الكتاب: فدك في التاريخ
المؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الجزء:
الوفاة: ١٤٠١
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: عبد الجبار شرارة
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٥ - ١٩٩٤ م
المطبعة:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
ردمك:
ملاحظات:

فدك في التأريخ
الطبعة الأولى
1415 ه‍. 1994 م
1

حقوق الطبع محفوظة للناشر
2

فدك في التأريخ
بقلم
الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره
تحقيق
الدكتور عبد الجبار شرارة
مركز الغدير للدراسات الاسلامية
3

بسم الله الرحمن الرحيم
5

مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا
محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين و صحبه المنتجبين.
بين يدي الكتاب والمؤلف:
(فدك في التاريخ) باكورة النتاج العلمي الخطب للأمام الشهيد الصدر قدس سره. وهذه
الدراسة تعد بحق بلحاظ الفترة التاريخية التي كتبت فيها دراسة رائدة وأصيلة،
وذلك لاعتمادها المنهج ا لعلمي الحديث ليس في الاستقصاء و التتبع لحيثيات
القضية، ومستنداتها فحسب، بل في ب عمق التحليل، ورصانة الأسلوب، ودقة
المناقشة، وقوم المنطق. إن النظر إلى الدراسات سواء منها التي
صدرت في تلك الفترة أي قبل نصف قرن تقريبا أو الفترة اللاحقة فيما يتعلق
بمثل هذه الموضوعات الحساسة، سيتبين منها مدى السبق العلمي والانجاز
التاريخي الذي حققه الأمام الشهيد في دراسته التي بين يديك أيها القارئ
العزيز. ولا غرابة في ذلك فالسيد الشهيد تفجرت عبقريته منذ وقت مبكر، ثم
تطورت مواهبه سريعا ليرفد المكتبة الإسلامية بدراساته المبتكرة في مختلف
حقول المعرفة الانسانية وعلوم الشريعة الإسلامية. لقد كان الأمام الشهيد
الصدر عالما ربانيا ومجتهدا ورعا وعبقريا فذا، وقد أغنى الفكر الإسلامي
المعاصر، وأمده بعناصر الحيوية والاستمرار، حتى ليصح القول: إن الأمام
7

الشهيد كان أطروحة الإسلام المتجدد. يدلك على ذلك أنه قدس سره قد نهض
بمسؤوليات فكرية وجهادية بما لم ينهض بمثله إلا القائل في تاريخ الإسلام
المجيد، إذ كان في جهاد متواصل، وسعي دائب من أجل تحرير وعي الأمة
المسلمة من أطروحة الغرب الكافر، وتحرير مستقبلها من هيمنة الاستكبار
العالمي وعملائه، حتى توجت حياته الشريفة بالشهادة في سبيل الله وفي سبيل
إعلاء كلمة الإسلام.
المنهج والكتاب:
اعتمد السيد الشهيد في هذا الكتاب (فدك في التاريخ) منهجا علميا حدد
معالمه ورأي أنه لابد من اعتماد في مثل هذه الدراسات التاريخية ذات الأبعاد
السياسية. ويقوم هذا المنهج على أسس الموضوعية التي عبر عنها (بالتجرد عن
المرتكزات)، والتتبع والاستقصاء والتأمل (الأناة في الحكم) ثم (الحرية في
التفكير). ويعتبر الشهيد الصدر هذه الأمور شروطا أساسية لإقامة بناء تاريخي
محكم لقضايا الأسلاف، ترتسم فيه خطوط حياتهم التي عرفوها في أنفسهم، أو
عرفها الناس عنهم يومئذ... ثم يرى قدس سره (أن ذلك للبناء ينبغي أن يتسع لتأملات
شاملة لكل موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم يتعرف على لونه
التاريخي والاجتماعي، ووزنه في حساب الحياة العامة أو في حساب الحياة
الخاصة التي يعنى بها الباحث، وتكون مدارا لبحثه كالحياة الدينية والأخلاقية
والاجتماعية والسياسية) (*).
وإذا كان هذا هو الهدف من مثل هذه الدراسات التاريخية، وذاك هو

* راجع الفصل الثالث.
8

إطارها العام، فإن الشهيد ينبه هنا إلى ضرورة (أن تستمد هذه التأملات كيانها
النظري من عالم الناس المنظور، لا من عالم تبتدعه العواطف والمرتكزات،
وينشئه التعبد والتقليد). ثم يضع قيدا على مثل تلك التأملات وهو أن لا تستند
إلى خيال مجنح يرتفع بالسفاسف إلى الذروة، وتبنى عليها نتائج غير سليمة.
وأخيرا يؤكد السيد الشهيد ضرورة الالتزام بمنطق البحث العلمي لا بما نستلهمه
من عواطفنا وموروثاتنا. ثم ينبه إلى حقيقة خطيرة في حقل الدراسات هي
تحول المؤرخ إلى روائي يستوحي من دنيا ذهنه، لا من الوقائع التاريخية.
إن معالم هذا المنهج يكشف عن وعي مبكر وعميق بأصول البحث العلمي
وشروطه الأساسية. وقد رأيت السيد الشهيد وهو يخوض غمار هذا البحث
متسلحا بمنطق العلم، متحمسا لمنطق الحق، مستمسكا بما يهديه إليه منطق
الأحداث. وهو في كل ذلك يستند إلى ما نقله المؤرخون، وما نطقت به الوثيقة
التاريخية، ويستنتج وفق الضوابط والأصول المعتبرة.
لمحة موجزة عن فصول الكتاب:
تناول الشهيد الصدر (قضية فدك) بالمنظور الفاطمي أي بأبعادها المتشعبة في
جوانب الحياة الإسلامية، وفي آماد الزمان اللاحق، ولذلك اعتبرها أي (قضية
فدك) ثورة شاملة، فعرض لخلفية (الحديث) أي ما اعتمل في ذهن الزهراء
(سلام الله عليها) من أفكار، وما دار في خلدها من ذكريات عظيمة في حياة
أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ها هي تصحو على واقع مؤلم مرير يموج بالمحنة
وبالفتنة التي لا تقف عند حدود، فيحفزها ذلك إلى أن تطلق صرختها، وتعلن
عن الشروع بالمجابهة، ثم ينتقل السيد الشهيد إلى الفصل الثاني (فد ك في معناها
9

الحقيقي ومعناها الرمزي) فيعرف بها، ثم ينتقل معها عبر مراحل التاريخ
المتعاقبة منذ أن انتزعت من يد الزهراء عليها السلام، إلى آخر ما استقر عليه أمرها في
أواخر زمن العباسيين. ثم يتحول إلى الفصل الثالث الذي عنونه ب‍ (تاريخ
الثورة) فيتحدث عن الثورة ممهدا لها بالكلام على شروط البحث وأسلوب كتابة
تاريخ الفرد والأمة مشيدا بعصر صدر الإسلام وما تحقق فيه من انجازات.
يعرج بعد ذلك إلى كتاب العقاد (فاطمة والفاطميون) فينعى عليه المعالجة
المبتسرة لمثل تلك القضية الخطيرة ومحاولته - أي العقاد - حصرها في نطاق
ضيق متابعا في مناقشته لها منطق التعبد والتقليد للمتوارث من غير روية أو
إعمال فكر. ثم ينطلق بعد ذلك ليحدد أبعاد (فدك)، بأنها ليست منازعة في أمر
محدود وحق مغصوب، بل هو يراها أكبر من ذلك بكثير، قال: (إننا نحس إذا
درسنا الواقع التار يخي لمشكلة فدك ومنازعاتها أنها مطبوعا بطابع الثورة التي
توفرت بواعثها، ونتبين أن هذه المنازعات كانت في واقعها ودوافعها ثورة على
السياسة العليا...). ثم يقدم تبريرا منطقيا لتناوله القضية بكل تلك الأبعاد
فيقول: (أدرس ما شئت من المستندات التاريخية الثابتة للمسألة، فهل ترى
نزاعا ماديا؟ أو ترى اختلافا حول (فدك) بمعناها المحدود، وواقعها الضيق؟ أو
ترى تسابقا على غلات أرض... كلا، بل هي الثورة على أسس الحكم،
والصرخة التي أرادت الزهراء عليها السلام أن تقتلع بها الحجر الأساس الذي بني عليه
التاريخ بعد يوم السقيفة...). ومن هنا يبدأ السيد الشهيد في رصد الأحداث
قبل يوم السقيفة ثم يلاحقها مناقشا، مسلطا الضوء على الزوايا والخفايا سواء
فيما يتعلق بالمواقف أو بالشخصيات، مبرزا مواقف الإمام علي عليه السلام التي أملتها
10

المصلحة الإسلامية العليا... ينتقل السيد الشهيد في فصل آخر إلى (الخطاب
الفاطمي) فيحلل، ويدين المقاصد والأغراض، وينطلق خلال ذلك ليكشف عن
خصائص ومواقف أمير المؤمنين عليه السلام، تلك الخصائص والميزات التي تؤهله
دون غيره لاحتلال المركز القيادي الأول والمرجعية الكفرية والسياسية لامة
الإسلام. ثم يختم الكتاب بفصل عنونه ب‍ (محكمة الكتاب) ناقش فيه (قضية
فدك) مبينا ملابساتها وحيثياتها، مثيرا الإشكالات العميقة على مباني القوم في
حرمان الزهراء (سلام الله عليها) من حقها الثابت، مستندا في كل ذلك إلى
النصوص الثابتة قرآنا وسنة، وإلى ما يقتضيه قانون الشرع ومنطق الحق
والأنصاف.
ذلك باختصار لمحات عن فصول الكتاب الذي سيجد فيه القارئ العزيز
تحليلا عميقا، ومناقشات رصينة، بأسلوب بليغ، مع التزام بشرائط
البحث ومقتضياته.
كلمة في المقام:
إن قضية فدك في منظور الزهراء (سلام الله عليها) إذن ليست مسألة (نحلة)
انتزعت من يدها، لأسباب اختلقتها السلطة أو بررتها، بل إن القضية أخطر من
ذلك بكثير، إنها تشكل بادرة خطيرة في حياة الدولة الإسلامية وفي حياة التجربة
الإسلامية الوليدة، تلك التجربة وهذه الدولة التي ناضل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم نضالا
مريرا في سبيل إقامتها على شرعة الحق وميزان العدل، وأراد لها أن تمتد في
أقطار الأرض وآماد الزمان. إن الخطورة تلك تكمن في استعجال (النخبة) التي
يفترض أنها المسؤولة عن حماية التجربة، استعجالها للحصول على (المكاسب
11

