في الحالة الأولى لا ظهور كذلك جزما، لأننا نعلم بأن
268

الظهور التصديقي إختلف عن الظهور التصوري.
وفي الحالة الثانية نشك في وجود ظهور تصديقي على طبق التصوري، لان
احتمال القرينة يوجب احتمال التخالف بين الظهورين، ومع الشك في وجوده لا
يمكن البناء على حجيته، وهذا يعني أن احتمال القرينة المتصلة، كالقطع بها،
يوجب عدم جواز الاخذ بالظهور الذي كان من المترقب أن يثبت للكلام في
حالة تجرده عن القرينة.
ظواهر الكتاب الكريم:
ذهب جماعة من العلماء إلى استثناء ظواهر الكتاب الكريم من الحجية،
وقالوا: بأنه لا يجوز العمل فيما يتعلق بالقرآن العزيز، إلا بما كان نصا في
المعنى أو مفسرا تفسيرا محددا من قبل النبي صلى الله عليه وآله أو المعصومين من آله
عليهم الصلاة والسلام. وقد يستدل على ذلك بما يلي:
الدليل الأول قوله تعالى: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات
محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ
فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.) الآية (1).
فإنه يدل على النهي عن اتباع المتشابه، وكل ما لا يكون نصا فهو متشابه
لتشابه محتملاته في علاقتها باللفظ، سواء كان اللفظ مع أحدها أقوى علاقة
أو لا.
والجواب من وجوه:
الأول: أن اللفظ الظاهر ليس من المتشابه، إذ لا تشابه ولا تكافؤ بين
معانيه في درجة علاقتها باللفظ، بل المعنى الظاهر متميز في درجة علاقته،
وعليه فالمتشابه يختص بالمجمل.

(1) آل عمران 7.
269

الثاني: لو سلمنا أن الظاهر من المتشابه، فلا نسلم أن الآية الكريمة تنهي
عن مجرد العمل بالمتشابه، وإنما هي في سياق ذم من يلتقط المتشابهات، فيركز
عليها بصورة منفصلة عن المحكمات إبتغاء الفتنة، وهذا مما لا أشكال في عدم
جوازه حتى بالنسبة إلى ظواهر الكتاب، فمساق الآية مساق قول القائل أن
عدوي يحاول أن يبرز النقاط الموهمة من سلوكي، ويفصلها عن ملابساتها التي
توضح سلوكي العام.
الثالث: ما قد يقال: من أن الآية ليست نصا في الشمول لظاهر الكتاب،
وإنما هي ظاهرة - على أكثر تقدير - في الشمول، وهذا الظهور يشمله النهي
نفسه فيلزم من حجية ظاهر الآية في إثبات الردع عن العمل بظواهر الكتاب
الكريم نفي هذه الحجية.
الدليل الثاني: الروايات الناهية عن الرجوع إلى ظواهر القرآن الكريم،
ويمكن تصنيفها إلى ثلاث طوائف.
الأولى: ما دل من الروايات على أن القرآن الكريم مبهم وغامض قد
استهدف المولى إغماضه وإبهامه لاجل تأكيد حاجة الناس إلى الحجة، وأنه لا
يعرفه إلا من خوطب به، وأن غير المعصوم لا يصل إلى مستوى فهمه.
وهذه الطائفة يرد عليها:
أولا: أن رواياتها جميعا ضعيفة السند، بل قد يحصل الاطمئنان بكذبها
نتيجة لضعف رواتها، وكونهم في الغالب من ذوي الاتجاهات الباطنية
المنحرفة على ما يظهر من تراجمهم. مع الالتفات إلى أن اسقاط ظواهر
الكتاب الكريم عن الحجية أمر في غاية الأهمية. فلو كان الأئمة بصدد بيانه،
لما أمكن عادة إفتراض إختصاص هؤلاء الضعاف بالاطلاع على ذلك
والاخبار عنه دون فقهاء أصحاب الأئمة الذين عليهم المعول، وإليهم تفزع
الشيعة في الفتوى والاستنباط بأمر الأئمة وارجاعهم.
270

وثانيا: أن هذه الروايات معارضة للكتاب الكريم الدال على أنه نزل تباينا
لكل شئ وهدى وبلاغا، والمخالف للكتاب من أخبار الآحاد لا يشمله دليل
حجية خبر الواحد كما أشرنا سابقا.
الطائفة الثانية: ما دل من الروايات على عدم جواز الاستقلال في فهم
القرآن عن الحجة. وهذه لا تدل على عدم جواز العمل بظاهر الكتاب بعد
الفحص في كلمات الأئمة وعدم الظفر بقرينة على خلاف الظاهر، لان هذا
النحو من العمل ليس استقلالا عن الحجة في مقام فهم القرآن الكريم.
الطائفة الثالثة: ما دل من الروايات على النهي عن تفسير القرآن بالرأي،
وأن من فسر القرآن برأيه فقد كفر.
وقد أجيب على الاستدلال بها، بأن حمل اللفظ على معناه الظاهر ليس
تفسيرا لان التفسير كشف القناع، ولا قناع على المعنى الظاهر، وقد يقال إن
هذا الجواب لا ينطبق على بعض الحالات حينما يكون الدليل مشتملا على
ظواهر اقتضائية عديدة متضاربة، على نحو يحتاج تقدير الظهور الفعلي
المتحصل من مجموع تلك الظواهر بعد الموازنة والكسر والانكسار، إلى نظر
وإمعان، فيكون لونا من كشف القناع. ولهذا نرى أن الفقهاء قد يختلفون في
فهم دليل: فيفهم بشكل من فقيه: ويأتي فقيه آخر فيبرز نكتة من داخل
الدليل تعين فهمه بشكل آخر على أساس ما تقتضيه تلك النكتة من ظهور.
فالأحسن الجواب:
أولا: بأن كلمة الرأي منصرفة - على ضوء ما نعرفه من ملابسات عصر
النص، وظهور هذه الكلمة كمصطلح وشعار لاتجاه فقهي واسع - إلى الحدس
والاستحسان فلا تشمل الرأي المبني على قريحة عرفية عامة.
وثانيا: أن إطلاق الروايات المذكورة للظاهر لا يصلح أن يكون رادعا
عن السيرة على العمل بالظواهر، سواء أريد بها السيرة العقلائية أو سيرة
271

المتشرعة، نظير ما تقدم في بحث حجية خبر الواحد.
أما الأولى فلان الردع يجب أن يتناسب حجما ووضوحا مع درجة
استحكام السيرة.
وأما الثانية: فلأننا إذا ادعينا أن سيرة المتشرعة من أصحاب الأئمة
كانت على العمل بظواهر الكتاب - وإلا لعرف الخلاف عنهم - فنفس هذه
السيرة تثبت عدم صلاحية الاطلاق المذكور للردع، بل تكون مقيدة له.
ومما يدفع به الاستدلال بالروايات المذكورة عموما ما دل من الروايات
على الامر بالتمسك بالقرآن الكريم الصادق عرفا على العمل بظواهره، وعلى
إرجاع الشروط إليه، وابطال ما كان منها مخالفا له. فإن المخالفة ان كان
المراد بها المخالفة للفظة، فتصدق على مخالفة ظاهره، وإن كان المراد بها
المخالفة لواقع مضمونه، فمقتضى الاطلاق المقامي إمضاء ما عليه العرف من
موازين في استخراج المضمون، فيدل على حجية الظهور.
وأوضح من ذلك ما دل على طرح ما ورد عنهم عليهم السلام على الكتاب
والاحجام عن العمل بما كان مخالفا له، فإنه لا يحتمل فيه أن يراد منه
المخالفة للمضمون القرآني المكتشف بالخبر، لأنه بصدد بيان جعل الضابط لما
يقبل وما لا يقبل من الخبر، كما إنه لا يحتمل إختصاص المخالفة فيه بالمخالفة
للنص الخبر المخالف للنص، وكون روايات طرح المخالف ناظرة إلى ما هو
الشائع من المخالفة.
فإن قدمت هذه الروايات الدالة على حجية ظواهر الكتاب على الروايات
التي استدل بها على نفي الحجية فهو، وإن تكافأ الفريقان فعلى الأقل يلتزم
بالتساقط، ويقال بالحجية حينئذ. لان الردع غير ثابت فتثبت الحجية بالسيرة
العقلائية بصورة مستقلة، أو بضم استصحاب مفادها الثابت في صدر
الشريعة.
272

الدليل الثالث: ومرده إلى إنكار الظهور بدعوى أن القرآن الكريم مجمل،
أما لتعمد من الله تعالى في جعله مجملا لتأكيد حاجة الناس إلى الامام، وأما
لاقتضاء طبع المطلب، ذلك لان علو المعاني وشموخها يقتضي عدم تيسرها
للفهم.
والجواب على ذلك: أن التعمد المذكور على خلاف الحكمة من نزول
القرآن، وربط الناس بالامام فرع إقامة الحجة على أصل الدين المتوقفة على
فهم القرآن وإدراك مضامينه، كما أن شموخ المعاني وعلوها ينبغي أن لا
يكون على حساب الهدف من بيانها، ولما كان الهدف هداية الانسان، فلا بد
أن تبين المعاني على نحو يؤثر في تحقق هذا الهدف، وذلك موقوف على تيسير
فهمه.
فالصحيح أن ظواهر الكتاب الكريم حجة كظواهر السنة.
273

الدليل العقلي
275

الأدلة المحرزة
2.
الدليل العقلي
1 - اثبات القضايا العقلية
2 - حجية الدليل العقلي
277

تمهيد
الدليل العقلي كل قضية يدركها العقل، ويمكن ان يستنبط منها حكم
شرعي، والبحث عن هذه القضايا العقلية، تارة يقع صغرويا في صحة القضية
العقلية، ومدى ادراك العقل لها. وأخرى يقع كبرويا في حجية الادراك
العقلي لها.
والقضايا العقلية على قسمين:
أحدهما: قضايا تشكل عناصر مشتركة في عملية الاستنباط، كالقضية
العقلية القائلة، ان إيجاب شئ يستلزم إيجاب مقدمته.
والآخر: قضايا مرتبطة باحكام شرعية معينة، كحكم العقل بحرمة المخدر
قياسا له على الخمر لوجود صفة مشتركة وهي: إذهاب الشعور، وحكم العقل
بحرمة الكذب لأنه قبيح.
والقسم الأول يدخل بحثه الصغروي والكبروي معا في علم الأصول، فقد
يبحث عن أصل وجود ادراك عقلي، وهذا بحث صغروي، وقد يبحث عن
حجيته، وهذا بحث كبروي، وكلاهما أصولي لأنهما بحثان في العناصر
المشتركة في عملية الاستنباط.
والقسم الثاني لا يدخل بحثه الصغروي في علم الأصول، لأنه بحث في
عنصر غير مشترك، وانما يدخل بحثه الكبروي في هذا العلم، لكون بحثا في
279

عنصر مشترك، كالبحث عن حجية القياس، وهكذا يتضح ان البحث
الصغروي لا يكون أصوليا، الا في القسم الأول، وان البحث الكبروي
أصولي في كلا القسمين.
غير أن الادراك العقلي إذا كان قطعيا فلا موجب للبحث عن حجيته
للفراغ عن حجيته بعد الفراغ عن حجية القطع، وانما نحتاج إلى البحث عن
حجيته، إذا لم يكن قطعيا كالقياس مثلا:
وسوف نصنف البحث في القضايا العقلية إلى بحثين:
أحدهما: صغروي في اثبات القضايا العقلية التي تشكل عناصر مشتركة. والآخر: كبروي في حجية ادراك العقلي غير القطعي.
280

1 - اثبات القضايا العقلية
تقسيمات للقضايا العقلية:
القضايا العقلية التي تشكل عناصر مشتركة في عملية الاستنباط، وأدلة
عقلية على الحكم الشرعي يمكن ان تقسم كما يلي:
أولا: تنقسم إلى ما يكون دليلا عقليا مستقلا، وما يكون عقليا غير
مستقل.
والمراد بالأول ما لا يحتاج إلى إثبات قضية شرعية لاستنباط الحكم منه.
والمراد بالثاني ما يحتاج إلى إثبات قضية شرعية كذلك.
ومثال الأول: القضية القائلة: بان كل ما حكم العقل بحسنه أو قبحه حكم
الشارع بوجوبه أو حرمته، فان تطبيقها لاستنباط حرمة الظلم مثلا، لا يتوقف
على اثبات قضية شرعية مسبقة.
ومثال الثاني: القضية القائلة: إن وجوب شئ يستلزم وجوب مقدمته،
فان تطبيقها لاستنباط وجوب الوضوء يتوقف على إثبات قضية شرعية
مسبقة، وهي وجوب الصلاة.
وثانيا: تنقسم القضية العقلية إلى قضية تحليلية، وقضية تركيبية، والمراد
بالقضية التحليلية، ما كان البحث فيها يدور حول تفسير ظاهرة معينة،
كالبحث عن حقيقة الوجوب التخييري. والمراد بالقضية التركيبية ما كان
281

البحث فيها يدور حول استحالة شئ أو ضرورته بعد الفراغ عن معناه
وحقيقته في نفسه، كالبحث عن استحالة الامر بالضدين في وقت واحد.
ثالثا: تنقسم الأدلة العقلية المستقلة التركيبية في دلالتها إلى سالبة وموجبة،
والمراد بالسالبة، الدليل العقلي المستقل في استنباط نفي حكم شرعي. والمراد
بالموجبة: الدليل العقلي المستقل في استنباط اثبات حكم شرعي.
ومثال الأول: القضية القائلة باستحالة التكليف بغير المقدور.
ومثال الثاني: القضية المشار إليها آنفا القائلة: بان كل ما حكم العقل
بقبحه حكم الشارع بحرمته.
والقضايا العقلية متفاعلة فيما بينها. فقد يتفق ان تدخل قضية عقلية تحليلية
في البرهنة على قضية أخرى تحليلية أو تركيبية، كما قد تدخل قضية تركيبية
في البرهنة على قضايا تحليلية، وهذا ما سنراه في البحوث الآتية ان شاء الله
تعالى.
282

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور
يستحيل التكليف بغير المقدور، وهذا له معنيان:
أحدهما: ان المولى يستحيل ان يدين المكلف بسبب فعل أو ترك غير
صادر منه بالاختيار، وهذا واضح، لان العقل يحكم بقبح هذه الإدانة، لان
حق الطاعة لا يمتد إلى ما هو خارج عن الاختيار.
والمعنى الآخر: ان المولى يستحيل ان يصدر منه تكليف بغير المقدور في
عالم التشريع، ولو لم يرتب عليه إدانة ومؤاخذة للمكلف، فليست الإدانة
وحدها مشروطة بالقدرة بل التكليف ذاته مشروط بها أيضا.
وتوضيح الحال في ذلك أن مقام الثبوت للحكم يشتمل - كما تقدم - على
ملاك وإرادة واعتبار، ومن الواضح انه ليس من الضروري أن يكون الملاك
مشروطا بالقدرة، كما أن بالامكان تعلق إرادة المولى بامر غير مقدور، لأننا
لا نريد بالإرادة الا الحب الناشئ من ذلك الملاك، وهو مهما كان شديدا،
يمكن افتراض تعلقه بالمستحيل ذاتا فضلا عن الممتنع بالغير، والاعتبار إذا
لوحظ بما هو اعتبار يعقل أيضا ان يتكفل جعل الوجوب على غير المقدور،
لان الاعتبار سهل المؤونة، وليس لغوا في هذه الحالة، إذ قد يراد به مجرد
الكشف بالصياغة التشريعية التي اعتادها العقلاء عن الملاك والمبادئ، ولكن
إذا لوحظ الجعل والاعتبار بما هو ناشئ من داعي البعث والتحريك، فمن
الواضح ان القدرة على مورده تعتبر شرطا فيه، لان داعي تحريك العاجز
283

يستحيل ان ينقدح في نفس العاقل الملتفت.
وحيث إن الاعتبار الذي يكشف عنه الخطاب الشرعي هو الاعتبار بهذا
الداعي، كما يقتضيه الظهور التصديقي السياقي للخطاب، فلا بد من
اختصاصه بحال القدرة، ويستحيل تعلقه بغير المقدور.
ومن هنا كان كل تكليف مشروطا بالقدرة على متعلقه بدون فرق بين
التكاليف الالزامية وغيرها. وكما يشترط في التكليف الطلبي (الوجوب
والاستحباب) القدرة على الفعل، كذلك يشترط الشئ نفس في التكليف
الزجري (الحرمة والكراهة) لان الزجر عما لا يقدر المكلف على ايجاده، أو
عن الامتناع عنه، غير معقول أيضا.
وهكذا نعرف، ان القدرة شرط ضروري في التكليف، ولكنها ليست
شرطا ضروريا في الملاك والمبادئ. ولكن هذا لا يعني انها لا تكون شرطا،
فإن مبادئ الحكم يمكن ان تكون ثابتة وفعلية في حال القدرة والعجز على
السواء، ويمكن ان تكون مختصة بحالة القدرة، ويكون انتفاء التكليف عن
العاجز لعدم المقتضى وعدم الملاك رأسا.
وفي كل حال من هذا القبيل يقال: إن دخل القدرة في التكليف شرعي.
وقد تسمى القدرة حينئذ بالقدرة الشرعية بهذا الاعتبار تمييزا لذلك عن
حالات عدم دخل القدرة في الملاك، إذ يقال عندئذ: ان دخل القدرة في
التكليف عقلي، وقد تسمى القدرة حينئذ بالقدرة العقلية.
ولا فرق في استحالة التكليف بغير المقدور، بين أن يكون التكليف مطلقا
من قبيل أن يقول الآمر لمأموره (طر في السماء)، أو مقيدا بقيد يرتبط بإرادة
المكلف واختياره من قبيل أن يقول (إن صعدت إلى السطح فطر إلى السماء)،
فان التكليف في كلتا الحالتين مستحيل.
284

والثمرة في اشتراط القدرة في صحة الإدانة (المعنى الأول) واضحة، واما
الثمرة في اشتراط القدرة في التكليف ذاته (المعنى الثاني) فقد يقال إنها غير
واضحة إذ ما دام العاجز غير مدان على اي حال، فلا يختلف الحال، سواء
افترضنا ان القدرة شرط في التكليف أو نفيا ذلك وقلنا: بان التكليف يشمل
العاجز، إذ لا اثر لذلك بعد افتراض عدم الإدانة، ولكن الصحيح وجود
ثمرة، على الرغم من أن العاجز غير مدان على اي حال، وهي تتصل بملاك
الحكم، إذ قد يكون من المفيد ان نعرف ان العاجز هل يكون ملاك الحكم
فعليا في حقه وقد فاته بسبب العجز لكي يجب القضاء مثلا، أو ان الملاك لا
يشمله رأسا فلم يفته شئ ليجب القضاء، اي ان نعرف ان القدرة هل هي
دخيلة في الملاك أو لا، فإذا جاء الخطاب الشرعي مطلقا ولم ينص فيه الشارع
على قيد القدرة ظهرت الثمرة، لأننا ان قلنا باشتراط القدرة في التكليف ذاته
كما تقدم، كان حكم العقل بذلك بنفسه قرينة على تقييد اطلاق الخطاب،
فكأنه متوجه إلى القادر خاصة وغير شامل للعاجز، وفي هذه الحالة لا يمكن
اثبات فعلية الملاك في حق العاجز، وانه قد فاته الملاك ليجب عليه القضاء
مثلا، لأنه لا دليل على ذلك نظرا إلى أن الخطاب انما يدل على ثبوت الملاك
بالدلالة الالتزامية، وبعد سقوط المدلول المطابقي للخطاب، وتبعية الدلالة
الالتزامية على الملاك للدلالة المطابقية على التكليف، لا يبقى دليل على ثبوت
الملاك في حق العاجز، وإن لم نقل باشتراط القدرة في التكليف، اخذنا
باطلاق الخطاب في المدلول المطابقي والالتزامي معا، وأثبتنا التكليف والملاك
على العاجز، وبذلك يثبت ان العاجز قد فاته الملاك، وان كان معذورا في
ذلك، إذ لا يدان العاجز على اي حال.
285

قاعدة امكان التكليف المشروط
مر بنا ان مقام الثبوت للحكم يشتمل على عنصر يسمى بالجعل
والاعتبار، وفي هذه المرحلة يجعل الحكم على نهج القضية الحقيقة، كما تقدم،
فيفترض المولى كل الخصوصيات والقيود التي يريد إناطة الحكم بها، ويجعل
الحكم منوطا بها فيقول مثلا: إذا استطاع الانسان وكان صحيح البدن مخلى
السرب وجب عليه الحج.
ونحن إذا لاحظنا هذا الجعل نجد هناك شيئا قد تحقق بالفعل، وهو نفس
الجعل الذي يعتبر في قوة قضية شرطية شرطها القيود المفترضة، وجزاؤها
ثبوت الحكم، ولكن هناك شئ قد لا يكون متحققا فعلا، وانما يتحقق إذا
وجد في الخارج مستطيع صحيح مخلى. وهو الوجوب على هذا أو ذاك الذي
يمثل فعلية الجزاء في تلك القضية الشرطية، فان فعلية الجزاء في كل قضية
شرطية تابعة لفعلية الشرط، فما لم تتحقق تلك القيود لا يكون الوجوب
فعليا، ويسمى الوجوب الفعلي بالمجعول.
ومن هنا أمكن التمييز بين الجعل والمجعول، لان الأول موجود منذ
البداية، والثاني لا يوجد الا بعد تحقق القيود خارجا، والقيود بالنسبة إلى
المجعول بمثابة العلة، وليست كذلك بالنسبة إلى الجعل، لان الجعل متحقق
قبل وجودها خارجا، نعم الجعل يتقوم بافتراض القيود وتصورها، إذ لو لم
يتصور المولى الاستطاعة والصحة مثلا لما أمكنه ان يجعل تلك القضية
286

الشرطية، وبذلك تعرف ان الجعل متقوم بلحاظ القيود وتصورها ذهنا،
والمجعول متقوم بوجود القيود خارجا، ومترتب عليها من قبيل ترتب المعلول
على علته.
وعلى هذا الأساس نعرف ان الحكم المشروط ممكن، ونعني بالحكم
المشروط: أن يكون تحقق الحكم منوطا بتحقق بعض القيود خارجا فلا
وجود له قبلها، فقد عرفنا ان المجعول يمكن أن يكون مشروطا، سواء كان
حكما تكليفيا كالوجوب والحرمة، أو وضعيا كالملكية والزوجية.
وبذلك يندفع ما قد يقال: من أن الحكم المشروط غير معقول، لان
الحكم فعل المولى، وهذا الفعل يصدر ويتحقق بمجرد اعمال المولى لحاكميته،
فأي معنى للحكم المشروط. ووجه الاندفاع ان ما يتحقق كذلك انما هو
الجعل لا المجعول، والحكم المشروط هو المجعول دائما.
287

قاعدة تنوع القيود وأحكامها
تنوع القيود:
حينما يقال إذا زالت الشمس صل متطهرا، فالجعل يتحقق بنفس هذا
الانشاء، واما المجعول وهو وجوب الصلاة فعلا، فهو مشروط بالزوال،
ومقيد به. فلا وجوب قبل الزوال.
ونلاحظ قيدا آخر وهو الطهارة، وهذا القيد ليس قيدا للوجوب
المجعول لوضوح ان الشمس إذا زالت وكان الانسان محدثا، وجبت عليه الصلاة
أيضا، وانما هو قيد لمتعلق الوجوب، اي للواجب وهو الصلاة. ومعنى كون
شئ قيدا للواجب ان المولى حينما أمر بالصلاة امر بحصة خاصة منها لا بها
كيفما اتفقت، حيث إن الصلاة تارة تقع مع الطهارة، وأخرى بدونها، فاختار
الحصة الأولى وأمر بها. وحينما نحلل الحصة الأولى نجد انها تشتمل على صلاة،
وعلى تقيد بالطهارة، فالامر بها امر بالصلاة وبالتقيد، ومن هنا نعرف ان
معنى اخذ الشارع شيئا قيدا في الواجب تحصيص الواجب به، والامر به بما
هو مقيد بذلك القيد. وفي المثال السابق حينما نلاحظ الطهارة مع ذات
الصلاة، لا نجد ان أحدهما علة للآخر، أو جزء العلة له، ولكن حينما نلاحظ
الطهارة مع تقيد الصلاة بها، نجد ان الطهارة علة لهذا التقيد، إذ لولاها لما
وجدت الصلاة مقيدة ومقترنة بالطهارة.
ومن ذلك نستخلص، ان اخذ الشارع قيدا في الواجب يعني أولا:
288

تحصيص الواجب به، ثانيا: ان الامر يتعلق بذات الواجب والتقيد بذلك
القيد، وثالثا: ان نسبة القيد إلى التقيد نسبة العلة إلى المعلول، وليس كذلك
نسبته إلى ذات الواجب.
وقد يؤخذ شئ قيدا للوجوب وللواجب معا، كشهر رمضان الذي هو
قيد لوجوب الصيام فلا وجوب للصيام بدون رمضان، وهو أيضا قيد
للصيام الواجب، بمعنى ان الصوم المأمور به هو الحصة الواقعة في ذلك الشهر
خاصة، وبموجب كون الشهر قيدا للوجوب، فالوجوب تابع لوجود هذا
القيد، وبموجب كونه قيدا للواجب يكون الوجوب متعلقا بالقيد به، اي ان
الامر متعلق بذات الصوم وبتقيده بان يكون في شهر رمضان.
احكام القيود المتنوعة:
لا شك في أن الواجبات تشتمل على نوعين من القيود:
أحدهما: قيود يلزم على المكلف تحصيلها، بمعنى انه لو لم يحصلها لاعتبر
عاصيا للامر بذلك الواجب، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، والآخر القيود
التي لا يلزم على المكلف تحصيلها، بمعنى انه لو لم يأت بها المكلف، وبالتالي لم
يأت بالواجب، لا يعتبر عاصيا كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج.
والقضية التي نبحثها هي محاولة التعرف على الفرق بين هذين النوعين من
القيود، وما هو الضابط في كون القيد مما يلزم تحصيله أو لا؟
والصحيح ان الضابط في ذلك أن كل ما كان قيدا لنفس الوجوب، فلا
يجب تحصيله، ولا يكون المكلف مسؤولا عن إيجاده من قبل ذلك الوجوب،
لأنه ما لم يوجد القيد لا وجود للوجوب، كما تقدم. وكلما كان القيد قيدا
لمتعلق الوجوب، اي للواجب، فهذا يعني ان الوجوب قد تعلق بالمقيد كما
تقدم، اي بذات الواجب وبالتقيد بالقيد المذكور، وحينئذ يلاحظ هذا
289

القيد فإن كان قيدا في نفس الوقت للوجوب أيضا، لم يكن المكلف مسؤولا
عقلا من قبل ذلك الوجوب عن ايجاده، وانما هو مسؤول متى ما وجد القيد
عن ايجاد ذات الواجب وايجاد تقيده بذلك القيد، وإن لم يكن القيد قيدا
للوجوب، بل كان قيدا للواجب، فهذا يعني ان الوجوب فعلي حتى لو لم
يوجد هذا القيد، وإذا كان الوجوب فعليا فالمكلف مسؤول عن امتثاله
والاتيان بمتعلقه، وهو المقيد وكان عليه حينئذ عقلا ان يوفر القيد لكي
يوجد المقيد الواجب.
ونستخلص من ذلك:
أولا: انه كلما كان القيد قيدا للوجوب فقط فلا يكون. المكلف مسؤولا
عن إيجاد القيد.
وثانيا: انه كلما كان القيد قيدا للواجب فقط، فالمكلف مسؤول عن ايجاد
القيد.
وثالثا: انه كلما كان القيد قيدا للوجوب وللواجب معا، فالمكلف غير
مسؤول عن ايجاد القيد، ولكنه مسؤول عن ايجاد التقيد حينما يكون القيد
موجودا.
وإذا ضممنا إلى هذه النتائج ما تقدم من انه لا إدانة بدون قدرة، وان
القدرة شرط في التكليف، نستطيع ان نستنتج القاعدة القائلة: إن كل القيود
التي تؤخذ في الواجب دون الوجوب، لا بد ان تكون اختيارية ومقدورة
للمكلف، لان المكلف مسؤول عن توفيرها، كما عرفنا آنفا، ولا مسؤولية
ولا تكليف الا بالمقدور، فلا بد اذن ان تكون مقدورة، وهذا خلافا لقيود
الوجوب فإنها قد تكون مقدورة كالاستطاعة، وقد لا تكون كزوال
الشمس، لان المكلف غير مسؤول عن ايجادها.
290

قيود الواجب على قسمين:
عرفنا حتى الآن من قيود الواجب القيد الذي يأخذه الشارع قيدا،
فيحصص به الواجب ويأمر بالحصة الخاصة، كالطهارة وتسمى هذه بالقيود
أو المقدمات الشرعية. وهناك قيود ومقدمات تكوينية يفرضها الواقع بدون
جعل من قبل المولى، وذلك من قبيل ايجاد واسطة نقل، فإنها مقدمة تكوينية
للسفر بالنسبة إلى من لا يستطيع المشي على قدميه، فإذا وجب السفر كان
توفير واسطة النقل مقدمة للواجب حتى بدون ان يشير إليها المولى، أو
يحصص الواجب بها، وتسمى بالمقدمة العقلية.
والمقدمات العقلية للواجب من ناحية مسؤولية المكلف تجاهها كالقيود
الشرعية، فان أخذت المقدمة العقلية للواجب قيدا للوجوب لم يكن المكلف
مسؤولا عن توفيرها، والا كان مسؤولا عقلا عن ذلك، بسبب كونه ملزما
بامتثال الامر الشرعي الذي لا يتم بدون ايجادها.
والمسؤولية تجاه قيود الواجب سواء كانت شرعية أو عقلية، انما تبدأ
بعد أن يوجد الوجوب المجعول، ويصبح فعليا بفعلية كل القيود المأخوذة
فيه، فالمسؤولية تجاه الطهارة والوضوء مثلا، تبدأ من قبل وجوب صلاة الظهر
بعد أن يصبح هذا الوجوب فعليا يتحقق شرطه وهو الزوال، واما قبل
الزوال فلا مسؤولية تجاه قيود الواجب، إذ لا وجوب لكي يكون الانسان
ملزما عقلا بامتثاله، وتوفير كل ماله دخل في ذلك.
المسؤولية قبل الوجوب:
إذا كان للواجب مقدمة عقلية أو شرعية وكان وجوبه منوطا بزمان
معين، وافترضنا ان تلك المقدمة من المتعذر على المكلف ايجادها في ذلك
الزمان، ولكن كان بامكانه إيجادها قبل ذلك، فهل يكون المكلف مسؤولا
291

