الكتاب: المعالم الجديدة للأصول
المؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الجزء:
الوفاة: ١٤٠٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٣٩٥ - ١٩٧٥ م
المطبعة: مطبعة النعمان - النجف الأشرف
الناشر: مكتبة النجاح - طهران
ردمك:
ملاحظات:

دروس تمهيدية في علم الأصول
المعالم الجديدة
للأصول
محمد باقر الصدر
1

الطبعة الثانية
عام 1395 ه‍ 1975 م
إصدار
مكتبة النجاح
لصاحبها: السيد مرتضى الرضوي
طهران - ناصر خسرو - پاساژ مجيدي
الطبعة الأولى
مطبعة النعمان - النجف الأشرف
2

كلمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله المعصومين الطاهرين.
وبعد فإني لم أضع هذا الكتاب ليعبر عن بحوث علم أصول الفقه
كما تعالج في الدراسات الخاصة، ولا ليبرهن على وجهات نظري في المسائل
الأصولية بالصورة الكافية لابرازها إبرازا دقيقا والاستدلال عليها ومقارنتها
الواسعة بسائر الآراء والاتجاهات القائمة في علم الأصول، كما هي الطريقة
المتبعة في الكتب التي تصنف على مستوى الدراسات العالية وبحوث الخارج.
وإنما الهدف الذي أتوخاه من هذا الكتاب هو تقديم علم الأصول
بصورة بدائية ومبسطة للمبتدئين في دراسة هذا العلم، ولهذا راعيت في
كل جوانب الكتاب أن يكون في مستوى هذا الهدف.
وقد حاولت إضافة إلى ذلك أن أمكن الهواة الراغبين في معلومات عامة
عن العلم من الحصول عليها في هذا الكتاب، ولأجل هذا لاحظت في درجة
التوضيح ما يحقق ذلك.
ويعبر هذا الكتاب عن حلقة من حلقات ثلاث تندرج في عرض علم
الأصول وتمهيده، وتشكل كل واحدة منها دراسة كاملة لعلم الأصول وإن
اختلفت في مستوى العرض والدرجة العلمية للبحث.
ففي هذه الحلقة توفرنا على ايجاد تصورات علمية عامة عن النظريات
الأصولية، وتجنبنا في الغالب الخوض في المناقشات والاحتجاج.
ويتهيأ الطالب عند إكمال هذه الحلقة لدراسة تلك النظريات بصورة
3

تصديقية في الحلقة الثانية التي سوف نعمق فيها التصورات المعطاة في الحلقة
الأولى مع بحث تصديقي مجمل عن كل نظرية.
وأما الحلقة الثالثة فهي تعرض المستوى الثالث من الدروس التمهيدية
لعلم الأصول، ويمارس فيها الطالب دراسة النظريات الأصولية في اطار من
الأقوال ووجهات النظر المتخالفة والأدلة المتقابلة.
وأما الهيكل العام والتصميم المشترك الذي وضعته للحلقات الثلاث
فله مبرراته التي ترتبط بما أشرت إليه من الأهداف المتوخاة من وضع هذه
الحلقة وما يليها، كما سنتحدث عنه في الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى.
النجف الأشرف
14 جمادي الثانية 1385 ه‍ محمد باقر الصدر
4

القسم الأول
المدخل إلى علم الأصول
تعريف علم الأصول
تمهيد:
بعد أن آمن الانسان بالله والإسلام والشريعة وعرف أنه مسؤول بحكم
كونه عبدا لله تعالى عن امتثال أحكام الله تعالى، يصبح ملزما بالتوفيق بين
سلوكه في مختلف مجالات الحياة والشريعة الاسلامية، ومدعوا بحكم عقله
إلى بناء كل تصرفاته الخاصة علاقاته مع الافراد الآخرين على أساسها، أي
اتخاذ الموقف العملي الذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة بوصفه عبدا للمشرع
سبحانه الذي أنزل الشريعة على رسوله. ولأجل هذا كان لزاما على الانسان
أن يعين الموقف العملي الذي تفرضه هذه التبعية عليه في كل شأن من شؤون
الحياة ويحدده، فهل يفعل أو يترك? وهل يتصرف بهذه الطريقة أو بتلك؟.
ولو كانت أحكام الشريعة وأوامرها ونواهيها في كل الاحداث والوقائع
واضحة وضوحا كاملا بديهيا للجميع، لكان تحديد الموقف العملي تجاه
الشريعة في كل واقعة أمرا ميسورا لكل أحد، لان كل انسان يعرف أن الموقف
العملي الذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة في الواجبات هو " أن يفعل " وفي
المحرمات هو " أن يترك " وفي المباحات هو " أنه بالخيار إن شاء فعل وان
شاء ترك ". فلو كانت الواجبات والمحرمات وسائر الأحكام الشرعية محددة
ومعلومة بصورة عامة وبدهية لكان الموقف العملي المحتم على الانسان بحكم
تبعيته للشريعة واضحا في كل واقعة، ولما احتاج تحديد الموقف العملي تجاه
الشريعة إلى بحث علمي ودراسة واسعة.
5

ولكن عوامل عديدة - منها بعدنا ألزمني عن عصر التشريع - أدت
إلى عدم وضوح عدد كبير من أحكام الشريعة واكتنافها بالغموض. فنشأ
نتيجة لذلك غموض في الموقف العملي الذي تفرضه على الانسان تبعيته تجاه
الشريعة في كثير من الوقائع والاحداث، لان الانسان إذا لم يعلم نوع الحكم
الذي تقرره الشريعة في واقعة ما أهو وجوب أو حرمة أو إباحة فسوف لن
يعرف طبيعة الموقف العملي الذي يتحتم عليه أن يتخذه تجاه الشريعة في
تلك الواقعة بحكم تبعيته للشريعة.
وعلى هذا الأساس كان من الضروري أن يوضع علم يتولى رفع الغموض
عن الموقف العملي تجاه الشريعة في كل واقعة بإقامة الدليل على تعيين الموقف
العملي الذي تفرضه على الانسان تبعيته للشريعة وتحديده.
وهكذا كان، فقد أنشئ علم الفقه للقيام بهذه المهمة، فهو يشتمل على
تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا استدلاليا. والفقيه في علم الفقه
يمارس إقامة الدليل على تعيين الموقف العملي في كل حدث من أحداث الحياة
وناحية من مناحيها، وهذا ما نطلق عليه في المصطلح العلمي اسم " عملية
استنباط الحكم الشرعي "، فاستنباط الحكم الشرعي في واقعة معناه إقامة
الدليل على تحديد الموقف العملي للانسان تجاه الشريعة في تلك الواقعة،
أي تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا استدلاليا. ونعني بالموقف
العملي تجاه الشريعة السلوك الذي يفرض على الانسان بجم تبعيته للشريعة
أن يسلكه تجاهها لكي يفي بحقها ويكون تابعا مخلصا لها.
فعلم الفقه إذن هو العلم بالدليل على تحديد الموقف العملي من الشريعة
في كل واقعة، والموقف العملي من الشريعة الذي يقيم علم الفقه الدليل على
تحديده، هو " السلوك الذي تفرضه على الانسان تبعيته للشريعة لكي يكون
تابعا مخلصا لها وقائما بحقها "، وتحديد الموقف العملي بالدليل هو ما نعبر
6

عنه ب‍ " عملية استنباط الحكم الشرعي ". ولأجل هذا يمكن القول بأن
علم الفقه هو علم استنباط الأحكام الشرعية، أو علم عملية الاستنباط
بتعبير آخر.
وتحديد الموقف العملي بدليل يزيل الغموض الذي يكتنف الموقف،
يتم في علم الفقه بأسلوبين:
أحدهما الأسلوب غير المباشر، وهو تحديد الموقف العملي الذي
تفرضه على الانسان تبعيته للشريعة عن طريق اكتشاف نوع الحكم الشرعي
الذي قررته الشريعة في الواقعة وإقامة الدليل عليه، فيزول الغموض عن
الحكم الشرعي وبالتالي يزول الغموض عن طبيعة الموقف العملي تجاه الشريعة
فنحن إذا أقمنا الدليل على أن الحكم الشرعي في واقعة ما هو الوجوب استطعنا
أن نعرف ما هو الموقف الذي تحتم تبعيتنا للشريعة أن نقفه تجاهها وهو
" أن نفعل ".
والأسلوب الآخر لتحديد الموقف العملي هو الأسلوب المباشر الذي
يقام فيه الدليل على تحديد الموقف العملي لا عن طريق اكتشاف الحكم
الشرعي الثابت في الواقعة - كما في الأسلوب الأول، بل يقام الدليل على
تحديد الموقف العملي مباشرة، وذلك في حالة ما إذا عجزنا عن اكتشاف نوع
الحكم الشرعي الثابت في الواقعة وإقامة الدليل على ذلك فلم ندر ما هو
نوع الحكم الذي جاءت به الشريعة، أهو وجوب أو حرمة أو إباحة؟ ففي
هذه الحالة لا يمكن استعمال الأسلوب الأول لعدم توفر الدليل على نوع
الحكم الشرعي، بل يجب أن نلجأ إلى أدلة تحدد الموقف العملي بصورة
مباشرة وتوجهنا كيف نفعل ونتصرف في هذه الحالة؟ وأي موقف عملي نتخذ
تجاه الحكم الشرعي المجهول الذي لم نتمكن من اكتشافه؟ وما هو السلوك
الذي تحتم تبعيتنا للشريعة أن نسلكه تجاهه لكي نقوم بحق التعبية ونكون
7

تابعين مخلصين وغير مقصرين؟.
وفي كلا الأسلوبين يمارس الفقيه في علم الفقه استنباط الحكم الشرعي،
أي يحدد بالدليل الموقف العملي تجاه الشريعة بصورة غير مباشرة أو مباشرة.
ويتسع علم الفقه لعمليات استنباط كثيرة بقدر الوقائع والاحداث التي
تزخر بها حياة الانسان، فكل واقعة لها عملية استنباط لحكمها يمارس الفقيه
فيها أحد ذينك الأسلوبين المتقدمين.
وعمليات الاستنباط تلك التي يشتمل عليها علم الفقه بالرغم من تعددها
وتنوعها تشترك في عناصر موحدة وقواعد عامة تدخل فيها على تعددها.
وتنوعها، ويتشكل من مجموع تلك العناصر المشتركة الأساس العام لعملية
الاستنباط.
وقد تطلبت هذه العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وضع علم خاص
بها لدراستها وتحديدها وتهيئتها لعلم الفقه، فكان علم الأصول.
تعريف علم الأصول:
وعلى هذا الأساس نرى أن يعرف علم الأصول بأنه " العلم بالعناصر
المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي ". ولكي نستوعب هذا التعريف
بفهم يجب أن نعرف ما هي العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟.
ولنذكر - لاجل ذلك - نماذج بدائية من هذه العملية في صيغ مختصرة،
لكي نصل عن طريق دراسة هذه النماذج والمقارنة بينها إلى فكرة العناصر
المشتركة في عملية الاستنباط.
افرضوا أن فقيها واجه هذه الأسئلة:
1 - هل يحرم على الصائم أن يرتمس في الماء؟
2 - هل يجب على الشخص إذا ورث مالا من أبيه أن يؤدي خمسه؟
3 - هل تبطل الصلاة بالقهقهة في أثنائها؟
8

وأراد الفقيه ان يجيب على هذه الأسئلة، فإنه سوف يجيب على السؤال
الأول مثلا " نعم يحرم الارتماس على الصائم ". ويستنبط الفقيه هذا الحكم
الشرعي بالطريقة التالية: قد دلت رواية يعقوب بن شعيب عن الإمام الصادق
عليه السلام على حرمة الارتماس على الصائم، فقد جاء: فيها إن الصادق (عليه السلام)
قال: لا يرتمس المحرم في الماء ولا الصائم. والجملة بهذا التركيب تدل في
العرف العام - أي لدى أبناء اللغة بصورة عامة - على الحرمة، وراوي
النص يعقوب بن شعيب ثقة، والثقة وإن كان قد يخطئ أو يشذ أحيانا ولكن
الشارع أمرنا بعدم إتهام الثقة بالخطأ والشذوذ واعتبر روايته دليلا وأمرنا
باتباعها، دون أن نعير احتمال الخطأ أو الشذوذ بالا. والنتيجة هي أن
الارتماس حرام على الصائم والمكلف ملزم بتركه في حالة الصوم بحكم تبعيته
للشريعة.
ويجيب الفقيه على السؤال الثاني بالنفي، أي لا يجب على الولد أن
يدفع الخمس من تركة أبيه، لان رواية علي بن مهزيار التي حدد فيها الإمام الصادق
(عليه السلام) نطاق الأموال التي يجب أداء الخمس منها، ذكرت ان الخمس
ثابت في الميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن. والعرف العام يفهم
من هذه الجملة أن الشارع لم يجعل خمسا على الميراث الذي ينتقل من الأب
إلى ابنه، والراوي وان كان من المحتمل وقوعه في خطأ أو شذوذ بالرغم من
وثاقته، ولكن الشارع أمرنا باتباع روايات الثقات والتجاوز عن احتمال
الخطأ والشذوذ، فالمكلف إذن غير ملزم بحكم تبعيته للشريعة بدفع خمس
المال الذي يرثه من أبيه.
ويجيب الفقيه على السؤال الثالث بالايجاب: " القهقهة تبطل الصلاة "
بدليل رواية زرارة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: القهقهة لا تنقض الوضوء
وتنقض الصلاة. والعرف العام يفهم من النقض أن الصلاة إذا وقعت فيها
9

القهقهة اعتبرت لغوا ووجب استئنافها، وهذا يعني بطلانها. ورواية زرارة
هي من تلك الروايات التي أمرنا الشارع باتباعها وجعله أدلة كاشفة، فيتحتم
على المصلي بحكم تبعيته للشريعة أن يعيد صلاته، لان ذلك هو الموقف
العملي الذي تتطلبه الشريعة منه.
وبملاحظة هذه المواقف الفقهية الثلاثة نجد أن الاحكام التي استنبطها
الفقيه كانت من أبواب شتى، فالحكم الأول يرتبط بالصوم والصائم، والحكم
الثاني يرتبط بالخمس والنظام المالي في الاسلام، والحكم الثالث يرتبط
بالصلاة ويحدد بعض حدودها. كما نرى أيضا أن الأدلة التي استند إليها
الفقيه مختلفة، فبالنسبة إلى الحكم الأول استند إلى رواية يعقوب بن شعيب
وبالنسبة إلى الحكم الثاني استند إلى رواية علي بن مهزيار، وبالنسبة إلى
الحكم الثالث استند إلى رواية زرارة. ولكل من الروايات الثلاث نصها.
وتركيبها اللفظي الخاص الذي يجب أن يدرس بدقة ويحدد معناه، ولكن
توجد في مقابل هذا التنوع وهذه الاختلافات بين المواقف الثلاثة عناصر
مشتركة أدخلها الفقيه في عملية الاستنباط في المواقف الثلاثة جميعا:
فمن تلك العناصر المشتركة الرجوع إلى العرف العام في فهم النص (1)،
فان الفقيه اعتمد في فهمه للنص في كل موقف على طريقة فهم العرف العام
للنص، وذلك يعني أن العرف العام حجة ومرجع في تعيين مدلول اللفظ.
وهذا ما يطلق عليه في علم الأصول اسم " حجية الظهور " (2) فحجية الظهور

(1) نريد بالنص هنا الكلام المنقول عن المعصوم عليه السلام.
(2) الحجية في مصطلح علم الأصول تعني كون الدليل صالحا لاحتجاج
المولى به على العبد بقصد مؤاخذته إذا لم يعمل العبد به، ولاحتجاج العبد
به على المولى بقصد التخليص من العقاب إذا عمل به. فكل دليل له هذه
الصلاحية من كلتا الناحيتين يعتبر حجة في المصطلح الأصولي، وظهور كلام
10

إذن عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث. كذلك أيضا يوجد عنصر
مشترك آخر، وهو أمر الشارع باتباع روايات الثقات، لان الفقيه في كل
عملية من عمليات الاستنباط الثلاث كان يواجه نصا يرويه ثقة قد يحتمل فيه
الخطأ والشذوذ لعدم كونه معصوما ولكنه تجاوز هذا الاحتمال وأخرجه
من حسابه استنادا إلى أمر الشارع باتباع روايات الثقات، وهو ما نطلق
عليه اسم " حجية الخبر ". ومعنى هذا أن حجية الخبر عنصر مشترك في
عمليات الاستنباط الثلاث، ولولا هذا العنصر المشترك لما أمكن للفقيه أن
يستنبط حرمة الارتماس في الموقف الأول، ولا عدم وجوب الخمس من رواية
علي بن مهزيار في الموقف الثاني، ولا بطلان الصلاة بالقهقهة في الموقف الثالث.
وهكذا نستنتج أن عمليات الاستنباط للاحكام في الفقه تشتمل على
عناصر خاصة كما تشتمل على عناصر مشتركة، ونعني بالعناصر الخاصة تلك
العناصر التي تتغير من مسألة إلى مسألة، فرواية يعقوب بن شعيب عنصر
خاص في عملية استنباط حرمة الارتماس، لأنها لم تدخل في عمليات الاستنباط
الأخرى، بل دخل بدلا عنها عناصر خاصة أخرى، كرواية علي بن مهزيار
ورواية زرارة. ونعني بالعناصر المشتركة القواعد العامة التي تدخل في عمليات
استنباط أحكام عديدة على مواضيع مختلفة، كعنصر حجية الظهور وعنصر
حجية الخبر.
وفي علم الأصول تدرس العناصر المشتركة في عملية الاستنباط التي
لا يقتصر ارتباطها على مسألة فقهية خاصة بالذات. وفي علم الفقه تدرس
العناصر الخاصة بكل عملية من عمليات الاستنباط في المسألة التي ترتبط
بتلك العملية.
وهكذا يترك للفقيه في كل مسألة أن يفحص بدقة الروايات الخاصة التي

المولى من هذا القبيل، ولهذا يوصف بالحجية.
11

ترتبط بتلك المسألة ويدرس قيمة تلك الروايات ويحاول فهم نصوصها وألفاظها
على ضوء العرف العام. بينما يتناول الأصولي البحث عن حجية العرف العام
بالذات والبحث عن حجية الخبر، ويطرح أسئلة ليجيب عليها من هذا القبيل.
هل العرف العام حجة؟ وما هو مدى النطاق الذي يجب الرجوع فيه إلى
العرف العام؟ وبأي دليل نثبت حجية الخبر؟ وما هي الشروط العامة في
الخبر الذي منحه الشارع صفة الحجية واعتبره دليلا؟ إلى غير ذلك من
الأسئلة التي تتصل بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط.
وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم التعريف الذي أعطيناه لعلم الأصول،
إذ قلنا: " إن علم الأصول هو العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط "
أي إنه علم يبحث عن العناصر التي تدخل في عمليات استنباط متعددة لاحكام
مواضيع متنوعة، كحجية الظهور العرفي وحجية الخبر، العنصرين المشتركين
اللذين دخلا في استنباط أحكام الصوم والخمس والصلاة.
ولا يحدد علم الأصول العناصر المشتركة فحسب، بل يحدد أيضا درجات
استعمالها في عملية الاستنباط والعلاقة القائمة بينها، كما سنرى في البحوث
المقبلة انشاء الله تعالى. وبهذا يضع للعملية الاستنباطية نظامها العام الكامل.
ونستخلص من ذلك أن علم الأصول وعلم الفقه مرتبطان معا باستنباط
الحكم الشرعي، فعلم الفقه هو علم نفس عملية الاستنباط، وعلم الأصول
علم العناصر المشتركة في عملية الاستنباط. والفقيه يمارس في علم الفقه عملية
استنباط الحكم الشرعي بإضافة العناصر الخاصة للعملية في البحث الفقهي
إلى العناصر المشتركة التي يستمدها من علم الأصول، والأصولي يدرس في
علم الأصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ويضعها في خدمة الفقيه.
12

موضوع علم الأصول:
لكل علم - عادة - موضع أساسي ترتكز جميع بحوثه عليه وتدور
حوله وتستهدف الكشف عما يرتبط بذلك الموضوع من خصائص وحالات
وقوانين، فالفيزياء مثلا موضعها الطبيعة، وبحوث الفيزياء ترتبط كلها
بالطبيعة وتحاول الكشف عن حالتها وقوانينها العامة. والنحو موضوعه
الكلمة، لأنه يبحث عن حالات إعرابها وبنائها ورفعها ونصبها، فما هو
موضوع علم الأصول الذي يتوفر هذا العلم على دراسته وتدور بحوثه
حوله؟.
ونحن إذا لاحظنا التعريف الذي قدمناه لعلم الأصول استطعنا أن نعرف
أن علم الأصول يدرس في الحقيقة نفس عملية الاستنباط التي يمارسها الفقيه
في علم الفقه، وتتعلق بحوثه كلها بتدقيق هذه العملية وإبراز ما فيها من
عناصر مشتركة، وعلى هذا الأساس تكون عملية الاستنباط هي موضوع
علم الأصول باعتباره علما يدرس العناصر المشتركة التي تدخل في تلك العملية
من قبيل حجية الظهور العرفي وحجية الخبر.
علم الأصول منطق الفقه:
ولابد ان معلوماتكم عن علم المنطق تسمح لنا أن نستخدم علم المنطق
كمثال لعلم الأصول، فإن علم المنطق - كما تعلمون - يدرس في الحقيقة
عملية التفكير، مهما كان لونها ومجالها وحقلها العلمي، ويحدد النظام العام
الذي يجب أن تتبعه عملية التفكير لكي يكون التفكير سليما. مثلا: يعلمنا
علم المنطق كيف يجب أن ننهج في الاستدلال بوصفه عملية تفكير لكي يكون
الاستدلال صحيحا؟ كيف نستدل على أن سقراط فان؟ وكيف نستدل على
أن نار الموقد الموضوع امامي محرقة؟ وكيف نستدل على أن مجموع زوايا
13

المثلث تساوي قائمتين؟ وكيف نستدل على أن الخط الممتد بدون نهاية
مستحيل؟ وكيف نستدل على أن الخسوف ينتج عن توسط الأرض بين
الشمس والقمر؟. كل هذا يجيب عليه علم المنطق بوضع المناهج العامة
للاستدلال، كالقياس والاستقراء التي تطبق في مختلف هذه الحقول من
المعرفة، فهو إذن علم لعملية التفكير إطلاقا، إذ يضع المناهج والعناصر
العامة فيها.
وعلم الأصول يشابه علم المنطق من هذه الناحية، غير أنه يبحث عن
نوع خاص من عملية التفكير، أي عن عملية التفكير الفقهي في استنباط
الاحكام، ويدرس العناصر المشتركة العامة التي يجب أن تستوعبها عملية
الاستنباط، وتتكيف وفقا لها، لكي يكون الاستنباط سليما والفقيه موفقا
في استنتاجه. فهو يعلمنا: كيف يجب أن ننهج في استنباط الحكم الشرعي؟
كيف نستنبط الحكم بحرمة الارتماس على الصائم؟ كيف نستنبط الحكم
باعتصام ماء الكر؟ كيف نستنبط الحكم بوجوب صلاة العيد؟ كيف نستنبط
الحكم بحرمة تنجيس المسجد؟ كيف نستنبط الحكم ببطلان البيع الصادر
عن إكراه؟. كل هذا يوضحه علم الأصول بوضع المناهج العامة لعملية
الاستنباط والكشف عن عناصرها المشتركة.
وعلى هذا الأساس قد نطلق على علم الأصول اسم " منطق علم الفقه "
لأنه يلعب بالنسبة إلى علم الفقه دورا ايجابيا مماثلا للدور الايجابي الذي
يؤديه علم المنطق للعلوم والفكر البشري بصورة عامة، فهو على هذا الأساس
" منطق علم الفقه " أو " منطق عملية الاستنباط " بتعبير آخر.
ونستخلص من ذلك كله أن علم الفقه هو العلم بعملية الاستنباط،
وعلم الأصول هو منطق تلك العملية الذي يبرز عناصرها المشتركة ونظامها
العام الذي يجب على علم الفقه الاعتماد عليه.
14

أهمية علم الأصول في عملية الاستنباط:
ولسنا بعد ذلك بحاجة إلى التأكيد على أهمية علم الأصول وخطورة
دوره في عالم الاستنباط، لأنه ما دام يقدم لعملية الاستنباط عناصرها
المشتركة يضع لها نظامها العام، فهو عصب الحياة في عملية الاستنباط والقوة
الموجهة، وبدون علم الأصول يواجه الشخص في الفقه ركاما متناثرا من
النصوص والأدلة دون أن يستطيع استخدامها والاستفادة منها في الاستنباط
كإنسان يواجه أدوات النجارة ويعطى منشارا وفأسا وما إليهما من أدوات
دون أن يملك أفكارا عامة عن عملية النجارة وطريقة استخدام تلك الأدوات.
وكما أن العناصر المشتركة في الاستنباط التي يدرسها علم الأصول
ضرورية لعملية الاستنباط، فكذلك العناصر الخاصة التي تختلف من مسألة
إلى أخرى، كمفردات الآيات والروايات المتناثرة التي تشكل العناصر الخاصة
والمتغيرة في علمية الاستنباط، فإنها الجزء الضروري الآخر فيها الذي لا تتم العملية بدونه، ولا يكفي في إنجاحها مجرد الاطلاع على العناصر المشتركة
التي يمثلها علم الأصول واستيعابها.
ومن يحاول الاستنباط على أساس الاطلاع الأصولي فحسب نظير من
يملك معلومات نظرية عامة عن عملية النجارة ولا يوجد لديه فأس ولا منشار
وما إليهما من أدوات النجارة، فكما يعجز هذا الشخص عن وضع سرير
خشبي مثلا فكذلك يعجز الأصولي عن الاستنباط إذا لم يفحص بدقة العناصر
الخاصة المتغيرة.
وهكذا نعرف أن العناصر المشتركة والعناصر الخاصة قطبان مندمجان
في عملية الاستنباط ولا غنى للعملية عنهما معا، ولهذا يتحتم على المستنبط
أن يدرس العناصر المشتركة في علم الأصول ثم يضيف إليها في
15

بحوث علم الفقه العناصر الخاصة لتكتمل لدية عملية الاستنباط التي يمارسها
في علم الفقه.
الأصول والفقه يمثلان النظرية والتطبيق:
ونخشى أن نكون قد أوحينا إليكم بتصور خاطئ، حين قلنا إن
المستنبط يدرس في علم الأصول العناصر المشتركة ويحددها ويتناول في بحوث
علم الفقه العناصر الخاصة ليكمل بذلك عملية الاستنباط، إذ قد يتصور
البعض أنا إذا درسنا في علم الأصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط.
وعرفنا مثلا حجية الخبر وحجية الظهور العرفي وما إليهما من العناصر الأصولية
فلا يبقى علينا بعد ذلك أي جهد علمي، إذ لا نحتاج ما دمنا نملك تلك
العناصر الا إلى مجرد استخراج الروايات والنصوص من مواضعها، نظير
من يستخرج تاريخ غزوة خبير أو روايات الهجرة من تاريخ السيرة النبوية،
وبهذا يكون عمل الفقيه في علم الفقه مقتصرا على مجرد التفتيش عن العناصر
الخاصة من الروايات والنصوص، لكي تضاف إلى العناصر المشتركة
ويستنبط منها الحكم الشرعي، وهو عمل سهل يسير بطبيعته لا يشتمل على
جهد علمي، ونتيجة ذلك أن الجهد العلمي الذي يبذله المجتهد في عملية
الاستنباط يتمثل في وضع العناصر المشتركة وتنظيمها ودراستها في علم
الأصول، لا في جمع العناصر الخاصة من النصوص والروايات وغيرها في
علم الفقه.
ولكن هذا التصور خاطئ إلى درجة كبيرة، لان المجتهد إذا درس
العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وحددها في علم الأصول لا يكتفي بعد
ذلك بتجميع أعمى للعناصر الخاصة من كتب الأحاديث والروايات مثلا، بل
يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة ونظرياتها
العامة على العناصر الخاصة. والتطبيق مهمة فكرية بطبيعتها تحتاج إلى
16

درس وتمحيص، ولا يغني الجهد العلمي المبذول أصوليا في دراسة العناصر
المشتركة وتحديد نظرياتها العامة عن بذل جهد جديد في التطبيق.
ولا نستطيع الآن أن نضرب الأمثلة المتنوعة لتوضيح دقة التطبيق، لان
فهم الأمثلة يتوقف على اطلاع مسبق على النظريات الأصولية العامة. ولهذا
نكتفي بمثال واحد بسيط، فنفرض أن المجتهد آمن في علم الأصول بحجية
الظهور العرفي بوصفه عنصرا مشتركا في عملية الاستنباط، فهل يكفيه بعد
هذا أن يضع إصبعه على رواية علي بن مهزيار التي حددت مجالات الخمس
مثلا، ليضيفها إلى العنصر المشترك ويستنبط من ذلك عدم وجوب الخمس
في ميراث الأب؟ أو ليس المجتهد بحاجة إلى تدقيق مدلول النص في الرواية
لمعرفة نوع مدلوله في العرف العام ودراسة كل ما يرتبط بتحديد ظهوره
العرفي من قرائن وأمارات داخل أطار النص أو خارجه، لكي يتمكن بأمانة
من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجية الظهور العرفي؟ فهناك إذن بعد
اكتشاف العنصر المشترك والايمان بحجية الظهور، مشكلة تعيين نوع الظهور
في النص ودراسة جميع ملابساته، حتى إذا تأكد المجتهد من تعيين الظهور
في النص ودلالته على عدم وجوب الخمس في الميراث، طبق على النص النظرية
العامة التي يقررها العنصر المشترك القائل بحجية الظهور العرفي، واستنتج
من ذلك أن الحكم الشرعي هو عدم وجوب الخمس.
وفي هذا الضوء نعرف أن البحث الفقهي عن العناصر الخاصة في عملية
الاستنباط ليس مجرد عملية تجميع، بل هو مجال التطبيق للنظريات العامة
التي تقررها العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، وتطبيق النظريات العامة
له دائما موهبته الخاصة ودقته، ومجرد الدقة في النظريات العامة لا يغني عن
الدقة في تطبيقها. ألا ترون أن من يدرس بعمق النظريات العامة في الطب
يحتاج في مجال تطبيقها على حالة مرضية إلى دقة وانتباه كامل وتفكير في
17

تطبيق تلك النظريات على المريض الذي بين يديه؟
فالبحث الأصولي عن العناصر المشتركة وما تقرره من نظريات عامة
يشابه بحث العالم الطبيب عن النظريات العامة في الطب، ودراسة الفقيه
للعناصر الخاصة في مجال تطبيق تلك النظريات العامة من قبيل دراسة الطبيب
لحالات المريض في مجال تطبيق النظريات العامة في الطب عليه، وكما قد
يحتاج الطبيب إلى قدر كبير من الدقة والجهد لكي يوفق لتطبيق تلك النظريات
العامة على مريضه تطبيقا صحيحا يمكنه من شفائه، فكذلك الفقه بعد أن
يخرج من دراسة علم الأصول بالعناصر المشتركة والنظريات العامة ويواجه
مسألة في نطاق البحث الفقهي من مسائل الخمس أو الصوم أو غيرهما، فهو
يحتاج أيضا إلى دقة وتفكير في طريقة تطبيق تلك العناصر المشتركة على
العناصر الخاصة بالمسألة تطبيقا صحيحا.
وهكذا نعرف أن علم الأصول الذي يمثل العناصر المشتركة هو " علم
النظريات العامة "، وعلم الفقه الذي يشتمل على العناصر الخاصة هو " علم
تطبيق تلك النظريات في مجال العناصر الخاصة "، ولكل منهما دقته وجهده
العلمي الخاص.
واستنباط الحكم الشرعي هو نتيجة مزج النظرية بالتطبيق، أي العناصر
المشتركة بالعناصر الخاصة، وعملية المزج هذه هي عملية الاستنباط، والدقة
في وضع النظريات العامة لا تغني عن الدقة في تطبيقها خلال عملية الاستنباط.
وقد أشار الشهيد الثاني إلى أهمية التطبيق الفقهي وما يتطلبه من دقة
إذ كتب في قواعده يقول: " نعم يشترط مع ذلك - أي مع وضع النظريات
العامة أن تكون له قوة يتمكن بها من رد الفروع إلى أصولها واستنباطها
منها، وهذه هي العمدة في هذا الباب... وإنما تلك القوة بيد الله يؤتيها من
يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده، ولكثرة المجاهدة والممارسة لأهلها
18

مدخل عظيم في تحصيلها ".
التفاعل بين الفكر الأصولي والفكر الفقهي:
عرفنا أن علم الأصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه، والعلاقة
بينهما علاقة النظرية بالتطبيق، لان علم الأصول يمارس وضع النظريات
العامة عن طريق تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، وعلم الفقه
يمارس تطبيق تلك النظريات والعناصر المشتركة على العناصر الخاصة التي
تختلف من مسألة إلى أخرى.
وهذا الترابط الوثيق بين علم الأصول وعلم الفقه يفسر لنا التفاعل
المتبادل بين الذهنية الأصولية ومستوى البحث العلمي على صعيد النظريات
من ناحية، وبين الذهنية الفقهية ومستوى البحث العلمي على صعيد التطبيق
من ناحية أخرى، لان توسع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظرية خطوة إلى
الامام، لأنه يثير أمامها مشاكل ويضطرها إلى وضع النظريات العامة لحلولها،
كما أن دقة البحث في النظريات تنعكس على صيد التطبيق، إذ كلما كانت
النظريات أدق تطلبت طريقة تطبيقها دقة وعمقا واستيعابا أكبر.
وهذا التفاعل المتبادل بين الذهنيتين والمستويين الفكريين لعلم الأصول
وعلم الفقه يؤكده تاريخ العلمين على طول الخط، وتكشف عنه بوضوح
دراسة المراحل التي مر بها البحث الفقهي والبحث الأصولي في تاريخ العلم
فقد كان علم الأصول يتسع ويثري تدريجا تبعا لتوسع البحث الفقهي، لان
اتساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار الممارسين إلى مشاكل جديدة،
فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة وتتخذ الحلول صورة العناصر المشتركة
في علم الأصول. كما أن تدقيق العناصر المشتركة في علم الأصول وتحديد
حدودها بشكل صارم كان ينعكس على مجال التطبيق، إذ كلما كانت
19

النظريات العامة موضوعة في صيغ أكثر صرامة وبدقة أكبر، كانت أكثر غموضا
وتطلبت في مجال التطبيق التفاتا أكبر وانتباها أكمل.
ولا نستطيع الآن - ونحن في الحلقة الأولى - أن نقدم النماذج من
العلمين على هذا التفاعل، لان الطالب لا يملك حتى الآن خبرة واسعة ببحوث
علم الأصول، ولكن يكفينا أن يعرف الطالب الآن أن التفاعل بين البحث
الفقهي والبحث الأصولي هو مصداق لخط عريض يعبر عن التفاعل المتبادل
في كثير من الأحايين بين بحوث النظرية وبحوث تطبيقها. أو ليس ممارسة
العالم الطبيب لتطبيق النظريات على مرضاه في نطاق واسع يوحي إليه بمشاكل
جديدة باستمرار، فيتولى بحث النظريات العامة العلمية في الطب حل تلك
المشاكل، ويتعمق تدريجا وينعكس بالتالي على التطبيق؟ إذ كلما ازداد
الرصيد النظري للطبيب أصبح التطبيق بالنسبة إليه عملا واسعا. وكلنا نعلم
أن طبيب الأمس كان يكتفي في مجال التطبيق بإحصاء نبض المريض فينتهي
عمله في لحظات، بينما يظل طبيب اليوم يدرس حالة المريض في عملية معقدة
واسعة النطاق.
ونفس ظاهرة التفاعل المتبادل بين الفكر الفقهي والفكر الأصولي الذي
يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى الفقه، نجدها بين الفكر العلمي إطلاقا والفكر
المنطقي العامي الذي يدرس النظام الأساسي للتفكير البشري، إذ كلما اتسع
نطاق المعرفة البشرية وتنوعت مجالاتها تجددت مشاكل في مناهج الاستدلال
والنظام العام للفكر، فيتولى المنطق تذليل تلك المشاكل وتطوير نظرياته وتكميلها
بالشكل الذي يحتفظ لنفسه بقوة التوجيه والتنظيم العليا للفكر البشري.
وعلى أي حال فإن فكرة التفاعل هذه سواء كانت بين علم الفقه ومنطقه
الخاص المتمثل في الأصول، أو بين العلوم كلها ومنطقها العام، أو بين بحث
أي نظرية وبحث تطبيقها، تحتاج إلى توضيح وشرح أوسع. ولا نستهدف
20

الآن من الإشارة إلى الفكرة إلا أن ينفتح ذهن الطالب لها ولو على
سبيل الاجمال.
نماذج من الأسئلة التي يجيب عليها علم الأصول:
ويحسن بنا أن نقدم قائمة تشتمل على نماذج من الأسئلة التي يعتبر
الجواب عليها من وظيفة علم الأصول، لنجسد بذلك للطالب الذي لا يملك
الآن خبرة ببحوث هذا العلم أهمية الدور الذي يلعبه علم الأصول في عملية
الاستنباط:
1 - ما هو الدليل على حجية خبر الثقة؟
2 - لماذا يجب أن نفسر النص الشرعي على ضوء العرف العام؟
3 - ماذا نصنع في مسألة إذا لم نجد فيها دليلا يكشف عن نوع الحكم
الشرعي فيها؟.
4 - ما هي قيمة الأكثرية في المسألة الفقهية؟ وهل يكتسب الرأي طابعا
شرعيا ملزما بالقبول إذا كان القائلون به أكثر عددا.
5 - كيف نتصرف إذا واجهنا نصين لا يتفق مدلول أحدهما مع
مدلول الآخر؟
6 - ما هو الموقف إذا كنا على يقين بحكم شرعي معين ثم شككنا
في استمراره؟
7 - ما هي الألفاظ التي تدل مباشرة على الوجوب والالزام؟ وهل
يعتبر منها فعل الامر، من قبيل: اغتسل، توضأ صل؟.
إلى عشرات من الأسئلة التي يتولى علم الأصول الجواب عليها، ويحدد بذلك
العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، ويملا كل الثغرات التي يمكن
أن تواجه الفقيه في عملية استنباطه للحكم الشرعي.
21

جواز عملية الاستنباط
في ضوء ما تقدم عرفنا أن علم الأصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى
عملية الاستنباط، لأنه يشتمل على عناصرها المشتركة ويمدها بقواعدها العامة
ونظامها الشامل، ولهذا لا يتاح للشخص أن يمارس عملية الاستنباط بدون
دراسة علم الأصول.
وما دام علم الأصول مرتبطا بعملية الاستنباط هذا الارتباط الوثيق
فيجب أن نعرف قبل كل شئ موقف الشريعة من هذه العملية، فهل سمح
الشارع لاحد بممارستها أو لا؟ فإن كان الشارع قد سمح بها فمن المعقول
أن يوضع علم باسم " علم الأصول " لدراسة عناصرها المشتركة، وأما إذا
كان الشارع قد حرمها فيلغو الاستنباط، وبالتالي يلغو علم الأصول رأسا
لان هذا العلم إنما وضع للتمكين من الاستنباط، فحيث لا استنباط لا توجد
حاجة إلى علم الأصول لأنه يفقد بذلك مبررات وجوده، فلا بد إذن أن تدرس
هذه النقطة بصورة أساسية.
والحقيقة أن هذه النقطة - أي مسألة جواز الاستنباط - حين تطرح
للبحث بالصيغة التي طرحناها، لا يبدو أنها جديرة بالتأمل والبحث العلمي،
لأننا حين نتسأل: هل يجوز لنا ممارسة عملية الاستنباط أو لا؟ يجئ
الجواب على البداهة بالايجاب، لان عملية الاستنباط هي - كما عرفنا سابقا -
عبارة عن " تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا استدلاليا "، ومن
البديهي أن الانسان بحكم تبعيته للشريعة ووجوب امتثال أحكامها عليه ملزم
بتحديد موقفه العملي منها، ولما لم تكن أحكام الشريعة غالبا في البداهة
22

والوضوح بدرجة تغني عن إقامة الدليل، فليس من المعقول أن يحرم على
الناس جميعا تحديد الموقف العملي تحديدا استدلاليا ويحجر عليهم النظر في
الأدلة التي تحدد موقفهم تجاه الشريعة، فعملية الاستنباط إذن ليست جائزة
فحسب بل من الضروري أن تمارس. وهذه الضرورة تنبع من واقع تبعية
الانسان للشريعة، والنزاع في ذلك على مستوى النزاع في البديهيات.
ولكن لسوء الحظ اتفق لهذه النقطة أن اكتسبت صيغة أخرى لا تخلو
عن غموض وتشويش، فأصبحت مثارا للاختلاف نتيجة لذلك الغموض
والتشويش، فقد استخدمت كلمة الاجتهاد للتعبير عن عملية الاستنباط وطرح
السؤال هكذا " هل يجوز الاجتهاد في الشريعة أو لا؟ " وحينما دخلت كلمة
الاجتهاد في السؤال - وهي كلمة مرت بمصطلحات عديدة في تاريخها -
أدت إلى إلقاء ظلال تلك المصطلحات السابقة على البحث، ونتج عن ذلك
أن تقدم جماعة من علمائنا المحدثين ليجيبوا على السؤال بالنفي، وبالتالي
ليشجبوا علم الأصول كله لأنه إنما يراد لاجل الاجتهاد، فإذا الغي الاجتهاد
لم تعد حاجة إلى علم الأصول.
وفي سبيل توضيح ذلك يجب أن نذكر التطور الذي مرت به كلمة
الاجتهاد، لكي نتبين كيف ان النزاع الذي وقع حول جواز عملية الاستنباط
والضجة التي أثيرت ضدها لم يكن إلا نتيجة فهم غير دقيق للاصطلاح العلمي.
وغفلة عن التطورات التي مرت بها كلمة الاجتهاد في تاريخ العلم.
* * *
الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد وهو " بذل الوسع للقيام بعمل ما "
وقد استعملت هذه الكلمة - لأول مرة - على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن
قاعدة من القواعد التي قررتها بعض مدراس الفقه السني وسارت على أساسها
وهي القاعدة القائلة: " إن الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكما شرعيا ولم يجد
23

نصا يدل عليه في الكتاب أو السنة رجع إلى الاجتهاد بدلا عن النص ".
والاجتهاد هنا يعني التفكير الشخصي، فالفقيه حيث لا يجد النص يرجع إلى
تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما يرجح في فكره الشخصي من تشريع،
وقد يعبر عنه بالرأي أيضا.
والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلا من أدلة الفقيه ومصدرا من مصادره
فكما أن الفقيه قد يستند إلى الكتاب أو السنة ويستدل بهما كذلك يستند
في حالات عدم توفر النص إلى الاجتهاد الشخصي ويستدل به.
وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، وعلى
رأسها مدرسة أبي حنيفة، ولقي في نفس الوقت معارضة شديدة من أئمة
أهل البيت (عليهم السلام) والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم، كما سنرى في
البحث المقبل.
وتتبع كلمة الاجتهاد يدل على أن الكلمة حملت هذا المعنى وكانت
تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمة إلى القرن السابع، فالروايات المأثورة
عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تذم الاجتهاد وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتخذ
من التفكير الشخصي مصدرا من مصادر الحكم، وقد دخلت الحملة ضد هذا
المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمة أيضا والرواة الذين حملوا آثارهم
وكانت الحملة تستعمل كلمة الاجتهاد غالبا للتعبير عن ذلك المبدأ وفقا للمصطلح
الذي جاء في الروايات، فقد صنف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري كتابا أسماه
" الاستفادة في الطعون على الأوائل والرد على أصحاب الاجتهاد والقياس "
وصنف هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني كتابا في الموضوع باسم كتاب
" الرد على من رد آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول "، وصنف في
عصر الغيبة الصغرى أو قريبا منه إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل
النوبختي كتابا في الرد على عيسى بن أبان في الاجتهاد، كما نص على ذلك
24

كله النجاشي صاحب الرجال في ترجمة كل واحد من هؤلاء.
وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل
تلك الحملة، ونذكر له - على سبيل المثال - تعقيبة في كتابه على قصة موسى
والخضر، إذ كتب يقول: " إن موسى - مع كمال عقله وفضله ومحله من
الله تعالى - لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر حتى اشتبه
عليه وجه الامر به، فإذا لم يجز لأنبياء الله ورسله القياس والاستدلال
والاستخراج كان من دونهم من الأمم أولى بأن لا يجور لهم ذلك... فإذا
لم يصلح موسى للاختيار - مع فضله ومحله - فكيف تصلح الأمة لاختيار
الامام، وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم
الناقصة وآرائهم المتفاوتة ".
وفي أواخر القرن الرابع يجئ الشيخ المفيد فيسير على نفس الخط
ويهجم على الاجتهاد، وهو يعبر بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف
الذكر ويكتب كتابا في ذلك باسم " النقص على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي ".
ونجد المصطلح نفسه لدى السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس
إذ كتب في الذريعة يذم الاجتهاد ويقول: " إن الاجتهاد باطل، وإن الامامية
لا يجور عندهم العمل بالظن ولا الرأي ولا الاجتهاد " وكتب في كتابه الفقهي
" الانتصار " معرضا بابن الجنيد - قائلا " إنما عول ابن الجنيد في هذه
المسألة على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطأه ظاهر " وقال في مسألة مسح
الرجلين في فصل الطهارة من كتاب الانتصار: " إنا لا نرى الاجتهاد ولا
نقول به ".
واستمر هذا الاصطلاح في كلمة الاجتهاد بعد ذلك أيضا، فالشيخ
الطوسي الذي توفي في أوساط القرن الخامس يكتب في كتاب العدة قائلا:
" أما القياس والاجتهاد فعندنا انهما ليسا بدليلين، بل محظور في
25

الشريعة استعمالهما ".
وفي أواخر القرن السادس يستعرض ابن إدريس في مسألة تعارض
البينتين من كتابه السرائر عددا من المرجحات لاحدى البينتين على الأخرى،
ثم يعقب ذلك قائلا: " ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا، والقياس
والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا ".
وهكذا تدل هذه النصوص بتعاقبها التاريخي المتتابع على أن كلمة
الاجتهاد كانت تعبيرا عن ذلك المبدأ الفقهي المتقدم إلى أوائل القرن السابع،
وعلى هذا الأساس اكتسبت الكلمة لونا مقيتا وطابعا من الكراهية والاشمئزاز
في الذهنية الفقهية الامامية نتيجة لمعارضة ذلك المبدأ والايمان ببطلانه.
ولكن كلمة الاجتهاد تطورت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا، ولا يوجد
لدينا الآن نص شيعي يعكس هذا التطور أقدم تاريخا من كتاب المعارج
للمحقق الحلي المتوفى سنة (676)، إذ كتب المحقق تحت عنوان حقيقة
الاجتهاد يقول: " وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية
، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الاحكام من أدلة الشرع اجتهادا،
لأنها تبتني على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر
سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره، فيكون القياس على هذا التقرير أحد
أقسام الاجتهاد. فإن قيل: يلزم - على هذا - إن يكون الامامية من
أهل الاجتهاد. قلنا: الامر كذلك لكن فيه إيهام من حيث أن القياس من
جملة الاجتهاد، فإذا استثني القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الاحكام
بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس ".
ويلاحظ على هذا النص بوضوح أن كلمة الاجتهاد كانت لا تزال في
الذهنية الامامية مثقلة بتبعة المصطلح الأول، ولهذا يلمح النص إلى أن هناك
من يتحرج من هذا الوصف ويثقل عليه أن يسمى فقهاء الامامية مجتهدين.
26