الآنية)، ومحاولة الاستحواذ على المراكز القيادية بغض النظر عن الأصول
المقررة، والنصوص المعتبرة. وذلك يعني أول ما يعني فتح الباب واسعا أمام
أصحاب المطامع والنهازين، أو على حد تعبير ا م المؤمنين عائشة: إن الخلافة -
حينئذ - سينالها البر والفاجر (*). ولذلك فإن تصدي الزهراء (سلام الله عليها)
لمثل تلك الحالة، إنما كان للحيلولة دون تحقق النتائج الخطيرة والمتوقعة. ومن
هنا كان الهدف في (إثارة فدك) بأبعادها الشمولية وتبصير الأمة قيادات وأفرادا
وجماهير بتلك المخاطر الرهيبة التي تنتظرهم في حال الاندفاع بهذا الاتجاه،
وقد صرحت الزهراء (سلام الله عليها) بذلك قائلة:
(أما لعمر الله لقحت فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوها طلاع العقب دما
عبيطا... هنا ك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غب ما أسسه الأولون ثم طيبوا
من أنفسكم نفسا، واطمئنوا للفتنة جأشا وأبشروا بسيف صارم، وهرج شامل.
واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا، وجمعكم حصيدا...) (* *).
في ضوء ذل كله يمكن فهم الحماس الذي يبديه السيد الشهيد، والتأثير
البالغ الذي يعتمل في داخله، إذ هو يحلل ويناقش ويستنتج (بالمنظور
الفاطمي) وبدافع الحرص على نقاء الإسلام.
لقد كان السيد الشهيد في طول البحث (يترضى) على الصحابة ويقدر
مآثرهم في دنيا الاسلام، ولكنه لا يغمض النظر عن موارد الخلل، ومواطن
الزلل في مسيرة القوم. ولا نرى أن هناك تقاطعا، إ ذ أن الأكثر أهمية، والأولى

* الدر المنثور / السيوطي 6: 19 - المطبعة الميمنية بمصر / 1314 ه‍.
(* *) بلاغات النساء / ابن أبي طاهر طيفور: 33.
12

بالمراعاة هو سلامة التجربة الإسلامية وأصالتها ونقاؤها. ثم لو أراد البعض أن
يتأول - ولا مانع من التأويل - إلا أنه غير ملزم لنا فضلا عن كونه خلاف الواقع،
ولنتذكر على سبيل المثال هنا قولة الخليفة الثاني بشأن خالد بن الوليد في قضية
مالك بن نويرة، قال الخليفة عمر بن الخطاب لأبي بكر: (إن خالدا قتل امرءا
مسلما ونزا على امرأته...) (*) على حد تعبير الطبري فتأول الخليفة الأول
لخالد ذلك الفعل، إلا أن ذلك التأويل لم يحقق القناعة عند الخليفة عمر،
وأضمرها في نفسه ثم تصرف لاحقا استنادا إلى (الواقعة)، نفسها فعزل خالدا
حالما تسلم الحكم.
إذن نحن غير ملزمين بقبول كل تأويل على أن تأشير الخطأ، وتسجيل
الوقائع، واستنطاقها لا شك أمر يجنبنا النتائج الوخيمة، وهو بالتالي يصب في
صالح خدمة مسيرة الأمة الإسلامية وأصالة الإسلام.
وهذا ما كان يهدف إليه الأمام الشهيد من دراسته القيمة، وذلك هو الذي
حفزنا إلى القيام بالتحقيق العلمي لهذه الدراسة، وقد ظهر لنا أن كل إشارة وردت،
أو قول أو تحليل أو استنتاج، إنما يستند إلى منطق الأحدات، وإلى المصادر
الموثوقة، والوقائع المشهورة، وسيرة القوم. وسوف يظهر للقارئ الكريم من
خلال هذا (التحقيق) أنه ليس هناك مجازفة في قول، ولا تحامل في رأي، ولا
استنتاج من غير دليل.
عملي في التحقيق:
ظهر كتاب (فدك في التاريخ) في طبعتين، أولا هما طبعة المطبعة الحيدرية في

* تاريخ الطبري 2: 280 - الطبعة المحققة (محمد أبو الفضل إبراهيم).
13

النجف الأشرف لصاحبها الفاضل الشيخ محمد كاظم الكتبي، وذلك سنة 1374 ه‍ / 1955 / م وهذه الطبعة - في الواقع - جيدة وقليلة الأخطاء... ثم ظهرت
الطبعة الثانية بعد ذلك بسنوات، وهي طبعة دار التعارف البيروتية التي أشرت
إليها، ولم أعثر على طبعات أخرى. ولما كانت الطبعة الحيدرية أدق ولأن السيد
الشهيد اطلع عليها بنفسه، فقد اعتمدتها أصلا.
ولقد قمت بتخريج الآيات والروايات من مظانها كما وثقت الاحالات
التي أوردها السيد الشهيد ووضعت إزاءها كلمة (الشهيد) تمييزا لها من
التخريجات والتعليقات والإضافات التي اقتضاها التحقيق، ورأيت من
المناسب ذكرها. وقد رجعت في كل ذلك إلى الكتب والمصادر المعتمدة عند
إخواننا أهل السنة ليتضح جليا أن المطالب التي حققت تعتمد وتستند على
هاتيك المصادر. ثم يبقى بعد ذلك أصالة التحليل، والتزام المنهج العلمي في
العرض والمناقشة والاستدلال من ميزات السيد الشهيد في هذه الدراسة.
وأخيرا فإني في الوقت الذي أحمد الله تعالى على توفيقه وتسديده في
إنجاز هذا العمل أرجوه تعالى أن يجعله خالصا لوجهه، كما أسأله تعالى أن يوفق
العاملين في مركز الغدير للدراسات الإسلامية لخدمة الإسلام العزيز ومذهب
أهل البيت عليهم السلام. ولهم الشكر والثناء.
والحمد لله أولا وآخرا
د. عبد الجبار شرارة
دكتوراه في الدراسات الإسلامية والدينية (أستاذ مساعد)
14

أيها القارئ الكريم:
هذا إنتاج اغتنمت له عطلة من عطل الدراسة في جامعتنا الكريمة
- النجف الأشرف - وتوفرت فيها على درس مشكلة من مشاكل
التاريخ الإسلامي، وهي (مشكلة فدك)، والخصومة التاريخية
التي قامت بين الزهراء (صلوات الله عليها) والخليفة الأول (رضي
الله تعالى عنه). وكانت تتبلور في ذهني استنتاجات وفكر،
فسجلتها على أوراق متفرقة، حتى إذا انتهيت من مطالعة مستندات
القضية ورواياتها، ودرس ظروفها، وجدت في تلك الوريقات ما
يصلح خميرة لدراسة كافية للمسألة، فهذبتها ورتبتها على فصول،
اجتمع منها كتيب صغير، وكان في نيتي الاحتفاظ به كمذكر عند
الحاجة، فبقي عندي سنين مذكرا ومؤرخا لحياتي الفكرية في الشهر
الذي تمخض عنه، غير أن حضرة الوجيه الفاضل الشيخ محمد كاظم
الكتبي ابن الشيخ صادق الكتبي (أيده الله) طلب مني تقديمه إليه
ليتولى طبعه. وقد نزلت على رغبته تقديرا لأياديه البيضاء على
المكتبة العربية والاسلامية. والكتاب هو ما تراه بين يديك.
المؤلف
15

الفصل الأول
على مسرح الثورة
* فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم
الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة
يخسر المبطلون.
الزهراء عليها السلام
17

تمهيد
وقفت لا يخالجها شك فيما تقدم عليه، ولا يطفح عليها موقفها الرهيب
بصبابة من خوف أو ذعر، ولا يمر على خيالها الذي كان جديا كلم الجد،
تردد في تصميمها، ولا تساورها هاجسة من هواجس القلق والارتباك، وها
هي الان في أعلى القمة من استعدادها النبيل، وثباتها الشجاع على خطتها
الطموح، وأسلوبها الدفاعي، فقد كانت بين بابين لا يتسعان لتردد طويل،
ودرس عريض، فلا بد لها من اختيار أحدهما وقد اختارت الطريق المتعب
من الطريقين الذي يشق سلوكه على المرأة بطبيعتها الضعيفة لما يكتنفه من
شدائد ومصاعب تتطلب جرأة أدبية، وملكة بيانية مؤثرة، وقدرة على صب
معاني الثورة كلها في كلمات وبراعة وفنية في تصوير النقمة، ونقد الأوضاع
القائمة تصويرا ونقدا يجعلان في الألفاظ معنى من حياة، وحظا من خلود،
لتكون الحروف جنود الثورة الخيرة، وسندها الخالد في تاريخ العقيدة،
ولكنه الأيمان والاستبسال في سبيل الحق الذي يبعث في النفوس الضعيفة
نقائضها، ويفجر في الطبائع المخذولة قوة لا تتعرض لضعف ولا تردد.
ولذا كان اختيار الثائرة لهذا الطريق مما يوافق طبعها، ويلتئم مع
شخصيتها المركزة على الانتصار للحق، والاندفاع في سبيله.
19

وكانت حولها نسوة متعددات من حفدتها ونساء قومها كالنجوم
المتناثرة يلتففن بها بغير انتظام، وهن جميعا سواسية في هذا الاندفاع
والالتياع، وقائد تهن بينهن تستعرض ما ستقدم عليه من وثبة كريمة تهيئ
لها العدة والذخيرة، وهي كلما استرسلت في استعراضها ازدادت رباطة
جأش، وقوة جنان، وتضاعفت قوة الحق التي تعمل في نفسها، واشتدت
صلابة في الحركة، وانبعاثا نحو الدفاع عن الحقوق المسلوبة، ونشاطا في
الاندفاع، وبسالة في الموقف الرهيب، كأنها قد استعارت في لحظتها هذه
قلب رجلها العظيم، لتواجه به ظروفها القاسية وما حاكت لها يد القدر.
أستغفر الله بل ما قدر لها المقدر الحكيم من مأساة مروعة تهد الجبل وتزلزل
الصعب الشامخ.
وكانت في لحظتها الرهيبة التي قامت فيها بدور الجندي المدافع شبحا
قائما ترتسم عليه سحابة حزن مرير، وهي شاحبة اللون، عابسة الوجه،
مفجوعة القلب، كاسفة البال، منهدة العمد، ضعيفة الجانب، مائعة
الجسم، وفي صميم نفسها، وعميق فكرها، المتأملة إشعاعة بهجة، وإثارة
طمأنينة، وليس هذا ولا ذاك استعذابا لأمل باسم، أو سكونا إلى حلم لذيذ،
أو استقبالا لنتيجة حسنة مترقبة، بل كانت الإشعاعة إشعاعة رضا بالفكرة،
والاستبشار بالثورة، وكانت الطمأنينة ثقة بنجاح، لا هذا الذي نفيناه بل
على وجه آخر، وإن في بعض الفشل الاجل إيجابا لنجاح عظيم وكذلك
وقع، فقد قامت أمة برمتها تقدس هذه الثورة النائرة بل تستمد منها ثباتها
واستبسالها في هذا الثبات.
ودفعتها أفكارها في وقفتها تلك إلى الماضي القريب يوم كانت
20

موجهات السعادة تلعب بحياتها السعيدة، ويوم كان نفس أبيها يصعد، ونسمه
يهبط. وكان بيتها قطب الدولة العتيد، ودعامة المجد الراسخة المهيمنة على
الزمن الخاشع المطيع.
ولعل أفكارها هذه ساقتها إلى تصور أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضمها إلى
صدره الرحيب، ويحوطها بحنانه العبقري، ويطبع على فمها الطاهر قبلاته
التي اعتادتها منه، وكانت غذاءها صباحا ومساء.
ثم وصلت إلى حيث بلغت سلسلة الزمن، فيواجهها الواقع العابس
وإذا بالزمان غير الزمان وها هو بيتها مشكاة النور ورمز النبوة والإشعاعة
المتألقة المحلقة بالسماء، مهدد بين الفينة والفينة، وما هو ابن عمها الرجل
الثاني في دنيا الإسلام باب علم النبوة (1)، ووزيرها المخلص (2)،
وهارونها (3) المرجى، الذي لم يكن لينفصل ببدايته (4) الطاهرة عن بداية