عقلا عن توفيرها أو لا؟
ومثال ذلك: ان يعلم المكلف بأنه لن يتمكن من الوضوء والتيمم عند
الزوال لانعدام الماء والتراب، ولكنه يتمكن منه قبل الزوال، فهل يجب عليه
ان يتوضأ قبل الزوال أو لا؟
والجواب: ان مقتضى القاعدة هو عدم كونه مسؤولا عن ذلك، إذ قبل
الزوال لا وجوب للصلاة لكي يكون مسؤولا من ناحيته عن توفير المقدمات
للصلاة، وإذا ترك المقدمة قبل الزوال فلن يحدث وجوب عند الزوال ليبتلى
بمخالفته لأنه سوف يصبح عند الزوال عاجزا عن الاتيان بالواجب، وكل
تكليف مشروط بالقدرة، فلا ضير عليه في ترك ايجاد المقدمة قبل الزوال،
وكل مقدمة يفوت الواجب بعدم المبادرة إلى الاتيان بها قبل زمان الوجوب،
تسمى بالمقدمة المفوتة. وبهذا صح ان القاعدة تقتضي عدم كون المكلف
مسؤولا عن المقدمات المفوتة.
ولكن قد يتفق أحيانا أن يكون للواجب دائما مقدمة مفوتة على نحو لو لم
يبادر المكلف إلى ايقاعها قبل الوقت لعجز عن الواجب في حينه. ومثال
ذلك: الوقوف بعرفات الواجب على من يملك الزاد والراحلة، فان الواجب
منوط يظهر اليوم التاسع من عرفة، ولكن لو لم يسافر المكلف قبل هذا
الوقت، لما أدرك الواجب في حينه، وفي مثل ذلك لا شك فقهيا في أن
المكلف مسؤول عن ايجاد المقدمة المفوتة قبل الوقت، وقد وقع البحث أصوليا
في تفسير ذلك وتكييفه، وانه كيف يكون المكلف مسؤولا عن توفير
المقدمات لامتثال وجوب غير موجود بعد، وستأتي بعض المحاولات في
تفسير ذلك في حلقة مقبلة.
292

القيود المتأخرة زمانا عن المقيد
القيد تارة يكون قيدا للحكم المجهول، وأخرى يكون قيدا للواجب
الذي تعلق به الحكم كما تقدم. والغالب في القيود، في كلتا الحالتين، أن
يكون المقيد موجودا حال وجود القيد أو بعده، فاستقبال القبلة قيد يجب أن
يوجد حال الصلاة، والوضوء قيد يجب أن توجد الصلاة بعده، ويسمى
الأول بالشرط المقارن، والثاني بالشرط المتقدم، ولكن قد يدعى أحيانا
شرط للحكم أو للواجب، ويكون متأخرا زمانا عن ذلك الحكم أو الواجب.
ومثاله: ما يقال من أن غسل المستحاضة في ليلة الأحد شرط في صحة
صوم نهار السبت، فهذا شرط للواجب، ولكنه متأخر عنه زمانا.
ومثال آخر: ما يقال من أن عقد الفضولي ينفذ من حين صدوره إذا
وقعت الإجازة بعده، فهذا شرط للحكم، ولكنه متأخر عنه زمانا.
وقد وقع البحث أصوليا في إمكان ذلك واستحالته، إذ قد يقال
بالاستحالة لان الشرط بالنسبة إلى المشروط بمثابة العلة بالنسبة إلى المعلول،
ولا يعقل ان تكون العلة متأخرة زمانا عن معلولها. وقد يقال بالامكان ويرد
على هذا البرهان، أما بالنسبة إلى الشرط المتأخر للواجب، فإن القيود
الشرعية للواجب لا يتوقف عليها وجود ذات الواجب، وإنما تنشأ قيديتها
من تحصيص المولى للطبيعة بحصة عن طريق تقييدها بقيد، فكما يمكن أن
يكون القيد المحصص مقارنا أو متقدما يمكن أن يكون متأخرا، واما بالنسبة
293

إلى الشرط المتأخر للوجوب، فبأن قيود الوجوب كلها قيود للحكم المجعول
لا للجعل كما تقدم، لوضوح ان الجعل ثابت قبل وجودها والمجعول وجوده
مجرد إفتراض، وليس وجودا حقيقيا خارجيا، فلا محذور في إناطته بأمر
متأخر.
294

زمان الوجوب والواجب
لكل من الوجوب، أي الحكم المجعول والواجب زمان، والزمانان
متطابقان عادة، فوجوب صلاة الفجر، مثلا، زمانه الفترة الممتدة بين
الطلوعين، وهذه الفترة هي بنفسها زمان الواجب، ويستحيل أن يكون زمان
الوجوب بكامله متقدما على زمان الواجب، لان هذا معناه أنه في هذا
الظرف الذي يترقب فيه صدور الواجب لا وجوب، فلا محرك للمكلف إلى
الاتيان بالواجب، وهذا واضح. ولكن وقع البحث في أنه، هل بالامكان أن
تتقدم بداية زمان الوجوب على زمان الواجب مع استمراره وامتداده
وتعاصره بقاءا مع الواجب؟
ومثال ذلك: الوقوف بعرفات فإنه واجب على المستطيع، وزمان الواجب
هو يوم عرفة من الظهر إلى الغروب، وأما زمان الوجوب فيبدأ من حين
حدوث الاستطاعة لدى المكلف التي قد تسبق يوم عرفة بفترة طويلة،
ويستمر الوجوب من ذلك الحين إلى يوم عرفة الذي هو زمان الواجب. وقد
ذهب جماعة من الأصوليين إلى أن هذا معقول، وسموا كل واجب تتقدم
بداية زمان وجوبه على زمان الواجب بالواجب المعلق، وحاولوا عن هذا
الطريق أن يفسروا ما سبق من مسؤولية المكلف تجاه المقدمات المفوتة، وذلك
لان الاشكال في هذه المسؤولية كان يبتنى على إفتراض أن الوجوب لا يحدث
إلا في ظرف إيقاع الواجب، فإذا افترضنا أن الوجوب غير مشروط بزمان
295

الواجب، بل يحدث قبله ويصبح فعليا بالاستطاعة، فمن الطبيعي أن يكون
المكلف مسؤولا عن المقدمات المفوتة قبل مجئ يوم عرفه، لان الوجوب فعلي،
وهو يستدعي عقلا التهيؤ لامتثاله.
والصحيح أن زمان الواجب يجب أن يكون قيدا للوجوب، ولا يمكن أن
يكون قيدا للواجب فقط، لأنه أمر غير اختياري، وقد تقدم ان كل القيود
التي تؤخذ في الواجب فقط يلزم أن تكون اختيارية، فبهذا نبرهن على إنه
قيد للوجوب، وحينئذ فإن قلنا باستحالة الشرط المتأخر للحكم، ثبت أن
الوجوب ما دام مشروطا بزمان الواجب، فلا بد أن يكون حادثا بحدوثه لا
سابقا عليه، لئلا يلزم وقوع الشرط المتأخر. وبهذا يتبرهن أن الواجب المعلق
مستحيل. وإن قلنا بإمكان الشرط المتأخر جاز أن يكون زمان الواجب
شرطا متأخرا للوجوب، فوجوب الوقوف بعرفات يكون له شرطان:
أحدهما: مقارن يحدث الوجوب بحدوثه، وهو الاستطاعة.
والآخر متأخر: يسبقه الوجوب وهو مجئ يوم عرفة على المكلف المستطيع
وهو حي، فكل من استطاع في شهر شعبان مثلا، وكان ممن سيجئ عليه يوم
عرفة وهو حي فوجوب الحج يبدأ في حقه من شعبان، وبذلك يصبح
مسؤولا عن توفير المقدمات المفوتة له من أجل فعلية الوجوب.
296

متى يجوز عقلا التعجيز
تارة يترك المكلف الواجب وهو قادر على إيجاده، وهذا هو العصيان،
وأخرى يتسبب إلى تعجيز نفسه عن الاتيان به، وهذا التسبيب له صورتان:
الأولى: أن يقع بعد فعلية الوجوب، كحال انسان يحل عليه وقت
الفريضة ولديه ماء فيريق الماء ويعجز نفسه عن الصلاة مع الوضوء، وهذا لا
يجوز عقلا لأنه معصية.
الثانية: ان يقع قبل فعلية الوجوب كما لو أراق الماء في المثال قبل
دخول الوقت، وهذا لا يجوز لأنه بإراقة الماء يجعل نفسه عاجزا عن
الواجب عند تحقق ظرف الوجوب، وحيث إن الوجوب مشروط بالقدرة
فلا يحدث الوجوب في حقه، ولا محذور في أن يسبب المكلف إلى أن لا
يحدث الوجوب في حقه، وإنما المحذور في أن لا يمتثله بعد أن
يحدث، ولكن قد يقال هنا بالتفصيل بين ما إذا كان دخل القدرة في
هذا الوجوب عقليا أو شرعيا، فإذا كان الدخل شرعيا جاز التعجيز
المذكور، لأنه لا يفوت على المولى بذلك شيئا، إذ يصبح عاجزا ولا
ملاك للواجب في حق العاجز، وإذا كان الدخل عقليا وكان ملاك الواجب
ثابتا في حق العاجز - أيضا وإن إختص التكليف بالقادر بحكم العقل - فلا
يجوز التعجيز المذكور لان المكلف يعلم بأنه بهذا سوف يسبب إلى تفويت
ملاك فعلي في ظرفه المقبل، وهذا لا يجوز بحكم العقل. وعلى هذا الأساس
297

يمكن تخريج مسؤولية المكلف تجاه المقدمات المفوتة في بعض الحالات، بأن
يقال: أن هذه المسؤولية تثبت في كل حالة يكون دخل القدرة فيها عقليا لا
شرعيا.
298

اخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم
استحالة إختصاص الحكم بالعالم به:
إذا جعل الحكم على نحو القضية الحقيقية وأخذ في موضوعه العلم بذلك
الحكم، إختص بالعالم به ولم يثبت للشاك أو القاطع بالعدم، لان العلم يصبح
قيدا للحكم، غير أن أخذ العلم قيدا كذلك قد يقال: إنه مستحيل وبرهن
على استحالته بالدور، وذلك لان ثبوت الحكم المجعول متوقف على وجود
قيوده، والعلم بالحكم متوقف على الحكم توقف كل علم على معلومه، فإذا
كان العلم بالحكم من قيود نفس الحكم، لزم توقف كل منهما على الآخر،
وهو محال. وقد أجيب على ذلك بمنع التوقف الثاني، لان العلم بشئ لا
يتوقف على وجود ذلك الشئ وإلا لكان كل علم مصيبا، وإنما يتوقف على
الصورة الذهنية له في أفق نفس العالم، أي أن العلم يتوقف على المعلوم
بالذات، لا على المعلوم بالعرض فلا دور.
إلا أن هذا الجواب لا يزعزع الاستحالة العقلية، لان العقل قاض بأن
العلم وظيفته تجاه معلومه مجرد الكشف ودوره دور المرآة، ولا يعقل للمرآة أن
تخلق الشئ الذي تكشف عنه فلا يمكن أن يكون العلم بالحكم دخيلا في تكوين
شخص ذلك الحكم.
غير أن هذه الاستحالة إنما تعني عدم إمكان أخذ العلم بالحكم المجعول
قيدا له، وأما أخذ العلم بالجعل قيدا للحكم المجعول فلا محذور فيه بناء على
299

ما تقدم من التمييز بين الجعل والمجعول فلا يلزم دور ولا اخراج للعلم عن
دوره الكاشف البحت.
والثمرة التي قد تفترض لهذا البحث هي أن التقييد بالعلم بالحكم إذا كان
مستحيلا، فهذا يجعل الاطلاق ضروريا، ويثبت بذلك أن الأحكام الشرعية
مشتركة بين العالم وغيره على مبنى من يقول: بأن التقابل بين التقييد
والاطلاق الثبوتيين تقابل السلب والايجاب، وعلى العكس تكون استحالة
التقييد موجبة لاستحالة الاطلاق على مبنى من يقول إن التقابل بين التقييد
والاطلاق كالتقابل بين البصر والعمى، فكما لا يصدق الأعمى حيث لا
يمكن البصر، كذلك لا يمكن الاطلاق حيث يتعذر التقييد، ومن هنا تكون
الاحكام على هذا القول مهملة لا هي بالمقيدة ولا هي بالمطلقة، والمهملة في
قوة الجزئية.
أخذ العلم بحكم في موضوع حكم آخر:
قد يؤخذ العلم بحكم في موضوع حكم آخر، والحكمان أما أن يكونا
متخالفين أو متضادين أو متماثلين فهذه ثلاث حالات:
أما الحالة الأولى فلا شك في إمكانها، كما إذا قال الآمر: إذا علمت
بوجوب الحج عليك فاكتب وصيتك ويكون العلم بوجوب الحج هنا قعطا
موضوعيا بالنسبة إلى وجوب الوصية، وطريقيا بالنسبة إلى متعلقه.
وأما الحالة الثانية فلا ينبغي الشك في استحالتها، ومثالها أن يقول الآمر:
إذا علمت بوجوب الحج عليك فهو حرام عليك، والوجه في الاستحالة ما
تقدم من أن الأحكام التكليفية الواقعية متناقضة متضادة، فلا يمكن للمكلف
القاطع بالوجوب أن يتصور ثبوت الحرمة في حقه.
300

وأما الحالة الثالثة فقد يقال باستحالتها، على أساس إن اجتماع حكمين
متماثلين مستحيل، كاجتماع المتنافيين، فإذا قيل إن قطعت بوجوب الحج وجب
عليك، بنحو يكون الوجوب المجعول في هذه القضية غير الوجوب المقطوع به
مسبقا، كان معنى ذلك في نظر القاطع ان وجوبين متماثلين قد اجتمعا عليه.
301

أخذ قصد امتثال الامر في متعلقه
قد يكون غرض المولى قائما بإتيان المكلف للفعل كيفما اتفق، ويسمى
بالواجب التوصلي، وقد يكون غرضه قائما بأن يأتي المكلف بالفعل بقصد
امتثال الامر، ويسمى بالواجب التعبدي. والسؤال هو: إنه هل بإمكان المولى
عند جعل التكليف والوجوب في الحالة الثانية أن يدخل في متعلق الوجوب
قصد امتثال الامر أو لا؟ قد يقال بان ذلك مستحيل، لان قصد امتثال
الامر إذا دخل في الواجب، كان نفس الامر قيدا من قيود الواجب،
لان القصد المذكور مضاف إلى نفس الامر، وإذا لاحظنا الامر وجدنا
أنه ليس اختياريا للمكلف كما هو واضح، وحينئذ نطبق القاعدة
السابقة القائلة: إن القيود المأخوذة في الواجب فقط يجب أن تكون اختيارية،
لنستنتج أن هذا القيد إذن لا يمكن أن يكون قيدا للواجب
فقط، بل لا بد أن يكون أيضا قيدا للوجوب، وهذا يعني أن الامر مقيد
بنفسه وهو محال وهكذا يتبرهن بان أخذ قصد امتثال الامر في متعلق نفسه
يؤدي إلى المحال.
وثمرة هذا البحث أن هذه الاستحالة إذا ثبتت فسوف يختلف الموقف تجاه
قصد امتثال الامر عن الموقف تجاه أي خصوصية أخرى يشك في دخلها في
الواجب، وذلك أنا إذا شككنا في دخل خصوصية إيقاع الصلاة مع الثوب
الأبيض في الواجب، أمكن التمسك بإطلاق كلام المولى لنفي دخل هذه
302

الخصوصية في الواجب بحسب عالم الوجوب والجعل، وإذا ثبت عدم دخلها في
الواجب بحسب عالم الجعل يثبت عدم دخلها في الغرض، إذ لو كانت دخيلة
في الغرض لأخذت في الواجب، ولو أخذت كذلك لذكرت في الكلام.
وهذا الأسلوب لا يمكن تطبيقه على قصد امتثال الامر عند الشك في دخله
في الغرض، لان إطلاق كلام المولى وأمره، إنما يعني عدم أخذ هذا القصد
في متعلق الوجوب، ونحن بحكم الاستحالة الآنفة الذكر نعلم بذلك بدون
حاجة للرجوع إلى كلام المولى، ولكن لا يمكن أن نستكشف من ذلك عدم
كون القصد المذكور دخيلا في الغرض المولوي، لان المولى مضطر على أي
حال لعدم أخذه في الواجب، سواء كان دخيلا في غرضه أو لا، فلا يدل
عدم أخذه على عدم دخله، وهذا يعني ان الاستحالة المذكورة تبطل امكان
التمسك بإطلاق كلام المولى لنفي التعبدية وإثبات التوصلية.
ومن هنا يمكن أن نصور الثمرة لاستحالة أخذ العلم بالحكم قيدا لنفسه
على وجه آخر غير ما تقدم في ذلك البحث فنقول: إن هذه الاستحالة تبطل
إمكان التمسك بإطلاق كلام المولى لنفي إختصاص أغراضه بالعالمين
بالاحكام بنفس الطريقة المشار إليها في قصد امتثال الامر.
303

اشتراط التكليف بالقدرة بمعنى آخر
مر بنا أن التكليف مشروط بالقدرة، وكنا نريد بها القدرة التكوينية،
وهذا يعني أن التكليف لا يشمل العاجز. وكذلك لا يشمل أيضا من كان
قادرا على الامتثال، ولكنه مشغول فعلا بامتثال واجب آخر مضاد لا يقل
عن الأول أهمية، فإذا وجب إنقاذ غريق يعذر المكلف في ترك إنقاذه إذا
كان عاجزا تكوينا، كما يعذر إذا كان قادرا، ولكنه اشتغل بإنقاذ غريق
آخر مماثل على نحو لم يبق بالامكان إنقاذ الغريق الأول معه. وهذا يعني أن
كل تكليف مشروط بعدم الاشتغال بامتثال مضاد لا يقل عنه أهمية، وهذا
القيد دخيل في التكليف بحكم العقل، ولو لم يصرح به المولى في خطابه، كما
هو الحال في القدرة التكوينية. ولنطلق على القدرة التكوينية اسم القدرة بالمعنى
الأخص، وعلى ما يشمل هذا القيد الجديد اسم القدرة بالمعنى الأعم.
والبرهان على هذا القيد الجديد: أن المولى إذا أمر بواجب، وجعل أمره
مطلقا حتى لحالة الاشتغال بامتثال مضاد لا يقل عنه أهمية، فإن أراد بذلك
أن يجمع بين الامتثالين، فهو غير معقول لأنه غير مقدور للمكلف، وإن أراد
بذلك ان يصرف المكلف عن ذلك الامتثال المضاد فهذا بلا موجب يعد
افتراض إنهما متساويان في الأهمية، فلا بد إذن من أخذ القيد المذكور.
ومن هنا يعرف أن ثبوت أمرين بالضدين مستحيل إذا كان كل من
الامرين مطلقا لحالة الاشتغال بامتثال الامر الآخر أيضا، وأما إذا كان كل
304

منهما مقيدا بعدم الاشتغال بالآخر، أو كان أحدهما كذلك، فلا
استحالة ويقال عن الامرين بالضدين حينئذ: أنهما مجعولان على وجه
الترتب، وان هذا الترتب هو الذي صحح جعلهما على هذا الوجه، وهذا ما
يحصل في كل حالة يواجه فيها المكلف واجبين شرعيين، ويكون قادرا على
امتثال كل منهما بمفرده، ولكنه غير قادر على الجمع بينهما، فإنهما إن كانا
متكافئين في الأهمية، كان وجوب كل منهما مشروطا بعدم امتثال الآخر،
وإن كان أحدهما أهم من الآخر ملاكا، فوجوب الأهم غير مقيد
بعدم الاتيان بالأقل أهمية (المهم)، ولكن وجوب المهم مقيد بعدم الاتيان
بالأهم، وتسمى هذه الحالات بحالات التزاحم.
وقد تعترض وتقول إن الامرين بالضدين على وجه الترتب مستحيل، لان
المكلف في حالة تركه لكلا الضدين يكون كل من الامرين فعليا وثابتا في
حقه لان شرطه محقق، وهذا يعني أن المكلف في هذه الحالة يطلب منه كلا
الضدين وهو محال.
والجواب على الاعتراض: أن الامرين والوجوبين، وإن كان فعليين معا في
الحالة المذكورة، ولكن لا محذور في ذلك، إذ ما دام امتثال أحدهما ينفي
شرط الآخر وموضوعه، وبالتالي ينفي فعلية الوجوب الآخر، فلا يلزم من
اجتماع الأمرين أن يكون المطلوب من المكلف ما لا يطاق، وهو الجمع بين
الضدين، ولهذا لو فرض المحال وصدر كلا الضدين من المكلف، لما وقعا
على وجه المطلوبية معا. فليس المطلوب خارجا عن حدود القدرة. وبهذا
يتضح أن امكان وقوع الامرين بالضدين على وجه الترتب واجتماعهما معا،
نشأ من خصوصية الترتب بينهما أي من خصوصية كون أحدهما، أو كل
منهما، بامتثاله نافيا لموضوع الآخر ومعدما لشرطه.
305

التخيير والكفائية في الواجب
الخطاب الشرعي المتكفل للوجوب على نحوين:
أحدهما: ان يبين فيه وجوب عنوان كلي واحد، وتجري قرينة الحكمة
لاثبات الاطلاق في الواجب، وانه اطلاق بدلي، كما إذ قال: صل فيكون
الواجب طبيعي الصلاة، ويكون مخيرا بين ان يطبق هذا الطبيعي على الصلاة
في المسجد أو على الصلاة في البيت، الا ان هذا التخيير ليس شرعيا، بل هو
عقلي بمعنى ان الخطاب الشرعي لم يتعرض إلى هذا التخيير، ولم يذكر هذه
البدائل مباشرة، وانما يحكم العقل والعرف بالتخيير المذكور.
والنحو الآخر: ان يتعرض الخطاب الشرعي مباشرة للتخيير بين شيئين،
فيأمر بهما على سبيل البدل فيقول مثلا: صل أو أعتق رقبة، ويسمى التخيير
حينئذ شرعيا، والوجوب بالوجوب التخييري.
التخيير الشرعي في الواجب:
ولا شك في أن الوجوب التخييري ثابت في الشريعة في مواقع عديدة، وله
خصائص متفق عليها، منها:
ان المكلف يعد ممتثلا باتيان أحد الشيئين أو الأشياء، ويعد عاصيا إذا
ترك البدائل كلها، غير أنها معصية واحدة، ولها عقاب واحد، وإذا أتى
بالشيئين معا فقد امتثل أيضا. وقد وقع البحث في تحليل حقيقة الوجوب
306

التخييري، فقيل: ان مرجعه إلى التخيير العقلي بمعنى انه وجوب واحد متعلق
بالجامع بين الشيئين تبعا لقيام الملاك به، سواء كان هذا الجامع عنوانا أصيلا،
أو عنوانا انتزاعيا كعنوان أحدهما، وقيل إن مرجعه إلى وجوبين مشروطين
بمعنى: ان كلا من العدلين واجب وجوبا مشروطا بترك الآخر، ومرد هذين
الوجوبين إلى ملاكين وغرضين غير قابلين للاستيفاء معا، فمن أجل تعدد
الملاك، وقيام ملاك خاص بكل من العدلين تعدد الوجوب، ومن أجل عدم
امكان استيفاء الملاكين معا جعل الوجوب في كل منهما مشروطا بترك
الآخر. وقد لوحظ على التفسير الثاني بان لازمه.
أولا: تعدد المعصية والعقاب في حالة ترك العدلين معا، كما هو الحال في
حالات التزاحم بين واجبين لو تركهما المكلف معا.
وثانيا: عدم تحقق الامتثال عند الاتيان بكلا الامرين، إذ لا يكون كل
من الوجوبين حينئذ فعليا، وكلا اللازمين معلوم البطلان.
وتوجد ثمرات تترتب على تفسير الوجوب التخييري بهذا الوجه أو بذلك،
وقد يذكر منها جواز التقرب بأحد العدلين بخصوصه على التفسير الثاني لأنه
متعلق للامر بعنوانه، وعدم جواز ذلك على التفسير الأول، لان الامر متعلق
بالجامع، فالتقرب ينبغي أن يكون بالجامع المحفوظ في ضمنه كما هي الحالة في
سائر موارد التخيير العقلي.
ثم إن العدلين في موارد الوجوب التخييري يجب ان يكونا متباينين، ولا
يمكن ان يكونا من الأقل والأكثر، لان الزائد حينئذ مما يجوز تركه بدون
بديل، ولا معنى لافتراضه واجبا، فالتخيير بين الأقل والأكثر في الايجاب
غير معقول.
ويشابه ما تقدم الحديث عن الوجوب الكفائي، وهل هو وجوب موجه
307

إلى جامع المكلف أو وجوبات متعددة بعدد افراد المكلفين، غير أن الوجوب
على كل فرد مشروط بترك الآخرين.
التخيير العقلي في الواجب:
حينما يأمر المولى بطبيعي فعل على نحو صرف الوجود والاطلاق البدلي،
فيقول: أكرم زيدا والاكرام له حصص، فالتخيير بين الحصص عقلي لا
شرعي كما تقدم، وإذا اختار المكلف ان يكرمه باهداء كتاب له لا يكون
اختيار المكلف لهذه الحصة من الاكرام موجبا للكشف عن تعلق الوجوب بها
خاصة، بل الوجوب بمبادئه متعلق بالطبيعي الجامع، ولهذا لو أتى المكلف
بحصة أخرى لكان ممتثلا أيضا. وبهذا صح ان يقال: ان تلك الحصة ليست
متعلقا للامر، وانما هي مصداق لمتعلق الامر، وان متعلق الامر نسبته إلى
سائر الحصص على نحو واحد، والوجوب لا يسري من الجامع إلى الحصة
بمجرد تطبيق المكلف، لان استقرار الوجوب على متعلقه انما هو بالجعل،
والمفروض انه قد جعل على الطبيعي الجامع الملحوظ بنحو صرف الوجود.
وخلافا لذلك ما إذا أمر المولى بالطبيعي على نحو الاطلاق الشمولي أو
العموم، ومطلق الوجود، فقال: أكرم زيدا بكل اشكال الاكرام، فأن كل
شكل منها يعتبر متعلقا للوجوب وليس مجرد مصداق للمتعلق، فالوجوب هنا
يتعدد وتنال كل حصة وجوبا خاصا بها.
وكما رأينا سابقا وجود محاولة لارجاع الوجوب التخييري إلى وجوب
واحد للجامع، فان هناك محاولة معاكسة ممن يرى ان الوجوب التخييري
وجوبان مشروطان وهي: محاولة ارجاع الوجوب المتعلق بالطبيعي الجامع على
نحو صرف الوجود إلى وجوبات متعددة للحصص، مشروط كل واحد منها
بعدم الاتيان بسائر الحصص، وقد يعبر عن هذه المحاولة بان الأوامر متعلقة
بالافراد لا بالطبائع.
308

امتناع اجتماع الأمر والنهي
لا شك في التنافي والتضاد بين الأحكام التكليفية الواقعية كما تقدم، وهذا
التنافي إنما يتحقق إذا كان المتعلق واحدا، فوجوب الصلاة ينافي حرمتها، ولا
ينافي حرمة النظر إلى الأجنبية، لان الصلاة والنظر امران متغايران، وان كانا
قد يوجدان في وقت واحد وفي موقف واحد، فلا محذور في أن يكون
أحدهما حراما والآخر واجبا.
وهناك حالتان يقع البحث في أنهما هل تلحقان بفرض وحدة المتعلق أو
تعدده.
الحالة الأولى: فيما إذا كان الوجوب متعلقا بالطبيعي على نحو صرف
الوجود والاطلاق البدلي والحرمة متعلقة بحصة من حصص ذلك الطبيعي، كما
في (صل) و (لا تصل في الحمام) مثلا، فان الحصة والطبيعي باعتبار وحدتهما
الذاتية قد يقال: ان المتعلق واحد فيستحيل ان يتعلق الوجوب بالطبيعي
والحرمة بالحصة، وباعتبار تغايرهما بالاطلاق والتقييد قد يقال: بأنه لا محذور
في وجوب الطبيعي وحرمة الحصة.
والتحقيق ان وجوب الطبيعي يستدعي التخيير العقلي في مقام الامتثال بين
حصصه وافراده، فان قلنا: بان هذا الوجوب مرده إلى وجوبات مشروطة
للحصص، فالصلاة في الحمام إذن باعتبارها حصة من الطبيعي متعلق لوجوب
خاص مشروط، فلو تعلقت بها الحرمة أيضا لزم اجتماع الحكمين المتنافيين على
309

متعلق واحد، وان أنكرنا ارجاع وجوب الطبيعي إلى وجوبات مشروطة،
ولكن قلنا: إن الحصة التي يختارها المكلف في مقام امتثاله يسري إليها
الوجوب، أو على الأقل تسري إليها مبادئ الوجوب من الحب والإرادة،
وتقع على صفة المحبوبية الفعلية، فأيضا لا يمكن ان نفترض حينئذ تعلق
الحرمة بالحصة، إذ في حالة إيقاعها في الخارج يلزم ان تكون محبوبة ومبغوضة
في وقت واحد وهو مستحيل. واما إذا قلنا بان الوجوب وجوب واحد
متعلق بالجامع ولا يسري إلى الحصص، وان الحصة التي تقع خارجا منه لا
تكون متعلقا للوجوب ولا لمبادئه، وانما هي مصداق للواجب وللمحبوب
وليست هي الواجب أو المحبوب، فلا محذور في أن يتعلق الامر بالجامع على
نحو صرف الوجود، ويتعلق النهي بحصة منه.
ثم إذا تجاوزنا هذا البحث وافترضنا الاستحالة، فبالامكان ان ندخل
عنصرا جديدا، لنرى ان الاستحالة هل ترتفع بذلك أو لا، فنحن حتى الآن
كنا نفترض ان الأمر والنهي يتعلقان بعنوان واحد، وهو الصلاة، غير أن
الامر متعلق بالطبيعي والنهي متعلق بالحصة، والآن نفترض الحالة الثانية.
الحالة الثانية: أن لا يكون النهي المتعلق بالحصة متعلقا بها بنفس العنوان
الذي تعلق به الامر، وهو الصلاة في المثال، بل بعنوان آخر، كما في (صل)
و (لا تغصب). فإذا صلى في مكان مغصوب كان ما وقع منه باعتباره صلاة
مصداقا للواجب. وباعتبار غصبا حراما، اي ان له عنوانين، والامر متعلق
بأحدهما والنهي بالآخر، فهل يكفي تغاير العنوانين في امكان التوفيق بين
الامر بالصلاة والنهي عن الغصب وتصادقهما على الصلاة في المغصوب أو لا؟
فقد يقال بان ذلك يكفي لان الاحكام تتعلق بالعناوين لا بالأشياء
الخارجية مباشرة، وبحسب العناوين يكون متعلق الامر مغايرا لمتعلق النهي،
واما الشئ الخارجي الذي تصادق عليه العنوانان، فهو وان كان واحدا،
310

ولكن الاحكام لا تتعلق به مباشرة، فلا محذور في اجتماع الأمر والنهي عليه
بتوسط عنوانين، بل هناك من يذهب إلى أن تعدد العنوان يكشف عن تعدد
الشئ الخارجي أيضا، فكما أن الغصب غير الصلاة عنوانا، كذلك غيرها
مصداقا، وان كان المصداقان متشابكين وغير متميزين خارجا، فيكون
الجواز - لو صح هذا - أوضح.
وقد يقال: بان تعدد العنوان لا يكفي، لان العناوين انما تتعلق بها
الاحكام باعتبارها مرآة للخارج لا بما هي مفاهيم مستقلة في الذهن، فلكي
يرتفع التنافي بين الأمر والنهي لا بد ان يتعدد الخارج، ولا يمكن ان نبرهن
على تعدده عن طريق تعدد العنوان، لان العناوين المتعددة قد تنتزع عن شئ
واحد في الخارج.
وثمرة هذا البحث واضحة، فإنه على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي،
يقع التعارض حتما بين دليل الامر ودليل النهي، لان الاخذ باطلاق الدليلين
معا معناه اجتماع الأمر والنهي، وهو مستحيل بحسب الفرض، ويجب ان يعالج
هذا التعارض بين الدليلين وفقا للقواعد العامة للتعارض، وخلافا لذلك إذا
قلنا بالجواز، فانا نأخذ حينئذ باطلاق الدليلين معا بدون محذور.
311