ولكن المحقق الحلي لم يتحرج عن اسم الاجتهاد بعد أن طوره أو تطور في
عرف الفقهاء تطويرا يتفق مع مناهج الاستنباط في الفقه الامامي، إذ بينما
كان الاجتهاد مصدرا للفقيه يصدر عنه ودليلا يستدل به كما يصدر عن آية
أو رواية، أصبح في المصطلح الجديد يعبر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في
استخراج الحكم الشرعي من أدلته ومصادره، فلم يعد مصدرا من مصادر
الاستنباط، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه.
والفرق بين المعنيين جوهري للغاية، إذ كان للفقيه على أساس المصطلح
الأول للاجتهاد أن يستنبط من تفكيره الشخصي وذوقه الخاص في حالة عدم
توفر النص، فإذا قيل له: ما هو دليلك ومصدر حكمك هذا؟ استدل
بالاجتهاد وقال: الدليل هو اجتهادي وتفكيري الخاص وأما المصطلح
الجديد فهو لا يسمح للفقيه أن يبرر أي حكم من الاحكام بالاجتهاد، لان
الاجتهاد بالمعني الثاني ليس مصدرا للحكم بل هو عملية استنباط الاحكام
من مصادرها، فإذا قال الفقيه " هذا اجتهادي " كان معناه أن هذا هو ما
استنبطه من المصادر والأدلة، فمن حقنا أن نسأله ونطلب منه أن يدلنا على
تلك المصادر والأدلة التي استنبط الحكم منها.
وقد مر هذا المعني الجديد لكلمة الاجتهاد بتطور أيضا، فقد حدده
المحقق الحلي في نطاق عمليات الاستنباط التي لا تستند إلى ظواهر النصوص
فكل عملية استنباط لا تستند إلى ظواهر النصوص تسمى اجتهادا دون
ما يستند إلى تلك الظواهر. ولعل الدافع إلى هذا التحديد أن استنباط
الحكم من ظاهر النص ليس فيه كثير جهد أو عناء علمي ليسمى اجتهادا.
ثم اتسع نطاق الاجتهاد بعد ذلك فأصبح يشمل عملية استنباط الحكم
من ظاهر النص أيضا، لان الأصوليين بعد هذا لاحظوا بحق أن عملية استنباط
الحكم من ظاهر النص تستبطن كثيرا من الجهد العلمي في سبيل معرفة الظهور
27

وتحديده وإثبات حجية الظهور العرفي. ولم يقف توسع الاجتهاد كمصطلح
عند هذا الحد، بل شمل في تطور حديث عملية الاستنباط بكل ألوانها
فدخلت في الاجتهاد كل عملية يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العملي تجاه
الشريعة عن طريق إقامة الدليل على الحكم الشرعي أو على تعيين الموقف
العملي مباشرة.
وهكذا أصبح الاجتهاد يرادف عملية الاستنباط، وبالتالي أصبح علم
الأصول العلم الضروري للاجتهاد لأنه العلم بالعناصر المشتركة في عملية
الاستنباط.
وهذه التطورات التي مرت بها كلمة الاجتهاد كمصطلح ترتبط بتطورات
نفس الفكر العلمي إلى حد ما، وهذا ما قد يمكن توضيحه خلال دراستنا
لتاريخ علم الأصول.
* * *
على هذا الضوء يمكننا أن نفسر موقف جماعة من المحدثين عارضوا
الاجتهاد وبالتالي شجبوا علم الأصول، فإن هؤلاء استفزتهم كلمة الاجتهاد
لما تحمل من تراث المصطلح الأول الذي شن أهل البيت (عليهم السلام) حملة شديدة
عليه، فحرموا الاجتهاد الذي حمل المجتهدون من فقهائنا رايته، واستدلوا
على ذلك بموقف الأئمة (عليهم السلام) ومدرستهم الفقهية ضد الاجتهاد، وهم
لا يعلمون أن ذلك الموقف كان ضد المعني الأول للاجتهاد، والفقهاء من
الأصحاب قالوا بالمعني الثاني للكلمة.
وهكذا واجهت عملية الاستنباط هجوما مريرا من هؤلاء باسم الهجوم
على الاجتهاد، وتحملت التبعات التاريخية لهذه الكلمة، وبالتالي امتد
الهجوم إلى علم الأصول لارتباطه بعملية الاستنباط والاجتهاد.
ونحن بعد أن ميزنا بين معنيي الاجتهاد نستطيع أن نعيد إلى المسألة.
28

بداهتها، ونتبين بوضوح أن جواز الاجتهاد بالمعني المرادف لعملية الاستنباط
من البديهيات.
وما دامت عملية استنباط الحكم الشرعي جائزة بالبداهة فمن الضروري
أن يحتفظ بعلم الأصول لدراسة العناصر المشتركة في هذا العملية.
ويبقى علينا - بعد أن أثبتنا جواز عملية الاستنباط في الاسلام - أن
ندرس نقطتين:
إحداهما هي: أن الاسلام هل يسمح بهذه العملية في كل عصر ولكل
فرد، أو لا يسمح بها إلا لبعض الافراد وفي بعض العصور؟
والنقطة الأخرى هي: أن الاسلام كما يسمح له باستنباط حكم غيره وإفتائه بذلك؟ وسوف ندرس
هاتين النقطتين في بعض الحلقات المقبلة التي أعددناها لمراحل أعلى من دراسة
هذا العلم.
29

الوسائل الرئيسة للاثبات في علم الأصول
عرفنا أن عملية الاستنباط تتألف من عناصر مشتركة وعناصر خاصة
وأن علم الأصول هو علم العناصر المشتركة في علمية الاستنباط ففيه تدرس
هذه العناصر وتحدد وتنظم.
وما دام علم الأصول هو العلم الذي يتكفل بدراسة تلك العناصر فمن
الطبيعي أن يبرز هذا السؤال الأساسي: ما هي وسائل الاثبات التي يستخدمها
علم الأصول، لكي يثبت بها حجية الخبر أو حجية الظهور العرفي، أو غير
ذلك من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟.
ونظير هذا السؤال يواجهه كل علم، فبالنسبة إلى العلوم الطبيعية نسأل
مثلا: ما هي وسائل الاثبات التي تستخدمها هذه العلوم لاكتشاف قوانين
الطبيعة وإثباتها؟ والجواب هو أن وسيلة الاثبات الرئيسية في العلوم الطبيعية
هي التجربة. وبالنسبة إلى علم النحو يسأل أيضا ما هي وسائل الاثبات
التي يستخدمها النحوي لاكتشاف قوانين إعراب الكلمة وتحديد حالات
رفعها ونصبها؟ والجواب هو أن الوسيلة الرئيسية للاثبات في علم النحو
هي النقل عن المصادر الأصلية للغة وكلمات أبنائها الأولين. فلا بد لعلم
الأصول إذن أن يواجه هذا السؤال وأن يحدد منذ البدء وسائل الاثبات
التي ينبغي أن يستخدمها لاثبات العناصر المشتركة وتحديدها.
وفي هذا المجال نقول: إن الوسائل الرئيسية التي ينبغي لعلم الأصول
أن يستخدمها مردها إلى وسيلتين رئيسيتين، وهما:
30

1 - البيان الشرعي (الكتاب والسنة).
2 - (الادراك العقلي.
فلا تكتسب أي قضية طابع العنصر المشترك في عملية الاستنباط، ولا
يجوز إسهامها في العملية إذا أمكن إثباتها بإحدى هاتين الوسيلتين
الرئيسيتين، فإذا حاول الأصولي مثلا أن يدرس حجية الخبر لكي يدخله
في عملية الاستنباط - إذا كان حجة - يطرح على نفسه هذين السؤالين:
هل ندرك بعقولنا أن الخبر حجة وملزم بالاتباع أم لا؟
وهل يوجد بيان شرعي يدل على حجيته؟
ويحاول الأصولي في بحثه الجواب على هذين السؤالين وفقا للمستوى
الذي يتمتع به من الدقة والانتباه، فإذا انتهى الباحث من دراسته إلى الإجابة
بالنفي على كلا السؤالين كان معنى ذلك أنه لا يملك وسيلة لاثبات حجية
الخبر، وبالتالي يستبعد الخبر عن نطاق الاستنباط. وأما إذا استطاع الباحث
أن يجيب بالايجاب على أحد السؤالين أدى هذا إلى اثبات حجية الخبر
ودخولها في عملية الاستنباط بوصفها عنصرا أصوليا مشتركا.
وسوف نرى خلال البحوث المقبلة أن عددا من العناصر المشتركة قد تم
إثباتها بالوسيلة الأولى - أي البيان الشرعي - وعددا آخر ثبت بالوسيلة
الثانية - أي الادراك العقلي - فمن قبيل الأول حجية الخبر وحجية
الظهور العرفي، ومن نماذج الثاني القانون القائل: " ان الفعل لا يمكن
أن يكون واجبا وحراما في وقت واحد ".
وعلى ضوء ما تقدم نعرف أن من الضروري - قبل البدء في بحوث
علم الأصول لدراسة العناصر المشتركة - أن ندرس الوسائل الرئيسية التي
ينبغي للعلم استخدامها في سبيل إثبات تلك العناصر، ونتكلم عن حدودها
لكي نستطيع بعد هذا أن نستخدمها وفقا لتلك الحدود.
31

البيان الشرعي:
البيان الشرعي هو إحدى الوسيلتين الرئيسيتين لاثبات العناصر التي
تساهم في عملية الاستنباط. ونقصد بالبيان الشرعي ما يلي:
1 - " الكتاب الكريم " وهو القرآن الذي أنزل بمعناه ولفظه على
سبيل الاعجاز وحيا على أشرف المرسلين (صلى الله عليه وآله).
2 - " السنة " وهي كل بيان صادر من الرسول (صلى الله عليه وآله) أو أحد الأئمة
المعصومين (عليهم السلام) والبيان الصادر منهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 - " البيان الايجابي القولي " وهو الكلام الذي يتكلم به المعصوم
عليه السلام.
2 - " البيان الايجابي الفعلي " وهو الفعل الذي يصدر من المعصوم
عليه السلام.
3 - " البيان السلبي " وهو تقرير المعصوم (عليه السلام)، أي سكوته عن وضع
معين بنحو يكشف عن رضاه بذلك الوضع وانسجامه مع الشريعة.
ويجب الاخذ بكل هذه الأنواع من البيان الشرعي، وإذا دل شئ منها
على عنصر مشترك من عناصر عملية الاستنباط ثبت ذلك العنصر المشترك
واكتسب طابعه الشرعي.
وفي هذا المجال توجد عدة بحوث نتركها للحلقات المقبلة انشاء الله تعالى.
الادراك العقلي:
الادراك العقلي هو الوسيلة الرئيسية الثانية التي تستخدم في بحوث
هذا العلم لاثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، إذ قد يكون العنصر
المشترك في عملية الاستنباط مما ندركه بعقولنا دون حاجة إلى بيان شرعي
32

لاثباته، من قبيل القانون القائل: " إن الفعل لا يمكن أن يكون حراما
وواجبا في وقت واحد "، فإننا لا نحتاج في إثبات هذا القانون إلى بيان
شرعي يشتمل على صيغة للقانون من هذا القبيل، بل هو ثابت عن طريق
العقل، لان العقل يدرك أن الوجوب والحرمة صفتان متضادتان، وأن الشئ
الواحد لا يمكن أن يشتمل على صفتين متضادتين، فكما لا يمكن أن يتصف
الجسم بالحركة والسكون في وقت واحد كذلك لا يمكن أن يتصف الفعل
بالوجوب والحرمة معا.
والادراك العقلي له مصادر متعددة ودرجات مختلفة.
فمن ناحية المصادر ينقسم الادراك العقلي إلى أقسام:
(منها) الادراك العقلي القائم على أساس الحس والتجربة. ومثاله
إدراكنا أن الماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته مئة، وأن وضعه على النار إلى
مدة طويلة يؤدي إلى غليانه.
(ومنها) الادراك العقلي القائم على أساس البداهة. ومثاله إدراكنا
جميعا أن الواحد نصف الاثنين، وأن الضدين لا يجتمعان، وأن الكل أكبر
من الجزء. فإن هذه الحقائق بديهية ينساق إليها الذهن بطبيعته دون عناء
أو تأمل.
(ومنها) الادراك القائم على أساس التأمل النظري. ومثاله إدراكنا
أن المعلول يزول إذا زالت علته، فإن هذه الحقيقة ليست بديهية، ولا ينساق
إليها الذهن بطبيعته، وإنما ندرك بالتأمل عن طريق البرهان والاستدلال.
ومن ناحية الدرجات ينقسم الادراك العقلي إلى درجات:
(فمنه) الادراك الكامل القطعي. وهو أن ندرك بعقولنا حقيقة من
الحقائق إدراكا لا نتحمل فيه الخطأ والاشتباه، كإدراكنا أن زوايا المثلث
تساوى قائمتين، وأن الضدين لا يجتمعان، وأن الأرض كروية، وأن الماء
33

يكتسب الحرارة من النار إذا وضع عليها.
(ومن الادراك العقلي) ما يكون ناقصا. والادراك الناقص هو اتجاه
العقل نحو ترجيح شئ دون الجزم به لاحتمال الخطأ، كادراكنا أن الجواد
الذي سبق في مناورات سابقة سوف يسبق في المرة القادمة أيضا، وأن الدواء
الذي نجح في علاج أمراض معينة سوف ينجح في علاج أعراض مرضية
مشابهة، وأن الفعل المشابه للحرام في أكثر خصائصه يشاركه في الحرمة.
والسؤال الأساسي في هذا البحث: ما هي حدود العقل أو الادراك
العقلي الذي يقوم بدور الوسيلة الرئيسية لاثبات العناصر المشتركة في عملية
الاستنباط؟ فهل يمكن استخدام الادراك العقلي كوسيلة للاثبات مهما كان
مصدره ومهما كانت درجته، أو لا يجوز استخدام الادراك العقلي كوسيلة
للاثبات إلا ضمن حدود معينة من ناحية المصدر أو الدرجة.
وقد اتجه البحث حول هذه النقطة نحو معالجة الدرجة أكثر من اتجاهه
نحو معالجة المصدر، فاتسعت الدراسات الأصولية التي تناولت حدود العقل
من ناحية الدرجة، واختلفت الاتجاهات حول مدى شمول العقل وحدوده
- بوصفه وسيلة إثبات رئيسية - فهل يشمل الادراكات الناقصة التي تؤدي
إلى مجرد الترجيح أو يختص بالادراك الكامل المنتج للجزم؟.
ولهذا البحث تاريخه الزاخر في علم الأصول وفي تاريخ الفكر الفقهي،
كما سنرى.
الاتجاهات المتعارضة في الادراك العقلي
وقد شهد تاريخ التفكير الفقهي اتجاهين متعارضين في هذه النقطة كل
التعارض، يدعو أحدهما إلى اتخاذ العقل في نطاقة الواسع الذي يشمل
الادراكات الناقصة، وسيلة رئيسية للاثبات في مختلف المجالات التي يمارسها
34

الأصولي والفقيه. والآخر يشجب العقل ويجرده إطلاقا عن وصفه وسيلة
رئيسية للاثبات، ويعتبر البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن
استخدامها في عمليات الاستنباط.
ويقف بين هذين الاتجاهين المتطرفين اتجاه ثالث معتدل يتمثل في جل
فقهاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو الاتجاه الذي يؤمن - خلافا للاتجاه
الثاني - بأن العقل أو الادراك العقلي وسيلة رئيسية صالحة للاثبات إلى
صف البيان الشرعي، ولكن لا في نطاق منفتح - كما زعمه الاتجاه الأول -
بل ضمن النطاق الذي تتوفر فيه للانسان القناعة التامة والادراك الكامل
الذي لا يوجد في مقابله احتمال الخطأ، فكل ادراك عقلي يدخل ضمن هذا
النطاق ويستبطن الجزم الكامل فهو وسيلة إثبات، وأما الادراك العقلي
الناقص الذي يقوم على أساس الترجيح ولا يتوفر فيه عنصر الجزم فلا يصلح
وسيلة إثبات لاي عنصر من عناصر عملية الاستنباط.
فالعقل في رأي الاتجاه الثالث أداة صالحة للمعرفة، وجديرة بالاعتماد
عليها والاثبات بها إذا أدت إلى إدراك حقيقة من الحقائق إدراكا كاملا لا يشوبه شك. فلا كفران بالعقل كأداة للمعرفة، ولا أفراط في الاعتماد
عليه فيما لا ينتج عنه إدراك كامل.
وقد تطلب هذا الاتجاه المعتدل الذي مثله جل فقهاء مدرسة أهل البيت
عليهم السلام أن يخوضوا المعركة في جبهتين: إحداهما المعركة ضد أنصار
الاتجاه الأول الذي كانت مدرسة الرأي في الفقه تتبناه بقيادة جماعة من
أقطاب علماء العامة، والأخرى المعركة ضد حركة داخلية نشأت داخل صفوف
الفقهاء الاماميين متمثلة في المحدثين والأخباريين من علماء الشيعة الذين
شجبوا العقل وادعوا أن البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يجوز استخدامها للاثبات، وهكذا نعرف أن المعركة الأولى كانت ضد استغلال
35

العقل والأخرى كانت إلى صفه.
1 المعركة صد استغلال العقل
قامت منذ أواسط القرن الثاني مدرسة فقهية واسعة النطاق تحمل اسم
مدرسة الرأي والاجتهاد بالمعنى الأول الذي تقدم في البحث السابق، وتطالب
باتخاذ العقل بالمعنى الواسع الذي يشمل الترجيح والظن والتقدير الشخصي
للموقف، أداة رئيسية للاثبات إلى صف البيان الشرعي، ومصدرا للفقيه
في الاستنباط، وأطلقت عليه اسم الاجتهاد.
وكان على رأس هذه المدرسة أو من روادها الأولين أبو حنيفة المتوفى
سنة (150) والمأثور عن رجالات هذه المدرسة أنهم كانوا حيث لا يجدون
بيانا شرعيا يدل على الحكم يدرسون المسألة على ضوء أذواقهم الخاصة
وما يدركون من مناسبات وما يتفق عنه تفكيرهم الخاص من مرجحات لهذا
التشريع على ذاك ويفتون بما يتفق مع ظنهم وترجيحهم ويسمون ذلك
استحسانا أو اجتهادا.
والمعروف عن أبي حنيفة أنه كان متفوقا في ممارسة هذا النوع من العمل
الفقهي، فقد روي عن تلميذه محمد بن الحسن أن أبا حنيفة كان يناظر
أصحابه فينتصفون منه ويعارضونه حتى إذا قال: استحسن لم يلحقه أحد.
وجاء في كلام له وهو يحدد نهجه العام في الاستنباط " إني آخذ بكتاب
الله إذا وجدته، فما لم أجده أخذت بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإذا لم أجد في
كتاب الله ولا سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع من
شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى غيرهم، فإذا انتهى الامر إلى إبراهيم والشعبي
والحسن وابن سيرين فلي أن أجتهد كما اجتهدوا ".
والفكرة الأساسية التي دعت إلى قيام هذه المدرسة وتبني العقل المنفتح
36

بوصفه وسيلة رئيسية للاثبات ومصدرا لاستنباط الحكم هي الفكرة الشائعة
في صفوف تلك المدرسة التي كانت تقول: " إن البيان الشرعي المتمثل في
الكتاب والسنة قاصر لا يشتمل إلا على أحكام قضايا محدودة، ولا يتسع
لتعيين الحكم الشرعي في كثير من القضايا والمسائل ".
وقد ساعد على شيوع هذه الفكرة في صفوف فقهاء العامة اتجاههم
المذهبي السني، إذ كانوا يعتقدون أن البيان الشرعي يتمثل في الكتاب والسنة
النبوية المأثورة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) فقط، ولما كان هذا لا يفي إلا بجزء من
حاجات الاستنباط اتجهوا إلى علاج الموقف وإشباع هذه الحاجات عن طريق
تمطيط العقل والمناداة بمبدأ الاجتهاد. وأما فقهاء الامامية فقد كانوا على
العكس من ذلك بحكم موقفهم المذهبي، لأنهم كانوا يؤمنون بأن البيان
الشرعي لا يزال مستمرا باستمرار الأئمة (عليهم السلام) فلم يوجد لديهم أي دافع نفسي
للتوسع غير المشروع في نطاق العقل.
وعلى أي حال فقد شاعت فكرة عدم كفاية الكتاب والسنة لاشباع
حاجات الاستنباط، ولعبت دورا خطيرا في عقلية كثير من فقهاء العامة ووجهتهم
نحو الاتجاه العقلي المتطرف.
وتطورت هذه الفكرة وتفاقم خطرها بالتدريج، إذ انتقلت الفكرة من
اتهام القرآن والسنة - أي البيان الشرعي - بالنقص وعدم الدلالة على
الحكم في كثير من القضايا، إلى اتهام نفس الشريعة بالنقص وعدم استيعابها
لمختلف شؤون الحياة، فلم تعد المسألة مسألة نقصان في البيان والتوضيح
بل في التشريع الإلهي بالذات. ودليلهم على النقص المزعوم في الشريعة هو
أنها لم تشرع لتبقى في ضمير الغيب محجوبة عن المسلمين، وإنما شرعت
وبينت عن طريق الكتاب والسنة لكي يعمل بها وتصبح منهاجا للأمة في حياتها
ولما كانت نصوص الكتاب والسنة في رأي العامة لا تشمل على أحكام
37

كثير من القضايا والمسائل، فيدل ذلك على نقص الشريعة وأن الله لم يشرع
في الاسلام إلا أحكاما معدودة، وهي الاحكام التي جاء بيانها في الكتاب
والسنة وترك التشريع في سائر المجالات الأخرى إلى الناس أو إلى الفقهاء
من الناس بتعمير أخص ليشرعوا الاحكام على أساس الاجتهاد والاستحسان،
على شرط أن لا يعارضوا في تشريعهم تلك الأحكام الشرعية المحدودة المشرعة
في الكتاب والسنة النبوية.
وقد رأينا أن الاتجاه العقلي المتطرف كان نتيجة لشيوع فكرة النقص
وانعكاسها، وحين تطورت فكرة النقص من اتهام البيان إلى اتهام نفس
الشريعة انعكس هذه التطور أيضا على مجال الفكر السني، ونتج عنه القول
بالتصويب الذي وصل فيه ذلك الاتجاه العقلي المتطرف إلى قصارى مداه،
ولتوضيح ذلك لا بد من إعطاء فكرة عن القول بالتصويب.
القول بالتصويب:
بعد أن استباح فقهاء مدرسة الرأي والاجتهاد، لأنفسهم أن يعملوا
بالترجيحات والظنون والاستحسانات وفقا للاتجاه العقلي المتطرف، كان من
الطبيعي أن تختلف الاحكام التي يتوصلون إليها عن طريق الاجتهاد تبعا
لاختلاف أذواقهم وطرائق تفكيرهم ونوع المناسبات التي يهتمون بها. فهذا
يرجح في رأيه الحرمة لان الفعل فيه ضرر، وذاك يرجح الإباحة لان في ذلك
توسعة على العباد، وهكذا. ومن هنا نشأ السؤال التالي: ما هو مدى
حظ المجتهدين المختلفين من إصابة الواقع؟ فهل يعتبرون جميعا مصيبين ما
دام كل واحد منهم قد عبر عن اجتهاده الشخصي؟ أو أن المصيب واحد فقط
والباقون مخطئون؟
وقد شاع في صفوف مدرسة الرأي القول بأنهم جميعا مصيبون، لان
38

الله ليس له حكم ثابت عام في مجالات الاجتهاد التي لا يتوفر فيها النص،
وإنما يرتبط تعيين الحكم بتقدير المجتهد وما يؤدي إليه رأيه واستحسانه،
وهذا هو القول بالتصويب.
وفي هذا الضوء نتبين بوضوح ما ذكرناه آنفا من أن القول بالتصويب
يعكس تطور فكرة النقص وتحولها إلى اتهام مباشر للشريعة بالنقص وعدم
الشمول، الامر الذي سوغ لهؤلاء الفقهاء أن ينفوا وجود حكم شرعي ثابت
في مجالات الاجتهاد ويصوبوا المجتهدين المختلفين جميعا.
وهكذا نعرف أن فكرة النقص في البيان الشرعي دفعت إلى الاتجاه
العقلي المتطرف تعويضا عن النقص المزعوم في البيان الشرعي، وحينما تطورت
فكرة النص إلى اتهام الشريعة نفسها بالنقصان وعدم الشمول أدى ذلك
إلى تمخض الاتجاه العقلي المتطرف عن القول بالتصويب.
وهذا التطور في فكرة النقص الذي أدى إلى اتهام الشريعة بالنقصان
وتصويب المجتهدين المختلفين جميعا، أحدث تغييرا كبيرا في مفهوم العقل
أو الاجتهاد الذي يأخذ به أنصار الاتجاه العقلي المتطرف، فحتى الآن كنا
نتحدث عن العقل والادراك العقلي بوصفه وسيلة إثبات، أي كاشفا عن الحكم
الشرعي كما يكشف عنه البيان في الكتاب أو السنة، ولكن فكرة النقص
في الشريعة التي قام على أساسها القول بالتصويب تجعل عمل الفقيه في مجالات
الاجتهاد عملا تشريعيا لا اكتشافيا، فالعقل بمعناه المنفتح أو الاجتهاد في
مصطلح الاتجاه العقلي المتطرف لم يعد - على أساس فكرة النقص في
الشريعة - كاشفا عن الحكم الشرعي، إذ لا يوجد حكم شرعي ثابت في
مجالات الاجتهاد ليكشف عنه الاجتهاد، وإنما هو أساس لتشريع الحكم من
قبل المجتهد وفقا لما يؤدي إليه رأيه. وهكذا يتحول الاجتهاد على ضوء
القول بالتصويب إلى مصدر تشريع، ويصبح الفقيه متشرعا في مجالات الاجتهاد
39

ومكتشفا في مجالات النص.
ولسنا نريد الآن أن ندرس القول بالتصويب ونناقشه، وإنما نستهدف
الكشف عن خطورة الاتجاه العقلي المتطرف وأهمية المعركة التي خاضتها
مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ضد هذا الاتجاه، إذ لم تكن معركة ضد اتجاه أصولي
فحسب بل هي في حقيقتها معركة للدفاع عن الشريعة وتأكيد كمالها واستيعابها
وشمولها لمختلف مجالات الحياة، ولهذا استفاضت الأحاديث عن أئمة أهل
البيت (عليهم السلام) في عصر تلك المعركة تؤكد اشتمال الشريعة على كل ما تحتاج
إليه الانسانية من أحكام وتنظيم في شتى مناحي حياتها، وتؤكد أيضا وجود
البيان الشرعي الكافي لكل تلك الأحكام متمثلا في الكتاب والسنة النبوية
وأقوالهم عليهم السلام. وفيما يلي نذكر جملة من تلك الأحاديث عن أصول
الكافي:
1 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن الله تعالى أنزل في القرآن
تبيان كل شئ، حتى والله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع
عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه ".
2 - عنه (عليه السلام) أيضا أنه قال: " ما من شئ إلا وفيه كتاب أو سنة ".
3 - وعن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قيل له: أكل شئ في كتاب
الله وسنة نبيه أو تقولون فيه؟ قال: " بل كل شئ في كتاب الله وسنة نبيه ".
4 - وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) يصف فيه الجامعة التي تضم
أحكام الشريعة، فيقول: فيها كل حلال وحرام وكل شئ يحتاج إليه الناس
حتى الأرش في الخدش.
رد الفعل المعاكس في النطاق السني:
ولا يعني خوض مدرسة أهل البيت معركة حامية ضد الاتجاه العقلي
40

المتطرف أن هذا الاتجاه كان مقبولا على الصعيد السني بصورة عامة، وأن
المعارضة كانت تتمثل في الفقه الامامي خاصة، بل إن الاتجاه العقلي المتطرف
قد لقي معارضة في النطاق السني أيضا، وكانت له ردود فعل معاكسة في
مختلف حقول الفكر.
فعلى الصعيد الفقهي تمثل رد الفعل في قيام المذهب الظاهري على يد
داود بن علي بن خلف الأصبهاني في أواسط القرن الثالث، إذ كان يدعوا
إلى العمل بظاهر الكتاب والسنة والاقتصار على البيان الشرعي، ويشجب
الرجوع إلى العقل.
وانعكس رد الفعل على البحوث العقائدية والكلامية متمثلا في الاتجاه
الأشعري الذي عطل العقل وزعم أنه ساقط بالمرة عن إصدار الحكم حتى
في المجال العقائدي. فبينما كان المقرر عادة بين العلماء: أن وجوب المعرفة
بالله والشريعة ليس حكما شرعيا وإنما هو حكم عقلي، لان الحكم الشرعي
ليس له قوة دفع وتأثير في حياة الانسان إلا بعد أن يعرف الانسان ربع وشريعته،
فيجب أن تكون القوة الدافعة إلى معرفة ذلك من نوع آخر غير نوع الحكم
الشرعي، أي أن تكون من نوع الحكم العقلي. أقول: بينما كان هذا هو
المقرر عادة بين المتكلمين خالف في ذلك الأشعري، إذ عزل العقل عن صلاحية
إصدار أي حكم وأكد أن وجوب المعرفة بالله حكم شرعي كوجوب الصوم
والصلاة.
وامتد رد الفعل إلى علم الاخلاق - وكان وقتئذ يعيش في كنف علم
الكلام - فأنكر الأشاعرة قدرة العقل على تمييز الحسن من الأفعال عن
قبيحها حتى في أوضح الأفعال حسنا أو قبحا، فالظلم والعدل لا يمكن للعقل
أن يميز بينهما، وإنما صار الأول قبيحا والثاني حسنا بالبيان الشرعي، ولو
جاء البيان الشرعي يستحسن الظلم ويستقبح العدل لم يكن للعقل أي حق
41

للاعتراض على ذلك.
وردود الفعل هذه كانت تشمل على نكسة وخطر كبير قد لا يقل عن
الخطر الذي كان الاتجاه العقلي المتطرف يستنبطه، لأنها اتجهت إلى القضاء
على العقل بشكل مطلق، وتجريده عن كثير من صلاحياته، وإيقاف النمو
العقلي في الذهنية الاسلامية بحجة التعبد بنصوص الشارع والحرص على
أهل البيت (عليهم السلام) التي كانت تحارب الاتجاه العقلي المتطرف، وتؤكد في نفس
الوقت أهمية العقل وضرورة الاعتماد عليه في الحدود المشروعة واعتباره
ضمن تلك الحدود أداة رئيسية للاثبات إلى صف البيان الشرعي، حتى جاء
في نصوص أهل البيت (عليهم السلام) " إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة
باطنة: فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول ".
وهذا النص يقرر - بوضوح - وضع العقل إلى صف البيان الشرعي
أداة رئيسية للاثبات.
وهكذا جمعت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بين حماية الشريعة من فكرة
النقص وحماية العقل من مصادرة الجامدين.
وسوف نعود إلى الموضوع بصورة عملية موسعة في الحلقات المقبلة.
2 المعركة إلى صف العقل
وأما الاتجاه الآخر المتطرف في إنكار العقل وشجبه الذي وجد داخل
نطاق الفكر الامامي فقد تمثل في جماعة من علمائنا اتخذوا اسم " الأخباريين
والمحدثين " وقاوموا دور العقل في مختلف الميادين، ودعوا إلى الاقتصار
على البيان الشرعي فقط، لان العقل عرضة للخطأ وتأريخ الفكر العقلي زاخر
بالأخطاء، فلا يصلح لكي يستعمل أداة إثبات في أي مجال من المجالات الدينية.
42

وهؤلاء الأخباريون هم نفس تلك الجماعة التي شنت حملة ضد الاجتهاد
كما أشرنا في البحث السابق.
ويرجع تأريخ هذا الاتجاه إلى أوائل القرن الحادي عشر، فقد أعلنه
ودعا إليه شخص كان يسكن وقتئذ في المدينة باسم " الميرزا محمد أمين
الاسترآبادي " المتوفى سنة (1023) ه‍، ووضع كتابا أسماه " الفوائد
المدنية ". بلور فيه هذا الاتجاه وبرهن عليه ومذهبه أي جعله مذهبا.
ويؤكد الاسترآبادي في هذا الكتاب أن العلوم البشرية على قسمين:
أحدهما العلم الذي يستمد قضاياه من الحس، والآخر العلم الذي لا يقوم
البحث فيه على أساس الحس ولا يمكن إثبات نتائجه بالدليل الحسي. ويرى
المحدث الاسترآبادي أن من القسم الأول الرياضيات التي تستمد خيوطها
الأساسية في زعمه من الحس، وأما القسم الثاني فيمثل له ببحوث ما
وراء الطبيعة التي تدرس قضايا بعيدة عن متناول الحس وحدوده، من قبيل
تجرد الروح، وبقاء النفس بعد البدن، وحدوث العالم.
وفي عقيدة المحدث الاسترآبادي أن القسم الأول من العلوم البشرية
هو وحده الجدير بالثقة لأنه يعتمد على الحس، فالرياضيات مثلا تعتمد في
النهاية على قضايا في متناول الحس، ونظير أن (2 + 2 = 4). وأما
القسم الثاني في قيمة له، ولا يمكن الوثوق بالعقل في النتائج التي
يصل إليها في هذا القسم لانقطاع صلته بالحس.
وهكذا يخرج الاسترآبادي من تحليله للمعرفة بجعل الحس معيارا
أساسيا لتمييز قيمة المعرفة ومدى إمكان الوثوق بها.
ونحن في هذا الضوء نلاحظ بوضوح اتجاها حسيا في أفكار المحدث
الاسترآبادي يميل به إلى المذهب الحسي في نظرية المعرفة القائل بأن الحس
43

هو أساس المعرفة، ولأجل ذلك يمكننا أن نعتبر الحركة الاخبارية في الفكر
العلمي الاسلامي أحد المسارب التي منها الاتجاه الحسي إلى تراثنا
الفكري.
وقد سبقت الاخبارية بما تمثل من اتجاه حسي التيار الفلسفي الحسي
الذي نشأ في الفلسفة الأوروبية على يد " جون لوك " المتوفى سنة (1704) م
و " دانيد هيوم " المتوفى سنة (1776) م، فقد كانت وفاة الاسترآبادي
قبل وفاة " جون لوك " بمئة سنة تقريبا، ونستطيع أن نعتبره معاصرا
ل‍ " فرنسيس بيكون " المتوفى سنة (1626) م الذي مهد للتيار الحسي في
الفلسفة الأوروبية.
وعلى أي حال فهناك التقاء فكري ملحوظ بين الحركة الفكرية الاخبارية
والمذاهب الحسية والتجريبية في الفلسفة الأوروبية، فقد شنت جميعا حملة
كبيرة ضد العقل، وألغت قيمة أحكامه إذا لم يستمدها من الحس.
وقد أدت حركة المحدث الاسترآبادي ضد المعرفة العقلية المنفصلة عن
الحس إلى نفس النتائج التي سجلتها الفلسفات الحسية في تأريخ الفكر
الأوربي، إذ وجدت نفسها في نهاية الشوط مدعوة بحكم اتجاهها الخاطئ
إلى معارضة كل الأدلة العقلية التي يستدل بها المؤمنون على وجود الله
سبحانه، لأنها تندرج في نطاق المعرفة العقلية المنفصلة عن الحس.
فنحن نجد مثلا محدثا كالسيد نعمة الله الجزائري يطعن في تلك
الأدلة بكل صراحة وفقا لاتجاهه الاخباري، كما نقل عنه الفقيه الشيخ يوسف
البحراني في كتابه الدرر النجفية، ولكن ذلك لم يؤد بالتفكير الاخباري إلى
الالحاد كما أدى بالفلسفات الحسية الأوروبية، لاختلافهما في الظروف التي
ساعدت على نشوء كل منهما، فإن الاتجاهات الحسية والتجريبية في نظرية
المعرفة قد تكونت في فجر العصر العلمي الحديث لخدمة التجربة وإبراز
44

أهميتها، فكان لديها الاستعداد لنفي كل معرفة عقلية منفصلة عن الحس،
وأما الحركة الاخبارية فكانت ذات دوافع دينية، وقد اتهمت العقل
لحساب الشرع لا لحساب التجربة، فلم يكن من الممكن أن تؤدي مقاومتها
للعقل إلى إنكار الشريعة والدين.
ولهذا كانت الحركة الاخبارية تستبطن في رأي كثير من ناقديها
تناقضا، لأنها شجبت العقل من ناحية لكي تخلي ميدان التشريع والفقه للبيان
الشرعي، وظلت من ناحية أخرى متمسكة به لاثبات عقائدها الدينية، لان
إثبات الصانع والدين لا يمكن أن يكون عن طريق البيان الشرعي بل يجب
أن يكون عن طريق العقل.
45

تاريخ علم الأصول
مولد علم الأصول:
نشأ علم الأصول في أحضان علم الفقه، كما نشأ علم الفقه في أحضان
علم الحديث تبعا للمراحل التي مر بها علم الشريعة.
ونريد بعلم الشريعة العلم الذي يحاول التعرف على الاحكام التي جاء
الاسلام بها من عند الله تعالى. فقد بدأ هذا العلم في صدر الاسلام متمثلا
في الحملة التي قام بها عدد كبير من الرواة لحفظ الأحاديث الواردة في الاحكام
وجمعها، ولهذا كان علم الشريعة في مرحلته الأولى قائما على مستوى علم
الحديث، وكان العمل الأساسي فيه يكاد أن يكون مقتصرا على جمع
الروايات وحفظ النصوص. وأما طريقة فهم الحكم الشرعي من تلك النصوص
والروايات فلم تكن ذات شأن في تلك المرحلة، لأنها لم تكن تعدو الطريقة
الساذجة التي يفهم بها الناس بعضهم كلام بعض في المحاورات الاعتيادية.
وتعمقت بالتدريج طريقة فهم الحكم الشرعي من النصوص حتى أصبح
استخراج الحكم من مصادره الشرعية عملا لا يخلو عن دقة ويتطلب شيئا
من العمق والخبرة، فانصبت الجهود وتوافرت لاكتساب تلك الدقة التي
أصبح فهم الحكم الشرعي من النص واستنباطه من مصادره بحاجة إليها،
وبذلك نشأت بذور التفكير العلمي الفقهي وولد علم الفقه، وارتفع علم
الشريعة من مستوى علم الحديث إلى مستوى الاستنباط والاستدلال
العلمي الدقيق.
ومن خلال نمو علم الفقه والتفكير وإقبال علماء الشريعة على
46

ممارسة عملية الاستنباط، وفهم الحكم الشرعي من النصوص بالدرجة التي
أصبح الموقف يتطلبها من الدقة والعمق. أقول: من خلال ذلك أخذت الخيوط
المشتركة (العناصر المشتركة) في عملية الاستنباط تبدو وتتكشف، وأخذ
الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامة
لا يمكن استخراج الحكم الشرعي بدونها، وكان ذلك إيذانا بمولد التفكير
الأصولي وعلم الأصول واتجاه الذهنية الفقهية اتجاها أصوليا.
وهكذا ولد علم الأصول في أحضان علم الفقه، فبينما كان الممارسون
للعمل الفقهي قبل ذلك يستخدمون العناصر المشتركة في عملية الاستنباط
دون وعي كامل بطبيعتها وحدودها وأهمية دورها في العملية، أصبحوا بعد
تغلغل الاتجاه الأصولي في التفكير الفقهي يعون تلك العناصر المشتركة
ويدرسون حدودها.
ولا نشك في أن بذرة التفكير الأصولي وجدت لدى الفقهاء أصحاب
الأئمة (عليهم السلام) منذ أيام الصادقين عليهما السلام على مستوى تفكيرهم الفقهي،
ومن الشواهد التأريخية على ذلك ما ترويه كتب الأحاديث من أسئلة ترتبط
بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وجهها عدد من الرواة إلى
الإمام الصادق (عليه السلام) وغيره من الأئمة (عليهم السلام) وتلقوا جوابها منهم (1). فإن تلك
الأسئلة تكشف عن وجود بذرة التفكير الأصولي عندهم واتجاههم إلى وضع
القواعد العامة وتحديد العناصر المشتركة. ويعزز ذلك أن بعض أصحاب
الأئمة (عليهم السلام) ألفوا رسائل في بعض المسائل الأصولية، كهشام بن الحكم من
أصحاب الإمام الصادق عليه السلام الذي ألف رسالة في الألفاظ.

(1) فمن ذلك الروايات الواردة في علاج النصوص المعارضة، وفي
حجية خبر الثقة، وفي أصالة البراءة، وفي إعمال الرأي والاجتهاد..
وما إلى ذلك من قضايا.
47

وبالرغم من ذلك فإن فكرة العناصر المشتركة وأهمية دورها في عمليات
الاستنباط لم تكن بالوضوح والعمق الكافيين في أول الامر، وإنما اتضحت
معالمها وتعمقت بالتدريج خلال توسع العمل الفقهي ونمو عمليات الاستنباط
ولم تنفصل دراسة العناصر المشتركة بوصفها دراسة عملية مستقلة عن البحوث
الفقهية وتصبح قائمة بنفسها إلا بعد مضي زمن منذ ولادة البذور الأولى للتفكير
الأصولي، فقد عاش البحث الأصولي ردحا من الزمن ممتزجا بالبحث الفقهي
غير مستقل عنه في التصنيف والتدريس، وكان الفكر الأصولي خلال ذلك
يثري ويزداد دوره وضوحا وتحديدا، حتى بلغ في ثرائه ووضوحه إلى
الدرجة التي أتاحت له الانفصال عن علم الفقه.
ويبدو أن بحوث الأصول حتى حين وصلت إلى مستوى يؤهلها
للاستقلال، بقيت تتذبذب بين علم الفقه وعلم أصول الدين، حتى أنها كانت
أحيانا تخلط ببحوث في أصول الدين والكلام، كما يشير إلى ذلك السيد
المرتضى في كتابه الأصولي " الذريعة " إذ يقول: " قد وجدت بعض من
أفرد لأصول الفقه كتابا وإن كان قد أصاب في سرد معانيه وأوضاعه
ومبانيه ولكنه قد شرد عن أصول الفقه وأسلوبها وتعداها كثيرا وتخطاها،
فتكلم على حد العلم والنظر وكيف يولد النظر والعلم ووجوب المسبب عن
السبب.. إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض صرف خالص الكلام
في أصول الدين دون أصول الفقه ".
وهكذا نجد أن استقلال علم أصول الفقه بوصفه علما للعناصر المشتركة
في عملية استنباط الحكم الشرعي وانفصاله عن سائر العلوم الدينية من فقه
وكلام، لم ينجز إلا بعد أن اتضحت أكثر فأكثر فكرة العناصر المشتركة لعملية
الاستنباط وضرورة وضع نظام عام لها، الامر الذي ساعد على التمييز بين
طبيعة البحث الأصولي وبطبيعة البحوث الفقيهة والكلامية، وأدى بالتالي
48

إلى قيام علم مستقل باسم " علم أصول الفقه ".
وبالرغم من تمكن علم الأصول من الحصول على الاستقلال الكامل
عن علم الأصول " علم أصول الدين "، فقد بقيت فيه رواسب فكرية يرجع
تاريخها إلى عهد الخلط بينه وبين علم الكلام، وظلت تلك الرواسب
مصدرا للتشويش، فمن تلك الرواسب على سبيل المثال - الفكرة القائلة
بأن أخبار الآحاد " وهي الروايات الظنية التي لا يعلم صدقها " لا يمكن
الاستدلال بها في الأصول، لان الدليل في الأصول يجب أن يكون قطعيا.
فإن مصدر هذه الفكرة هو علم الكلام، ففي هذا العلم قرر العلماء أن أصول
الدين تحتاج إلى دليل قطعي، فلا يمكن أن نثبت صفات الله والمعاد مثلا
بأخبار الآحاد، وقد أدى الخلط بين علم أصول الدين وعلم أصول الفقه
واشتراكهما في كلمة الأصول إلى تعميم تلك الفكرة إلى أصول الفقه، ولهذا
نرى الكتب الأصولية ظلت إلى زمان المحقق في القرن السابع تعترض على
إثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط بخبر الواحد انطلاقا من
تلك الفكرة.
ونحن نجد في كتاب الذريعة لدى مناقشة الخلط بين أصول الفقه
وأصول الدين تصورات دقيقة نسبيا ومحددة عن العناصر المشتركة في عملية
الاستنباط، فقد كتب يقول: " إعلم أن الكلام في أصول الفقه إنما هو على
الحقيقة كلام في أدلة الفقه.. ولا يلزم على ما ذكرناه أن تكون الأدلة والطرق
إلى أحكام وفروع الفقه الموجودة في كتب الفقهاء أصولا، لان الكلام في
أصول الفقه إنما هو كلام في كيفية دلالة ما يدل من هذه الأصول على الاحكام
على طريق الجملة دون التفصيل، وأدلة الفقهاء إنما هي على نفس المسائل،
والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل ".
وهذا النص في مصدر من أقدم المصادر الأصولية في التراث الشيعي،
49

يحمل بوضوح فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ويسميها أدلة
الفقه على الاجمال، ويميز بين البحث الأصولي والفقهي على أساس التمييز
بين الأدلة الاجمالية والأدلة التفصيلية أي بين العناصر المشتركة والعناصر
الخاصة في تعبيرنا وهذا يعني أن فكرة العناصر المشتركة كانت مختمرة
وقتئذ إلى درجة كبيرة، والفكرة ذاتها نجدها بعد ذلك عند الشيخ الطوسي
وابن زهرة والمحقق الحلي وغيرهم، فإنهم جميعا عرفوا علم الأصول بأنه
" علم أدلة الفقه على وجه الاجمال " وحاولوا التعبير بذلك عن فكرة العناصر
المشتركة.
ففي كتاب العدة قال الشيخ الطوسي: " أصول الفقه هي أدلة الفقه
فإذا تكلمنا في هذه الأدلة فقد نتكلم فيما يقتضيه من إيجاب وندب وإباحة
وغير ذلك من الأقسام على طريق الجملة، ولا يلزمنا عليها أن تكون الأدلة
الموصلة إلى فروع الفقه، لان هذه الأدلة أدلة على تعيين المسائل، والكلام
في الجملة غير الكلام في التفصيل ".
ومصطلح الاجمالية والتفصيلية يعبر هنا عن العناصر المشتركة والعناصر
الخاصة.
ونستخلص مما تقدم أن ظهور علم الأصول والانتباه العلمي إلى العناصر
المشتركة في عملية الاستنباط كان يتوقف على وصول عملية الاستنباط إلى
درجة من الدقة والاتساع وتفتح الفكر الفقهي وتعمقه، ولهذا لم يكن من
المصادفة أن يتأخر ظهور علم الأصول تاريخيا عن ظهور علم الفقه والحديث،
وأن ينشأ في أحضان هذا العلم بعد أن نما التفكير الفقهي وترعرع بالدرجة
التي سمحت بملاحظة العناصر المشتركة ودرسها بأساليب البحث العلمي،
ولأجل ذلك كان من الطبيعي أيضا أن تختمر فكرة العناصر المشتركة تدريجا
وتدق على مر الزمن حتى تكتسب صيغتها الصارمة وحدودها الصحيحة وتتميز
50