(1) إشارة إلى الحديث المشهور: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) أخرجه أبو نعيم في حلية
الأولياء 1: 64 طبعة دار الفكر، وصححه السيوطي في جمع الجوامع، وأخرجه الترمذي
في صحيحة بلفظ آخر، وراجع: التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم / الشيخ
منصور علي ناصب 3: 337، قال: رواه الترمذي والطبراني وصححه الحاكم.
(2) إشارة إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث الدار أو الأنذار - المشهور: (إن هذا - والإشارة إلى علي -
أخي ووزيري وخليفتي فيكم...) راجع الرواية الكاملة في تاريخ الطبري 3: 218 - 219
طبعة المطبعة الحسينية بمصر، وراجع تفسير الخازن 3: 371 طبعة دار المعرفة.
(3) إشارة إلى الحديث المتواتر: (أما ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى
إلا أنه لا نبي بعدي) راجع: صحيح البخاري 5: 81 باب 39، صحيح مسلم 4: 1873،
التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم / الشيخ منصور علي ناصف 3: 333.
(4) راجع: نهج البلاغة، خطبة 192 ضبط الدكتور صبحي الصالح ص 300 - 301 قال الإمام علي
عليه السلام: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة
الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد... ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام
غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي وأشم ريح النبوة...).
21

النبوة المباركة، فهو ناصرها في البداية، وأملها الكبير في النهاية، يخسر
أخيرا خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقوض معنوياته النورية التي شهدت لها
السماء والأرض جميعا، وتسقط سوابقه الفذة عن الاعتبار ببعض المقاييس
التي تم اصطلاحها في تلك الأحايين.
وهنا بكت بكاء شقيا ما شاء الله لها أن تبكي، ولم يكن بكاء بمعناه
الذي يظهر على الأسارير، ويخيم على المظاهر، ت بل كان لوعة الضمير،
وارتياع النفس، وانتفاضة الحسرات في أعماق القلب، وختمت طوافها
الأليم هذا بعبرتين ندتا من مقلتيها.
ثم لم تطل وقفتها، بل اندفعت كالشرارة الملتهبة وحولها صويحباتها
حتى وصلت إلى ميدان الصراع، فوقفت وقفتها الخالدة، وأثارت حربها
التي استعملت فيها ما يمكن مباشرته للمرأة في الإسلام، وكادت ثورتها
البكر أن تلتهم الخلافة لولا أن عاكسها شذوذ الظرف، وتناثرت أمامها
العقبات.
(أجواء الحدث)
تلك هي الحوراء الصديقة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ريحانة النبوة، ومثال
العصمة، وهالة النور المشعة، وبقية الرسول بين المسلمين - في طريقها إلى
المسجد - وقد خسر ت أبوة في أزهى الأبواب في تاريخ الإنسان، وأفيضها
22

حنانا، وأكثرها إشفاقا، وأوفرها بركة.
وهذه كارثة من شأنها أن تذيق المصاب بها مرارة الموت أو أن تظهر
له الموت حلوا شهيا، وأملا نيرا.
وهكذا كانت الزهراء حينما لحق أبوها بالرفيق الأعلى، وطارت
روحه الفرد إلى جنان ربها راضية مرضية.
ثم لم تقف الحوادث المرة عند هذا الحد الرهيب، بل عرضت
الزهراء لخطب آخر قد لا يقل تأثيرا في نفسها الطهور، وإيقادا لحزنها،
وإذ كاء لأساها عن الفاجعة الأولى كثيرا وهو خسارة المجد الذي سجلته
السماء لبيت النبوة على طول التاريخ، وأعني بهذا المجد العظيم سيادة
الأمة وزعامتها الكبرى، فقد كان من تشريعات السماء أن يسوس
آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمته وشيعته، لأنهم مشتقاته ومصغراته، وإذا بالتقدير
المعاكس يصرف مراكز الزعامة عن أهلها، ومناصب الحكم عن أصحابها،

(1) كان تخطيط السماء أن يتولى علي وأهل البيت الأطهار إمامة الأمة وزعامتها، وقد
كانت هناك عملية إعداد واسعة النطاق تربويا وفكريا لمثل هذه الخلافة والزعامة، بل كان
هناك منهج واضح تتوالى خطواته بهذا الاتجاه وتشهد لذلك نصوص ا لقرآن الكريم والسنة
المطهرة، بما لا يدع مجالا للشك. (راجع بحثا مستفيضا حول هذه النقطة في كتاب نشأة
التشيع والشيعة للشهيد الصدر رضوان الله تعالى عليه) بتحقيق الدكتور عبد الجبار شرارة)،
فقد أثبتنا بالأرقام والشواهد والنصوص هذه الحقيقة بالرجوع إلى المصادر المعتمدة
والروايات الصحيحة عند إخواننا أهل السنة.
وراجع أيضا على سبيل المثال: تاريخ الطبري 3: 218 - 219 الطبعة الأولى / المطبعة
الحسينية بمصر، تاريخ الخلفاء / السيوطي: 171، الصواعق المحرقة / ابن حجر: 127،
مختصر تاريخ ابن عساكر / ابن منظور 17: 356 وما بعدها.
23

ويرتب لها خلفاء وامراء من عند نفسه.
وبهذا وذاك خسرت الزهراء أقدس النبوات والأبوات، وأخلد
الرئاسات والزعامات بين عشية وضحاها، فبعثها نفسها المطوقة بآفاق من
الحزن والأسف إلى المعركة ومجالاتها، ومباشرة الثورة والاستمرار عليها.
والحقيقة التي لا شك فيها أن أحدا ممن يوافقها على مبدئها ونهضتها
لم يكن ليمكنه أن يقف موقفها، ويستبسل استبسالها في الجهاد إلا وأن
يكون أكلة باردة، وطعمة رخيصة للسلطات الحاكمة التي كانت قد بلغت
يومذاك أوج الضغط والشدة. فعلى الإشارة عتاب،
وعلى القول حساب، وعلى الفعل عقاب، فلم يكن ليختلف عما نصطلح عليه اليوم بالأحكام
العرفية، وهو أمر ضروري للسلطات يومئذ في سبيل تدعين أساسها، وتثبيت
بنيانها.
أما إذا كان القائم المدافع بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبضعته (2)، وصورته
الناضرة، فهي محفوظة لا خوف عليها بلا شك، باعتبار هذه النبوة
المقدسة، ولما للمرأة في الإسلام عموما من حرمات وخصائص تمنعها
وتحميها من الأذى.

(1) راجع: أخبار السقيفة في تاريخ الطبري 2: 244 طبعة دار الكتب العلمية - بيروت، وما
دار فيها، ومن ذلك قول الخليفة الثاني: (اقتلوا سعد بن عبادة...).
(2) جاء في الحديث الصحيح: (فاطمة بضعة مني من اذاها فقد اذاني....). راجع: التاج
الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم 3: 353 عن البخاري ومسلم وغير هما،
صحيح البخاري - باب فضائل الصحابة 5: 83 باب 43 حديث رقم 232 طبعة دار القلم -
بيروت، صحيح مسلم 4: 1902 حديث رقم 2493 باب فضائل الصحابة - فضائل
فاطمة عليها السلام.
24

مستمسكات الثورة:
ارتفعت الزهراء بأجنحة من خيالها المطهر إلى آفاق حياتها الماضية ودنيا
أبيها ا لعظيم التي استحالت حين لحق سيد البشر بربه إلى ذكرى في نفس
الحوراء متألقة بالنور، تمد الزهراء في كل حين بألوان من الشور والعاطفة
والتوجيه، وتشيع في نفسها ضروبا من البهجة والنعيم، فهي وإن كانت قد
تأخرت عن أبيها في حساب الزمن أياما أو شهورا، ولكنها لم تنفصل عنه
في حساب الروح والذكرى لحظة واحدة.
وإذن ففي جنبيها معين من القوة لا ينضب، وطاقة على ثورة كاسحة
لا تخمد، وأضواء من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونفس محمد تنير لها الطريق،
وتهديها سواء السبيل.
وتجردت الزهراء في اللحظة التي اختمرت فيها ثورة نفسها عن دنيا
الناس، واتجهت بمشاعرها إلى تلك الذكرى الحية في نفسها لتستمد منها
قبسا من نور في موقفها العصيب، وصارت تنادي:
إلي يا صور السعادة التي أفقت منها على شقاء لا يصطبر عليه...
إلي يا أعز روح علي، وأحبها إلي... حدثيني وأفيضي علي من نورك
الإلهي، كما كنت تصنعين معي دائما.
إلي يا أبي أناجيك إن كانت المناجاة تلذ لك، أبثك همومي كما
اعتدت أن أفعل في كل حين، وأخبرك أن تلك الظلال الظليلة التي كانت
تقيني من لهيب هذه الدنيا لم يعد لي منها شئ.
25

قد كان بعدك أبناء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إلي يا ذكريات الماضي العزيز حدثيني حديثك الجذاب ورددي على
مسامعي كل شئ لأثيرها حربا لا هوادة فيها على هؤلاء الذين ارتفعوا أو
ارتفع الناس بهم إلى منبر أبي ومقامه، ولم يعرفوا لا ل محمد صلى الله عليه وآله وسلم
حقوقهم، ولا لبيتهم حرمة تصونه من الإحراق (2) والتخريب، ذكريني
بمشاهد أبي وغزواته ألم يكن يقص علي ألوانا من بطولة أخيه وصهره
واستبساله في الجهاد (3)، وتفوقه على سائر الأنداد، ووقوفه إلى صف
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أشد الساعات، وأعنف المعارك التي فر فيها فلان وفلان
وتقاصر عن اقتحامها (4) الشجعان. أيصح بعد هذا أن نضع أبا بكر على منبر
النبي وننزل بعلي عما يستحق من مقام؟!