الوجوب الغيري لمقدمات الواجب
لا شك في أن المكلف مسؤول عقلا عن توفير المقدمات العقلية والشرعية
للواجب، إذ لا يمكنه الامتثال بدون ذلك، ولكن وقع البحث في أن هذه
المقدمات، هل تتصف بالوجوب الشرعي تبعا لوجوب ذيها، بمعنى انه هل
يترشح عليها في نفس المولى إرادة من ارادته للواجب الأصيل، ووجوب من
ايجابه، لذلك الواجب؟
فهناك من ذهب إلى أن إرادة شئ وايجابه يستلزمان إرادة مقدماته
وايجابها، وتسمى الإرادة المترشحة بالإرادة الغيرية، والوجوب المترشح
بالوجوب الغيري، في مقابل الإرادة النفسية والوجوب النفيسي، وهناك من
أنكر ذلك.
وقد يقال بالتفصيل بين الإرادة والايجاب، فبالنسبة إلى الإرادة وما تعبر
عنه من حب يقال بالملازمة والترشح، فحب الشئ يكون علة لحب مقدمته،
وبالنسبة إلى الايجاب والجعل يقال بعدم الملازمة.
والقائلون بالملازمة يتفقون على أن الوجوب الغيري معلول للوجوب
النفسي، وعلى هذا الأساس لا يمكن ان يسبقه في الحدوث، كما لا يمكن ان
يتعلق بقيود الوجوب، لان الوجوب النفسي لا يوجد الا بعد افتراض
وجودها، والوجوب الغيري لا يوجد الا بعد افتراض الوجوب النفسي،
وهذا يعني ان الوجوب الغيري مسبوق دائما بوجود قيود الوجوب، فكيف
312

يعقل ان يتعلق بها وانما يتعلق بقيود الواجب ومقدماته العقلية والشرعية.
كما أنهم يتفقون على أن الوجوب الغيري ليس له حسان مستقل في عالم
الإدانة واستحقاق العقاب، لوضوح انه لا يتعدد استحقاق العقاب بتعدد ما
للواجب النفسي المتروك من مقدمات، كما أن الوجوب الغيري لا يمكن أن يكون
مقصودا للمكلف في مقام الامتثال على وجه الاستقلال، بل يكون
التحرك عنه دائما في إطار التحرك عن الوجوب النفسي، فمن لا يتحرك عن
الامر بذي المقدمة، لا يمكنه ان يتحرك من قبل الوجوب الغيري، لان
الانقياد إلى المولى، انما يكون بتطبيق المكلف ارادته التكوينية على إرادة المولى
التشريعية، ولما كانت إرادة المولى للمقدمة تبعية، فكذلك لا بد أن يكون
حال المكلف.
واختلف القائلون بالملازمة بعد ذلك في أن الوجوب الغيري، هل يتعلق
بالحصة الموصلة من المقدمة إلى ذيها، أو بالجامع المنطبق على الموصل وغيره؟
فلو أتى المكلف بالمقدمة ولم يأت بذيها يكون قد أتى بمصداق الواجب
الغيري على الوجه الثاني دونه على الوجه الأول.
ولا برهان على أصل الملازمة اثباتا أو نفيا في عالم الإرادة، وانما المرجع
الوجدان الشاهد بوجودها، واما في عالم الجعل والايجاب، فالملازمة لا معنى
لها، لان الجعل فعل اختياري للفاعل، ولا يمكن ان يترشح من شئ آخر
ترشحا ضروريا، كما هو معنى الملازمة.
واما ثمرة هذا البحث: فقد يبدو على ضوء ما تقدم انه لا ثمرة له ما دام
الوجوب الغيري غير صالح للإدانة والمحركية، وانما هو تابع محض ولا إدانة
ولا محركية الا للوجوب النفسي، والوجوب النفسي يكفي وحده لجعل
المكلف مسؤولا عقلا عن توفير المقدمات، لان امتثاله لا يتم بدون ذلك،
313

فأي فرق بين افتراض وجود الوجوب الغيري وافتراض عدمه.
ولكن قد يمكن تصوير بعض الثمرات، ومثال ذلك:
انه إذا وجب انقاذ الغريق وتوقف على مقدمة محرمة أقل أهمية، وهي
اتلاف زرع الغير، فيجوز للمكلف ارتكاب المقدمة المحرمة تمهيدا لانقاذ
الغريق، فإذا افترضنا ان المكلف ارتكب المقدمة. المحرمة ولم ينقذ الغريق،
فعلى القول بالملازمة، وبان الوجوب الغيري يتعلق بالجامع بين الحصة الموصلة
وغيرها تقع المقدمة التي ارتكبها المكلف مصداقا للواجب ولا تكون محرمة في
تلك الحالة، لامتناع اجتماع الوجوب والحرمة على شئ واحد، وعلى القول
بإنكار الملازمة أو باختصاص الوجوب الغيري بالحصة الموصلة لا تقع المقدمة
المذكورة مصداقا للواجب، ولا موجب حينئذ لسقوط حرمتها، بل تكون
محرمة بالفعل، وانما تسقط الحرمة عن الحصة الموصلة من المقدمة خاصة.
314

اقتضاء وجوب الشئ لحرمة ضده
قد يقال بان إيجاب شئ يستلزم حرمة الضد والضد على قسمين:
أحدهما: الضد العام، وهو بمعنى النقيض.
والاخر: الضد الخاص، وهو الفعل الوجودي الذي لا يجتمع مع الفعل
الواجب.
والمعروف بين الأصوليين ان إيجاب شئ يقتضي حرمة ضده العام.
ولكنهم اختلفوا في جوهر هذا الاقتضاء، فزعم البعض ان الامر بالشئ
عين النهي عن ضده العام، وذهب بعض آخر إلى أنه يتضمنه بدعوى أن
الامر بالشئ مركب من طلب ذلك الشئ والمنع عن تركه، وقال آخرون
بالاستلزام، واما بالنسبة إلى الضد الخاص، فقد وقع الخلاف فيه وذهب
جماعة إلى أن إيجاب شئ يقتضي تحريم ضده الخاص، فالصلاة وإزالة النجاسة
عن المسجد إذا كان المكلف عاجزا عن الجمع بينهما، فهما ضدان، وايجاب
أحدهما يقتضي تحريم الآخر.
وقد استدل البعض على ذلك بان ترك أحد الضدين مقدمة لوقوع الضد
الآخر فيكون واجبا بالوجوب الغيري، وإذا وجب أحد النقيضين حرم
نقيضه، وبهذا يثبت حرمة الضد الخاص.
ولكن الصحيح انه لا مقدمية لترك أحد الفعلين لايقاع الفعل الآخر، فان
315

المقدمة هي العلة أو جزء العلة، ونحن نلاحظ ان المكلف في مثال الصلاة
والازالة يكون اختياره هو العلة الكفيلة بتحقق ما يختاره ونفي ما لا يختاره،
فوجود أحد الفعلين وعدم الآخر كلاهما مرتبطان باختيار المكلف لا ان
أحدهما معلول للآخر، ولو كان ترك الصلاة علة أو جزء العلة للإزالة،
وترك الإزالة علة أو جزء العلة للصلاة، لكان فعل الصلاة نقيضا لعلة
الإزالة، ونقيض العلة لنقيض المعلول، فينتج ان فعل الصلاة علة لترك
الإزالة. وهذا يودي إلى الدور إذ يكون كل من الضدين معلولا لترك الآخر
وعلة للترك نفسه.
فان قيل: إن عدم المانع من اجزاء العلة، ولا شك في أن أحد الضدين
مانع عن وجود ضده فعدمه عدم المانع، فيكون من اجزاء العلة، وبذلك
تثبت مقدميته.
كان الجواب: ان المانع على قسمين:
أحدهما: مانع يجتمع مع مقتضى الممنوع كالرطوبة المانعة عن احتراق
الورقة والتي تجتمع مع وجود النار واصابتها للورقة بالفعل، والاخر مانع لا
يمكن ان يجتمع مع مقتضى الممنوع، كالإزالة المضادة للصلاة التي لا تجتمع مع
المقتضى للصلاة، وهو ارادتها.
إذ من الواضح انه كلما أراد الصلاة لم توجد الإزالة، وما يعتبر عدمه من
اجزاء العلة هو القسم الأول دون الثاني، والضد مانع من القسم الثاني دون
الأول.
وثمرة هذا البحث انه إذا وجبت الإزالة في المثال المذكور، فان قلنا: بان
وجوب شئ يقتضي حرمة ضده حرمت الصلاة، ومع حرمتها لا يعقل ان
تكون مصداقا للواجب لاستحالة اجتماع الوجوب والحرمة، فلو ترك المكلف
316

الإزالة واختار الصلاة لوقعت باطلة، وان قلنا: بان وجوب شئ لا يقتضي
حرمة ضده فلا محذور في أن يتعلق الامر بالصلاة، ولكن على وجه الترتب
ومشروطا بترك الإزالة، لما تقدم من أن الامرين بالضدين على وجه الترتب
معقول، فإذا ترك المكلف الإزالة وصلى كانت صلاته مأمورا بها، وتقع
صحيحة وان اعتبر عاصيا بتركه للإزالة.
317

اقتضاء الحرمة للبطلان
الحرمة حكم تكليفي، والبطلان حكم وضعي قد توصف به العبادة، وقد
توصف به المعاملة، ويراد ببطلان العبادة انها غير مجزية، ولا بد من اعادتها
أو قضائها، وببطلان المعاملة انها غير مؤثرة ولا يترتب عليها مضمونها، وقد
وقع الكلام في أن التحريم هل يستلزم البطلان أو لا؟
اما تحريم العبادة فيستلزم بطلانها وذلك:
اما أولا فلان تحريمها يعني عدم شمول الامر لها، لامتناع اجتماع الأمر والنهي
، ومع عدم شموله لها لا تكون مجزية ولا يسقط بها الامر، وهو معنى
البطلان، فإن قيل إن الامر غير شامل. ولكن لعل ملاك الوجوب شامل لها،
وإذا كانت واجدة للملاك ومستوفية له فيسقط الامر بها.
قلنا: انه بعد عدم شمول الامر لها لا دليل على شمول الملاك، لان الملاك
انما يعرف من ناحية الامر.
وهذا البيان، كما يأتي في العبادة المحرمة، يأتي أيضا في كل مصداق
لطبيعة مأمور بها، سواء كان الامر تعبديا أو توصليا.
واما ثانيا: فلأننا نفترض مثلا ان الملاك موجود في تلك العبادة المحرمة،
ولكنها ما دامت محرمة ومبغوضة للمولى، فلا يمكن التقرب بها نحوه، ومعه
لا تقع عبادة تصح وتجزى عن الامر، وهذا البيان يختص بالعبادات ولا
318

يجري في غيرها.
واما تحريم المعاملة فتارة يراد به تحريم السبب المعاملي الذي يمارسه
المتعاملان، وهو الايجاب والقبول مثلا، وأخرى يراد به تحريم المسبب، اي
التمليك الحاصل نتيجة لذلك.
ففي الحالة الأولى لا يستلزم تحريم السبب بطلانه وعدم الحكم بنفوذه، كما
لا يستلزم صحته ونفوذه، ولا يأبى العقل عن أن يكون صدور شئ من
المكلف مبغوضا للمولى، ولكنه إذا صار ترتب عليه بحكم الشارع اثره
الخاص به كما في الظهار، فإنه محرم ولكنه نافذ ويترتب عليه الأثر.
وفي الحالة الثانية قد يقال: إن التحريم المذكور يستلزم الصحة. لأنه لا
يتعلق الا بمقدور، ولا يكون المسبب مقدورا، الا إذا كان السبب نافذا،
فتحريم المسبب يستلزم نفوذ السبب وصحة المعاملة.
وينبغي التنبيه هنا على أن النهي في موارد العبادات والمعاملات كثيرا ما
يستعمل لا لإفادة التحريم، بل لإفادة مانعيه متعلق النهي، أو شرطية نقيضه، وفي مثل ذلك لا اشكال في أنه يدل على البطلان، كما في (لا تصل فيما لا
يؤكل لحمه) الدال على مانعية لبس ما هو مأخوذ مما لا يؤكل لحمه، أو (لا
تبع بدون كيل) الدال على شرطية الكيل ونحو ذلك، ودلالته على البطلان
باعتباره ارشادا إلى المانعية أو الشرطية، ومن الواضح ان المركب يختل بوجود
المانع أو فقدان الشرط، ولا علاقة لذلك باستلزام الحرمة التكليفية للبطلان.
319

مسقطات الحكم
يسقط الحكم بالوجوب وغيره بعدة أمور:
منها: الاتيان بمتعلقه.
ومنها: عصيانه.
وهذان الأمران ليسا قيدين في حكم المجعول، وانما تنتهي بهما فاعلية هذا
الحكم ومحركيته.
ومنها: الاتيان بكل فعل جعله الشارع مسقطا للوجوب، بان أخذ عدمه
قيدا في بقاء الوجوب المجعول.
ومنها: امتثال الامر الاضطراري، فإنه مجز عن الامر الواقعي الأولي في
بعض الحالات، وتفصيل ذلك أنه، إذا وجبت الصلاة مع القيام، وتعذر
القيام على المكلف، فامر الشارع امرا اضطراريا بالصلاة من جلوس، فلذلك
صورتان:
الأولى: أن يفرض إختصاص الامر الاضطراري بمن يستمر عجزه عن
القيام طيلة الوقت.
الثانية: أن يفرض شموله لكل من عاجزا عن القيام عند إرادة الصلاة،
سواء تجددت له القدرة بعد ذلك أو لا.
320

ففي الصورة الأولى لو صلى المكلف العاجز جالسا في أول الوقت، وتجددت
له القدرة على القيام قبل خروج الوقت وجبت عليه الإعادة، لان الامر الواقعي
الأولي بالصلاة قائما يشمله بمقتضى إطلاق دليله، وما أتى به لا موجب
للاكتفاء به.
وأما في الصورة الثانية فلا توجب الإعادة على من صلى جالسا في أول
الوقت ثم تجددت له القدرة قبل خروجه، وذلك لان صلاة الجالس التي أداها
قد تعلق بها الامر بحسب الفرض، وهذا الامر ليس تعيينيا لأنه لو لم يصل
من جلوس في أول الوقت، وصلى من قيام في آخر الوقت لكفاه ذلك بلا
أشكال فهو إذن أمر تخييري بين الصلاة الاضطرارية في حالة العجز، والصلاة
الاختيارية في حال القدرة، ولو وجبت الإعادة لكان معنى هذا أن التخيير
لا يكون بين هذه الصلاة وتلك، بل بين أن يجمع بين الصلاتين وبين أن
ينتظر ويقتصر على الصلاة الاختيارية، وهذا تخيير بين الأقل والأكثر في
الايجاب، وهو غير معقول، كما تقدم. وبهذا يثبت ان الامر الاضطراري في
الصورة الثانية يقتضي كون امتثاله مجزيا عن الامر الواقعي الاختياري.
وتعرف بذلك ثمرة البحث في امتناع التخيير بين الأقل والأكثر.
321

امكان النسخ وتصويره
من الظواهر المألوفة في الحياة الاعتيادية أن يشرع المشرع حكما مؤمنا
بصحة تشريعه، ثم ينكشف له أن المصلحة على خلافه فينسخه ويتراجع عن
تقديره السابق للمصلحة وعن إرادته التي نشأت من ذلك التقدير الخاطئ.
وهذا الافتراض مستحيل في حق الباري سبحانه وتعالى، لان الجهل لا
يجوز عليه عقلا، فأي تقدير للمصلحة وأي إرادة تنشأ من هذا التقدير لا
يمكن أن يطرأ عليه تبدل وعدول مع حفظ مجموع الظروف التي لوحظت عند
تحقق ذلك التقدير، وتلك الإرادة.
ومن هنا صح القول بأن النسخ بمعناه الحقيقي المساوق للعدول غير معقول
في مبادئ الحكم الشرعي من تقدير المصلحة والمفسدة وتحقق الإرادة
والكراهة.
وكل حالات النسخ الشرعي مردها إلى أن المصلحة المقدرة مثلا كان لها
أمد محدد من أول الامر وقد إنتهى، وأن الإرادة التي حصلت بسبب ذلك
التقدير كانت محددة تبعا للمصلحة.
والنسخ معناه انتهاء حدها ووقتها المؤقت لها من أول الامر، وهذا هو
النسخ بالمعنى المجازي.
ولكن هناك مرحلة للحكم بعد تلك المبادئ، وهي مرحلة الجعل
322

والاعتبار، وفي هذه المرحلة يكن تصوير النسخ بمعناه الحقيقي، ومعناه
المجازي معا.
أما تصويره بالمعنى الحقيقي فبأن نفترض أن المولى جعل الحكم على طبيعي
المكلف دون أن يقيده بزمان دون زمان، ثم بعد ذلك يلغي ذلك الجعل
ويرفعه تبعا لما سبق في علمه من أن الملاك مرتبط بزمان مخصوص، ولا يلزم
من ذلك محذور، لان الاطلاق في الجعل لم ينشأ من عدم علم المولى بدخل
الزمان المخصوص في الملاك، بل قد ينشأ لمصلحة أخرى كإشعار المكلف
بهيبة الحكم وأبديته.
وأما تصويره بالمعنى المجازي فبأن نفترض ان المولى جعل الحكم على
طبيعي المكلف المقيد بأن يكون في السنة الأولى من الهجرة مثلا، فإذا انتهت
تلك السنة إنتهى زمان المجعول ولم يطرأ تغيير على نفس الجعل.
والافتراض الأول أقرب إلى معنى النسخ، كما هو ظاهر.
323

الملازمة بين الحسن والقبح والامر والنهي
الحسن والقبح أمران واقعيان يدركهما العقل.
ومرجع الأول إلى أن الفعل مما ينبغي صدوره.
ومرجع الثاني إلى أنه مما لا ينبغي صدوره.
وهذا الانبغاء إثباتا وسلبا أمر تكويني واقعي وليس مجعولا. ودور العقل
بالنسبة إليه دور المدرك لا دور المنشئ والحاكم، ويمسى هذا الادراك بالحكم
العقلي توسعا.
وقد ادعى جماعة من الأصوليين الملازمة بين حسن الفعل عقلا، والامر به
شرعا، وبين قبح الفعل عقلا والنهي عنه شرعا، وفصل بعض المدققين منهم
بين نوعين من الحسن والقبح، أحدهما الحسن والقبح الواقعان في مرحلة
متأخرة عن حكم شرعي والمرتبطان بعالم امتثاله وعصيانه من قبيل حسن
الوضوء باعتباره طاعة لامر شرعي، وقبح أكل لحم الأرنب بوصفه معصية
لنهي شرعي.
والآخر الحسن والقبح الواقعان بصورة منفصلة عن الحكم الشرعي كحسن
الصدق والأمانة، وقبح الكذب والخيانة، ففي النوع الأول يستحيل أن يكون
الحسن والقبح مستلزما للحكم الشرعي، والا للزم التسلسل، لان حسن
الطاعة وقبح المعصية إذا استتبعا أمرا ونهيا شرعيين، كانت طاعة ذلك الامر
324

حسنة عقلا، ومعصية هذا النهي قبيحة عقلا أيضا، وهذا الحسن والقبح
يستلزم بدوره أمرا ونهيا، وهكذا حتى يتسلسل.
وأما في النوع الثاني، فالاستلزام ثابت وليس فيه محذور التسلسل.
325

الاستقراء والقياس
عرفنا سابقا أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد والملاكات التي
يقدرها المولى وفق حكمته ورعايته لعباده، وليست جزافا أو تشهيا.
وعليه فإذا حرم الشارع شيئا، كالخمر مثلا، ولم ينص على الملاك والمناط
في تحريمه، فقد يستنتجه العقل ويحدس به، وفي حالة الحدس به يحدس حينئذ
بثبوت الحكم في كل الحالات التي يشملها ذلك الملاك، لان الملاك بمثابة العلة
لحكم الشارع وإدراك العلة يستوجب إدراك المعلول.
وأما كيف يحدس العقل بملاك الحكم ويعينه في صفة محددة، فهذا ما قد
يكون عن طريق الاستقراء تارة وعن طريق القياس أخرى.
والمراد بالاستقراء أن يلاحظ الفقيه عددا كبيرا من الاحكام يجدها جميعا
تشترك في حالة واحدة من قبيل أن يحصي عددا كبيرا من الحالات التي يعذر
فيها الجاهل فيجد أن الجهل هو الصفة المشتركة بين كل تلك المعذريات،
فيستنتج أن المناط والملاك في المعذرية هو الجهل، فيعمم الحكم إلى سائر
حالات الجهل.
والمراد بالقياس أن نحصي الحالات والصفات التي من المحتمل أن تكون
مناطا للحكم وبالتأمل والحدس والاستناد إلى ذوق الشريعة يغلب على الظن
أن واحدا منها هو المناط، فيعمم الحكم إلى كل حالة يوجد فيها ذلك
المناط.
326

والاستنتاج القائم على أساس الاستقراء ظني غالبا، لان الاستقراء ناقص
عادة، ولا يصل عادة إلى درجة اليقين.
والقياس ظني دائما لأنه مبني على استنباط حدسي للمناط، وكلما كان
الحكم العقلي ظنيا، احتاج التعويل عليه إلى دليل على حجيته، كما هو
واضح.
327

2 - حجية الدليل العقلي
الدليل العقلي تارة يكون قطعيا وأخرى يكون ظنيا فإذا كان الدليل
العقلي قطعيا ومؤديا إلى العلم بالحكم الشرعي، فهو حجة من أجل حجية
القطع، وهي حجية ثابتة للقطع الطريقي مهما كان دليله ومستنده.
ولكن هناك من خالف في ذلك، وبنى على أن القطع بالحكم الشرعي
الناشئ من الدليل العقلي لا أثر له، ولا يجوز التعويل عليه، وليس ذلك
تجريدا للقطع الطريقي عن الحجية حتى يقال، بأنه مستحيل، بل ادعي أن
بالامكان تخريجه على أساس تحويل القطع من طريقي إلى موضوعي بأن يقال:
أن الأحكام الشرعية قد أخذ في موضوعها قيد، وهو عدم العلم بجعلها
من ناحية الدليل العقلي، فمع العلم بجعلها من ناحية الدليل العقلي لا يكون
الحكم الشرعي ثابتا لانتفاء قيده، فلا أثر للعلم المذكور، إذ لا حكم في هذه
الحالة.
وقد يقال: كيف يعقل أن يقال لمن علم بجعل الحكم الشرعي بالدليل ان
الحكم غير ثابت مع إنه عالم به؟
والجواب على ذلك: أن هذا عالم بجعل الحكم وما نريد أن ننفيه عنه،
ليس هو الجعل، بل المجعول، فالعلم العقلي بالجعل الشرعي يؤخذ عدمه قيدا
في المجعول فلا مجعول مع وجود هذا العلم العقلي. وإن كان الجعل الشرعي
328

ثابتا، فلا محذور في هذا التخريج، ولكنه بحاجة إلى دليل شرعي على تقييد
الأحكام الواقعية بالوجه المذكور ولا يوجد دليل من هذا القبيل.
وأما إذا كان الدليل العقلي ظنيا، كما في الاستقراء الناقص والقياس، وفي
كل قضية من القضايا العقلية المتقدمة، إذا لم يجزم بها العقل، ولكنه ظن
بها، فهذا الدليل يحتاج إلى دليل على حجيته، وجواز التعويل على ولا دليل
على ذلك بل قام الدليل على عدم جواز التعويل على الحدس والرأي والقياس.
329

الأصول العملية
331

الأدلة
2.
الأصول العملية
1 - القاعدة العملية في حالة الشك
2 - الاستصحاب.
333

1 - القاعدة العملية في حالة الشك
قلنا سابقا إن الفقيه تارة يحصل على دليل يحرز به الحكم الشرعي،
وأخرى لا يتيسر له إحراز الحكم. ولكنه يحصل على دليل يحدد الموقف
العملي باتجاه التكليف المشكوك، وهو الذي يسمى بالأصل العملي. وهذا
القسم من الأدلة هو ما سنتحدث عنه هنا.
335

القاعدة العملية الأولية في حالة الشك
كلما شك المكلف في تكليف شرعي ولم يتيسر له إثباته أو نفيه، فلا بد له
من تحديد موقفه العملي تجاه هذا الحكم المشكوك. ويوجد مسلكان في تحديد
هذا الموقف.
الأول: مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهو المسلك المشهور القائل:
بان التكليف ما دام لم يتم عليه البيان، فيقبح من المولى أن يعاقب على مخالفته.
وهذا المسلك يعني بحسب التحليل، كما عرفنا في بحث سابق أن حق
الطاعة للمولى مختص بالتكاليف المعلومة ولا يشمل المشكوكة.
الثاني: مسلك حق الطاعة الذي تقدم شرحه، وهو مبني على الايمان، بأن
حق الطاعة للمولى يشمل كل تكليف غير معلوم العدم ما لم يأذن المولى نفسه
في عدم التحفظ من ناحيته.
فبناء على المسلك الأول، تكون القاعدة العملية الأولية هي البراءة بحكم
العقل. وبناء على المسلك الثاني تكون القاعدة المذكورة هي أصالة شغل الذمة
بحكم العقل ما لم يثبت إذن من الشارع في عدم التحفظ.
ويظهر من كلام المحقق النائيني (رحمه الله) أنه حاول الاستدلال على
قاعدة قبح العقاب بلا بيان، والبرهنة عليها. ويمكن تلخيص استدلاله في
وجهين:
336

أحدهما أن التكليف إنما يكون محركا للعبد بوجوده العلمي لا بوجوده
الواقعي، كما هو الحال في سائر الأغراض الأخرى، فالأسد مثلا إنما يحرك
الانسان نحو الفرار بوجوده المعلوم لا بوجوده الواقعي. وعليه فلا مقتضى
للتحرك مع عدم العلم. ومن الواضح أن العقاب على عدم التحرك مع إنه لا
مقتضى للتحرك قبيح.
والآخر: الاستشهاد بالأعراف العقلائية واستقباح معاقبة الآمر في
المجتمعات العقلائية مأموره على مخالفة تكليف غير واصل.
أما الوجه الأول فيرد عليه أن المحرك للعبد إنما هو الخروج عن عهدة
حق الطاعة للمولى، وغرضه الشخصي قائم بالخروج عن هذه العهدة لا
بامتثال التكليف بعنوانه، فلا بد من تحديد حدود هذه العهدة، وان حق
الطاعة هل يشمل التكاليف المشكوكة أو لا؟ فإن ادعي عدم الشمول كان
مصادرة، وخرج البيان عن كونه برهانا، وإن لم يفرغ من عدم الشمول، فلا
يتم البرهان المذكور، إذ كيف يفترض ان التحرك مع عدم العلم بالتكليف بلا
مقتضى، مع أن المقتضى للتحرك هو حق الطاعة الذي ندعي شموله
للتكاليف المشكوكة أيضا.
وأما الوجه الثاني فهو قياس لحق الطاعة الثابت للمولى سبحانه وتعالى على
حق الطاعة الثابت للآمر العقلائي وهو قياس بلا موجب، لان حق الطاعة
للآمر العقلائي مجعول لا محالة من قبل العقلاء، أو آمر أعلى فيكون محددا
سعة وضيقا تبعا لجعله، وهو عادة يجعل في حدود التكاليف المقطوعة، وأما
حق الطاعة للمولى سبحانه فهو حق ذاتي تكويني غير مجعول ولا يلزم من
ضيق دائرة ذلك الحق المجعول ضيق دائرة هذا الحق الذاتي، كما هو
واضح، فالمعول في تحديد دائرة هذا الحق على وجدان العقل
337

العملي، وهو يقتضي التعميم.
فالصحيح إذن أن القاعدة العملية الأولية هي أصالة الاشتغال بحكم العقل
ما لم يثبت الترخيص في ترك التحفظ.
338

القاعدة العملية الثانوية في حالة الشك
والقاعدة العملية الثانوية في حالة الشك التي ترفع موضوع القاعدة الأولى
هي البراءة الشرعية.
ومفادها: الاذن من الشارع في ترك التحفظ والاحتياط تجاه التكليف
المشكوك، ولما كانت القاعدة الأولى مقيدة بعدم ثبوت الترخيص في ترك
التحفظ، كانت البراءة الشرعية رافعة لقيدها ونافية لموضوعها ومبدلة للضيق
بالسعة.
ويستدل لاثبات البراءة الشرعية بعدد من الآيات الكريمة والروايات. أما
الآيات فعديدة.
منها: قوله سبحانه وتعالى * (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) * (1).
وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة إن اسم الموصول فيها، أما أن يراد به
المال أو الفعل أو التكليف أو الجامع، والأول هو المتيقن لأنه المناسب لمورد
الآية حيث أمرت بالنفقة وعقبت ذلك بالكبرى المذكورة، ولكن لا موجب
للاقتصار على المتيقن، بل نتمسك بالاطلاق لاثبات الاحتمال الأخير، فيكون
معنى الآية الكريمة، ان الله لا يكلف مالا إلا بقدر ما رزق وأعطى، ولا
يكلف بفعل إلا في حدود ما أقدر عليه من أفعال، ولا يكلف بتكليف إلا

(1) سورة الطلاق: 7.
339

إذا كان قد آتاه وأوصله إلى المكلف، فالايتاء بالنسبة إلى كل من المال والفعل
والتكليف بالنحو المناسب له. فينتج ان الله تعالى لا يجعل المكلف مسؤولا تجاه
تكليف غير واصل وهو المطلوب.
وقد اعترض الشيخ الأنصاري على هذا الاستدلال، بأن إرادة الجامع من
اسم الموصول غير ممكنة، لان اسم الموصول حينئذ بلحاظ شموله للتكليف
يكون مفعولا مطلقا وبلحاظ شموله للمال يكون مفعولا به، والنسبة بين
الفعل والمفعول المطلق تغاير النسبة بين الفعل والمفعول به، فإن الأولى هي
نسبة الحدث إلى طور من أطواره، والثانية هي نسبة المغاير إلى المغاير، فيلزم
من استعمال الموصول في الجامع إرادة كلتا النسبتين من هيئة ربط الفعل
بمفعوله، وهو من استعمال اللفظ في معنيين، مع أن كل لفظ لا يستعمل الا في
معنى واحد.
ومنها: قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (1).
وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة، إنها تدل على أن الله تعالى لا يعذب
حتى يبعث الرسول، وليس الرسول إلا كمثال للبيان، فكأنه قال لا عقاب
بل بيان.
ويمكن الاعتراض على هذا الاستدلال بأن غاية ما يقتضيه نفي العقاب في
حالة عدم صدور البيان من الشارع لا في حالة صدوره وعدم وصوله إلى
المكلف، لان الرسول إنما يؤخذ كمثال لصدور البيان من الشارع لا للوصول
الفعلي إلى المكلف. وما نحن بصدده، إنما هو التأمين من ناحية تكليف لم يصل
إلينا بيانه حتى ولو كان هذا البيان قد صدر من الشارع.