عن بحوث الفقه وبحوث أصول الدين.
الحاجة إلى علم الأصول تاريخية:
ولم يكن تأخر علم الأصول تاريخيا عن ظهور علم الفقه والحديث
ناتجا عن ارتباط العقلية الأصولية بمستوى متقدم نسبيا من التفكير الفقهي
فحسب، بل هناك سبب آخر له أهمية كبيرة في هذا المجال، وهو أن علم
الأصول لم يوجد بوصفه لونا من ألوان الترف الفكري، وإنما وجد تعبيرا
عن حاجة ملحة شديده لعملية الاستنباط التي تتطلب من علم الأصول، تموينها
بالعناصر المشتركة التي لا غنى لها عنها، ومعنى هذا أن الحاجة إلى علم
الأصول تنبع من حاجة عملية الاستنباط إلى العناصر المشتركة التي تدرس
في هذا العلم وتحدد، وحاجة عملية الاستنباط إلى هذه العناصر الأصولية
هي في الواقع حاجة تاريخية وليست حاجة مطلقة، أي إنها حاجة توجد وتشتد
بعد أن يبتعد الفقه عن عنصر النصوص، ولا توجد بتلك الدرجة في الفقه
المعاصر لعصر النصوص.
ولكي تتضح الفكرة لديك أفرض نفسك تعيش عصر النبوة على مقربة
من النبي (صلى الله عليه وآله) تسمع منه الاحكام مباشرة وتفهم النصوص الصادرة منه
بحكم وضوحها اللغوي ومعاصرتك لكل ظروفها وملابساتها أفكنت بحاجة
لكي تفهم الحكم الشرعي أن ترجع إلى عنصر مشترك أصولي كعنصر
حجية الخبر وأنت تسمع النص مباشرة من النبي (صلى الله عليه وآله) أو ينقله لك أناس
تعرفهم مباشرة ولا تشك في صدقهم؟ أو كنت في حاجة إلى أن ترجع إلى
عنصر مشترك أصولي كعنصر حجية الظهور العرفي وأنت تدرك بسماعك
للنص الصادر من النبي معناه الذي يريده إدراكا واضحا لا يشوبه شك في
كثير من الأحيان بحكم اطلاعك على جميع ملابسات النص وظروفه؟ أو كنت
51

بحاجة إلى التفكير في وضع قواعد لتفسير الكلام المجمل إذا صدر من النبي
وأنت قادر على سؤاله والاستيضاح منه بدلا عن التكفير في تلك القواعد؟.
وهذا يعني أن الانسان كلما كان أقرب إلى عصر التشريع وأكثر امتزاجا
بالنصوص، كان أقل حاجة إلى التفكير في القواعد العامة والعناصر المشتركة،
لان استنباط الحكم الشرعي يتم عندئذ بطريقة ميسرة دون أن يواجه الفقيه
ثغرات عديدة ليفكر في ملئها عن طريق العناصر الأصولية. وأما إذا ابتعد
الفقيه عن عصر النص واضطر إلى الاعتماد على التأريخ والمؤرخين والرواة
والمحدثين في نقل النصوص، فسوف يواجه ثغرات كبيرة وفجوات تضطره
إلى التفكير في وضع القواعد لملئها، فهل صدر النص المروي من المعصوم
حقيقة أو كذب الراوي أو أخطأ في نقله؟ وماذا يريد المعصوم بهذا النص؟
هل يريد المعنى الذي أفهمه فعلا من النص حين أقرأه أو معنى آخر كان له
ما يوضحه من الظروف والملابسات التي عاشها النص ولم نعشها معه؟ وماذا
يصنع الفقيه حيث يعجز عن الحصول على نص في المسألة؟. و هكذا يصبح
الانسان بحاجة إلى عناصر كحجية الخبر أو حجية الظهور العرفي أو غيرهما
من القواعد الأصولية.
وهذا هو ما نقصده من القول بأن الحاجة إلى علم الأصول حاجة
تأريخية ترتبط بمدى ابتعاد عملية الاستنباط عن عصر التشريع وانفصالها عن
ظروف النصوص الشرعية وملابساتها، لان الفاصل ألزمني عن ذلك الظرف
هو الذي يخلق الثغرات والفجوات في عملية الاستنباط. وهذه الثغرات
هي التي توجد الحاجة الملحة إلى علم الأصول والقواعد الأصولية.
وارتباط الحاجة إلى علم الأصول بتلك الثغرات مما أدركه الرواد الأوائل
لهذا العلم، فقد كتب السيد الجليل حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي
المتوفى سنة (585) ه‍ في القسم الأول من كتابه الغنية يقول: " لما كان
52

الكلام في فروع الفقه يبنى على أصول له وجب الابتداء بأصوله ثم اتباعها
بالفروع، وكان الكلام في الفروع من دون إحكام أصله لا يثمر، وقد كان
بعض المخالفين سأل فقال: إذا كنتم لا تعملون في الشرعيات إلا بقول المعصوم
فأي فقر بكم إلى أصول الفقه، وكلامكم فيها كأنه عبث لا فائدة فيه " ففي
هذا النص يربط ابن زهرة بين الحاجة إلى علم الأصول والثغرات في عملية
الاستنباط، إذ يجعل التزام الامامية بالعمل بقول الإمام (عليه السلام) فحسب سببا
لاعتراض القائل بأنهم ما داموا كذلك لا حاجة لهم بعلم الأصول، لان
استخراج الحكم إذا كان قائما على أساس قول المعصوم مباشرة فهو عمل
ميسر لا يشتمل على الثغرات التي تتطلب التفكير في وضع القواعد والعناصر
الأصولية لملئها.
ونجد في نص للمحقق السيد محسن الأعرجي المتوفى سنة (1227) ه‍
في كتابه الفقهي وسائل الشيعة وعيا كاملا لفكرة الحاجة التأريخية لعلم
الأصول، فقد تحدث عن اختلاف القريب من عصر النص عن البعيد منه في
الظروف والملابسات وقال في جملة كلامه: " أين من حظي بالقرب ممن ابتلى
بالبعد حتى يدعى تساويهما في الغنى والفقر؟ كلا إن بينهما ما بين السماء
والأرض، فقد حدث بطول الغيبة وشدة المحنة وعموم البلية، ما لولا الله
وبركة آل الله لردها جاهلية. فسدت اللغات وتغيرت الاصطلاحات وذهبت
قرائن الأحوال وكثرت الأكاذيب وعظمت التقية واشتد التعارض بين الأدلة
حتى لا تكاد تعثر على حكم يسلم منه، مع ما اشتملت عليه من دواعي
الاختلاف، وليس هنا أحد يرجع إليه بسؤال. وكفاك مائزا بين الفريقين
قرائن الأحوال وما يشاهد في المشافهة من الانبساط والانقباض.. وهذا
بخلاف من لم يصب إلا أخبارا مختلفة وأحاديث متعارضة يحتاج فيها إلى العرض
على الكتاب والسنة المعلومة.. فإنه لا بد من الاعداد والاستعداد
53

والتدرب في ذلك كي لا يزل، فإنه، إنما يتناول من بين مشتبك القنا ".
وفي هذا الضوء نعرف أن تأخر علم الأصول تاريخيا لم ينتج فقط عن
ارتباطه بتطور الفكر الفقهي ونمو الاستنباط، بل هو ناتج أيضا عن طبيعة
الحاجة إلى علم الأصول فإنها حاجة تاريخية توجد وتشتد تبعا لمدى الابتعاد
عن عصر النصوص.
التصنيف في علم الأصول:
وعلى الضوء المتقدم الذي يقرر أن الحاجة إلى علم الأصول حاجة تاريخية
نستطيع أن نفسر الفارق ألزمني بين ازدهار علم الأصول في نطاق التفكير
الفقهي السني وازدهاره في نطاق تفكيرنا الفقهي الامامي، فإن التأريخ يشير
إلى أن علم الأصول ترعرع وازدهر نسبيا في نطاق الفقه السني قبل ترعرعه
وازدهاره في نطاقنا الفقهي الامامي، حتى إنه يقال: إن علم الأصول على
الصعيد السني دخل في دور التصنيف في أواخر القرن الثاني، إذ ألف في
الأصول كل من الشافعي المتوفى سنة (182) ه‍ ومحمد بن الحسن الشيباني
المتوفى سنة (189) ه‍ بينما قد لا نجد التصنيف الواسع في علم الأصول
على الصعيد الشيعي إلا في أعقاب الغيبة الصغرى أي في مطلع القرن
الرابع بالرغم من وجود رسائل سابقة لبعض أصحاب الأئمة (عليهم السلام) في مواضيع
أصولية متفرقة.
وما دمنا قد عرفنا أن نمو التفكير الأصولي ينتج عن الحاجة إلى الأصول
في عالم الاستنباط، وأن هذه الحاجة تاريخية تتسع وتشتد بقدر الابتعاد
عن عصر النصوص، فمن الطبيعي أن يوجد ذلك الفارق ألزمني وأن يسبق
التفكير الأصولي السني إلى النمو والاتساع، لان المذهب السني كان يزعم
انتهاء عصر النصوص بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فحين اجتاز التفكير الفقهي السني
القرن الثاني كان قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافة زمنية كبيرة تخلق
54

بطبيعتها الثغرات في عملية الاستنباط الامر الذي يوحي بالحاجة
الشديدة إلى وضع القواعد العامة الأصولية لملئها. وأما الامامية فقد كانوا
وقتئذ يعيشون عصر النص الشرعي، لان الإمام عليه السلام امتداد لوجود
النبي (صلى الله عليه وآله)، فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء الامامية في الاستنباط أقل
بكثير إلى الدرجة التي لا تفسح المجال للاحساس بالحاجة الشديدة إلى
وضع علم الأصول.
ولهذا نجد أن الامامية بمجرد أن انتهى عصر النصوص بالنسبة إليهم
ببدء الغيبة أو بانتهاء الغيبة الصغرى بوجه خاص تفتحت ذهنيتهم الأصولية
وأقبلوا على درس العناصر المشتركة، وحققوا تقدما في هذا المجال على يد
الرواد النوابغ من فقهائنا من قبيل الحسن بن علي بن أبي عقيل ومحمد بن
أحمد بن الجنيد الإسكافي في القرن الرابع.
ودخل علم الأصول بسرعة دور التصنيف والتأليف، فألف الشيخ محمد
ابن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد المتوفى سنة (413) ه‍ كتابا في الأصول
واصل فيه الخط الفكري الذي سار عليه ابن أبي عقيل وابن الجنيد قبله،
ونقدهما في جملة من آرائهما. وجاء بعده تلميذه السيد المرتضى المتوفى
سنة (436) ه‍ فواصل تنمية الخط الأصولي وأفرد لعلم الأصول كتابا
موسعا نسبيا سماه " الذريعة " وذكر في مقدمته أن هذا الكتاب منقطع النظير
في إحاطته بالاتجاهات الأصولية التي تميز الامامية باستيعاب وشمول.
ولم يكن السيد المرتضى هو الوحيد من تلامذة المفيد الذين واصلوا
تنمية هذا العلم الجديد والتصنيف فيه، بل صنف فيه أيضا عدد آخر من
تلامذة المفيد، منهم سلار بن عبد العزيز الديلمي المتوفى سنة (436) ه‍ إذ
كتاب كتابا باسم التقريب في أصول الفقه.
ومنهم الشيخ الفقيه المجدد محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة
55

(460) الذي انتهت إليه الزعامة الفقهية بعد أستاذيه الشيخ المفيد والسيد
المرتضى، فقد كتب كتابا في الأصول باسم " العدة في الأصول " وانتقل
علم الأصول على يده إلى دور جديد من النضج الفكري، كما انتقل الفقه
أيضا إلى مستوى أرفع من التفريع والتوسع.
وكان يقوم في هذا العصر إلى صف البحث الأصولي عمل واسع النطاق
في جمع الأحاديث المنقولة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ودمج المجاميع الصغيرة
في موسوعات كبيرة، فما انتهى ذلك العصر حتى حصل الفكر العلمي الامامي
على مصادر أربعة موسعة للحديث. وهي الكافي لثقة الاسلام محمد بن
يعقوب الكليني المتوفى سنة (329) ه‍ ومن لا يحضره الفقيه للصدوق
محمد بن علي بن الحسين المتوفى سنة (381) ه‍ والتهذيب للشيخ الطوسي
ألفه في حياة الشيخ المفيد والاستبصار له أيضا. وتسمى هذه الكتب في العرف الامامي بالكتب الأربعة.
تطور علم النظرية وعلم التطبيق على يد الشيخ الطوسي:
لم تكن مساهمة الشيخ الطوسي في الأصول مجرد استمرار للخط
وإنما كانت تعبر عن تطور جديد كجزء كم تطور شامل في التفكير الفقهي
والعملي كله، أتيح لهذا الفقيه الرائد أن يحققه، فكان كتاب العدة تعبيرا
عن التطور العظيم في البحث الفقهي على صعيد التطبيق بالشكل الذي يوازي
التطور الأصولي على صعيد النظريات.
والفارق الكيفي بين اتجاهات العلم التي انطلقت من هذا التطور الجديد
واتجاهاته قبل ذلكن يسمح لنا باعتبار الشيخ الطوسي حدا فاصلا بين
عصرين من عصور العلم بين العصر العلمي التمهيدي والعصر العلمي الكامل،
56

فقد وضع هذا الشيخ الرائد حدا للعصر التمهيدي وبدأ به عصر العلم الذي
أصبح الفقه والأصول فيه علما له دقته وصناعته وذهنيته العلمية الخاصة.
ولعل أفضل طريقة ممكنة في حدود إمكانات هذه الحلقة لتوضيح
التطور العظيم الذي أحرزه العلم على يد الشيخ الطوسي، أن نلاحظ نصين
كتب الشيخ أحدهما في مقدمة كتاب العدة وكتب الآخر في مقدمة كتاب
المبسوط.
أما في كتاب العدة فقد كتب في مقدمته يقول: " سألتم أيدكم الله إملاء
مختصر في أصول الفقه يحيط بجميع أبوابه على سبيل الايجاز والاختصار
على ما تقتضيه مذاهبنا وتوجبه أصولنا، فإن من صنف في هذا الباب سلك
كل قوم منهم المسلك الذي اقتضاه أصولهم ولم يعهد من أصحابنا لاحد في
هذا المعنى إلا ما ذكره شيخنا أبو عبد الله رحمه الله في المختصر الذي له في
أصول الفقه ولم يستقصه وشذ منه أشياء يحتاج إلى استدراكها وتحريرات
غير ما حررها، وإن سيدنا الاجل المرتضى أدام الله علوه وإن أكثر في
أماليه وما يقرأ عليه شرح ذلك، فلم يصنف في هذا المعنى شيئا يرجع إليه
ويجعل ظهرا يستند إليه، وقلتم: إن هذا فن من العلم لا بد من شدة الاهتمام
به، لان الشريعة كلها مبنية عليه ولا يتم العلم بشئ منها دون إحكام أصولها،
ومن لم يحكم أصولها فإنما يكون حاكيا ومعتادا ولا يكون عالما ".
وهذا النص من الشيخ الطوسي يعكس مدى أهمية العمل الأصولي
الذي أنجزه قدس سره في كتاب العدة وطابعه التأسيسي في هذا المجال،
وما حققه من وضع النظريات الأصولية ضمن الاطار المذهبي العام الامامية.
ويعزز هذا النص من الناحية التأريخية أولية الشيخ المفيد في التصنيف
الأصولي على الصعيد الشيعي، كما أنه يدل على أن الشيخ الطوسي كتب
كتاب العدة أو بدأ به في حياة السيد المرتضى، إذ دعا له بالبقاء. ولعله لاجل
57

ذلك لم يكن يعرف وقتئذ شيئا عن كتاب الذريعة للمرتضى، إذ نفى وجود
كتاب له في علم الأصول. وهذا يعني أن الطوسي بدأ بكتابه قبل أن يكتب
المرتضى الذريعة أو أن الذريعة كانت مؤلفة فعلا ولكنها لم يعلن عنها ولم
يطلع عليها الشيخ الرائد حين بدأ تصنيفه للكتاب.
وكتب الشيخ الطوسي في كتابه الفقهي العظيم المبسوط، يقول: " إني
لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستخفون
بفقه أصحابنا الامامية وينسبونهم إلى قلة الفروع وقلة المسائل ويقولون: إنهم أهل
حشو ومناقصة، وإن من ينفي القياس والاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل
ولا التفريع على الأصول، لان جل ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين
وهذا جهل منهم بمذاهبنا وقلة تأمل لأصولنا، ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا
لعلموا أن جل ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ومنصوص عليه عن
أئمتنا الذين قولهم في الحجة يجري مجرى قول النبي (صلى الله عليه وآله) إما خصوصا أو
عموما أو تصريحا أو تلويحا. وأما ما كثروا به كتبهم من مسائل الفروع
فلا فرع من ذلك إلا وله مدخل في أصولنا ومخرج على مذاهبنا لا على
وجه القياس بل على طريقة توجب علما يجب العمل عليها ويسوغ المصير
إليها من البناء على الأصل وبراءة الذمة وغير ذلك. مع أن أكثر الفروع
لها مدخل فيما نص عليه أصحابنا، وإنما كثر عددها عند الفقهاء لتركيبهم المسائل بعضها على بعض وتعليقها والتدقيق فيها حتى أن كثيرا من المسائل
الواضحة دق لضرب من الصناعة وإن كانت المسألة معلومة واضحة. وكنت
على قديم الوقت وحديثه متشوق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك
تتوق نفسي إليه فيقطعني عن ذلك القواطع وتشغلني الشواغل وتضعف نيتي
أيضا فيه قلة رغبة هذه الطائفة فيه وترك عنايتهم به، لأنهم ألفوا الاخبار وما
رووه من صريح الألفاظ حتى أن مسألة لو غير لفظها وعبر عن معناها بغير
58

اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها وقصر فهمهم عنها، وكنت عملت على قديم
الوقت كتاب النهاية وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم وأصلوها
من المسائل وفرقوه في كتبهم، ورتبته ترتيب الفقه وجمعت بين النظائر
ورتبت فيه الكتب على ما رتبت للعلة التي بينتها هناك، ولم أتعرض للتفريع
على المسائل ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظائرها،
بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتى لا يستوحشوا من
ذلك، وعملت بآخره مختصر جمل العقود في العبادات سلكت فيه طريق
الايجاز والاختصار وعقود الأبواب في ما يتعلق بالعبادات، ووعدت فيه أن
أعمل كتابا في الفروع خاصة يضاف إلى كتاب النهاية ويجتمع معه يكون
كاملا كافيا في جميع ما يحتاج إليه، ثم رأيت أن ذلك يكون مبتورا يصعب
فهمه على الناظر فيه، لان الفرع إنما يفهمه إذا ضبط الأصل معه، فعدلت
إلى عمل كتاب يشتمل على عدد بجميع كتب الفقه التي فصلها الفقهاء، وهي
نحو من ثلاثين كتابا أذكر كل كتاب منه على غاية ما يمكن تلخيصه من
الألفاظ، واقتصرت على مجرد الفقه دون الأدعية والآداب، واعقد فيه
الأبواب وأقسم فيه المسائل وأجمع بين النظائر واستوفيه غاية الاستيفاء
وأذكر أكثر الفروغ التي ذكرها المخالفون وأقول ما عندي على ما تقتضيه
مذاهبنا وتوجبه أصولنا بعد أن أذكر أصول جميع المسائل.. وهذا الكتاب
إذا سهل الله تعالى إتمامه يكون كتابا لا نظير له لا في كتب أصحابنا ولا في
كتب المخالفين، لأني إلى الآن ما عرفت لاحد من الفقهاء كتابا واحدا يشتمل
على الأصول والفروع مستوفا مذهبنا، بل كتبهم وإن كانت كثيرة فليس
يشتمل عليهما كتاب واحد. وأما أصحابنا فليس لهم في هذا المعنى ما يشار
إليه، بل لهم مختصرات ".
وهذا النص يعتبر من الوثائق التاريخية التي تتحدث عن المراحل البدائية
59

من تكون الفكر الفقهي التي مر بها علم الشريعة لدى الامامية ونما من خلالها
حتى أنتج أمثال الشيخ الطوسي من النوابغ الذين نقلوه إلى مستوى
أوسع وأعمق.
ويبدو من هذا النص أن البحث الفقهي الذي سبق الشيخ الطوسي
وأدركه هذا الفقيه العظيم وضاق به، كان يقتصر في الغالب على استعراض
المعطيات المباشرة للأحاديث والنصوص، وهي ما سماها الشيخ الطوسي
بأصول المسائل، ويتقيد في استعراض تلك المعطيات بنفس الصيغ التي جاءت
في مصادرها من تلك الأحاديث. ومن الطبيعي أن البحث الفقهي حين يقتصر
على أصول المسائل المعطاة بصورة مباشرة في النصوص ويتقيد بصيغتها
المأثورة، يكون بحثا منكمشا لا مجال فيه للابداع والتعمق الواسع النطاق.
وكتاب المبسوط كان محاولة ناجحة وعظيمة في مقاييس التطور العلمي
لنقل البحث الفقهي من نطاقه الضيق المحدود في أصول المسائل إلى نطاق
واسع يمارس الفقيه فيه التفريع والتفصيل والمقارنة بين الاحكام وتطبيق
القواعد العامة ويتتبع أحكام مختلف الحوادث والفروض على ضوء المعطيات
المباشرة للنصوص.
وبدرس نصوص الفقيه الرائد رضوان الله عليه في العدة والمبسوط،
يمكننا أن نستخلص الحقيقتين التاليتين:
إحداهما أن علم الأصول في الدور العلمي الذي سبق الشيخ الطوسي
كان يتناسب مع مستوى البحث الفقهي الذي كان يقتصر وقتئذ على أصول
المسائل والمعطيات المباشرة للنصوص، ولم يكن بإمكان علم الأصول في تلك
الفترة أن ينمو نموا كبيرا، لان الحاجات المحدودة للبحث الفقهي الذي حصر
نفسه في حدود المعطيات المباشرة للنصوص لم تكن تساعد على ذلك فكان
من الطبيعي أن ينتظر علم الأصول نمو التفكير الفقهي واجتيازه تلك المراحل
60

التي كان الشيخ الطوسي يضيق بها ويشكو منها.
والحقيقة الأخرى هي أن تطور علم الأصول الذي يمثله الشيخ الطوسي
في كتاب العدة كان يسير في خط مواز للتطور العظيم الذي أنجز في تلك
الفترة على الصعيد الفقهي. وهذه الموازاة التاريخية بين التطورين تعزز
الفكرة التي قلناها سابقا عن التفاعل بين الفكر الفقهي والفكر الأصولي أي
بين بحوث النظرية وبحوث التطبيق الفقهي، فإن الفقيه الذي يشتغل في
حدود التعبير عن مدلول النص ومعطاه المباشر بنفس عبارته أو بعبارة مرادفة
ويعيش قريبا من عصر صدوره من المعصوم، لا يحس بحاجة شديدة إلى
قواعد، ولكنه حين يدخل في مرحلة التفريع على النص ودرس تفصيلات
وافتراض فروض جديدة لاستخراج حكمها بطريقة ما من النص يجد نفسه
بحاجة كبيرة ومتزايدة إلى العناصر والقواعد العامة وتنفتح أمامه آفاق التفكير
الأصولي الرحيبة.
ويجب أن لا نفهم من النصوص المتقدمة التي كتبها الشيخ الطوسي أن
نقل الفكر الفقهي من دور الاقتصار على أصول المسائل والجمود على صيغ
الروايات إلى دور التفريع وتطبيق القواعد، قد تم على يد الشيخ فجأة
وبدون سابق إعداد، بل الواقع أن التطور الذي أنجزه الشيخ في الفكر
الفقهي كان له بذوره التي وضعها قبلها أستاذاه السيد المرتضى والشيخ المفيد
وقبلهما ابن أبي عقيل وابن الجنيد كما أشرنا سابقا، وكان لتلك البذور
أهميتها من الناحية العلمية حتى نقل عن أبي جعفر بن معد الموسوي وهو
متأخر عن الشيخ الطوسي أنه وقف على كتاب ابن الجنيد الفقهي واسمه
التهذيب فذكر أنه لم ير لاحد من الطائفة كتابا أجود منه ولا أبلغ ولا أحسن
عبارة ولا أرق معنى منه، وقد استوفى فيه الفروع والأصول وذكر الخلاف
في المسائل واستدل بطريق الامامية وطريق مخاليفهم. فهذه الشهادة تدل
61

على قيمة البذور التي نمت حتى آتت أكلها على يد الطوسي.
وقد جاء كتاب العدة للطوسي الذي يمثل نمو الفكر الأصولي في أعقاب
تلك البذور تلبية لحاجات التوسع في البحث الفقهي. وعلى هذا الضوء
نعرف أن من الخطأ القول بأن كتاب العدة ينقض العلاقة بين تطور الفقه
وتطور الأصول ويثبت إمكانية تطور الفكر الأصولي بدرجة كبيرة دون أن
يحصل أدنى تغيير في الفكر الفقهي، لان الشيخ صنف العدة في حياة السيد
المرتضى والفكر الفقهي وقتئذ كان يعيش مستواه البدائي ولم يتطور إلا
خلال كتاب المبسوط الذي كتبه الشيخ في آخر حياته. ووجه الخطأ في هذا
القول أن كتاب المبسوط وإن كان متأخرا تاريخيا عن كتاب العدة ولكن
كتاب المبسوط لم يكن إلا تجسيدا للتوسع والتكامل للفكر الفقهي الذي
كان قد بدأ بالتوسع والنمو والتفريع على يد ابن الجنيد والسيد المرتضى
وغيرهما.
الوقوف النسبي للعلم:
ما مضى المجدد العظيم محمد بن الحسن الطوسي قدس سره حتى
قفز بالبحوث الأصولية وبحوث التطبيق الفقهي قفزة كبيرة وخلف تراثا
ضخما في الأصول يتمثل في كتاب العدة وتراثا ضخما في التطبيق الفقهي يتمثل
في كتاب المبسوط. ولكن هذا التراث الضخم توقف عن النمو بعد وفاة
الشيخ المجدد طيلة قرن كامل في المجالين الأصولي والفقهي على السواء.
وهذه الحقيقة بالرغم من تأكيد جملة من علمائنا لها تدعو إلى التساؤل
والاستغراب، لان الحركة الثورية التي قام بها الشيخ في دنيا الفقه والأصول
والمنجزات العظيمة التي حققها في هذه المجالات كان من المفروض والمترقب
أن تكون قوة دافعة للعلم وأن تفتح لمن يخلف الشيخ من العلماء آفاقا رحيبة
للابداع والتجديد ومواصلة السير في الطريق الذي بدأه الشيخ، فكيف لم
62

تأخذ أفكار الشيخ وتجديداته مفعولها الطبيعي في الدفع والاغراء بمواصلة
السير؟.
هذا هو السؤال الذي يجب التوفر على الإجابة عنه، ويمكننا بهذا
الصدد أن نشير إلى عدة أسباب من المحتمل أن نفسر الموقف:
1 - من المعلوم أن تاريخيا أن الشيخ الطوسي هاجر إلى النجف سنة
(488) ه‍ نتيجة للقلاقل والفتن التي ثارت بين الشيعة والسنة في بغداد أي
قبل وفاته ب‍ (12) سنة، وكان يشغل في بغداد قبل هجرته مركزا علميا
معترفا به من الخاصة والعامة حتى ظفر بكرسي الكلام والإفادة من الخليفة
القائم بأمر الله الذي لم يكن يمنح هذا الكرسي إلا لكبار العلماء الذين
يتمتعون بشهرة كبيرة، ولم يكن الشيخ مدرسا فحسب بل كان مرجعا وزعيما
دينيا ترجع إليه الشيعة في بغداد وتلوذ به في مختلف شؤونها منذ وفاة السيد
المرتضى عام (436) ه‍ ولأجل هذا كانت هجرته إلى النجف سببا لتخليه
عن كثير من المشاغل وانصرافه انصرافا كاملا إلى البحث العلمي الامر الذي
ساعده على انجاز دوره العلمي العظيم الذي ارتفع به إلى مستوى المؤسسين
كما أشار إلى ذلك المحقق الشيخ أسد الله التستري في كتاب مقابس
الأنوار، إذ قال: " ولعل الحكمة الإلهية اتفق للشيخ تجرده للاشتغال
بما تفرد به من تأسيس العلوم الشرعية ولا سيما المسائل الفقهية ".
فمن الطبيعي على هذا الضوء أن يكون السنين التي قضاها الشيخ
في النجف أثرها الكبير في شخصيته العلمية التي تمثلت في كتاب المبسوط،
وهو آخر ما ألفه في الفقه كما نص على ذلك ابن إدريس في بحث الأنفال من
السرائر، بل آخر ما ألفه في حياته كما جاء في كلام مترجميه.
وإلى جانب هذا نلاحظ أن الشيخ بهجرته إلى النجف قد انفصل في
أكبر الظن عن تلامذته وحوزته العلمية في بغداد، وبدأ ينشئ في النجف
63

حوزة فتية حوله من أولاده أو الراغبين في الالتحاق بالدراسات الفقهية من
مجاوري القبر الشريف أو أبناء البلاد القريبة منه كالحلة ونحوها، ونمت
الحوزة على عهده بالتدريج وبرز فيها العنصر المشهدي نسبة إلى المشهد
العلوي والعنصر الحلي وتسرب التيار العلمي منها إلى الحلة.
ونحن حين نرجح أن الشيخ بهجرته إلى النجف انفصل عن حوزته
الأساسية وأنشأ في مهجره حوزة جديدة، نستند إلى عدة مبررات:
فقبل كل شئ نلاحظ أن مؤرخي هجرة الشيخ الطوسي إلى النجف
لم يشيروا إطلاقا إلى أن تلامذة الشيخ الطوسي في بغداد رافقوه أو التحقوا
به فور هجرته إلى النجف، وإذا لاحظنا إضافة إلى ذلك قائمة تلامذة الشيخ
التي يذكرها مؤرخوه نجد أنهم لم يشيروا إلى مكان التلمذة إلا بالنسبة إلى
شخصين جاء النص على أنهما تلمذا على الشيخ في النجف، وهما الحسين
ابن المظفر بن علي الحمداني والحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه القمي
وأقرب الظن فيهما معا أنهما من التلامذة المحدثين للشيخ الطوسي. أما
الحسين بن المظفر فقد ذكر الشيخ منتجب الدين في ترجمته من الفهرست
أنه قرأ على الشيخ جميع تصانيفه في الغري، وقراءته لجميع تصانيف الشيخ
عليه في النجف يعزز احتمال أنه من تلامذته المحدثين الذين التحقوا به بعد
هجرته إلى النجف، إذ لم يقرأ عليه شيئا منها قبل ذلك التأريخ، ويعزز ذلك
أيضا أن أباه المظفر كان يحضر درس الشيخ الطوسي أيضا ومن قبله السيد
المرتضى كما نص على ذلك منتجب الدين في الفهرست وهذا يعزز احتمال
كون الابن من طبقة متأخرة عن الطبقة التي يندرج فيها الأب من تلامذة
الشيخ. وأما الحسن بن الحسين البابويهي القمي فنحن نعرف من ترجمته
أنه تلمذ على عبد العزيز بن البراج الطرابلسي أيضا وروى عن الكراچكي
والصهرشتي، وهؤلاء الثلاثة هم من تلامذة الشيخ الطوسي، وهذا يعني
64

أن الحسن الذي تلمذ على الشيخ في النجف كان من تلامذته المتأخرين، لأنه
تلمذ على تلامذته أيضا.
ومما يعزز احتمال حداثة الحوزة التي تكونت حول الشيخ في النجف
الدور الذي أداه فيها ابنه الحسن المعروف بأبي علي، فقد تزعم الحوزة بعد
وفاة أبيه، ومن المظنون أن أبا علي كان في دور الطفولة أو أوائل الشباب
حين هاجر أبوه إلى النجف، لان تاريخ ولادته ووفاته وإن لم يكن معلوما
ولكن الثابت تاريخيا أنه كان حيا في سنة (515) ه‍ كما يظهر من عدة
مواضع من كتاب بشارة المصطفى، أي إنه عاش بعد هجرة أبيه إلى النجف
قرابة سبعين عاما، ويذكر عن تحصيله أنه كان شريكا في الدرس عند أبيه
مع الحسن بن الحسين القمي الذي رجحنا كونه من الطبقة المتأخرة، كما
يقال عنه أن أباه أجازه سنة (455) ه‍ أي قبل وفاته بخمسين سنة، وهو
يتفق مع حداثة تحصيله.
فإذا عرفنا أنه خلف أباه في التدريس والزعامة العلمية للحوزة في النجف
بالرغم من كونه من تلامذته المتأخرين في أغلب الظن استطعنا أن نقدر
المستوى العلمي العام لهذه الحوزة، ويتضاعف الاحتمال في كونها حديثة
التكون
والصورة التي تكتمل لدينا على هذا الأساس هي أن الشيخ الطوسي
بهجرته إلى النجف انفصل عن حوزته الأساسية في بغداد وأنشأ حوزة جديدة
حوله في النجف وتفرغ في مهجره للبحث وتنمية العلم، وإذا صدقت هذه
الصورة أمكننا تفسير الظاهرة التي نحن بصدد تعليلها، فإن الحوزة الجديدة
التي نشأت حول الشيخ في النجف كان من الطبيعي أن لا ترقى إلى مستوى
التفاعل المبدع مع التطور الذي أنجزه الطوسي في الفكر العلمي، لحداثتها.
وأما الحوزة الأساسية ذات الجذور في بغداد فلم تتفاعل مع أفكار الشيخ،
65

لأنه كان يمارس عمله العلمي في مهجره منفصلا عن تلك الحوزة، فهجرته
إلى النجف وإن هيأته للقيام بدوره العلمي العظيم لما أتاحت له من تفرغ
ولكنها فصلته عن حوزته الأساسية، ولهذا لم يتسرب الابداع الفقهي العلمي
من الشيخ إلى تلك الحوزة التي كان ينتج ويبدع بعيدا عنها، وفرق كبير
بين المبدع الذي يمارس إبداعه العلمي داخل نطاق الحوزة ويتفاعل معها
باستمرار وتواكب الحوزة إبداعه بوعي وتفتح، وبين المبدع الذي يمارس
إبداعه خارج نطاقها وبعيدا عنها.
ولهذا كان لا بد لكي يتحقق ذلك التفاعل الفكري الخلاق أن
يشتد ساعد الحوزة الفتية التي نشأت حول الشيخ في النجف حتى تصل
إلى ذلك المستوى من التفاعل من الناحية العلمية، فسادت فترة ركود ظاهري
بانتظار بلوغ الحوزة الفتية إلى ذلك المستوى، وكلف ذلك العلم أن ينتظر
قرابة مائة عام ليتحقق ذلك ولتحمل الحوزة الفتية أعباء الوراثة العلمية للشيخ
حتى تتفاعل مع آرائه وتتسرب بعد ذلك بتفكيرها المبدع الخلاق إلى الحلة،
بينما ذوت الحوزة القديمة في بغداد وانقطعت عن مجال الابداع العلمي الذي
كانت الحوزة الفتية في النجف - وجناحها الحلي بصورة خاصة الوريثة
الطبيعية له.
2 - وقد أسند جماعة من العلماء ذلك الركود الغريب إلى ما حظي
به الشيخ الطوسي من تقدير عظيم في نفوس تلامذته رفعه في أنظارهم عن
مستوى النقد، وجعل من آرائه ونظرياته شيئا مقدسا لا يمكن أن ينال
باعتراض أو يخضع لتمحيص. ففي المعالم كتب الشيخ حسن بن زين الدين
ناقلا عن أبيه قدس سره أن أكثر الفقهاء الذين نشأوا بعد الشيخ كانوا
يتبعونه في الفتوى تقليدا له لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنهم به وروي عن
الحمصي وهو ممن عاصر تلك الفترة أنه قال: " لم يبق للامامية مفت على
66

التحقيق بل كلهم حاك ".
وهذا يعني أن رد الفعل العاطفي لتجديدات الشيخ قد طغى متمثلا في
تلك النزعة التقديسية على رد الفعل الفكري الذي كان ينبغي أن يتمثل في
درس القضايا والمشاكل التي طرحها الشيخ والاستمرار في تنمية الفكر الفقهي.
وقد بلغ من استفحال تلك النزعة التقديسية في نفوس الأصحاب أنا
نجد فيهم من يتحدث عن رؤيا لأمير المؤمنين (عليه السلام) شهد فيها الإمام (عليه السلام) بصحة
كل ما ذكره الشيخ الطوسي في كتابه الفقهي " النهاية "، وهو يشهد عن
مدى تغلغل النفوذ الفكري والروحي للشيخ في أعماق نفوسهم.
ولكن هذا السبب لتفسير الركود الفكري قد يكون مرتبطا بالسبب
الأول، إذ لا يكفي التقدير العلمي لفقيه في العادة مهما بلغ لكي يغلق على الفكر الفقهي للآخرين أبواب النمو والتفاعل مع آراء ذلك الفقيه، وإنما
يتحقق هذا عادة حين لا يكون هؤلاء في المستوى العلمي الذي يؤهلهم لهذا
التفاعل فيتحول التقدير إلى إيمان وتعبد.
3 والسبب الثالث يمكننا أن نستنتجه من حقيقتين تاريخيتين:
إحداهما أن نمو الفكر العلمي والأصولي لدى الشيعة لم يكن منفصلا عن
العوامل الخارجية التي كانت تساعد على تنمية الفكر والبحث العلمي، ومن
تلك العوامل عامل الفكر السني، لان البحث الأصولي في النطاق السني
ونمو هذا البحث وفقا لأصول المذهب السني كان حافزا باستمرار للمفكرين
من فقهاء الامامية لدراسة تلك البحوث في الاطار الامامي، ووضع النظريات
التي تتفق معه في كل ما يثيره البحث السني من مسائل ومشاكل والاعتراض
على الحلول المقترحة لها من قبل الآخرين.
ويكفي للاستدلال على دور الإثارة الذي كان يقوم به التفكير الأصولي
السني، هذان النصان لشخصين من كبار فقهاء الامامية:
67

1 - قال الشيخ الطوسي في مقدمة كتاب العدة يبرر إقدامه على تصنيف
هذا الكتاب الأصولي: " إن من صنف في هذا الباب سلك كل قوم منهم
المسلك الذي اقتضاه أصولهم ولم يعهد من أصحابنا لاحد في هذا المعنى ".
2 - وكتب ابن زهرة في كتابه الغنية وهو يشرح الأغراض المتوخاة من
البحث الأصولي قائلا: " على أن لنا في الكلام في أصول الفقه غرضا آخر
سوى ما ذكرناه، وهو بيان فساد كثير من مذاهب مخالفينا فيها وكثير من
طرقهم إلى تصحيح ما هو صحيح منها (1) وأنه لا يمكنهم تصحيحها وإخراجهم
بذلك عن العلم بشئ من فروع الفقه، لان العلم بالفروع من دون العلم
بأصله محال، وهو غرض كبير يدعوا إلى العناية بأصول الفقه ويبعث على
الاشتغال بها ".
هذه هي الحقيقة الأولى.
والحقيقة الأخرى هي أن التفكير الأصولي السني كان قد بدأ ينضب
في القرن الخامس والسادس ويستنفذ قدرته على التجديد ويتجه إلى التقليد
والاجترار، حتى أدى ذلك إلى سد باب الاجتهاد رسميا.
ويكفينا لاثبات هذه الحقيقة شهادة معاصرة لتلك الفترة من عالم سني
عاشها وهو الغزالي المتوفى سنة (505) ه‍، إذا تحدث عن شروط المناظر
في البحث فذكر منها (أن يكون المناظر مجتهدا يفتى برأيه لا بمذهب الشافعي
وأبي حنيفة وغيرهما حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أبي حنيفة ترك ما يوافق
رأي الشافعي وأفتى بما ظهر له، فأما من لم يبلغ رتبة الاجتهاد وهو حكم كل أهل العصر فأي فائدة له في المناظرة "

(1) أي الكشف عن فساد كثير من متبنياتهم من ناحية وفساد الأدلة
التي يستندون إليها لاثبات المتبنيات الصحيحة من ناحية أخرى.
68

ونحن إذا جمعنا بين هاتين الحقيقتين وعرفنا أن التفكير الأصولي
السني الذي يشكل عامل إثارة للتفكير الأصولي الشيعي كان قد أخذ
بالانكماش ومني بالعقم، استطعنا أن نستنتج أن التفكير العلمي لدى فقهائنا
الامامية رضوان الله عليهم قد فقد أحد المثيرات المحركة له، الامر الذي يمكن
أن نعتبره عاملا مساعدا في توقف النمو العلمي.
ابن إدريس يصف فترة التوقف:
ولعل من أفضل الوثائق التاريخية التي تصف تلك الفترة ما ذكره الفقيه
المبدع محمد بن أحمد بن إدريس الذي أدرك تلك الفترة وكان له دور كبير
في مقاومتها وبث الحياة من جديد في الفكر العلمي كما سنعرف بعد لحظات،
فقد كتب هذا الفقيه في مقدمة كتابه السرائر يقول: " إني لما رأيت زهد
أهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية والاحكام الاسلامية وتثاقلهم عن
طلبها وعداوتهم لما يجهلون وتضييعهم لما يعلمون، ورأيت ذا السن من أهل
دهرنا هذا لغلبة الغباوة عليه مضيعا لما استوعته الأيام مقصرا في البحث
عما يجب عليه علمه حتى كأنه ابن يومه ومنتج ساعته.. ورأيت العلم عنانه
في يد الامتهان وميدانه قد عطل منه الرهان تداركت منه الذماء الباقي وتلافيت
نفسا بلغت التراقي ".
تجدد الحياة والحركة في البحث العلمي:
ما انتهت مئة عام حتى دبت الحياة من جديد في البحث الفقهي والأصولي
على الصعيد الامامي، بينما ظل البحث العلمي السني على ركوده الذي وصفه
الغزالي في القرن الخامس.
ومرد هذا الفرق بين الفكرين والبحثين إلى عدة أسباب أدت إلى
استئناف الفكر العلمي الامامي نشاطه الفقهي والأصولي دون الفكر السني.
69

ونذكر من تلك الأسباب السببين التاليين:
1 - إن روح التقليد وإن كانت قد سرت في الحوزة التي خلفها الشيخ
الطوسي كما تغلغلت في أوساط الفقه السني، ولكن نوعية الروح كانت
تختلف لان الحوزة العلمية التي خلفها الشيخ الطوسي سرى فيها روح التقليد
لأنها كانت حوزة فتية، فلم تستطع أن تتفاعل بسرعة مع تجديدات الشيخ
العظيمة، وكان لا بد لها أن تنتظر مدة من الزمن حتى تستوعب تلك الأفكار
وترتفع إلى مستوى التفاعل معها والتأثير فيها، فروح التقليد فيها موقتة بطبيعتها.
وأما الحوزات الفقهية السنية فقد كان شيوع روح التقليد أغراضها، الامر
الذي لا يمكننا التوسع في شرحه الآن على مستوى هذه الحلقة، فكان من
الطبيعي أن يتفاقم فيها روح الجمود والتقليد.
2 - إن الفقه السني كان هو الفقه الرسمي الذي تتبناه الدولة وتستفتيه
في حدود وفائها بالتزاماتها الدينية، ولهذا كانت الدولة تشكل عامل دفع
وتنمية للفقه السني، الامر الذي يجعل الفقه السني يتأثر بالأوضاع السياسية
ويزدهر في عصور الاستقرار السياسي وتخبو جذوته في ظروف الارتباك
السياسي.
وعلى هذا الأساس كان من الطبيعي أن يفقد الفقه السني شيئا مهما
من جذوته في القرن السادس والسابع وما بعدهما تأثرا بارتباك الوضع
السياسي وانهياره أخيرا على يد المغول الذين عصفوا بالعالم الاسلامي
وحكوماته.
وأما الفقه الامامي فقد كان منفصلا عن الحكم دائما ومغضوبا عليه
من الأجهزة الحاكمة في كثير من الأحايين، ولم يكن الفقهاء الاماميون
يستمدون دوافع البحث العلمي من حاجات الجهاز الحاكم، بل من حاجات
70

الناس الذين يؤمنون بإمامة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ويرجعون إلى
فقهاء مدرستهم في حل مشاكلهم الدينية ومعرفة أحكامهم الشرعية. ولأجل
هذا كان الفقه الامامي يتأثر بحاجات الناس ولا يتأثر بالوضع السياسي كما
يتأثر الفقه السني.
ونحن إذا أضفنا إلى هذه الحقيقة عن الفقه الامامي حقيقة أخرى، وهي
أن الشيعة المتعبدين بفقه أهل البيت كانوا في نمو مستمر كميا وكانت علاقاتهم
بفقهائهم وطريقة الافتاء والاستفتاء تتحدد وتتسع، استطعنا أن نعرف أن
الفقه الامامي لم يفقد العوامل التي تدفعه نحو النمو بل اتسعت باتساع
التشيع وشيوع فكرة التقليد بصورة منظمة.
وهكذا نعرف أن الفكر العلمي الامامي كان يملك عوامل النمو داخليا
باعتبار فتوته وسيره في طريق التكامل، وخارجيا باعتبار العلاقات التي كانت
تربط الفقهاء الاماميين بالشيعة وبحاجاتهم المتزايدة.
ولم يكن التوقف النسبي له بعد وفاة الشيخ الرائد إلا لكي يستجمع
قواه ويواصل نموه عنده الارتفاع إلى مستوى التفاعل مع آراء الطوسي.
وأما عنصر الإثارة المتمثل في الفكر العلمي السني فهو وإن فقده الفكر
العلمي الامامي نتيجة لجمود الحوزات الفقهية السنية، ولكنه استعاده بصورة
جديدة، وذلك عن طريق عمليات الغزو المذهبي التي قام بها الشيعة، فقد
أصبحوا في القرن السابع وما بعده في دور الدعوة إلى مذهبهم، ومارس
علماؤنا كالعلامة الحلي وغيره هذه الدعوة في نطاق واسع، فكان ذلك كافيا
لإثارة الفكر العلمي الشيعي للتعمق والتوسع في درس أصول السنة وفقهها
وكلامها، ولهذا نرى نشاطا ملحوظا في بحوث الفقه المقارن قام به العلماء
الذين مارسوا تلك الدعوة من فقهاء الامامية كالعلامة الحلي.
71

صاحب السرائر إلى صاحب المعالم:
وكانت بداية خروج الفكر العلمي عن دور التوقف النسبي على يد
الفقيه المبدع محمد بن أحمد بن إدريس المتوفى سنة (598) ه‍، إذ بث
في الفكر العلمي روحا جديدة، وكان كتابه الفقهي " السرائر " إيذانا ببلوغ
الفكر العلمي في مدرسة الشيخ إلى مستوى التفاعل مع أفكار الشيخ ونقدها
وتمحيصها.
وبدراسة كتاب السرائر ومقارنته بالمبسوط يمكننا أن ننتهي إلى
النقاط التالية:
1 - إن كتاب السرائر يبرز العناصر الأصولية في البحث الفقهي وعلاقتها
به بصورة أوسع مما يقوم به كتاب المبسوط بهذا الصدد، فعلى سبيل المثال
نذكر أن ابن إدريس أبرز في استنباطه لاحكام المياه الثلاث قواعد أصولية
وربط بحثه الفقهي بها، بينما لا نجد شيئا منها في أحكام المياه من كتاب
المبسوط وإن كانت بصيغتها النظرية العامة موجودة في كتب الأصول قبل
ابن إدريس.
2 - إن الاستدلال الفقهي لدى ابن إدريس أوسع منه في كتاب المبسوط
وهو يشتمل في النقاط التي يختلف فيها مع الشيخ على توسع في الاحتجاج
وتجميع الشواهد، حتى أن المسألة التي لا يزيد بحثها في المبسوط على سطر
واحد قد تبلغ في السرائر صفحة مثلا، ومن هذا القبيل مسألة طهارة الماء
المتنجس إذا تمم بماء متنجس أيضا فقد حكم الشيخ في المبسوط ببقاء
الماء على النجاسة ولم يزد على جملة واحدة في توضيح وجهة نظره، وأما
ابن إدريس فقد اختار طهارة الماء في هذه الحالة، وتوسع في بحث المسألة ثم
ختمه قائلا: " ولنا في هذه المسألة منفردة نحو من عشر ورقات قد بلغنا
فيها أقصى الغايات وحججنا القول فيها والأسئلة والأدلة والشواهد من
72

الآيات والاخبار ".
ونلاحظ في النقاط التي يختلف فيها ابن إدريس مع الشيخ الطوسي
اهتماما كبيرا منه باستعراض الحجج التي يمكن أن تدعم وجهة نظر الطوسي
وتفنيدها، وهذه الحجج التي يستعرضها ويفندها إما أن تكون من وضعه
وإبداعه يفترضها افتراضا ثم يبطلها لكي لا يبقي مجالا لشبهة في صحة موقفه،
أو أنها تعكس مقاومة الفكر التقليدي السائد لآراء ابن إدريس الجديدة.
أي إن الفكر السائد استفزته هذه الآراء وأخذ يدافع عن آراء الطوسي،
فكان ابن إدريس يجمع حجج المدافعين ويفندها. وهذا يعني أن آراء ابن
إدريس كان لها رد فعل وتأثير معاصر على الفكر العلمي السائد الذي اضطره
ابن إدريس للمبازرة.
ونحن نعلم من كتاب السرائر أن ابن إدريس كان يجابه معاصريه بآرائه
ويناقشهم ولم يكن منكمشا في نطاق تأليفه الخاص، فمن الطبيعي أن يثير
ردود فعل وأن تنعكس ردود الفعل هذه على صورة حجج لتأييد رأي
الشيخ، فمن مجابهات ابن إدريس تلك ما جاء في المزارعة من كتاب السرائر،
إذ كتب عن رأي فقهي يستهجنه ويقول: " والقائل بهذا القول السيد العلوي
أبو المكارم بن زهرة الحلبي شاهدته ورأيته وكاتبته وكاتبني وعرفته ما ذكره
في تصنيفه من الخطأ فاعتذر رحمه الله بأعذار غير واضحة ".
كما نلمح في بحوث ابن إدريس ما كان يقاسيه من المقلدة الذين تعبدوا
بآراء الشيخ الطوسي وكيف كان يضيق بجمودهم؟ ففي مسألة تحديد
المقدار الواجب نزحه من البئر إذا مات فيها كافر يرى ابن إدريس أن الواجب
نزح جميع ما في البئر بدليل أن الكافر إذا باشر ماء البئر وهو حي وجب
نزح جميعها اتفاقا، فوجوب نزح الجميع إذا مات فيها أولى. وإذا كان
هذا الاستدلال _ الاستدلال بالأولوية _ يحمل طابعا عقليا جريئا بالنسبة
73

إلى مستوى العلم الذي عاصره ابن إدريس فقد علق عليه يقول: " وكأني
بمن يسمع هذا الكلام ينفر منه ويستبعده ويقول: من قال هذا ومن ينظره
في كتابه ومن أشار من أهل هذه الفن الذين هو القدوة في هذا إليه؟ ".
وأحيانا نجد أن ابن إدريس يحتال على المقلدة فيحاول أن يثبت لهم
أن الشيخ الطوسي يذهب إلى نفس رأيه ولو بضرب من التأويل، فهو في
مسألة الماء المتنجس المتمم كرا بمثله يفتي بالطهارة ويحاول أن يثبت ذهاب
الشيخ الطوسي إلى القول بالطهارة أيضا، فيقول: " فالشيخ أبو جعفر
الطوسي الذي يتمسك بخلافه ويقلده في هذه المسألة ويجعل دليلا يقوي
القول والفتيا بطهارة هذا الماء في كثير من أقواله. وأنا أبين إنشاء الله
أن أبا جعفر تفوح من فيه رائحة تسليم هذه المسألة بالكلية إذا تؤمل كلامه
وتصنيفه حق التأمل وأبصر بالعين الصحيحة وأحضر له الفكر الصافي ".
3 - وكتاب السرائر من الناحية التاريخية يعاصر إلى حد ما كتاب
الغنية الذي قام فيه حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي بدراسة مستقلة
لعلم الأصول، لان ابن زهرة هذا توفي قبل ابن إدريس ب‍ (19) عاما،
فالكتابان متقاربان من الناحية الزمنية.
ونحن إذا لاحظنا أصول ابن زهرة وجدنا فيه ظاهرة مشتركة بينه
وبين فقه ابن إدريس تميزهما عن عصر التقليد المطلق للشيخ، وهذه الظاهرة
المشتركة هي الخروج على آراء الشيخ والاخذ بوجهات نظر تتعارض مع
موقفه الأصولي أو الفقهي، وكما رأينا ابن إدريس يحاول في السرائر تفنيد
ما جاء في فقه الشيخ من أدلة كذلك نجد ابن زهرة يناقش في الغنية الأدلة
التي جاءت في كتاب العدة ويستدل على وجهات نظر معارضة، بل يثير أحيانا
مشاكل أصولية جديدة لم تكن مثارة من قبل في كتاب العدة بذلك النحو (1).