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 312.
(2) إشارة إلى التهديد بإحراق بيت الزهراء عليها السلام، راجع: الإمامة والسياسة / ابن قتيبة: 12،
والطبري في تاريخه 2: 233 طبعة دار الكتب العلمية - بيروت، شرح نهج البلاغة / ابن أبي
الحديد 6: 47 - 48، رواية تنص على أن عمر بن الخطاب جاء إلى بيت فاطمة عليها السلام في
عصابة في رجال من الأنصار ونفر من المهاجرين، فقال: (والذي نفسي بيده لتخرجن إلى
البيعة أو لأحرقن البيت عليكم).
(3) راجع تاريخ الطبري 2: 25 و 65 و 66، عندما قتل علي عليه السلام طلحة بن عثمان صاحب
لواء المشركين... وقتل أصحاب الألوية، أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من المشركين،
فقال: (احمل عليهم)، فحمل عليهم ففرق جمعهم، وقتل عمرو الجمحي، ثم أبصر
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من المشركين، فقال لعلي: (احمل عليهم)، فحمل عليهم ففرق
جمعهم، وقتل شبية بن مالك. فقال (جبريل) عليه السلام: (يا رسول الله إن هذه للمواساة)،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه مني وأنا منه)، فقال (جبريل): (وأنا منكما...).
(4) راجع: رواية سعيد بن أبي وقاص في صحيح مسلم 4: 1873، صحيح الترمذي 5:
596، الصواعق المحرقة / ابن حجر: 143 فهي تنطق بهذا المعنى.
26

خبريني يا ذكريات أبي العزيز أليس أبو بكر هو الذي لم يأتمنه الوحي
على تبليغ (1) آية للمشركين؟ وانتخب للمهمة عليا، فماذا يكون معنى هذا
إن لم يكن معناه أن عليا هو الممثل الطبيعي للاسلام الذي يجب أن تستند
إليه كل مهمة لا يتيسر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرتها؟
إني لأتذكر بوضوح ذلك اليوم العصيب الذي أرجف فيه المرجفون
لما استخلف أبي عليا على المدينة وخرج إلى الحرب، فوضعوا لهذا
الاستخلاف (2) ما شاؤوا من تفاسير، وكان علي ثابتا كالطود لا تزعزعه
مشاغبات المشاغبين، وكنت أحاول أن يلتحق بأبي ليحدثه بحديث الناس،
وأخيرا لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم رجع متهلل الوجه ضاحك الأسارير، تحمله
الفرحة إلى قرينته الحبيبة ليزف إليها بشرى لا بمعنى من معاني الدنيا بل
بمعنى من معاني السماء. فقص علي كيف استقبله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورحب به
وقال له: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (3)،
وهارون موسى كان شريكا له في الحكم، وإماما لامته، ومعدا لخلافته،
فلابد أن يكون هارون محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليا للمسلمين وخليفته فيهم من بعده.

(1) إشارة إلى قصة تبليغ سورة براءة، وهي في مسند الأمام أحمد بن حنبل 1: 3 طبعة دار
صادر - بيروت، وفي الكشاف / الزمخشري 2: 243، قال: (روي أن أبا بكر لما كان ببعض
الطريق لتبليغ سورة براءة، هبط جبرائيل عليه السلام فقال: (يا محمد لا يبلغن رسالتك إلا رجل
منك، فأرسل عليا...). راجع الرواية أيضا في صحيح الترمذي 5: 594.
(2) راجع تفصيل الرواية في تاريخ الطبري 2: 182 - 183، البداية والنهاية / ابن كثير
الدمشقي 7: 340.
(3) راجع: التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم / الشيخ منصور علي ناصف 3:
332، قال: رواه الشيخان والترمذي، صحيح مسلم 4: 1873، خصائص النسائي: 48 -
50. (الشهيد)
27

ولما وصلت إلى هذه النقطة من أفكارها المتدفقة صرخت إن هذا هو
الانقلاب الذي أنذر تعالى في كتابه إذ قال: (و 10 ما محمد إلا رسول رسول قد خلت
من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) (1). فها هم الناس قد
انقلبوا على أعقابهم، واستولى عليهم المنطق الجاهلي الذي تبادله الحزبان
في السقيفة حين قال أحدهما: (نحن أهل العزة والمنعة، وأولوا العدد
والكثرة، وأجابه الاخر: من ينازعنا سلطان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن أولياؤه
وعترته) (2) وسقط الكتاب والسنة في تلك المقاييس ثم أخذت تقول:
يا مبادئ محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جرت في عروقي منذ ولدت كما يجري
الدم في العصب، إن عمر الذي هجم عليك في بيتك المكي الذي أقامه النبي
مركزا لدعوته قد هجم على آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دارهم وأشعل النار فيها
أو كاد.. (3).
يا روح أمي العظيمة إنك ألقيت علي درسا خالدا في حياة النضل
الإسلامي بجهادك الرائع في صف سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم وسوف أجعل من
نفسي خديجة علي في محنته القائمة (4).

(1) آل عمران / 144.
(2) راجع تفصيل ذلك في أخبار السقيفة / تاريخ الطبري 2: 234 وما بعدها، شرح نهج
البلاغة / ابن أبي الحديد 6: 6 - 9، فقد نقلا هذه المحاورات والمداخلات.
(3) في هذه المسألة التي كثر فيها الكلام، راجع: تاريخ الطبري 2: 233، أخرج عن ابن
حميد بسند قال: أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه رجال من المهاجرين فقال: (والله
لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة...).
(4) إشارة إلى موقف زوج الرسول الكريم خديجة الكبرى التي خصها الله بالكرامة في
موقفها من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند محنته مع قريش في تكذيبه.
28

لبيك لبيك يا أماه إني أسمع صوتك في أعماق روحي يدفعني إلى
مقاومة الحاكمين.
فسوف أذهب إلى أبي بكر لأقول له: (لقد جئت شيئا فريا، فدونكها
مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد،
والموعد القيامة (1)، ولأنبه المسلمين إلى عواقب فعلتهم والمستقبل القاتم
الذي بنوه بأيديهم وأقوال: (لقد لقحت فنظرة ريثما تحلب، ثم احتلبوها
طلاع القعب دما عبيطا، وهناك يخسر المبطلون، ويعرف التالون، غب ما
أسس الأولون) (2).
ثم اندفعت إلى ميدان العمل وفي نفسها مبادئ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وروح
خديجة، وبطولة علي، وإشفاق عظيم على هذه الأمة من مستقبل مظلم.
طريق الثورة:
لم يكن الطريق الذي اجتازته الثائرة طويلا، لأن البيت الذي انبعث منه شرر
الثورة ولهيبها هو بيت علي عليه السلام، بالطبع الذي كان يصطلح عليه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيت النبوة (3)، وهو جار المسجد (4) لا يفصل بينهما سوى جدار

(1) من خطبتها، راجع: شرح نهج البلاغة 16: 212.
(2) من خطبتها، راجع: شرح نهج البلاغة 16: 212.
(3) ينقل الرواة والمؤرخون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استمر أكثر من ستة أشهر بعد نزول آية
التطهير يقف على باب دار علي وفاطمة عليها السلام، عند ذهابه إلى الصلاة وهو يقول: (السلام
عليكم يا نهل البيت)، راجع: مسند الأمام أحمد بن حنبل 3: 285 طبعة دار صادر،
المستدرك على الصحيحين / الحاكم ا لنيسابوري 3: 158.
(4) في مسند أحمد بن حنبل 4: 369، وفي تاريخ ابن كثير 3: 355، كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبواب شارعة في المسجد، فأمر رسول الله بسد هذه الأبواب إلا باب علي عليه السلام.
29

واحد، فلعلها دخلته من الباب المتصل به، والمؤدي إليه من دارها مباشرة،
كما يمكن أن يكون مدخلها الباب العام. ولا يهمنا تعيين أحد الطريقين،
وإن كنت أرجح أنها سلكت الباب العام لأن سياق الرواية التاريخية التي حكت لنا هذه الحركة الدفاعية يشعر بهذا، فإن دخولها من الباب الخاص لا
يكلفها سيرا في نفس المسجد، ولا اجتياز طريق بينه وبين بيتها، فمن أين
للراوي أن يصف مشيها، وينعته بأنه لا يخرم مشية (1) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو
لم يكن معها بالطبع؟! ولو تصورنا أنها سارت في نفس المسجد، لا ينتهي
سيرها بالدخول على الخليفة، وإنما يبتدي بذلك، لأن من دخل المسجد
صدق عليه أنه دخل على من فيه، وإن سار في ساحته من أن الراوي يجعل
دخولها على أبي بكر متعقبا لمشيها، وهذا وغيره يكون قرينة على ما
استقريناه.
النسوة:
وتدلنا الرواية على أن على الزهراء كانت تصحب معها نسوة (2) من قومها وحفدتها
كما سبق ذكره، ومرد هذه الصحبة وذلك الاختيار للباب العام إلى أمر
واحد، وهو تنبيه الناس، وكسب التفاتهم باجتيازها في الطريق مع تلك
النسوة ليجتمعوا في المسجد، ويتهافتوا حيث ينتهي بها السير بقصد التعرف

(1) راجع الرواية، وأن مشيها لا يخرم مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. شرح نهج البلاغة / ابن أبي
الحديد 16: 211.
(2) المصدر السابق.
30

على ما تريده، وتعزم عليه من قول أو فعل، وبهذا تكون المحاكمة علنية
تعيها أسماع عامة المسلمين في ذلك الوسط المضطرب.
ظاهرة:
سبق أن الرواية التاريخية جاءت تنص على أن الزهراء لم تكن لتخرم في مشيتها
مشية أبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
ويتسع لنا المجال لفلسفة هذا التقليد الدقيق، فلعله كان طبيعة قد
جرت عليها في موقفها هذا بلا تكلف ولا اعتناء خاص، ولى هذا ببعيد
فإنها (صلوات الله عليها) قد اعتادت أن تقلد أباها وتحاكيه في سائر أفعالها
وأقوالها، ويحتمل أن يكون لهذه المشابهة المتقنة وجه آخر بأن كانت
الحوراء قد عمدت في موقفها يو مذاك إلى تقليد أبيها في مشيه عن التفات
وقصد فأحكمت التمثيل، وأجادت المحاكاة، فلم تكن لتخرم مشية
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأرادت بهذا أن تستولي على المشاعر وإحساس الناس،
وعواطف الجمهور بهذا التقليد البا هر الذي يدفع بأفكار هم إلى سفر تصير،
وتجول لذيذ في الماضي القريب حيث عهد النبوة المقدس، والأيام
الضواحك التي قضوها تحت ظلال نبيهم الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون في إرهاف
هذه الاحساسات وصقلها صقلا عاطفيا ما يمهد للزهراء الشروع في
مقصودها، ويوطئ القلوب لتقبل دعوتها الصارخة، واستجابة استنقاذها
الحزين، ونجاح محاولتها
اليائسة أو شبه اليائسة.
ولذا ترى أن الراوي نفسه أثرت عليه هذه الناحية أيضا من حيث يشعر
أو لا يشعر، ودفعه تأثره هذا إلى تسجيلها فيما سجل من تصوير الحركة
31

الفاطمية:
صرخة باركتها الزهراء، ورعتها السماء فكانت عند اندلاعها محط
الثقل الذي تركز عنده الحق المذبوح، والمحاولة اليائسة التي شاعت حولها
ابتسامات أمل استحالت بعد انتهائها إلى عبوس مرير، ويأس ثابت،
واستسلام فرضته حياة الناس الواقعة يو مذاك.
ثورة لم تكن لتقصد بها الثائرة نتيجة لها على ما يطرد في الثورات
الأخرى بقدر ما كانت تهدف إلى تثبيت الثورة لذاتها، وتسجيلها فيما
يسجله التاريخ في سطوره البارزة، فكانت الثورة على هذا بنفسها تؤدي
الغرض كاملا غير منقوص، وهذا ما وقع بالفعل وبه نفسر الحكم بنجاحها
وإن فشلت كما سنوضحه في موقع آخر من هذا الكتاب.
32

الفصل الثاني
فدك
بمعناها الحقيقي والرمزي
* بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت
عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين.
(قرين الزهراء) أمير المؤمنين عليه السلام
(نهج البلاغة / تنظيم صبحي الصالح: 416)
33