(1) سورة الإسراء: 15.
340

ومنها: قوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه
إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس. أو فسقا
أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) (1)
وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة: أن الله تعالى لقن نبيه صلى الله عليه وآله كيفية
المحاجة مع اليهود، فيما يرونه محرما بأن يتمسك بعدم الوجدان، وهذا ظاهر
في أن عدم الوجدان كاف للتأمين.
ويرد عليه أن عدم وجدان النبي فيما أوحي إليه يساوق عدم الوجود الفعلي
للحكم، فكيف يقاس على ذلك عدم وجدان المكلف المحتمل أن يكون
بسبب ضياع النصوص الشرعية.
ومنها: قوله تعالى * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين
لهم ما يتقون إن الله بكل شئ عليم) * (1).
وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة إن المراد بالاضلال فيها، أما تسجيلهم
ضالين ومنحرفين، وأما نوع من العقاب، كالخذلان والطرد من أبواب
الرحمة، وعلى أي حال فقد أنيط الاضلال ببيان ما يتقون لهم، وحيث أضيف
البيان لهم فهو ظاهر في وصوله إليهم، فمع عدم وصول البيان لا عقاب ولا
ضلال، وهو معنى البراءة.
وأما الروايات فعديدة أيضا.
منها: ما روي عن الصادق عليه السلام من قوله: (كل شئ مطلق حتى
يرد فيه نهي). والاطلاق يساوق السعة والتأمين، والشاك يصدق بشأنه أنه لم
يرده النهي فيكون مؤمنا عن التكليف المشكوك وهو المطلوب.

(1) سورة الأنعام - 145
(1) سورة التوبة - 115
341

وقد يعترض على هذا الاستدلال بأن الورود تارة يكون بمعنى الصدور،
وأخرى بمعنى الوصول، فإذا كان مفاد الرواية جعل صدور النهي غاية فلا
يتم الاستدلال، لان الشاك يحتمل صدور النهي وتحقق الغاية، وإذا كان
مفادها جعل وصول النهي إلى المكلف غاية ثبت المطلوب، ولكن لا معين
للثاني فلا يمكن الاستدلال بالرواية المذكورة.
وقد يجاب على ذلك بان الورود دائما يستبطن حيثية الوفود على شئ فلا
يطلق على حثيثة الصدور البحتة. ولكن مع هذا لا يتم الاستدلال إذ لم يعلم أن
الملحوظ فيه وفود النهي على المكلف المساوق لوصوله إليه، بل لعل الملحوظ
وفوده على الشئ نفسه، كما يناسبه قوله يرد فيه نهي، فكأنه النهي يرد على
المادة فهناك مورود عليه ومورود عنه بقطع النظر عن المكلف، وهذا يعني ان
الغاية صدور النهي من الشارع ووقوعه على المادة، سواء وصل إلى المكلف أو
لا، فلا يتم الاستدلال.
ومنها: حديث الرفع وهو الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وآله، ومفاده: رفع
عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا
يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق
ما لم ينطق بشفة.
وتقريب الاستدلال بفقرة (رفع ما لا يعلمون) يتم على مرحلتين:
الأولى: أن هذا الرفع يوجد فيه بدوا إحتمالان:
أحدهما: أن يكون رفعا واقعيا للتكليف المشكوك، فيكون الحديث مقيدا
ومخصصا لاطلاق أدلة الأحكام الواقعية الالزامية بغرض العلم بها.
والآخر: أن يكون رفعا ظاهريا، بمعنى تأمين الشاك ونفي وجوب
الاحتياط عليه في مقابل وضع التكليف المشكوك وضعا ظاهريا بإيجاب
342

الاحتياط تجاه، وكل من الاحتمالين ينفع لاثبات السعة، لان التكليف
المشكوك منفي اما واقعا، واما ظاهرا، ولكن الاحتمال الأول ساقط، لأنه
يؤدي إلى تقيد الأحكام الواقعية الالزامية بالعلم بها، وقد سبق ان اخذ
العلم بالحكم قيدا لنفس الحكم مستحيل.
فإن قيل: أو لستم قلتم بإمكان أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول. قلنا:
نعم. ولكن ظاهر الحديث أن المرفوع والمعلوم شئ واحد، بمعنى أن الرفع
والعلم يتبادلان على مركز واحد، فإذا افترضنا ان العلم بالجعل مأخوذ في
موضوع المجعول، فهذا معناه ان العلم لوحظ متعلقا بالجعل، وان الرفع إنما
هو رفع للمجعول بتقييده بالعلم بالجعل، وهذا خلاف ظاهر الحديث، فلا بد
اذن من إفتراض ان الرفع يتعلق بالمجعول، وكذلك العلم فكأنه قال الحكم
المجعول مرفوع حتى يعلم به. وعلى هذا الأساس يتعين حمل الرفع على إنه
ظاهري لا واقعي، وإلا لزم أخذ العلم بالمجعول قيدا لنفس المجعول وهو
محال.
الثانية: أن الشك في التكليف تارة يكون على نحو الشبهة الموضوعية،
كالشك في حرمة المائع المردد بين الخل والخمر، وأخرى يكون على نحو
الشبهة الحكمية، كالشك في حرمة لحم الأرانب مثلا، وعليه، فالرفع الظاهري
في فقرة (رفع ما لا يعلمون) قد يقال باختصاصه بالشبهة الموضوعية، وقد
يقال باختصاصه بالشبهة الحكمية، وقد يقال بعمومه لكلتا الشبهتين.
أما الاحتمال الأول فقد استدل عليه بوحدة السياق لاسم الموصول في
الفقرات المتعددة، إذ من الواضح أن المقصود منه، فيما اضطروا إليه ونحوه
الموضوع الخارجي أو الفعل الخارجي لا نفس التكليف فيحمل ما لا يعلمون
على الموضوع الخارجي أيضا، فيكون مفاد الجملة حينئذ، أن الخمر غير
343

المعلوم مرفوع الحرمة، كما أن الفعل المضطر إليه مرفوع الحرمة فلا يشمل
حالات الشك في أصل جعل الحرمة على نحو الشبهة الحكمية.
والتحقيق أن وحدة السياق، إنما تقتضي كون مدلول اللفظ المتكرر
واحدا في السياق الواحد، لا كون المصاديق من سنخ واحد، فإذا افترضنا
ان اسم الموصول قد استعمل في جميع تلك الفقرات في معناه العام المبهم، غير أن
مصداقه يختلف من جملة إلى أخرى باختلاف صفاته لم تنثلم بذلك وحدة
السياق في مرحلة المدلول الاستعمالي.
وأما الاحتمال الثاني فيستند إلى أن ظاهر (ما لا يعلمون) أن يكون نفس
ما بإزاء اسم الموصول غير معلوم، فإن كان ما بإزائه التكليف فهو بنفسه
ليس مشكوكا وإنما المشكوك كونه خمرا مثلا. فلا يكون عدم العلم مسندا
إلى مدلول اسم الموصول حقيقة. وهذا خلاف ظاهر الحديث، فيتعين أن
يراد باسم الموصول التكليف، ومعه يختص بالشبهة الحكمية.
ويرد عليه أولا: أن بالامكان أن يكون ما بإزاء اسم الموصول نفس
عنوان الخمر لا المائع المشكوك كونه خمرا فعدم العلم يكون مسندا إليه
حقيقة.
وثانيا: لو سلمنا ان ما بإزاء اسم الموصول ينبغي أن يكون هو التكليف
فأن هذا لا يوجب الاختصاص بالشبهة الحكيمة، لان التكليف بمعنى الحكم
المجعول مشكوك في الشبهة الموضوعية أيضا.
وأما الاحتمال الثالث فهو يتوقف على تصوير جامع يمكن أن يراد باسم
الموصول على نحو ينطبق على الشبهة الحكمية والموضوعية، وهذا الجامع له
فرضيتان:
الأولى: ان يراد باسم الموصول الشئ، سواء كان تكليفا أو موضوعا
344

خارجيا. واعترض على ذلك بأن إسناد الرفع إلى التكليف حقيقي لأنه قابل
للرفع بنفسه واسناده إلى الموضوع مجازي وبلحاظ حكمه، ولا يمكن الجمع
بين الاسناد الحقيقي والمجازي في استعمال واحد.
والجواب: إن اسناد الرفع إلى التكليف ليس حقيقيا أيضا، لما عرفت
سابقا من أنه رفع ظاهري لا واقعي، فالاسنادان كلاهما عنائيان.
الثانية: أن يراد باسم الموصول التكليف المجعول وهو مشكوك في الشبهة
الحكمية والموضوعية معا، وإنما يختلفان في منشأ الشك، فإن المنشأ في الأولى
عدم العلم بالجعل، وفي الثانية عدم العلم بالموضوع.
والمعين للاحتمال الثالث بعد تصوير الجامع هو الاطلاق فتتم دلالة حديث
الرفع على البراءة ونفي وجوب التحفظ والاحتياط.
ومنها: رواية زكريا بن يحيى عن آبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (ما
حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم). فان الوضع عن المكلف تعبير
آخر عن الرفع عنه فتكون دلالة هذه الرواية على وزان دلالة الحديث السابق
ويستفاد منها نفي وجوب التحفظ والاحتياط.
وقد يلاحظ على الاستدلال أمران:
أحدهما: أن الحجب هنا أسند إلى الله تعالى فيختص بالاحكام المجهولة
التي ينشأ عدم العلم بها من قبل الشارع لاخفائه لها، ولا يشمل ما تشك فيه
عادة من الاحكام التي يحتمل عدم وصولها لعوارض اتفاقية.
ويرد عليه: أن الحجب لم يسند إلى المولى سبحانه بما هو شارع وحاكم
لينصرف إلى ذلك النحو من الحجب، بل أسند إليه بما هو رب العالمين،
وبيده الامر من قبل ومن بعد، وبهذا يشمل كل حجب يقع في العالم، ولا
موجب لتقييده بالحجب الواقع منه بما هو حاكم.
345

والآخر: أن موضوع القضية ما حجب عن العباد، فتختص بما كان غير
معلوم لهم جميعا فلا يشمل التكاليف التي يشك فيها بعض العباد دون بعض.
وقد يجاب على ذلك باستظهار الانحلالية من الحديث بمعنى أن كل ما حجب
عن عبد فهو موضوع عنه، فالعباد لوحظوا بنحو العموم الاستغراقي لا
العموم المجموعي.
ومنها: رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (كل
شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال، حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه)
وتقريب الاستدلال أنها تجعل الحلية مع إفتراض وجود حرام وحلال
واقعي، وتضع لهذه الحلية غاية، وهي تمييز الحرام. فهذه الحلية ظاهرية إذن
وهي تعبير آخر عن الترخيص في ترك التحفظ والاحتياط.
ولكن ذهب جماعة من المحققين إلى أن هذه الرواية مختصة بالشبهات
الموضوعية، وذلك لقرينتين:
الأولى: أن ظاهر قوله (كل شئ فيه حلال وحرام) افتراض طبيعة
منقسمة فعلا إلى افراد محللة وافراد محرمة، وأن هذا الانقسام هو السبب في
الشك في حرمة هذا الفرد أو ذاك وهذا إنما يصدق في الشبهة الموضوعية لا
في مثل الشك في حرمة شرب التتن مثلا وأمثاله من الشبهات الحكمية، فإن
الشك فيها لا ينشأ من تنوع أفراد الطبيعة، بل من عدم وصول النص الشرعي
على التحريم.
الثانية: أن مفاد الحديث إذا حمل على الشبهة الحكمية كانت كلمة
(بعينه) تأكيدا صرفا، لان العلم بالحرام فيها مساوق للعلم بالحرام بعينه
عادة. وما إذا حمل على الشبهة الموضوعية كان للكلمة المذكورة فائدة
ملحوظة لاجل حصر الغاية للحلية بالعلم التفصيلي دون العلم الاجمالي الذي
يغلب تواجده في الشبهات الموضوعية، إذ من الذي لا يعلم عادة بوجود جبن
346

حرام وبوجود لحم حرام وبوجود شراب نجي؟ وإنما الشك في أن هذا الجبن
أو اللحم أو الشراب المعين هل هو من الحرام النجس أو لا؟ وعليه فيكون
الحمل على الشبهة الموضوعية متعينا عرفا، لان التأكيد الصرف خلاف
الظاهر.
هذه هي أهم النصوص التي استدل بها على البراءة من الكتاب والسنة.
وقد لا حظنا أن بعضها تام الدلالة.
وقد يضاف إلى ذلك التمسك بعموم دليل الاستصحاب، وذلك بأحد
لحاظين:
الأول: أن نلتفت إلى بداية الشريعة فنقول: أن هذا التكليف المشكوك لم
يكن قد جعل في تلك الفترة يقينا لان تشريع الاحكام كان تدريجيا
فيستصحب عدم جعل ذلك التكليف.
الثاني: أن يلتفت المكلف إلى حالة ما قبل تكليفه، كحالة صغره مثلا،
فيقول: أن هذا التكليف لم يكن ثابتا علي في تلك الفترة يقينا، ويشك في
ثبوته بعد البلوغ فيستصحب عدمه.
وقد اعترض المحقق النائيني قدس سره على إجراء الاستصحاب بأحد
هذين اللحاظين، بأن استصحاب عدم حدوث ما يشك في حدوثه، إنما
يجري إذا كان الأثر المطلوب اثباته بالاستصحاب منوطا بعدم الحدوث،
فنتوصل إليه تعبدا بالاستصحاب. ومثاله ان نشك في حدوث النجاسة في الماء،
والأثر المطلوب تصحيح الوضوء به، وهو منوط بعدم حدوث النجاسة، فنجري
استصحاب عدم حدوث النجاسة ونثبت بالتعبد الاستصحابي إن الوضوء به
صحيح، وأما إذا كان الأثر المطلوب إثباته بالاستصحاب، يكفي في تحققه
واقعا مجرد عدم العلم بحدوث ذلك الشئ، فيكون ذلك الأثر محققا وجدانا في
حالة الشك في الحدوث، ولا نحتاج حينئذ إلى إجراء استصحاب عدم
347

الحدوث، ومثال ذلك: محل الكلام لان الأثر المطلوب هنا هو التأمين ونفي
استحقاق العقاب، وهذا الأثر مترتب على مجرد عدم البيان، وعدم العلم
بحدوث التكليف - وفقا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان - فهو حاصل وجدانا
وأي معنى حينئذ لمحاولة تحصيله تعبدا بالاستصحاب، وهل هو الا نحو من
تحصيل الحاصل.
وهذا الاعتراض غير صحيح لعدة اعتبارات.
منها: أننا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فالأثر المطلوب لا يكفي
فيه، إذن مجرد عدم العلم، كما هو واضح من مسلك حق الطاعة.
ومنها: أنه حتى إذا آمنا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا شك في أن قبح
العقاب على مخالفة تكليف مشكوك لم يصل إذن الشارع فيه ثابت بدرجة أقل
من قبحه على مخالفة تكليف مشكوك قد بين إذن الشارع في مخالفته.
والمطلوب بالاستصحاب تحقيق هذه الدرجة الأعلى من قبح العقاب
والمعذرية، وما هو ثابت بمجرد الشك الدرجة الأدنى، فليس هناك تحصيل
للحاصل.
الاعتراضات على أدلة البراءة:
ويوجد هناك اعتراضان رئيسيان على أدلة البراءة المتقدمة. أحدهما: أن
هذه الأدلة، إنما تشمل حالة الشك اليدوي ولا تشمل حالة الشك المقترن بعلم
إجمالي، كما تقدم في الحلقة السابقة، والفقيه حينما يلحظ الشبهات الحكمية
ككل، يوجد لديه علم إجمالي بوجود عدد كبير من التكاليف المنتشرة في تلك
الشبهات، فلا يمكنه إجراء أصل البراءة في أي شبهة من تلك الشبهات.
والجواب: أن العلم الاجمالي المذكور وان كان ثابتا ولكنه منحل، لان
348

الفقيه من خلال استنباطه وتتبعه يتواجد لديه علم تفصيلي بعدد محدد من
التكاليف لا يقل عن العدد الذي كان يعلمه بالعلم الاجمالي في البداية، ومن
هنا يتحول علمه الاجمالي إلى علم تفصيلي بالتكليف في هذه المواقع، وشك
بدوي في التكليف في سائر المواقع الأخرى. وقد تقدم في حلقة سابقة إن
العلم الاجمالي إذا انحل إلى علم تفصيلي وشك بدوي، بطلت منجزيته، وجرت
الأصول المؤمنة خارج نطاق العلم التفصيلي.
والاعتراض الآخر أن أدلة البراءة معارضة بأدلة شرعية، وروايات تدل
على وجوب الاحتياط، وهذه الروايات، أما رافعة لموضوع أدلة البراءة، واما
مكافئة لها، وذلك أن هذه الروايات بيان لوجوب الاحتياط لا للتكليف
الواقعي المشكوك.
فدليل البراءة ان كانت البراءة فيه مجعولة في حق من لم يتم عنده البيان لا
على التكليف الواقعي، ولا على وجوب الاحتياط، كانت تلك الروايات
رافعة لموضوع البراءة المجعولة فيه باعتبارها بيانا لوجوب الاحتياط، وان
كانت البراءة في دليلها مجعولة في حق من لم يتم عنده البيان على التكليف
الواقعي، فروايات الاحتياط لا ترفع موضوعها، ولكنها تعارضها، ومع
التعارض لا يمكن أيضا الاعتماد على أدلة البراءة.
ومثال النحو الأول من أدلة البراءة:
البراءة المستفادة من قوله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا "،
فإن الرسول اعتبر كمثال لمطلق البيان وإقامة الحجة، وإقامة الحجة كما تحصل
بإيصال الحكم الواقعي، كذلك بإيصال وجوب الاحتياط.
فروايات وجوب الاحتياط بمثابة بعث الرسول، وبذلك ترفع موضوع
البراءة.
349

ومثال النحو الثاني من أدلة البراءة المستفادة من حديث الرفع أو الحجب،
فان مفاده الرفع الظاهري للتكليف الواقعي المشكوك، ومعنى الرفع الظاهري
عدم وجوب الاحتياط، فالبراءة المستفادة من هذا الحديث وأمثاله تستبطن
بنفسها نفي وجوب الاحتياط وليست منوطة بعدم ثبوته.
ونستعرض فيما يلي جملة من الروايات التي تدعي دلالتها على وجوب
الاحتياط، وسنرى انها لا تنهض لاثبات ذلك:
فمنها: المرسل عن الصادق (ع) قال: " من اتقى الشبهات فقد استبرأ
لدينه "، ونلاحظ ان الرواية غاية ما تدل عليه الترغيب في الاتقاء، وليس فيها
ما يدل على الالزام.
ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين (ع) من أنه قال لكميل: يا كميل
أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت.
ونلاحظ ان الرواية وان اشتملت على امر بالاحتياط ولكنه قيد بالمشيئة،
وهذا يصرفه عن الظهور في الوجوب، ويجعله في إفادة ان الدين امر مهم،
فأي مرتبة من الاحتياط تلتزم بها تجاهه فهو حسن.
ومنها: ما عن أبي عبد الله (ع): أورع الناس من وقف عند الشبهة.
ونلاحظ ان هذا البيان لا يكفي لاثبات الوجوب إذ لم يدل دليل على
وجوب الأورعية.
ومنها: خبر حمزة بن طيار انه عرض على أبي عبد الله (ع) بعض خطب
أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال له: كف واسكت.
ثم قال: لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون الا الكف عنه والتثبت
والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على الحق، ويجلوا عنكم فيه العمى،
350

ويعرفوكم فيه الحق. قال الله تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا
تعملون) * (1).
ونلاحظ ان هذه الرواية تأمر بالكلف والتريث من أجل مراجعة الامام،
واخذ الحكم منه لا بالكف والاجتناب بعد المراجعة وعدم التمكن من تعيين
الحكم، وما نريده هو اجراء البراءة بعد المراجعة، والفحص لما سيأتي من أن
البراءة مشروطة بالفحص، وبذل الجهد في التوصل إلى الحكم الواقعي.
ومنها: رواية أبي سعيد الزهري عن أبي جعفر (ع) قال: الوقوف عند
الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة.
وتقريب الاستدلال انها تدل على وجود هلكة في اقتحام الشبهة، وهذا
يعني تنجز التكليف الواقعي المشكوك وعدم كونه مؤمنا عنه، وهو معنى
وجوب الاحتياط.
ويرد على ذلك أن هذا يتوقف على حمل الشبهة على الاشتباه بمعنى الشك،
مع أن الأصل في مدلول الشبهة لغة المثل والمحاكي، وانما يطلق على الشك
عنوان الشبهة، لان المماثلة والمشابهة تؤدي إلى التحير والشك، وعليه فلا
موجب لحمل الشبهة على الشك، بل بالامكان حملها على ما يشبه الحق شبها
صوريا، وهو باطل في حقيقته كما هو الحال في كثير من الدعوات الباطلة
التي تبدو بالتدليس، وكأنها واجدة لسمات الحق، وقد فسرت الشبهة بذلك
في جملة من الروايات، كما في كلام للامام لابنه الحسن حيث روي عنه أنه قال:
(وانما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق، فاما أولياء الله فضياؤهم فيها

(1) سورة النحل 43.
351

اليقين ودليلهم سمت الهدى، واما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم
العمى).
وعلى هذا الأساس يكون مفاد الرواية التحذير من الانخراط في الدعوات
والاتجاهات التي تحمل بعض شعارات الحق لمجرد حسن الظن بوضعها
الظاهري بدون تمحيص وتدقيق في واقعها، ولا ربط لها حينئذ بتعيين الوظيفة
العملية في موارد الشك في التكليف.
واما مشهور المعلقين على الرواية، فقد افترضوا ان الشبهة بمعنى الشك
تأثرا بشيوع هذا الاطلاق في عرفهم الأصولي، وحاولوا المناقشة في
الاستدلال بوجه آخر مبني على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان، إذ على
هذا المسلك تكون الشبهة البدوية مؤمنا عنها بالقاعدة المذكورة ما لم يجعل
الشارع منجزا للتكليف المشكوك بإيجاب الاحتياط ونحو ذلك، وهذا معناه
ان التنجز واستحقاق العقاب من تبعات وجوب الاحتياط وليس سابقا عليه،
ونحن إذا لاحظنا الرواية المذكورة نجد انها تفترض مسبقا، ان الاقدام مظنة
للهلكة وتنصح بالوقوف حذرا من الهلكة، ومقتضي ذلك انها تتحدث عن
تكاليف قد تنجزت وخرجت عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان في
المرتبة السابقة، وليست بصدد إيجاب الاحتياط وتنجيز الواقع المشكوك
بنفسها، ونتيجة ذلك أن الرواية لا تدل على وجوب الاحتياط، وانها تختص
بالحالات التي يكون التكليف المشكوك فيها منجزا بمنجز سابق، كالعلم
الاجمالي ونحوه.
ومنها: رواية جميل عن أبي عبد الله (ع) عن آبائه قال: قال رسول الله
(ص): الأمور ثلاثة، أمر بين لك رشده فاتبعه، وأمر بين لك غيه فاجتنبه،
وأمر اختلف فيه فرده إلى الله.
وكأنه يراد ان يدعى ان الشبهات الحكمية من القسم الثالث، وقد أمرنا
352

فيه بالرد إلى الله وعدم الترسل في التصرف، وهو معنى الاحتياط.
ويرد عليه أولا: ان الرد إلى الله ليس بمعنى الاحتياط بل لعلة بمعنى
الرجوع إلى الكتاب والسنة في استنباط الحكم في مقابل ما يكون بينا متفقا
على رشده أو غيه، فكأنه قيل: إن ما كان متفقا على غيه ورشده وبينا في
نفسه عومل على أساس ذلك، وما كان مختلفا فيه فلا بد من الرجوع فيه إلى
الكتاب والسنة، ولا يجوز التخرص فيه والرجم بالغيب، وبهذا يكون مفاد
الرواية أجنبيا عما هو المقصود في المقام.
وثانيا: لو سلم ان المراد بالأمر بالرد إلى الله الامر بالاحتياط، فنحن ننكر
ان تكون الشبهة الحكمية بعد قيام الدليل الشرعي على البراءة من القسم
الثالث، بل الاقدام فيها بين الرشد لقيام الدليل القطعي على إذن الشارع في
ذلك.
وعلى العموم فالظاهر عدم تمامية سائر الروايات التي يستدل بها على
وجوب الاحتياط، وعليه فدليل البراءة سليم عن المعارض.
ولو سلمنا المعارضة كان الرجحان في جانب البراءة لا وجوب الاحتياط،
وذلك لوجوه:
منها: ان دليل البراءة قرآني، ودليل وجوب الاحتياط من اخبار الآحاد،
وكلما تعارض هذان القسمان قدم الدليل القرآني القطعي، ولم يكن خبر
الواحد حجة في مقابله.
ومنها: ان دليل البراءة لا يشمل حالات العلم الاجمالي كما سيأتي، ودليل
وجوب الاحتياط شامل لذلك، فيكون دليل البراءة أخص فيخصصه.
ومنها: ان دليل وجوب الاحتياط أخص من دليل الاستصحاب القاضي
باستصحاب عدم التكليف، فان افترضنا ان دليل الاحتياط ودليل البراءة
353

متكافئان وتساقطا رجعنا إلى دليل الاستصحاب، إذ كلما وجد عام (كدليل
الاستصحاب) ومخصص (كدليل الاحتياط) ومعارض للمخصص (كدليل
البراءة) سقط المخصص مع معارضه ورجعنا إلى العام.
354

تمديد مفاد البراءة
بعد أن ثبت ان الوظيفة العملية الثانوية هي أصالة البراءة نتكلم عن تحديد
مفاد هذا الأصل وحدوده، وذلك في عدة نقاط.
البراءة مشروطة بالفحص:
النقطة الأولى: في أن هذا الأصل مشروط بالفحص واليأس عن الظفر
بدليل فلا يجوز اجراء البراءة لمجرد الشك في التكليف، وبدون فحص في
مظان وجوده من الأدلة.
وقد يتراءى في بادئ الامر ان في أدلة البراءة الشرعية اطلاقا حتى لحالة
ما قبل الفحص، كما في رفع ما لا يعلمون فان عدم العلم صادق قبل الفحص
أيضا، ولكن هذا الاطلاق يجب رفع اليد عنه وذلك للأمور التالية:
أولا: ان بعض أدلة البراءة لا تثبت المسؤولية، والإدانة في حالة وجود
بيان على التكليف في معرض الوصول على نحو لو فحص عنه المكلف لوصل
إليه، فمثلا: الآية الثانية إذا تمت دلالتها على البراءة، فهي تدل في نفس
الوقت على أن البراءة مغياة ببعث الرسول، وبعد حمل الرسول على المثال يثبت
ان الغاية هي توفير البيان على نحو يتاح للمكلف الوصول إليه، كما هو شأن
الناس مع الرسول، وعليه فيثبت بمفهوم الغاية انه متى توفر البيان على هذا
النحو فاستحقاق العذاب ثابت، ومن الواضح ان الشاك قبل الفحص يحتمل
355

تحقق الغاية وتوفر البيان فلا بد من الفحص، وكذلك أيضا الآية الرابعة فان
البيان لهم جعل غاية البراءة وهو يصدق مع توفير بيان في معرض الوصول.
وثانيا: ان للمكلف علما اجماليا بوجود تكاليف في الشبهات الحكمية كما
تقدم، وهذا العلم انما ينحل بالفحص لكي يحرز عدد من التكاليف بصورة
تفصيلية، وما لم ينحل لا تجري البراءة فلا بد من الفحص إذن.
وثالثا: ان الاخبار الدالة على وجوب التعلم - وان المكلف يوم القيامة يقال
له: لماذا لم تعمل؟ فإذا قال: لم أعلم. يقال له: لماذا لم تتعلم؟ - تعتبر مقيدة
لاطلاق دليل البراءة ومثبتة أن الشك بدون فحص وتعلم ليس عذرا شرعا.
التمييز بين الشك في التكليف والشك في المكلف به:
النقطة الثانية: في أن الضابط لجريان أصل البراءة هو الشك في التكليف لا
الشك في المكلف به.
وتوضيح ذلك: ان المكلف تارة يشك في ثبوت الحكم الشرعي، كما إذا
شك في حرمة شرب التتن أو في وجوب صلاة الخسوف، وأخرى يعلم بالحكم
الشرعي ويشك في امتثاله، كما إذا علم بان صلاة الظهر واجبة وشك في أنها
هل أتى بها أو لا؟
فالشك الأول هو مجرى البراءة العقلية والبراءة الشرعية عند المشهور،
وهو مجرى البراءة الشرعية عندنا.
والشك الثاني لا تجري فيه البراءة العقلية ولا الشرعية لان التكليف فيه
معلوم، وانما الشك في امتثاله والخروج عن عهدته فيجري هنا أصل يسمى
بأصالة الاشتغال ومفاده، كون التكليف في العهدة حتى يحصل الجزم بامتثاله،
وعلى الفقيه ان يميز بدقة كل حالة من حالات الشك التي يفترضها، وهل انها
356

من الشك في التكليف لتجري البراءة أو من الشك في المكلف به لتجري
أصالة الاشتغال؟
والتمييز في الشبهات الحكمية واضح عادة، لان الشك في الشبهة الحكمية
انما يكون عادة في التكليف، واما الشبهات الموضوعية، ففيها من كلا
القسمين، ولهذا لا بد من تمييز الشبهة الموضوعية بدقة وتحديد دخولها في هذا
القسم أو ذاك.
وقد يقال في بادئ الامر ان الشبهة الموضوعية ليس الشك فيها شكا في
التكليف، بل التكليف في الشبهات الموضوعية معلوم دائما فلا تجري البراءة.
والجواب: ان التكليف بمعنى الجعل معلوم في حالات الشبهة الموضوعية،
واما التكليف بمعنى المجعول فهو مشكوك في كثير من هذه الحالات، ومتى
كان مشكوكا جرت البراءة.
وتوضيح ذلك أن الحكم إذا جعل مقيدا بقيد كان وجود التكليف
المجعول وفعليته تابعا لوجود القيد خارجا وفعليته، وحينئذ فالشك يتصور
على انحاء:
النحو الأول: ان يشك في أصل وجود القيد، وهذا يعني الشك في فعلية
التكليف المجعول فتجري البراءة.
ومثاله: أن يكون وجوب الصلاة مقيدا بالخسوف، فإذا شك في الخسوف
شك في فعلية الوجوب فتجري البراءة.
النحو الثاني: ان يعلم بوجود القيد في ضمن فرد ويشك في وجوده ضمن
فرد آخر.
ومثاله: أن يكون وجوب اكرام الانسان مقيدا بالعدالة ويعلم بان هذا
عادل ويشك في أن ذلك عادل.
357