(1) لا بأس أن يذكر المدرس مثالين أو ثلاثة للمسائل التي اختلف فيها
74

وهذا يعني أن الفكر الفكر العلمي كان قد نمى واتسع بكلا جناحيه الأصولي والفقهي حتى وصل إلى المستوى الذي يصلح للتفاعل مع آراء الشيخ
ومحاكمتها إلى حد ما ما على الصعيدين الفقهي والأصولي، وذلك يعزز ما
قلناه سابقا من أن نمو الفكر الفقهي ونمو الفكر الأصولي يسيران في خطين
متوازيين ولا يتخلف أحدهما عن الآخر تخلفا كبيرا، لما بينهما من تفاعل
وعلاقات.
واستمرت الحركة العلمية التي نشطت في عصر ابن إدريس تنمو وتتسع
وتزداد ثراءا عبر الأجيال، وبرز في تلك الأجيال نوابغ كبار صنفوا في الأصول
والفقه وأبدعوا، فمن هؤلاء المحقق نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد
الحلي المتوفى سنة (676) ه‍، وهو تلميذ ابن إدريس ومؤلف الكتاب
الفقهي الكبير " شرائع الاسلام " الذي أصبح بعد تأليفه محورا للبحث
والتعليق والتدريس في الحوزة بدلا عن كتاب النهاية الذي كان الشيخ
الطوسي قد ألفه قبل المبسوط.
وهذا التحول من النهاية إلى الشرايع يرمز إلى تطور كبير في مستوى
العلم، لان كتاب النهاية كان كتابا فقهيا يشتمل على أمهات المسائل الفقهية

رأى ابن زهرة عن رأي الشيخ. فمن ذلك مسألة دلالة الامر على الفور،
فقد كان الشيخ يقول بدلالته على الفور، وأنكر ابن زهرة ذلك وقال:
إن صيغة الامر حيادية لا تدل على فور ولا تراخ. ومن ذلك أيضا مسألة
اقتضاء النهي عن المعاملة لفسادها، فقد كان الشيخ يقول بالاقتضاء وأنكر
ابن زهرة ذلك مميزا بين مفهومي الحرمة والفساد ونافيا للتلازم بينهما.
وقد أثار ابن زهرة في بحوث العام والخاص مشكلة حجية العام المخصص
في غير مورد التخصيص، بينما لم تكن هذه المشكلة قد أثيرت في كتاب العدة
75

وأصولها، وأما الشرايع فهو كتاب واسع يشتمل على التفريع وتخريج الاحكام
وفقا للمخطط الذي وضعه الشيخ في المبسوط، فاحتلال هذا الكتاب المركز
الرسمي لكتاب النهاية في الحوزة واتجاه حركة البحث والتعليق إليه يعني
أن حركة التفريع والتخريج قد عمت واتسعت حتى أصبحت الحوزة كلها
تعيشها.
وقد صنف المحقق الحلي كتبا في الأصول، منها كتاب نهج الوصول
إلى معرفة الأصول، وكتاب المعارج.
ومن أولئك النوابغ تلميذ المحقق وابن أخته المعروف بالعلامة، وهو
الحسن بن يوسف بن علي بن مطهر المتوفى سنة (726) ه‍، وله كتب
عديدة في الأصول من قبيل " تهذيب الوصول إلى علم الأصول " و " مبادئ
الوصول إلى علم الأصول " وغيرهما.
وقد ظل النمو العلمي في مجالات البحث الأصولي إلى آخر القرن
العاشر، وكان المثل الأساسي له في أواخر هذه القرن الحسن بن زين الدين
المتوفى سنة (1011) ه‍، وله كتاب في الأصول باسم " المعالم " مثل فيه
المستوى العالي لعلم الأصول في عصره بتعبير سهل وتنظيم جديد، الامر
الذي جعل لهذا الكتاب شأنا كبيرا في عالم البحوث الأصولية حتى أصبح
كتابا دراسيا في هذا العلم وتناوله المعلقون بالتعليق والتوضيح والنقد.
ويقارب المعالم من الناحية الزمنية كتاب زبدة الأصول الذي صنفه علم
من أعلام العلم في أوائل القرن الحادي عشر، وهو الشيخ البهائي المتوفى
سنة (1031) ه‍.
الصدمة التي مني بها علم الأصول:
وقد مني علم الأصول بعد صاحب المعالم بصدمة عارضت نموه وعرضته
لحملة شديدة، وذلك نتيجة لظهور حركة الاخبارية في أوائل القرن الحادي
76

عشر على يد الميرزا محمد أمين الاسترآبادي المتوفى سنة (1021) ه‍
واستفحال أمر هذه الحركة بعده، وبخاصة في أواخر القرن الحادي عشر
وخلال القرن الثاني عشر.
وكان لهذه الحملة بواعثها النفسية التي دفعت الأخباريين من علمائنا
رضوان الله عليهم وعلى رأسهم المحدث الاسترآبادي إلى مقاومة علم
الأصول، وساعدت على نجاح هذه المقاومة نسبيا. نذكر منها ما يلي:
1 - عدم استيعاب ذهنية الأخباريين لفكرة العناصر المشتركة في عملية
الاستنباط، فقد جعلهم ذلك يتخيلون أن ربط الاستنباط بالعناصر المشتركة
والقواعد الأصولية يؤدي إلى الابتعاد عن النصوص الشرعية والتقليل من
أهميتها.
ولو أنهم استوعبوا فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط كما
درسها الأصوليون لعرفوا أن لكل من العناصر المشتركة والعناصر الخاصة
دورها الأساسي وأهميتها، وأن علم الأصول لا يستهدف العناصر
الخاصة بالعناصر المشتركة، بل يضع القواعد اللازمة لاستنباط الحكم من
العناصر الخاصة.
2 - سبق السنة تاريخيا إلى البحث الأصولي والتصنيف الموسع فيه،
فقد أكسب هذا علم الأصول إطارا سنيا في نظر هؤلاء الثائرين عليه، فأخذوا
ينظرون إليه بوصفه نتاجا للمذهب السني. وقد عرفنا سابقا أن سبق الفقه
السني تاريخيا إلى البحوث الأصولية لم ينشأ عن صلة خاصة بين علم الأصول
والمذهب السني، بل هو مرتبط بمدى ابتعاد الفكر الفقهي عن عصر النصوص
التي يؤمن بها، فإن السنة يؤمنون بأن عصر النصوص انتهى بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله)
وبهذا وجدوا أنفسهم في أواخر القرن الثاني بعيدين عن عصر النص بالدرجة
التي جعلتهم يفكرون في وضع علم الأصول، بينما كان الشيعة وقتئذ يعيشون
77

عصر النص الذي يمتد عندهم إلى الغيبة.
ونجد هذا المعنى بوضوح ووعي في نص للمحقق الفقيه السيد محسن
الأعرجي المتوفى سنة (1227) ه‍، إذ كتب في وسائله ردا على الأخباريين
يقول: " إن المخالفين لما احتاجوا إلى مراعاة هذه الأمور قبل أن نحتاج إليها
سبقوا إلى التدوين لبعدهم عن عصر الصحابة وإعراضهم عن أئمة الهدى،
وافتتحوا بابا عظيما لاستنباط الاحكام كثير المباحث دقيق المسارب جم
التفاصيل، وهو القياس. فاضطروا إلى التدوين أشد ضرورة، ونحن
مستغنون بأرباب الشريعة وأئمة الهدى، نأخذ منهم الاحكام مشافهة ونعرف
ما يريدون بديهة. إلى أن وقعت الغيبة وحيل بيننا وبين إمام العصر (عليه السلام)..
فاحتجنا إلى تلك المباحث وألف فيها متقدمونا كابن الجنيد وابن أبي عقيل،
وتلاهما من جاء بعدهما كالسيد والشيخين وأبي الصلاح وأبي المكارم وابن
إدريس والفاضلين والشهيدين إلى يومنا هذا. أترانا نعرض عن مراعاتها
مع مسيس الحاجة لان سبقنا إليها المخالفون وقد قال (صلى الله عليه وآله) الحكمة ضالة
المؤمن! وما كنا في ذلك تبعا وإنما بحثنا عنها أشد البحث واستقصينا أثم
الاستقصاء ولم نحكم في شئ منها إلا بعد قيام الحجة وظهور المحجة ".
3 - ومما أكد في ذهن هؤلاء الاطار السني لعلم الأصول ان ابن الجنيد
وهو من رواد الاجتهاد وواضعي بذور علم الأصول في الفقه الامامي
كان يتفق مع أكثر المذاهب الفقهية السنية في القول بالقياس. ولكن الواقع
أن تسرب بعض الأفكار من الدراسات الأصولية السنية إلى شخص كابن
الجنيد لا يعني أن علم الأصول بطبيعته سني، وإنما هو نتيجة لتأثر التجربة
العملية المتأخرة بالتجارب السابقة في مجالها. ولما كان للسنة تجارب سابقة
زمنيا في البحث الأصولي فمن الطبيعي أن نجد في بعض التجارب المتأخرة
تأثرا بها، وقد يصل التأثر أحيانا إلى درجة تبني بعض الآراء السابقة غفلة
78

عن واقع الحال. ولكن ذلك لا يعني بحال أن علم الأصول قد استورده
الشيعة من الفكر السني وفرض عليهم من قبله، بل هو ضرورة فرضتها على
الفقه الامامي عملية الاستنباط وحاجات هذه العملية.
4 - وساعد على إيمان الأخباريين بالإطار السني لعلم الأصول تسرب
اصطلاحات من البحث الأصولي السني إلى الأصوليين الاماميين وقبولهم
بها بعد تطويرها وإعطائها المدلول الذي يتفق مع وجهة النظر الامامية.
ومثال ذلك كلمة " الاجتهاد " كما رأينا في بحث سابق، إذ أخذها علماؤنا
الاماميون من الفقه السني وطوروا معناها، فتراءى لعلمائنا الأخباريين الذين
لم يدركوا التحول الجوهري في مدلول المصطلح أن علم الأصول عند أصحابنا
يتبنى نفس الاتجاهات العامة في الفكر العلمي السني، ولهذا شجبوا الاجتهاد
وعارضوا في جوازه المحققين من أصحابنا.
5 - وكان الدور الذي يلعبه العقل في علم الأصول مثيرا آخر للأخباريين
على هذا العلم نتيجة لاتجاههم المتطرف ضد العقل، كما رأينا في بحث سابق.
6 - ولعل أنجح الأساليب التي اتخذها المحدث الاسترآبادي وأصحابه
لإثارة الرأي العام الشيعي ضد علم الأصول هو استغلال حداثة علم الأصول
لضربه، فهو علم لم ينشأ في النطاق الامامي إلا بعد الغيبة، وهذا يعني أن
أصحاب الأئمة وفقهاء مدرستهم مضوا بدون علم أصول، ولم يكونوا بحاجة
إليه. وما دام فقهاء تلامذة الأئمة من قبيل زرارة بن أعين ومحمد بن
مسلم ومحمد بن أبي عمير ويونس بن عبد الرحمن وغيرهم كانوا في غنى
عن علم الأصول في فقههم، فلا ضرورة للتورط فيما لم يتورطوا فيه، ولا
معنى للقول بتوقف الاستنباط والفقه على علم الأصول.
ويمكننا أن نعرف الخطأ في هذه الفكرة على ضوء ما تقدم سابقا من
أن الحاجة إلى علم الأصول حاجة تاريخية، فإن عدم إحساس الرواة والفقهاء
79

الذين عاشوا عصر النصوص بالحاجة إلى تأسيس علم الأصول لا يعني عدم
احتياج الفكر الفقهي إلى علم الأصول في العصور المتأخرة التي يصبح الفقيه
فيها بعيدا عن جو النصوص ويتسع الفاصل ألزمني بينه وبينها، لان هذا
الابتعاد يخلق فجوات في عملية الاستنباط ويفرض على الفقيه وضع القواعد
الأصولية العامة لعلاج تلك الفجوات.
الجذور المزعومة للحركة الاخبارية:
وبالرغم من أن المحدث الاسترآبادي كان هو رائد الحركة الاخبارية فقد
حاول في فوائده المدنية أن يرجع بتاريخ هذه الحركة إلى عصر الأئمة وأن
يثبت لها جذورا عميقة في تاريخ الفقه الامامي لكي تكتسب طابعا من الشرعية
والاحترام، فهو يقول: إن الاتجاه الاخباري كان هو الاتجاه السائد بين
فقهاء الامامية إلى عصر الكليني والصدوق وغيرهما من ممثلي هذه الاتجاه
في رأي الاسترآبادي، ولم يتزعزع هذا الاتجاه إلا في أواخر القرن الرابع
وبعده حين بدأ جماعة من علماء الإمامية ينحرفون عن الخط الاخباري
ويعتمدون على العقل في استنباطهم ويربطون البحث الفقهي بعلم الأصول
تأثرا بالطريقة السنية في الاستنباط، ثم أخذ هذا الانحراف بالتوسع
والانتشار.
ويذكر المحدث الاسترآبادي بهذا الصدد كلاما للعلامة الحلي الذي
عاش قبله بثلاث قرون جاء فيه التعبير عن فريق من علماء الإمامية
بالأخباريين، ويستدل بهذا النص على سبق الاتجاه الاخباري تاريخيا.
ولكن الحقيقة أن العلامة الحلي يشير بكلمة الأخباريين في حديثه إلى
مرحلة من مراحل الفكر الفقهي لا إلى حركة ذات اتجاه محدد في الاستنباط،
فقد كان في فقهاء الشيعة منذ العصور الأولى علماء أخباريون يمثلون المرحلة
البدائية من التفكير الفقهي، وهؤلاء هم الذين تحدث عنهم الشيخ الطوسي
80

في كتاب المبسوط، وعن ضيق أفقهم واقتصارهم في بحوثهم الفقهية على
أصول المسائل وانصرافهم عن التفريع والتوسع في التطبيق. وفي النقطة
المقابلة لهم الفقهاء الأصوليون الذين يفكرون بذهنية أصولية ويمارسون
التفريع الفقهي في نطاق واسع. فالأخبارية القديمة إذن تعبر عن مستوى
من مستويات الفكر الفقهي لا عن مذهب من مذاهبه.
وهذا ما أكده المحقق الجليل الشيخ محمد تقي المتوفى سنة (1248) ه‍
في تعليقته الضخمة على المعالم، إذ كتب بهذا الشأن يقول: " فإن قلت:
إن علماء الشيعة كانوا من قديم الزمان على صنفين أخباري وأصولي كما أشار
إليه العلامة في النهاية وغيره. قلت: إنه وإن كان المتقدمون من علمائنا على
صنفين، وكان فيهم أخبارية إلا أنه لم تكن طريقتهم ما زعمه هؤلاء، بل لم
يكن الاختلاف بينهم وبين الأصولية إلا في سعة الباع في التفريعات الفقهية
وقوة النظر إلى القواعد الكلية والاقتدار على تفريع الفروع عليها، فقد كانت
طائفة منهم أرباب النصوص ورواة الاخبار ولم تكن طريقتهم التعدي عن
مضامين الروايات وموارد النصوص، بل كانوا يفتون غالبا على طبق ما يرون
ويحكمون على وفق متون الاخبار، ولم يكن كثير منهم من أهل النظر
والتعمق في المسائل العلمية.. وهؤلاء لا يتعرضون غالبا للفروع غير
المنصوصة، وهو المعروفون بالأخبارية. وطائفة منهم أرباب النظر والبحث
عن المسائل وأصحاب التحقيق والتدقيق في استعلام الاحكام من الدلائل،
ولهم الاقتدار على تأصيل الأصول والقواعد الكلية عن الأدلة القائمة عليها
في الشريعة والتسلط على تفريع الفروع عليها واستخراج أحكامها منها،
وهو الأصوليون منهم، كالعماني والإسكافي وشيخنا المفيد وسيدنا المرتضى
والشيخ وغيرهم ممن يحذو حذوهم. وأنت إذ تأملت لا تجد فرقا بين
الطريقتين إلا من جهة كون هؤلاء أرباب التحقيق في المطالب وأصحاب النظر
81

الدقيق في استنباط المقاصد وتفريع الفروع على القواعد، ولهذا اتسعت
دائرتهم في البحث والنظر وأكثروا من بيان الفروع والمسائل وتعدوا عن متون
الاخبار.. وأولئك المحدثون ليسوا غالبا بتلك القوة من الملكة، وذلك
التمكن من الفن، فلذا اقتصروا على ظواهر الروايات ولم يتعدوا غالبا عن
ظواهر مضامينها ولم يوسعوا الدائرة في التفريعات على القواعد، وأنهم لما
كانوا في أوائل انتشار الفقه وظهور المذهب كان من شأنهم تنقيح أصول
الاحكام التي عمدتها الاخبار المأثورة عن العترة الطاهرة، فلم يتمكنوا من
مزيد إمعان النظر في مضامينها وتكثير الفروغ المتفرعة عليها، ثم إن ذلك إنما
حصل بتلاحق الأفكار في الأزمنة المتأخرة ".
وفي كتاب الحدائق يعترف الفقيه الجليل الشيخ يوسف البحراني
بالرغم من موافقته على بعض أفكار المحدث الاسترآبادي بأن هذه المحدث
هو أول من جعل الاخبارية مذهبا، وأوجد الاختلاف في صفوف العلماء على
أسا ذلك، فقد كتب يقول: " ولم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا وقع
هذا الاعتساف إلا في زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه الله تعالى برحمته
المرضية، فإنه قد جرد لسان التشنيع على الأصحاب وأسهب في ذلك أي إسهاب
وأكثر من التعصبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب ".
اتجاه التأليف في تلك الفترة:
وإذا درسنا النتاج العلمي في الفترة التي توسعت فيها الحركة الاخبارية
في أواخر القرن الحادي عشر وخلال القرن الثاني عشر وجدنا اتجاها نشيطا
موفقا في تلك المدة إلى جمع الأحاديث وتأليف الموسوعات الضخمة في الروايات
والاخبار، ففي تلك المدة كتب الشيخ محمد باقر المجلسي قدس سره المتوفى
سنة (1110) ه‍ كتاب البحار وهو أكبر موسوعة للحديث عند الشيعة،
وكتب الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي قدس سرة المتوفى سنة (1104) ه‍
82

كتاب الوسائل الذي جمع فيه عددا كبيرا من الروايات المرتبطة بالفقه، وكتب
الفيض محسن القاساني المتوفى سنة (1091) ه‍ كتاب الوافي المشتمل
على الأحاديث التي جاءت في الكتب الأربعة، وكتب السيد هاشم البحراني
المتوفى سنة (1107) ه‍ أو حوالي ذلك كتاب البرهان في التفسير جمع فيه
المأثور من الروايات في تفسير القرآن.
ولكن هذا الاتجاه العام في تلك الفترة إلى التأليف في الحديث لا يعني
أن الحركة الاخبارية كانت هي السبب لخلقه وإن كانت عاملا مساعدا في
أكبر الظن، بالرغم من أن بعض أقطاب ذلك الاتجاه لم يكنوا أخباريين،
وإنما تكون هذه الاتجاه العام نتيجة لعدة أسباب، ومن أهمها أن كتبا عديدة
في الروايات اكتشفت خلال القرون التي أعقبت الشيخ لم تكن مندرجة في
كتب الحديث الأربعة عند الشيعة، ولهذا كان لا بد لهذه الكتب المتفرقة من
موسوعات جديدة تضمها وتستوعب كل ما كشف عنه الفحص والبحث العلمي
من روايات وكتب أحاديث.
وعلى هذا الضوء قد يمكن أن نعتبر العمل في وضع تلك الموسوعات
الضخمة التي أنجزت في تلك الفترة عاملا من العوامل التي عارضت نمو
البحث الأصولي إلى صف الحركة الاخبارية، ولكنه عامل مبارك على أي
حال، لان وضع تلك الموسوعات كان من مصلحة عملية الاستنباط نفسها
التي يخدمها علم الأصول.
البحث الأصولي في تلك الفترة:
وبالرغم من الصدمة التي مني بها البحث الأصولي في تلك الفترة لم
تنطفئ جذوته ولم يتوقف نهائيا، فقد كتب الملا عبد الله التوني المتوفى سنة
(1071) ه‍ الوافية في الأصول، وجاء بعده المحقق الجليل السيد حسين
الخونساري المتوفى سنة (1098) ه‍ وكان على قدر كبير من النبوغ والدقة،
83

فأمد الفكر الأصولي بقوة جديدة كما يبدو من أفكاره الأصولية في كتابه
الفقهي " مشارق الشموس في شرح الدروس "، ونتيجة لمرانه العظيم في
التفكير الفلسفي انعكس اللون الفلسفي على الفكر العلمي والأصولي بصورة
لم يسبق لها نظير، ونقول: انعكس اللون الفلسفي لا الفكر الفلسفي، لان
هذا المحقق كان ثائرا على الفلسفة وله معارك ضخمة مع رجالاتها، فلم يكن
فكره فكرا فلسفيا بصيغته التقليدية وإن كان يحمل اللون الفلسفي، فحينما
مارس البحث الأصولي انعكس اللون وسرى في الأصول الاتجاه الفلسفي
في التفكير بروحية متحررة من الصيغ التقليدية التي كانت الفلسفة تتبناها
في مسائلها وبحوثها، وكان لهذه الروح أثرها الكبير في تاريخ العلم فيما بعد،
كما سنرى إنشاء الله تعالى.
وفي عصر الخونساري كان المحقق محمد بن الحسن الشيرواني المتوفى
سنة (1098) ه‍ يكتب حاشيته على المعالم.
ونجد بعد ذلك بحثين أصوليين: أحدهما قام به جمال الدين بن
الخونساري، إذ كتب تعليقا على شرح المختصر للعضدي، وقد شهد له الشيخ
الأنصاري في الرسائل بالسبق إلى بعض الأفكار الأصولية. والآخر السيد
صدر الدين القمي الذي تلمذ على جمال الدين وكتب شرحا لوافية التوني
ودرس عنده الأستاذ الوحيد البهبهاني وتوفي سنة (1071) ه‍.
والواقع أن الخونساري الكبير ومعاصره الشيرواني وابنه جمال الدين
وتلميذ ولده صدر الدين بالرغم من أنهم عاشوا فترة زعزعة الحركة الاخبارية
للبحث الأصولي وانتشار العمل في الا حديث كانوا عوامل رفع للتفكير
الأصولي، وقد مهدوا ببحوثهم لظهور مدرسة الأستاذ الوحيد البهبهاني
التي افتتحت عصرا جديدا في تاريخ العلم كما سوف نرى، وبهذا يمكن
اعتبار تلك البحوث البذور الأساسية لظهور هذه المدرسة والحلقة الأخيرة
84

التي أكسبت الفكر العلمي في العصر الثاني الاستعداد للانتقال إلى
عصر ثالث.
انتصار علم الأصول وظهور مدرسة جديدة:
وقد قدر للاتجاه الاخباري في القرن الثاني عشر أن يتخذ من كربلاء
نقطة ارتكاز له، وبهذا عاصر ولادة مدرسة جديدة في الفقه والأصول نشأت
في كربلاء أيضا على يد رائدها المجدد الكبير محمد باقر البهبهاني المتوفى
سنة (1206) ه‍، وقد نصبت هذه المدرسة الجديدة نفسها لمقاومة الحركة
الاخبارية والانتصار لعلم الأصول، حتى تضاءل الاتجاه الاخباري ومني
بالهزيمة، وقد قامت هذه المدرسة إلى صف ذلك بتنمية الفكر العلمي والارتفاع
بعلم الأصول إلى مستوى أعلى، حتى أن بالامكان القول بأن ظهور هذه
المدرسة وجهودها المتضافرة التي بذلها البهبهاني وتلامذة مدرسته المحققون
الكبار قد كان حدا فاصلا بين عصرين من تاريخ الفكر العلمي في الفقه
والأصول.
وقد يكون هذا الدور الايجابي الذي قامت به هذه المدرسة فافتتحت
بذلك عصرا جديدا في تاريخ العلم متأثرا بعدة عوامل:
(منها) عامل رد الفعل الذي أوجدته الحركة الاخبارية، وبخاصة حين
جمعها مكان واحد ككربلاء بالحوزة الأصولية، الامر الذي يؤدي بطبيعته
إلى شدة الاحتكاك وتضاعف رد الفعل.
(ومنها) أن الحاجة إلى وضع موسوعات جديدة في الحديث كانت
قد أشبعت ولم يبق بعد وضع الوسائل والوافي والبحار إلا أن يواصل العلم
نشاطه الفكري مستفيدا من تلك الموسوعات في عمليات الاستنباط.
(ومنها) أن الاتجاه الفلسفي في التفكير الذي كان الخونساري قد
وضع إحدى بذوره الأساسية زود الفكر العلمي بطاقة جديدة للنمو وفتح
85

مجالا جديدا للابداع، وكانت مدرسة البهبهاني هي الوارثة لهذا الاتجاه.
(ومنها) عامل المكان، فإن مدرسة الأستاذ الوحيد البهبهاني نشأت
على مقربة من المركز الرئيسي للحوزة وهو النجف فكان قربها المكاني
هذا من المركز سببا لاستمرارها ومواصلة وجودها عبر طبقات متعاقبة من
الأساتذة والتلامذة، الامر الذي جعل بإمكانها أن تضاعف خبرتها باستمرار
وتضيف خبرة طبقة من رجالاتها إلى خبرة الطبقة التي سبقتها، حتى استطاعت
أن تقفز بالعلم قفزة كبيرة وتعطيه ملامح عصر جديد. وبهذا كانت مدرسة
البهبهاني تمتاز عن المدارس العديدة التي كانت تقوم هنا وهناك بعيدا عن
المركز وتتلاشى بموت رائدها.
نص يصور الصراع مع الحركة الاخبارية:
وللمحقق البهبهاني رائد هذه المدرسة كتاب في الأصول باسم " الفوائد
الحائرية " نلمح فيه ضراوة المعركة التي كان يخوضها ضد الحركة الاخبارية.
ونقتبس من الكتاب نصا يشير فيه إلى بعض شبهات الأخباريين وحججهم
ضد علم الأصول، ويلمح لدى تفنيدها إلى ما شرحناه سابقا من أن الحاجة
إلى علم الأصول حاجة تاريخية.
قال البهبهاني: " لما بعد العهد عن زمان الأئمة وخفت أمارات الفقه
والأدلة على ما كان المقرر عند الفقهاء والمعهود بينهم بلا خفاء بانقراضهم
وخلو الديار عنهم إلى أن انطمس أكثر آثارهم كما كانت طريقة الأمم السابقة
والعادة الجارية في الشرائع الماضية، أنه كلما يبعد العهد عن صاحب الشريعة
تخفى امارات قديمة وتحدث خيالات جديدة إلى أن تضمحل تلك الشريعة.
توهم متوهم أن شيخنا المفيد ومن بعده من فقهائنا إلى الآن كانوا مجتمعين
على الضلالة مبدعين بدعا كثيرة.. متابعين للعامة مخالفين لطريقة الأئمة
86

ومغيرين لطريقة الخاصة مع غاية قربهم (1) لعهد الأئمة ونهاية جلالتهم وعدالتهم
ومعارفهم في الفقه والحديث و تبحرهم وزهدهم وورعهم ".
ويستمر في استعراض مدى جرأة خصومه على أولئك الكبار ويحاسبهم
على تلك الجرأة ثم يقول: " وشبهتهم الأخرى هي أن رواة هذه الأحاديث
ما كانوا عالمين بقواعد المجتهدين (2) مع أن الحديث كان حجة لهم فنحن
أيضا مثلهم لا نحتاج إلى شرط من شرائط الاجتهاد وحالنا بعينه حالهم،
ولا ينقطعون بأن الراوي كان يعلم أن ما سمعه كلام إمامه وكان يفهم من
حيث أنه من أهل اصطلاح زمان المعصوم (عليه السلام) ولم يكن مبتلى بشئ من
الاختلالات التي ستعرفها ولا محتاجا إلى علاجها ".
استخلاص:
ولا يمكننا على مستوى هذه الحلقة أن نتوسع في درس الدور المهم
الذي قامت به هذه المدرسة أستاذا وتلامذة وما حققه للعلم من تطوير
وتعميق.
وإنما الشئ الذي يمكننا تقريره الآن مع تلخيص كل ما تقدم عن تاريخ
العلم هو أن الفكر العلمي مر بعصور ثلاثة:
(الأول) العصر التمهيدي، وهو عصر وضع البذور الأساسية لعلم
الأصول، ويبدأ هذا العصر بابن أبي عقيل وابن الجنيد وينتهي بظهور الشيخ.
(الثاني) عصر العلم، وهو العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور
وأثمرت وتحددت معالم الفكر الأصولي وانعكست على مجالات البحث

(1) أي إن هذه التهمة توجه الهيم بالرغم من أنهم في غاية القرب
لعهد الأئمة.
(2) يقصد بقواعد المجتهدين علم الأصول.
87

الفقهي في نطاق واسع، ورائد هذا العصر هو الشيخ الطوسي ومن رجالاته
الكبار ابن إدريس والمحقق الحلي والعلامة والشهيد الأول وغيرهم من النوابغ.
(الثالث) عصر الكمال العلمي، وهو العصر الذي افتتحته في تاريخ
العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الأستاذ
الوحيد البهبهاني، وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدمته من جهود
متضافرة في الميدانين الأصولي والفقهي.
وقد تمثلت تلك الجهود في أفكار وبحوث رائد المدرسة الأستاذ الوحيد
وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن حتى استكمل
العصر الثالث خصائصه العامة ووصل إلى القمة.
ففي هذه المدة تعاقبت أجيال ثلاثة من نوابغ هذه المدرسة:
ويتمثل الجيل الأول في المحققين الكبار من تلامذة الأستاذ الوحيد،
كالسيد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة (1212) ه‍، والشيخ جعفر
كاشف الغطاء المتوفى سنة (1227) ه‍، والميرزا أبي القاسم القمي المتوفى
سنة (1227) ه‍، والسيد علي الطباطبائي المتوفى سنة (1221) ه‍،
والشيخ أسد الله التستري المتوفى سنة (1234) ه‍.
ويتمثل الجيل الثاني في النوابغ الذين تخرجوا على بعض هؤلاء،
كالشيخ محمد تقي عبد الرحيم المتوفى سنة (1248) ه‍، وشريف العلماء
محمد شريف بن حسن علي المتوفى سنة (1245) ه‍، والسيد محسن
الأعرجي المتوفى سنة (1227) ه‍، والمولى أحمد النراقي المتوفى سنة
(1245) ه‍، والشيخ محمد حسن النجفي المتوفى سنة (1266) ه‍،
وغيرهم.
وأما الجيل الثالث فعلى رأسه تلميذ شريف العلماء المحقق الكبير الشيخ مرتضى
الأنصاري الذي ولد بعيد ظهور المدرسة الجديدة عام (1214) ه‍ وعاصرها
88

في مرحلته الدراسية وهي في أوج نموها ونشاطها، وقدر له أن يرتفع بالعلم
في عصره الثالث إلى القمة التي كانت المدرسة الجديدة في طريقها إليها.
ولا يزال علم الأصول والفكر العلمي السائد في الحوزات العلمية الامامية
يعيش العصر الثالث الذي افتتحته مدرسة الأستاذ الوحيد.
ولا يمنع تقسيمنا هذا لتأريخ العلم إلى عصور ثلاثة إمكانية تقسيم
العصر الواحد من هذه العصور إلى مراحل من النمو، ولكل مرحلة رائدها
وموجهها. وعلى هذا الأساس نعتبر الشيخ الأنصاري قدس سره المتوفى
سنة (1281) ه‍ رائدا لأرقى مرحلة من مراحل العصر الثالث وهي المرحلة
التي يتمثل فيها الفكر العلمي منذ أكثر من مئة سنة حتى اليوم.
89

مصادر الالهام للفكر الأصولي
لا نستطيع ونحن لا نزال في الحلقة الأولى أن نتوسع في دراسة
مصادر الالهام للفكر الأصولي ونكشف عن العوامل التي كانت تلهم الفكر
الأصولي وتمده بالجديد تلو الجديد من النظريات، لان ذلك يتوقف على
الإحاطة المسبقة بتلك النظريات، ولهذا سوف نلخص فيما يلي مصادر
الالهام بصورة موجزة:
1 - بحوث التطبيق في الفقيه، فإن الفقيه تنكشف لديه من خلال بحثه
الفقهي التطبيقي المشاكل العامة في عملية الاستنباط، ويقوم علم الأصول
عندئذ بوضع الحلول المناسبة لها، وتصبح هذه الحلول والنظريات عناصر
مشتركة في عملية الاستنباط. ولدى محاولة تطبيقها على مجالاتها المختلفة
كثيرا ما ينتبه الفقيه إلى أشياء جديدة يكون لها أثر في تعديل تلك النظريات أو
تعميقها.
ومثال ذلك أن علم الأصول يقرر أن الشئ إذا وجب وجبت مقدمته، فالوضوء
يجب مثلا إذا وجبت الصلاة، لان الوضوء من مقدمات الصلاة، كما يقرر علم
الأصول أيضا أن مقدمة الشئ إنما تجب في الظرف الذي يجب فيه ذلك
الشئ ولا يمكن أن تسبقه في الوجوب، فالوضوء إنما يجب حين تجب
الصلاة ولا يجب قبل الزوال، إذ لا تجب الصلاة قبل الزوال، فلا يمكن
أن يصبح الوضوء واجبا قبل أن يحل وقت الصلاة وتجب.
والفقيه حين يكون على علم بهذه المقررات ويمارس عمله في الفقه
فسوف يلحظ في بعض المسائل الفقهية شذوذا جديرا بالدرس، ففي الصوم
90

يجد مثلا أن من المقرر فقهيا أن وقت الصوم يبدأ من طلوع الفجر ولا يجب
الصوم قبل ذلك، وكذلك من الثابت في الفقه أن المكلف إذا أجنب في ليلة
الصيام فيجب عليه أن يغتسل قبل الفجر لكي يصح صومه، لان الغسل من
الجنابة مقدمة للصوم، فلا صوم بدونه، كما أن الوضوء مقدمة للصلاة ولا
صلاة بدون وضوء.
ويحاول الفقيه بطبيعة الحال أن يدرس هذه الأحكام الفقهية على ضوء
تلك المقررات الأصولية، فيجد نفسه في تناقض، لان الغسل وجب على
المكلف فقهيا قبل مجئ وقت الصوم، بينما يقرر علم الأصول أن مقدمة كل
شئ إنما تجب في ظرف وجوب ذلك الشئ ولا تجب قبل وقته. وهكذا
يرغم الموقف الفقهي الفقيه أن يراجع من جديد النظرية الأصولية ويتأمل في
طريقة للتوفيق بينهما وبين الواقع الفقهي، وينتج عن ذلك تولد أفكار
أصولية جديدة بالنسبة إلى النظرية تحددها أو تعمقها وتشرحها بطريقة جديدة
تتفق مع الواقع الفقهي.
وهذا المثال مستمد من الواقع، فإن مشكلة تفسير وجوب الغسل
قبل وقت الصوم تكشفت من خلال البحث الفقهي، وكان أول بحث فقهي
استطاع أن يكشف عنها هو بحث ابن إدريس في السرائر، وإن لم يوفق
لعلاجها.
وأدى اكتشاف هذه المشكلة إلى بحوث أصولية دقيقة في طريق التوفيق
بين المقررات الأصولية السابقة والواقع الفقهي، وهي البحوث التي يطلق
عليها اليوم اسم بحوث المقدمات المفوتة.
2 - علم الكلام، فقد لعب دورا مهما في تموين الفكر الأصولي
وإمداده، وبخاصة في العصر الأول والثاني، لان الدراسات الكلامية كانت
منتشرة وذات نفوذ كبير على الذهنية العامة لعلماء المسلمين حين بدأ علم
91

الأصول يشق طريقه إلى الظهور، فكان من الطبيعي أن يعتمد عليه ويستلهم
منه. ومثال ذلك نظرية الحسن والقبح العقليين، وهي النظرية الكلامية
القائلة بأن العقل الانساني يدرك بصورة مستقلة عن النص الشرعي قبح بعض
الأفعال كالظلم والخيانة وحسن بعضها كالعدل والوفاء والأمانة، فإن هذه
النظرية استخدمت أصوليا في العصر الثاني لحجية الاجماع، أي إن العلماء
إذا اتفقوا على رأي واحد فهو الصواب، بدليل أنه لو كان خطأ لكان من
القبيح عقلا سكوت الإمام المعصوم عنه وعدم إظهاره للحقيقة، فقبح سكوت
الامام عن الخطأ هو الذي يضمن صواب الرأي المجمع عليه.
3 - الفلسفة، وهي لم تصبح مصدرا لالهام الفكر الأصولي في نطاق
واسع إلا في العصر الثالث تقريبا، نتيجة لرواج البحث الفلسفي على الصعيد
الشيعي بدلا عن علم الكلام وانتشار فلسفات كبيرة ومجددة كفلسفة صدر
الدين الشيرازي المتوفى (1050) ه‍، فإن ذلك أدى إلى إقبال الفكر
الأصولي في العصر الثالث على الاستمداد من الفلسفة واستلهامها أكثر من
استلهام علم الكلام، وبخاصة التيار الفلسفي الذي أوجده صدر الدين
الشيرازي. ومن أمثلة ذلك ما لعبته مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية
في مسائل أصولية متعددة، كمسألة اجتماع الأمر والنهي ومسألة تعلق
الأوامر بالطبائع والافراد، الامر الذي لا يمكننا فعلا توضيحه.
4 - الظرف الموضوعي الذي يعيشه المفكر الأصولي، فإن الأصولي
قد يعيش في ظرف معين فيستمد من طبيعة ظرفه بعض أفكاره، ومثاله أولئك
العلماء الذين كانوا يعيشون في العصر الأول ويجدون الدليل الشرعي الواضح
ميسرا لهم في جل ما يواجهونه من حاجات وقضايا، نتيجة لقرب عهدهم
بالأئمة عليهم السلام وقلة ما يحتاجون إليه من مسائل نسبيا، فقد ساعد
ظرفهم ذلك وسهولة استحصال الدليل فيه على أن يتصوروا أن هذه الحالة
92

حالة مطابقة ثابتة في جميع العصور. وعلى هذا الأساس ادعوا أن من اللطف
الواجب على الله أن يجعل على كل حكم شرعي دليلا واضحا ما دام الانسان
مكلفا والشريعة باقية.
5 - عامل الزمن، وأعني بذلك أن الفاصل ألزمني بين الفكر الفقهي
وعصر النصوص كلما اتسع وازداد تجددت مشاكل وكلف علم الأصول
بدراستها، فعلم الأصول يمنى نتيجة لعامل الزمن وازدياد البعد عن عصر
النصوص بألوان من المشاكل، فينمو بدراستها والتفكير في وضع الحلول
المناسبة لها.
ومثال ذلك أن الفكر العلمي ما دخل العصر الثاني حتى وجد نفسه قد
ابتعد عن عصر النصوص بمسافة تجعل أكثر الاخبار والروايات التي لديه
غير قطعية الصدور، ولا يتيسر الاطلاع المباشر على صحتها كما كان ميسورا
في كثير من الأحيان لفقهاء العصر الأول، فبرزت أهمية الخبر الظني ومشاكل
حجيته، وفرضت هذه الأهمية واتساع الحاجة إلى الاخبار الظنية على الفكر
العلمي أن يتوسع في بحث تلك المشاكل ويعوض عن قطعية الروايات بالفحص
عن دليل شرع يدل على حجيتها وإن كانت ظنية، وكان الشيخ الطوسي
رائد العصر الثاني هو أول من توسع في بحث حجية الخبر الظني وإثباتها.
ولما دخل العلم في العصر الثالث أدى اتساع الفاصل ألزمني إلى الشك
حتى في مدارك حجية الخبر ودليلها الذي استند إليه الشيخ في مستهل العصر
الثاني، فإن الشيخ استدل على حجية الخبر الظني بعمل أصحاب الأئمة به،
ومن الواضح أنا كلما ابتعدنا عن عصر أصحاب الأئمة ومدارسهم يصبح
الموقف أكثر غموضا والاطلاع على أحوالهم أكثر صعوبة. وهكذا بدأ
الأصوليون في مستهل العصر الثالث يتساءلون هل يمكننا أن نظفر بدليل
شرعي على حجية الخبر الظني أو لا؟ وعلى هذا الأساس وجد في مستهل
93

العصر الثالث اتجاه جديد يدعي انسداد باب العلم، لان الاخبار ليست قطعية
وانسداد باب الحجة لأنه لا دليل شرعي على حجية الاخبار الظنية، ويدعو
إلى إقامة علم الأصول على أساس الاعتراف بهذا الانسداد، كما يدعو إلى
جعل الظن بالحكم الشرعي أي ظن أساسا للعمل، دون فرق بين الظن
الحاصل من الخبر وغيره ما دمنا لا نملك دليلا شرعيا خاصا على حجية الخبر
يميزه عن سائر الظنون.
وقد أخذ بهذا الاتجاه عدد كبير من رواد العصر الثالث ورجالات المدرسة
التي افتتحت هذه العصر كالأستاذ البهبهاني وتلميذه المحقق القمي وتلميذه
صاحب الرياض وغيرهما، وبقي هذا الاتجاه قيد الدرس والبحث العلمي
حتى يومنا هذا.
وبالرغم من أن لهذا الاتجاه الانسدادي بوادره في أواخر العصر الثاني
فقد صرح المحقق الشيخ محمد باقر بن صاحب الحاشية على المعالم بأن الالتزام
بهذا الاتجاه لم يعرف عن أحد قبل الأستاذ الوحيد البهبهاني وتلامذته،
كما أكد أبوه المحقق الشيخ محمد تقي في حاشيته على المعالم أن الأسئلة
التي يطرحها هذه الاتجاه حديثة ولم تدخل في الفكر العلمي قبل عصره.
وهكذا نتبين كيف تظهر بين فترة وفترة اتجاهات جديدة، وتتضخم
أهميتها العلمية بحكم المشاكل التي يفرضها عامل الزمن.
6 - عنصر الابداع الذاتي، فإن كل علم حين ينمو ويشتد يمتلك
بالتدريج قدرة على الخلق والتوليد الذاتي نتيجة لمواهب النوابغ في ذلك
العلم والتفاعل بين أفكاره. ومثال ذلك في علم الأصول بحوث الأصول
العملية وبحوث الملازمات والعلاقات بين الأحكام الشرعية، فإن أكثر هذه
البحوث نتائج أصولي خالص. ونقصد ببحوث الأصول العملية تلك البحوث
التي تدرس نوعية القواعد الأصولية والعناصر المشتركة التي يجب على الفقيه
94

الرجوع إليها لتحديد موقفه العملي إذا لم يجد دليلا على الحكم وظل الحكم
الشرعي مجهولا لديه. ونقصد ببحوث الملازمات والعلاقات بين الاحكام
ما يقوم به علم الأصول من دراسة الروابط المختلفة بين الاحكام، من قبيل
مسألة أن النهي عن المعاملة هل يقتضي فسادها أو لا؟ إذ تدرس في هذه
المسألة العلاقة بين حرمة البيع وفساده وهل يفقد أثره في نقل الملكية من
البائع إلى المشتري إذا أصبح حراما أو يظل صحيحا ومؤثرا في نقل الملكية
بالرغم من حرمته؟ أي إن العلاقة بين الحرمة والصحة هل هي علاقة
تضاد أو لا؟
عطاء الفكر الأصولي وابداعه:
وبودي أن أشير بهذا الصدد إلى حقيقة يجب أن يعلمها الطالب ولو
بصورة مجملة، حيث لا يمكن توضيحها والتوسع فيها على مستوى هذه
الحلقة.
وهذه الحقيقة هي أن علم الأصول لم يقتصر إبداعه الذاتي على مجاله
الأصيل أي مجال تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط بل كان
له إبداع كبير في عدد من أهم مشاكل الفكر البشري، وذلك إن علم الأصول
بلغ في العصر العلمي الثالث وفي المرحلة الأخيرة من هذا العصر بصورة خاصة
قمة الدقة والعمق، ووعى بفهم وذكاء مشاكل الفلسفة وطرائقها في التفكير
والاستدلال وبحثها متحررا من التقاليد الفلسفية التي تقيد بها البحث الفلسفي
منذ ثلاثة قرون، إذ كان يسير في خط مرسوم ولا يجسر على التفكير في
الخروج عن القواعد العامة للتفكير الفلسفي، ويستشعر الهيبة للفلاسفة
الكبار وللمسلمات الأساسية في الفلسفة بالدرجة التي تجعل هدفه الأقصى
استيعاب أفكارهم والقدرة على الدفاع عنها، وبينما كان البحث الفلسفي
95