(الموقع:)
فدك: قرية في الحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، وهي أرض
يهودية في مطع تاريخها المأثور (1). وكان يسكنها طائفة من اليهود، ولم
يزالوا على ذلك حتى السنة السابعة حيث قذف الله بالرعب في قلوب أهليها
فصالحوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصف من فدك وروي أنه صالحهم عليها
كلها (2).
(فدك في أدوارها الأولى:)
وابتدأ بذلك تاريخها الإسلامي، فكانت ملكا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنها مما لم

(1) راجع معجم البلدان / ياقوت الحموي 4: 238 - 239 طبعة دار احياء التراث العربي
- بيروت - 1399.
(2) راجع: فتوح البلدان / البلاذري: 42 - 46، وما كان من أمر فدك ومصالحة أهلها رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم على النصف، وأنها خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها لم يوجف عليها
بخيل ولا ركاب. وفي ص 46 قال: (ولما كانت سنة عشر ومائتين أمر أمير المؤمنين
المأمون عبد الله بن هار ون الرشيد، فدفعها إلى ولد فاطمة، وكتب بذلك إلى قثم بن جعفر عامله
على المدينة...).
35

يوجف عليها بخيل ولا ركاب (1)، ثم قدمها لابنته الزهراء (2)، وبقيت عندها
حتى توفي أبوها صلى الله عليه وآله وسلم فانتزعها الخليفة الأول رضى عنه الله - على حد تعبير صاحب
الصواعق المحرقة (3) - وأصبحت من مصادر المالية العامة وموارد ثروة
الدولة يو مذاك، حتى تولى عمر الخلافة فدفع فدكا إلى ورثة (4)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبقيت فدك عند آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن تولى الخلافة عثمان بن
عفان فأقطعها مروان بن الحكم على ما قيل (5)، ثم يهمل التاريخ أمر فدك
بعد عثمان فلا يصرح عنها بشئ. ولكن الشئ الثابت هو أن أمير المؤمنين
عليا انتزعها من مروان على تقدير كونها عنده في خلافة عثمان - كسائر ما
نهبه بنو أمية في أيام خليفتهم.
(في عهد أمير المؤمنين:)
وقد ذكر بعض المدافعين عن الخليفة في مسألة فدك أن عليا لم يدفعها عن
المسلمين بل اتبع فيها سيرة أبي بكر، فلو كان يعلم بصواب الزهراء وصحة
دعواها ما انتهج ذلك المنهج.
ولا أريد أن أفتح الجواب بحث التقية على مصراعيه وأوجه بها

(1) كما هو مقتضى النص القرآني: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا
ركاب) الحشر / 6.
(2) فتوح البلدان: 44.
(3) راجع: الصواعق المحرقة: 38.
(4) راجع: شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 213.
(5) فتوح البلدان: 44، إن بني أمية اصطفوا فدك وغيروا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، شرح نهج
البلاغة 16: 216.
36

عمل أمير المؤمنين، وإنما أمنع أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام قد سار على
طريقة الصديق، فإن التاريخ لم يصرح بشئ من ذلك، بل صرح بأن أمير
المؤمنين كان يرى فدك لأهل البيت، وقد سجل هذا الرأي بوضوح في
رسالته إلى عثمان بن حنيف (1) كما سيأتي.
فمن الممكن أنه كان يخص ورثة الزهراء وهم أولادها وزوجها
بحاصلات فدك، وليس في هذا التخصيص ما يوجب إشاعة الخبر، لأن
المال كان عنده وأهله الشرعيون هو وأولاده. كما يحتمل أنه كان ينفق
غلاتها في مصالح المسلمين برضى منه ومن أولاده عليهم الصلاة
والسلام (2)، بل لعلهم أوقفوها وجعلوها من الصدقات العامة.
(في فترة الأمويين:)
ولما ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة أمعن في السخرية وأكثر من
الاستخفاف بالحق المهضوم، فأقطع مروان بن الحكم ثلث فدك، وعمر بن
عثمان ثلثها، ويزيد ابنه ثلثها الاخر، فلم يزالوا يتداولونها (3) حتى خلصت
كلها لمروان بن الحكيم أيام ملكه، ثم صفت لعمر بن عبد العزيز بن مروان،
فلما تولى هذا الأمر رد فد ك على ولد فاطمة عليها السلام وكتب إلى واليه على

(1) راجع: شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 208، رسالة الإمام عليه السلام إلى عثمان بن
حنيف - (نعم كانت في أيدينا فدك...).
(2) وهذا أقرب الاحتمالات، لأن الأول تنفيه رسالة أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف إذ
يقول: (وسخت عنها نفوس آخرين...)، والثالث يبعده قبول الفاطميين لفدك. (الشهيد)
(3) راجع: شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 216، فتوح البلدان / البلاذري: 46، قال:
(ثم ولي معاوية فأقطعها (فدك) مروان بن الحكم..).
37

المدينة أبى بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك، فكتب إليه: (إن فاطمة عليها السلام
قد ولدت في آل عثمان وآل فلان وفلان فعلى من أرد منهم؟ فكتب إليه: أما
بعد، فإني لو كتبت إليك أمرك أن تذبح بقرة لسألتني ما لونها فإذا ورد عليك
كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة عليها السلام من علي عليه السلام) (1)، فنقمت بنو أمية ذلك
على عمر بن عبد العزيز وعاتبوه فيه وقالوا له: (هجنت فعل الشيخين).
وقيل: إنه خرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة فلما عاتبوه على
فعله قال لهم: (إنكم جهلتم وعلمت، ونسيتم وذكرت، إن أبا بكر بن
محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني، ويرضيني ما أرضاها) (2) وإن فدك
كانت صافية على عهد أبي بكر وعمر ثم صار أمرها إلى مروان فوهبها
لعبد العزيز أبي فورثتها أنا واخوتي عنه فسألتهم أي يبيعوني حصتهم منها فمن
بائع وواهب حتى استجمعت لي فرأيت أن أردها على ولد فاطمة)، فقالوا
له: (فإن أبيت إلا هذا فامسك الأصل وأقسم الغلة، ففعل) (3).
ثم انتزعها يزيد بن عبد الملك من أولاد فاطمة فصارت في أيدي بني
مروان حتى انقرضت دولتهم (4).

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 278.
(2) الحديث أخرجته الصحاح والمسانيد، راجع: التاج الجامع للأصول في أحاديث
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم / الشيخ منصور علي ناصف 3: 353، الطبعة الثالثة - مكتبة ياموق -
استانبول 1381 ه‍. وقد مر تخريجه أيضا.
(3) راجع: فتوح البلدان / البلاذري: 46، شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 278.
(4) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 216.
38

(في فترة العباسيين:)
فلما قام أبو العباس السفاح بالأمر وتقلد الخلافة ردها على عبد الله بن
الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب ثم قبضها أبو جعفر المنصور في
خلافته من بني الحسن وردها المهدي بن المنصور على الفاطميين ثم قبضها
موسى بن المهدي من أيديهم (1).
ولم تزل في أيدي العباسيين حتى تولى المأمون الخلافة فردها على
الفاطميين سنة (210 ه‍) وكتب بذلك إلى قثم بن جعفر عامله على المدينة:
(أما بعد، فإن أمير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والقرابة
به أولى من استن سنته، ونفذ أمره، وسلم لمن منحه منحة وتصدق عليه
بصدقة منحته وصدقته، وبالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته وإليه في العمل
بما يقربه إليه رغبته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطى فاطمة بنت رسول الله
فدك وتصدق بها عليها، وكان ذلك أمرا ظاهرا معروفا لا اختلاف فيه بين آل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم تزل تدعي منه ما هو أولى به من صدق عليه، فرأى أمير
المؤمنين أن يردها إلى ورثتها ويسلمها إليهم تقربا إلى الله تعالى بإقامة حقه
وعدله وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتنفيذ أمره وصدقته، فأمر بإثبات ذلك في
دواوينه والكتاب به إلى عماله، فلئن كان ينادى في كل موسم بعد أن قبض الله نبيه
صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكر كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك فيقبل قوله
وتنفذ عدته، إن فاطمة (رضي الله عنها) لأولى بأن يصدق قولها فيما جعل

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 216 - 217.
39

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها، وقد كتب
أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري - مولى أمير المؤمنين - يأمره برد فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة إليها وما فيها من الرقيق والغلات وغير
ذلك، وتسليمها إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين
ابن علي بن أبي طالب ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن
علي بن أبي طالب لتولية أمير المؤمنين إياهما القيام بها لأهلها. فاعلم ذلك
من رأى أمير المؤمنين وما ألهمه الله من طاعته ووفقه له من التقرب إليه
وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأعلمه من قبلك، وعامل محمد بن يحيى ومحمد بن
عبد الله بما كنت تعامل به المبارك الطبري، وأعنهما على ما في عمارتها
ومصلحتها ووفور غلاتها إن شاء الله والسلام (1).
ولما بويع المتوكل على الله انتزعها من الفاطميين وأقطعها عبد الله بن
عمر البا زيار وكان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده
الكريمة، فوجه عبد الله بن عمر البازيار رجلا يقال له: بشران بن أبي أمية
الثقفي إلى المدينة فصرم تلك النخيل ثم عاد إلى البصرة ففلج (2).
وينتهي آخر عهد الفاطميين بفدك بخلافة المتوكل ومنحه إياها عبد الله
ابن عمر البازيار (3).
هذه إلمامة مختصرة بتاريخ فدك المضطرب الذي لا يستقيم على خط
ولا يجمع على قاعدة، وإنما حاكت أكثره الأهواء، وصاغته الشهوات على
ما اقتضته المطامع والسياسات الوقتية، وعلى هذا فلم يخل هذا التاريخ من

(1) فتوح البلدان / البلاذري: 46 - 47.
(2) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 217.
(3) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 217.
40

اعتدال واستقامة في أحايين مختلفة، وظروف متباعدة، حيث توكل فدك
إلى أهلها وأصحابها الأولين. ويلاحظ أن مشكلة فدك كانت قد حازت
أهمية كبرى بنظر المجتمع الإسلامي وأسياده، ولذا ترى حلها يختلف
باختلاف سياسة الدولة، ويرتبط باتجاه الخليفة العام نحو أهل البيت
مباشرة، فهو إذا استقام اتجاهه، واعتدل رأيه، رد فدك على الفاطميين، وإذا
لم يكن كذلك وقع انتزاع فدك في أول القائمة من أعمال ذلك الخليفة.
القيمة المعنوية والمادية لفدك:
ويدلنا على مدى ما بلغته فدك من القيمة المعنوية في النظر الإسلامي قصيدة
دعبل الخزاعي التي أنشأها حينما رد المأمون فدك ومطلعها:
أصبح وجه الزمان قد ضحكا * برد مأمون هاشم فدكا (1)
وقد بقيت كلمة بسيطة وهي أن فدك لم تكن أرضا صغيرة أو مزرعا
متواضعا كما يظن البعض، بل الأمر الذي أطمئن إليه أنها كانت تدر على
صاحبها أموالا طائلة تشكل ثروة مهمة وليس علي بعد هذا أن أحدد الحاصل
السنوي منها وإن ورد في بعض طرقنا الارتفاع به إلى أعداد عالية جدا.
ويدل على مقدار القيمة المادية لفدك أمور:
(الأول) ما سيأتي من أن عمر منع (2) أبا بكر من ترك فدك للزهراء
لضعف المالية العامة مع احتياجها إلى التقوية لما يتهدد الموقف من حروب
الردة وثروات العصاة.