ومثال آخر: أن يكون وجوب الغسل مقيدا بالماء، بمعنى انه يجب الغسل
بالماء ويعلم بان هذا ماء ويشك في أن ذاك ماء.
وهناك فرق بين المثالين وهو ان المشكوك في المثال الأول لو كان فردا
ثانيا حقا لحدث وجوب آخر للاكرام، لان وجوب الاكرام بالنسبة إلى
افراد العالم شمولي وانحلالي بمعنى ان كل فرد له وجوب اكرام، واما
المشكوك في المثال الثاني فهو لو كان فردا ثانيا حقا للماء لما حدث وجوب
آخر للغسل، لان وجوب الغسل بالنسبة إلى افراد الماء بدلي فلا يجب الغسل
بكل فرد من الماء، بل بصرف الوجود، فكون المشكوك فردا من الماء لا
يعني تعددا في الواجب، بل يعني انك لو غسلت به لكفاك ولاعتبرت ممتثلا،
وعلى هذا تجري البراءة في المثال الأول، لان الشك شك في الوجوب الزائد،
فلا يجب ان تكرم من تشك في علمه وتجري أصالة الاشتغال في المثال الثاني،
لان الشك شك في الامتثال فلا يجوز أن تكتفي بالغسل بالمائع الذي تشك في أنه
ماء.
النحو الثالث: أن لا يكون هناك شك في القيد اطلاقا، وانما الشك في
وجود متعلق الامر، وهذا واضح في أنه شك في الامتثال مع العلم بالتكليف
فتجري أصالة الاشتغال.
وهنا مورد الكلمة المعروفة القائلة: إن الشغل اليقيني يستدعي الفراغ
اليقيني.
النحو الرابع: ان يشك في وجود مسقط شرعي للتكليف، ذلك أن
التكليف، كما يسقط عقلا بالامتثال أو العصيان، كذلك قد يسقط بمسقط
شرعي من قبيل الأضحية المسقطة شرعا للامر بالعقيقة، وعليه فقد يشك في
وقوع المسقط الشرعي، اما على نحو الشبهة الحكمية بان يكون قد ضحى
ويشك في أن الشارع هل جعلها مسقطة. أو على نحو الشبهة الموضوعية بان
358

يكون عالما بان الشارع جعل الأضحية مسقطة، ولكنه يشك في أنه ضحى.
والمسقط الشرعي لا يكون مسقطا الا إذا اخذ عدمه قيدا في الطلب أو
الوجوب، وحينئذ فان فرض انه احتمل اخذ عدمه قيدا وشرطا في الوجوب
على نحو لا يحدث وجوب مع وجود المسقط، فالشك في المسقط بهذا المعنى
يكون شكا في أصل التكليف، ويدخل في النحو الأول المتقدم، وان فرض
ان مسقطيته كانت بمعنى اخذ عدمه قيدا في بقاء الوجوب، فهو مسقط بمعنى
كونه رفعا للوجوب لا انه مانع عن حدوثه، فالوجوب معلوم ويشك في
سقوطه، والمعروف في مثل ذلك أن الشك في السقوط هنا، كالشك في
السقوط الناشئ من احتمال الامتثال يكون مجرى لأصالة الاشتغال لا للبراءة،
ولكن الأصح انه في نفسه مجرى للبراءة، لان مرجعه إلى الشك في الوجوب
بقاء، ولكن استصحاب بقاء الوجوب مقدم على البراءة.
البراءة عن الاستحباب:
النقطة الثالثة: في أن البراءة هل تجري عند الشك في التكاليف الالزامية
فقط أو تشمل موارد الشك في الاستحباب والكراهية أيضا؟.
ولعل المشهور انها لا تجري في موارد الشك في حكم غير الزامي لقصور
أدلتها، اما ما كان مفاده السعة ونفي الضيق والتأمين من ناحية العقاب
فواضح، لان الحكم الاستحبابي المشكوك مثلا، لا ضيق ولا عقاب من
ناحيته جزما، فلا معنى للتأمين عنه بهذا اللسان.
واما ما كان بلسان (رفع ما يعلمون) فهو وإن لم يفترض كون المرفوع
مما فيه مظنة للعقاب، ولكن لا محصل لاجرائه في الاستحباب المشكوك، لأنه
ان أريد بذلك إثبات الترخيص في الترك فهو متيقن في نفسه، وان أريد عدم
رجحان الاحتياط فهو معلوم البطلان لوضوح ان الاحتياط راجح على أي
حال.
359

قاعدة منجزية العلم الاجمالي
كل ما تقدم كان في تحديد الوظيفة العملية في حالات الشك البدوي
المجرد عن العلم الاجمالي.
وقد نفترض الشك في إطار علم اجمالي، والعلم الاجمالي، كما عرفنا سابقا،
علم بالجامع مع شكوك بعدد أطراف العلم، وكل شك يمثل احتمالا من
احتمالات انطباق الجامع ومورد كل واحد من هذه الاحتمالات يسمى بطرف
من أطراف العلم الاجمالي والواقع المجمل المردد بينها هو المعلوم بالاجمال.
والكلام في تحديد الوظيفة العملية تجاه الشك المقرون بالعلم الاجمالي تارة
يقع بلحاظ حكم العقل وبقطع النظر عن الأصول الشرعية المؤمنة كأصالة
البراءة، وأخرى يقع بلحاظ تلك الأصول، فهنا مقامان:
منجزية العلم الاجمالي عقلا:
اما المقام الأول فلا شك في أن العلم بالجامع الذي يتضمنه العلم الاجمالي
حجة ومنجز.
ولكن السؤال انه ما هو المنجز بهذا العلم؟
فإذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة، وكان الواجب في الواقع الظهر، فلا
شك في أن الوجوب يتنجز بالعم الاجمالي، وانما البحث في أن الوجوب بأي
مقدار تنجز بالعلم، فهل يتنجز وجوب صلاة الظهر خاصة بوصفه المصداق
360

المحقق واقعا للجامع المعلوم؟ أو كلا الوجوبين المعلوم تحقق الجامع بينهما؟ أو
الوجوب بمقدار اضافته إلى الجامع بين الظهر والجمعة لا إلى الظهر بالخصوص
ولا إلى الجمعة كذلك؟ فعلى الأول يدخل في العهدة - بسبب العلم - صلاة
الظهر خاصة باعتبارها الواجب الواقعي الذي تنجز بالعلم الاجمالي، ولكن
حيث إن المكلف لا يميز الواجب الواقعي عن غيره لزمه الاتيان بالطرفين
ليضمن الاتيان بما تنجز واشتغلت به عهدته، ويسمى الاتيان بكلا الطرفين
موافقة قطعية للتكليف المعلوم بالاجمال.
وعلى الثاني يدخل في العهدة - بسبب العلم - كلتا الصلاتين معا فتكون
الموافقة القطعية واجبة عقلا بسبب العلم المذكور مباشرة.
وعلى الثالث يدخل في العهدة - بسبب العلم - الجامع بين الصلاتين، لان
الوجوب لم يتنجز بالعلم الا بقدر اضافته إلى الجامع، فلا يسعه ترك الجامع
بترك كلا الطرفين معا، ويسمى تركهما معا بالمخالفة القطعية للتكليف المعلوم
بالاجمال فيكفيه ان يأتي بأحدهما، لان ذلك يفي بالجامع ويسمى الاتيان
بأحد الطرفين دون الآخر موافقة احتمالية.
وقد يقال بالافتراض الأول باعتبار أن المصداق الواقعي هو المطابق
الخارجي للصورة العلمية، وحيث إن العلم ينجز بما هو مرآة لمخارج ولا
خارج بإزائه الا ذلك المصداق فيكون هو المنجز بالعلم.
وقد يقال بالافتراض الثاني باعتبار ان العلم بالجامع بنسبته بما هو إلى كل
من الطرفين على نحو واحد، ومجرد كون أحد الطرفين محققا دون الآخر لا
يجعل الجامع بما هو معلوم منطبقا عليه دون الآخر.
وقد يقال بالافتراض الثالث باعتبار ان العلم حيث إنه لا يسري من الجامع
إلى اي من الطرفين بخصوصه، فالتنجز المعلوم له يقف على الجامع أيضا ولا
361

يسري منه، وهذا هو الصحيح.
وعليه فان بني على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان فاللازم رفع اليد
عن هذه القاعدة بقدر ما تنجز بالعلم وهو الجامع، فكل من الطرفين لا يكون
منجزا بخصوصيته بل بجامعة، وينتج حينئذ ان العلم الاجمالي يستتبع عقلا
حرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية.
وان بني على مسلك حق الطاعة، فالجامع منجز بالعلم، وكل من
الخصوصيتين للطرفين منجزة بالاحتمال، وبذلك تحرم المخالفة القطعية،
وتجب الموافقة القطعية عقلا، غير أن حرمة المخالفة القطعية عقلا تمثل
منجزية العلم ووجوب الموافقة القطعية يمثل منجزية مجموع الاحتمالين.
وعلى هذا فالمسلكان مشتركان في التسليم بتنجز الجامع بالعلم، ويمتاز
المسلك الثاني بتنجز الطرفين بالاحتمال.
هذا كله في المقام الأول.
جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي:
واما المقام الثاني وهو الكلام عن جريان الأصول الشرعية المؤمنة في
أطراف العلم الاجمالي، فهو تارة بلحاظ عالم الامكان، وأخرى بلحاظ عالم
الوقوع.
اما بلحاظ عالم الامكان فقد ذهب المشهور إلى استحالة جريان البراءة
وأمثالها في كل أطراف العلم الاجمالي لامرين:
الأول: انها ترخيص في المخالفة القطعية، والمخالفة القطعية معصية محرفة
وقبيحة عقلا، فلا يعقل ورود الترخيص فيها من قبل الشارع.
وهذا الكلام ليس بشئ ء، لأنه يرتبط بتشخيص نوعية حكم العقل بحرمة
362

المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال، فإن كان حكما معلقا على عدم
ورود الترخيص الظاهري من المولى على الخلاف، فلا يكون الترخيص
المولوي مصادما له بل رافعا لموضوعه، فمرد الاستحالة إلى دعوى أن حكم
العقل ليس معلقا، بل هو منجز ومطلق، وهي دعوى غير مبرهنة ولا
واضحة.
الثاني: ان الترخيص في المخالفة القطعية ينافي الوجوب الواقعي المعلوم
بالاجمال، فبدلا عن الاستدلال بالمنافاة بين الترخيص المذكور وحكم العقل
كما في الوجه السابق، يستدل بالمنافاة بينه وبين الوجوب الواقعي المعلوم لما
تقدم من أن الأحكام التكليفية متنافية ومتضادة، فلا يمكن ان يوجب المولى
شيئا، ويرخص في تركه في وقت واحد.
وهذا الكلام إذا كان الترخيص المذكور واقعيا، اي لم يؤخذ في موضوعه
الشك، كما لو قيل بأنك مرخص في ترك الواجب الواقعي المعلوم إجمالا،
ولا يتم إذا كان الترخيص المذكور متمثلا في ترخيصين ظاهريين كل منهما
مجعول على طرف ومترتب على الشك في ذلك الطرف، وذلك لما تقدم من أن
التنافي انما هو بين الأحكام الواقعية لا بين الحكم الواقعي والظاهري،
فالوجوب الواقعي ينافيه الترخيص الواقعي في مورده، لا الترخيص
الظاهري، وعليه فلا محذور ثبوتا في جعل البراءة في كل من الطرفين بوصفها
حكما ظاهريا.
واما بلحاظ عالم الوقوع فقد يقال: ان إطلاق دليل البراءة شامل لكل
من طرفي العلم الاجمالي لأنه مشكوك، ومما لا يعلم، فلو كنا قد بنينا على
استحالة الترخيص في المخالفة القطعية فيما تقدم لكانت هذه الاستحالة قرينة
عقلية على رفع اليد عن اطلاق دليل البراءة بالنسبة إلى أحد الطرفين على الأقل
، لئلا يلزم الترخيص في المخالفة القطعية، وحيث لا معين للطرف
363

الخارج عن دليل الأصل، فاطلاق دليل الأصل لكل طرف يعارض اطلاقه
للطرف الآخر.
ويسقط الاطلاقان معا، فلا تجري البراءة الشرعية هنا، ولا هناك
للتعارض بين الأصلين، ويجري كل فقيه حينئذ وفقا للمبنى الذي اختاره في
المقام الأول لتشخيص حكم العقل بالمنجزية، فعلى مسلك حق الطاعة القائل
بمنجزية العلم والاحتمال معا تجب الموافقة القطعية، لان الاحتمال في كل من
الطرفين منجز عقلا ما لم يردن إذن في مخالفته، والمفروض عدم ثبوت الاذن،
وعلى مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان القائل بمنجزية العلم دون الاحتمال،
فيقتصر على مقدار ما تقتضيه منجزية العلم بالجامع على الافتراضات الثلاثة
المتقدمة فيها.
واما إذا لم نبن على استحالة الترخيص في المخالفة القطعية عن طريق اجراء
أصلين مؤمنين في الطرفين، فقد يقال حينئذ: انه لا يبقى مانع من التمسك
باطلاق دليل البراءة لاثبات جريانها في كل من الطرفين، ونتيجة ذلك جواز
المخالفة القطعية.
ولكن الصحيح مع هذا عدم جواز التمسك بالاطلاق المذكور وذلك.
أولا: لان الترخيص في المخالفة القطعية وإن لم يكن منافيا عقلا للتكليف
الواقعي المعلوم بالاجمال، إذا كان ترخيصا منتزعا عن حكمين ظاهريين في
الطرفين، ولكنه مناف له عقلائيا وعرفا، ويكفي ذلك في تعذر الاخذ
بإطلاق دليل البراءة.
وثانيا: ان الجامع قد تم عليه البيان بالعلم الاجمالي، فيدخل في مفهوم الغاية
لقوله تعالى * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (1).

(1) سورة الإسراء - 15.
364

ومقتضى مفهوم الغاية انه مع بعث الرسول وإقامة الحجة يستحق
العقاب، وهذا ينافي اطلاق دليل الأصل المقتضي للترخيص في المخالفة القطعية.
وبذلك نصل إلى نفس النتائج المشار إليها سابقا على تقدير استحالة
الترخيص في المخالفة القطعية، فلا تجري البراءة في كلا الطرفين، لان ذلك
ينافي التكليف المعلوم بالاجمال ولو عقلائيا، ولا تجري في أحدهما دون
الاخر، إذ لا مبرر لترجيح أحدهما على الآخر، مع أن نسبتهما إلى دليل
الأصل واحدة.
وقد اتضح من مجموع ما تقدم، ان النتيجة النهائية بناء على مسلك حق
الطاعة، حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية معا، وبناء على
مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان حرمة المخالفة القطعية وعدم وجوب
الموافقة القطعية.
وبما ذكرناه على المسلك المختار يعرف ان القاعدة العملية الثانوية، وهي
البراءة الشرعية تسقط في موارد العلم الاجمالي، وتوجد قاعدة عملية ثالثة
تطابق مفاد القاعدة العملية الأولى، ونسمي هذه القاعدة الثالثة بأصالة
الاشتغال في موارد العلم الاجمالي، أو بقاعدة منجزية العلم الاجمالي.
تحديد أركان هذه القاعدة:
نستطيع ان نستخلص مما تقدم ان قاعدة منجزية العلم الاجمالي لها عدة
أركان:
الأول: وجود العلم بالجامع، إذ لولا العلم بالجامع لكانت الشبهة في كل
طرف بدوية وتجري فيها البراءة الشرعية.
الثاني: وقوف العلم على الجامع، وعدم سرايته إلى الفرد، إذ لو كان الجامع
365

معلوما في ضمن فرد معين، لكان علما تفصيليا لا إجماليا، ولما كان منجزا
إلا بالنسبة إلى ذلك الفرد بالخصوص.
الثالث: أن يكون كل من الطرفين مشمولا في نفسه، وبقطع النظر عن
التعارض الناشئ من العلم الاجمالي لدليل أصالة البراءة إذ لو كان أحدهما
مثلا غير مشمول لدليل البراءة لسبب آخر، لجرت البراءة في الطرف الآخر
بدون محذور، لان البراءة في طرف واحد لا تعني الترخيص في المخالفة
القطعية، وانما لا تجري لأنها معارضة بالبراءة في الطرف الآخر، فإذا
افترضنا ان الطرف الاخر كان محروما من البراءة لسبب آخر فلا مانع من
جريان البراءة في الطرف المقابل له، ومع جريانها لا تجب الموافقة القطعية.
الرابع: أن يكون جريان البراءة في كل من الطرفين مؤديا إلى الترخيص
في المخالفة القطعية، وامكان وقوعها خارجا على وجه مأذون فيه، إذ لو
كانت المخالفة القطعية ممتنعة على المكلف حتى مع الاذن والترخيص لقصور
قي قدرته، فلا محذور في اجراء البراءة في كل من الطرفين، لان ذلك لن
يؤدي إلى تمكين المكلف من إيقاع المخالفة القطعية ليكون منافيا للتكليف
المعلوم بالاجمال عقلا أو عقلائيا.
وكل الحالات التي تسقط فيها قاعدة منجزية العلم الاجمالي، يرجع فيها
هذا السقوط إلى اختلال أحد هذه الأركان الأربعة.
فيختل الركن الأول مثلا فيما إذا انكشف للعالم بالاجمال خطأه، أو
تشكك في ذلك فيزول علمه بالجامع، وكذلك فيما إذا كان في أحد الطرفين
ما يوجب سقوط التكليف لو كان موردا له.
ومثاله ان يعلم اجمالا بان أحد الحليبين من الحليب المحرم، ولكنه مضطر
إلى الحليب البارد منهما اضطرارا يسقط الحرمة لو كان هو الحرام، ففي مثل
366

ذلك لا يوجد علم بجامع الحرمة، إذ لو كان الحليب المحرم هو الحليب
البارد، فلا حرمة فيه فعلا بسبب الاضطرار، ولا في الاخر، ولو كان هو
الحليب الآخر، فالحرمة ثابتة فعلا، وهذا يعني ان الحرمة لا يعلم ثبوتها فعلا
في أحد الحليبين ومن أجل ذلك يقال ان الاضطرار إلى طرف معين للعلم
الاجمالي يوجب سقوطه عن المنجزية.
ومن حالات اختلال الركن الأول ان يأتي المكلف بفعل مترسلا، ثم يعلم
اجمالا بان الشارع أوجب أحد الامرين، اما ذلك الفعل، واما فعل آخر.
فعلى الأول يكون التكليف قد سقط بالاتيان بالمكلف به، وعلى الثاني
يكون ثابتا، فالتكليف لا يعلم ثبوته فعلا.
ويختل الركن الثاني فيما إذا علم المكلف إجمالا بنجاسة أحد المائعين، ثم علم
تفصيلا بان أحدهما المعين نجس، ففي مثل ذلك لا يبقى العلم واقفا على
الجامع، بل يسري إلى الفرد، وهو معنى ما يقال من انحلال العلم الاجمالي
بالعلم التفصيلي والشك البدوي.
وكما ينحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي نتيجة لاختلال الركن الثاني،
كذلك قد ينحل بعلم اجمالي أصغر منه لاختلال هذا الركن أيضا.
وتوضيح ذلك: انا قد نعلم اجمالا بنجاسة مائعين في ضمن عشرة، فهذا
العلم الاجمالي له عشرة أطراف والمعلوم نجاسته فيه اثنان منها، وقد نعلم بعد
ذلك اجمالا بنجاسة مائعين في ضمن هذه الخمسة بالذات من تلك العشرة
فينحل العلم الاجمالي الأول بالعلم الاجمالي الثاني، ويكون الشك في الخمسة
الأخرى شكا بدويا، لان العلم بجامع اثنين في عشرة سرى إلى خصوصية
جديدة، وهي كون الاثنين في ضمن الخمسة، فلم يعد التردد في نطاق
العشرة، بل في نطاق الخمسة.
367

ويسمى العلم الاجمالي المنحل بالعلم الاجمالي الكبير والعلم الاجمالي المسبب
لانحلاله بالعلم الاجمالي الصغير، لان أطرافه أقل عددا. ويعبر عن ذلك
بقاعدة انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي الصغير.
ويتوقف انحلال علم اجمالي بعلم اجمالي ثان:
أولا: على أن تكون أطراف الثاني بعض أطراف العلم الأول المنحل، كما
رأينا في المثال.
وثانيا: على أن لا يزيد عدد المعلوم بالاجمال في العلم الأول المنحل على
المعلوم اجمالا بالعلم الثاني، فلو زاد لم ينحل، كما لو افترضنا في المثال ان العلم
الثاني تعلق بنجاسة مائع في ضمن الخمسة، فان العلم الاجمالي بنجاسة المائع
الثاني في ضمن العشرة يظل ثابتا.
ويختل الركن الثالث فيما إذا كان أحد الطرفين مجرى لاستصحاب منجز
للتكليف لا للبراءة، ومثاله ان يعلم اجمالا بنجاسة أحد الإناءين، غير أن
أحدها كان نجسا في السابق ويشك في بقاء نجاسته، ففي هذه الحالة يكون
الاناء المسبوق بالنجاسة مجرى في نفسه لاستصحاب النجاسة لا لأصالة البراءة
أو أصالة الطهارة، فتجري الأصول المؤمنة في الاناء الاخر بدون معارض،
وتبطل بذلك منجزية العلم الاجمالي، ويسمى ذلك بالانحلال الحكمي تمييزا له
عن الانحلال الحقيقي الذي تقدم في حالة اختلال الركن الثاني.
وانما يسمى بالانحلال الحكمي لان العلم الاجمالي موجود حقيقة، ولكنه لا
حكم له عمليا، لان الاناء المسبوق بالنجاسة حكمه منجز بالاستصحاب،
والاناء الآخر لا منجزية لحكمه لجريان الأصل المؤمن فيه، فكأن العلم
الاجمالي غير موجود، وهذا هو محصل ما يقال: من أن العلم الاجمالي إذا كان
أحد طرفيه مجرى لأصل مثبت للتكليف، وكان الطرف الآخر مجرى لأصل
368

مؤمن انحل العلم الاجمالي.
ومثال آخر لاختلال هذه الركن، وهو أن يكون أحد طرفي العلم الاجمالي
خارجا عن محل الابتلاء، ومعنى الخروج كذلك ان تكون المخالفة في هذا
الطرف مما لا تقع من المكلف عادة لان ظروفه لا تيسر له ذلك، وان كانت
لا تعجزه تعجيزا حقيقيا، فالمخالفة غير مقدورة عرفا وان كانت مقدورة
عقلا، كما لو علم بنجاسة وحرمة طعام مردد بين اللبن الموجود على مائدته،
ولبن موجود في بلد آخر لا يصل إليه عادة في حياته، وان كان الوصول
ممكنا من الناحية النظرية والعقلية، ففي هذه الحالة لا يكون هذا اللبن الخارج
عن محل الابتلاء مجرى للبراءة في نفسه، إذ لا محصل عرفا للتأمين من ناحية
تكليف لا يتعرض المكلف إلى مخالفته عادة، فتجري البراءة عن حرمة اللبن
الطاهر بدون معارض.
وهذا هو معنى ما يقال عادة من أن تنجيز العلم الاجمالي يشترط فيه
دخول كلا طرفيه في محل الابتلاء.
ويختل الركن الرابع في حالات:
منها: حالة دوران الامر بين المحذورين: وهي ما إذا علم اجمالا بان هذا
الفعل، اما واجب واما حرام، فان هذا العلم الاجمالي لا تمكن مخالفته
القطعية، كما لا تمكن موافقته القطعية، فإذا جرت البراءة عن الوجوب
وجرت البراءة عن الحرمة معا، لم يلزم محذور الترخيص في المخالفة القطعية،
لأنها غير معقولة على كل حال.
ومنها: حالة كون الأطراف غير محصورة وتسمى بالشبهة غير المحصورة،
وهي أن يكون للعلم الاجمالي أطراف كثيرة جدا، على نحو لا يتيسر للمكلف
369

ارتكاب المخالفة فيها جميعا لكثرتها، ففي مثل ذلك تجري البراءة في جميع
الأطراف، إذ لا يلزم من ذلك تمكين المكلف من المخالفة القطعية.
* * *
والآن بعد أن اتضحت القاعدة العملية الثانوية، وهي البراءة الشرعية،
والقاعدة العملية الثالثة، وهي منجزية العلم الاجمالي، نستعرض جملة من
الحالات التي وقع البحث في ادراجها ضمن القاعدة الأولى أو الثانية.
حالة تردد اجزاء الواجب بين الأقل والأكثر:
والحالة الرئيسية من حالات التردد هي ما إذا وجب مركب بوجوب
واحد، وكان كل جزء في المركب واجبا بوجوب ضمني، وتردد أمر هذا
المركب بين أن يكون مشتملا على تسعة اجزاء أو عشرة، فهل تدخل هذه
الحالة في حالات العلم الاجمالي أو حالات الشك البدوي؟
ويجب ان نعرف قبل كل شئ ان العلم الاجمالي لا يمكن ان يوجد إلا إذا
افترض جامع بين فردين متباينين وكان ذلك الجامع معلوما ومرددا في
انطباقه بين الفردين، واما إذا كان الجامع معلوما في ضمن أحد الفردين
ويحتمل وجوده في ضمن فرد آخر أيضا، فليس هذا من العلم الاجمالي، بل
هو علم تفصيلي بالفرد الأول مع الشك البدوي في الفرد الثاني. وهذا معناه ان
طرفي العلم الاجمالي يجب ان يكونا متباينين، ويستحيل ان يكونا متداخلين
تداخل الأقل والأكثر.
وعلى هذا الأساس يبدو ان الحالة المطروحة للبحث ليست من حالات
العلم الاجمالي، إذ ليس فيها علم بالجامع بين فردين متباينين، بل علم تفصيلي
بوجوب التسعة وشك بدوي في وجوب العاشر. وقول القائل: انا نعلم
بوجوب التسعة أو العشرة كلام صوري لان التسعة ليست مباينة للعشرة.
370

وقد حاول بعض المحققين ابراز أن الدوران في الحقيقة بين متباينين لا
بين متداخلين لكي يتشكل علم اجمالي، وتطبق القاعدة الثالثة، وحاصل
المحاولة ان الوجوب المعلوم في الحالة المذكورة، اما ما تعلق بالتسعة المطلقة،
أو بالتسعة المقيدة بالجزء العاشر، واطلاق التسعة وتقييدها حالتان متباينتان،
وبذلك يتشكل علم إجمالي بوجوب التسعة أو العشرة.
فان قيل إن العلم الاجمالي بوجوب التسعة أو العشرة منحل إلى العلم
التفصيلي بأحد طرفيه، والشك البدوي في الطرف الآخر، لان التسعة معلومة
الوجوب على اي حال، والجزء العاشر مشكوك الوجوب، وإذا انحل العلم
الاجمالي سقط عن المنجزية.
قلنا إن طرفي العلم الاجمالي هما: وجوب التسعة المطلقة ووجوب التسعة
المقيدة بالعاشر، وكل من هذين الطرفين ليس معلوما بالتفصيل، وانما المعلوم
وجوب التسعة على الاجمال، وهذا نفس العلم الاجمالي، فكيف ينحل به؟
فالصحيح ان يتجه البحث إلى أنه هل يوجد علم اجمالي أو لا بدلا عن
البحث في أنه هل ينحل بعد افتراض وجوده؟
والتحقيق هو عدم وجود علم اجمالي بالتكليف، وذلك لان وجوب التسعة
المطلقة لا يعني وجوب التسعة ووجوب الاطلاق، فان الاطلاق كيفية في
لحاظ المولى تنتج عدم وجوب العاشر وليس شيئا يوجبه على المكلف، واما
وجوب التسعة في ضمن العشرة، فمعناه وجوب التسعة ووجوب العاشر،
وهذا معناه اننا حينما نلحظ ما أوجبه المولى على المكلف، نجد انه ليس مرددا
بين متباينين، بل بين الأقل والأكثر، فلا يمكن تصوير العلم الاجمالي
بالوجوب، وإنما يمكن تصوير العلم الاجمالي بالنسبة إلى الخصوصيات اللحاظية
التي تحدد كيفية لحاظ المولى للطبيعة عند امره بها، لأنه إما أن يكون قد
371

لاحظها مطلقة أو مقيدة، غير أن هذا ليس علما اجماليا بالتكليف ليكون
منجزا.
وهكذا يتضح انه لا يوجد علم اجمالي منجز وان البراءة تجري عن الامر
العاشر المشكوك كونه جزءا للواجب، فيكفيه الاتيان بالأقل.
ولا فرق في جريان البراءة عن مشكوك الجزئية بين أن يكون الشك في
أصل الجزئية، كما إذا شك في جزئية السورة، أو في اطلاقها بعد العلم بأصل
الجزئية، كما إذا علمنا بان السورة جزء، ولكن شككنا في أن جزئيتها هل
تختص بالصحيح أو تشمل المريض أيضا، فإنه تجري البراءة حينئذ عن
وجوب السورة بالنسبة إلى المريض خاصة.
وهناك صورة من الشك في اطلاق الجزئية وقع البحث فيها وهي: ما إذا
ثبت ان السورة مثلا، جزء في حال التذكر وشك في اطلاق هذه الجزئية
للناسي، فهل تجري البراءة عن السورة بالنسبة إلى الناسي؟
لكي نثبت بذلك جواز الاكتفاء بما صدر منه في حالة النسيان من الصلاة
الناقصة التي لا سورة فيها، فقد يقال: ان هذه الصورة هي احدى حالات
دوران الواجب بين الأقل والأكثر، فتجري البراءة عن الزائد.
ولكن اعترض على ذلك، بان حالات الدوران المذكورة تفترض وجود
امر موجه إلى المكلف على اي حال، ويتردد متعلق. هذا الامر بين التسعة أو
العشرة مثلا، وفي الصورة المفروضة في المقام نحن نعلم بان غير الناسي مأمور
بالعشرة - مثلا - بما في ذلك السورة لأننا نعلم مجزئيتها في حال التذكر، واما
الناسي فلا يحتمل أن يكون مأمورا بالتسعة اي بالأقل، لان الامر بالتسعة لو
صدر من الشارع، لكان متوجها نحو الناسي، خاصة لان المتذكر مأمور
بالعشرة لا بالتسعة، ولا يعقل توجيه الامر إلى الناسي خاصة، لان الناسي لا
يلتفت إلى كونه ناسيا لينبعث عن ذلك الامر، وعليه فالصلاة الناقصة التي
372

أتى بها ليست مصداقا للواجب يقينا، وانما يحتمل كونها مسقطة للواجب عن
ذمته، فيكون من حالات الشك في المسقط، وتجري حينئذ أصالة الاشتغال،
وتأتي تتمة الكلام عن ذلك في حلقة مقبلة ان شاء الله تعالى.
حالة احتمال الشرطية:
عالجنا فيما سبق حالة احتمال الجزء الزائد، والآن نعالج حالة احتمال الشرط
الزائد، كما لو احتمل ان الصلاة مشروطة بالايقاع في المسجد على نحو يكون
إيقاعها في المسجد قيدا شرعيا في الواجب، وتحقيق الحال في ذلك أن مرجع
القيد الشرعي - كما تقدم - عبارة عن تحصيص المولى للواجب بحصة خاصة
على نحو يكون الامر متعلقا بذات الفعل وبالتقيد، فحالة الشك في شرطية
شئ مرجعها إلى العلم بوجوب ذات الفعل، والشك في وجوب التقيد.
وهذا أيضا دوران بين الأقل والأكثر بالنسبة إلى ما أوجبه المولى على
المكلف، وليس دورانا بين المتباينين فلا يتصور العلم الاجمالي المنجز، بل
تجري البراءة عن وجوب التقيد.
وقد يفصل بين أن يكون ما يحتمل شرطيته محتمل الشرطية في نفس
متعلق الامر ابتداءا، أو في متعلق المتعلق، اي الموضوع.
ففي خطاب أعتق رقبة المتعلق للامر هو العتق، والموضوع هو الرقبة،
فتارة يحتمل كون الدعاء عند العتق قيدا في الواجب، وأخرى يحتمل كون
الايمان قيدا في الرقبة.
ففي الحالة الأولى تجري البراءة لان قيدية الدعاء للمتعلق معناها تقيده
والامر بهذا التقييد، فيكون الشك في هذه القيدية راجعا إلى الشك في
وجوب التقييد، فتجري البراءة عنه.
وفي الحالة الثانية لا تجري البراءة، لان قيدية الايمان للرقبة لا تعني الامر
373