على هذه الصورة كان البحث الأصولي يخوض بذكاء وعمق في درس المشاكل
الفلسفية متحررا من سلطان الفلاسفة التقليديين وهيبتهم. وعلى هذا الأساس
تناول علم الأصول جملة من قضايا الفلسفة والمنطق التي تتصل بأهدافه،
وأبدع فيها إبداعا أصيلا لا نجده في البحث الفلسفي التقليدي، ولهذا يمكننا
القول بأن الفكر الذي أعطاه علم الأصول في المجالات التي درسها من الفلسفة
والمنطق أكثر جدة من الفكر الذي قدمته فلسفة الفلاسفة المسلمين نفسهم
في تلك المجالات.
وفيما يلي نذكر بعض الحقول التي أبدع فيها الفكر الأصولي (1):
1 - في مجال نظرية المعرفة، وهي النظرية التي تدرس قيمة المعرفة
البشرية ومدى إمكان الاعتماد عليها، وتبحث عن المصادر الرئيسية لها.
فقد امتد البحث الأصولي إلى مجال هذه النظرية وانعكس ذلك في
الصراع الفكري الشديد بين الأخباريين والمجتهدين الذي كان ولا يزال
يتمخض عن أفكار جديدة في هذا الحقل، وقد عرفنا سابقا كيف أن التيار
الحسي تسرب عن طريق هذا الصراع إلى الفكر العلمي عند فقهائنا، بينما
لم يكن قد وجد في الفلسفة الأوروبية إلى ذلك الوقت.
2 - في مجال فلسفة اللغة فقد سبق الفكر الأصولي أحدث اتجاه
عالمي في المنطق الصوري اليوم، وهو اتجاه المناطقة الرياضيين الذين يردون
الرياضيات إلى المنطق والمنطق إلى اللغة، ويرون أن الواجب الرئيسي على
الفيلسوف أن يحلل اللغة ويفلسفها بدلا عن أن يحلل الوجود الخارجي
ويفلسفه. فإن المفكرين الأصوليين قد سبقوا في عملية التحليل اللغوي،

(1) هذه النماذج لا يطلب تدريسها بالتفصيل وإنما يكتفي المدرس
إذا رأى مجالا بالإشارة إلى بعضها، وسوف نستعرضها بصورة أوضح
في الحلقات المقبلة إنشاء الله تعالى.
96

وليست بحوث المعنى الحرفي والهيئات في الأصول إلا دليلا على هذا السبق.
ومن الطريف أن يكتب اليوم " برتراند رسل " رائد ذلك الاتجاه
الحديث في العالم المعاصر محاولا التفرقة بين جملتين لغويتين في دراسته
التحليلية للغة وهما: " مات قيصر " و " موت قيصر " أو " صدق موت
قيصر " فلا ينتهي إلى نتيجة وإنما يعلق على مشكلة التمييز المنطقي بين الجملتين
فيقول: " لست أدري كيف أعالج هذه المشكلة علاجا مقبولا " (1).
أقول: من الطريف أن يعجز باحث في قمة ذلك الاتجاه الحديث عن
تحليل الفرق بين تلك الجملتين، بينما يكون علم الأصول قد سبق إلى دراسة
هذا الفرق في دراساته الفلسفية التحليلية للغة ووضع له أكثر من تفسير.
3 - وكذا نجد لدى بعض المفكرين الأصوليين بذور نظرية الأنماط
المنطقية، فقد حاول المحقق الشيخ محمد كاظم الخراساني في الكفاية أن
يميز بين الطلب الحقيقي والطلب الانشائي بما يتفق مع الفكرة الرئيسية في
تلك النظرية. وبهذا يكون الفكر الأصولي قد استطاع أن يسبق " برتراند
رسل " صاحب تلك النظرية، بل استطاع بعد ذلك أكثر من هذا فقام
بمناقشتها ودحضها وحل التناقضات التي بنى " رسل " نظريته على أساسها.
4 - ومن أهم المشاكل التي درستها الفلسفة القديمة وتناولتها البحوث
الجديدة في التحليل الفلسفي للغة هي مشكلة الكلمات التي لا يبدو أنها تعبر
عن شئ موجود، فماذا نقصد بقولنا مثلا " الملازمة بين النار والحرارة "
وهل هذه الملازمة موجودة إلى جانب وجود النار والحرارة أو معدومة؟
وإذا كانت موجودة فأين هي موجودة؟ وإذا كانت معدومة ولا وجود لها

(1) أصول الرياضيات ج 1 ص 96 ترجمة الدكتور محمد موسى أحمد
والدكتور أحمد فؤاد الأهواني.
97

فكيف نتحدث عنها. وقد درس الفكر الأصولي هذه المشكلة متحررا عن
القيود الفلسفية التي كانت تحصر المسألة في نطاق الوجود والعدم، فأبدع فيها.
وكل هذه الأمثلة والنماذج نذكرها الآن لينفتح لها الطالب على سبيل
الاجمال، وأما توضيحها وشرحها فنؤجله إلى الحلقات المقبلة إنشاء الله تعالى.
98

الحكم الشرعي وتقسيمه
عرفنا أن علم الأصول يدرس العناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم
الشرعي، ولأجل ذلك يجب أن نكون فكرة عامة منذ البدء عن الحكم
الشرعي الذي يقوم علم الأصول بتحديد العناصر المشتركة في عملية استنباطه.
الحكم الشرعي هو التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الانسان
والخطابات الشرعية في الكتاب والسنة مبرزة للحكم وكاشفة عنه، وليست
هي الحكم الشرعي نفسه.
وعلى هذا الضوء يكون من الخطأ تعريف الحكم الشرعي بالصيغة
المشهورة بين قدماء الأصوليين، إذ يعرفونه بأنه الخطاب الشرعي المتعلق
بأفعال المكلفين، فإن الخطاب كاشف عن الحكم والحكم مدلول الخطاب.
أضف إلى ذلك أن الحكم الشرعي لا يتعلق بأفعال المكلفين دائما، بل
قد يتعلق بذواتهم أو بأشياء أخرى ترتبط بهم، لان الهدف من الحكم الشرعي
تنظيم حياة الانسان، وهذا الهدف كما يحصل بخطاب متعلق بأفعال المكلفين
كخطاب " صل " و " صم " و " لا تشرب الخمر " كذلك يحصل بخطاب
متعلق بذواتهم أو بأشياء أخرى تدخل في حياتهم من قبيل الاحكام والخطابات
التي تنظم علاقة الزوجية وتعتبر المرأة زوجة للرجل في ظل شروط معينة،
أو تنظم علاقة الملكية وتعتبر الشخص مالكا للمال في ظل شروط معينة،
فإن هذه الأحكام ليست متعلقة بأفعال المكلفين بل الزوجية حكم شرعي
متعلق بذواتهم والملكية حكم شرعي متعلق بالمال. فالأفضل إذن استبدال
الصيغة المشهورة بما قلناه من أن الحكم الشرعي هو التشريع الصادر من
99

الله لتنظيم حياة الانسان سواء كان متعلقا بأفعاله أو بذاته أو بأشياء أخرى
داخلة في حياته.
تقسيم الحكم إلى تكليفي ووضعي:
وعلى ضوء ما سبق يمكننا تقسيم الحكم إلى قسمين:
أحدهما الحكم الشرعي المتعلق بأفعال الانسان والموجه لسلوكه مباشرة
في مختلف جوانب حياته الشخصية والعبادية والعائلية والاقتصادية والسياسية
التي عالجتها الشريعة ونظمتها جميعا، كحرمة شرب الخمر ووجوب الصلاة
ووجوب الانفاق على بعض الأقارب وإباحة إحياء الأرض ووجوب العدل
على الحاكم.
والآخر الحكم الشرعي الذي لا يكون موجها مباشرا للانسان في أفعاله
وسلوكه، وهو كل حكم يشرع وضعا معينا يكون له تأثير غير مباشر على
سلوك الانسان، من قبيل الاحكام التي تنظم علاقات الزوجية، فإنها تشرع
بصورة مباشرة علاقة معينة بين الرجل والمرأة وتؤثر بصورة غير مباشرة على
السلوك وتوجهه لان المرأة بعد أن تصبح زوجة مثلا تلزم بسلوك معين
تجاه زوجها، ويسمى هذا النوع من الاحكام بالاحكام الوضعية.
والارتباط بين الأحكام الوضعية والاحكام التكليفية وثيق، إذ لا يوجد
حكم وضعي إلا ويوجد إلى صفه حكم تكليفي، فالزوجية حكم شرعي وضعي
توجد إلى صفه أحكام تكليفية، وهي وجوب إنفاق الزوج على زوجته
ووجوب التمكين على الزوجة، والملكية حكم شرعي وضعي توجد إلى صفه
أحكام تكليفية من قبيل حرمة تصرف غير المالك في المال إلا بإذنه، وهكذا.
أقسام الحكم التكليفي:
ينقسم الحكم التكليفي وهو الحكم المتعلق بأفعال الانسان والموجه
100

لها مباشرة إلى خمسة أقسام، وهي كما يلي:
1 - " الوجوب " وهو حكم شرعي يبعث نحو الشئ الذي تعلق به
بدرجة الالزام، نحو وجوب الصلاة ووجوب إعالة المعوزين على ولي الامر.
2 - " الاستحباب " وهو حكم شرعي يبعث نحو الشئ الذي تعلق
به بدرجة دون الالزام، ولهذا توجد إلى صفه دائما رخصة من الشارع في
مخالفته، كاستحباب صلاة الليل.
3 - " الحرمة " وهي حكم شرعي يزجر عن الشئ الذي تعلق به
بدرجة الالزام، نحو حرمة الربا وحرمة الزنا وبيع الأسلحة من أعداء الاسلام.
4 - " الكراهة " وهي حكم شرعي يزجر عن الشئ الذي تعلق به
بدرجة دون الالزام، فالكراهة في مجال الزجر كالاستحباب في مجال البعث،
كما أن الحرمة في مجال الزجر كالوجوب في مجال البعث، ومثال المكروه
خلف الوعد.
5 - " الإباحة " وهي أن يفسح الشارع المجال المكلف لكي يختار
الموقف الذي يريده، ونتيجة ذلك أن يتمتع المكلف بالحرية فله أن يفعل
وله أن يترك.
101

* * *
102

القسم الثاني
بحوث علم الأصول
103

* * *
104

تنويع البحث
حينما يتناول الفقيه مسألة كمسألة الإقامة للصلاة ويحاول استنباط
حكمها يتسأل في البداية: ما هو نوع الحكم الشرعي المتعلق بالإقامة أهو
وجوب أو استحباب؟ فإن حصل على دليل يكشف عن نوع الحكم الشرعي
للإقامة أمكنه الجواب على السؤال الذي طرحه منذ البدء في ضوء هذا الدليل
وكان عليه أن يحدد موقفه العملي واستنباطه على أساسه، فيكون استنباطا
قائما على أساس الدليل.
وإن لم يحصل الفقيه على دليل يعين نوع الحكم الشرعي المتعلق بالإقامة
فسوف يضطر إلى الكف عن محاولة اكتشاف الحكم الشرعي ما دام لا يوجد
في المجال الفقهي دليل عليه، ويظل الحكم الشرعي مجهولا للفقيه لا يدري
أهو وجوب أو استحباب؟ وفي هذه الحالة يستبدل الفقيه سؤاله الأول الذي
طرحه في البداية بسؤال جديد كما يلي: ما هي القواعد الفقهية التي تحدد الموقف
العملي تجاه الحكم الشرعي المجهول؟ فبينما كان الفقيه يحاول تحديد الموقف
العملي عن طريق اكتشاف نوع الحكم الشرعي وإقامة الدليل عليه، أصبح
يحاول تحديد الموقف العلمي على ضوء القواعد التي تعالج مثل هذا الموقف
تجاه الحكم المجهول، وهذه القواعد تسمى بالأصول العملية. ومثالها أصالة
البراءة، وهي القاعدة القائلة إن كل إيجاب أو تحريم مجهول لم يقم عليه
دليل فلا أثر له على سلوك الانسان وليس الانسان ملزما بالاحتياط من
ناحيته والتقيد به، ويقوم الاستنباط في هذه الحالة على أساس الأصل
العملي بدلا عن الدليل.
105

ولأجل هذا يمكننا تنويع عملية الاستنباط إلى نوعين: أحدهما
الاستنباط القائم على أساس الدليل، كالاستنباط المستمد من نص دال على
الحكم الشرعي، والآخر الاستنباط القائم على أساس الأصل العملي
كالاستنباط المستمد من أصالة البراءة.
ولما كان علم الأصول هو العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط
فهو يزود كلا النوعين بعناصره المشتركة، وعلى هذا الأساس ننوع البحوث
الأصولية إلى نوعين نتكلم في النوع الأول عن العناصر المشتركة في عملية
الاستنباط القائمة على أساس الدليل، ونتكلم في النوع الثاني عن العناصر
المشتركة في عملية الاستنباط القائمة على أساس الأصل العملي:
العنصر المشترك بين النوعين:
ويوجد بين العناصر المشتركة في عملية الاستنباط عنصر مشترك يدخل
في جميع عمليات استنباط الحكم الشرعي بكلا نوعيها ما كان منها قائما على
أساس الدليل وما كان قائما على أساس الأصل العملي.
وهذا العنصر هو حجية العلم " القطع "، ونريد بالعلم انكشاف قضية
من القضايا بدرجة لا يشوبها شك. ومعنى حجية العلم يتلخص في أمرين:
(أحدهما) أن العبد إذا تورط في مخالفة المولى نتيجة لعمله بقطعه
واعتقاده فليس للمولى معاقبته، وللعبد أن يتعذر عن مخالفته للمولى بأنه
عمل على وفق قطعه، كما إذا قطع العبد خطأ بأن الشراب الذي أمامه ليس
خمرا فشربه اعتمادا على قطعه وكان الشراب خمرا في الواقع فليس للمولى
أن يعاقبه على شربه للخمر ما دام قد استند إلى قطعه، وهذا أحد الجانبين
من حجية العلم ويسمى بجانب المعذرية.
(والآخر) أن العبد إذا تورط في مخالفة المولى نتيجة لتركه العمل بقطعه
فللمولى أن يعاقبه ويحتج عليه بقطعه، كما إذا قطع العبد بأن الشراب الذي
106

أمامه خمر فشربه وكان خمرا في الواقع، فإن من حق المولى أن يعاقبه على
مخالفته، لان العبد كان على علم بحرمة الخمر وشربه فلا يعذر في ذلك،
وهذا هو الجانب الثاني من حجية العلم ويسمى بجانب المنجزية.
وبديهي أن حجية العلم بهذا المعنى الذي شرحناه لا يمكن أن تستغني
عنه أي عملية من عمليات استنباط الحكم الشرعي، لان الفقيه يخرج من
عملية الاستنباط دائما بنتيجة، وهي العلم بالموقف العملي تجاه الشريعة
وتحديده على أساس الدليل أو على أساس الأصل العملي. ولكي تكون
هذه النتيجة ذات أثر لا بد من الاعتراف مسبقا بحجية العلم، إذ لو لم يكن
العلم حجة ولم يكن صالحا للاحتجاج به من المولى على عبده ومن العبد
على مولاه لكانت النتيجة التي خرج بها الفقيه من عملية الاستنباط لغوا،
لان علمه ليس حجة، ففي كل عملية استنباط لا بد إذن أن يدخل عنصر حجية
العلم لكي تعطي العملية ثمارها ويخرج منها الفقيه بنتيجة إيجابية. وبهذا
أصبحت حجية العلم أعم العناصر الأصولية المشتركة وأوسعها نطاقا.
وليست حجية العلم عنصرا مشتركا في عمليات استنباط الفقيه للحكم
الشرعي فحسب، بل هي في الواقع شرط أساسي في دراسة الأصولي للعناصر
المشتركة نفسها أيضا، فنحن حينما ندرس مثلا مسألة حجية الخبر أو حجية
الظهور العرفي إنما نحاول بذلك تحصيل العلم بواقع الحال في تلك المسألة،
فإذا لم يكن العلم حجة فأي جدوى في دراسة حجية الخبر والظهور العرفي.
فالفقيه والأصولي يستهدفان معا من بحوثهما تحصيل العلم بالنتيجة
الفقهية " تحديد الموقف العلمي تجاه الشريعة " أو الأصولية " العنصر
المشترك "، فبدون الاعتراف المسبق بحجية العلم تصبح بحوثهما عبثا لا
طائل تحته.
وحجية العلم ثابتة بحكم العقل، فإن العقل يحكم بأن المولى سبحانه
107

حق الطاعة على الانسان في كل ما يعلمه من تكاليف المولى وأوامره ونواهيه
فإذا علم الانسان بحكم إلزامي من المولى " وجوب أو حرمة " دخل ذلك
الحكم الالزامي ضمن نطاق حق الطاعة، وأصبح من حق المولى على الانسان
أن يمتثل ذلك الالزام الذي علم به، فإذا قصر في ذلك أو لم يؤد حق الطاعة
كان جديرا بالعقاب، وهذا هو جانب المنجزية في حجية العلم، ومن ناحية
أخرى يحكم العقل أيضا بأن الانسان القاطع بعدم الالزام من حقه أن يتصرف
كما يحلو له، وإذا كان الالزام ثابتا في الواقع والحالة هذه فليس من حق
المولى على الانسان أن يمتثله ولا يمكن للمولى أن يعاقبه على مخالفته ما دام
الانسان قاطعا بعدم الالزام، وهذا هو جانب المعذرية في حجية العلم.
والعقل كما يدرك حجية القطع كذلك يدرك أن الحجية لا يمكن أن
تزول عن القطع بل هي لازمة له، ولا يمكن حتى للمولى أن يجرد القطع
من حجيته ويقول: إذا قطعت بعدم الالزام فأنت لست معذورا، أو يقول:
إذا قطعت بالالزام فلك أن تهمله، فإن كل هذا مستحيل بحكم العقل، لان
القطع لا تنفك عنه المعذرية والمنجزية بحال من الأحوال، وهذا هو معنى
المبدأ الأصولي القائل باستحالة صدور الردع من الشارع عن القطع.
قد تقول: هذا المبدأ الأصولي يعني إن العبد إذا تورط في عقيدة
خاطئة فقطع مثلا بأن شرب الخمر حلال فليس للمولى أن ينبهه على الخطأ.
والجواب أن المولى بإمكانه التنبيه على الخطأ وإخبار العبد بأن الخمر
ليس مباحا، لأنه بذلك يزيل القطع من نفس العبد ويرده إلى الصواب،
والمبدأ الأصولي الآنف الذكر إنما يقرر استحالة صدور الردع من المولى
عن العمل بالقطع مع بقاء القطع ثابتا، فالقاطع بحلية شرب الخمر يمكن
للمولى أن يزيل قطعه ولكن من المستحيل أن يردعه عن العمل بقطعه ويعاقبه
على ذلك ما دام قطعه ثابتا ويقينه بالحلية قائما.
108

النوع الأول
العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الدليل
تمهيد:
الدليل الذي يستند إليه الفقيه في استنباط الحكم الشرعي إما أن يؤدي
إلى العلم بالحكم الشرعي أولا:
ففي الحالة الأولى يكون الدليل قطعيا ويستمد شرعيته وحجيته من حجية
القطع، لأنه يؤدي إلى القطع بالحكم، والقطع حجة بحكم العقل فيتحتم
على الفقيه أن يقيم على أساسه استنباطه للحكم الشرعي. ومن نماذج الدليل
القطعي كل آية كريمة تدل على حكم شرعي بصراحة ووضوح لا يقبل الشك
والتأويل، ومن نماذجه أيضا القانون القائل " كلما وجب الشئ وجبت
مقدمته "، فإن هذا القانون يعتبر دليلا قطعيا على وجوب الوضوء بوصفه
مقدمة للصلاة.
وأما في الحالة الثانية فالدليل ناقص لأنه ليس قطعيا، والدليل الناقص
إذا حكم الشارع بحجيته وأمر بالاستناد إليه في عملية الاستنباط بالرغم من
نقصانه، أصبح كالدليل القطعي وتحتم على الفقيه الاعتماد عليه. ومن
نماذج الدليل الناقص الذي جعله الشارع حجة خبر الثقة، فإن خبر الثقة
لا يؤدي إلى العلم لاحتمال الخطأ فيه أو الشذوذ، فهو دليل ظني ناقص،
وقد جعله الشارع حجة وأمر باتباعه وتصديقه، فارتفع بذلك في عملية
109

الاستنباط إلى مستوى الدليل القطعي.
وإذا لم يحكم الشارع بحجية الدليل الناقص فلا يكون حجة ولا يجوز
الاعتماد عليه في الاستنباط، لأنه ناقص يحتمل فيه الخطأ.
وقد نشك ولا نعلم هل جعل الشارع الدليل الناقص حجة أو لا ولا
يتوفر لدينا الدليل الذي يثبت الحجية شرعا أو ينفيها، وعندئذ يجب أن
نرجع إلى قاعدة عامة يقررها الأصوليون بهذا الصدد، وهي القاعدة القائلة:
" إن كل دليل ناقص ليس حجة ما لم يثبت بالدليل الشرعي العكس "،
وهذا هو معنى ما يقال في علم الأصول من أن " الأصل في الظن هو عدم
الحجية إلا ما خرج بدليل قطعي ".
ونستخلص من ذلك أن الدليل الجدير بالاعتماد عليه فقهيا هو الدليل
القطعي أو الدليل الناقص الذي ثبتت حجيته بدليل قطعي.
تقسيم البحث:
والدليل في المسألة الفقهية سواء كان قطعيا أو لم يكن ينقسم إلى
ثلاثة أقسام:
1 - " الدليل اللفظي " وهو الدليل المستمد من كلام المولى، كما
إذا سمعت مولاك يقول: " أقيموا الصلاة "، فتستدل بذلك على وجوب
الصلاة.
2 - " الدليل البرهاني " (1) وهو الدليل المستمد من قانون عقلي

(1) لا نريد بكلمة البرهان مصطلحها المنطقي، بل نريد بها الطريقة
القياسية في الاستدلال، غير أنا تحاشينا عن استخدام كلمة القياس بدلا
عن كلمة البرهان، لان لها معنى في المصطلح الأصولي يختلف عن مدلولها
المنطقي الذي نريده هنا.
110

عام، كما إذا ثبت لديك وجوب الوضوء بوصفه مقدمة للصلاة استنادا إلى
القانون العقلي العام الذي يقول: " كلما وجب الشئ وجبت مقدمته ".
3 - " الدليل الاستقرائي " وهو الدليل المستمد من تتبع حالات كثيرة،
كما إذا استطعت أن تعرف أن أباك يأمرك بالاحسان إلى جارك الفقير عن
طريق تتبعك لذوقه وأمره بالاحسان إلى فقراء كثيرين في حالات مماثلة.
ولكل من هذه الأدلة الثلاثة نظامه الخاص ومنهجه المتميز وعناصره
المشتركة.
وعلى هذا الأساس سوف نقسم البحث إلى ثلاثة أقسام، فندرس في
القسم الأول الدليل اللفظي وعناصره المشتركة، وفي القسم الثاني الدليل
البرهاني وعناصره المشتركة، وفي القسم الثالث الدليل الاستقرائي وعناصره
المشتركة.
111

الدليل اللفظي
تمهيد
الاستدلال بالدليل اللفظي على الحكم الشرعي يرتبط بالنظام اللغوي
العام للدلالة، ولهذا نجد من الضروري أن نمهد للبحث في الأدلة اللفظية
والعناصر الأصولية المشتركة فيها بدراسة إجمالية لطبيعة الدلالة اللغوية وكيفية
تكونها ونظرة عامة فيها:
ما هو الوضع والعلاقة اللغوية:
في كل لغة علاقات بين مجموعة من الألفاظ ومجموعة من المعاني،
ويرتبط كل لفظ بمعنى خاص ارتباطا يجعلنا كلما تصورنا اللفظ انتقل ذهننا
فورا إلى تصور المعنى، فالانسان العارف بالعربية متى تصور كلمة " الماء "
مثلا قفز إلى ذهنه فورا إلى تصور ذلك السائل الخاص الذي نشربه في حياتنا
الاعتيادية، وهذا الاقتران بين تصور اللفظ وتصور المعنى وانتقال الذهن
من أحدهما إلى الآخر هو ما نطلق عليه اسم " الدلالة "، فحين نقول:
" كلمة الماء تدل على السائل الخاص " نريد بذلك أن تصور كلمة الماء يؤدي
إلى تصور ذلك السائل الخاص، ويسمى لفظا " دالا " والمعنى " مدلولا ".
وعلى هذا الأساس نعرف أن العلاقة بين تصور اللفظ وتصور المعنى
تشابه إلى درجة ما العلاقة التي نشاهدها في حياتنا الاعتيادية بين النار
والحرارة أو بين طلوع الشمس والضوء، فكما أن النار تؤدي إلى الحرارة
وطلوع الشمس يؤدي إلى الضوء كذلك تصور اللفظ يؤدي إلى تصور
112

المعنى، ولأجل هذا يمكن القول بأن تصور اللفظ سبب لتصور المعنى كما
تكون النار سببا للحرارة وطلوع الشمس سببا للضوء، غير أن علاقة السببية
بين تصور اللفظ والمعنى مجالها الذهن، لان تصور اللفظ والمعنى إنما يوجد
في الذهن، وعلاقة السببية بين النار والحرارة أو بين طلوع الشمس والضوء
مجالها العالم الخارجي.
والسؤال الأساسي بشأن هذه العلاقة التي توجد في اللغة بين اللفظ
والمعنى هو السؤال عن مصدر هذه العلاقة وكيفية تكونها، فكيف تكونت
علاقة السببية بين اللفظ والمعنى؟ وكيف أصبح تصور اللفظ سببا لتصور
المعنى مع أن اللفظ والمعنى شيئان مختلفان كل الاختلاف؟.
ويذكر في علم الأصول عادة اتجاهان في الجواب على هذا السؤال
الأساسي، يقوم الاتجاه الأول على أساس الاعتقاد بأن علاقة اللفظ بالمعنى
نابعة من طبيعة اللفظ ذاته كما نبعت علاقة النار بالحرارة من طبيعة النار
ذاتها، فلفظ " الماء " مثلا له بحكم طبيعته علاقة بالمعنى الخاص الذي نفهمه
منه، ولأجل هذه يؤكد هذا الاتجاه أن دلالة اللفظ على المعنى ذاتية وليست
مكتسبة من أي سبب خارجي. ويعجز هذا الاتجاه عن تفسير الموقف تفسيرا
شاملا، لان دلالة اللفظ على المعنى وعلاقته به إذا كانت ذاتية وغير نابعة
من أي سبب خارجي وكان اللفظ بطبيعته يدفع الذهن البشري إلى تصور
معناه فلماذا يعجز غير العربي عن الانتقال إلى تصور معنى كلمة " الماء "
عند تصوره للكلمة، ولماذا يحتاج إلى تعلم اللغة العربية لكي ينتقل ذهنه إلى
المعنى عند سماع الكلمة العربية وتصورها؟ إن هذا دليل على أن العلاقة التي
تقوم في ذهننا بين تصور اللفظ وتصور المعنى ليست نابعة من طبيعة اللفظ
بل من سبب آخر يتطلب الحصول عليه إلى تعلم اللغة، فالدلالة إذن
ليست ذاتية.
113

وأما الاتجاه الآخر فينكر بحق الدلالة الذاتية، ويفترض أن العلاقات
اللغوية بين اللفظ والمعنى نشأت في كل لغة على يد الشخص الأول أو
الاشخاص الأوائل الذين استحدثوا تلك اللغة وتكلموا بها، فإن هؤلاء
خصصوا ألفاظا معينة لمعان خاصة، فاكتسبت الألفاظ نتيجة لذلك التخصيص
علاقة بتلك المعاني وأصبح كل لفظ يدل على معناه الخاص، وذلك التخصيص
الذي مارسه أولئك الأوائل ونتجت عنه الدلالة يسمى ب‍ " الوضع "
ويسمى الممارس له " واضعا " واللفظ " موضوعا " والمعنى " موضوعا له ".
والحقيقة أن هذا الاتجاه وإن كان على حق في إنكاره للدلالة الذاتية
ولكنه لم يتقدم إلا خطوة قصيرة في حل المشكلة الأساسية التي لا تزال قائمة
حتى بعد الفرضية التي يفترضها أصحاب هذه الاتجاه، فنحن إذا افترضنا
معهم أن علاقة السببية نشأت نتيجة لعمل قام به مؤسسوا اللغة إذ خصصوا كل
لفظ لمعنى خاص فلنا أن نتسائل ما هو نوع هذا العمل الذي قام به هؤلاء
المؤسسون؟ وسوف نجد أن المشكلة لا تزال قائمة لان اللفظ والمعنى ما دام
لا يوجد بينهما علاقة ذاتية ولا أي ارتباط مسبق فكيف استطاع مؤسس
اللغة أن يوجد علاقة السببية بين شيئين لا علاقة بينهما، وهل يكفي مجرد
تخصيص المؤسس للفظ وتعيينه له سببا لتصور المعنى لكي يصبح سببا لتصور
المعنى حقيقة، وكلنا نعلم أن المؤسس وأي شخص آخر يعجز أن يجعل من
حمرة الحبر الذي يكتب به سببا لحرارة الماء ولو كرره مائة مرة قائلا خصصت
حمرة الحبر الذي يكتب به سببا لحرارة الماء، فكيف استطاع أن
ينجح في جعل اللفظ سببا لتصور المعنى بمجرد تخصيصه لذلك دون أي
علاقة سابقة بين اللفظ والمعنى. وهكذا نواجه المشكلة كما كنا نواجهها،
فليس يكفي لحلها أن نفسر علاقة اللفظ بالمعنى على أساس عملية يقوم بها
مؤسس اللغة، بل يجب أن نفهم محتوى هذه العملية لكي نعرف كيف قامت
114

علاقة السببية بين شيئين لم تكن بينهما علاقة.
والصحيح في حل المشكلة أن علاقة السببية التي تقوم في اللغة بين
اللفظ والمعنى توجد وفقا لقانون عام من قوانين الذهن البشري.
والقانون العام هو أن كل شيئين إذا اقترن تصور أحدهما مع تصور
الآخر في ذهن الانسان مرارا عديدة ولو على سبيل الصدفة قامت بينهما علاقة
وأصبح أحد التصورين سببا لانتقال الذهن إلى تصور الآخر. ومثال ذلك
في حياتنا الاعتيادية أن نعيش مع صديقين لا يفترقان في مختلف شؤون حياتهما
نجدهما دائما معا، فإذا رأينا بعد ذلك أحد هذين الصديقين منفردا أو سمعنا
باسمه أسرع ذهننا إلى تصور الصديق الآخر، لان رؤيتهما معا مرارا كثيرة
أوجد علاقة بينهما في تصورنا، وهذه العلاقة تجعل تصورنا لأحدهما سببا
لتصور الآخر. ومثال آخر من تجارب الفقهاء أنا قد نجد راويا يقترن اسمه
دائما باسم راو آخر معين كالنوفلي الذي يروي دائما عن السكوني، فكلما
وجدنا في الأحاديث اسم النوفلي وجدنا إلى صفه اسم السكوني أيضا،
فتنشأ بسبب ذلك علاقة بين هذين الاسمين في ذهننا، فإذا تصورنا بعد ذلك
النوفلي أو وجدنا اسمه مكتوبا في ورقة قفز ذهننا فورا إلى السكوني
نتيجة لذلك الاقتران المتكرر بين الاسمين في مطالعتنا.
وقد يكفي أن تقترن أحد الشيئين بفكرة الآخر مرة واحدة لكي
تقوم بينهما علاقة، وذلك إذا اقترنت الفكرتان في ظرف مؤثر، ومثاله إذا
سافر أحد إلى المدينة المنورة ومني هناك بالملاريا الشديدة ثم شفي منها ورجع
فقد ينتج ذلك الاقتران بين الملاريا والسفر إلى المدينة علاقة بينهما، فمتى
تصور المدينة انتقل ذهنه إلى تصور الملاريا.
وإذا درسنا على هذا الأساس علاقة السببية بين اللفظ والمعنى زالت
المشكلة، إذ نستطيع أن نفسر هذه العلاقة بوصفها نتيجة لاقتران تصور
115

المعنى بتصور اللفظ بصورة متكررة أو في ظرف مؤثر، الامر الذي أدى
إلى قيام علاقة بينهما كالعلاقة التي قامت بين المدينة والملاريا أو بين النوفلي
والسكوني، فالسبب في تكون العلاقة اللغوية والدلالة اللفظية هو السبب
في قيام العلاقة بين المدينة المنورة والملاريا أو بين النوفلي والسكوني تماما.
ويبقى علينا بعد هذا أن نتسأل: كيف اقترن تصور اللفظ بمعنى
خاص مرارا كثيرة أو في ظرف مؤثر فأنتج قيام العلاقة اللغوية بينهما؟ فنحن
نعلم مثلا أن اسم السكوني واسم النوفلي اقترنا مرارا عديدة في مطالعتنا
للروايات، لان النوفلي يروي دائما عن السكوني، فكنا نجد السكوني إلى
جانبه كلما وجدنا اسمه فقامت العلاقة بينهما، فما هي الأسباب التي جعلت
اللفظ يقترن بالمعنى كما اقترن اسم النوفلي باسم السكوني أو كما اقترنت
فكرة الملاريا بفكرة المدينة في ذهن الشخص الذي أصيب بها حال سفره
إلى المدينة؟.
والجواب على هذا السؤال: أن بعض الألفاظ اقترنت بمعان معينة
مرارا عديدة بصورة تلقائية، فنشأت بينهما العلاقة اللغوية، وقد يكون من
هذا القبيل كلمة " آه "، إذ كانت تخرج من فم الانسان بطبيعته كلما أحس
بالألم، فارتبطت كلمة " آه " في ذهنه بفكرة الالم، فأصبح كلما سمع
كلمة " آه " انتقل ذهنه إلى فكرة الالم.
ومن المحتمل أن الانسان قبل أن توجد لديه أي لغة قد استرعى
انتباهه هذه العلاقات التي قامت بين الألفاظ من قبيل " آه " ومعانيها نتيجة
لاقتران تلقائي بينهما، وأخذ ينشئ على منوالها علاقات جديدة بين الألفاظ
والمعاني.
وبعض الألفاظ قرنت بالمعنى في عملية واعية مقصودة لكي تقوم بينهما
علاقة سببية، وأحسن نموذج لذلك الأسماء الشخصية، فأنت حين تريد أن
116

تسمى ابنك عليا تقرن اسم علي بالوليد الجديد لكي تنشئ بينهما علاقة لغوية
ويصبح اسم علي دالا على وليدك. ويسمى عملك هذه " وضعا " فالوضع
هو عملية تقرن فيها لفظا بمعنى نتيجتها أن يقفز الذهن إلى المعنى عند تصور
اللفظ دائما.
ونستطيع أن نشبه الوضع على هذا الأساس بما تضعه حين تسأل عن
طبيب العيون فيقال لك: هو " جابر " فتريد أن تركز اسمه في ذاكرتك
وتجعل نفسك تستحضره متى أردت، فتحاول أن تقرن بينه وبين شئ قريب
من ذهنك فتقول مثلا: أنا بالأمس قرأت كتابا أخذ من نفسي مأخذا كبيرا
اسم مؤلفه جابر فلا تذكر دائما أن اسم طبيب العيون هو اسم صاحب ذلك
الكتاب. وهكذا توجد عن هذا الطريق ارتباطا بين صاحب الكتاب
والطبيب جابر، وبعد ذلك تصبح قادرا على استذكار اسم الطبيب متى
تصورت ذلك الكتاب.
وهذه الطريقة التي تستعملها لايجاد العلاقة بين تصور الكتاب وتصور
اسم الطبيب لا تختلف جوهريا عن الطريقة التي تستعمل في الوضع لإقامة
العلاقة اللغوية بين الألفاظ والمعاني.
ما هو الاستعمال؟
بعد أن يوضع اللفظ لمعنى يصبح تصور اللفظ سببا لتصور المعنى،
ويأتي عندئذ دور الاستفادة من هذه العلاقة اللغوية التي قامت بينهما،
فإذا كنت تريد أن تعبر عن ذلك المعنى لشخص آخر وتجعله يتصوره في ذهنه
فبإمكانك أن تنطق بذلك اللفظ الذي أصبح سببا لتصور المعنى، وحين
يسمعه صاحبك ينتقل ذهنه إلى معناه بحكم علاقة السببية بينهما، ويسمى
استخدامك للفظ بقصد إخطار معناه في ذهن السامع " استعمالا ". فاستعمال
117

اللفظ في معناه يعني إيجاد الشخص لفظا لكي يعد ذهن غيره للانتقال إلى
معناه، ويمسى اللفظ " مستعملا " والمعنى " مستعملا فيه " وإرادة المستعمل
إخطار المعنى في ذهن السامع عن طريق اللفظ " إرادة استعمالية ".
الحقيقة والمجاز:
ويقسم الاستعمال إلى حقيقي ومجازي، فالاستعمال الحقيقي هو
استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له الذي قامت بينه وبين اللفظ علاقة
لغوية بسبب الوضع، ولهذا يطلق على المعنى الموضوع له اسم " المعنى
الحقيقي ".
والاستعمال المجازى هو استعمال اللفظ في معنى آخر لم يوضع له
ولكنه يشابه ببعض الاعتبارات المعنى الذي وضع اللفظ له، ومثاله أن تستعمل
كلمة " البحر " في العالم العزير علمه لأنه يشابه البحر من الماء في الغزارة
والسعة، ويطلق على المعنى المشابه للمعنى الموضوع له اسم " المعنى المجازي "
وتعتبر علاقة اللفظ بالمعنى المجازي علاقة ثانوية ناتجة عن علاقته اللغوية
الأولية بالمعنى الموضوع له، لأنها تنبع عن الشبه القائم بين المعنى الموضوع
له والمعنى المجازي.
والاستعمال الحقيقي يؤدي غرضه، وهو انتقال ذهن السامع إلى تصور
المعنى بدون أي شرط، لان علاقة السببية القائمة في اللغة بين اللفظ والمعنى
الموضوع له كفيلة بتحقيق هذه الغرض. وأما الاستعمال المجازي فهو لا ينقل
ذهن السامع إلى المعنى، إذ لا توجد علاقة لغوية وسببية بين لفظ البحر
والعالم، فيحتاج المستعمل لكي يحقق غرضه في الاستعمال المجازي إلى قرينة
تشرح مقصوده، فإذا قال مثلا: " بحر في العلم " كانت كلمة " في العلم "
قرينة على المعنى المجازي، ولهذا يقال عادة أن الاستعمال المجازي يحتاج إلى
قرينة دون الاستعمال الحقيقي.
118

قد ينقلب المجاز حقيقة:
وقد لاحظ الأصوليون بحق أن الاستعمال المجازي وإن كان يحتاج
إلى قرينة في بداية الامر - ولكن إذا كثر استعمال اللفظ في المعنى المجازي
بقرينة وتكرر ذلك بكثرة قامت بين اللفظ والمعنى المجازي علاقة جديدة،
وأصبح اللفظ نتيجة لذلك موضوعا لذلك المعنى وخرج عن المجاز إلى الحقيقة
ولا تبقى بعد ذلك حاجة إلى قرينة.
وهذه الظاهرة يمكننا تفسيرها بسهولة على ضوء طريقتنا في شرح حقيقة
الوضع والعلاقة اللغوية، لأننا عرفنا أن العلاقة اللغوية تنشأ عن اقتران
اللفظ بالمعنى مرارا عديدة أو في ظرف مؤثر، فإذا استعمل اللفظ في معنى
مجازي مرارا كثيرة اقترن تصور اللفظ بتصور ذلك المعنى المجازي في ذهن
السامع اقترانا متكررا، وأدى هذا الاقتران المتكرر إلى قيام العلاقة اللغوية
بينهما كما قامت العلاقة بين اسم النوفلي واسم السكوني.
تصنيف اللغة:
تنقسم كلمات اللغة كما قرأتم في النحو إلى اسم وفعل وحرف، وقولنا:
" تهتدي الانسانية في الاسلام " يشتمل على الأقسام الثلاثة، ف‍ " الانسانية "
و " الاسلام " من الأسماء، و " في " حرف من حورف الجر، و " تهتدي "
فعل من أفعال المضارعة.
وإذا درسنا مفردات هذه الجملة بشئ من الدقة نجد أن كلمة " الانسانية "
لو فصلت عن سائر الكلمات وبقيت بمفردها لظلت تحتفظ بمدلولها ومعناها
الخاص، وكذلك كلمة " الاسلام " توحي بنفس المعنى الخاص بها سواء
كانت جزءا من الجملة أو منفصلة عنها. وأما كلمة " في " فهي تفقد معناها
إذا جردت عن الجملة ولوحظت بمفردها، إذ لا توجد في ذهننا عندئذ أي
119

تصور محدد بينما هي في داخل الجملة شرط ضروري فيها، إذ لولاها لما
استطعنا أن نربط بين الانسانية والإسلام، فلو قلنا: " تهتدي الانسانية
الاسلام " لأصبحت الجملة غير مفهومة، فكلمة " في " تقوم بدور الربط
بين الانسانية والإسلام (1) وهذا يعني أن معنى الحرف هو الربط بين معاني
الأسماء والتعبير عن أنواع العلاقات والروابط التي تقوم بين تلك المعاني،
فكلمة " في " في قولنا: " تهتدي الانسانية في الاسلام إلى أرقى الثقافات "
تعبر عن نوع من الربط بين الانسانية والإسلام، وكلمة " إلى " في قولنا:
" تهتدي الانسانية إلى الاسلام كلما ازداد وعيها " تعبر عن نوع آخر من
الربط بينهما، و " ب " في قولنا: " تهتدي الانسانية بالاسلام إلى طريق
الله المستقيم " يعبر عن نوع ثالث من الربط بينهما، وهكذا سائر الحروف.
ونعتبر كل معنى يمكن تصوره وتحديده بدون حاجة إلى وقوعه في
سياق جملة معنى إسميا، ونطلق على الروابط التي لا يمكن تصورها إلا
في سياق جملة اسم المعاني الحرفية.
وأما كلمة " تهتدي " في جملتنا المتقدمة التي تمثل فئة الأفعال من اللغة
فهي تشتمل على معنى الاهتداء، فإن ما نتصوره حين نسمع كلمة
الاهتداء نتصوره من كلمة " تهتدي "، وكلمة الاهتداء اسم ومعناها معنى
اسمي، فنعرف من ذلك أن الفعل يشتمل على معنى اسمي ما دامت كلمة
" تهتدي " تدل على نفس المعنى الذي تدل عليه كلمة الاهتداء، ولكن الفعل

(1) يجب الانتباه إلى أن الربط في الحقيقة يقوم في هذا المثال بين مادة
الفعل أي اهتداء الانسانية والإسلام لا بين الانسانية نفسها والإسلام،
وإنما نعبر بذلك في المتن تسهيلا على المبتدئ عند دراسته للكتاب، لأننا
حتى الآن لم نذكر شيئا عن تحليل الفعل إلى مادة وهيئة.
120

مع هذا لا يدل على المعنى الاسمي فحسب، بدليل أنه لو كان مدلوله اسميا
فقط لأمكن استبداله بالاسم ويصح أن نقول: " الانسانية اهتداء في الاسلام "
بدلا عن قولنا: " الانسانية تهتدي في الاسلام " مع أنا نرى أن الجملة
تصبح مفككة وغير مرتبطة إذا قمنا بعملية استبدال من هذا القبيل، فهذا
يدل على أن الفعل يشتمل إضافة إلى المعنى الاسمي على معنى حرفي يربط
بين الاهتداء والانسانية في قولنا: " الانسانية تهتدي في الاسلام ".
ونستخلص من ذلك أن الفعل مركب من اسم وحرف، لأنه يشتمل
على معنى اسمي استقلالي ومعنى حرفي ارتباطي، وهو يدل على المعنى الاسمي
بمادته ويدل على المعنى الحرفي بهيئته، ونريد بالمادة الأصل الذي اشتق
الفعل منه كالاهتداء بالنسبة إلى " تهتدي "، ونريد بالهيئة الصيغة الخاصة
التي صيغت المادة بها أي صيغة " يفعل " في المضارع و " فعل " في الماضي
فإن هذه الصيغة تدل على معنى حرفي يربط بين معنى المادة ومعنى آخر في
الجملة. وقد ربطت صيغة " تهتدي " في مثالنا بين الاهتداء والانسانية
أي بين مادة الفعل والفاعل بوصفهما معنيين اسميين.
هيئة الجملة:
عرفنا أن الفعل له هيئة تدل على معنى حرفي أي على الربط
وكذلك الحال في الجملة أيضا، ونريد بالجملة (1) كل كلمتين أو أكثر بينهما
ترابط، ففي قولنا: " على إمام " نفهم من كلمة " على " معناها الاسمي
ومن كلمة " الامام " معناها الاسمي، ونفهم إضافة إلى ذلك ارتباطا خاصا
بين هذين المعنيين الاسميين، وهذا الارتباط الخاص لا تدل عليه كلمة
" علي " بمفردها ولا كلمة " إمام " بمفردها، وإنما تدل عليه الجملة بتركيبها

(1) ولا نتقيد بالمصطلح النحوي للجملة.
121

الخاص، وهذا يعني أن هيئة الجملة تدل على نوع من الربط أي على
معنى حرفي.
نستخلص مما تقدم أن اللغة يمكن تصنيفها من وجهة نظر تحليلية إلى
فئتين: أحدهما فئة المعاني الاسمية وتدخل في هذه الفئة الأسماء ومواد
الأفعال، والأخرى فئة المعاني الحرفية أي الروابط وتدخل فيها الحروف
وهيئات الأفعال وهيئات الجمل.
الرابطة التامة والرابطة الناقصة:
" المفيد عالم بالعلوم الاسلامية كلها ". " المفيد العالم بالعلوم الاسلامية كلها ".
" الاسلام نظام كامل للحياة ". " قلم أخي.. ".
" الشريعة خالدة " " الدار المتهدمة الواقعة في الشارع.. "
" وجب الأمر بالمعروف ". " الثوب الجميل.. "
إذا لاحظنا الفئة الأولى من هذه الجمل نجد أن كل جملة منها تدل
تكذيبه، بينما نجد أن الجمل في الفئة الثانية ناقصة لا يمكن للمتكلم الاكتفاء
بها ولا يمكن للسامع أن يعلق عليها بتصديق أو تكذيب ما لم تكمل بخبر
من قبيل أن نقول: " قلم أخي ضائع ". ومرد الفرق بين الفئتين إلى نوع
الربط الذي تدل عليه هيئة الجملة، فهيئة الجملة في الفئة الأولى تدل على
نوع من الربط يختلف عن الربط الذي تدل عليه هيئة الجملة في الفئة الثانية.
وعلى هذا الأساس نعرف أن الربط نوعان: أحدهما الربط التام ويمسى
أحيانا ب‍ " النسبة التامة "، وهو الربط الذي يصوغ جملة تامة كما في
الفئة الأولى، والآخر الربط الناقص ويسمى أيضا ب‍ " النسبة الناقصة "،
وهو ما يصوغ جملة ناقصة كما في الفئة الثانية.
122