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 217.
(2) راجع: السيرة الحلبية 3: 391، شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 234.
41

ومن الجلي أن أرضا يستعان بحاصلاتها على تعديل ميزانية الدولة،
وتقوية مالياتها في ظروف حرجة كظرف الثورات والحروب الداخلية لا بد
أنها ذات نتاج عظيم.
(الثاني) قول الخليفة لفاطمة في محاورة له معها حول فدك: (إن هذا
المال لم يكن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما كان مالا من أموال المسلمين يحمل النبي به
الرجال وينفقه في سبيل الله)
(1)، فإن تحميل الرجال لا يكون إلا بمال
مهم تتقوم به نفقات الجيش.
(الثالث) ما سبق من تقسيم معاوية فدك أثلاثا (2)، وإعطائه لكل من
يزيد ومروان وعمرو بن عثمان ثلثا، فإن هذا يدل بوضوح على مدى الثروة
المجتناة من تلك الأرض، فإنها بلا شك ثروة عظيمة تصلح لأن توزع على
امراء ثلاثة من أصحاب الثراء العريض والأموال الطائلة.
(الرابع) التعبير عنها بقرية كما في معجم البلدان (3)، وتقدير بعض
نخليها بنخيل الكوفة في القرن السادس الهجري كما في شرح النهج لابن
أبي الحديد (4).

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 214.
(2) المصدر السابق 16: 216.
(3) معجم البلدان / الحموي 4: 238، فتوح البلدان: 45، قال: حدثنا سريج بن يونس قال:
أخبر إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن الزهري في قول الله تعالى: (فما أوجفتم عليه من
خيل ولا ركاب) قال: هذه قرى عربية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدك وكذا وكذا.
(4) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 236.
42

الفصل الثالث
تاريخ الثورة
قد كان بعدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم لما مضيت وحالت دونك الترب
شرح نهج البلاغة 16: 212
صبت علي مصائب لو أنها * صبت على الأيام صرن لياليا
قد كنت أرتع تحت ضل محمد * لا اختشي ضيما وكان جماليا
واليوم أخضع للذليل وأتقي * ضيمي وأدفع ظالمي بردائيا
الزهراء عليها السلام
43

(منهج دراسة التاريخ)
إذا كان التجرد عن المرتكزات، والأناة في الحكم، والحرية في التفكير
شروطا للحياة الفكرية المنتجة، وللبراعة الفنية في كل دراسة عقلية مهما
يكن نوعها، ومهما يكن موضوعها، فهي أهم الشروط الأساسية لإقامة بناء
تاريخي محكم لقضايا أسلافنا ترتسم فيه خطوط حياتهم التي صارت ملكا
للتاريخ، ويصور عناصر شخصياتهم التي عرفوها في أنفسهم أو عرفها الناس
يومئذ فيهم، ويتسع لتأملات شاملة لكل موضوع من موضوعات ذلك
الزمن المنصرم يتعرف بها على لونه التاريخي والاجتماعي ووزنه في
حساب الحياة العامة، أو في حساب الحياة الخاصة التي يعني بها الباحث،
وتكون مدارا لبحثه، كالحياة الدينية، والأخلاقية، والسياسية إلى غير ذلك
من النواحي التي يأتلف منها المجتمع الانساني على شرط أن تستمد هذه
التأملات كيانها النظري من عالم الناس المنظور لا من عالم تبتدعه
العواطف والمرتكزات، وينشئه التعبد والتقليد، ولا من خيال مجنج يرتفع
بالتوافه والسفاسف إلى الذروة، ويبني عليها ما شاء من تحقيق ونتائج، ولا
من قيود لم يستطع الكاتب أن يتحرر عنها ليتأمل ويفكر كما تشاء له أساليب
البحث العلمي النزيه.
45

وأما إذا جئنا للتاريخ لا لنسجل واقع الأمر خيرا كان أو شرا،
ولا لنجس دراستنا في حدود من مناهج البحث العلمي الخالص، ولا لنجمع
الاحتمالات والتقديرات التي يجوز افتراضها ليسقط منها على محك البحث
ما يسقط ويبقى ما يليق بالتقدير والملاحظة، بل لنستلهم عواطفنا وموروثاتنا
ونستمد من وحيها الأخاذ تاريخ أجيالنا السابقة، فليس ذلك تاريخا لأولئك
الأشخاص الذين عاشوا على وجه الأرض يوما ما، وكانوا بشرا من البشر
تتنازعهم ضروب شتى من الشعور والاحساس، وتختلج في ضمائرهم ألوان
مختلفة من نوازع الخير ونزعات الشر، بل هو ترجمة لأشخاص عاشوا في
ذهننا وطارت بهم نفوسنا إلى الآفاق العالية من الخيال.
فإذا كنت تريد أن تكون حرا في تفكيرك، ومؤرخا لدينا الناس
لا روائيا يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب، فضع عواطفك جانبا أو إذا شئت
فاملأ بها شعاب نفسك فهي ملك لا ينازعك فيها أحد، واستثن تفكيرك
الذي به تعالج البحث، فإنه لم يعد ملكك بعد أن اضطلعت بمسؤولية
التاريخ وأخذت على نفسك أن تكون أمينا ليأتي البحث مستوفيا لشروطه
قائما على أسس صحيحة من التفكير والاستنتاج (1).
كثيرة جدا هذه الأسباب التي تحول بين نقاد التاريخ وبين حريتهم
فيما ينقدون، وقد اعتاد المؤرخون أو أكثر المؤرخين بتعبير أصح، أن

(1) يلاحظ معالم المنهج العلمي الذي يحدده الأمام الشهيد الصدر رضوان الله عليه سواء في
قراءته التاريخ أو في كتابته، والخطوات التي يحددها رضوان الله عليه هنا هي ما تقتضيه
أصول البحث التاريخي.
راجع: منهج البحث التاريخي / الدكتور حسن عثمان، طبعة دار المعارف بمصر.
46

يقتصروا على ضروب معينة من هندسة الحياة التي يؤرخونها، وأن يصوغوا
التاريخ صياغة قد يظهر فيها الجمال الفني أحيانا حينما يتوسع الباحث في
انطباعاته عن الموضوع، ولكنها صورة باهتة في أكثر الأحايين ليس فيها ما
في دنيا الناس التي تصورهم من معاني الحياة وشؤونها المتدفقة بألوان من
النشاط، والحركة، والعمل، وسوف تجد فيما يأتي أمثلة بمقدار ما يتسع له
موضوعنا من الزمن الدقيق الذي ندرسه في هذه الفصول أعني الظرف الذي
تلا وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقررت فيه المسألة الأساسية في تاريخ الإسلام على
شكل لا يتغير، وهي نوع السلطة التي ينبغي أن تتولى أمور المسلمين.
(تقويم تاريخ صدر الإسلام:)
كلنا نود أن يكون التاريخ الإسلامي في عصره الأول الزاهر طاهرا كل
الطهر، بريئا مما يخالط الحياة الإنسانية من مضاعفات الشر ومزالق الهوى،
فقد كان عصرا مشعا بالمثاليات الرفيعة، إذ قام على إنشائه أكبر المنشئين
للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الإطلاق، وارتقت فيه
العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم،
فقد عكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحه في روح ذلك العصر، فتأثر بها وطبع
بطابعها الإلهي العظيم، بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم
يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار
الوجود وإليه تسير، كما كان أستاذهم الأكبر الذي فنى الوجود المنبسط كله
بين عينيه ساعة هبوط الرسالة السماوية عليه. فلم يكن يرى شيئا ولا يسمع
صوتا سوى الصوت الإلهي المنبعث من كل صوب وحدب، وفي كل جهة
من جهات الوجود، وناحية من نواحي الكون يعلن تقليده الشارة الكبرى.
47

إن عصرا تلغى فيه قيمة الفوارق المادية على الإطلاق، ويستوي فيه
الحاكم والمحكوم في نظر القانون (1)، ومجالات تنفيذه، ويجعل مدار القيمة
المعنوية، والكرامة المحترمة فيه تقوى الله (2) التي هي تطهير روحي،
وصيانة للضمير، وارتفاع بالنفس إلى آفاق من المثالية الرفيعة، ويحرم في
عرفه احترام الغني لأنه غني، وإهانة الفقير لأنه فقير، ولا يفرق فيه بين
الأشخاص إلا بمقدار الطاقة الانتاجية (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (3).
ويتسارع فيه إلى لجهاد لصالح النوعي الإنساني الذي معناه إلغاء مذهب
السعادة الشخصية في هذه ا لدنيا، وإخراجها عن حساب الأعمال (4).
(أقول) إن العصر الذي تجتمع له كل هذه المفاخر لهو خليق بالتقديس
والتبجيل والإعجاب والتقدير، ولكن ماذا أراني دفعت إلى التوسع في أمر
لم أكن أريد أن أطيل فيه؟ وليس لي أن أفرط في جنب الموضوع الذي
أحاوله بالتوسع في أمر آخر، ولكنها الحماسة لذلك العصر هي التي دفعتني
إلى ذلك، فهو بلا ريب زين العصور في الروحانية والاستقامة. أنا أفهم هذا

(1) راجع الحادثة التاريخية المشهورة في موقف الإمام علي عليه السلام في مجالس القضاء،
وكذلك ما جرى عليه الأمر في تاريخ القضاء الإسلامي. لاحظ الإشارة إلى ذلك في شرح
نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 269.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات / 13.
(3) البقرة / 286.
(4) إشارة إلى الاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس من أجل الإسلام ورفع الظلم ونصرة المستضعفين
كما في قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها
وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى
يأتي الله بأمره...) التوبة / 24.
48

جيدا، وأوافق عليه متحمسا (1)، ولكني لا أفهم أن يمنع عن التعمق في
الدرس العلمي، أو التمحيص التاريخي لموضوع كموضوعات الساعة التي
نتكلم عنها من مراحل ذلك الزمن، أو يحظر علينا أن نبدأ البحث في مسألة
فدك على أساس أن أحد الخصمين كان مخطئا في موقفه بحسب موازين
الشريعة ومقاييسها، أو أن نلاحظ أن قصد الخلافة وفكرة السقيفة لم تكن
مرتجلة ولا وليدة يومها إذا دلنا على ذ لك سير الحوادث حينذاك، وطبيعة
الظروف المحيطة بها.
وأكبر الظن أن كثيرا منا ذهب في تعليل مناقب ذلك العصر ومآثره
مذهبا جعله يعتقد أن رجالات الزمن الخالي، وبتعبير أوضح تحديدا أن أبا
بكر وعمر وأضرابهما الذين هم من موجهي الحياة العامة يومئذ لا يمكن أن
يتعرضوا لنقد أو محاكمة، لأنهم بناة ذلك العصر، والواضعون لحياته
خطوطها الذهبية، فتاريخهم تاريخ ذلك العصر، وتجريدهم عن شئ من
مناقبهم تجريد لذلك العصر عن مثاليته التي يعتقدها فيه كل مسلم.
وأريد أن أترك لي كلمة مختصرة في هذا الموضوع فيها مادة لبحث
طويل، ولمحة من دراسة مهمة قد أعرض لها في فرضة أخرى من فرص
التأليف، وأكتفي الان أن أتساءل عن نصيب هذا الرأي من الواقع.