بهذا التقييد لوضوح ان جعل الرقبة مؤمنة ليس تحت الامر، وقد لا يكون
تحت الاختيار أصلا، فلا يعود الشك في هذه القيدية إلى الشك في وجوب
التقييد لتجري البراءة.
والجواب: ان تقييد الرقبة بالايمان وإن لم يكن تحت الامر على تقدير
اخذه قيدا، ولكن تقيد العتق بايمان الرقبة المعتوقة تحت الامر على هذا
التقدير، فالشك في قيدية الايمان شك في وجوب تقيد العتق بايمان الرقبة،
وهو تقيد داخل في اختيار المكلف، ويعقل تعلق الوجوب به، فإذا شك في
وجوبه جرت البراءة عنه.
حالات دوران الواجب بين التعيين والتخيير:
وقد يدور امر الواجب الواحد بين التعيين والتخيير، سواء كان التخيير
المحتمل عقليا أو شرعيا.
ومثال الأول: ما إذا علم بوجوب مردد بين أن يكون متعلقا باكرام زيد
كيفما اتفق، أو باهداء كتاب له.
ومثال الثاني: ما إذا علم بوجوب مردد بين أن يكون متعلقا باحدى
الخصال الثلاث العتق أو الاطعام أو الصيام، أو بالعتق خاصة.
وفي هذه الحالات نلاحظ ان العنوان الذي يتعلق به الوجوب مردد بين
عنوانين متباينين، وان كان بينهما من حيث الصدق الخارجي عموم وخصوص
مطلق، وحيث إن الوجوب يتعلق بالعناوين صح ان يدعى وجود علم إجمالي
بوقوع أحد العنوانين المتباينين في عالم المفهوم متعلقا للوجوب، ومجرد ان
أحدهما أوسع صدقا من الآخر، لا يوجب كونهما من الأقل والأكثر ما داما
متباينين في عالم العناوين والمفاهيم الذي هو عالم عروض الوجوب وتعلقه،
فالعلم الاجمالي بالوجوب إذن موجود، ولكن هذه العلم مع هذا غير منجز
374

للاحتياط، ورعاية الوجوب التعييني المحتمل، بل يكفي المكلف ان يأتي
بالجامع ولو في ضمن غير ما يحتمل تعينه، وذلك لاختلال الركن الثالث من
أركان تنجيز العلم الاجمالي المتقدمة، وهو أن يكون كل من الطرفين مشمولا
في نفسه للبراءة بقطع النظر عن التعارض الحاصل بين الأصلين من ناحية العلم
الاجمالي، فان هذا الركن لا يصدق في المقام، وذلك لان وجوب الجامع
الأوسع صدقا ليس مجرى للبراءة بقطع النظر عن التعارض بين الأصلين لأنه
ان أريد بالبراءة عنه التوصل إلى ترك الجامع رأسا، فهذا توصل بالأصل
المذكور إلى المخالفة القطعية التي تتحقق بترك الجامع رأسا، فإذا كان أصل
واحد يؤدي إلى هذا المحذور تعذر جريانه، وان أريد بالبراءة عنه التأمين من
ناحية الوجوب التخييري فقط، فهو لغو، لان المكلف في حالة ترك الجامع
رأسا يعلم انه غير مأمون من أجل صدور المخالفة القطعية منه، فأي اثر لنفي
استناد عدم الامن إلى جهة مخصوصة.
وبهذا يتبرهن ان أصل البراءة عن وجوب الجامع لا يجري بقطع النظر عن
التعارض، وفي هذه الحالة تجري البراءة عن الوجوب التعييني بلا معارض.
375

2 - الاستصحاب
تعريف الاستصحاب:
عرف الاستصحاب بأنه الحكم ببقاء ما كان، وهو قاعدة من قواعد
الاستنباط لدى كثير من المحققين، ووظيفة هذه القاعدة على الاجمال ان كل
حالة كانت متيقنة في زمان، ومشكوكة بقاء يمكن إثبات بقائها بهذه القاعدة
التي تسمى بالاستصحاب.
وقد اختلف القائلون بالاستصحاب، في أن الاعتماد عليه هل هو على نحو
الا مارية أو على نحو الأصل العملي؟ كما اختلفوا في طريقة الاستدلال عليه،
فقد استدل بعضهم عليه بحكم العقل وادراكه ولو ظنا بقاء الحالة السابقة،
وبعضهم بالسيرة العقلائية، وبعضهم بالروايات.
ومن هنا وقع الكلام في كيفية تعريف الاستصحاب بنحو يكون محورا
لكل هذه الاتجاهات وصالحا لدعوى الا مارية تارة، ودعوى الأصلية أخرى،
وللاستدلال عليه بالأدلة المتنوعة المذكورة.
ولذلك اعترض السيد الأستاذ على التعريف المتقدم بأنه انما يناسب
افتراض الاستصحاب أصلا، واما إذا افترض امارة فلا يصح تعريفه بذلك،
بل يجب تعريفه بالحيثية الكاشفة عن البقاء، وليست هي الا اليقين بالحدوث.
فينبغي ان يقال حينئذ: ان الاستصحاب هو اليقين بالحدوث، فلا يوجد
معنى جامع يلائم كل المسالك يسمى بالاستصحاب.
376

ويرد عليه أولا: ان حيثية الكاشفية عن البقاء ليست على فرض وجودها
قائمة باليقين بالحدوث، فضلا عن الشك في البقاء، بل بنفس الحدوث،
بدعوى غلبة ان ما يحدث يبقى، وليس اليقين الا طريقا إلى تلك الامارة،
كاليقين بوثاقة الراوي، فلو أريد تعريف الاستصحاب بنفس الامارة لتعين
ان يعرف بالحدوث مباشرة.
وثانيا: انه سواء بني على الا مارية، أو على الأصلية لا شك في وجود حكم
ظاهري مجعول في مورد الاستصحاب وانما الخلاف في أنه هل هو بنكتة
الكشف أو لا؟ فلا ضرورة - على الا مارية - في أن يعرف الاستصحاب
بنفس الامارة، بل تعريفه بذلك الحكم الظاهري المجعول يلائم كلا المسلكين
أيضا.
وثالثا: ان بالامكان تعريف الاستصحاب بأنه مرجعية الحالة السابقة بقاء،
ويراد بالحالة السابقة اليقين بالحدوث، وهذه المرجعية امر محفوظ على كل
المسالك والاتجاهات، لأنها عنوان ينتزع من الا مارية والأصلية معا، ويبقى
المجال مفتوحا لافتراض اي لسان يجعل به الاستصحاب شرعا من لسان
جعل الحالة السابقة منجزة، أو لسان جعلها كاشفة، أو جعل الحكم ببقاء
المتيقن، لان المرجعية تنتزع من كل هذه الألسنة، كما هو واضح.
التمييز بين الاستصحاب وغيره:
هناك قواعد مزعومة تشابه الاستصحاب، ولكنها تختلف عنه في حقيقتها.
منها: قاعدة اليقين، وهي تشترك مع الاستصحاب في افتراض اليقين
والشك، غير أن الشك في موارد القاعدة يتعلق بنفس ما تعلق به اليقين،
وبلحاظ نفس الفترة الزمنية، واما في موارد الاستصحاب، فالشك يتعلق
ببقاء المتيقن، لا بنفس المرحلة الزمنية التي تعلق بها اليقين، وإذا أردنا مزيدا
377

من التدقيق، أمكننا ان نلاحظ ان الاستصحاب لا يتقوم دائما بالشك في
البقاء، فقد يجري بدون ذلك.
كما إذا وقعت حادثة، وكان حدوثها مرددا بين الساعة الأولى والساعة
الثانية، ويشك في ارتفاعها، فإننا بالاستصحاب نثبت وجودها في الساعة
الثانية مع أن وجودها المشكوك في الساعد الثانية ليس بقاء على اي حال، بل
هو مردد بين الحدوث والبقاء، ومع هذا يثبت بالاستصحاب.
ولهذا كان الأولى ان يقال: إن الاستصحاب مبني على الفراغ عن ثبوت
الحالة المراد اثباتها، وقاعدة اليقين ليست كذلك.
ومن نتائج الفرق المذكور بين الاستصحاب وقاعدة اليقين، ان الشك في
موارد قاعدة اليقين ناقض تكوينا لليقين السابق، ولهذا يستحيل ان يجتمع معه
في زمان واحد، واما الشك في موارد الاستصحاب فهو ليس ناقضا حقيقة.
ومنها: قاعدة المقتضى والمانع، وهي قاعدة التي يبنى فيها عند احراز
المقتضى والشك في وجود المانع على انتفاء المانع وثبوت المقتضى - بالفتح -
وهذه القاعدة تشترك مع الاستصحاب في وجود اليقين والشك، ولكنهما فيها
متعلقان بأمرين متغايرين ذاتا، وهما المقتضى والمانع خلافا لوضعهما في
الاستصحاب حيث إن متعلقهما واحد ذاتا فيه.
وكما تختلف هذه القواعد في أركانها المقومة لها، كذلك في حيثيات
الكشف النوعي المزعومة فيها، فان حيثية الكشف في الاستصحاب تقوم على
أساس غلبة ان الحادث يبقى، وحيثية الكشف في قاعدة اليقين تقوم على
أساس غلبة ان اليقين لا يخطئ، وحيثية الكشف في قاعدة المقتضى والمانع،
تقوم على أساس غلبة ان المقتضيات نافذة ومؤثرة في معلولاتها.
والبحث في الاستصحاب يقع في عدة مقامات.
378

الأول: في أدلته.
والثاني: في أركانه التي يتقوم بها.
والثالث: في مقدار ما يثبت بالاستصحاب.
والرابع: في عموم جريانه.
والخامس: في بعض تطبيقاته.
وسنتكلم في هذه المقامات تباعا ان شاء الله تعالى.
379

1 - أدلة الاستصحاب
وقد استدل على الاستصحاب تارة بأنه مفيد للظن بالبقاء، وأخرى
بجريان السيرة العقلائية عليه، وثالثة بالروايات.
اما الأول: فهو ممنوع صغرى وكبرى، اما صغرويا فلان إفادة الحالة
السابقة بمجردها للظن بالبقاء، ممنوعة. وانما قد يفيد لخصوصية في الحالة
السابقة من حيث كونها مقتضية للبقاء والاستمرار.
وقد يستشهد لإفادة الحالة السابقة للظن بنحو كلي بجريان السيرة
العقلائية على العمل بالاستصحاب، والعقلاء لا يعملون الا بالطرق الظنية
والكاشفة.
ويرد على هذا الاستشهاد، ان السيرة العقلائية على افتراض وجودها،
فالأقرب في تفسيرها انها قائمة بنكتة الألفة والعادة، لا بنكتة الكشف، ولهذا
يقال بوجودها حتى في الحيوانات التي تتأثر بالألفة.
واما كبرويا فلعدم قيام دليل على حجية مثل هذا الظن.
واما الثاني: ففيه ان الجري والانسياق العملي على طبق الحالة السابقة،
وان كان غالبا في سلوك الناس، ولكنه بدافع من الألفة والعادة التي توجب
الغفلة عن احتمال الارتفاع أو الاطمئنان بالبقاء في كثير من الأحيان، وليس
بدافع من البناء على حجية الحالة السابقة في إثبات البقاء تعبدا.
380

واما الثالث: اي الاخبار فهو العمدة في مقام الاستدلال: فمن الروايات
المستدل بها صحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام، حيث سأله عن المرتبة
التي يتحقق بها النوم الناقض للوضوء، فأجابه. ثم سأله عن الحكم في حالة
الشك في وقوع النوم إذ قال له: فان حرك في جنبه شئ ولم يعلم به، فكأن
عدم التفاته إلى ما حرك في جنبه جعله يشك في أنه نام فعلا أو لا فاستفهم
عن حكمه، فقال له الإمام (ع)، لا حتى يستيقن انه قد نام حتى يجئ من
ذلك امر بين والا فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك،
ولكن ينقضه بقين آخر.
والكلام في هذه الرواية يقع في عدة جهات:
الجهة الأولى: في فقه الرواية بتحليل مفاد قوله، " والا فإنه على يقين من
وضوئه، ولا ينقض اليقين بالشك ". وذلك بالكلام في نقطتين:
النقطة الأولى: انه كيف اعتبر البناء على الشك نقضا لليقين مع أن اليقين
بالطهارة حدوثا لا يتزعزع بالشك في الحدث بقاء، فلو أن المكلف في الحالة
المفروضة في السؤال بني على أنه محدث لما كان ذلك منافيا بتعينه لان اليقين
بالحدوث لا ينافي الارتفاع، فكيف يسند نقض اليقين إلى الشك؟
والتحقيق ان الشك ينقض اليقين تكوينا إذا تعلق بنفس ما تعلق به
اليقين، واما إذا تغاير المتعلقان فلا تنافي بين اليقين والشك، فيكون الشك
ناقضا وهادما لليقين.
وعلى هذا الأساس نعرف ان الشك في قاعدة اليقين ناقض تكويني لليقين
المفترض فيها لوحدة متعلقيهما ذاتا وزمانا، وان الشك في مورد الاستصحاب
ليس ناقضا تكوينيا لليقين المفترض فيه لان أحدهما متعلق بالحدوث،
والآخر متعلق بالبقاء، ولهذا يجتمعان في وقت واحد.
381

ولكن مع هذا قد يسند النقض إلى هذا الشك، فيقال انه ناقض لليقين
باعمال عناية عرفية وهي ان تغلى ملاحظة الزمان فلا نقطع الشئ إلى حدوث
وبقاء، بل نلحظه بما هو امر واحد، ففي هذه الملاحظة يرى الشك واليقين
واردين على مصب واحد، ومتعلق فارد، فيصبح بهذا الاعتبار اسناد النقض
إلى الشك، فكأن الشك نقض اليقين، وبهذا الاعتبار يرى أيضا ان اليقين
والشك غير مجتمعين، كما هو الحال في كل منقوض مع ناقضه، وعلى هذا
الأساس جرى التعبير في الرواية فأسند النقض إلى الشك ونهي عن جعله
ناقضا.
النقطة الثانية: في تحديد عناصر الجملة المذكورة الواردة في كلام الإمام (ع)
فإنها جملة شرطية، والشرط فيها هو أن لا يستيقن انه قد نام، واما
الجزاء ففيه ثلاثة احتمالات:
الأول: أن يكون محذوفا ومقدرا وتقديره فلا يجب الوضوء، ويكون
قوله فإنه على يقين الخ، تعليلا للجزاء المحذوف، وقد يلاحظ على ذلك أنه
التزام بالتقدير، وهو خلاف الأصل في المحاورة، والتزام بالتكرار لان عدم
وجوب الوضوء يكون قد بين مرة قبل الجملة الشرطية، ومرة في جزائها
المقدر.
وتندفع الملاحظة الأولى، بان التقدير في مثل المقام ليس على خلاف
الأصل لوجود القرينة المتصلة على تعيينه وبيانه، حيث صرح بعدم وجوب
الوضوء قبل الجملة الشرطية مباشرة. وتندفع الملاحظة الثانية بان التكرار
الملفق من التصريح والتقدير ليس على خلاف الطبع، وليس هذا تكرارا
حقيقيا، كما هو واضح، فهذا الاحتمال لا غبار عليه من هذه الناحية.
الثاني: أن يكون الجزاء قوله فإنه على يقين من وضوئه، فيتخلص بذلك
من التقدير، ولكن يلاحظ حينئذ انه لا ربط بين الشرط والجزاء، لوضوح ان
382

اليقين بالوضوء غير مترتب على عدم اليقين بالنوم، بل هو ثابت على اي
حال، ومن هنا يتعين حينئذ لاجل تصوير الترتب بين الشرط والجزاء ان
يحمل قوله، فإنه على يقين من وضوئه، على أنه جملة انشائية يراد بها الحكم
بأنه متيقن تعبدا لا خبرية تتحدث عن اليقين الواقعي له بوقوع الوضوء منه
فان اليقين التعبدي بالوضوء يمكن أن يكون مترتبا على عدم اليقين بالنوم لأنه
حكم شرعي خلافا لليقين الواقعي بالوضوء فإنه ثابت على اي حال، ولكن
حمل الجملة المذكورة على الانشاء خلاف ظاهرها عرفا.
الثالث: أن يكون الجزاء قوله ولا ينقض اليقين بالشك، واما قوله فإنه
على يقين من وضوئه فهو تمهيد للجزاء أو تتميم للشرط.
وهذا الاحتمال أضعف من سابقه، لان الجزاء لا يناسب الواو والشرط،
وتتميماته لا تناسب الفاء.
وهكذا يتبين ان الاحتمال الأول هو الأقوى، ولكن يبقى أن ظاهر قوله
(فإنه على يقين من وضوئه) كونه على يقين فعلي بالوضوء، وهذا انما ينسجم
مع حمل اليقين على اليقين التعبدي الشرعي كما يفترضه الاحتمال الثاني، لان
اليقين إذا حملناه على اليقين التعبدي الشرعي، فهو يقين فعلي بالوضوء، ولا
ينسجم مع حمله على اليقين الواقعي، لان اليقين الواقعي بالوضوء ليس فعليا،
بل المناسب حينئذ ان يقال فإنه كان على يقين من وضوئه، فظهور الجملة
المذكورة في فعلية اليقين قد يتخذ قرينة على حملها على الانشائية.
فإن قيل: أو ليس المكلف عند الشك في النوم على يقين واقعي فعلا بأنه
كان متطهرا، فلماذا تفترضون ان فعلية اليقين لا تنسجم مع حمله على اليقين
الواقعي؟.
قلنا: إن اسناد النقض إلى الشك في جملة (ولا ينقض اليقين بالشك) انما
383

يصح إذا ألغيت خصوصية الزمان وجرد الشئ المتيقن والمشكوك عن وصف
الحدوث والبقاء كما تقدم توضيحه، وبهذا اللحاظ يكون الشك ناقضا لليقين
ولا يكون اليقين فعليا حينئذ.
ولكن الظاهر أن ظهور جملة (فإنه على يقين من وضوئه) في أنه جملة
خبرية لا انشائية أقوى من ظهور اليقين في الفعلية، وهكذا نعرف ان مفاد
الرواية انه إذا لم يستيقن بالنوم فلا يجب الوضوء، لأنه كان على يقين من
وضوئه، ثم شك ولا ينبغي ان ينقض اليقين بالشك.
الجهة الثانية: في أن الرواية هل هي ناظرة إلى الاستصحاب أو إلى قاعدة
المقتضى والمانع؟ فقد يقال ان الاستصحاب يتعلق فيه الشك في بقاء المتيقن
وقد فرض في الرواية اليقين بالوضوء والوضوء ليس له بقاء ليعقل الشك في
بقائه، وانما الشك في حدوث النوم وينطبق ذلك على قاعدة المقتضى والمانع،
لان الوضوء مقتضى للطهارة والنوم رافع ومانع عنها، فالمقتضى في مورد
الرواية معلوم والمانع مشكوك فيبني على أصالة عدم المانع وثبوت المقتضى
- بالفتح -.
ويرد على ذلك أن الوضوء قد فرض له في الشريعة بقاء واستمرار، ولهذا
عبر عن الحدث بأنه ناقض للوضوء، وقيل للمصلي انه على وضوء وليس ذلك
الا لافتراضه امرا مستمرا فيتعلق الشك ببقائه وينطبق على الاستصحاب.
ونظرا إلى ظهور قوله: ولا ينقض اليقين بالشك في وحدة متعلق اليقين
والشك يتعين تنزيل الرواية على الاستصحاب.
الجهة الثالثة: بعد افتراض تكفل الرواية للاستصحاب يقع الكلام في أنه
هل يستفاد منها جعل الاستصحاب على وجه كلي كقاعدة عامة، أو لا تدل
على أكثر من جريان الاستصحاب في باب الوضوء عند الشك في الحدث؟.
384

قد يقال بعدم الدلالة على الاستصحاب كقاعدة عامة لان اللام في قوله
(ولا ينقض اليقين بالشك)، كما يمكن أن يكون للجنس فتكون الجملة
المذكورة مطلقة، كذلك يحتمل أن يكون للعهد وللإشارة إلى اليقين المذكور
في الجملة السابقة (فإنه على يقين من وضوئه) وهو اليقين بالوضوء، فلا
يكون للجملة اطلاق لغير مورد الشك في انتقاض الوضوء، واجمال اللام
وتردده بين الجنس والعهد كاف في منع الاطلاق.
ويرد على ذلك أولا: ان قوله (فإنه على يقين من وضوئه) مسوق مساق
التعليل للجزاء المحذوف، كما تقدم، وظهور التعليل في كونه تعليلا بأمر
عرفي، وتحكيم مناسبات الحكم الموضوع المركوزة عليه، يقتضي حمل اليقين
والشك على طبيعي اليقين والشك، لان التعليل بكبرى الاستصحاب عرفي
ومطابق للمناسبات العرفية بخلاف التعليل باستصحاب مجعول في خصوص
باب الوضوء.
وثانيا: ان اللام في قوله (ولا ينقض اليقين بالشك) لو سلم انها للعهد
والإشارة إلى اليقين الوارد في جملة (فإنه على يقين من وضوئه) فلا يقتضي
ذلك اختصاص القول المذكور بباب الوضوء، لان قيد من وضوئه ليس قيدا
لليقين، حيث إن اليقين لا يتعدى عادة إلى متعلقه ب‍ (من)، وانما هو قيد
للظرف ومحصل العبارة انه من ناحية الوضوء على يقين، وهذا يعني ان كلمة
اليقين استعملت في معناها الكلي، فإذا أشير إليها لم يقتض ذلك الاختصاص
بباب الوضوء خلافا لما إذا كان القيد راجعا إلى نفس اليقين، وكان مفاد
الجملة المذكور انه على يقين بالوضوء فان الإشارة إلى هذا اليقين توجب
الاختصاص.
وعلى هذا فالاستدلال بالرواية تام، وهناك روايات عديدة أخرى يستدل
بها على الاستصحاب، ولا شك في دلالة جملة منها.
385

2 - أركان الاستصحاب
وبعد الفراغ عن ثبوت الاستصحاب شرعا يقع الكلام في تحديد أركانه
على ضوء دليله.
والمستفاد من دليل الاستصحاب المتقدم تقومه بأربعة أركان:
الأول: اليقين بالحدوث.
والثاني: الشك في البقاء.
والثالث: وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة.
والرابع: كون الحالة السابقة في مرحلة البقاء ذات أثر مصحح للتعبد
ببقائها.
ولنأخذ هذه الأركان تباعا.
اما الركن الأول فهو مأخوذ في لسان الدليل في قوله (ولا ينقض اليقين
بالشك)، وظاهر ذلك كون اليقين بالحالة السابقة دخيلا في موضوع
الاستصحاب، فمجرد حدوث الشئ لا يكفي لجريان استصحابه ما لم يكن
هذا الحدوث متيقنا، ومجرد الشك في وجود شئ لا يكفي لاستصحابه ما لم
يكن ثبوته في السابق معلوما.
وعلى هذا ترتب بحث، وهو ان الحالة السابقة قد تثبت بالامارة لا
باليقين، فإذا كان الاستصحاب حكما مترتبا على اليقين، فكيف يجري إذا
386

شك في بقاء شئ لم يكن حدوثه متيقنا بل ثابتا بالامارة؟.
وقد حاول المحقق النائيني (رحمه الله) أن يخرج ذلك على أساس قيام
الامارات مقام القطع الموضوعي، فاليقين هنا جزء الموضوع للاستصحاب فهو
قطع موضوعي وتقوم مقامه الامارة.
وهناك من أنكر ركنية اليقين بالحدوث واستظهر انه مأخوذ في لسان
الدليل بما هو معرف ومشير إلى الحدوث، فالاستصحاب مترتب على الحدوث
لا على اليقين به، والامارة تثبت الحدوث فتنقح بذلك موضوع
الاستصحاب.
واما الركن الثاني وهو الشك فمأخوذ أيضا في لسان الدليل، والمراد به
مطلق عدم العلم فيشمل حالة الظن أيضا بقرينة قوله (ولكن انقضه بيقين
آخر)، فإن ظاهره حصر ما يسمح بان ينقض به اليقين باليقين.
والشك تارة يكون موجودا وجودا فعليا، كما في الشاك الملتفت إلى
شكه، وأخرى يكون موجودا وجودا تقديريا، كما في الغافل الذي لو التفت
إلى الواقعة لشك فيها، ولكنه غير شاك فعلا لغفلته، ومن هنا وقع البحث في أن
الشك المأخوذ في موضوع دليل الاستصحاب هل يشمل القسمين معا أو
يختص بالقسم الأول، فإذا كان المكلف على يقين من الحدث ثم شك في بقائه
وقام وصلى ملتفتا إلى شكه، فلا ريب في أن استصحاب الحدث يجري في
حقه وهو يصلي، وبذلك تكون الصلاة من حين وقوعها محكومة بالبطلان،
وفي مثل هذه الحالة لا يمكن للمكلف إذا فرغ من صلاته هذه ان يتمسك
لصحتها بقاعدة الفراغ لأنها انما تجري في صلاة لم تثبت الحكم ببطلانها حين
إيقاعها. واما إذا كان المكلف على يقين من الحدث، ثم غفل وذهل عن حاله،
وقام وصلى ذاهلا، وبعد الصلاة التفت وشك في أنه هل كان لا يزال محدثا
حين صلى أو لا؟ فقد يقال: بان استصحاب الحدث لم يكن جاريا حين
387

الصلاة، لان الشك لم يكن فعليا، بل تقديريا، فالصلاة لم تقترن بقاعدة
شرعية تحكم ببطلانها، فبإمكان المكلف حينئذ ان يرجع عند التفاته بعد
الفراغ من الصلاة إلى قاعدة الفراغ فيحكم بصحة الصلاة.
فان قيل: هب ان الاستصحاب لم يكن جاريا حين الصلاة، ولكن لماذا لا
يجري الآن مع أن الشك فعلي وباستصحاب الحدث فعلا، يثبت ان صلاته
التي فرغ منها باطلة.
قلنا: إن هذا الاستصحاب ظرف جريانه هو نفس ظرف جريان قاعدة
الفراغ، وكلما اتحد ظرف جريان الاستصحاب والقاعدة تقدمت قاعدة الفراغ
خلافا لما إذا كان ظرف جريان الاستصحاب أثناء الصلاة، فإنه حينئذ لا
يدع مجالا لرجوع المكلف بعد الفراغ من صلاته إلى قاعدة الفراغ، لان
موضوعها صلاة لم يحكم ببطلانها في ظرف الاتيان بها.
ولكن الصحيح ان قاعدة الفراغ لا تجري بالنسبة إلى الصلاة المفروضة في
هذا المثال على اي حال حتى لو لم يجر استصحاب الحدث في أثنائها، وذلك
لان قاعدة الفراغ لا تجري عند احراز وقوع الفعل المشكوك الصحة مع
الغفلة، ففي المثال المذكور لا يمكن تصحيح الصلاة بحال.
اما الركن الثالث وهو وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة، فيستفاد من
ظهور الدليل في أن الشك الذي يمثل الركن الثاني يتعلق بعين ما تعلق به
اليقين الذي يمثل الركن الأول، إذ لو تغاير متعلق الشك مع متعلق اليقين،
فلن يكون العمل بالشك نقضا لليقين، وانما يكون نقضا له في حالة وحدة
المتعلق لهما معا، والمقصود بالوحدة، الوحدة الذاتية لا الزمانية، فلا ينافيها أن يكون
اليقين متعلقا بحدوث الشئ والشك ببقائه، فان النقض يصدق مع
الوحدة الذاتية، وتجريد كل من اليقين، والشك عن خصوصية الزمان كما
تقدم، وقد ترتب على هذا الركن عدة أمور:
388

نذكر منها ما قد لوحظ من أن هذا الركن يمكن تواجده في الشبهات
الموضوعية بان تشك في بقاء نفس ما كنت على يقين منه، ولكن من الصعب
الالتزام بوجوده في الشبهات الحكمية، وذلك لان الحكم المجعول تابع في
وجوده لوجود القيود المأخوذة في موضوعه عند جعله، فإذا كانت هذه
القيود كلها متوفرة ومحرزة فلا يمكن الشك في وجود الحكم المجعول، وما
دامت باقية ومعلومة فلا يمكن الشك في بقاء الحكم المجعول، وانما يتصور
الشك في بقائه بعد اليقين بحدوثه إذا أحرز المكلف في البداية ان القيود كلها
موجودة، ثم اختلت خصوصية من الخصوصيات في الأثناء، واحتمل المكلف
ان تكون هذه الخصوصية من تلك القيود فإنه سوف يشك حينئذ في بقاء
الحكم المجعول لاحتمال انتفاء قيده.
ومثال ذلك: أن يكون الماء متغيرا بالنجاسة فيعلم بنجاسته ثم يزول التغير
الفعلي فيشك في بقاء النجاسة لاحتمال، ان فعلية التغير قيد في النجاسة
المجعولة شرعا، وفي هذه الحالة لو لاحظ المكلف بدقة قضيته المتيقنة وقضيته
المشكوكة، لرآهما مختلفتين، لان القضية المتيقنة هي نجاسة الماء المتصف بالتغير
الفعلي، والقضية المشكوكة هي نجاسة الماء الذي زال عنه التغير الفعلي فكيف
يجري الاستصحاب؟
وقد ذكر المحققون ان الوحدة المعتبرة بين المتيقن والمشكوك ليست
وحدة حقيقية مبنية على الدقة والاستيعاب بل وحدة عرفية على نحو لو كان
المشكوك ثابتا في الواقع لاعتبر العرف هذا الثبوت بقاء لما سبق لا حدوثا
لشئ جديد، إذ كلما صدق على المشكوك انه بقاء عرفا للمتيقن انطبق على
العمل بالشك انه نقض لليقين بالشك فيشمله دليل الاستصحاب، ولا شك
في أن الماء المتغير إذا كان نجسا بعد زوال التغير فليست هذه النجاسة عرفا
الا امتدادا للنجاسة المعلومة حدوثا وان كانت النجاستان مختلفتين في بعض
389

الخصوصيات والظروف، فيجري استصحاب النجاسة.
نعم بعض القيود تعتبر عرفا مقومة للحكم ومنوعة له على نحو يرى
العرف ان الحكم المرتبط بها مغايرا للحكم الثابت بدونها، كما في وجوب
اكرام الضيف المرتبط بالضيافة فان الضيافة قيد منوع، فلو وجب عليك ان
تكرم ضيفك بعد خروجه من ضيافتك أيضا بوصفه فقيرا فلا يعتبر هذا
الوجوب استمرارا لوجوب اكرامه من أجل الضيافة، بل وجوبا آخر، لان
الضيافة خصوصية مقومة ومنوعة، فإذا كنت على يقين من وجوب اكرام
الضيف وشككت في وجوب اكرامه بعد خروجه من ضيافتك باعتبار فقره لم
يجر استصحاب الوجوب، لان الوجوب المشكوك هنا مغاير للوجوب المتيقن
وليس استمرارا له عرفا.
وهكذا نخرج بنتيجة وهي، ان القيود للحكم على قسمين عرفا: فقسم
منها يعتبر مقوما ومنوعا، وقسم ليس كذلك، وكلما نشأ الشك من القسم
الأول لم يجر الاستصحاب، وكلما نشأ من القسم الثاني جرى. وقد يسمى
القسم الأول بالحيثيات التقييدية، والقسم الثاني بالحيثيات التعليلية.
واما الركن الرابع فقد يبين باحدى صيغتين:
الأولى: ان الاستصحاب يتوقف جريانه على أن يكون المستصحب حكما
شرعيا أو موضوعا، يترتب عليه الحكم الشرعي لأنه إذا لم يكن كذلك يعتبر
أجنبيا عن الشارع، فلا معنى لصدور التعبد منه بذلك.
وهذه الصيغة تسبب عدة مشاكل:
منها: كيف يجري استصحاب عدم التكليف مع أن عدم التكليف ليس
حكما ولا موضوعا لحكم.
ومنها: انه كيف يجري استصحاب شرط الواجب وقيده، كالطهارة، كما
390