ونحن إذا دققنا في أكثر الجمل التي وردت في الفئة الأولى نجد فيها
أكثر من معنى حرفي واحد، ففي الجملة الأولى نجد مثلا المعنى الحرفي الذي
تدل عليه هيئة الجملة وهو الربط بين المبتدأ والخبر ونجد أيضا المعنى
الحرفي الذي يدل عليه حرف الباء وهو الربط بين علم المفيد والعلوم
الاسلامية كلها، غير أن الجملة إنما أصبحت تامة نتيجة للربط الأول الذي
دلت عليه هيئة الجملة دون الربط الذي دل عليه الحرف، ولهذا إذا احتفظنا
بالربط الثاني دون الأول أصبحت الجملة ناقصة، كما إذا قلنا: " عالم
بالعلوم الاسلامية كلها " بدلا عن قولنا: " المفيد عالم بالعلوم الاسلامية
كلها "، فهيئة الجملة إذن هي التي تدل على النسبة التامة والربط التام دون
الحرف، وأما الحروف فهي تدل دائما على النسبة الناقصة والربط الناقص.
ونستخلص من ذلك أن الحروف تدل دائما على النسبة الناقصة، وأما
الهيئات فهي في بعض الأحيان تدل على النسبة التامة كما في الجمل المفيدة
الاسمية والفعلية، وأحيانا تدل على النسبة الناقصة كما في الجمل الوصفية.
وأما ما هو الفرق الجوهري بين واقع النسبة التامة وواقع النسبة
الناقصة؟ فهذا ما نجيب عليه في الحلقات المقبلة إنشاء الله تعالى.
المدلول اللغوي والمدلول النفسي:
قلنا سابقا: إن دلالة اللفظ على المعنى هي أن يؤدي تصور اللفظ إلى
تصور المعنى، ويسمى اللفظ " دالا " والمعنى الذي نتصوره عند سماع
اللفظ " مدلولا ".
وهذه الدلالة لغوية، ونقصد بذلك أنها تنشأ عن طريق وضع اللفظ
للمعنى، لان الوضع يوجد علاقة السببية بين تصور اللفظ وتصور المعنى،
وعلى أساس هذه العلاقة تنشأ تلك الدلالة اللغوية ومدلولها هو المعنى
123

اللغوي للفظ.
ولا تنفك هذه الدلالة عن اللفظ مهما سمعناه ومن أي مصدر كان،
فجملة " الحق منتصر " إذا سمعناها انتقل ذهننا فورا إلى مدلولها اللغوي
سواء سمعناها من متحدث واع أو من نائم في حالة عدم وعيه، وحتى لو
سمعناها نتيجة لاحتكاك حجرين، فإن الجملة في جميع هذه الحالات تدل
دلالة لغوية أي تؤدي بنا إلى تصور معناها اللغوي فنتصور معنى كلمة
" الحق " ونتصور معنى كلمة " منتصر "، ونتصور النسبة التامة التي
وضعت هيئة الجملة لها، وتسمى هذه الدلالة لاجل ذلك " دلالة تصورية ".
ولكنا إذا قارنا بين تلك الحالات وجدنا أن الجملة حين تصدر من نائم
أو تنتج نتيجة عن احتكاك بين حجرين لا يوجد لها إلا مدلولها اللغوي ذاك،
ويقتصر مفعولها على ايجاد تصورات للحق والانتصار والنسبة التامة في ذهننا
وأما حين نسمع الجملة من متحدث واع فلا تقف الدلالة عند مستوى
التصور بل تتعداه إلى مستوى التصديق، إذ تكشف الجملة عندئذ عن
أشياء نفسية في نفس المتكلم فنحن نستدل عن طريق صدور الجملة منه على
وجود إرادة استعمالية في نفسه، أي إنه يريد أن يخطر المعنى اللغوي لكلمة
" الحق " وكلمة " المنتصر " وهيئة الجملة في أذهاننا وأن نتصور هذه المعاني
كما نعرف أيضا أن المتكلم إنما يريد منا أن نتصور تلك المعاني لا لكي يخلق
تصورات مجردة في ذهننا فحسب بل لغرض في نفسه، وهذا الغرض الأساسي
هو في المثال المتقدم أي في جملة " الحق منتصر " غرض الاخبار عن
ثبوت الخبر للمبتدأ، فإن المتكلم إنما يريد منا أن نتصور معاني الجملة لاجل
أن يخبرنا عن ثبوتها في الواقع، ويطلق على الغرض الأساسي في نفس المتكلم
اسم " الإرادة الجدية ".
وتمسى الدلالة على هذين الامرين الإرادة الاستعمالية والإرادة
124

الجدية " دلالة تصديقية "، لأنها دلالة تكشف عن إرادة المتكلم وتدعو
إلى تصديقنا بها لا إلى مجرد التصور الساذج، كما نسميها أيضا ب‍ " الدلالة
النفسية "، لان المدلول هنا نفسي، وهو إرادة المتكلم.
وهكذا نعرف أن الجملة التامة لها إضافة إلى مدلولها التصوري اللغوي
مدلولان: نفسيان: أحدهما الإرادة الاستعمالية، إذ نعرف عن طريق صدور
الجملة من المتكلم أنه يريد منا أن نتصور معاني كلماتها. والآخر الإرادة
الجدية، وهي الغرض الأساسي الذي من أجله أراد المتكلم أن نتصور
تلك المعاني.
وأحيانا تتجرد الجملة عن المدلول النفسي الثاني، وذلك إذا صدرت
من المتكلم في حالة الهزل لا في حالة الجد، ولم يكن يستهدف منها إلا مجرد
إيجاد تصورات في ذهن السامع لمعاني كلماتها، فلا توجد في هذه الحالة
إرادة جدية بل إرادة استعمالية فقط.
والدلالة التصديقية ليست لغوية، أي أنها لا تعبر عن علاقة ناشئة عن
الوضع بين اللفظ والمدلول النفسي، لان الوضع إنما يوجد علاقة بين تصور
اللفظ وتصور المعنى لا بين اللفظ والمدلول النفسي، وإنما تنشأ الدلالة
التصديقية من حال المتكلم، فإن الانسان إذا كان في حالة وعي وانتباه وجدية
وقال: " الحق منتصر " يدل حاله على أنه لم يقل هذه الجملة ساهيا ولا
هازلا وإنما قالها بإرادة معينه واعية.
وهكذا نعرف أنا حين نسمع جملة كجملة " الحق منتصر " نتصور
المعاني اللغوية للمبتدأ والخبر والهيئة بسبب الوضع الذي أوجد علاقة السببية
بين تصور اللفظ وتصور المعنى، ونكتشف الإرادة الواعية للمتكلم بسبب
حال المتكلم، وتصورنا ذلك يمثل الدلالة التصورية واكتشافنا هذا يمثل
الدلالة التصديقية والمعنى الذي نتصوره هو المدلول التصوري واللغوي
125

للفظ، والإرادة التي نكتشفها في نفس المتكلم هي المدلول التصديقي والنفسي
الذي يدل عليه حال المتكلم.
وعلى هذا الأساس نكتشف مصدرين للدلالة:
أحدهما اللغة بما تشتمل عليها من أوضاع، وهي مصدر الدلالة
التصورية، لأنها تقيم علاقات السببية بين تصور الألفاظ وتصور المعاني.
والآخر حال المتكلم، وهو مصدر الدلالة التصديقية، أي دلالة اللفظ
على مدلوله النفسي التصديقي، فإن اللفظ إنما يكشف عن إرادة المتكلم إذا
صدر في حالة يقظة وانتباه وجدية، فهذه الحالة إذن هي مصدر الدلالة
التصديقية، ولهذا نجد أن اللفظ إذا صدر من المتكلم في حالة نوم أو ذهول
لا توجد له دلالة تصديقية ومدلول نفسي.
الجملة الخبرية والجملة الانشائية:
تقسم الجملة عادة إلى خبرية وإنشائية، ونحن في حياتنا الاعتيادية نحس
بالفرق بينهما، فأنت حين تتحدث عن بيعك للكتاب بالأمس وتقول: " بعت
الكتاب بدينار " ترى أن الجملة تختلف بصورة أساسية عنها حين تريد أن
تعقد الصفقة مع المشتري فعلا فتقول له: " بعتك الكتاب بدينار ". وبالرغم
من أن الجملة في كلتا الحالتين تدل على نسبة تامة بين البيع والبائع أي
بينك وبين البيع، يختلف فهمنا للجملة وتصورنا للنسبة في الحالة الأولى
عن فهمنا للجملة وتصورنا للنسبة في الحالة الثانية، فالمتكلم حين يقول في
الحالة الأولى: " بعت الكتاب بدينار " يتصور النسبة بما هي حقيقة واقعة
لا يملك من أمرها فعلا شيئا إلا أن يخبر عنها إذا أراد، وأما حين يقول في
الحالة الثانية: " بعتك الكتاب بدينار " فهو يتصور النسبة لا بما هي حقيقة
واقعة مفروغ عنها بل يتصورها بوصفها نسبة يراد تحقيقها.
ونستخلص من ذلك أن الجملة الخبرية موضوعة للنسبة التامة منظورا
126

إليها بما هي حقيقة واقعة وشئ مفروغ عنه، والجملة الانشائية موضوعة
للنسبة التامة منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها.
الظهور اللفظي:
قد تقوم عدة علاقات بين لفظ واحد ومعان عديدة، فيعتبر كل واحد
من تلك المعاني معنى للفظ. ومثاله كلمة " المولى " فإنها ذات معنيين أحدهما
السيد الحاكم والآخر الصديق، وللفظ علاقة بكل من هذين المعنيين.
وهذه العلاقات العديدة إما أن تكون متكافئة ومتساوية في الدرجة أولا.
فتنشأ بسبب ذلك علاقات متساوية في الدرجة بين اللفظ وكل واحد من تلك
المعاني، ويسمى اللفظ في هذه الحالة " مشتركا " لاشتراكه بين معنيين،
ومن أمثلته كلمة " المولى " الموضوعة للسيد الحاكم وللصديق، وكلمة
" القرء " الموضوعة للطهر والحيض، وكلمة " العين " الموضوعة لعين الانسان
وعين الماء.
والعلاقات غير المتكافئة في الدرجة من أمثلتها علاقات اللفظ الواحد
بالمعنى الحقيقي والمعنى المجازي، فكلمة " البحر " لها علاقة بالمعنى الحقيقي
وهو البحر من الماء، ولها علاقة بالمعنى المجازي وهو العالم الغزير علمه،
ولكن هاتين العلاقتين غير متكافئتين وليستا من درجة واحدة، لان علاقة
اللفظ بالمعنى المجازي نبعت من علاقته بالمعنى الحقيقي، فقد قامت العلاقة
أولا بين كلمة " البحر " و " البحر من الماء "، ولأجل الشبه بين ماء البحر
والعالم الغزير علمه في الغزارة والسعة نشأت في ظل ذلك علاقة بين كلمة
البحر والعالم الغزير علمه، فمن الطبيعي أن تكون هذه العلاقة أقل درجة
من علاقة اللفظ بمعناه الحقيقي.
127

وفي حالة عدم تكافؤ العلاقات يعتبر المعنى الأوثق علاقة من الناحية
اللغوية هو المعنى الظاهر من اللفظ، لان الذهن ينتقل إليه قبل أن ينتقل إلى
غيره من معاني اللفظ، ونطلق على هذا الظهور اسم " الظهور اللفظي ".
تقسيم البحث
الدليل اللفظي هو الكلام الصادر عن المعصوم، وهو يتألف من كلمات
وجمل لغوية، وفهم الحكم الشرعي من الدليل اللفظي يتوقف على العلم
بالعلاقات اللغوية التي تقوم بين ألفاظ الدليل والمعاني في اللغة العربية ومعرفة
أقوى المعاني علاقة باللفظ إذا كانت معانيه متعددة لكي نحدد بذلك الظهور
اللفظي للدليل، حتى إذا حددنا الظهور اللفظي للدليل جاء دور البحث عن
حجية الظهور وإمكانية جعله أساسا لتفسير الدليل اللفظي وفهم الحكم
الشرعي منه.
وعلى هذا الأساس سوف نقسم البحث إلى فصلين:
أحدهما في تحديد الظهور اللفظي للدليل عن طريق تحديد العلاقات
اللغوية التي تقوم بين ألفاظ الدليل والمعاني، ومعرفة أقوى المعاني علاقة باللفظ
عند تعدد معانيه.
والفصل الآخر في إمكان جعل الظهور اللفظي أساسا لتفسير الدليل:
الفصل الأول
في تحديد ظهور الدليل اللفظي
1 " أحسن إلى الفقير ". 2 " حافظ على أحكام الشريعة ".
3 - " إدفع الخطر عن الاسلام ".
1 " إذا زالت الشمس وجبت الصلاة ". 2 " إذا هل هلال
128

شهر رمضان وجب الصوم ". 3 - " إذا هاجم العدو بلاد الاسلام وجب
الجهاد ".
1 - " العلماء أولياء الأمور ". 2 - " يجب على الفقهاء إيصال
الاحكام ". 3 - " الصبيان لا يجوز بيعهم ".
هذه ثلاث فئات من الكلام تشتمل كل فئة على مجموعة من الجمل
تصلح كل واحدة من تلك الجمل أن تكون دليلا لفظيا لاثبات حكم شرعي،
ولكي نفهم الحكم الذي تدل عليه تلك الجملة يجب أن نعرف المعاني اللغوية
والظواهر اللفظية في الجملة.
ونحن إذا دققنا النظر في كل فئة وجدنا أن كل جملة فيها تتميز بألفاظها
عن الجمل الأخرى، فالاحسان والفقير كلمتان تتميز بهما الجملة الأولى القائلة
" أحسن إلى الفقير "، كما أن الجملة الثانية بكلمة " الشريعة " وكلمة
" أحكام " وكلمة " حافظ " وهكذا. ولهذا إذا أردنا أن نفهم الحكم الذي
تدل عليه الجملة الأولى يجب أن نعرف معنى " الاحسان " ومعنى كلمة
" الفقير "، بينما لا نحتاج إلى معرفة ذلك إذا أردنا أن نفهم الحكم الذي
تدل عليه الجملة الثانية، وإنما نحتاج بدلا عن ذلك إلى معرفة كلمة " الشريعة "
وكلمة " أحكام " وكلمة " حافظ " الأمور التي جاءت في الجملة الثانية،
ولكن يوجد في جميع جمل الفئة الأولى عنصر عام يتوقف فهم الحكم الشرعي
من جميع تلك الجمل على معرفة معناه، وهذا العنصر هو صيغة فعل الامر،
فإن هذه الصيغة موجودة في الجمل الثلاث بالرغم من اختلاف تلك الجمل
في جميع كلماتها، فلا بد أن نعرف ما هو مدلول صيغة فعل الامر وأنها هل
تدل على الوجوب أو الاستحباب؟ لكي نستنبط نوع الحكم المتعلق بالاحسان
إلى الفقير، ونوع الحكم المتعلق بالمحافظة على أحكام الشريعة، ونوع الحكم
المتعلق بدفع الخطر عن الاسلام.
129

وإذا لاحظنا الجملة في الفئة الثانية وجدنا فيها أيضا عنصرا عاما يتوقف
على معرفة معناه فهم الاحكام التي تدل عليها تلك الجمل، وهذا العنصر
العام هو أداة الشرط المتمثلة في كلمة " إذا "، فإن هذه الأداة هي التي
تدل على ربط وجوب الصلاة بالزوال، وربط وجوب الصوم بهلال رمضان،
وربط وجوب الجهاد بمهاجمة العدو لبلاد الاسلام.
وفي الفئة الثالثة نجد عنصرا عاما وهو صيغة الجمع المعرف باللام،
فإن هذه الصيغة موجودة في كلمة " العلماء " وكلمة " الفقهاء " وكلمة
" الصبيان "، فيجب لكي نفهم حدود الاحكام التي دلت عليها الجمل الثلاث
أن نعرف ما هو المدلول اللغوي لصيغة الجمع المعرف باللام وهل تدل على
العموم - أي على شمول الحكم لجميع الافراد أو لا؟
وفي هذا الضوء نستطيع أن نقسم العناصر اللغوية من وجهة نظر أصولية
إلى عناصر مشتركة في عملية الاستنباط وعناصر خاصة في تلك العملية.
فالعناصر المشتركة هي كل أداة لغوية تصلح للدخول في أي دليل مهما
كان نوع الموضوع الذي يعالجه ذلك الدليل، ومثاله صيغة فعل الامر،
فإن بالامكان استخدامها بالنسبة إلى أي موضوع، فيقال تارة: " أحسن
إلى الفقير " وأخرى " صل " وثالثة " ادفع الخطر عن الاسلام ".
والعناصر الخاصة في عملية الاستنباط هي كل أداة لغوية لا تصلح
للدخول إلا في الدليل الذي يعالج موضوعا معينا، ولا أثر لها في استنباط
دليل سوى الدليل الذي يشتمل على حكم مرتبط بالاحسان، ولا علاقة
للأدلة التي تشتمل على حكم الصلاة مثلا بكلمة " الاحسان "، فلهذا كانت
كلمة " الاحسان " عنصرا خاصا في عملية الاستنباط، لأنها تختص باستنباط
أحكام نفس الاحسان، ولا أثر لها في استنباط حكم موضوع آخر.
130

وعلى هذا الأساس يدرس علم الأصول من اللغة القسم الأول من
الأدوات اللغوية التي تعتبر عناصر مشتركة في عملية الاستنباط، فيجب عن
مدلول صيغة فعل الامر وأنها هل تدل على الوجوب أو الاستحباب؟ ولا
يبحث عن مدلول كلمة " الاحسان ".
ويدخل في القسم الأول من الأدوات اللغوية أداة الشرط أيضا، لأنها
تصلح للدخول في استنباط الحكم من أي دليل لفظي مهما كان نوع الموضوع
الذي يتعلق به، فنحن نستنبط من النص القائل: " إذا زالت الشمس وجبت
الصلاة "، أن وجوب الصلاة مرتبط بالزوال بدليل أداة الشرط، ونستنبط
من النص القائل: " إذا هل هلال شهر رمضان وجب الصوم "، أن وجوب
الصوم مرتبط بالهلال، ولأجل هذه يدرس علم الأصول أداة الشرط بوصفها
عنصرا مشتركا، ويبحث عن نوع الربط الذي تدل عليه ونتائجه في استنباط
الحكم الشرعي.
وكذلك الحال في صيغة الجمع المعرف باللام، لأنها أداة لغوية صالحة
للدخول في الدليل اللفظي مهما كان نوع الموضوع الذي يتعلق به.
وفيما يلي نذكر بعض النماذج من هذه الأدوات المشتركة التي يدرسها
الأصوليون:
1 (صيغة الامر):
صيغة فعل الامر نحو " إذهب " و " صل " و " صم " و " جاهد "
إلى غير ذلك من الأوامر. والمقرر بين الأصوليين عادة هو القول بأن هذه
الصيغة تدل لغة على الوجوب.
وهذا القول يدعونا أن نتساءل هل يريد هؤلاء الاعلام من القول بأن
صيغة فعل الامر تدل على الوجوب أن صيغة فعل الامر تدل على نفس ما تدل
عليه كلمة الوجوب؟ فيكونان مترادفين كالترادف بين كلمتي " انسان "
131

و " بشر "، وكيف يمكن افتراض ذلك؟ مع أننا نحس بالوجدان أن كلمة
الوجوب وصيغة فعل الامر ليستا مترادفتين، وإلا لجاز أن نستبدل إحداهما
بالأخرى فيقول الآمر: " وجوب الصلاة " بدلا عن " صل " ويقول:
" وجوب الصوم " بدلا عن " صم "، وما دام هذا الاستبدال غير جائز
فنعرف أن صيغة فعل الامر تدل على معنى يختلف عن المعنى الذي تدل عليه
كلمة الوجوب، ويصبح من الصعب عندئذ فهم القول السائد بين الأصوليين
بأن صيغة فعل الامر تدل على الوجوب.
والحقيقة أن هذا القول يحتاج إلى تحليل مدلول صيغة فعل الامر لكي
نعرف كيف تدل على الوجوب، ونحن حين ندقق في فعل الامر نجد أنه
يشكل جملة مفيدة بضم فاعله إليه نظير فعل الماضي أو المضارع إذا ضم فاعله
إليه، فكما أن " ذهب عامر " جملة مفيدة مكونة من فعل ماض وفاعل،
كذلك جملة " اذهب " إذا خاطبت عامرا بها.
وقد مر سابقا أن الجملة المفيدة تدل هيئتها دائما على النسبة التامة،
وعلى هذا الأساس يكون مدلول فعل الامر بوصفه جملة مفيدة هو النسبة
التامة بين مادة الفعل والمخاطب، أي بين الذهاب والشخص المدعو للذهاب
في مثال " اذهب " وبين الصلاة والشخص المدعو للصلاة في " صل "
وهكذا. كما أن مدلول فعل الماضي أو المضارع هو النسبة التامة أيضا،
ف‍ " ذهب عامر " و " اذهب " كلتاهما جملتان مفيدتان تدلان على النسبة
التامة بين مادة الفعل والفاعل.
ولكن " اذهب " و " ذهب " بالرغم من دلالتهما معا على النسبة التامة
يختلفان أيضا من ناحية أخرى، لان " اذهب " تعتبر جملة انشائية وكذلك
كل أفعال الامر، و " ذهب " تعتبر جملة خبرية، فأنت تقول: " ذهب عامر "
حين تريد أن تخبر عن ذهابه، وتقول: " اذهب " حين تريد أن تدفعه إلى
132

وهذا الاختلاف يعنى - على ضوء ما عرفنا سابقا من فرق بين الجملة
الانشائية والجملة الخبرية أن مدلول " اذهب " هو النسبة بين الذهاب
والمخاطب بما هي في طريق التحقيق وباعتبارها يراد تحقيقها، بينما تدل صيغة
" ذهب " على النسبة بما هي حقيقة واقعة مفروغ عنها.
ونستخلص من ذلك أن صيغة فعل الامر تدل على نسبة تامة بين مادة
الفعل والفاعل منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها وإرسال المكلف نحو
ايجادها. أرأيت الصياد حين يرسل كلب الصيد إلى فريسته؟ إن تلك الصورة
التي يتصورها الصياد عن ذهاب الكلب إلى الفريسة وهو يرسله إليها، هي
نفس الصورة التي يدل عليها فعل الامر، ولهذا يقال في علم الأصول أن
مدلول صيغة الامر هو النسبة الارسالية.
وكما أن الصياد حين يرسل الكلب إلى فريسته قد يكون إرساله هذا
ناتجا عن شوق شديد إلى الحصول على تلك الفريسة ورغبة أكيدة في ذلك
وقد يكون ناتجا عن رغبة غير أكيدة وشوق غير شديد، كذلك النسبة
الارسالية التي تدل عليها الصيغة في فعل الامر قد نتصورها ناتجة عن شوق
شديد وإلزام أكيد وقد نتصورها ناتجة عن شوق أضعف ورغبة أقل درجة.
وعلى هذا الضوء نستطيع الآن أن نفهم معنى ذلك القول الأصولي
القائل: إن صيغة فعل الامر تدل على الوجوب، فإن معناه أن الصيغة قد
وضعت للنسبة الارسالية بوصفها ناتجة عن شوق شديد وإلزام أكيد، ولهذا
يدخل معنى الالزام والوجوب ضمن الصورة التي نتصور بها المعنى اللغوي
للصيغة عند سماعها دون أن يصبح فعل الامر مرادفا لكلمة الوجوب.
وليس معنى دخول الالزام والوجوب في معنى الصيغة أن صيغة الامر
لا يجوز استعمالها في مجال المستحبات، بل قد استعملت كثيرا في موارد
133

الاستحباب كما استعملت في موارد الوجوب، ولكن استعمالها في موارد
الوجوب استعمال حقيقي، لأنه استعمال للصيغة في المعنى الذي وضعت له،
واستعمالها في موارد الاستحباب استعمال مجازي يبرره الشبه القائم بين
الاستحباب والوجوب.
2 - (صيغة النهي):
صيغة النهي نحو " لا تذهب "، " لا تخن "، " لا تكسل في طلب
العلم ". والمقرر بين الأصوليين هو القول بأن صيغة النهي تدل على الحرمة،
ويجب أن نفهم هذا القول بصورة مماثلة لفهمنا القول بأن صيغة الامر تدل
على الوجوب، فإن النهي يشكل جملة مفيدة ويشتمل لاجل ذلك على نسبة
تامة، وتعتبر الجملة التي يشكلها جملة انشائية لا إخبارية، فأنت حين تقول
" لا تذهب " لا تريد أن تخبر عن عدم الذهاب وإنما تريد أن تمنع المخاطب
عن الذهاب وتمسكه عن ذلك، فصيغة الأمر والنهي متفقتان في كل هذا
ولكنهما تختلفان في الارسال والامساك، لان صيغة الامر تدل على نسبة
إرسالية كما سبق، وأما صيغة النهي فتدل على نسبة إمساكية، أي إنا حين
نسمع جملة " اذهب " نتصور نسبة بين الذهاب والمخاطب ونتصور أن
المتكلم يرسل المخاطب نحوها ويبعثه إلى تحقيقها كما يرسل الصياد كلبه نحو
الفريسة، وأما حين نسمع جملة " لا تذهب " فنتصور نسبة بين الذهاب
والمخاطب، ونتصور أن المتكلم يمسك مخاطبه عن تلك النسبة ويزجره عنها،
كما لو حاول كل الصيد أن يطارد الفريسة فأمسك به الصياد، ولهذا نطلق
عليها اسم " النسبة الامساكية ".
وتدخل الحرمة في مدلول النهي بالطريقة التي دخل بها الوجوب إلى
مدلول الامر، ولنرجع بهذا الصدد إلى مثال الصياد، فإنا نجد أن الصياد
حين يمسك كلبه عن تتبع الفريسة قد يكون إمساكه هذا ناتجا عن كراهة
134

تتبع الكلب للفريسة بدرجة شديدة، وقد ينتج عن كراهة ذلك بدرجة ضعيفة.
ونظير هذا تماما نتصوره في النسبة الامساكية التي نتحدث عنه، فإنها قد
نتصورها ناتجة عن كراهة شديدة للمنهي عنه، وقد نتصورها ناتجة عن
كراهة ضعيفة.
ومعنى القول بأن صيغة النهي تدل على الحرمة في هذا الضوء أن الصيغة
موضوعة للنسبة الامساكية بوصفها ناتجة عن كراهة شديدة وهي الحرمة،
فتدخل الحرمة ضمن الصورة التي نتصور بها المعنى اللغوي لصيغة النهي
عند سماعها.
وفي نفس الوقت قد تستعمل صيغة النهي في موارد الكراهة، فينهى
عن المكروه أيضا بسبب الشبه القائم بين الكراهة والحرمة، ويعتبر استعمالها
في موارد المكروهات استعمال مجازيا.
3 - (الاطلاق):
وتوضيحه أن الشخص إذا أراد أن يأمر ولده بإكرام جاره المسلم فلا
يكتفي عادة بقوله: " أكرم الجار " بل يقول: " أكرم الجار السلم "، وأما
إذا كان يريد من ولده أن يكرم جاره مهما كان دينه فيقول: " أكرم الجار "
ويطلق كلمة الجار أي لا يقيدها بوصف خاص ويفهم من قوله عندئذ
أن الامر لا يختص بالجار المسلم بل يشمل الجار الكافر أيضا، وهذا الشمول
نفهمه نتيجة لذكر كلمة الجار مجردة عن القيد، ويسمى هذا ب‍ " الاطلاق "
ويسمى اللفظ في هذه الحالة " مطلقا ". وعلى هذا الأساس يعتبر تجرد
الكلمة من القيد اللفظي في الكلام دليلا على شمول الحكم، ومثال ذلك من
النص الشرعي قوله تعالى: " أحل الله البيع "، فقد جاءت كلمة البيع هنا
مجردة عن أي قيد في الكلام، فيدل هذا الاطلاق على شمول الحكم بالحلية
لجميع أنواع البيع. وأما كيف أصبح ذكر الكلمة بدون قيد في الكلام
135

دليلا على الشمول وما هو مصدر هذه الدلالة فهذا ما لا يتسع له البحث
على مستوى هذه الحلقة.
4 (أدوات العموم):
أدوات العموم مثالها " كل " في قولنا: " احترم كل عادل " و " قاطع
كل من يعادي الاسلام "، وذلك أن الآمر حين يريد أن يدلل على شمول
حكمه وعمومه قد يكتفي بالاطلاق وذكر الكلمة بدون قيد كما شرحناه آنفا
فيقول: " أكرم الجار " وقد يريد مزيدا من التأكيد على العموم والشمول
فيأتي بأداة خاصة للدلالة على ذلك فيقول: في المثال المتقدم مثلا " أكرم
كل جار "، فيفهم السامع من ذلك مزيدا من التأكيد على العموم والشمول،
ولهذا تعتبر كلمة " كل " من أدوات العموم لأنها موضوعة في اللغة لذلك،
ويسمى اللفظ الذي دلت الأداة على عمومه " عاما " ويعبر عنه ب‍ " مدخول
الأداة "، لان أداة العموم دخلت عليه وعممته.
ونستخلص من ذلك أن التدليل على العموم يتم بإحدى طريقتين:
الأولى سلبية وهي الاطلاق، أي ذكر الكلمة بدون قيد. والثانية ايجابية
وهي استعمال أداة العموم نحو " كل " و " جميع " و " كافة " وما إليها
من ألفاظ.
وقد اختلف الأصوليون في صيغة الجمع المعرف باللام من قبيل " الفقهاء "
" العلماء "، " الجيران "، " العقود ". فقال بعضهم: إن هذه الصيغة
نفسها من أدوات العموم أيضا مثل كلمة " كل "، فأي جمع من قبيل " فقهاء "
أو " علماء " أو " جيران " إذا أراد المتكلم إثبات الحكم لجميع أفراده
والتدليل على عمومه بطريقة إيجابية أدخل عليه اللام فيجعله جمعا معرفا
باللام ويقول: " احترم الفقهاء " أو " أكرم الجيران " أو " أوفوا بالعقود ".
وبعض الأصوليين يذهب إلى أن صيغة الجمع المعرف باللام ليست
136

من أدوات العموم، ونحن إنما نفهم الشمول في الحكم عندما نسمع المتكلم
يقول " أكرم الجيران " مثلا بسبب الاطلاق وتجرد الكلمة عن القيود لا بسبب
دخول اللام على الجمع، أي بطريقة سلبية إيجابية، فلا فرق بين أن يقال:
" أكرم الجيران " أو " أكرم الجار " فكما يستند فهمنا للشمول في الجملة
الثانية إلى الاطلاق كذلك الحال في الجملة الأولى، فالمفرد المعرف باللام
وهو الجار والجمع المعرف باللام وهو الجيران لا يدلان على
الشمول إلا بالطريقة السلبية، أي بإطلاق الكلمة وتجريدها عن القيد.
5 (أداة الشرط):
أداة الشرط مثالها " إذا " في قولنا " إذا زالت الشمس فصل "
و " إذا أحرمت للحج فلا تتطيب "، وتسمى الجملة التي تدخل عليها أداة
الشرط جملة شرطية، وهي تختلف في وظيفتها اللغوية عن غيرها من الجمل
التي لا توجد فيها أداة شرط، فإن سائر الجمل تقوم بربط كلمة بأخرى،
نظير ربط الخبر بالمبتدأ في قولنا: " علي إمام " أو ربط الفعل بالفاعل في
قولنا: " ظهر نور الاسلام ". وأما الجملة الشرطية فهي تربط بين جملتين،
ففي مثال " إذا زالت الشمس فصل " تعتبر " زالت الشمس " جملة وتعتبر
" صل " جملة أخرى، وأداة الشرط تربط بين هاتين الجملتين وتجعل
الأولى شرطا والثانية مشروطة أو جزاء.
وعلى هذا الأساس نعرف أن الجملة الشرطية تحتوي على شرط ومشروط
وإذا لاحظنا المثالين المتقدمين للجملة الشرطية وجدنا أن الشرط في مثال " إذا
زالت الشمس فصل " هو زوال الشمس، والشرط في قولنا: " إذا أحرمت
للحج فلا تتطيب " هو الاحرام للحج، وأما المشروط فهو مدلول جملة " صل "
و " لا تتطيب ". ولما كان مدلول " صل " بوصفه صيغة أمر هو الوجوب
137

ومدلول " لا تتطيب " بوصفه صيغة نهي هو الحرمة كما تقدم، فنعرف أن
المشروط هو الوجوب أو الحرمة أي الحكم الشرعي، ومعنى أن الحكم
الشرعي مشروط بزوال الشمس أو بالاحرام للحج أنه مرتبط بالزوال أو
الاحرام ومقيد بذلك، والمقيد ينتفي إذا انتفى قيده. وينتج عن ذلك أن
أداة الشرط تدل على انتفاء الحكم الشرعي في حالة انتفاء الشرط، لان ذلك
نتيجة طبيعية لدلالتها على تقييد الحكم الشرعي وجعله مشروطا، فيدل قولنا:
" إذا زالت الشمس فصل " على عدم وجوب الصلاة قبل الزوال، ويدل
قولنا: " إذا أحرمت للحج فلا تتطيب " على عدم حرمة الطيب في حالة عدم
الاحرام للحج، وبذلك تصبح الجملة الشرطية ذات مدلولين: أحدهما ايجابي
والآخر سلبي. فالإيجابي هو ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط أي إن
الوجوب يثبت عند الزوال ومدلولها السلبي هو انتفاء الجزاء عند انتفاء
الشرط - أي عدم وجوب الصلاة قبل الزوال وعدم حرمة الطيب في غير
حالة الاحرام للحج.
ويسمى المدلول الايجابي " منطوقا " للجملة، والمدلول السلبي
" مفهوما ". وكل جملة لها مثل هذا المدلول السلبي يقال في العرفي الأصولي:
إن هذه الجملة أو القضية ذات مفهوم.
وقد وضع بعض الأصوليين قاعدة عامة لهذا المدلول السلبي في اللغة
فقال: إن كل أداة لغوية تدل على تقييد الحكم وتحديده لها مدلولها سلبي،
إذا تدل على انتفاء الحكم خارج نطاق الحدود التي تضعها للحكم وأداة
الشرط تعتبر مصداقا لهذه القاعدة العامة، لأنها تدل على تحديد الحكم
بالشرط.
ومن مصاديق القاعدة أيضا أدة الغاية حين تقول مثلا: " صم حتى
تغيب الشمس "، فإن " صم " هنا فعل أمر يدل على الوجوب، وقد دلت
138

حتى بوصفها أداة غاية على وضع حد وغاية لهذا الوجوب الذي تدل عليه
صيغة الامر، ومعنى وضع غاية له تقييده، فيدل على انتفاء وجوب الصوم
بعد مغيب الشمس، وهذا هو المدلول السلبي الذي نطلق عليه اسم المفهوم.
ويمسى المدلول السلبي للجملة الشرطية ب‍ " مفهوم الشرط " كما يسمى
المدلول السلبي لأداة الغاية من قبيل حتى في المثال المتقدم ب‍ " مفهوم
الغاية ".
الفصل الثاني
في حجية الظهور
ما هو المطلوب في التفسير:
إذا أردنا أن نفسر كلمة من ناحية لغوية كما يصنع اللغويون في معاجم
اللغة فسوف نفسرها بمعناها الذي ارتبطت به في اللغة أو بأقرب معانيها
إليها إذا كانت ذات معان متعددة فنقول عن كلمة " بحر " مثلا: إنها تدل
في اللغة على الكمية الهائلة الغزيرة من الماء المجتمعة في مكان واحد، لان
هذه هو أقرب المعاني إلى الكلمة في اللغة أي المعنى الظاهر منها.
وأما إذا جاءت كلمة بحر في كلام شخص يقول: " إذهب إلى البحر في
كل يوم " وأردنا أن نفسر الكلمة في كلامه فلا يكفي أن نعرف ما هو أقرب
المعاني إلى كلمة البحر لغة أي المعنى الظاهر منها بل يجب أن نعرف
ماذا أراد المتكلم بالكلمة، لان المتكلم قد يريد بالكلمة معنى آخر غير المعنى
الظاهر. فالمهم بصورة أساسية إذن أن نكتشف مراد المتكلم أي المدلول
النفسي للفظ ولا يكفي مجرد معرفة المدلول اللغوي.
ومثال ذلك أيضا صيغة الامر إذا جاءت في كلام الآمر ولم ندر هل
أراد الوجوب أو الاستحباب؟ فإن الغرض الأساسي هو أن نعرف ماذا أراد؟
139

ولا يكفينا أن نعرف مدلول الصيغة لغويا فحسب، إذ قد يكون مدلولها
اللغوي هو الوجوب، والمتكلم قد أراد الاستحباب على سبيل الاستعمال
المجازي مثلا.
وإذا كنا قد درسنا في الفصل السابق المدلول اللغوي لصيغة إفعل فإنما
ذلك لكي نستفيد منه في تحديد المدلول النفسي التصديقي للصيغة، ولكي
يوجهنا المدلول اللغوي إلى معرفة المدلول التصديقي واكتشاف إرادة المتكلم
كما سنرى.
ظهور حال المتكلم:
عرفنا سابقا أن للدلالة مصدرين: أحدهما اللغة بما تشتمل عليه من
أوضاع وهي مصدر الدلالة التصورية، والآخر حال المتكلم وهو مصدر
الدلالة التصديقية النفسية.
وكما نتسأل بالنسبة إلى المصدر الأول ما هو أقرب المعاني إلى اللفظ
في اللغة لكي يكون هو المعنى الظاهر للفظ لغويا من بين سائر معانيه،
كذلك نتسأل بالنسبة إلى المصدر الثاني ما هو المدلول التصديقي النفسي
الأقرب إلى حال المتكلم؟ ونريد بالمعنى الأقرب إلى اللفظ لغة في السؤال
الأول المعنى الذي ينتقل الذهن إلى تصوره عند سماع اللفظ قبل أن ينتقل
إلى تصور غيره، ونريد بالمدلول التصديقي الأقرب لحال المتكلم في السؤال
الثاني ما هو المرجح في تقدير نوعية الإرادة التي توجد في نفس المتكلم.
ومثال ذلك كلمة " البحر "، فنحن نتسأل أولا ما هو المعنى الأقرب
إليها في اللغة هل البحر من الماء أو البحر من العلم؟ ونجيب أن المعنى الأقرب
لغويا لها بموجب النظام اللغوي العام هو البحر من الماء، لأنه معنى حقيقي
والمعنى الحقيقي في النظام اللغوي العام أقرب من المعنى المجازي، ويعني
140

كون المعنى الحقيقي أقرب إلى اللفظ أن الذهن ينتقل إلى تصوره عند سماع
اللفظ قبل أن ينتقل إلى تصور غيره. ونتسأل ثانيا ماذا يريد المتكلم بكلمة
البحر في قوله: " إذهب إلى البحر في كل يوم " فهل يريد المعنى الأقرب
لغويا الذي نتصوره عند سماع الكلمة قبل غيره من المعاني وهو البحر من
الماء، أو يريد المعنى الأبعد لغويا وهو البحر من العلم؟ ولما كان مصدر
الدلالة التصديقية الدالة على إرادة المتكلم هو حال المتكلم فيجب أن نعرف
أي هذين التقديرين أقرب إلى حال المتكلم، فهل الأقرب إلى حاله أن يريد
المعنى الحقيقي الظاهر من اللفظ لغة أن المعنى الأبعد؟.
ويجب علم الأصول على ذلك أن الظاهر من حال المتكلم أنه يريد
المعنى الأقرب لغويا، ويعني كون هذا أقرب إلى حال المتكلم أن المرجح في
حال المتكلم بوصفه قد تكلم بلفظ له معنى لغوي ظاهر أنه يريد المعنى
الظاهر الأقرب إلى اللفظ دون الأبعد.
فلدينا إذن ظهوران: ظهور لغوي لكلمة البحر في المعنى الحقيقي،
وهذا الظهور لا يعني أكثر من أن الذهن ينتقل إلى تصور هذا المعنى قبل
تصور المعاني الأخرى، وظهور حالي تصديقي، وهو ظهور حال المتكلم في
أنه يريد باللفظ إفهام الأقرب إليه من معانيه لغة، وهذا الظهور يعني أن
الأرجح في حال المتكلم أن يريد باللفظ معناه الظاهر.
حجية الظهور:
ومن المقرر في علم الأصول أن ظهور حال المتكلم في إرادة أقرب المعاني
إلى اللفظ حجة، ومعنى حجية هذا الظهور اتخاذه أساسا لتفسير الدليل
اللفظي على ضوئه، فنفترض دائما أن المتكلم قد أراد المعنى الأقرب إلى
141

اللفظ في النظام اللغوي العام (1) أخذا بظهور حاله. ولأجل ذلك يطلق على
حجية الظهور اسم " أصالة الظهور "، لأنها تجعل الظهور هو الأصل لتفسير
الدليل اللفظي.
وفي ضوء هذه نستطيع أن نعرف لماذا كنا نهتم في الفصل السابق بتحديد
المدلول اللغوي الأقرب للكلمة والمعنى الظاهر لها بموجب النظام اللغوي
العام؟ مع أن المهم عند تفسير الدليل اللفظي هو اكتشاف ماذا أراد المتكلم
باللفظ من معنى؟ لا ما هو المعنى الأقرب إليه في اللغة؟ فإنا ندرك في ضوء
أصالة الظهور أن الصلة وثيقة جدا بين اكتشاف مراد المتكلم وتحديد
المدلول اللغوي الأقرب للكلمة، لان أصالة الظهور تحكم بأن مراد
المتكلم من اللفظ هو نفس المدلول اللغوي الأقرب، أي المعنى الظاهر من
اللفظ لغة، فلكي نعرف مراد المتكلم يجب أن نعرف المعنى الأقرب إلى اللفظ
لغة لنحكم بأنه هو المعنى المراد للمتكلم.
تطبيقات حجية الظهور على الأدلة اللفظية:
وسوف نستعرض فيما يلي ثلاث حالات لتطبيق قاعدة حجية الظهور:
(الأولى) أن يكون للفظ في الدليل معنى وحيد في اللغة ولا يصلح
للدلالة على معنى آخر في النظام اللغوي العام. والقاعدة العامة تحتم في
هذه الحالة أن يحمل اللفظ على معناه الوحيد ويقال: " إن المتكلم أراد
ذلك المعنى "، لان المتكلم يريد باللفظ دائما المعنى المحدد له في النظام اللغوي
العام، ويعتبر الدليل في مثل هذه الحالة صريحا في معناه.
(الثانية) أن يكون للفظ معان متعددة متكافئة في علاقتها باللفظ

(1) لا نريد باللغة والنظام اللغوي العام هنا اللغة في مقابل العرف، بل
النظام القائم بالفعل لدلالة الألفاظ سواء كان لغويا أوليا أو ثانويا.
142

بموجب النظام اللغوي العام من قبيل المشترك، وفي هذه الحالة لا يمكن
تعيين المراد من اللفظ على أساس تلك القاعدة، إذ لا يوجد معنى أقرب
إلى اللفظ من ناحية لغوية لتطبق القاعدة عليه، ويكون الدليل في هذه
الحالة مجملا.
(الثالثة) أن يكون للفظ معان متعددة في اللغة وأحدها أقرب إلى
اللفظ لغويا من سائر معانيه، ومثاله كلمة " البحر " التي لها معنى حقيقي
قريب هو " البحر من الماء " ومعنى مجازي بعيد وهو " البحر من العلم "،
فإذا قال الآمر: " إذهب إلى البحر في كل يوم " وأردنا أن نعرف ماذا أراد
المتكلم بكلمة البحر من هذين المعنيين؟ يجب علينا أن ندرس السياق الذي
جاءت فيه كلمة البحر ونريد ب‍ " السياق " كل ما يكتف اللفظ الذي
نريد فهمه من دوال أخرى، سواء كانت لفظية كالكلمات التي تشكل مع
اللفظ إلي نريد فهمه كلاما واحدا مترابطا، أو حالية كالظروف والملابسات
التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالة في الموضوع.
فلا بد لنا لكي نفهم المعنى الذي أراده المتكلم من لفظ " البحر " في
المثال المتقدم أن ندرس السياق الذي جاءت فيه كلمة البحر ونحدد المدلول
اللغوي والمعنى الظاهر لكل كلمة وردت في ذلك السياق، فإن لم نجد في
سائر الكلمات التي وردت في السياق ما يدل على خلاف المعنى الظاهر من
كلمة البحر كان لزاما علينا أن نفسر كلمة البحر على أساس المعنى اللغوي
الأقرب ونقرر أن مراد الآمر من البحر الذي أمرنا بالذهاب إليه في كل يوم هو
بحر الماء لا بحر العلم تطبيقا للقاعدة العامة القائلة بحجية الظهور.
وقد نجد في سائر أجزاء الكلام ما لا يتفق مع ظهور كلمة البحر، ومثاله
143

أن يقول الآمر: " إذهب إلى البحر في كل يوم واستمع إلى حديثه باهتمام "
فإن الاستماع إلى حديث البحر لا يتفق مع المعنى اللغوي الأقرب إلى كلمة
البحر، لان البحر من الماء لا يستمع إلى حديثه وإنما يستمع إلى حديث البحر
من العلم أي العالم الذي يشابه البحر لغزارة علمه وفي هذه الحالة نجد
أنفسنا نتسأل ماذا أراد المتكلم بكلمة البحر، هل أراد بها البحر من العلم
بدليل أنه أمرنا بالاستماع إلى حديثه، أو أراد بها البحر من الماء ولم يقصد
بالحديث هنا المعنى الحقيقي بل أراد به الاصغاء إلى صوت أمواج البحر؟
وهكذا نظل مترددين بين كلمة البحر وظهورها اللغوي من ناحية، وكلمة
الحديث وظهورها اللغوي من ناحية أخرى، ومعنى هذا أنا نتردد بين صورتين
إحداهما صورة الذهاب إلى بحر من الماء المتموج والاستماع إلى صوت
موجه، وهذه الصورة هي التي توحي بها كلمة البحر. والأخرى صورة
الذهاب إلى عالم غزير العلم والاستماع إلى كلامه، وهذه الصورة هي التي
توحي بها كلمة الحديث. وفي هذا المجال يجب أن نلاحظ السياق جميعا
ككل ونرى أي هاتين الصورتين أقرب إليه في النظام اللغوي العام؟ أي
إن هذا السياق إذا ألقي على ذهن شخص يعيش اللغة ونظامها بصورة صحيحة
هل سوف تسبق إلى ذهنه الصورة الأولى أو الصورة الثانية؟ فإن عرفنا
أن إحدى الصورتين أقرب إلى السياق بموجب النظام اللغوي العام ولنفرضها
الصورة الثانية تكون للسياق ككل ظهور في الصورة الثانية ووجب أن
نفسر الكلام على أساس تلك الصورة الظاهرة.
ويطلق على كلمة الحديث في هذا المثال اسم " القرينة "، لأنها هي
التي دلت على الصورة الكاملة للسياق وأبطلت مفعول كلمة البحر وظهورها.
وأما إذا كانت الصورتان متكافئتين في علاقتهما بالسياق فهذا يعني أن
الكلام أصبح مجملا ولا ظهور له، فلا يبقى مجال لتطبيق القاعدة العامة.
144