(1) لاحظ التقويم الدقيق للحالة الإسلامية في صدر الإسلام، وزمن الخلفاء الراشدين،
ومدى التقدير العالي لمناقبية ذلك العصر، ومع ذلك فإن الأمام الشهيد رضوان الله عليه
لا يريد أن يقع تحت جاذبية الانبهار والإعجاب بذلك العصر ويغمض النظر عما وقع فيه
من مفارقات، تدعو إلى الدراسة والبحث والتحليل والتحقيق وصولا إلى الرأي الأقرب
إلى الصواب.
49

صحيح أن الإسلام في أيام الخليفتين كان مهيمنا، والفتوحات متصلة
والحياة متدفقة بمعاني الخير، وجميع نواحيها مزدهرة بالانبعاث الروحي
الشامل، واللون القرآني المشع، ولكن هل يمكن أن نقبل أن التفسير الوحيد
لهذا وجود الصديق أو الفاروق على كرسي الحكم؟
(1) والجواب المفصل عن هذا السؤال نخرج ببيانه عن حدود الموضوع،
ولكنا نعلم أن المسلمين في أيام الخليفتين كانوا في أوج تحمسهم لدينهم،
والاستبسال في سبيل عقيدتهم، حتى إن التاريخ سجل لنا (إن شخصا
أجاب عمر حينما صعد يوما على المنبر وسأل الناس: لو صرفناكم عما
تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم صانعين؟ - إذن كنا نستتيبك فإن تبت قبلناك،
فقال عمر: وإن لم؟ - قال نضرب عنقك الذي فيه عيناك. فقال عمر:
الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من إذا اعوججنا أقام أودنا) (2).
ونعلم أيضا أن رجالات الحزب المعارض - وأعني به أصحاب علي -
كانوا بالمرصاد للخلافة الحاكمة، وكان أي زلل وانحراف مشوه للون
الحكم حينذاك كفيلا بأن يقلبوا الدنيا رأسا على عقب، كما قلبوها على
عثمان - يوم اشترى قصرا، ويوم ولى أقاربه، ويوم عدل عن السيرة النبوية
المثلى (3) - مع أن الناس في أيام عثمان كانوا أقرب إلى الميوعة (4) في الدين

(1) طرح مثل هذا الافتراض يعد منطقيا ومتسقا مع المنهج العلمي في صدد تقديم تفسير
دقيق للمرحلة التاريخية.
(2) القضية مشهورة في سيرة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. (3)
راجع: تاريخ الطبري 2: 651، فقد نقل المحاورة بين الخليفة عثمان والوفود التي
قدمت من مصر وغيرها للتفاوض معه، وفيها تصريح بهذه الأمور.
(4) المجموعة الكاملة لمؤلفات الدكتور طه حسين، المجلد الرابع: 268 - دار الكتاب
اللبناني - بيروت.
50

واللين والدلة منهم في أيام صاحبيه.
ونفهم من هذا أن الحاكمين كانوا في ظرف دقيق لا يتسع للتغيير
والتبديل في أسس السياسة ونقاطها الحساسة لو أرادوا إلى ذلك سبيلا،
لأنهم تحت مراقبة النظر الإسلامي العام الذي كان مخلصا كل الاخلاص
لمبادئه، وجاعلا لنفسه حق الأشراف على الحكم والحاكمين، ولأنهم
يتعرضون لو فعلوا شيئا من ذلك لمعارضة خطرة من الحزب الذي ما يزال
يؤمن بأن الحكم الإسلامي لا بد أن يكون مطبوعا بطابع محمدي خالص،
وأن الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يطبعه بهذا الطابع المقدس هو علي -
وارث رسول الله ووصيه وولي المؤمنين من بعده (1).
وأما الفتوحات الإسلامية فكان لها الصدارة في حوادث تلك الأيام
ولكننا جميعا نعلم أيضا أن ذلك لا يسجل للحكومة القائمة في أيام
الخليفتين بلونها المعروف مجدا في حساب التاريخ ما دام كل شأن من
شؤون الحرب ومعداته وأساليبه يتهيأ بعمل أشبه ما يكون بالعمل الاجماعي
من الأمة الذي تعبر به عن شخصيتها الكاملة تعبيرا عمليا خالدا، ولا يعبر عن
شخصية الحاكم الذي لم يصل إليه من لهيب الحرب شرر، ولم يستقل فيه
برأي، ولم يتهيأ له إلا بأمر ليس له فيه أدنى نصيب، فإن خليفة الوقت سواء
أكان وقت فتح الشام أو العراق ومصر لم يعلن بكلمة الحرب عن 20 قوة
حكومته ومقدرة شخصه على أن يأخذ لهذه الكلمة أهبتها، بل أعلن عن قوة

(1) تاريخ الطبري 3: 218 - 219 حديث الدار - طبعة المطبعة الحسينية بمصر، تفسير الخازن
3: 371 - طبعة دار المعرفة، الخصائص / النسائي: 86 - 87، المستدرك 3: 126.
51

الكلمة النبوية التي كانت وعدا قاطعا بفتح بلاد كسرى وقيصر (1) اهتزت له
قلوب المسلمين حماسة وأملا بل إيمانا ويقينا، ويحدثنا التاريخ أن كثيرا
ممن اعتزل الحياة العملية بعد رسول الله لم يخرج عن عزلته إلى مجالات
العمل إلا حين ذكر هذا الحديث النبوي، فقد كان هو والأيمان المتركز في
القلوب القوة هيأت للحرب كل ظروفه وكل رجاله وإمكانياته. وأمر
آخر هيأ للمسلمين أسباب الفوز، وأنالهم النصر في معارك الجهاد لا يتصل
بحكومة الشورى عن قرب أو بعد، وهو الصيت الحسن الذي نشره رسول
الله للاسلام في آفاق الدنيا، وأطراف المعمورة، فلم يكن يتوجه المسلمون
إلى فتح بلد من البلاد إلا كان أمامهم جيش آخر من الدعايات والترويجات
لدعوتهم ومبادئهم (2).
وفي أمر الفتوحات شئ آخر هو الوحيد الذي كان من وظيفة
الحاكمين وحدهم القيام به دون سائر المسلمين الذين هيئوا بقية الأمور
وهو ما يتلو الفتح من بث الروح الإسلامية، وتركيز مثاليات القرآن في البلاد
المفتوحة، وتعميق الشعور الوجداني والديني في الناس الذي هو معنى
وراء الشهادتين، ولا أدري هل يمكننا أن نسجل للخليفتين شيئا من البراعة
في هذه الناحية، أو نشك في ذلك كل الشك كما صار إليه بعض الباحثين،
وكما يدل عليه تاريخ البلاد المفتوحة في الحياة الإسلامية. لقد كانت
الظروف كلها تشارك الخليفتين في تكوين الحياة العسكرية المنتجة التي
قامت على عهدهما، وفي بناء الحياة السياسية الخاصة التي اتخذاها.

(1) راجع: تاريخ الطبري 2: 92.
(2) راجع: فتوح البلدان: 44، شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 210.
52

ولا أدري ماذا كان موقفهما لو قدر لهما ولعلي أن يتبادلوا ظروفهم
فيقف الصديق والفاروق موقف الأمام ويسود في تلك الظروف التي كانت
كلها تشجع على بناء سياسة، ومنهج لحكم جديد، وإنشاء حياة لها من
ألوان الترف، وضروب النعيم حظ عظيم، فهل كانا يعاكسان تلك الظروف
كما عاكسها أمير المؤمنين؟... فضرب بنفسه مثلا في الاخلاص للمبدأ
والنزاهة في الحكم.
وأنا لا أقصد بهذا أن أقول إن الخليفتين كانا مضطرين اضطرارا إلى
سيرة رشيدة في الحكم، واعتدال في السياسة والحياة، ومرغمين على
ذلك، وإنما أعني أن الظروف المحيطة بهما كانت تفرض عليهما ذلك سواء
أكانا راغبين فيه أو مكرهين عليه.
كما أني لا أريد أن أجردهما عن كل أثر في التاريخ، وكيف يسعني
شئ من ذلك، وهما اللذان كتبا يوم السقيفة سطور التاريخ الإسلامي كله،
وإنما عنيت أنهما كانا ضعيفي الأثر في بناء تاريخ أيامهما خاصة، وما
ازدهرت به من حياة مكافحة وحياة فاضلة.
(مع العقاد في دراسته)
أكتب هذا كله وبين يدي كتاب (فاطمة والفاطميون) للأستاذ عباس محمود
العقاد، وقد جئته بشوق بالغ لأرى ما يكتب في موضوع الخصومة بين
الخليفة والزهراء، وأنا على يقين من أن أيام التعبد (1) بأعمال السالفين

(1) يعني أن التقليد والمتابعة في الدراسة والتقويم سواء ما يتعلق بالشخصيات أم بالأحداث
التاريخية من دون تحقيق وتدقيق علمي، ما عاد لها وزن، ولا اعتبار في نظر العلم،
بالأخص ونحن نعيش في عصر اخضع كل شئ فيه إلى المحاكمة العلمية، والتحقيق العلمي.
53

وتصويبها على كل تقدير قد انتهت، وأن الزمان الذي يتحاشى فيه عن
التعمق في شئ من مسائل الفكر الإنساني دينا كانت، أو مذهبا أو تاريخا أو
أي شئ آخر قد مضى مع ما مضى من تاريخ الإسلام بعد أ ن طال قرونا.
ولعل الخليفة الأول كان هو أول من أعلن ذلك المذهب عندما صرخ في
وجه من سأله عن مسألة الحرية الإنسانية والقدر وهدده وتوعده (1) ولكن
أليس قد أراحنا الله تعالى من هذا المذهب الذي يسئ إلى روح الإسلام؟
وإذن فكان لي أن أتوقع بحثا لذيذا يتحفنا به الأستاذ في موضوع الخصومة
من شتى نواحيها، ولكن الواقع كان على عكس ذلك، فإذا بكلمة الكتاب
حول الموضوع قصيرة وقصيرة جدا وإلى حد أستبيح لنفسي أن أنقلها
وأعرضها عليك دون أن أطيل عليك، فقد قال:
(والحديث في مسألة فدك هو كذلك من الأحاديث التي لا تنتهي إلى
مقطع للقول متفق عليه، غير أن الصدق فيه: لا مراء أن الزهراء أجل من أن
تطلب ما ليس لها بحق وأن الصديق أجل من أن يسلبها حقها الذي تقوم به
البينة عليه، ومن أسخف ما قيل أنه إنما منعها فدك مخافة أن ينفق علي من
غلتها على الدعوة إليه، فقد ولي الخلافة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولم
يسمع أن أحدا بايعهم لمال أخذه منهم ولم يرد ذكر شئ من هذا في إشاعة
ولا في خبر يقين، وما نعلم تزكية لذمة الحكم من عهد الخليفة الأول
أوضح بينة من حكمه في مسألة فدك، فقد كان يكسب برضى فاطمة
ويرضى الصحابة برضاها وما أخذ من فدك شيئا لنفسه فيما ادعاه عليه مدع،