هو مورد الرواية، فان قيد الواجب ليس حكما ولا موضوعا يترتب عليه
الحكم، فان الحكم انما يترتب على قيد الوجوب لا على قيد الواجب، ومن
هنا وضعت الصيغة الأخرى كما يلي.
الثانية: ان الاستصحاب يتوقف جريانه على أن يكون لاثبات الحالة
السابقة في مرحلة البقاء اثر عملي، اي صلاحية للتنجيز التعذير، وهذا
حاصل في موارد استصحاب عدم التكليف، فان إثبات عدم التكليف بقاء
معذر، وكذلك في موارد استصحاب قيد الواجب، فان اثباته بقاء معذر في
مقام الامتثال.
وهذه الصيغة هي الصحيحة لان برهان هذا الركن لا يثبت أكثر مما
تقرره هذه الصيغة، كما سنرى، وبرهان توقف الاستصحاب على هذا الركن
امران:
أحدهما: ان اثبات الحالة السابقة في مرحلة البقاء تعبدا إذا لم يكن مؤثرا
في التنجيز والتعذير يعتبر لغوا.
والاخر: ان دليل الاستصحاب ينهى عن نقض اليقين بالشك ولا يراد
بذلك النهي عن النقض الحقيقي، لان اليقين ينتقض بالشك حقيقة، وانما
يراد النهي عن النقض العملي، ومرجع ذلك إلى الامر بالجري على طبق ما
يقتضيه اليقين من إقدام أو إحجام وتنجيز وتعذير، ومن الواضح ان
المستصحب إذا لم يكن له أثر عملي وصلاحية للتنجيز والتعذير، فلا يقتضي
اليقين به جريا عمليا محددا ليؤمر المكلف بابقاء هذا الجري وينهى عن النقض
العملي.
وهذا الركن يتواجد فيما إذا كان المستصحب حكما قابلا للتنجيز
والتعذير، أو عدم حكم قابل لذلك، أو موضوعا لحكم كذلك أو متعلقا
391

لحكم، والظرف الذي يعتبر فيه تواجد هذا الركن، هو ظرف البقاء لا ظرف
الحدوث، فإذا كان للحالة السابقة اثر عملي وصلاحية للتنجيز والتعذير في
مرحلة البقاء، جرى الاستصحاب فيها، ولو لم يكن لحدوثها اثر، فمثلا إذا لم
يكن لكفر الابن في حياة أبيه اثر عملي، ولكن كان لبقائه كافرا إلى حين
موت الأب اثر عملي، وهي نفي الإرث عنه، وشككنا في بقائه كافرا،
كذلك جرى استصحاب كفره.
392

3 - مقدار ما يثبت بالاستصحاب
دليل الاستصحاب كما عرفنا مفاده النهي عن النقض العملي لليقين عند
الشك.
وهذا النهي لا يراد به تحريم النقض العملي، بل يراد به بيان ان الشارع
حكم ببقاء المتيقن عند الشك في بقائه والنهي إرشاد إلى هذا الحكم فكأنه
قال: لا ينقض اليقين بالشك، لأني احكم بان المتيقن باق والحكم ببقاء المتيقن
هنا لا يعني بقاءه حقيقة والا لزال الشك مع أن الاستصحاب حكم الشك، بل
يعني بقاءه من الناحية العملية، اي تنزيله منزلة الباقي عمليا، ومرجع ذلك
إلى القول بآن الشئ الذي كنت على يقين منه فشككت في بقائه نزل منزلة
الباقي، فإذا كان المستصحب حكما فتنزيله منزلة الباقي معناه التعبد ببقائه،
وإذا كان موضوعا لحكم فتنزيله منزلة الباقي معناه التعبد بحكمه واثره، وإذا
كان للمستصحب حكم شرعي، وكان هذا الحكم بنفسه موضوعا لحكم
شرعي آخر فتنزيله منزلة الباقي معناه التعبد بحكمه والتعبد بحكمه هو بدوره
يعني التعبد بما لهذا الحكم من حكم أيضا وهكذا.
وقد لا يكون المستصحب حكما ولا موضوعا لحكم، ولكنه سبب تكويني
أو ملازم خارجي لشئ آخر، وذلك الشئ هو موضوع الحكم، كما لو
فرضنا ان حياة زيد التي كنا على يقين منها، ثم شككنا في بقائها سبب - على
تقدير بقائها إلى زمان الشك - لنبات لحيته، وكان نبات اللحية موضوعا
393

لحكم شرعي، ففي مثل ذلك هل يجري استصحاب حياة زيد لاثبات ذلك
الحكم الشرعي تعبدا أو لا؟
والمشهور بين المحققين عدم اقتضاء دليل الاستصحاب لذلك، وهذا هو
الصحيح لأنه ان أريد اثبات ذلك الحكم الشرعي باستصحاب حياة زيد
مباشرة بلا تعبد بنبات اللحية فهو غير ممكن، لان ذلك الحكم موضوعه
نبات اللحية لا حياة زيد فما لم يثبت بالتنزيل والتعبد نبات اللحية لا يترتب
الحكم، وان أريد إثبات نبات اللحية أولا باستصحاب الحياة، وبالتالي اثبات
ذلك الحكم الشرعي فهو خلاف ظاهر دليل الاستصحاب، لان مفاده كما
عرفنا تنزيل مشكوك البقاء منزلة الباقي، والتنزيل دائما ينصرف عرفا إلى
توسعة دائرة الآثار المجعولة من قبل المنزل لا غيرها، ونبات اللحية اثر
للحياة، ولكنه اثر تكويني وليس بجعل من الشارع بما هو شارع، فهو كما لو
قال الشارع: نزلت الفقاع منزلة الخمر فكما يترتب على ذلك توسعة دائرة
الحرمة لا توسعة الآثار التكوينية للخمر بالتنزيل، كذلك يترتب على
استصحاب الحياة توسعة الأحكام الشرعية للحياة عمليا لا توسعة آثارها
التكوينية التي منها نبات اللحية.
ومن هنا صح القول بان الاستصحاب يترتب عليه الأحكام الشرعية
للمستصحب دون الآثار العقلية التكوينية واحكامها الشرعية.
ويسمى الاستصحاب الذي يراد به إثبات حكم شرعي مترتب على أثر
تكويني للمستصحب بالأصل المثبت، ويقال عادة بعدم جريان الأصل
المثبت، ويراد به ان مثل استصحاب الحياة لا يثبت الحكم الشرعي لنبات
اللحية، ويسمى نبات اللحية بالواسطة العقلية.
394

4 عموم جريان الاستصحاب
بعد أن تمت دلالة النصوص على جريان الاستصحاب نتمسك باطلاقها
لاثبات جريانها في كل الحالات التي تتم فيها أركانه، وهذا معنى عموم
جريانه، ولكن هناك أقوال تتجه إلى التفصيل في جريانه بين بعض الموارد
وبعض بدعوى قصور اطلاق الدليل عن الشمول لجميع الموارد، ونقتصر على
ذكر أهمها وهو: ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري والمحقق النائيني (رحمهما
الله) من جريان الاستصحاب في موارد الشك في الرافع وعدم جريانه في
موارد الشك في المقتضى وتوضيح مدعاهما: ان المتيقن الذي يشك في بقائه
تارة يكون شيئا قابلا للبقاء والاستمرار بطبعه، وانما يرتفع برافع، والشك في
بقائه ينشأ من احتمال طرو الرافع، ففي مثل ذلك يجري استصحابه، ومثاله
الطهارة التي تستمر بطبعها متى حدثت ما لم ينقضها حدث.
وأخرى يكون المتيقن الذي يشك في بقائه محدود القابلية للبقاء في نفسه،
كالشمعة التي تنتهي لا محالة بمرور زمن حتى لو لم يهب عليها الريح، فإذا
شك في بقاء نورها لاحتمال انتهاء قابليته لم يجر الاستصحاب، ويسمى ذلك
بمورد الشك في المقتضى.
وبالنظرة الأولى يبدو ان هذا التفصيل على خلاف اطلاق دليل
الاستصحاب لشمول اطلاقه لموارد الشك في المقتضى، فلا بد للقائلين بعدم
الشمول من ابراز نكتة في الدليل تمنع عن اطلاقه، وهذه النكتة قد ادعي انها
395

كلمة النقض وتقريب استفادة الاختصاص منها بوجهين:
الوجه الأول: ان النقض حل لما هو محكم ومبرم، وقد جعل الاستصحاب
بلسان النهي عن النقض، فلا بد ان تكون الحالة السابقة التي ينهى عن نقضها
محكمة ومبرمة ومستمرة بطبيعتها لكي يصدق النقض على رفع اليد عنها، واما
إذا كانت مشكوكة القابلية للبقاء فهي على فرض انتهاء قابليتها لا يصح
اسناد النقض إليها لانحلالها بحسب طبعها، فأنت لا تقول عن الخيوط
المتفككة اني نقضتها إذا فصلت بعضها عن بعض، وانما تقول عن الحبل
المحكم ذلك إذا حللته، فيختص الدليل إذن بموارد احراز قابلية المستصحب
للبقاء والاستمرار.
ويرد على هذا الوجه ان النقض لم يسند إلى المتيقن والمستصحب لنفتش
عن وجهة احكام فيه حتى نجدها في افتراض قابليته للبقاء، بل أسند إلى نفس
اليقين في الرواية واليقين بنفسه حالة مستحكمة وفيها رسوخ مصحح لاسناد
النقض إليها بقطع النظر عن حالة المستصحب ومدى قابليته للبقاء.
الوجه الثاني: ان دليل الاستصحاب يفترض كون العمل بالشك نقضا
لليقين بالشك، وهذا لا يصدق حقيقة الا إذا كان الشك متعلقا بعين ما
تعلق به اليقين حقيقة أو عناية، ومثال الأول الشك في قاعدة اليقين مع
يقينها، ومثال الثاني الشك في بقاء الطهارة مع اليقين بحدوثها، فان الشك هنا
وان كان متعلقا بغير ما تعلق به اليقين حقيقة لأنه متعلق بالبقاء، واليقين
متعلق بالحدوث، ولكن حيث إن المتيقن له قابلية البقاء والاستمرار، فكأن
اليقين بالعناية قد تعلق به بما هو باق ومستمر فيكون الشك متعلقا بعين ما
تعلق به اليقين، وبهذا يصدق النقض على العمل بالشك، واما في موارد الشك
في المقتضى، فاليقين غير متعلق بالبقاء لا حقيقة ولا عناية، اما الأول
فواضح، واما الثاني فلان المتيقن لم تحرز قابليته للبقاء، وعليه فلا يكون
396

العمل بالشك نقضا لليقين ليشمله النهي المجعول في دليل الاستصحاب.
والجواب على ذلك بان صدق النقض وان كان يتوقف على وحدة متعلق
اليقين والشك، ولكن يكفي في هذه الوحدة تجريد اليقين والشك من
خصوصية الزمان الحدوثي والبقائي، واضافتهما إلى ذات واحدة كما تقدم
توضيحه فيما مضى، وهذه العناية التجريدية تطبق على موارد الشك في
المقتضى أيضا.
وعليه فالاستصحاب يجري في موارد الشك في المقتضى أيضا.
397

5 - تطبيقات
1 - استصحاب الحكم المعلق:
في موارد الشبهة الحكمية تار يشك في بقاء الجعل لاحتمال نسخة، فيجري
استصحاب بقاء الجعل، وأخرى يشك في بقاء المجعول بعد افتراض تحققه
وفعليته، كما إذا حرم العصير العنبي بالغليان، وشك في بقاء الحرمة بعد
ذهاب الثلثين بغير النار فيجري استصحاب المجعول، وثالثة يكون الشك في
حالة وسطى بين الجعل والمجعول، وتوضيح ذلك في المثال الآتي:
إذا جعل الشارع حرمة العنب إذا غلي ونفترض عنبا ولكنه بعد لم يغل،
فهنا المجعول ليس فعليا، بل فعليته فرع وتحقق الغليان، فلا علم لنا بفعلية
المجعول الآن، ولكنا نعلم بقضية شرطية وهي: ان هذا العنب لو غلي لحرم،
فإذا تيبس العنب بعد ذلك وأصبح زبيبا نشك في أن تلك القضية الشرطية
هل لا تزال باقية بمعنى ان هذا الزبيب إذا غلي يحرم كالعنب أو لا؟ فالشك
هنا ليس في بقاء الجعل ونسخه إذ لا نحتمل النسخ، وليس في بقاء المجعول
بعد العلم بفعليته إذ لم يوجد علم بفعلية المجعول بعد، وانما الشك في بقاء تلك
القضية الشرطية.
فقد يقال إنه يرجي استصحاب تلك القضية الشرطية، لأنها متيقنة حدوثا
ومشكوكة بقاء ويسمى باستصحاب الحكم المعلق أو بالاستصحاب التعليقي.
ولكن ذهب المحقق النائيني (رحمه الله) إلى عدم جريان الاستصحاب، إذ
398

ليس في الحكم الشرعي إلا الجعل والمجعول، والجعل لا شك في بقائه،
فالركن الثاني مختل والمجعول لا يقين بحدوثه، فالركن الأول مختل.
واما القضية الشرطية فليس لها وجود في عالم التشريع بما هي قضية شرطية
وراء الجعل والمجعول ليجري استصحابها.
2 - استصحاب التدريجيات:
الأشياء، اما قارة توجد وتبقى، واما تدريجية، كالحركة توجد وتنفى
باستمرار.
فبالنسبة إلى القسم الأول لا اشكال في جريان الاستصحاب.
واما بالنسبة إلى القسم الثاني، فقد يقال بعدم اجتماع الركن الأول والثاني
معا، لان الامر التدريجي سلسلة حدوثان، فإذا علم بان شخصا يمشي وشك
في بقاء مشيه لم يكن بالامكان استصحاب المشي الترتيب ما له من الأثر،
لان الحصة الأولى منه معلومة الحدوث، ولكنها لا شك في تصرمها، والحصة
الثانية مشكوكة ولا يقين بها فلم تتم أركان الاستصحاب في شئ. ومن هنا
يستشكل في اجراء الاستصحاب في الزمان كاستصحاب النهار ونحو ذلك لأنه
من الأمور التدريجية.
والجواب على هذا الاشكال: ان الامر التدريجي على الرغم من تدرجه في
الوجود وتصرمه قطعة بعد قطعة له وحدة ويعتبر شيئا واحدا مستمرا على
نحو يصدق على القطعة الثانية عنوان البقاء فتتم أركان الاستصحاب حينما
نلحظ الامر التدريجي بوصفه شيئا واحدا مستمرا فنجد انه متيقن بداية
ومشكوك نهاية فيجري استصحابه، وهذه الوحدة مناطها في الامر التدريجي
اتصال قطعاته بعضها ببعض اتصالا حقيقيا، كما في حركة الماء من أعلى إلى
أسفل أو اتصالا عرفيا، كما في حركة المشي عند الانسان، فان المشي يتخلله
399

السكون والوقوف ولكنه يعتبر عرفا متواصلا.
3 - استصحاب الكلي:
إذا وجد زيد في المسجد مثلا، فقد وجد الانسان فيه ضمنا، لان
الطبيعي موجود في ضمن فرده، فهناك وجود واحد يضاف إلى الفرد والى
الطبيعي الكلي، ومن حيث تعلق اليقين بالحدوث والشك في البقاء به تارة
يتواجد كلا هذين الركنين في الفرد والطبيعي معا وأخرى يتواجدان في
الطبيعي فقط، وثالثة لا يتواجدان لا في الفرد ولا في الطبيعي، فهناك ثلاث
حالات:
الحالة الأولى: ان يعلم بدخول زيد إلى المسجد ويشك في خروجه، فهنا
الوجود الحادث في المسجد بما هو وجود لزيد، وبما هو وجود لطبيعي
الانسان متيقن الحدوث ومشكوك البقاء، فإن كان الأثر الشرعي مترتبا على
وجود زيد بان قيل سبح ما دام زيد موجودا في المسجد جرى استصحاب
الفرد، وان كان الأثر مترتبا على وجود الكلي بان قيل سبح ما دام انسان في
المسجد جرى استصحاب الكلي، ويسمى هذا بالقسم الأول من استصحاب
الكلي.
الحالة الثانية: ان يعلم بدخول أحد شخصين إلى المسجد قبل ساعة، اما
زيد، واما خالد، غير أن زيدا فعلا نراه خارج المسجد، فإذا كان هو
الداخل فقد خرج، واما خالد فلعله إذا كان هو الداخل لا يزال باقيا، فهنا
إذا لوحظ كل من الفردين، فأركان الاستصحاب فيه غير متواجدة، لان
زيدا لا شك في عدم وجوده فعلا، وخالد لا يقين بوجوده سابقا
ليستصحب، ولكن إذا لوحظ طبيعي الانسان أمكن القول بان وجوده متيقن
حدوثا ومشكوك بقاء، فيجري استصحابه إذا كان له اثر، ويسمى هذا
400

بالقسم الثاني من استصحاب الكلي.
الحالة الثالثة: ان يعلم بدخول زيد وبخروجه أيضا، ولكن يشك في أن
خالدا قد دخل في نفس اللحظة التي خرج فيها زيد، أو قبل ذلك على نحو لم
يخل المسجد من انسان، فهنا لا مجال لاستصحاب الفرد كما تقدم في الحالة
السابقة، وقد يقال بجريان استصحاب الكلي، لان جامع الانسان متيقن
حدوثا مشكوك بقاء، ويسمى هذا بالقسم الثالث من استصحاب الكلي.
والصحيح عدم جريانه لاختلال الركن الثالث، فان وجود الجامع المعلوم
حدوثا مغاير لوجوده المشكوك والمحتمل بقاء، فلم يتحد متعلق اليقين ومتعلق
الشك، وبكلمة أخرى ان الجامع لو كان موجودا فعلا فهو موجود بوجود
آخر غير ما كان حدوثا خلافا للحالة الثانية، فان الجامع لو كان موجودا فيه
بقاء فهو موجود بعين الوجود الذي حدث ضمنه.
4 - الاستصحاب في حالات الشك في التقدم والتأخر:
تارة يشك في أن الواقعة الفلانية حدثت أو لا فيجري استصحاب
عدمها، أو يشك في أنها ارتفعت أو لا فيجري استصحاب بقائها، وأخرى
تعلم بأنها حدثت أو ارتفعت ولكنا لا نعلم بالضبط تاريخ حدوثها أو
ارتفاعها، مثلا نعلم ان زيدا الكافر قد أسلم، ولكن لا نعلم هل أسلم صباحا أو
بعد الظهر؟ فهذا يعني ان فترة ما قبل الظهر هي فترة الشك، فإذا كان لبقاء
زيد كافرا في هذه الفترة وعدم اسلامه فيها اثر مصحح للتعبد جرى
استصحاب بقائه كافرا وعدم اسلامه إلى الظهر وثبت بهذا الاستصحاب كل
أثر شرعي يترتب على بقائه كافرا وعدم اسلامه في هذه الفترة، ولكن إذا
كان هناك اثر شرعي مترتب على حدوث الاسلام بعد الظهر، فلا يترتب
هذا الأثر على الاستصحاب المذكور، لان الحدوث كذلك لازم تكويني
لعدم الاسلام قبل الظهر، فهو بمثابة نبات اللحية بالنسبة إلى حياة زيد.
401

ومن ناحية أخرى نلاحظ ان موضوع الحكم الشرعي قد يكون بكامله
مجرى للاستصحاب إثباتا أو نفيا، وقد يكون مركبا من جزءين أو أكثر،
ويكون أحد الجزءين ثابتا وجدانا، والاخر غير متيقن.
ففي هذه الحالة لا معنى لاجراء الاستصحاب بالنسبة إلى الجزء الثابت
وجدانا كما هو واضح، ولكن قد تتواجد أركانه وشروطه لاثبات الجزء
الاخر المشكوك فيثبت الحكم، أو لنفيه فينفي الحكم، ومثال ذلك أن يكون
ارث الحفيد من جده مترتبا على موضوع مركب من جزءين: أحدهما موت
الجد، والاخر عدم اسلام الأب إلى حين موت الجد، وإلا كان مقدما على
الحفيد، فإذا افترضنا ان الجد مات يوم الجمعة وان الابن كان كافرا في حياة
أبيه ولا ندري هل أسلم على عهده أو لا؟ فهنا الجزء الأول من موضوع ارث
الحفيد محرز وجدانا، والجزء الثاني وهو عدم اسلام الأب مشكوك فيجري
استصحاب الجزء الثاني، وبضم الاستصحاب إلى الوجدان نحرز موضوع الحكم
الشرعي لارث الحفيد، ولكن على شرط أن يكون الأثر الشرعي مترتبا على
ذات الجزءين واما إذا كان مترتبا على وصف الاقتران والاجتماع بينهما فلا
جدوى للاستصحاب المذكور لان الاقتران والاجتماع لازم عقلي، واثر
تكويني للمستصحب، وقد عرفنا ان الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب
بواسطة عقلية لا تثبت.
وقد يفترض ان الجزء الثاني معلوم الارتفاع فعلا بان كنا نعلم فعلا ان
الأب قد أسلم، ولكن نشك في تاريخ ذلك وانه هل أسلم قبل وفاة أبيه أو بعد
ذلك، وفي مثل ذلك يجري استصحاب كفر الأب إلى حين وفاة الجد ولا
يضر بذلك اننا نعلم بان الأب لم يعد كافرا فعلا، لان المهم تواجد الشك في
الظرف الذي يراد اجراء الاستصحاب بلحاظه، وهو فترة حياة الجد إلى حين
وفاته فيستصحب بقاء الجزء الثاني الموضوع، وهو كفر الأب إلى حين حدوث
402

الجزء الأول وهو موت (الجد) فيتم الموضوع.
وكما قد يجري الاستصحاب على هذا الوجه لاحراز الموضوع بضم
الاستصحاب إلى الوجدان، كذلك قد يجري لنفي أحد الجزءين، ففي نفس
المثال إذا كان الأب معلوم الاسلام في حياة أبيه وشك في كفره عند وفاته،
جرى استصحاب اسلامه وعدم كفره إلى حين موت الأب، ونفينا بذلك
ارث الحفيد من الجد سواء كنا نعلم بكفر الأب بعد وفاة أبيه أو لا.
وعلى هذا الأساس قد يفترض ان موضوع الحكم الشرعي مركب من
جزءين وأحد الجزءين معلوم الثبوت ابتداء ويعلم بارتفاعه، ولكن لا ندري
بالضبط متى ارتفع؟ والجزء الآخر معلوم العدم ابتداء ويعلم بحدوثه، ولكن لا
ندري بالضبط متى حدث؟ وهذا يعني ان هذا الجزء إذا كان قد حدث قبل أن
يرتفع ذلك الجزء فقد تحقق موضوع الحكم الشرعي لوجود الجزءين معا
في زمان واحد، واما إذا كان قد حدث بعد ارتفاع الجزء الاخر، فلا يجدي
في تكميل موضوع الحكم.
وفي هذه الحالة إذا نظرنا إلى الجزء المعلوم الثبوت ابتداء نجد ان المحتمل
بقاءه إلى حين حدوث الثاني، فنستصحب بقاءه إلى ذلك الحين، لان أركان
الاستصحاب متواجدة فيه، ويترتب على ذلك ثبوت الحكم، وإذا نظرنا إلى
الجزء الثاني المعلوم عدمه ابتداء نجد ان من المحتمل بقاء عدمه إلى حين ارتفاع
الجزء الأول، فنستصحب عدمه إلى ذلك الحين، لان أركان الاستصحاب
متواجدة فيه، ويترتب على ذلك نفي الحكم، والاستصحابان متعارضان لعدم
امكان جريانهما معا ولا مرجح لأحدهما على الاخر فيسقطان معا، وتسمى
هذه الحالة بحالة مجهولي التاريخ. وحالة مجهولي التاريخ لها ثلاث صور:
إحداها: أن يكون كل من زمان ارتفاع الجزء الأول وزمان حدوث الجزء
الثاني مجهولا.
403

ثانيها: أن يكون زمان ارتفاع الجزء الأول معلوما ولنفرضه الظهر، ولكن
زمان حدوث الجزء الثاني مجهولا ولا يعلم هل هو قبل الظهر أو بعده؟
ثالثها: أن يكون زمان حدوث الجزء الثاني معلوما ولنفرضه الظهر، ولكن
زمان ارتفاع الجزء الأول مجهول ولا يعلم هل هو قبل الظهر أو بعده.
وفي الصورة الأولى لا شك في جريان كل من الاستصحابين المشار إليهما
بمعنى استحقاقه للجريان ووقوع التعارض بينهما.
واما في الصورة الثانية فقد يقال بان استصحاب بقاء الجزء الأول يجري،
لان بقاءه ليس مشكوكا، بل هو معلوم قبل الظهر، ومعلوم العدم عند
الظهر، فكيف نستصحبه؟ وانما يجري استصحاب عدم حدوث الجزء الثاني
فقط.
وينعكس الامر في الصورة الثالثة فيجري استصحاب بقاء الجزء الأول
دون عدم حدوث الجزء الثاني لنفس السبب، وهذا ما يعبر عنه بان
الاستصحاب يجري في مجهول التاريخ دون معلومه.
وقد اعترض على ذلك بان معلوم التاريخ انما يكون معلوما حين ننسبه إلى
ساعات اليوم الاعتيادية، واما حين ننسبه إلى الجزء الاخر المجهول التاريخ،
فلا ندري هل هو موجود حينه أو لا؟ فيمكن جريان استصحابه إلى حين
وجود الجزء الاخر، وهذا ما يعبر عنه بان الاستصحاب في كل من مجهول
التاريخ ومعلوم التاريخ يجري في نفسه ويسقط الاستصحابان بالمعارضة، لان
ما هو معلوم التاريخ انما يعلم تاريخه في نفسه لا بتاريخه النسبي، أي مضافا إلى
الاخر، فهما معا مجهولان بلحاظ التاريخ النسبي.
وقد تفترض حالتان متضادتان كل منهما بمفردها موضوع لحكم شرعي،
كالطهارة من الحدث والحدث أو الطهارة من الخبث والخبث، فإذا علم المكلف
404

باحدى الحالتين وشك في طرو الأخرى استصحب الأولى، وإذا علم بطرو
كلتا الحالتين ولم يعلم المتقدمة والمتأخرة منهما تعارض استصحاب الطهارة، مع
استصحاب الحدث أو الخبث لان كلا من الحالتين متيقنة سابقا ومشكوكة
بقاءا، ويسمى. أمثال ذلك بتوارد الحالتين.
5 - الاستصحاب في حالات الشك السببي والمسببي:
تقدم ان الاستصحاب إذا جرى وكان المستصحب موضوعا لحكم شرعي
ترتب ذلك الحكم الشرعي تعبدا على الاستصحاب المذكور، ومثاله ان يشك
في بقاء طهارة الماء فنستصحب بقاء طهارته، وهذه الطهارة موضوع للحكم
بجواز شربه فيترتب جواز الشرب على الاستصحاب المذكور، ويسمى بالنسبة
إلى جواز الشرب بالاستصحاب الموضوعي، لأنه ينقح موضوع هذا الأثر
الشرعي. واما إذا لاحظنا جواز الشرب نفسه في المثال فهو أيضا متيقن
الحدوث ومشكوك البقاء لان الماء حينما كان طاهرا يقينا كان جائز الشرب
يقينا أيضا، وحينما أصبح مشكوك الطهارة فهو مشكوك في جواز شربه
أيضا، ولكن استصحاب جواز الشرب وحده لا يكفي لاثبات طهارة الماء،
لان الطهارة ليست اثرا شرعيا لجواز الشرب بل العكس هو الصحيح،
وتنزيل مشكوك البقاء منزلة الباقي ناظر إلى الآثار الشرعية كما تقدم. فمن
هنا يعرف ان استصحاب الموضوع يحرز به الحكم تعبدا وعمليا، واما
استصحاب الحكم فلا يحرز به الموضوع كذلك، وكل استصحابين من هذا
القبيل يطلق على الموضوعي منهما اسم الأصل السببي لأنه يعالج المشكلة في
مرحلة الموضوع الذي هو بمثابة السبب الشرعي للحكم، ويطلق على الاخر
منهما اسم الأصل المسببي لأنه يعالج المشكلة في مرحلة الحكم الذي هو بمثابة
المسبب شرعا للموضوع.
وفي الحالة التي شرحنا فيها فكرة الأصل السببي والمسببي لا يوجد تعارض
405

بين الأصليين في النتيجة لان طهارة الماء وجواز الشرب متلائمان، ولكن
هناك حالات لا يمكن أن تجتمع فيها نتيجة الأصل السببي ونتيجة الأصل
المسببي معا فيتعارض الأصلان، ونجد مثال ذلك في نفس الماء المذكور سابقا
إذا استصحبنا طهارته وغسلنا به ثوبا نجسا فإن من احكام طهارة
الماء أن يطهر الثوب بغسله به، وهذا معناه ان استصحاب طهارة الماء
يحرز تعبدا وعمليا أن الثوب قد طهر لأنه اثر شرعي للمستصحب،
ولكن إذا لاحظنا الثوب نفسه نجد أنا على يقين من نجاسته وعدم طهارته
سابقا، ونشك الآن في أنه طهر أو لا، لأننا لا نعلم ما إذا كان قد
غسل بماء طاهر حقا، وبذلك تتواجد الأركان لجريان استصحاب
النجاسة وعدم الطهارة في الثوب، ونلاحظ بناء على هذا أن الأصل السببي
الذي يعالج المشكلة في مرحلة الموضوع والسبب، ويجري في حكم الماء نفسه
يتعبدنا بطهارة الثوب، وان الأصل المسببي الذي يعالج المشكلة في مرحلة
الحكم والمسبب ويجري في حكم الثوب نفسه يتعبدنا بعدم طهارة الثوب،
وهذا معنى التنافي بين نتيجتي الأصلين وتعارضهما وتوجد هنا قاعدة تقتضي
تقديم الأصل السببي على الأصل المسببي، وهي انه كلما كان أحد الأصلين
يعالج مورد الأصل الثاني دون العكس قدم الأصل الأول على الثاني.
وهذه القاعدة تنطبق على المقام، لان الأصل السببي يحرز لنا تعبدا طهارة
الثوب لأنها أثر شرعي لطهارة الماء، ولكن الأصل المسببي لا يحرز لنا نجاسة
الماء، ولا ينفي طهارته لان ثبوت الموضوع ليس أثرا شرعيا لحكمه، وعلى
هذا الأساس يقدم الأصل السببي على الأصل المسببي.
وقد عبر الشيخ الأنصاري والمشهور عن ذلك بأن الاستصحاب السببي
حاكم على الاستصحاب المسببي، لان الركن الثاني في المسببي هو الشك في
نجاسة الثوب وطهارته، والركن الثاني في السببي هو الشك في طهارة الماء
406