القرينة المتصلة والمنفصلة:
عرفنا أن كلمة " الحديث " في المثال السابق قد تكون قرينة في ذلك
السياق، وتسمى " قرينة متصلة " لأنها متصلة بكلمة البحر التي أبطلت
مفعولها وداخلة معها في سياق واحد، والكلمة التي يبطل مفعولها بسبب
القرينة تسمى ب‍ " ذي القرينة ".
ومن أمثلة القرينة المتصلة الاستثناء من العام، كما إذا قال الآمر:
" أكرم كل فقير إلا الفساق "، فإن كلمة " كل " ظاهرة في العموم لغة،
وكلمة " الفساق " تتنافى مع العموم، وحين ندرس السياق ككل نرى أن
الصورة التي تقتضيها هذه الكلمة أقرب إليه من صورة العموم التي تقتضيها
كلمة " كل "، بل لا مجال للموازنة بينهما، وبهذا تعتبر أداة الاستثناء قرينة
على المعنى العام للسياق.
فالقرينة المتصلة هي كل ما يتصل بكلمة أخرى، فيبطل ظهورها ويوجه
المعنى العام للسياق الوجه التي تنسجم معه.
وقد يتفق أن القرينة بهذا المعنى لا تجئ متصلة بالكلام بل منفصلة عنه
فتسمى " قرينة منفصلة ". ومثاله أن يقول الآمر: " أكرم كل فقير " ثم
يقول في حديث آخر بعد ساعة: " لا تكرم فساق الفقراء "، فهذا النهي
لو كان متصلا بالكلام الأول لاعتبر قرينة متصلة ولكنه انفصل عنه في
هذا المثال.
وفي هذا الضوء نفهم معنى القاعدة الأصولية القائلة: إن ظهور القرينة
مقدم على ظهور ذي القرينة سواء كانت القرينة متصلة أو منفصلة.
وهناك فروق بين القرينة المتصلة والمنفصلة لا مجال لدراستها على مستوى
هذه الحلقة.
145

2 - الدليل البرهاني
تمهيد
دراسة العلاقات العقلية:
حينما يدرس العقل العلاقات بين الأشياء يتوصل إلى معرفة أنواع
عديدة من العلاقة، فهو يدرك مثلا علاقة التضاد بين السواد والبياض، وهي
تعني استحالة اجتماعهما في جسم واحد، ويدرك علاقة التلازم بين السبب
والمسبب، فإن كل مسبب في نظر العقل ملازم لسببه ويستحيل انفكاكه عنه،
نظير الحرارة بالنسبة إلى النار، ويدرك علاقة التقدم والتأخر في الدرجة بين
السبب والمسبب. ومثاله: إذا أمسكت مفتاحا بيدك وحركت يدك فيتحرك
المفتاح بسبب ذلك، وبالرغم من أن المفتاح في هذا المثال يتحرك في نفس
اللحظة التي تتحرك فيها يدك فإن العقل يدرك أن حركة اليد متقدمة على
حركة المفتاح وحركة المفتاح متأخرة عن حركة اليد لا من ناحية زمنية بل
من ناحية تسلسل الوجود، ولهذا نقول حين نريد أن نتحدث عن ذلك:
" حركت يدي فتحرك المفتاح " فالفاء هنا تدل على الترتيب وتأخر حركة
المفتاح عن حركة اليد مع أنهما وقعا في زمان واحد.
فهناك إذن تأخر لا يمت إلى الزمان بصلة وإنما ينشأ عن تسلسل الوجود
في نظر العقل، بمعنى أن العقل حين يلحظ حركة اليد وحركة المفتاح ويدرك
أن هذه نابعة من تلك، يرى أن حركة المفتاح متأخرة عن حركة اليد بوصفها
نابعة منها، ويرمز إلى هذا التأخر بالفاء فيقول: " تحركت يدي فتحرك
المفتاح "، ويطلق على هذا التأخر اسم " التأخر الرتبي " أي التأخر في الدرجة.
146

وبعد أن يدرك العقل تلك العلاقات يستطيع أن يستفيد منها في اكتشاف
وجود الشئ أو عدمه، فهو عن طريق علاقة التضاد بين السواد والبياض
يستطيع أن يثبت عدم السواد في جسم إذا عرف أنه أبيض نظرا إلى استحالة
اجتماع البياض والسواد في جسم واحد، فما دام أبيض وجب بحكم علاقة
التضاد أن لا يكون أسود. وعن طريق علاقة التلازم بين المسبب وسببه
يستطيع العقل أن يثبت وجود المسبب إذا عرف وجود السبب نظرا إلى
استحالة الانفكاك بينهما. وعن طريق علاقة التقدم والتأخر يستطيع العقل
أن يكتشف عدم وجود المتأخر قبل الشئ المتقدم، لان ذلك يناقض كونه
متأخرا، فإذا كانت حركة المفتاح متأخرة عن حركة اليد في تسلسل الوجود
فمن المستحيل أن تكون حركة المفتاح والحالة هذه موجودة بصورة
متقدمة على حركة اليد في تسلسل الوجود، لان الشئ الواحد لا يمكن أن
يكون متقدما على الشئ ويكون في نفس الوقت متأخرا عنه.
وكما يدرك العقل هذه العلاقات بين الأشياء ويستفيد منها في الكشف
عن وجود شئ أو عدمه، كذلك يدرك العلاقات القائمة بين الاحكام،
ويستفيد من تلك العلاقات في الكشف عن وجود حكم أو عدمه، فهو يدرك
مثلا التضاد بين الوجوب والحرمة كما كان يدرك التضاد بين السواد والبياض
وكما كان يستخدم هذه العلاقة في نفي السواد إذا عرف وجود البياض كذلك
يستخدم علاقة التضاد بين الوجوب والحرمة لنفي الوجوب عن الفعل إذا
عرف أنه حرام.
فهناك إذن أشياء تقوم بينها علاقات في نظر العقل، وهناك أحكام تقوم
بينها علاقات في نظر العقل أيضا. ونطلق على الأشياء اسم " العالم التكويني "
وعلى الاحكام اسم " العالم التشريعي ".
وكما يمكن للعقل أن يكشف وجود الشئ أو عدمه في العالم التكويني
147

عن طريق تلك العلاقات كذلك يمكن للعقل أن يكشف وجود الحكم أو عدمه
في العالم التشريعي عن طريق تلك العلاقات.
ومن أجل ذلك كان من وظيفة علم الأصول أن يدرس تلك العلاقات
في عالم الاحكام بوصفها قضايا عقلية صالحة لان تكون عناصر مشتركة في
عملية الاستنباط.
الطريقة القياسية:
وهذه العلاقات تدخل في عملية الاستنباط ضمن دليل يشكله الفقيه
بطريقة قياسية، وهي الطريقة التي نستنتج فيها نتيجة خاصة من قانون عام، من
قبيل قولنا: " هذا مثلث وكل مثلث له ثلاثة أضلاع فهذا المثلث له ثلاثة
أضلاع " فإن هذا القول يشتمل على استنتاج عدد أضلاع هذه المثلث وأنها
ثلاثة من القانون العام القائل: " إن كل مثلث له ثلاثة أضلاع ".
وهكذا الحال في العلاقات التي ندرسها في العالم التشريعي، فإنها تشكل
قوانين عامة ويستنتج الفقيه منها نتائج خاصه بطريقة قياسية فيقول مثلا:
" الصلاة في المكان المغصوب حرام، وكل حرام لا يمكن أن يكون واجبا
لعلاقة التضاد القائمة بين الوجوب والحرمة، فالصلاة في المكان المغصوب
إذن لا يمكن أن تكون واجبة ".
ومن الطبيعي على هذا الأساس أن نتكلم عن العلاقات العقلية القائمة
في عالم الاحكام تحت عنوان " الدليل القياسي "، لأنها تكون العناصر
المشتركة في الدليل القياسي، ولكنا بالرغم من ذلك استبدلنا كلمة القياس
ب‍ " البرهان "، لان كلمة القياس قد يختلط معناها المنطقي الذي نريده
هنا بمعان أخرى، فأثرنا أن نضع الدليل البرهاني عنوانا لدراسة تلك
العلاقات العقلية.
وقد تعرضت الطريقة القياسية في الاستدلال لنقد شديد من الناحية
148

المنطقية وبخاصة في عصرنا الحديث، وسوف نتناول ذلك في الحلقات المقبلة
إن شاء الله تعالى.
تقسيم البحث
توجد في العالم التشريعي أقسام من العلاقات: فهناك قسم من العلاقات
قائم بين نفس الاحكام أي بين حكم شرعي وحكم شرعي آخر، وقسم
ثان من العلاقات قائم بين الحكم وموضوعه، وقسم ثالث بين الحكم
ومتعلقه، وقسم رابع بين الحكم ومقدماته، وقسم خامس وهو العلاقات
القائمة في داخل الحكم الواحد، وقسم سادس وهو العلاقات القائمة بين
الحكم وأشياء أخرى خارجة عن نطاق العالم التشريعي. وسوف نتحدث عن
نماذج لأكثر من هذه الأقسام (1) في فصول:
الفصل الأول
في العلاقات القائمة بين نفس الاحكام
علاقة التضاد بين الوجوب والحرمة:
من المعترف به في علم الأصول أنه ليس من المستحيل أن يأتي المكلف
بفعلين في وقت واحد أحدهما واجب والآخر حرام، فيعتبر مطيعا من ناحية
إتيانه بالواجب وجديرا بالثواب، ويعتبر عاصيا من ناحية إتيانه للحرام

(1) أي لغير القسم السادس، وأما القسم السادس فنريد به ما كان من قبيل
علاقة التلازم بين الحكم العقلي والحكم الشرعي المقررة في المبدأ القائل:
" كلما حكم به العقل حكم به الشرع "، فإن هذه العلاقة تقوم بين الحكم
الشرعي وشئ خارج عن نطاق العالم التشريعي، وهو حكم العقل. وقد
أجلنا دراسة ذلك إلى الحلقات المقبلة.
149

ومستحقا للعقاب. فشرب الماء النجس مثلا حرام ودفع الزكاة إلى الفقير
واجب، فلو أن إنسانا حمل الماء النجس بإحدى يديه وشربه وأعطى باليد
الأخرى في نفس الوقت زكاته للفقير فقد عصى وامتثل وأتى بالحرام والواجب
في وقت واحد.
وأما الفعل الواحد فلا يمكن أن يتصف بالوجوب والحرمة معا، لان
العلاقة بين الوجوب والحرمة هي علاقة تضاد ولا يمكن اجتماعهما في فعل
واحد كما لا يمكن أن يجتمع السواد والبياض في جسم واحد، فدفع الزكاة
إلى الفقير لا يمكن أن يكون وهو واجب حراما في نفس الوقت،
وشرب النجس لا يمكن أن يكون وهو حرام واجبا في نفس الوقت.
وهكذا يتضح:
(أولا) أن الفعلين المتعددين كدفع الزكاة وشرب النجس يمكن
أن يتصف أحدهما بالوجوب والآخر بالحرمة ولو أوجدهما المكلف في
زمان واحد.
(وثانيا) أن الفعل الواحد لا يمكن أن يتصف بالوجوب والحرمة معا.
والنقطة الرئيسية في هذا البحث عند الأصوليين هي أن الفعل قد يكون
واحدا بالذات والوجود ومتعددا بالوصف والعنوان، وعندئذ فهل يلحق بالفعل
الواحد لأنه واحد وجودا وذاتا؟ أو يلحق بالفعلين لأنه متعدد بالوصف
والعنوان؟ ومثاله: أن يتوضأ المكلف بماء مغصوب، فإن هذه العملية التي
يؤديها إذا لوحظت من ناحية وجودها فهي شئ واحد وإذا لوحظت من ناحية
أوصافها فهي توصف بوصفين، إذ يقال عن العملية: إنها وضوء، ويقال
عنها في نفس الوقت: إنها غصب وتصرف في مال الغير بدون إذنه، وكل من
الوصفين يسمى " عنوانا ". ولأجل ذلك تعتبر العملية في هذا المثال واحدة
ذاتا ووجودا ومتعددة وصفا وعنوانا.
150

وفي هذه النقطة قولان للأصوليين: " أحدهما " أن هذه العملية ما دامت
متعددة بالوصف والعنوان تلحق بالفعلين المتعددين، فكما يمكن أن يتصف
دفع الزكاة للفقير بالوجوب وشرب الماء النجس بالحرمة كذلك يمكن أن يكون
أحد وصفي العملية وعنوانيها واجبا وهو عنوان الوضوء والوصف الآخر
حراما وهو عنوان الغصب. وهذا القول يطلق عليه اسم " القول بجواز
اجتماع الأمر والنهي ".
" والقول الآخر " يؤكد على إلحاق العملية بالفعل الواحد على أساس
وحدتها الوجودية، ولا يبرر مجرد تعدد الوصف والعنوان عنده تعلق الوجوب
والحرمة معا بالعملية. وهذا القول يطلق عليه اسم " القول بامتناع اجتماع
الأمر والنهي ".
وهكذا اتجه البحث الأصولي إلى دراسة تعدد الوصف والعنوان من
ناحية أنه هل يبرر اجتماع الوجوب والحرمة معا في عملية الوضوء بالماء
المغصوب؟ أو أن العملية ما دامت واحدة وجودا وذاتا فلا يمكن أن توصف
بالوجوب والحرمة في وقت واحد.
ونحن نعتقد أن العملية التي لها وصفان وعنوانان يمكن أن يتعلق
الوجوب بأحدهما والحرمة بالآخر، ولا تمنع عن ذلك وحدة العملية وجودا،
ولكن هذا لا ينطبق على كل وصف بل إنما تتسع العملية الواحدة للوجوب
والحرمة معا إذا كان لها وصفان وعنوانان يتوفر فيهما شرائط خاصة لا مجال
لتفصيلها الآن.
هل تستلزم حرمة العقد فساده؟
إن صحة العقد معناها أن يترتب عليه أثره الذي اتفق عليه المتعاقدان،
ففي عقد البيع يعتبر البيع صحيحا ونافذا إذا ترتب عليه نقل ملكية السلعة
151

من البائع إلى المشتري ونقل ملكية الثمن من المشتري إلى البائع، ويعتبر
فاسدا وباطلا إذا لم يترتب عليه ذلك.
وبديهي أن العقد لا يمكن أن يكون صحيحا وفاسدا في وقت واحد
فإن الصحة والفساد متضادان كالتضاد بين الوجوب والحرمة، فكما لا يمكن
أن يكون الفعل الواحد واجبا وحراما كذلك لا يمكن أن يكون العقد الواحد
صحيحا وفاسدا.
والسؤال هو هل يمكن أن يكون العقد صحيحا وحراما؟ ونجيب على
ذلك بالايجاب، إذ لا تضاد بين الصحة والحرمة ولا تلازم بين الحرمة والفساد
لان معنى تحريم العقد منع المكلف من إيجاد البيع، ومعنى صحته أن المكلف
إذا خالف هذا المنع والتحريم وباع ترتب الأثر على بيعه وانتقلت الملكية من
البائع إلى المشتري، ولا تنافي بين أن يكون عليه الأثر في حالة صدوره من
المكلف، فلا تلازم إذن بين حرمة العقد وفساده ولا تضاد بين حرمته وصحته
بل يمكن أن يكون العقد حراما وصحيحا في نفس الوقت. ومثال ذلك في
حياتنا الاعتيادية: أنك قد لا تريد أن يزورك فلان وتبغض ذلك أشد البغض،
ولكن إذا اتفق وزارك ترى لزاما عليك أن ترتب الأثر على زيارته وتقوم
بضيافته. فكما أمكن في هذا المثال أن تبغض زيارة فلان لك وفي نفس الوقت
ترتب الأثر عليها إذا اتفق له أن زارك كذلك يمكن في مسألتنا أن يبغض
الشارع صدور عقد البيع من المكلف ويمنع عنه، ولكنه يرتب الأثر عليه
إذا عصى المكلف ومارس البيع، فيحكم بنقل الملكية من البائع إلى المشتري
كما ترتب أنت الأثر على زيارة فلان لك إذا زارك بالرغم من أنك تبغض
زيارته.
وهذا يعني أن النهي عن المعاملة أي عقد البيع ونحوه لا يستلزم
152

فسادها بل يتفق مع الحكم بصحة العقد في نفس الوقت، خلافا لعدد من
الأصوليين القائلين بأن النهي عن المعاملة يقتضي فسادها إيمانا منهم بوجود
علاقة تضاد بين الصحة والحرمة.
الفصل الثاني
في العلاقات القائمة بين الحكم وموضوعه
الجعل والفعلية:
حين حكمت الشريعة بوجوب الحج على المستطيع وجاء قوله تعالى:
" ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " أصبح الحج من الواجبات
في الاسلام وأصبح وجوبه حكما ثابتا في الشريعة، ولكن إذا افترضنا أن
المسلمين وقتئذ لم يكن يوجد فيهم شخص مستطيع تتوفر فيه خصائص
الاستطاعة شرعا فلا يتوجه وجوب الحج إلى أي فرد من أفراد المسلمين،
لأنهم ليسوا مستطيعين والحج إنما يجب على المستطيع، أي إن وجوب الحج
لا يثبت في هذه الحالة لاي فرد بالرغم من كونه حكما ثابتا في الشريعة،
فإذا أصبح أحد الافراد مستطيعا اتجه الوجوب نحوه وأصبح ثابتا بالنسبة إليه.
وعلى هذا الضوء نلاحظ أن للحكم ثبوتين: أحدهما ثبوت الحكم في
الشريعة، والآخر ثبوته بالنسبة إلى هذا الفرد أو ذاك. فحين حكم الاسلام
بوجوب الحج على المستطيع في الآية الكريمة ثبت هذا الحكم في الشريعة
ولو لم يكن يوجد مستطيع وقتئذ إطلاقا، بمعنى أن شخصا لو سأل في ذلك
الوقت ما هي أحكام الشريعة؟ لذكرنا من بينها وجوب الحج على المستطيع
سواء كان في المسلمين مستطيع فعلا أو لا، وبعد أن يصبح هذه الفرد أو ذاك
مستطيعا يثبت الوجوب عليه.
ونعرف على هذا الأساس أن الحكم بوجوب الحج على المستطيع لا يتوقف
153

ثبوته في الشريعة بوصفه حكما شرعيا إلا على شريعة وجعله من قبل الله تعالى
سواء كانت الاستطاعة متوفرة في المسلمين فعلا أو لا. وأما ثبوت وجوب
الحج على هذا المكلف أو ذاك فيتوقف إضافة إلى تشريع الله للحكم وجعله
له على توفر خصائص الاستطاعة في المكلف.
والثبوت الأول للحكم أي ثبوته في الشريعة يسمى بالجعل
" جعل الحكم ".
والثبوت الثاني للحكم أي ثبوته على هذا المكلف بالذات أو ذاك
يسمى بالفعلية " فعلية الحكم "، فجعل الحكم معناه تشريعه من قبل الله،
وفعلية الحكم معناها ثبوته فعلا لهذا المكلف أو ذاك.
موضوع الحكم:
وموضوع الحكم مصطلح أصولي نريد به مجموع الأشياء التي تتوقف
عليها فعليه الحكم المجعول بمعناها الذي شرحناه، ففي مثال وجوب الحج
يكون وجود المكلف المستطيع موضوعا لهذا الوجوب، لان فعلية هذا
الوجوب تتوقف على وجود مكلف مستطيع. ومثال آخر: حكمت الشريعة
بوجوب الصوم على كل مكلف غير مسافر ولا مريض إذا هل عليه هلال
شهر رمضان، وهذا الحكم يتوقف ثبوته الأول على جعله شرعا، ويتوقف
ثبوته الثاني أي فعليته على وجود موضوعه، أي وجود مكلف غير
مسافر ولا مريض وهل عليه هلال شهر رمضان، فالمكلف وعدم السفر وعدم
المرض وهلال شهر رمضان هي العناصر التي تكون الموضوع الكامل للحكم
بوجوب الصوم.
وإذا عرفنا معنى موضوع الحكم استطعنا أن ندرك أن العلاقة بين
الحكم والموضوع تشابه ببعض الاعتبارات العلاقة بين المسبب وسببه كالحرارة
154

والنار، فكما أن المسبب يتوقف على سببه كذلك الحكم يتوقف على موضوعه
لأنه يستمد فعليته من وجود الموضوع. وهذا معنى العبارة الأصولية القائلة:
" إن فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه " أي إن وجود الحكم فعلا
يتوقف على وجود موضوعه فعلا.
ويحكم هذه العلاقة بين الحكم والموضوع يكون الحكم متأخرا في
درجته عن الموضوع، ويكون الموضوع متقدما عليه كما يتقدم كل سبب
على مسببه.
وتوجد في علم الأصول قضايا تستنتج من هذه العلاقة وتصلح للاشتراك
في عمليات الاستنباط لا مجال للدخول في تفاصيلها الآن.
الفصل الثالث
العلاقات القائمة بين الحكم ومتعلقه
عرفنا أن وجوب الصوم مثلا موضوعه مؤلف من عدة عناصر
تتوقف عليها فعلية الوجوب، فلا يكون الوجوب فعليا وثابتا إلا إذا وجد
مكلف غير مسافر ولا مريض وهل عليه هلال شهر رمضان، وأما متعلق هذا
الوجوب فهو الفعل الذي يؤديه المكلف نتيجة لتوجه الوجوب إليه، وهو
الصوم في هذا المثال.
وعلى هذا الضوء نستطيع أن نميز بين متعلق الوجوب وموضوعه،
فإن المتعلق يوجد بسبب الوجوب، فالمكلف إنما يصوم لاجل وجوب الصوم
عليه، بينما يوجد الحكم نفسه بسبب الموضوع، فوجوب الصوم لا يصبح
فعليا إلا إذا وجد مكلف غير مريض ولا مسافر وهل عليه الهلال.
وهكذا نجد أن وجود الحكم يتوقف على وجود الموضوع، بينما
يكون سببا لايجاده المتعلق وداعيا للمكلف نحوه؟.
155

وعلى هذا الأساس نعرف أن من المستحيل أن يكون الوجوب داعيا
إلى إيجاد موضوعه ومحركا للمكلف نحوه كما يدعو إلى إيجاد متعلقه،
فوجوب الصوم على كل مكلف غير مسافر ولا مريض ولا يمكن أن يفرض
على المكلف أن لا يسافر وإنما يفرض عليه أن يصوم إذا لم يكن مسافرا،
ووجوب الحج على المستطيع لا يمكن أن يفرض على المكلف أن يكتسب
ليحصل على الاستطاعة وإنما يفرض الحج على المستطيع، لان الحكم لا يوجد
إلا بعد وجود موضوعه، فقبل وجود الموضوع لا وجود للحكم لكي يكون
داعيا إلى إيجاد موضوعه، ولأجل ذلك وضعت في علم الأصول القاعدة
القائلة: " إن كل حكم يستحيل أن يكون محركا نحو أي عنصر من العناصر
الدخيلة في تكوين موضوعه بل يقتصر تأثيره وتحريكه على نطاق المتعلق ".
الفصل الرابع
العلاقات القائمة بين الحكم والمقدمات
المقدمات التي يتوقف عليها وجود الواجب على قسمين:
أحدهما المقدمات التي يتوقف عليها وجود المتعلق، من قبيل السفر
الذي يتوقف أداء الحج عليه، أو الوضوء الذي تتوقف الصلاة عليه، أو
التسلح الذي يتوقف الجهاد عليه.
والآخر المقدمات التي تدخل في تكوين موضوع الوجوب، من قبيل
نية الإقامة التي يتوقف عليها صوم شهر رمضان، والاستطاعة التي تتوقف
عليها حجة الاسلام.
والفارق بين هذين القسمين أن المقدمة التي تدخل في تكوين موضوع
الوجوب يتوقف على وجودها الوجوب نفسه، لما شرحناه سابقا من أن الحكم
الشرعي يتوقف وجوده على وجود موضوعه، فكل مقدمة دخيلة في تحقق
156

موضوع الحكم يتوقف عليها الحكم ولا يوجد بدونها، خلافا للمقدمات
التي لا تدخل في تكوين الموضوع وإنما يتوقف عليها وجود المتعلق فحسب،
فإن الحكم يوجد قبل وجودها، لأنها لا تدخل في موضوعه.
ولنوضح ذلك في مثال الاستطاعة والوضوء: فالاستطاعة مقدمة تتوقف
عليها حجة الاسلام، والتكسب مقدمة للاستطاعة، وذهاب الشخص إلى
محله في السوق مقدمة للتكسب، وحيث أن الاستطاعة تدخل في تكوين
موضوع وجوب الحج فلا وجوب للحج قبل الاستطاعة وقبل تلك الأمور
التي تتوقف عليها الاستطاعة. وأما الوضوء فلا يدخل في تكوين موضوع
وجوب الصلاة، لان وجوب الصلاة لا ينتظر أن يتوضأ الانسان لكي يتجه
إليه بل يتجه إليه قبل ذلك، وإنما يتوقف متعلق الوجوب وهو الصلاة
على الوضوء، ويتوقف الوضوء على تحضير الماء الكافي، ويتوقف تحضير
هذا الماء على فتح خزان الماء مثلا.
فهناك إذن سلسلتان من المقدمات: الأولى سلسلة مقدمات المتعلق،
أي الوضوء الذي تتوقف عليه الصلاة وتحضير الماء الذي يتوقف عليه الوضوء
وفتح الخزان الذي يتوقف عليه تحضير الماء. والثانية سلسلة مقدمات
الوجوب، وهي الاستطاعة التي تدخل في تكوين موضوع وجوب الحج
والتكسب الذي تتوقف عليه الاستطاعة وذهاب الشخص إلى محله في السوق
الذي يتوقف عليه التكسب.
وموقف الوجوب من هذه السلسلة الثانية وكل ما يندرج في القسم
الثاني من المقدمات سلبي دائما، لان هذا القسم يتوقف عليه وجوب موضوع
الحكم، وقد عرفنا سابقا أن الوجوب لا يمكن أن يدعوا إلى موضوعه.
وتسمى كل مقدمة من هذا القسم " مقدمة وجوب " أو " مقدمة وجوبية ".
وأما السلسلة الأولى والمقدمات التي تندرج في القسم الأول فالمكلف
157

مسؤول عن إيجادها، أي إن المكلف بالصلاة مثلا مسؤول عن الوضوء لكي
يصلي، والمكلف بالحج مسؤول عن السفر لكي يحج، والمكلف بالجهاد
مسؤول عن التسلح لكي يجاهد.
والنقطة التي درسها الأصوليون هي نوع هذه المسؤولية، فقد قدموا
لها تفسيرين:
أحدهما أن الواجب شرعا على المكلف هو الصلاة فحسب دون مقدماتها
من الوضوء ومقدماته، وإنما يجد المكلف نفسه مسؤولا عن إيجاد الوضوء
وغيره من المقدمات لأنه يرى أن امتثال الواجب الشرعي لا يتأتى له إلا بإيجاد
تلك المقدمات.
والآخر أن الوضوء واجب شرعا لأنه مقدمة للواجب ومقدمة الواجب
واجبة شرعا، فهناك إذن واجبان شرعيان على المكلف: أحدهما الصلاة،
والآخر الوضوء بوصفه مقدمة للصلاة. ويسمى الأول ب‍ " الواجب النفسي "
لأنه واجب لاجل نفسه. ويسمى الثاني ب‍ " الواجب الغيري "، لأنه واجب
لاجل غيره، أي لاجل ذي المقدمة وهو الصلاة.
وهذا التفسير أخذ به جماعة من الأصوليين إيمانا منهم بقيام علاقة
تلازم بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته، فكلما حكم الشارع بوجوب
فعل حكم عقيب ذلك مباشرة بوجوب مقدماته.
الفصل الخامس
في العلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد
قد يتعلق الوجوب بشئ واحد، كوجوب السجود على كل من سمع
آية السجدة، وقد يتعلق بعملية تتألف من أجزاء وتشتمل على أفعال متعددة،
من قبيل وجوب الصلاة، فإن الصلاة عملية تتألف من أجزاء وتشتمل على
158

أفعال عديدة، كالقراءة والسجود والركوع والقيام والتشهد وما إلى ذلك.
وفي هذه الحالة تصبح العملية بوصفها مركبة من تلك الاجزاء واجبة ويصبح
كل جزء واجبا أيضا، ويطلق على وجوب المركب اسم " الوجوب الاستقلالي "
ويطلق على وجوب كل جزء فيه اسم " الوجوب الضمني "، لان الوجوب
إنما يتعلق بالجزء بوصفه جزءا في ضمن المركب لا بصورة مستقلة عن سائر
الاجزاء، فوجوب الجزء ليس حكما مستقلا، بل هو جزء من الوجوب
المتعلق بالعملية المركبة. ولأجل ذلك كان وجوب كل جزء من الصلاة مثلا
مرتبطا بوجوب الاجزاء الأخرى، لان الوجوبات الضمنية لاجزاء الصلاة
تشكل بمجموعها وجوبا واحدا استقلاليا. ونتيجة ذلك قيام علاقة التلازم
في داخل إطار الحكم الواحد بين الوجوبات الضمنية فيه. وتعني علاقة
التلازم هذه أنه لا تمكن التجزئة في تلك الوجوبات أو التفكيك بينها، بل
إذا سقط أي واحد منها تحتم سقوط الباقي نتيجة لذلك التلازم القائم بينها.
مثال ذلك: إذا وجب على الانسان الوضوء وهو مركب من أجزاء
عديدة كغسل الوجه وغسل اليمنى وغسل اليسرى ومسح الرأس ومسح
القدمين، فيتعلق بكل جزء من تلك الاجزاء وجوب ضمني بوصفه جزءا من
الوضوء الواجب، وفي هذه الحالة إذا تعذر على الانسان أن يغسل وجهه
لآفة فيه وسقط لاجل ذلك الوجوب الضمني المتعلق بغسل الوجه كان من
المحتم أن يسقط وجوب سائر الاجزاء أيضا، فلا يبقى على الانسان وجوب
غسل يديه فقط ما دام قد عجز عن غسل وجهه، لان تلك الوجوبات لا بد
أن ينظر إلهيا بوصفها وجوبا واحدا متعلقا بالعملية كلها أي بالوضوء، وهذا
الوجوب إما أن يسقط كله أو يثبت كله، ولا مجال للتفكيك.
وعلى هذا الضوء نعرف الفرق بين ما إذ وجب الوضوء بوجوب
استقلالي ووجب الدعاء بوجوب استقلالي آخر فتعذر الوضوء، وبين ما
159

إذا وجب الوضوء فتعذر جزء منه كغسل الوجه مثلا، ففي الحالة الأولى
لا يؤدي تعذر الوضوء إلا إلى سقوط الوجوب الذي كان متعلقا به، وأما
وجوب الدعاء فيبقى ثابتا، لأنه وجوب مستقل غير مرتبط بوجوب الوضوء.
وفي الحالة الثانية حين يتعذر غسل الوجه ويسقط وجوبه الضمني يؤدي
ذلك إلى سقوط وجوب الوضوء وارتفاع سائر الوجوبات الضمنية.
قد تقول: نحن نرى أن الانسان يكلف بالصلاة، فإذا أصبح أخرس
وعجز عن القراءة فيها كلف بالصلاة بدون قراءة، فهل هذا إلا تفكيك بين
الوجوبات الضمنية ونقض لعلاقة التلازم بينها.
والجواب أن وجوب الصلاة بدون قراءة على الأخرس ليس تجزئة
لوجوب الصلاة الكاملة، وإنما هو جوب آخر وخطاب جديد تعلق منذ
البدء بالصلاة الصامتة، فوجوب الصلاة الكاملة والخطاب بها قد سقط
كله نتيجة لتعذر القراءة وخلفه وجوب آخر وخطاب جديد.
160

3 - الدليل الاستقرائي
تمهيد
الاستقراء هو استنتاج قانون عام من تتبع حالات جزئية كثيره. ومثال
ذلك أن نلاحظ هذه القطعة من الحديد فنراها تتمدد بالحرارة، ونلاحظ
تلك فنراها تتمدد بالحرارة، وهكذا الثالثة والرابعة، فنستنتج من تتبع
هذه الحالات الجزئية قانونا عاما، وهو أن كل حديد يتمدد بالحرارة.
وهذه الطرقة من الاستدلال هي الطريقة التي يستخدمها العلماء الطبيعيون
في العلوم الطبيعية لاكتشاف قوانين الكون والطبيعة.
ونحن إذا تأملنا في الدليل الاستقرائي نجد أن كل حالة من الحالات
الجزئية التي نلاحظ فيها تمدد الحديد بالحرارة تشكل قرينة على القانون
العام القائل: " إن كل حديد يتمدد بالحرارة " غير أن كل حالة بمفردها
تعتبر قرينة إثبات ناقصة، أي أنها لا تؤدي بنا إلى القطع بالقانون العام،
ولكن حين نضيف إليها حالة جزئية أخرى مماثلة يقوى في ظننا أن ظاهرة
التمدد بالحرارة عامة، فإذا لاحظنا التمدد في حالة ثالثة مماثلة أيضا تأكد
ظننا بالتعميم نتيجة لتجمع ثلاث قرائن، وهكذا تزداد القرائن كلما ازدادت
الحالات التي نستقرؤها، وبالتالي يزداد ظننا بالقانون العام حتى نصل إلى
القطع به.
ونحن هنا نسمي كل دليل يقوم على أساس القرائن الناقصة ويستمد
قوته من تجمع تلك القرائن " دليلا استقرائيا ".
ومن أمثلة الدليل الاستقرائي بهذا المعنى الذي نريده هنا " التواتر "
161

وهو أن يخبرك عدد كبير جدا من الناس بحادثة رأوها بأعينهم، فأنت حين
تسمع الخبر من أحدهم تحتمل صدقه ولكنك لا تجزم بذلك فتعتبر خبره
قرينة ناقصة على وقوع الحادثة، فإذا سمعت الخبر نفسه من شخص آخر
تقوى في نفسك احتمال وقوع الحادثة نتيجة لاجتماع قرينتين، وهكذا
يظل احتمال وقوع الحادثة ينمو ويكبر كلما جاء مخبر جديد عنها حتى يصل
إلى درجة العلم.
وقد نطلق على الدليل الاستقرائي بالمعنى الذي حددناه اسم " الدليل
الاحتمالي " أو " الدليل القائم على حساب الاحتمالات " لان الدليل الاستقرائي
لما كان مرده في التحليل العلمي إلى عملية تجميع القرائن فهو يتضمن قياس
قوة الاحتمال الناتج عن كل قرينة وجمع القوى الاحتمالية لمجموع القرائن
وفقا لقوانين سوف نشير إليها في الحلقات المقبلة وقياس تلك القوى الاحتمالية
وجمعها هو ما يسمى بحساب الاحتمالات وحيث أن الدليل الاستقرائي يتضمن
ويعتمد عليه فهو يقوم على أساس حساب الاحتمالات.
وسوف نتحدث فيما يلي عن دور الدليل الاستقرائي في استنباط الاحكام
وذلك في فصلين:
الفصل الأول
الاستقراء في الاحكام
من ألوان الدليل الاستقرائي أن ندرس عددا كبيرا من الأحكام الشرعية
فنجد أنها تشترك جميعا في اتجاه واحد، فنكتشف قاعدة عامة في التشريع
الاسلامي عن طريقها.
ولنذكر على سبيل المثال لهذا الدليل محاولة ذكرها الفقيه الشيخ يوسف
البحراني في كتابيه الحدائق والدرر النجفية تستهدف إثبات قاعدة عامة عن
162

طريق الاستقراء، وتلك القاعدة العامة هي القاعدة القائلة بمعذورية الجاهل،
أي إن كل جاهل إذا ارتكب خطأ نتيجة لجهله بالحكم الشرعي فلا تترتب
على ذلك الخطأ تبعة. وقد استدل الفقيه البحراني على هذه القاعدة بحالات
كثيرة في الفقه ثبت شرعا أن الجاهل بالحكم معذور فيها، واستكشف عن
طريق استقراء تلك الحالات القاعدة القائلة بمعذورية الجاهل شرعا في جميع
الحالات.
وتلك الحالات التي أقام عليها الفقيه البحراني استقراءه واستنتاجه
للقاعدة العامة هي الحالات التي نصت عليها الأدلة التالية:
(أولا) ما دل من الشرع في أحكام الحج على أن الجاهل معذور،
فمن لبس وهو محرم ثوبا لا يجوز له لبسه جهلا منه بالحكم لا شئ عليه.
(وثانيا) ما دل في أحكام الصوم على أن الجاهل معذور، فمن صام
في السفر وهو لا يدري أن الصوم في السفر غير جائز صح صومه ولا
شئ عليه.
(وثالثا) ما دل في أحكام النكاح على أن الجاهل معذور، فمن تزوج
امرأة في عدتها جهلا منه بحرمة ذلك لم تحرم عليه بالحرمة المؤبدة نظرا إلى
جهله، بل كان له أن يتزوجها من جديد بعد انتهاء عدتها.
(ورابعا) ما دل في أحكام الحدود على أن الجاهل معذور، فمن
شرب الخمر جهلا منه بحرمته لا يحد.
(وخامسا) ما دل في أحكام الصلاة على أن من صلى أربعا وهو مسافر
جهلا منه بوجوب القصر صحت صلاته ولم يجب عليه القضاء.
فكل حالة من هذه الحالات قرينة إثبات ناقصة بالنسبة إلى القاعدة
العامة القائلة بمعذورية الجاهل شرعا في جميع الحالات. وبتجمع تلك القرائن
يقوى في نفس الفقيه احتمال القاعدة العامة ووثوقه بها.
163

ومثال آخر: وهو أنا حين نريد أن نعرف اشتمال الاقتصاد الاسلامي
على القاعدة القائلة: إن العمل في الثروات الطبيعية أساس للملكية، قد
نستعرض حالات عديدة من العمل ثبت أن العمل فيها أساس للملكية،
فنستنتج من استقراء تلك الحالات صحة القاعدة العامة، إذ نرى مثلا أن
العمل في إحياء الأرض ينتج ملكيتها، والعمل في إحياء المعدن ينتج ملكيته،
والعمل في حيازة الماء ينتج ملكيته، والعمل في اصطياد الطائر ينتج ملكيته،
فنستدل باستقراء هذه الحالات على قاعدة عامة في الاقتصاد الاسلامي،
وهي أن العمل في الثروات الطبيعية أساس للملكية.
وموقفنا من الاستقراء يتلخص في التمييز بين القطعي منه وغيره،
فإذا كان قطعيا أي أدى إلى القطع بالحكم الشرعي فهو حجة، لأنه
يصبح دليلا قطعيا ويستمد حجيته من حجية القطع، وإذا لم يكن قطعيا فلا
حجية فيه مهما كانت قوة الاحتمال الناجمة عنه، لأننا عرفنا سابقا أن كل
دليل غير قطعي ليس حجة ما لم يحكم الشارع بحجيته، والشارع لم يحكم
بحجية الاستقراء الذي لا يؤدي إلى العلم.
القياس خطوة من الاستقراء:
وقد تؤخذ خطوة واحدة من خطوات الاستقراء ويكتفى بها في الاستدلال
كما إذا اكتفينا بحالة واحدة من الحالات التي أقام صاحب الحدائق عليها
استقراءه وجعلنا منها دليلا على كون الجاهل معذورا في سائر الحالات
الأخرى. ويمسى هذا ب‍ " القياس " عند أبي حنيفة وغيره من فقهاء السنة
الذين يكتفون في الاستدلال على ثبوت حكم لموضوع بثبوت حكم من
نفس النوع على موضوع واحد مشابه له، ولا يكلفون أنفسهم بتتبع
موضوعات مشابهة عديدة واستقراء حالات كثيرة. فبينما كان الاستقراء
164

يكلفنا بملاحظة حالات كثيرة يعذر فيها الجاهل لكي نصل إلى القاعدة العامة
القائلة: " إن كل جاهل معذور "، لا يكلفنا القياس الحنفي إلا بملاحظة
حالة واحدة واتخاذها دليلا على إثبات حكم من نفس النوع لسائر الحالات
الأخرى.
وما دام الاستقراء ليس حجة ما لم يحصل منه القطع بالحكم الشرعي
فمن الطبيعي أن لا يكون القياس حجة، لأنه خطوة من الاستقراء فصلت
عن سائر الخطوات.
الفصل الثاني
الدليل الاستقرائي غير المباشر
كان الدليل الاستقرائي الذي درسناه في الفصل السابق يشتمل على
استقراء عدد من الاحكام الخاصة واستنتاج حكم عام منها، فالحكم العام
يكتشف بالاستقراء مباشرة، ولهذا نطلق عليه اسم " الدليل الاستقرائي
المباشر ".
ويوجد قسم آخر من الدليل الاستقرائي، وهو الدليل الاستقرائي غير
المباشر، ونريد به أن نستدل بالاستقراء لا على الحكم مباشرة بل على وجود
دليل لفظي يدل بدوره على الحكم الشرعي، ففي هذا الاستقراء نكتشف
بصورة مباشرة الدليل اللفظي، وبعد اكتشاف الدليل اللفظي عن طريق
الاستقراء نثبت الحكم الشرعي بذلك الدليل اللفظي.
ومثال ذلك " التواتر "، فقد عرفنا سابقا أن التواتر دليل استقرائي
يقوم على أساس تجميع القرائن، فإذا أخبرنا عدد كبير من الرواة بنص عن
المعصوم عليه السلام أصبح النص متواترا، وحينئذ نستدل بالتواتر بوصفه
دليلا استقرائيا على صدور ذلك الكلام من المعصوم (عليه السلام) أي على دليل
165

اللفظي ثم نستدل بالدليل اللفظي أي بذلك الكلام الثابت صدوره من
المعصوم (عليه السلام (بالتواتر على الحكم الشرعي الذي يدل عليه.
وللدليل الاستقرائي غير المباشر بهذا المعنى الذي شرحناه أمثلة عديدة
منها " الاجماع " و " الشهرة " و " الخبر " و " السيرة ".
الاجماع والشهرة:
إذا لاحظنا فتوى الفقيه الواحد بوجوب الخمس في المعادن نجد أنها
تشكل قرينة إثبات ناقصة على وجود دليل لفظي مسبق يدل على هذا الوجوب
لان فتوى الفقيه تجعلنا نحتمل تفسيرين لها: أحدهما أن يكون قد استند
في فتواه إلى دليل لفظي مثلا بصورة صحيحة، والآخر أن يكون مخطئا في
فتواه. وما دمنا نحتمل فيها هذين التفسيرين معا فهي قرينة إثبات ناقصة.
فإذا أضفنا إليها فتوى فقيه آخر بوجوب الخمس في المعادن أيضا،
كبر احتمال وجود دليل لفظي يدل على الحكم نتيجة لاجتماع قرينتين
ناقصتين، وحين ينضم إلى الفقيهين فقيه ثالث نزداد ميلا إلى الاعتقاد بوجود
هذا الدليل اللفظي. وهكذا نزداد ميلا إلى الاعتقاد بذلك كلما ازداد عدد
الفقهاء المفتين بوجوب الخمس في المعادن، فإذا كان الفقهاء قد اتفقوا جميعا
على هذه الفتوى سمي ذلك " إجماعا "، وإذا كانوا يشكلون الأكثرية فقط
سمي ذلك " شهرة ".
فالاجماع والشهرة على ضوء مفهومنا الخاص عن الدليل الاستقرائي
دليلان استقرائيان على وجود دليل مسبق على الحكم قام على أساسه الاجماع
أو الشهرة.
وحكم الاجماع والشهرة من ناحية أصولية أنه متى حصل العلم بسبب
الاجماع أو الشهرة وجب الاخذ بذلك في عملية الاستنباط وأصبح الاجماع
166

والشهرة حجة، وإذا لم يحصل العلم بسبب الاجماع أو الشهرة فلا اعتبار بهما.
الخبر:
الخبر هو نقل شئ عن المعصوم (عليه السلام) استنادا إلى الحس كما يصنع
الرواة، إذ ينقلون نصوصا سمعوها من المعصوم (عليه السلام) بصورة مباشرة أو غير
مباشرة. ويعتبر الخبر قرينة إثبات ناقصة، لأننا إذا سمعنا شخصا ينقل
شيئا عن المعصوم عليه السلام احتملنا صدقه واحتملنا كذبه، فيكون قرينة
إثبات ناقصة، وتزداد قوة الاثبات إذا نقل شخص آخر نفس الشئ عن
المعصوم (عليه السلام) أيضا نتيجة لاجتماع قرينتين. وهكذا كبر احتمال الصدق
كلما كثر المخبرون حتى يحصل الجزم، فيسمى الخبر " متواترا ".
وكما يكبر احتمال الصدق بسبب زيادة عدد المخبرين كذلك يكبر بسبب
نوعية المخبر، فالمخبر الواحد يزداد احتمال صدقه كلما ازداد اطلاعنا على دينه
وورعه وانتباهه.
وحكم الخبر أنه إذا ازداد احتمال صدقه إلى درجة شارفت على القطع
كان حجة، سواء نشأت زيادة احتمال الصدق فيه من كثرة عدد المخبرين أو
من خصائص الورع والنزاهة في المخبر الواحد، وأما إذا لم يؤد الخبر إلى
القطع فيجب أن يلاحظ الراوي، فإن كان ثقة أخذنا بروايته ولو لم نقطع
بصحتها، لان الشارع جعل خبر الثقة حجة، ولكن هذه الحجية ثابتة ضمن
شروط لا مجال هنا لتفصيلها. وإذا لم يكن الراوي ثقة فلا يؤخذ بروايته
ولا يجوز إدخالها في عملية الاستنباط.
سيرة المتشرعة:
سيرة المتشرعة هي السلوك العام للمتدينين في عصر التشريع من قبيل
اتفاقهم على إقامة صلاة الظهر في يوم الجمعة بدلا عن صلاة الجمعة، أو على
167

عدم دفع الخمس من الميراث.
وهذا السلوك العام إذا حللناه إلى مفرداته ولاحظنا سلوك كل واحد
بصورة مستقلة، نجد أن سلوك الفرد المتدين الواحد في عصر التشريع يعتبر
قرينة إثبات ناقصة عن صدور بيان شرعي يقرر ذلك السلوك، لأننا نحتمل
استناد هذا السلوك إلى البيان الشرعي، وإن كنا نحتمل في نفس الوقت
أيضا الخطأ والغفلة وحتى التسامح. فإذا عرفنا أن فردين في عصر التشريع
كانا يسلكان نفس السلوك ويصليان الظهر مثلا في يوم الجمعة ازدادت
قوة الاثبات.
وهكذا تكبر قوة الاثبات حتى تصل إلى درجة كبيرة، عندما نعرف
أن ذلك السلوك كان سلوكا عاما يتبعه جمهرة المتدينين في عصر التشريع،
إذ يبدو من المؤكد حينئذ أن سلوك هؤلاء جميعا لم ينشأ عن خطأ أو غفلة
أو تسامح، لان الخطأ والغفلة والتسامح قد يقع فيه هذا أو ذاك، وليس
من المحتمل أن يقع فيه جمهرة المتدينين في عصر التشريع جميعا. وهكذا
نعرف أن السلوك العام مستند إلى بيان شرعي يدل على إمكان إقامة الظهر
في يوم الجمعة وعدم وجوب الخمس في الميراث. ولأجل هذا نعتبر سيرة
المتشرعة دليلا استقرائيا كالاجماع والشهرة، وهي في الغالب تؤدي إلى
الجزم بالبيان الشرعي ضمن شروط لا مجال لتفصيلها الآن. ومتى كانت
كذلك فهي حجة، وأما إذا لم يحصل منها الجزم فلا اعتبار بها.
السيرة العقلائية:
وهناك نوع آخر من السيرة يطلق عليه في علم الأصول اسم " السيرة
العقلائية ". والسيرة العقلائية عبارة عن ميل عام عند العقلاء المتدينين
وغيرهم نحو سلوك معين دون أن يكون للشرع دور إيجابي في تكوين
168

هذا الميل. ومثال ذلك: الميل العام لدي العقلاء نحو الاخذ بظهور كلام
المتكلم.
وفي هذا الضوء نعرف أن السيرة العقلائية تختلف عن سيرة المتشرعة،
فإن سيرة المتشرعة التي درسناها آنفا كانت وليدة البيان الشرعي ولهذا
تعتبر كاشفة عنه، وأما السيرة العقلائية فمردها كما عرفنا إلى ميل
عام يوجد عند العقلاء نحو سلوك معين لا كنتيجة لبيان شرعي بل نتيجة
لمختلف العوامل والمؤثرات الأخرى التي تتكيف وفقا لها ميول العقلاء
وتصرفاتهم، ولأجل هذا لا يقتصر الميل العام الذي تعبر عنه السيرة العقلائية
على نطاق المتدينين خاصة، لان الدين لم يكن من عوامل تكوين هذا الميل.
وعلى هذا الأساس يتضح أن طريقة الاستدلال التي كنا نستخدمها في
سيرة المتشرعة لا يمكننا استعمالها في السيرة العقلائية، فقد كنا في سيرة
المتشرعة نكتشف عن طريق السيرة البيان الشرعي الذي أدى إلى قيامها
بوصفها نتيجة للبيان الشرعي وناشئة عنه، إذ لم يكن من المحتمل أن يتفق
المتشرعة جميعا على أداء صلاة الظهر في يوم الجمعة مثلا دون أن يكون هناك
بيان شرعي يدل على ذلك. وأما الميل العام الذي تمثله السيرة العقلائية فهو
ليس ناشئا عن البيان الشرعي ولا ناتجا عن دوافع دينية ليتاح لنا أن نكتشف
عن طريقه وجود بيان شرعي أدى إلى تكونه وقيامه.
ولأجل هذا يجب أن ننهج في الاستدلال بالسيرة العقلائية نهجا آخر
يختلف عن نهجنا في الاستدلال بسيرة المتشرعة.
ويمكننا تلخيص هذا المنهج فيما يلي:
إن الميل الموجود عند العقلاء نحو سلوك معين يعتبر قوة دافعة لهم
نحو ممارسة ذلك السلوك، فإذا سكتت الشريعة عن ذلك الميل ولم تردع
عن الانسياق معه كشف سكوتها هذا عن رضاها بذلك السلوك وانسجامه
مع التشريع الاسلامي. ومثال ذلك: سكوت الشريعة عن الميل العام عند
169

العقلاء نحو الاخذ بظهور كلام المتكلم وعدم ردعها عنه، فإن ذلك يدل
على أنها تقر هذه الطريقة في فهم الكلام وتوافق على اعتبار الظهور حجة
وقاعدة لتفسير ألفاظ الكتاب والسنة، والا لمنعت الشريعة عن الانسياق مع
ذلك الميل العام وردعت عنه في نطاقها الشرعي.
والاستدلال بالسيرة العقلائية يقوم على أساس تجميع القرائن كما
رأينا سابقا في سيرة المتشرعة أيضا لأننا إذا حللنا السيرة العقلائية إلى
مفرداتها وجدنا أن الميل العام عند العقلاء نحو سلوك معين كالأخذ بالظهور
مثلا يعبر عن ميول متشابهة عند عدد كثير من الافراد تشكل بمجموعها
ميلا عاما، وحين نأخذ فردا من أولئك الافراد الذين يميلون إلى الاخذ
بالظهور مثلا ونلاحظ؟ سكوت المولى عنه وعدم ردعه له عن الجري وفق
ميله، يمكننا أن نعتبر سكوت المولى هذه قرينة ناقصة على حجية الظهور
عند المولى، لان من المحتمل أن يكون هذا السكوت نتيجة لرضا المولى
وموافقته، وهذا يعني الحجية. ومن المحتمل في نفس الوقت أيضا أن لا يكون
السكوت ناتجا عن رضا المولى بالأخذ بالظهور وإنما سكت عن ذلك الفرد
بالرغم من أنه لا يقر العمل بالظهور بالأدلة الشرعية لسبب خاص
نظير أن يكون المولى قد اطلع على أن هذا الفرد لا يرتدع عن العمل على
وفق ميله ولو ردعه فتركه وشأنه، أو أن المولى قد اطلع على أن هذا الفرد
سوف لن يجري على وفق ميله ولن يأخذ بالظهور في الدليل الشرعي دون
سؤال من الشارع، أو أن هذا الفرد لن يصادفه ظهور في النطاق الشرعي
ليحاول الاخذ به وفقا لميله.. إلى غير ذلك من الأمور التي يمكن أن تفسر
سكوت المولى عن ذلك الفرد وتجعل منه قرينة ناقصة لا كاملة على رضا
المولى، ولكن إذا أضيف إلى ذلك فرد آخر له نفس الميل وسكت عنه
المولى فيقوى احتمال الرضا لاجتماع قرينتين، وهكذا يكبر هذا الاحتمال
حتى يؤدي إلى العلم حين يوجد ميل عام ويسكت عنه المولى
170

4 - التعارض بين الأدلة
بعد أن استعرضنا الأدلة التي يمكن أن تساهم في عملية الاستنباط
بأقسامها الثلاثة يتحتم علينا أن ندرس موقف عملية الاستنباط منها إذا وجد
بينها تعارض، كما إذا دل دليل على وجوب شئ مثلا ودل دليل آخر على
نفي ذلك الوجوب، فما هي الوظيفة العامة للفقيه في هذه الحالة؟.
والتعارض على قسمين: لأنه يوجد تارة في نطاق الدليل اللفظي بين
كلامين صادرين من المعصوم، وأخرى بين دليل لفظي ودليل من نوع آخر
استقرائي أو برهاني أو بين دليلين من غير الأدلة اللفظية.
وسوف نتحدث عن كل من القسمين في فصل:
الفصل الأول
في حالة التعارض بين دليلين لفظيين توجد قواعد نستعرض فيما يلي
عددا منها:
1 - من المستحيل أن يوجد كلامان للمعصوم يكشف كل منهما بصورة
قطعية عن نوع من الحكم يختلف عن الحكم الذي يكشف عنه الكلام الآخر،
لان التعارض بين كلامين صريحين من هذا القبيل يؤدي إلى وقوع المعصوم
في التناقض، وهو مستحيل.
2 - قد يكون أحد الكلامين الصادرين من المعصوم صريحا وقطعيا،
ويدل الآخر بظهوره على ما ينافي المعنى الصريح لذلك الكلام. ومثاله:
أن يقول النبي (صلى الله عليه وآله) في نص مثلا: " يجوز للصائم أن يرتمس في الماء حال
صومه " ويقول في نص آخر: " لا ترتمس في الماء وأنت صائم "، فالنص
171

الأول دال بصراحة على إباحة الارتماس للصائم، والنص الثاني يشتمل على
صيغة نهي، وهي تدل بظهورها على الحرمة، لان الحرمة هي أقرب المعاني
إلى صيغة النهي وإن أمكن استعمالها في الكراهة مجازا، فينشأ التعارض
بين صراحة النص الأول في الإباحة وظهور النص الثاني في الحرمة، لان
الإباحة والحرمة لا يجتمعان. وفي هذه الحالة يجب الاخذ بالكلام الصريح
القطعي، لأنه يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي، فنفسر الكلام الآخر على
ضوئه ونحمل صيغة النهي فيه على الكراهة لكي ينسجم مع النص الصريح
القطعي الدال على الإباحة، وعلى هذا الأساس يتبع الفقيه في استنباطه
قاعدة عامة، وهي الاخذ بدليل الإباحة والرخصة إذا عارضه دليل آخر يدل
على الحرمة أو الوجوب بصيغة نهي أو أمر، لان الصيغة ليست صريحة
ودليل الإباحة والرخصة صريح غالبا.
3 - قد يكون موضوع الحكم الذي يدل عليه أحد الكلامين أضيق
نطاقا وأخص دائرة من موضوع الحكم الذي يدل عليه الكلام الآخر.
ومثال أن يقال في نص: " الربا حرام " ويقال في نص آخر: " الربا بين
الوالد وولده مباح " فالحرمة التي يدل عليها النص الأول موضوعها عام،
لأنها تمنع بإطلاقها عن التعامل الربوي مع أي شخص، والإباحة في النص
الثاني موضوعها خاص، لأنها تسمح بالربا بين الوالد وولده خاصة، وفي
هذه الحالة نقدم النص الثاني على الأول، لأنه يعتبر بوصفه أخص موضوعا
من الأول قرينة عليه، بدليل أن المتكلم لو أوصل كلامه الثاني بكلامه الأول
فقال: " الربا في التعامل مع أي شخص حرام، ولا بأس به بين الوالد
وولده " لأبطل الخاص مفعول العام وظهوره في العموم.
وقد عرفنا أن القرينة تقدم على ذي القرينة، سواء كانت متصلة
أو منفصلة.
172

ويسمى تقديم الخاص على العام تخصيصا للعام إذا كان عمومه ثابتا
بأداة من أدوات العموم، وتقييدا له إذا كان عمومه ثابتا بالاطلاق وعدم
ذكر القيد. ويسمى الخاص في الحالة الأولى " مخصصا " وفي الحالة
الثانية " مقيدا ".
وعلى هذا الأساس يتبع الفقيه في الاستنباط قاعدة عامة، وهي الاخذ
بالمخصص والمقيد وتقديمهما على العام والمطلق.
4 - وقد يكون أحد الكلامين دالا على ثبوت حكم لموضوع،
والكلام الآخر ينفي ذلك في حالة معينة بنفي ذلك الموضوع. ومثاله أن يقال
في نص " يجب الحج على المستطيع " ويقال في نص آخر: " المدين ليس
مستطيعا "، فالنص الأول يوجب الحج على موضوع محدد وهو المستطيع،
والنص الثاني ينفي صفة المستطيع عن المدين، فيؤخذ بالثاني ويسمى " حاكما "
ويسمى الدليل الأول " محكوما ".
5 - إذا لم يوجد في النصين المتعارضين كلام صريح قطعي، ولا
ما يصلح أن يكون قرينة على تفسير الآخر ومخصصا له أو مقيدا أو حاكما
عليه، فلا يجوز العمل بأي واحد من النصين المتعارضين، لأنهما على مستوى
واحد ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.
الفصل الثاني
في التعارض بين الدليل اللفظي ودليل آخر
وحالة التعارض بين دليل لفظي ودليل من نوع آخر أو دليلين من غير
الأدلة اللفظية، لها قواعد أيضا نشير إليها ضمن النقاط التالية:
1 - الدليل اللفظي القطعي لا يمكن أن يعارضه دليل برهاني أو
استقرائي قطعي، لان دليلا من هذا القبيل إذا عارض نصا صريحا من المعصوم
173

عليه السلام أدى ذلك إلى تكذيب المعصوم " عليه السلام " وتخطئته، وهو مستحيل.
ولهذا يقول علماء الشريعة: إن من المستحيل أن يوجد أي تعارض بين
النصوص الشرعية الصريحة وأدلة العقل القطعية.
وهذه الحقيقة لا تفرضها العقيدة فحسب، بل يبرهن عليها الاستقراء
في النصوص الشرعية ودراسة المعطيات القطعية للكتاب والسنة، فإنها جميعا
تتفق مع العقل ولا يوجد فيها ما يتعارض مع أحكام العقل القطعية إطلاقا.
وبذلك تتميز الشريعة الاسلامية عن الأديان الأخرى المحرفة التي تعيش الآن
على وجه الأرض، فإنها زاخرة بالتناقضات التي تعارض مع صريح العقل
السليم. ولهذا نشأت في المسيحية مثلا مشكلة الدين والعقل، وأن الانسان
كيف يتاح له الاعتقاد بهما معا على تناقضهما، بينما يقوم العقل في الاسلام
بدور الرسول الباطني، وتحتم الشريعة أن يقوم الاعتقاد بأصولها على أساس
العقل وترفض أخذها على سبيل التقليد.
2 - إذا وجد تعارض بين دليل لفظي ودليل آخر ليس لفظيا ولا قطعيا
قدمنا الدليل اللفظي لأنه حجة، وأما الدليل غير فهو ليس حجة ما دام
لا يؤدي إلى القطع. ومثاله أن يدل النص على أن الجاهل بأحكام الزكاة
ليس معذورا، ويدل الاستقراء غير القطعي الذي نقلناه سابقا عن الفقيه
البحراني على القاعدة العامة القائلة بمعذورية الجاهل في جميع الحالات.
3 - إذا عارض الدليل اللفظي غير الصريح دليلا عقليا قطعيا برهانيا أو
استقرائيا قدم العقلي على اللفظي، لان العقلي يؤدي إلى العلم بالحكم
الشرعي، وأما الدليل اللفظي غير الصريح فهو إنما يدل بالظهور، والظهور
إنما يكون حجة بحكم الشارع إذا لم نعلم ببطلانه، ونحن هنا على ضوء
الدليل العقلي القطعي نعلم بأن الدليل اللفظي لم يرد المعصوم (عليه السلام) منه معناه
الظاهر الذي يتعارض مع دليل العقل، فلا مجال للاخذ بالظهور.
174

4 - إذا تعارض دليلان من غير الأدلة اللفظية فمن المستحيل أن يكون
كلاهما قطعيا، لان ذلك يؤدي إلى التناقض، وإنما قد يكون أحدهما قطعيا
دون الآخر، فيؤخذ بالدليل القطعي.
175

النوع الثاني
العناصر المشتركة في الاستنباط
القائم على أساس الأصل العملي
تمهيد:
استعراضنا في النوع الأول العناصر الأصولية المشتركة في الاستنباط
القائم على أساس الدليل، فدرسنا أقسام الأدلة وخصائصها وميزنا بين
الحجة منها وغيرها. ونريد الآن أن ندرس العناصر المشتركة في حالة أخرى
من الاستنباط، وهي حالة عدم حصول الفقيه على دليل يدل على الحكم
الشرعي وبقاء الحكم مجهولا لديه، فيتجه البحث في هذه الحالة إلى محاولة
تحديد الموقف العلمي تجاه ذلك الحكم المجهول بدلا عن اكتشاف نفس
الحكم.
ومثال ذلك: حالة الفقيه تجاه التدخين، فإن التدخين نحتمل حرمته
شرعا منذ البدء، ونتجه أولا إلى محاولة الحصول على دليل يعين حكمه
الشرعي، فلا نجد دليلا من هذا القبيل ويبقى حكم التدخين مجهولا لدينا
لا ندري أحرمة هو أم إباحة؟ وحينئذ نتسأل ما هو الموقف العملي الذي
يتحتم علينا أن نسلكه تجاه ذلك الحكم المجهول، هل يتحتم علينا أن نحتاط
فنجتنب عن التدخين، لان من المحتمل أن يكون التدخين حراما؟ أو لا
يجب الاحتياط بل نكون في حرية وسعة ما دمنا لا نعلم بالحرمة؟.
هذا هو السؤال الأساسي الذي يعالجه الفقيه في هذه الحالة، ويجيب
176

عليه في ضوء الأصول العملية بوصفها عناصر مشتركة في عملية الاستنباط.
وهذه الأصول هي موضع درسنا الآن:
1 - القاعدة العملية الأساسية
ولكي نعرف القاعدة العملية الأساسية التي نجيب في ضوئها على سؤال
" هل يجب الاحتياط تجاه الحكم المجهول؟ " لا بد لنا أن نرجع إلى المصدر
الذي يفرض علينا إطاعة الشارع، ونلاحظ أن هذا المصدر هل يفرض علينا
الاحتياط في حالة الشك وعدم وجود دليل على الحرمة، أو يسمح لنا بترك
الاحتياط واستعمال الدخان مثلا ما دامت حرمته لم تثبت بدليل؟.
ولكي نرجع إلى المصدر الذي يفرض علينا إطاعة المولى سبحانه لا بد
لنا أن نحدده، فما هو المصدر الذي يفرض علينا إطاعة الشارع، ويجب أن
نستفتيه في موقفنا هذا؟ والجواب أن هذا المصدر هو العقل، لان الانسان
يدرك بعقله أن لله سبحانه حق الطاعة على عبيده، وعلى أساس حق الطاعة
هذا يحكم العقل على الانسان بوجوب إطاعة الشارع لكي يؤدي إليه حقه
فنحن إذن نطيع الله تعالى ونمتثل أحكام الشريعة، لان العقل يفرض علينا
ذلك لا لان الشارع أمرنا بإطاعته، وإلا لأعدنا السؤال مرة أخرى ولماذا
نمتثل أمر الشارع لنا بإطاعة أوامره؟ وما هو المصدر الذي يفرض علينا
امتثاله؟ وهكذا حتى نصل إلى حكم العقل بوجوب الإطاعة القائم على أساس
ما يدركه من حق الطاعة لله سبحانه على الانسان.
وإذا كان العقل هو الذي يفرض إطاعة الشارع على أساس إدراكه لحق
الطاعة فيجب الرجوع إلى العقل في تحديد الجواب على ذلك السؤال الأساسي
" هل يجب علينا الاحتياط تجاه الحكم المجهول أولا؟ "، ويتحتم علينا عندئذ
أن ندرس حق الطاعة الذي يدركه العقل ويقيم على أساسه حكمه بوجوب
177

إطاعة الشارع وندرس حدود هذا الحق فهل هو حق لله سبحانه في نطاق
التكاليف المعلومة فقط بمعنى أن الله سبحانه ليس له حق الطاعة على
الانسان إلا في التكاليف التي يعلم بها وأما التكاليف التي يشك فيها ولا
علم له بها فلا يمتد إليها حق الطاعة أو إن حق الطاعة كما يدركه العقل
في نطاق التكاليف المعلومة يدركه أيضا في نطاق التكاليف المحتملة بمعنى
أن من حق الله على الانسان أن يطيعه في التكاليف المعلومة والمحتملة، فإذا
علم بتكليف كان من حق الله عليه أن يمتثله وإذا احتمل تكليفا كان من حق
الله عليه أن يحتاط فيترك ما يحتمل حرمته أو يفعل ما يحتمل وجوبه.
وهكذا يتضح أن الموقف العملي في حالة عدم وجدان الدليل يجب أن
يحدد على ضوء ما نعرفه من حق الطاعة وحدوده ومدى شموله.
والصحيح في رأينا هو أن الأصل في كل تكليف محتمل هو الاحتياط
نتيجة لشمول حق الطاعة للتكاليف المحتملة، فإن العقل يدرك أن للمولى
على الانسان حق الطاعة لا في التكاليف المعلومة فحسب بل في التكاليف
المحتملة أيضا، ما لم يثبت بدليل أن المولى لا يهتم بالتكليف المحتمل إلى
الدرجة التي تدعوا إلى إلزام المكلف بالاحتياط.
وهذا يعني أن الأصل بصورة مبدئية كلما احتملنا حرمة أو وجوبا هو
أن نحتاط، فنترك ما نحتمل حرمته ونفعل ما نحتمل وجوبه نتيجة لامتداد
حق الطاعة إلى التكاليف المحتملة. ولا نخرج عن هذا الأصل إلا إذا ثبت
بالدليل أن الشارع لا يهتم بالتكليف المحتمل إلى الدرجة التي تفرض
الاحتياط ويرضى بترك الاحتياط، فإن الانسان يصبح حينئذ غير مسؤول
عن التكليف المحتمل.
فالاحتياط إذا واجب عقلا في موارد الشك، ويسمى هذا الوجوب
أصالة الاحتياط أو أصالة الاشتغال أي اشتغال ذمة الانسان بالتكليف
178

المحتمل ونخرج عن هذا الأصل حين نعرف أن الشارع يرضى بترك
الاحتياط.
وهكذا تكون أصالة الاحتياط هي القاعدة العملية الأساسية.
ويخالف في ذلك كثير من الأصوليين إيمانا منهم بأن الأصل في المكلف
أن لا يكون مسؤولا عن التكاليف المشكوكة ولو احتمل أهميتها بدرجة
كبيرة، ويرى هؤلاء الاعلام أن العقل هو الذي يحكم بنفي المسؤولية، لأنه
يدرك قبح العقاب من المولى على مخالفة المكلف للتكليف الذي لم يصل إليه
ولأجل هذا يطلقون على الأصل من وجهة نظرهم اسم " قاعدة قبح العقاب
بلا بيان " أو " البراءة العقلية "، أي إن العقل يحكم بأن عقاب المولى
للمكلف على مخالفة التكليف المشكوك قبيح، ومنا دام المكلف مأمونا من
العقاب فهو غير مسؤول ولا يجب عليه الاحتياط.
ولكن لكي ندرك أن العقل هل يحكم بقبح معاقبة المولى تعالى للمكلف
على مخالفة التكليف المشكوك أو لا؟ يجب أن نعرف حدود حق الطاعة
الثابت للمولى تعالى، فإذا كان هذا الحق يشمل التكاليف المشكوكة التي
يحتمل المكلف أهميتها بدرجة كبيرة كما عرفنا فلا يكون عقاب المولى
للمكلف إذا خالفها قبيحا، لأنه بمخالفتها يفرط في حق مولاه فيستحق العقاب
فالقاعدة الأولية إذن هي أصالة الاحتياط.
3 - القاعدة العملية الثانوية
وقد انقلبت بحكم الشارع تلك القاعدة العملية الأساسية إلى قاعدة
عملية ثانوية، وهي أصالة البراءة القائلة بعدم وجوب الاحتياط. والسبب
في هذا الانقلاب أنا علمنا عن طريق البيان الشرعي أن الشارع لا يهتم
بالتكاليف المحتملة إلى الدرجة التي تحتم الاحتياط على المكلف، بل يرضى
179

بترك الاحتياط. والدليل على ذلك نصوص شرعية متعددة، من أهمها
النص النبوي القائل: " رفع عن أمتي ما لا يعلمون ".
وهكذا أصبحت القاعدة العملية هي عدم وجوب الاحتياط بدلا عن
وجوبه، وأصالة البراءة بدلا عن أصالة الاشتغال.
وتشمل هذه القاعدة العملية الثانوية موارد الشك في الوجوب وموارد
الشك في الحرمة على السواء، لان النص النبوي مطلق، ويسمى الشك في
الوجب ب‍ " الشبهة الوجوبية " والشك في الحرمة ب‍ " الشبهة التحريمية "
كما تشمل القاعدة أيضا الشك مهما كان سببه. ولأجل هذا نتمسك بالبراءة
إذا شككنا في التكليف، سواء نشأ شكنا في ذلك في عدم وضوح الحكم
العام الذي جعله الشارع، أو من عدم العلم بوجود موضوع الحكم. ومثال
الأول: شكنا في وجوب صلاة العيد أو في حرمة التدخين، فإن هذا الشك
ناتج عن عدم العلم بالجعل الشرعي، ويسمى بالشبهة الحكمية. ومثال
الثاني: شكنا في وجوب الحج لعدم العلم بتوفر الاستطاعة، فإن هذا الشك
لم ينشأ من عدم العلم بالجعل الشرعي، لأننا جميعا نعلم أن الشارع جعل
وجوب الحج على المستطيع، وإنما نشأ من عدم العلم بتحقق موضوع الحكم
وتسمى الشبهة " موضوعية ".
4 - قاعدة منجزية العلم الاجمالي
تمهيد:
قد تعلم أن أخاك الأكبر قد سافر إلى مكة، وقد تشك في سفره لكنك
تعلم على أي حال أن أحد أخويك " الأكبر أو الأصغر " قد سافر فعلا إلى
مكة، وقد تشك في سفرهما معا ولا تدري هل سافر واحد منهما إلى
مكة أو لا؟.
180

فهذه حالات ثلاث، ويطلق على الحالة الأولى اسم " العلم التفصيلي "
لأنك في الحالة الأولى تعلم أن أخاك الأكبر قد سافر إلى مكة، وليس لديك
في هذه الحقيقة أي تردد أو غموض، فلهذا كان العلم تفصيليا. ويطلق على
الحالة الثانية اسم " العلم الاجمالي "، لأنك في هذه الحالة تجد في نفسك
عنصرين مزدوجين: أحدهما عنصر الوضوح، والآخر عنصر الخفاء، فعنصر
الوضوح يتمثل في علمك بأن أحد أخويك قد سافر فعلا، فأنت لا تشك
في هذه الحقيقة، وعنصر الخفاء والغموض يتمثل في شكك وترددك في تعيين
هذا الأخ، لأنك لا تدري أن المسافر هل هو أخوك الأكبر أو الأصغر،
ولهذا تسمى هذه الحالة ب‍ " العلم الاجمالي "، فهي علم لأنك لا تشك في
سفر أحد أخويك، وهي إجمال وشك لأنك لا تدري أي أخويك قد سافر.
ويسمى كل من سفر الأخ الأكبر وسفر الأصغر طرفا للعلم الاجمالي، لأنك
تعلم أن أحدهما لا على سبيل التعيين قد وقع بالفعل.
وأفضل صيغة لغوية تمثل هيكل العلم الاجمالي ومحتواه النفسي بكلا
عنصريه هي " إما وإما " إذ تقول في المثال المتقدم: " سافر إما أخي الأكبر
وإما أخي الأصغر " فإن جانب الاثبات في هذه الصيغة يمثل عنصر الوضوح
والعلم، وجانب التردد الذي تصوره كلمة " إما " يمثل عنصر الخفاء والشك
وكلما أمكن استخدام صيغة من هذا القبيل دل ذلك على وجود علم إجمالي
في نفوسنا.
ويطلق على الحالة الثالثة اسم " الشك الابتدائي " أو " البدوي "
أو " الساذج "، وهو شك محض غير ممتزج بأي لون من العلم، ويسمى
بالشك الابتدائي أو البدوي تمييزا له عن الشك في طرف العلم الاجمالي،
لان الشك في طرف العلم الاجمالي يوجد نتيجة للعلم نفسه، فأنت تشك
في أن المسافر هل هو أخوك الأكبر أو أخوك الأصغر نتيجة لعلمك بأن أحدهما
181

لا على التعيين قد سافر حتما، وأما الشك في الحالة الثالثة فيوجد بصورة
ابتدائية دون علم مسبق.
وهذا الحالات الثلاث توجد في نفوسنا تجاه الحكم الشرعي، فوجوب
صلاة الصبح معلوما تفصيلا، ووجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة مشكوك
شكا ناتجا عن العلم الاجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة في ذلك اليوم،
ووجوب صلاة العيد مشكوك ابتدائي غير مقترن بالعلم الاجمالي. وهذه
الأمثلة كلها من الشبهة الحكمية، وأما أمثلة الحالات الثلاث من الشبهة
الموضوعية فيمكن توضيحها في " الماء "، فأنت إذا رأيت قطرة من دم تقع
في كأس من ماء تعلم علما تفصيليا بنجاسة ذلك الماء، وأما إذا رأيت القطرة
تقع في أحد كأسين ولم تستطع أن تميز الكأس الذي وقعت فيه بالضبط فينشأ
لديك علم إجمالي بنجاسة أحد الكأسين ويصبح كل واحد منهما طرفا للعلم
الاجمالي، وقد لا تكون متأكدا من أن هناك قطرة دم لا في هذا الكأس
ولا في ذاك، فيكون الشك في النجاسة عندئذ شكا ابتدائيا ساذجا.
ونحن في حديثنا عن القاعدة العملية الثانوية التي قبلت القاعدة العملية
الأساسية كنا نتحدث عن الحالة الثالثة، أي حالة الشك الساذج الذي لم
يقترن بالعلم الاجمالي. والآن ندرس حالة الشك الناتج عن العلم الاجمالي،
أي الشك في الحالة الثانية من الحالات الثلاث السابقة، وهذا يعني أننا
درسنا الشك بصورته الساذجة وندرسه الآن بعد أن نضيف إليه عنصرا
جديدا وهو العلم الاجمالي، فهل تجري فيه القاعدة العملية الثانوية كما
كانت تجري في موارد الشك الساذج أو لا؟.
منجزية العلم الاجمالي:
وعلى ضوء ما سبق يمكننا تحليل العلم الاجمالي إلى علم بأحد الامرين
وشك في هذا وشك في ذاك. ففي يوم الجمعة نعلم بوجوب أحد الامرين
182

" صلاة الظهر أو صلاة الجمعة "، ونشك في وجوب الظهر كما نشك في
وجوب الجمعة، والعلم بوجوب أحد الامرين بوصفه علما يشمله مبدأ
حجية العلم الذي درسناه في بحث سابق، فلا يسمح لنا العقل لاجل ذلك
بترك الامرين معا الظهر والجمعة، لأننا لو تركناهما معا لخالفنا علمنا
بوجوب أحد الامرين، والعلم حجة عقلا في جميع الأحوال سواء كان إجماليا
أو تفصيليا.
ويؤمن الرأي الأصولي السائد في مورد العلم الاجمالي لا بثبوت
الحجية للعلم بأحد الامرين فحسب بل يؤمن أيضا بعدم إمكان انتزاع
هذه الحجية منه واستحالة ترخيص الشارع في مخالفته بترك الامرين معا،
كما لا يمكن للشارع أن ينتزع الحجية من العلم التفصيلي ويرخص في مخالفته
وفقا للمبدأ الأصولي المتقدم الذكر في بحث حجية القطع القائل باستحالة
صدور الدرع من الشارع عن القطع.
وأما كل واحد من طرفي العلم الاجمالي أي وجوب الظهر بمفرده
ووجوب الجمعة بمفرده فهو تكليف مشكوك وليس معلوما. وقد يبدو
لأول وهلة أن بالامكان أن تشمله القاعدة العملية الثانوية، أي أصالة البراءة
النافية للاحتياط في التكاليف المشكوكة، لان كل واحد من الطرفين تكليف
مشكوك.
ولكن الرأي السائد في علم الأصول يقول بعدم إمكان شمول القاعدة
العملية الثانوية لطرف العلم الاجمالي، بدليل أن شمولها لكلا الطرفين معا
يؤدي إلى براءة الذمة من الظهر والجمعة وجواز تركهما معا، وهذا يتعارض
مع حجية العلم بوجوب أحد الامرين، لان حجية هذا العلم تفرض علينا أن
تأتي بأحد الامرين على أقل تقدير.
فلو حكم الشارع بالبراءة في كل من الطرفين لكان معنى ذلك الترخيص
183

منه في مخالفة العلم، وقد مر بنا أن الرأي الأصولي السائد يؤمن باستحالة
ترخيص الشارع في مخالفة العلم ولو كان إجماليا وعدم إمكان انتزاع
الحجية منه.
وشمول القاعدة لاحد الطرفين دون الآخر وإن لم يؤد إلى الترخيص
في ترك الامرين معا لكنه غير ممكن أيضا، لأننا نتسأل حينئذ أي الطرفين
نفترض شول القاعدة له ونرجحه على الآخر، وسوف نجد أنا لا نملك مبررا
لترجيح أي من الطرفين على الآخر، لان صلة القاعدة بهما واحدة. وهكذا
ينتج عن هذا الاستدلال القول بعدم شمول القاعدة العملية الثانوية " أصالة
البراءة " لاي واحد من الطرفين، ويعني هذا أن كل طرف من أطراف العلم
الاجمالي يظل مندرجا ضمن نطاق القاعدة العملية الأساسية القائلة بالاحتياط
ما دامت القاعدة الثانوية عاجزة عن شموله.
وعلى هذا الأساس ندرك الفرق بين الشك الابتدائي والشك الناتج
عن العلم الاجمالي، فالأول يدخل في نطاق القاعدة الثانوية وهي أصالة البراءة
والثاني يدخل في نطاق القاعدة الأولية وهي أصالة الاحتياط.
وفي ضوء ذلك نعرف أن الواجب علينا عقلا في موارد العلم الاجمالي
هو الاتيان بكلا الطرفين أي الظهر والجمعة في المثال السابق، لان
كلا منهما داخل في نطاق أصالة الاحتياط. ويطلق في علم الأصول على
الاتيان بالطرفين معا " الموافقة القطعية "، لان المكلف عند إتيانه بهما
معا يقطع بأنه وافق تكليف المولى، كما يطلق على ترك الطرفين معا اسم
" المخالفة القطعية ". وأما الاتيان بأحدهما وترك الآخر فيطلق عليهما اسم
" الموافقة الاحتمالية " و " المخالفة الاحتمالية " لان المكلف في هذه الحالة
يحتمل أنه وافق تكليف المولى ويحتمل أنه خالفه.
184

انحلال العلم الاجمالي:
إذا وجدت كأسين من ماء قد يكون كلاهما نجسا وقد يكون أحدهما
نجسا فقط ولكنك تعلم على أي حال بأنهما ليسا طاهرين معا، فينشأ في
نفسك علم إجمالي بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين. فإذا اتفق
لك بعد ذلك أن اكتشفت نجاسة في أحد الكأسين وعلمت أن هذا الكأس
المعين نجس، فسوف يزول في رأي كثير من الأصوليين علمك الاجمالي
بسبب هذا العلم التفصيلي، لأنك الآن بعد اكتشافك نجاسة ذلك الكأس
المعين لا تعلم إجمالا بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين، بل تعلم
بنجاسة ذلك الكأس المعين علما تفصيليا وتشك في نجاسة الآخر. ولأجل
هذا لا تستطيع أن تستعمل الصيغة اللغوية التي تعبر عن العلم الاجمالي
" إما وإما "، فلا يمكنك أن تقول: " إما هذا نجس أو ذاك "، بل هذا
نجس جزما وداك لا تدري بنجاسته. ويعبر عن ذلك في العرف الأصولي
ب‍ " انحلال العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بأحد الطرفين والشك البدوي
في الآخر " لان نجاسة ذلك الكأس المعين أصبحت معلومة بالتفصيل ونجاسة
الآخر أصبحت مشكوكة شكا ابتدائيا بعد أن زال العلم الاجمالي، فيأخذ
العلم التفصيلي مفعوله من الحجية وتجري بالنسبة إلى الشك الابتدائي
أصالة البراءة، أي القاعدة العملية الثانوية التي تجري في جميع موارد
الشك الابتدائي.
موارد التردد:
عرفنا أن الشك إذا كان ابتدائيا حكمت فيه القاعدة العملية الثانوية
القائلة بأصالة البراءة، وإذا كان مقترنا بالعلم الاجمالي حكمت فيه القاعدة
العملية الأولية.
185

وقد يخفى أحيانا نوع الشك فلا يعلم أهو من الشك الابتدائي أو من
الشك المقترن بالعلم الاجمالي أو الناتج عنه بتعبير آخر؟ ومن هذا
القبيل مسألة دوران الامر بين الأقل والأكثر كما يسميها الأصوليون، وهي
أن يتعلق وجوب شرعي بعملية مركبة من أجزاء كالصلاة ونعلم باشتمال
العملية على تسعة أجزاء معينة ونشك في اشتمالها على جزء عاشر ولا يوجد
دليل يثبت أو ينفي، ففي هذه الحالة يحاول الفقيه أن يحدد الموقف العملي
فيتساءل هل يجب الاحتياط على المكلف فيأتي بالتسعة ويضيف إليها هذا
العاشر الذي يحتمل دخوله في نطاق الواجب لكي كون مؤديا للواجب على
كل تقدير؟ أو يكفيه الاتيان بالتسعة التي يعلم بوجوبها ولا يطالب بالعاشر
المجهول وجوبه؟.
وللأصوليين جوابان مختلفان على هذا السؤال يمثل كل منهما اتجاها
في تفسير الموقف، فأحد الاتجاهين يقول بوجوب الاحتياط تطبيقا للقاعدة
العملية الأولية، لان الشك في العاشر مقترن بالعلم الاجمالي، وهذا العلم
الاجمالي هو علم المكلف بأن الشارع أوجب مركبا ما ولا يدري أهو المركب
من تسعة أو المركب من عشرة أي من تلك التسعة بإضافة واحد؟.
والاتجاه الآخر يطبق على الشك في وجوب العاشر القاعدة العملية
الثانوية بوصفه شكا ابتدائيا غير مقترن بالعلم الاجمالي، لان ذلك العلم
الاجمالي الذي يزعمه أصحاب الاتجاه الأول منحل بعلم تفصيلي، وهو علم
المكلف بوجوب التسعة على أي حال، لأنها واجبة سواء كان معها جزء
عاشر أولا، فهذا العلم التفصيلي يؤدي إلى انحلال ذلك العلم الاجمالي،
ولهذا لا يمكن أن نستعمل الصيغة اللغوية التي تعبر عن العلم الاجمالي،
فلا يمكن القول بأنا نعلم إما بوجوب التسعة أو بوجوب العشرة، بل نحن
نعلم بوجوب التسعة على أي حال ونشك في وجوب العاشر. وهكذا يصبح
186

الشك في وجوب العاشر شكا ابتدائيا بعد انحلال العلم الاجمالي فتجري
البراءة.
والصحيح هو القول بالبراءة من غير الاجزاء المعلومة من الأشياء التي
يشك في دخولها ضمن نطاق الواجب تبعا لتفصيلات لا مجال للتوسع فيها.
4 - الاستصحاب
على ضوء ما سبق نعرف أن أصل البراءة يجري في موارد الشبهة
البدوية دون الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي.
ويوجد في الشريعة أصل آخر نظير أصل البراءة، وهو ما يطلق عليه
الأصوليون اسم " الاستصحاب ". ومعنى الاستصحاب حكم الشارع
على المكلف بالالتزام علميا بكل شئ كان على يقين منه ثم شك في بقائه.
ومثاله: أنا على يقين من أن الماء بطبيعته طاهر، فإذا أصابه شئ متنجس
نشك في بقاء طهارته، لأننا لا نعلم أن الماء هل تنجس بإصابة المتنجس له
أو لا؟ وكذلك نحن على يقين مثلا بالطهارة بعد الوضوء ونشك في بقاء هذه
الطهارة إذا حصل الاغماء، لأننا لا نعلم أن الاغماء هل ينقض الطهارة أو لا؟
والاستصحاب يحكم على المكلف بالالتزام عمليا بنفس الحالة السابقة التي
كان على يقين بها، وهي طهارة الماء في المثال الأول والطهارة من الحدث في
المثال الثاني.
ومعنى الالتزام عمليا بالحالة السابقة ترتيب آثار الحالة السابقة من
الناحية العملية، فإذا كانت الحالة السابقة هي الطهارة نتصرف فعلا كما إذا
كانت الطهارة باقية، وإذا كانت الحالة السابقة هي الوجوب نتصرف فعلا
كما إذا كان الوجوب باقيا.
والدليل على الاستصحاب هو قول الإمام الصادق عليه السلام
187

" لا ينقض اليقين أبدا بالشك ".
ونستخلص من ذلك أن كل حالة من الشك البدوي يتوفر فيها القطع
بشئ أولا والشك في بقائه ثانيا يجري فيها الاستصحاب.
الحالة السابقة المتيقنة:
عرفنا أن وجود حالة سابقة متيقنة شرط أساسي لجريان الاستصحاب،
والحالة السابقة قد تكون حكما عاما نعلم بجعل الشارع له وثبوته في العالم
التشريعي ولا ندري حدود هذا الحكم المفروضة له في جعله ومدى امتداده
في عالمه التشريعي، فتكون الشبهة حكمية، ويجري الاستصحاب في نفس
الحكم. ومثاله: حكم الشارع بطهارة الماء فنحن نعلم بهذا الحكم العام
في الشريعة ونشك في حدوده ولا ندري هل يمتد الحكم بالطهارة بعد إصابة
المتنجس للماء أيضا أو لا؟ فنستصحب طهارة الماء.
وقد تكون الحالة السابقة شيئا من أشياء العالم التكويني، نعلم بوجوده
سابقا ولا ندري باستمراره وهو موضوع للحكم الشرعي، فتكون الشبهة
موضوعية ويجري الاستصحاب في موضوع الحكم. ومثاله: أن نكون
على يقين بأن عامرا عادل وبالتالي يجوز الاتمام به، ثم نشك في بقاء عدالته
فنستصحب العدالة فيه بوصفها موضوعا لجواز الائتمام.
ومثال آخر: أن يكون المكلف على يقين بأن الثوب نجس ولم يغسل
بالماء، ولا ندري هل غسل بالماء بعد ذلك وزالت نجاسته أو لا؟ فنستصحب
عدم غسله بالماء، وبالتالي نثبت بقاء النجاسة.
وهكذا نعرف أن الحالة السابقة التي نستصحبها قد تنتسب إلى العالم
التشريعي، وذلك إذا كنا على يقين بحكم عام ونشك في حدوده المفروضة
له في جعله الشرعي وتعتبر الشبهة شبهة حكمية ويسمى الاستصحاب
188

ب‍ " الاستصحاب الحكمي "، وقد تنتسب الحالة السابقة التي نستصحبها
إلى العالم التكويني، وذلك إذا كنا على يقين بوجود موضوع الحكم الشرعي
ونشك في بقائه وتعتبر الشبهة شبهة موضوعية، ويمسى الاستصحاب
ب‍ " الاستصحاب الموضوعي ".
ويوجد في علم الأصول اتجاه ينكر جريان الاستصحاب في الشبهة
الحكمية ويخصه بالشبهة الموضوعية.
الشك في البقاء:
والشك في البقاء هو الشرط الأساسي الآخر لجريان الاستصحاب.
ويقسم الأصوليون الشك في البقاء إلى قسمين تبعا لطبيعة الحالة السابقة
زمانيا وإنما نشك في بقائها نتيجة لاحتمال وجود عامل خارجي أدى إلى
ارتفاعها. ومثال ذلك: طهارة الماء، فإن طهارة الماء تستمر بطبيعتها وتمتد
إذا لم يتدخل عامل خارجي، وإنما نشك في بقائها لدخول عامل خارجي في
الموقف، وهو إصابة المتنجس للماء. وكذلك نجاسة الثوب، فإن الثوب
إذا تنجس تبقى نجاسته السابقة التي من هذا القبيل ب‍ " الشك في الراقع ".
وقد تكون الحالة السابقة غير قادرة على الامتداد زمانيا، بل تنتهي بطبيعتها
في وقت معين ونشك في بقائها نتيجة لاحتمال انتهائها بطبيعتها دون تدخل
عامل خارجي في الموقف. ومثاله: نهار شهر رمضان الذي يجب فيه الصوم
إذ شك الصائم في بقاء النهار، فإن النهار ينتهي بطبيعته ولا يمكن أن يمتد زمانيا
فالشك في بقائه لا ينتج عن احتمال وجود عامل خارجي وإنما هو نتيجة
لاحتمال انتهاء النهار بطبيعته واستنفاده لطاقته وقدرته على البقاء. ويمسى
189

الشك في بقاء الحالة السابقة التي من هذا القبيل ب‍ " الشك في المقتضي "،
لان الشك في مدى اقتضاء النهار واستعداده للبقاء.
ويوجد في علم الأصول اتجاه ينكر جريان الاستصحاب إذا كان الشك
في بقاء الحالة السابقة من نوع الشك في المقتضي ويخصه بحالات الشك
في الرافع.
وحدة الموضوع في الاستصحاب:
ويتفق الأصوليون على أن من شروط الاستصحاب وحدة الموضوع،
ويعنون بذلك أن يكون الشك منصبا على نفس الحالة التي كنا على يقين
بها فلا يجري الاستصحاب. مثلا: إذا كنا على يقين بنجاسة الماء ثم صار
بخارا وشككنا في نجاسة هذه البخار، لان ما كنا على يقين بنجاسته هو
الماء وما نشك فعلا في نجاسته هو البخار والبخار غير الماء، فلم يكن مصب
اليقين والشك واحدا.
التعارض بين الأصول.
ويواجهنا بعد دراسة الأصول العملية السؤال التالي: ماذا يصنع الفقيه
إذا اختلف حكم الاستصحاب عن حكم أصل البراءة؟ ومثاله: أنا نعلم بوجوب
الصوم عند طلوع الفجر من نهار شهر رمضان حتى غروب الشمس ونشك
في بقاء الوجوب بعد الغروب إلى غياب الحمرة، ففي هذه الحالة تتوفر
أركان الاستصحاب من اليقين بالوجوب أولا والشك في بقائه ثانيا، وبحكم
الاستصحاب يتعين الالتزام عمليا ببقاء الوجوب.
ومن ناحية أخرى نلاحظ أن الحالة تندرج ضمن نطاق أصل البراءة،
لأنها شبهة بدوية في التكليف غير مقترنة بالعلم الاجمالي، وأصل البراءة
ينفي وجوب الاحتياط ويرفع عنا الوجوب عمليا، فبأي الأصلين نأخذ؟
190

والجواب أنا نأخذ بالاستصحاب ونقدمه على أصل البراءة، وهذا متفق عليه
بين الأصوليين، والرأي السائد بينهم لتبرير ذلك أن دليل الاستصحاب
حاكم على دليل أصل البراءة، لان دليل أصل البراءة هو النص النبوي القائل
" رفع ما لا يعلمون " وموضوعه كل ما لا يعمل، ودليل الاستصحاب هو
النص القائل " لا ينقض اليقين أبدا بالشك "، وبالتدقيق في النصين نلاحظ
أن دليل الاستصحاب يلغي الشك ويفترض كأن اليقين باق على حاله،
فيرفع بذلك موضوع أصل البراءة. ففي مثال وجوب الصوم لا يمكن أن
نستند إلى أصل البراءة عن وجوب الصوم بعد غروب الشمس بوصفه وجوبا
مشكوكا، لان الاستصحاب يفترض هذا الوجوب معلوما، فيكون دليل
الاستصحاب حاكما على دليل البراءة، لأنه ينفي موضوع البراءة.
191

أحكام تعارض النوعين
استعرضنا حتى الآن نوعين من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط:
أحدهما العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الدليل، والآخر
العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الأصل العملي. وقد عرفنا
أن العناصر من النوع الأول تشكل أدلة على تعيين الحكم الشرعي، والعناصر
من النوع الثاني تشكل قواعد عملية لتعيين الموقف العملي تجاه الحكم
المجهول.
ووجود نوعين من العناصر على هذا الشكل يدعوا إلى البحث عن موقف
الفقيه عند افتراض وقوع التعارض بينهما، كما إذا دل دليل على أن الحكم
الشرعي هو الوجوب مثلا وكان أصل البراءة أو الاستصحاب يقتضي الرخصة.
والحقيقة أن الدليل إذا كان قطعيا فالتعارض غير متصور عقلا بينه
وبين الأصل، لان الدليل القطعي على الوجوب مثلا يؤدي إلى العلم بالحكم
الشرعي، ومع العلم بالحكم الشرعي لا مجال للاستناد إلي أي قاعدة عملية
لان القواعد العملية إنما تجري في ظرف الشك، إذ قد عرفنا سابقا أن أصل
البراءة موضوعة كل ما لا يعلم والاستصحاب موضوعه أن نشك في بقاء ما
كنا على يقين منه، فإذا كان الدليل قطعيا لم يبق موضوع لهذه الأصول
والقواعد العملية.
وإنما يمكن افتراض لون من التعارض بين الدليل والأصل إذا لم
يكن الدليل قطعيا، كما إذا دل خبر الثقة على الوجوب أو الحرمة وخبر
الثقة كما مر بنا دليل ظني حكم الشارع بوجوب اتباعه واتخاذه دليلا
وكان أصل البراءة من ناحية أخرى يوسع ويرخص. ومثاله: خبر الثقة
192

الدال على حرمة الارتماس على الصائم، فإن هذه الحرمة إذا لاحظناها من
ناحية الخبر فهي حكم شرعي قد قام عليه الدليل الظني الحجة، وإذا لاحظناها
بوصفها تكليفا غير معلوم نجد أن دليل البراءة رفع ما لا يعلمون يشملها
فهل يحدد الفقيه في هذه الحالة موقفه على أساس الدليل الظني أو على
أساس الأصل العملي؟. ويسمى الأصوليون الدليل الظني بالامارة، ويطلقون
على هذه الحالة اسم التعارض بين الامارات والأصول.
ولا شك في هذه الحالة لدى علماء الأصول في تقديم خبر الثقة وما إليه
من الأدلة الظنية المعتبرة على أصل البراءة ونحوه من الأصول العملية، لان
الدليل الظني الذي حكم الشارع بحجيته يؤدي بحكم الشارع هذا دور
الدليل القطعي، فكما أن الدليل القطعي ينفي موضوع الأصل ولا يبقي
مجالا لاي قاعدة عملية، فكذلك الدليل الظني الذي أسند إليه الشارع
نفس الدور وأمرنا باتخاذه دليلا، ولهذا يقال عادة: إن الامارة حاكمة على
الأصول العملية.
193

كلمة الختام
هذا آخر ما أردنا استعراضه من بحوث ضمن الحدود التي وضعناها
لهذه الحلقة. وبذلك تكتمل في ذهن الطالب تصورات علمية عامة عن العناصر
المشتركة بالدرجة التي تؤهله لدراستها على مستوى أرفع في الحلقة الآتية.
والحمد لله أولا وآخرا، ومنه نستمد التوفيق لما يحب ويرضى، إنه
ولي الاحسان وهو على كل شئ قدير.
194