ونجاسته، والأصل السببي باحرازه الأثر الشرعي وهو طهارة الثوب، يهدم
الركن الثاني للأصل المسببي، ولكن الأصل المسببي باعتبار عجزه عن إحراز
نجاسة الماء كما تقدم لا يهدم الركن الثاني للأصل السببي، فالأصل السببي تام
الأركان فيجري والأصل المسببي قد انهدم ركنه الثاني فلا يجري.
وقد عممت فكرة الحكومة للأصل السببي على الأصل المسببي لحالات
التوافق بين الأصلين أيضا فاعتبر الأصل المسببي طوليا دائما ومترتبا على عدم
جريان الأصل السببي سواء كان موافقا له أو مخالفا لان الأصل السببي إذا
جرى ألغى موضوع المسببي على أي حال.
407

الحلقة الثانية
3.
تعارض الأدلة
409

تعارض الأدلة
1 - التعارض بين الأدلة المحرزة.
2 - التعارض بين الأصول العملية.
3 - التعارض بين الأدلة المحرزة والأصول العملية.
411

عرفنا فيما سبق ان الأدلة على قسمين وهما:
الأدلة المحرزة والأدلة العملية أو الأصول العملية، ومن هنا يقع البحث
تارة في التعارض بين دليلين من الأدلة المحرزة، وأخرى في التعارض بين
دليلين عمليين، وثالثة في التعارض بين دليل محرز ودليل عملي.
فالكلام في ثلاثة فصول نذكرها فيما يلي تباعا ان شاء الله تعالى.
413

1 - التعارض بين الأدلة المحرزة
الدليل المحرز، كما تقدم، أما دليل شرعي لفظي أو دليل شرعي غير
لفظي أو دليل عقلي، والدليل العقلي لا يكون حجة إلا إذا كان قطعيا، وأما
الدليل الشرعي بقسميه فقد يكون قطعيا وقد لا يكون قطعيا مع كونه
حجة.
فإذا تعارض الدليل العقلي مع دليل ما فإن كان الدليل العقلي قطعيا قدم
على معارضه على أي حال، لأنه يقتضي القطع بخطأ المعارض وكل دليل يقطع
بخطأه يسقط عن الحجية، وان كان الدليل العقلي غير قطعي، فهو ليس حجة
في نفسه لكي يعارض ما هو حجة من الأدلة الأخرى.
وإذا تعارض دليلان شرعيان فتارة يكونان لفظيين معا، وأخرى يكون
أحدهما لفظيا دون الآخر، وثالثة يكونان معا من الأدلة الشرعية غير
اللفظية، والمهم في المقام الحالة الأولى لأنها الحالة التي يدخل ضمنها جل
موارد التعارض التي يواجهها الفقيه في الفقه وسنقصر حديثنا عليها فنقول أن
التعارض بين دليلين شرعيين لفظيين عبارة عن التنافي بين مدلولي الدليلين على
نحو يعلم بان المدلولين لا يمكن أن يكونا ثابتين في الواقع معا ولأجل تحديد
مركز هذا التنافي نقدم مقدمتين:
الأولى: يجب أن نستذكر فيها ما تقدم من أن الحكم ينحل إلى جعل
ومجعول، وان الجعل ثابت بتشريع المولى للحكم وأن المجعول لا يثبت الا عند
414

تحقق موضوعه وقيوده خارجا، ومن الواضح ان الدليل الشرعي اللفظي متكفل
لبيان الجعل لا لبيان المجعول، لان المجعول يختلف من فرد إلى آخر فهو
موجود في حق هذا وغير موجود في حق ذاك لتواجد القيود، فقوله مثلا:
" لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " (1)، مدلوله جعل
وجوب الحج على المستطيع لا تحقق الوجوب المجعول، لان هذا تابع لوجود
الاستطاعة، ولا نظر للمولى إلى ذلك، فمدلول الدليل دائما هو الجعل لا
المجعول.
والثانية: أن التنافي قد يكون بين جعلين وقد يكون بين مجعولين مع عدم
التنافي بين الجعلين، ومثال الأول جعل وجوب الحج على المستطيع وجعل
حرمة الحج على المستطيع. فان التنافي هنا بين الجعلين، لان الأحكام التكليفية
متضادة كما تقدم، ومثال الثاني جعل وجوب الوضوء على الواجد للماء وجعل
وجوب التيمم على الفاقد له، فان الجعلين هنا لا تنافي بينهما إذ يمكن
صدورهما معا من الشارع، ولكن المجعولين لا يمكن فعليتهما معا لان المكلف
ان كان واجدا للماء ثبت المجعول الأول عليه والا ثبت المجعول الثاني ولا
يمكن ثبوت المجعولين معا على مكلف واحد في حالة واحدة.
وقد لا يوجد تناف بين الجعلين ولا بين المجعولين، ولكن التنافي في
مرحلة امتثال الحكمين المجعولين بمعنى أنه لا يمكن امتثالهما معا، وذلك كما
في حالات الامرين بالضدين على وجه الترتب بنحو يكون الامر بكل من
الضدين مثلا مقيد بترك الضد الاخر، فان بالامكان صدور جعلين لهذين
الامرين معا، كما أن بالامكان ان يصبح مجعولاهما فعليين معا وذلك فيما إذا
ترك المكلف كلا الضدين فيكون كل من المجعولين ثابتا لتحقق قيده، ولكن
التنافي واقع بين امتثاليهما إذ لا يمكن للمكلف ان يمتثلهما معا، ويتلخص من

(1) سورة آل عمران الآية 97. حاشية رقم (22)
415

ذلك أن التنافي وعدم امكان الاجتماع تارة بين نفس الجعلين، وأخرى بين
المجعولين، وثالثة بين الامتثالين.
وإذا اتضحت هاتان المقدمتان فنقول: إذا ورد دليلان على حكمين
وحصل التنافي، فإن كان التنافي بين الجعلين لهذين الحكمين فهو تناف بين
مدلولي الدليلين لما عرفت في المقدمة الأولى من أن مدلول الدليل هو الجعل
ويتحقق التعارض بين الدليلين حينئذ لان كلا منهما ينفي مدلول الدليل
الآخر، وإن لم يكن هناك تناف بين الجعلين، بل كان بين المجعولين أو بين
الامتثالين، فلا يرتبط هذا التنافي بمدلول الدليل لما عرفت من أن فعلية
المجعول - فضلا عن مقام امتثاله - ليست مدلولة للدليل، فلا يحصل
التعارض بين الدليلين لعدم التنافي بين مدلوليهما، وتسمى حالات التنافي بين
المجعولين مع عدم التنافي بين الجعلين بالورود ويعبر عن الدليل الذي يكون
المجعول فيه نافيا لموضوع المجعول في الدليل الآخر بالدليل الوارد ويعبر عن
الدليل الآخر بالمورود.
وينبغي ان يعلم ان مصطلح الورود لا يختص بما إذا كان أحد الدليلين
نافيا لموضوع الحكم في الآخر، بل ينطبق على ما إذا كان موجدا لفرد من
موضوع الحكم في الدليل الآخر.
ومثاله: دليل حجية الامارة بالنسبة إلى دليل جواز الافتاء بحجة فان
الأول يحقق فردا من موضوع الدليل الثاني.
وتسمى حالات التنافي بين الامتثالين مع عدم التنافي بين الجعلين
والمجعولين بالتزاحم، ومن هنا نعرف ان حالات الورود وحالات التزاحم
خارجة عن نطاق التعارض بين الأدلة، ولا ينطبق عليها احكام هذا
التعارض، بل حالات الورود يتقدم فيها الوارد على المورود دائما، وحالات
416

التزاحم يتقدم فيها الأهم على الأقل أهمية كما تقدم في مباحث الدليل
العقلي.
ويتلخص من ذلك كله ان التعارض بين الدليلين هو التنافي بين مدلولي
هذين الدليلين الحاصل من أجل التضاد بين الجعلين المفادين بهما.
وهذا التنافي على قسمين لأنه تارة يكون ذاتيا، كما في (صل) و (لا
تصل) وأخرى يكون عرضيا حصل بسبب العلم الاجمالي من الخارج بان
المدلولين غير ثابتين معا، كما في (صل الجمعة) و (صل الظهر) حيث اننا
نعلم بعدم وجوب الصلاتين معا، فإنه لولا هذا العلم لأمكن ثبوت المفادين
معا، واما مع هذا العلم، فلا يمكن ثبوتهما معا، بل يكون كل من الدليلين
مكذبا للآخر، ونافيا له بالدلالة الالتزامية، ولا فرق بين هذين القسمين في
الاحكام التالية:
الحكم الأول قاعدة الجمع العرفي:
والحكم الأول من احكام تعارض الأدلة اللفظية ما تقرره قاعدة الجمع
العرفي وحاصلها ان التعارض إذا لم يكن مستقرا في نظر العرف، بل كان
أحد الدليلين قرينة على تفسير مقصود الشارع من الدليل الآخر وجب الجمع
بينهما بتأويل الدليل الآخر وفقا للقرينة.
ونقصد بالقرينة الكلام المعد من قبل المتكلم لاجل تفسير الكلام الآخر.
والوجه في هذه القاعدة واضح، فان المتكلم إذا صدر منه كلامان وكان
الظاهر من أحدهما ينافي الظاهر من الآخر، ولكن أحد الكلامين كان قد
أعد من قبل المتكلم لتفسير مقصوده من الكلام المقابل له، فلا بد ان يقدم
ظاهر ما أعده المتكلم على الآخر، لأننا يجب ان نفهم مقصود المتكلم
من مجموع كلاميه وفقا للطريقة التي يقررها.
417

واعداد المتكلم أحد الكلامين لتفسير مقصوده من الكلام الاخر على
نحوين:
النحو الأول: الاعداد الشخصي، اي الاعداد من قبل شخص المتكلم.
وهذا الاعداد قد يفهم بعبارة صريحة، كما إذا قال في أحد كلاميه اقصد
بكلامي السابق كذا، وقد يفهم بظهور الكلام في كونه ناظرا إلى مفاد الكلام
الآخر، وإن لم تكن العبارة صريحة في ذلك.
والنظر تارة يكون بلسان التصرف في موضوع القضية التي تكفلها الكلام
الآخر، وأخرى بلسان التصرف في محمولها.
ومثال الأول: أن يقول: (الربا حرام)، ثم يقول: (لا ربا بين الوالد
وولده) فان الكلام الثاني ناظر إلى مدلول الكلام الأول بلسان التصرف في
موضوع الحرمة إذ ينفي انطباقه على الربا بين الوالد وولده وليس المقصود
نفيه حقيقة، وانما هو مجرد لسان وادعاء للتنبيه على أن الكلام الثاني ناظر إلى
مفاد الكلام الأول ليكون قرينة على تحديد مدلوله.
ومثال الثاني أن يقول: (لا ضرر في الاسلام)، اي لا حكم يؤدي إلى
الضرر، فان هذا ناظر اجمالا إلى الأحكام الثابتة في الشريعة وينفي وجودها
في حالة الضرر فيكون قرينة على أن المراد بأدلة سائر الاحكام تشريعها في
غير حالة الضرر.
وكل دليل ثبت اعداده الشخصي للقرينية على مفاد الآخر بسوقه مساق
التفسير صريحا أو بظهوره في النظر إلى الموضوع أو المحمول يسمى بالدليل
الحاكم، ويسمى الآخر بالدليل المحكوم ويقدم الدليل الحاكم على الدليل
المحكوم بالقرينية ونتيجة تقديم الحاكم في الأمثلة المذكورة تضيق دائرة الدليل
الحاكم واخراج بعض الحالات عن اطلاقه.
418

ولا يختص الحاكم بالتضييق، بل قد يكون موسعا، كما في حالات التنزيل
نظير قولهم: " الطواف بالبيت صلاة "، فإنه حاكم على أدلة احكام الصلاة من
قبيل: " لا صلاة الا بطهور " لأنه ناظر إلى تلك الأحكام وموسع لموضوعها
بالتنزيل إذ ينزل الطواف منزلة الصلاة.
ويلاحظ من خلال ما ذكرناه التشابه بين الدليل الوارد النافي لموضوع
الحكم في الدليل المورود، وبين الدليل الحاكم الناظر إلى موضوع القضية في
الدليل المحكوم، ولكنهما يختلفان اختلافا أساسيا، لان الدليل الوارد ناف
لموضوع الحكم في الدليل المورود حقيقة، واما الدليل الحاكم المذكور فهو
يستعمل النفي كمجرد لسان لاجل التنبيه على أنه ناظر إلى الدليل المحكوم
وقرينة عليه.
ويترتب على هذا الاختلاف الأساسي بين الدليل الوارد والدليل الحاكم
المذكور، ان تقدم الدليل الوارد بالورود لا يتوقف على أن يكون فيه ما
يشعر أو يدل على نظره إلى الدليل المورود ولحاظه له لأنه ينفي موضوع الدليل
المورود ومع نفيه لموضوعه ينتفي حكمه حتما سواء كان ناظرا إليه أو لا، واما
الدليل الحاكم فهو حتى لو كان لسانه لسان نفي الموضوع لا ينفي موضوع
الدليل المحكوم حقيقة، وانما يستعمل هذا اللسان لكي ينفي الحكم، فمفاد
الدليل الحاكم لبا وحقيقة نفي الحكم، ولكن بلسان نفي الموضوع، وهذا
اللسان يؤتى به لكي يثبت نظر الدليل الحاكم إلى مفاد الدليل المحكوم وتقدمه
عليه بالقرينية، وكلما انتفى ظهور في النظر انتفت قرينيته، وبالتالي زال
السبب الموجب لتقديمه.
النحو الثاني: الاعداد العرفي النوعي بمعنى ان المتكلم العرفي استقر بناؤه
عموما كلما تكلم بكلامين من هذا القبيل ان يجعل من أحدهما المعين قرينة على
الآخر، وحيث إن الأصل في كل متكلم انه يجري وفق المواضعات العرفية
419

العامة للمحاورة فيكون ظاهر حاله هو ذلك.
ومن حالات الاعداد العرفي النوعي اعداد الكلام الأخص موضوعا
ليكون قرينة ومحددا لمفاد الكلام الأعم موضوعا، ومن هنا تعين تخصيص
العام بالخاص وتقييد المطلق بالمقيد، بل تقديم كل ظاهر على ما هو أقل منه
ظهورا بدرجة ملحوظة وواضحة عرفا لوجود بناءات عرفية عامة، على أن
المتكلم يعول على الأخص والأظهر في تفسير العام والظاهر.
وتسمى جميع حالات القرينية بموارد الجمع العرفي ويسمى التعارض في
موارده بالتعارض غير المستقر لأنه يحل بالجمع العرفي تمييزا له عن التعارض
المستقر وهو التعارض الذي لا يتيسر فيه الجمع العرفي.
الحكم الثاني قاعدة تساقط المتعارضين:
وإذا لم يكن أحد الدليلين قرينة بالنسبة إلى الدليل الاخر، فالتعارض
مستقر في نظر العرف، وحينئذ نتكلم عن القاعدة بلحاظ دليل الحجية بمعنى
اننا إذا لم يوجد امامنا سوى دليل الحجية العام الذي ينتسب إليه المتعارضان
فما هو مقتضى هذا الدليل بالنسبة إلى هذه الحالة؟
وقبل أن نشخص ما هو مقتضى دليل الحجية نستعرض الممكنات ثبوتا،
ثم نعرض دليل الحجية على هذه الممكنات لنرى وفاءه فبأي واحد منها.
ولاستعراض المكنات ثبوتا نذكر عددا من الفروض لنميز بين ما هو
ممكن منها وما هو مستحيل ثبوتا وواقعا.
الافتراض الأول: أن يكون الشارع قد جعل الحجية لكل من الدليلين
المتعارضين. وهذا مستحيل لان هذين الدليلين كل واحد منهما يكذب الآخر
فكيف يطلب الشارع منا ان نصدق المكذب - بالكسر - والمكذب - بالفتح
معا.
420

فان قلت إن الحجية لا تطلب منا تصديق الدليل بمعنى الاقتناع الوجداني
به، بل تصديقه بمعنى العمل على طبقه وجعله منجزا ومعذرا.
قلت: نعم الامر كذلك غير أن التصديق العملي بالمتكاذبين غير ممكن
أيضا، فدليل الحرمة معنى حجيته الجري على أساس أن هذا حرام وتنجز
الحرمة علينا، والدليل المعارض يكذبه وينفي الحرمة ومعنى حجيته الجري على
أساس أن هذا ليس بحرام واطلاق العنان والتأمين من ناحية الحرمة، ولا
يمكن ان تجتمع هاتان الحجيتان.
الافتراض الثاني: أن يكون الشارع قد جعل الحجية لكل منهما، ولكنها
حجية مشروطة بعدم الالتزام بالآخر فهناك حجيتان مشروطتان، فإذا التزم
المكلف بأحد الدليلين لم يكن الآخر حجة عليه، بل الحجة عليه ما التزم به
خاصة.
وهذا غير معقول أيضا، إذ في حالة عدم التزام المكلف بكل من الدليلين
يكون كل منهما حجة عليه فيعود محذور الافتراض الأول وهو ثبوت الحجية
للمكذب والمكذب - بالفتح وبالكسر - في وقت واحد.
الافتراض الثالث: أن يكون الشارع قد جعل الحجية لأحدهما المعين بان
اختار أحد المتعارضين لميزة في نظره فجعله حجة دون الآخر، وهذا افتراض
معقول.
الافتراض الرابع: أن يكون قد جعل حجية واحدة تخييرية بمعنى انه أوجب
العمل والالتزام بمؤدى أحد الدليلين، فلا بد للمكلف اما ان يلتزم بمفاد
دليل الحرمة مثلا، فيبنى على حرمة الفعل وتكون الحرمة منجزة عليه، واما
ان يلتزم بالدليل المعارض الدال على الإباحة مثلا، فيلتزم بالإباحة وتكون
الحرمة مؤمنا عنها حينئذ، وهذا الافتراض معقول أيضا وأثره انه لا يسمح
421

للمكلف باهمال الدليلين المتعارضين والرجوع إلى أصل عملي أو دليل عام قد
يثبت به حكم ثالث غير ما دل عليه كلا الدليلين المتعارضين:
الافتراض الخامس: أن يكون الشارع قد اسقط كلا الدليلين عن الحجية
وافترض وجودهما كعهدهما، وهذا امر معقول أيضا.
وبهذا يتضح ان المعقول من الافتراضات الافتراضات الثلاثة الأخيرة،
وإذا عرضنا هذه الافتراضات الثلاثة (الثالث والرابع والخامس) على دليل
الحجية وجدنا انه لا يصلح لاثبات الافتراض الثالث، لان نسبته إلى كل من
الدليلين نسبة واحدة فاثبات حجية أحدهما خاصة به دون الاخر جزاف لا
مبرر له، كما لا يصلح دليل الحجية لاثبات الافتراض الرابع، لان مفاده
الحجية التعيينية لا التخييرية، اي وجوب الاخذ بكل من الدليلين تعيينا،
فإثبات الوجوب التخييري والحجية الواحدة التخييرية بحاجة إلى لسان آخر في
الدليل، وهذا يعني ان دليل الحجية لا يصلح لاثبات حجية الدليلين
المتعارضين بوجه من الوجوه، وذلك يتطابق مع الافتراض الخامس، ومن هنا
كان الحكم الثاني في باب التعارض قاعدة تساقط المتعارضين بلحاظ دليل
الحجية.
ولكن هل يتساقط المتعارضان بحيث يفترض كأنهما غير موجودين أو
يتساقطان في حدود تعارضهما في المدلول المطابقي، فإذا كانا متفقين في
مدلول التزامي مشترك بينهما كانا حجة في إثباته لعدم التعارض بالنسبة إليه
وجهان بل قولان مبنيان على أن الدلالة الالتزامية، هل هي تابعة للدلالة
المطابقية في الحجية أو لا؟ فان قلنا بالتبعية تعين الوجه الأول وان أنكرناها
أمكن المصير إلى الوجه الثاني، وعلى أساسه تقوم قاعدة نفي الثالث في باب
التعارض ويراد بنفي الثالث نفي حكم آخر غير ما دل عليه المتعارضان معا
لان هذا الحكم ينفيه كلا الدليلين التزاما ولا تعارض بينهما في نفيه. وقد
422

سبق الكلام عن تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجية.
الحكم الثالث قاعدة الترجيح للروايات الخاصة:
وقاعدة تساقط المتعارضين في كل حالات التعارض بين الأدلة،
ولكن قد يستثنى من ذلك حالة التعارض بين الروايات الواردة عن المعصومين
عليهم السلام، إذ يقال بوجود دليل خاص في هذه الحالة على ثبوت الحجية
لاحد الخبرين وهو ما كان واجدا لمزية معينة فيرجح على الاخر، ونخرج بهذا
الدليل الخاص عن قاعدة التساقط وهذا الدليل الخاص يتمثل في روايات
تسمى باخبار الترجيح، ولعل أهمها رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال:
قال الصادق عليه السلام (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على
كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه فان لم
تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على اخبار العامة، فما وافق اخبارهم فذروه
وما خالف اخبارهم فخذوه).
وهذه الرواية تشتمل على مرجحين مترتبين، ففي المرتبة الأولى يرجح ما
وافق الكتاب على ما خالفه، وفي المرتبة الثانية وفي حالة عدم تواجد المرجح
الأول يرجح ما خلف العامة على ما وافقهم.
وإذا لاحظنا المرجح الأول وجدنا انه مرتبط بصفتين: أحدهما: مخالفة
الخبر المرجوح للكتاب الكريم، والأخرى: موافقة الخبر الراجح له.
اما الصفة الأولى فمن الواضح ان المخالفة على قسمين: أحدهما: المخالفة
والمعارضة في حالات التعارض غير المستقر، كمخالفة الحاكم للمحكوم
والخاص للعام، والآخر: المخالفة والمعارضة في حالات التعارض المستقر،
كالمخالفة بين عامين متساويين أو خاصين كذلك، وخبر الواحد إذا كان
مخالفا للكتاب من القسم الثاني فهو سقاط عن الحجية في نفسه حتى إذا لم
423

يعارضه خبر آخر لما تقدم في مباحث الدليل اللفظي من أن حجية خبر
الواحد مشروطة بعدم معارضته ومخالفته لدليل قطعي، وكنا نقصد بالمخالفة
هناك المخالفة على نحو التعارض المستقر. واما إذا كان خبر الواحد مخالفا من
القسم الأول فهو المقصود في رواية عبد الرحمن.
واما الصفة الثانية وهي موافقة الخبر الراجح للكتاب الكريم فلا يبعد ان
يراد بها مجرد عدم المخالفة لا أكثر من ذلك بقرينة وضوح عدم مجئ جميع
التفاصيل وجزئيات الأحكام الشرعية في الكتاب الكريم.
وعلى هذا فالمرجع الأول هو أن يكون أحد الخبرين مخالفا للكتاب الكريم
مخالفة القرينة لما يقابلها، فان الخبر المتصف بهذه المخالفة لو انفرد لكان قرينة
على تفسير المقصود من الكتاب الكريم حوجة في ذلك، ولكن حين يعارضه
خبر مثله ليس متصفا بهذه المخالفة يقدم عليه ذلك الخبر.
وإذا لاحظنا المرجح الثاني وجدنا انه يأتي بعد افتراض عدم امكان علاج
التعارض على أساس المرجح الأول، وقد نصت الرواية في المرجح الثاني على
الاخذ بما خالف اخبار العامة، وتقديمه على ما وافق اخبارهم، ومن هنا قد
يقال باختصاص هذا الترجيح بما إذا كانت المخالفة والموافقة لاخبارهم
ولا يكفي للترجيح المخالفة والموافقة لما هو المعروف من فتاواهم وآرائهم
إذا لم تكن مستندة إلى الاخبار. ولكن الصحيح التعدي إلى المخالفة
والموافقة مع الفتاوي والآراء أيضا وان كانت على أساس غير الاخبار
من أدلة الاستنباط عندهم، لان الترجيح ليس حكما تعبديا صرفا،
بل هو حكم له مناسبات عرفية مركوزة بلحاظ ان ما اكتنف الأئمة من
ظروف التقية أوجب تطرق احتمال التقية إلى الخبر الموافق دون
المخالف، وهذا كما يجري في موارد الموافقة والمخالفة لاخبارهم، كذلك في
موارد الموافقة والمخالفة لآرائهم المستندة إلى مدرك آخر.
424

الحكم الرابع قاعدة التخيير للروايات الخاصة:
وإذا لم يوجد مرجح في مجال الخبرين المتعارضين، فقد يقال بوجود دليل
خاص أيضا يقتضي الحجية التخييرية، فلا تصل النوبة إلى إعمال قاعدة
التساقط، وهذا يعني ان الافتراض الرابع من الافتراضات الخمسة التي عجز
دليل الحجية العام عن إثباته توفر لدينا دليل خاص عليه يسمى باخبار
التخيير.
ولعل من أهم أخبار التخيير رواية سماعة عن أبي عبد الله (ع) قال سألته
عن الرجل اختلف عليه رجلان من اهل دينه في امر كلاهما يرويه أحدهما
يأمره بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف يصنع، فقال يرجئه حتى يلقى من يخبره
فهو في سعة حتى يلقاه.
والاستدلال بالرواية يقوم على دعوى أن قوله، فهو في سعة حتى يلقاه
بمعنى انه مخير في العمل بأي من الخبرين حتى يلقاه الامام فيكون مفاده جعل
الحجية التخييرية، مع أن بالامكان ان يراد بالسعة هنا عدم كونه ملزما
بالفحص السريع وشد الرحال إلى الامام فورا وانه لا يطالب بتعيين الواقع
حتى يلقى الامام حسب ما يقتضيه الظروف والمناسبات، واما ماذا يعمل
خلال هذه الفترة فلا تكون الرواية متعرضة له مباشرة، ولكن مقتضى
اطلاقها المقامي انه يعمل نفس ما كان يعمله قبل مجئ الحديثين المتعارضين،
وعلى هذا الاحتمال لا تدل الرواية على الحجية التخييرية.
425

2 - التعارض بين الأصول العملية
إذا لاحظنا الأصول العملية المتقدمة وجدنا ان بعضها وارد على بعض،
مثلا دليل البراءة الشرعية وارد على أصالة الاشتغال الثابتة، بحكم العقل على
مسلك حق الطاعة، ولكن في حالات أخرى لا يوجد ورود، فمنها حالة
التعارض بين البراءة والاستصحاب، كما إذا علم بحرمة مقاربة الحائض وشك
في بقاء الحرمة بعد النقاء، فان الاستصحاب يقتضي بقاء الحرمة، والبراءة
تقتضي التأمين عنها فيتعارض دليل الاستصحاب مع دليل البراءة والمعروف
تقديم دليل الاستصحاب على دليل البراءة لوجهين:
الأول: ان دليل الاستصحاب حاكم على دليل البراءة لان دليل البراءة اخذ
في موضوعه عدم اليقين بالحرمة ودليل الاستصحاب لسانه لسان ابقاء اليقين
والمنع انتقاضه فيكون ناظرا إلى إلغاء موضوع البراءة وحاكما على دليلها،
وهذا بخلاف العكس فان دليل البراءة ليس لسانه افتراض المكلف متيقنا
بعدم الحرمة، بل مجرد التأمين عن المشكوك.
الثاني: ان دليل الاستصحاب أظهر عرفا في الشمول من دليل البراءة
باعتبار ان في بعض رواياته ورد انه لا ينقص اليقين بالشك أبدا والتأبيد
يجعله أقوى دلالة على الشمول والعموم من دليل البراءة.
ومنها: حالة التعارض بين الأصل السببي والأصل المسببي، وقد سبق
الكلام عن ذلك في الاستصحاب وتقدم ان الأصل السببي مقدم، وقد فسر
الشيخ الأنصاري ذلك على أساس حكومته على الأصل المسببي فلاحظ.
426

3 - التعارض بين الأدلة المحرزة والأصول العملية
إذا قام دليل محرز على حكم فلا شك في أنه لا تجري الأصول العملية
المخالفة له، وهذا واضح إذا كان الدليل المحرز قطعيا، إذ يكون حينئذ
واردا لان الأصول العملية اخذ في موضوع دليلها الشك وهو ينتفى حقيقة
بورود الدليل المحرز القطعي، واما إذا كان الدليل المحرز امارة ظنية كخبر
الثقة فيتقدم أيضا بدون شك، وانما البحث في تكييف هذا التقديم وتفسيره،
إذ قد يستشكل فيه بان الامارة لما كانت ظنية فهي لا تنفي الشك حقيقة،
وعلى هذا فموضوع دليل الأصل وهو الشك محقق، فما الموجب لطرح دليل
الأصل والاخذ بالامارة؟ ولماذا لا نفترض التعارض بين دليل الأصل ودليل
حجية تلك الامارة، فلا نعمل بأي واحد منهما؟
وهناك محاولات لدفع هذا الاستشكال وتبرير تقديم الامارة على الأصل
نذكر منها محاولتين:
إحداهما: ان دليل الأصل وان اخذ في موضوعه عدم العلم، لكن العلم هنا
لوحظ كمثال والمقصود عدم الدليل الذي تقوم به الحجة في إثبات الحكم
الواقعي سواء كان قطعا أو امارة، وعليه فدليل حجية الامارة بجعله الحجية
والدليلية لها يكون نافيا لموضوع دليل الأصل حقيقة، وواردا عليه والوارد
يتقدم على المورود.
والمحاولة الأخرى: مبنية على التسليم بان دليل الأصل ظاهر في نفسه في
اخذ عدم العلم في موضوعه بما هو عدم العلم لا بما هو عدم الحجة، وهذا
427

يعني ان دليل حجية الامارة ليس واردا على دليل الأصل، لأنه لا ينفي
الشك ولا يوجد العلم حقيقة، ولكن مع هذا تقدم الامارة على الأصل، وهذا
التقديم من نتائج قيام الامارة مقام القطع الموضوعي، حيث إن أدلة الأصول
اخذ في موضوعها الشك وعدم القطع، فالقطع بالنسبة إليها قطع موضوعي
بمعنى ان عدمه دخيل في موضوعها، فإذا استفيد من دليل الحجية ان الامارة
تقوم مقام القطع الموضوعي، فهذا يعني انه كما ينتفى الأصل بالقطع ينتفى
بالامارة أيضا، وقيام الامارة مقام القطع الموضوعي عبارة أخرى عن دعوى أن
دليل حجية الامارة حاكم على دليل الأصل لان لسانه إلغاء الشك وتنزيل
الامارة منزلة العلم، فهو بهذا يتصرف في موضوع دليل الأصل ويحكم عليه،
كما يحكم قولهم: لا ربا بين الوالد وولده على دليل حرمة الربا.
هذا آخر ما أردنا تحريره في هذه الحلقة وقد بدأنا بكتابتها في النجف
الاشراف في اليوم الرابع عشر من جمادي الأول 1397 وفرغنا منها بحول الله
وتوفيقه في اليوم السابع من جمادي الثانية في نفس السنة، والحمد لله بعدد
علمه وهو ولي التوفيق
428