(1) سنن الدارمي: 53 - 54 - دار إحياء السنة النبوية.
54

وإنما هو الحرج في ذمة الحكم بلغ أقصاه بهذه القضية بين هؤلاء الخصوم
الصادقين المصدقين رضوان الله عليهم أجمعين انتهى)
(1). ونلاحظ قبل كل شئ أن الأستاذ شاء أن يعتبر البحث في مسألة فدك
لونا من ألوان النزاع التي ليس لها قرار، ولا يصل الحديث فيه إلى نتيجة فاصلة
ليقدم بذلك عذره عن التوفر على دراستها، واعتقد أن في محاكمات هذا
الكتاب التي سترد عليك جوابا عن هذا، ونلاحظ أيضا أنه بعد أن جعل مسألة
فدك من الأحاديث التي لا تنتهي إلى مقطع للقول متفق عليه، رأى أن فيها
حقيقتين لا مراء فيهما ولا جدال:
(أحدهما) أن الصديقة أرفع من أن تنالها تهمة بكذب.
و (الأخرى) أن الصديق أجل من أن يسلبها حقها الذي تثبته البينة. فإذا
لم يكن في صحة موقف الخليفة واتفاقه مع القانون جدال، ففيم الجدال
الذي لا قرار له؟! ولم لا تنتهي مسألة فدك إلى مقطع للقول متفق عليه؟!
وأنا أفهم أن للكاتب الحرية في أن يسجل رأيه في الموضوع أي
موضوع كما يشاء وكما يشاء له تفكيره بعد أن يرسم للقارئ مدارك (2) ذلك
الرأي وبعد أن يدخل تقديرات المسألة كلها في الحساب ليخرج منها بتقدير
معين، ولكني لا أفهم أن يقول أن المسألة موضوع لبحث الباحثين ثم لا
يأتي إلا برأي مجرد عن المدارك يحتاج إلى كثير من الشرح والتوضيح
وإلى كثير من البحث والنظر، فإذا كانت الزهراء أرفع من كل تهمة فما

(1) فاطمة الزهراء والفاطميون / عباس محمود العقاد - سلسلة الهلال.
(2) المدارك جمع مدرك، والمدرك في لغة الفقه وفي مصطلح الفقهاء هو: الدليل. راجع:
المصباح المنير 1: 192 - نشر دار الهجرة - قم المقدسة.
55

حاجتها إلى البينة؟ وهل تمنع التشريعات القضائية في الإسلام عن أن
يحكم العالم استنادا إلى علمه (1)؟ وإذا كانت تمنع عن ذلك فهل معنى هذا
أن يجوز في عرف الدين سلب الشئ من المالك؟ هذه أسئلة، ومعها أسئلة
أخرى أيضا في المسألة تتطلب جوابا علميا، وبحثا في ضوء أساليب
الاستنباط في الإسلام.
وأريد أن أكون حرا، وإذن فإني أستميح الأستاذ أن الاحظ أن تزكية
موقف الخليفة والصديقة معا أمر غير ممكن، لأن الأمر في منازعتهما لو
كان مقتصرا على مطالبة الزهراء بفدك وامتناع الخليفة عن تسليمها له لعدم
وجود مستمسك شرعي يحكم بواسطته لها بما تدعيه، وانتهاء المطالبة إلى
هذا الحد، لو سعنا أن نقول إن الزهراء طلبت حقها في نفس الأمر والواقع،
وإن الخليفة لما امتنع عن تسليمه لها لعدم تهيؤ المدرك الشرعي الذي تثبت
به الدعوى تركت مطالبتها، لأنها عرفت أنها لا تستحق فدك بحسب النظام
القضائي وسنن الشرع، ولكننا نعلم أن الخصومة بينهما أخذت أشكالا مختلفة
حتى بلغت مبلغ الاتهام الصريح من الزهراء وأقسمت على المقاطعة (2).

(1) راجع في جواز حكم الحاكم أو القاضي بعلمه / سنن البيهقي 10: 142، تنقيح الأدلة في
بيان حكم الحاكم بعلمه / السيد محمد رضا الحسيني / الأعرجي - المطبعة العلمية - قم، فهو
بحث تفصيلي استدلالي في المسألة. (2) راجع الرواية في صحيح البخاري، عن عروة عائشة 3: 1374، شرح نهج البلاغة /
ابن أبي الحديد 16: 281، وقال ابن أبي الحديد تعقيبا في ص 286: (وأما إخفاء القبر
وكتمان الموت - موت الزهراء عليها السلام - وعدم الصلاة وكل ما ذكره المرتضى - أي الشريف -
فيه فهو الذي يظهر ويقوى عندي، لأن الروايات به أكثر وأصح من غيرها، وكذلك القول
في موجدتها وغضبها...)، أعلام النساء 4: 123 - 124.
56

وإذن فنحن بين اثنتين: إحداهما أن نعترف بأن الزهراء قد ادعت
بإصرار ما ليس لها بحق في عرف القضاء الإسلامي والنظام الشرعي وإن
كان ملكها في واقع الأمر، والأخرى أن نلقي التبعة على الخليفة ونقول إنه
قد منعها حقها الذي كان يجب عليه أن يعطيها إياه أو يحكم لها بذلك على
فرق علمي بين التعبيرين يتضح في بعض الفصول الآتية، فتنزيه الزهراء عن
أن تطلب طلبا لا ترضى به حدود الشرع، والارتفاع بالخليفة عن أن يمنعها
حقها الذي تسخو به عليها تلك الحدود لا يجتمعان إلا إذا توافق النقيضان.
ولنترك هذا إلى مناقشة أخرى، فقد اعتبر الأستاذ حكم الخليفة في
مسألة فدك أوضح بينة ودليل على تزكيته وثباته على الحق وعدم تعديه عن
حدود الشريعة لأنه لو أعطى فدك لفاطمة لأرضاها بذ لك وأرضى الصحابة
برضاها. ولنفترض معه أن حدود القانون الإسلامي هي التي كانت تفرض
عليه أن يحكم بأن فدك صدقة، ولكن ماذا كان يمنعه عن أن ينزل للزهراء
عن نصيبه ونصيب سائر الصحابة الذين صرح الأستاذ بأنهم يرضون
بذلك؟... أكان هذا محرمات في عرف الدين أيضا؟ أو أن أمرا ما أوحى إليه
بأن لا يفعل ذلك، بل ماذا كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد أن أعطته
وعدا قاطعا بأن تصرف حاصلاتها في وجوه الخير والمصالح العامة؟
وأما ما استسخفه الكاتب من تعليل لحكم الخليفة فسوف نعرف في
هذا الفصل ما إذا كان سخيفا حقا.
إذا عرفنا أن مرتكزات الناس ليست وحيا من السماء فلا تقبل شكا ولا
جدالا، وأن درس مسائل السالفين ليس كفرا، ولا زندقة، ولا تشكيكا في
أعلام النبوة كما كانوا يقولون، فلنا أن نتساءل عما بعث الصديقة إلى البدء
57

بمنازعتها حول فدك على ذلك الوجه العنيف الذي لم يعرف أو لم يشأ أن
يعرف هيبة للسلطة المهيمنة، أو جلالا للقوة المتصرفة، يعصم الحاكمين
من لهيبها المتصاعد، وشررها المتطاير، وبقي الحكم من إ شعاعة نور متألقة
تلقي ضوءا عليه، فتظهر للتاريخ حقيقته مجردة عن كل ستار، بل كانت
بداية المنازعة ومراحلها نذير ثورة مكتسحة أو ثورة بالفعل عندما اكتملت
في شكلها الأخير، ويومها الأخير، تحمل كل ما لهذا المفهوم من مقدمات
ونتائج، ولا تتعرض لضعف أو تردد.
وما عساه أن يكون هدف السلطة الحاكمة، أو بالأحرى هدف
الخليفة رضى عنه الله نفسه في أن يقف مع الحوراء على طرفي الخط، أولم يكن يخطر
بباله أن خطته هذه تفتح له بابا في التاريخ في تعداد أولياته، ثم يذكر بينها
خصومة أهل البيت؟! فهل كان راضيا بأوليته هذه مخلصا لها حتى يستبسل
في امتناعه، وموقفه السلبي، بل الإيجابي المعاكس؟ أو أنه كان منقاد
للقانون، وملتزما بحرفيته في موقفه هذا كما يقولون، فلم يشأ أ ن يتعد حدود
الله تبارك وتعالى في كثير أو قليل، وإن لموقفه الغريب نجاه الزهراء صلة
بموقفه في السقيفة، وأعني بهذه ا لصلة الاتحاد في الغرض، أو اجتماع
الغرضين على نقطة واحدة (1). وبالأحرى أن تقوم على داثرة واحدة متسعة

(1) ينقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 16: 284 قال: (وسألت علي بن الفارقي
مدرس المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلت: فلم لم
يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم، ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع
ناموسه وحرمته وقلة دعايته، قال: لو أعطاها اليوم فد ك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا،
وادعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشئ،
لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى
بينة ولا شهود). قال ابن أبي الحديد: وهذا كلام صحيح.
58

اتساع دولة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها آمال بواسم، وموجات من الأحلام ضحك لها
الخليفة كثيرا وسعى في سبيلها كثيرا أيضا.
(بواعث الثورة)
إننا ندرك بوضوح، ونحن نلاحظ الظرف التاريخي الذي حف بالحركة
الفاطمية، أن البيت الهاشمي المفجوع بعميده الأكبر قد توفرت له كل
بواعث الثورة على الأوضاع القائمة، والانبعاث نحو وتغييرها وإنشائها إنشاء
جديدا، وأن الزهراء قد اجتمعت لها كل إمكانيات الثورة ومؤهلات
المعارضة التي قرر المعارضون أن تكون منازعة سلمية (1) مهما كلف الأمر.
وإننا نحس أيضا إذا درسنا الواقع التاريخي لمشكلة فدك ومنازعاتها
بأنها مطبوعة بطابع تلك الثورة، ونتبين بجلاء أن هذه المنازعات كانت في
واقعها ودوافعها ثورة على السياسة العليا وألوانها التي بدت للزهراء بعيدة
عما تألفه من ضروب الحكم، ولم تكن حقا منازعة في شئ من شؤون
السياسة المالية، والمناهج الاقتصادية التي سارت عليها خلافة الشورى،
وإن بدت على هذا الشكل في بعض الأحايين

(1) كان هناك إصرار عجيب من الإمام علي عليه السلام على أن تكون المعارضة سلمية لا تتعدى
حدود الاحتجاج وقطع الأعذار، ولو كلف ذلك أن يجر ابن أبي طالب ويسحب من بيته
سحبا للمبايعة، أو أن يتعرض البيت الطاهر إلى التهديد بالاحراق. ويلاحظ هنا أن الأمام
عليا عليه السلام عندما جاء، أبو سفيان، وقال له: لو شئت لأملأنها عليهم خيلا ورجالا، نهره
الإمام عليه السلام ورفض مبادرته.
راجع: شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 6: 47 - 49 وص 11 في احتجاج الإمام علي
عليه السلام بالحجة البالغة، وص 17 - 18 في موقف أبي سفيان، تاريخ الطبري 2: 233 و 237.
59

وإذا أردنا أن نمسك بخيوط الثورة الفاطمية من أصولها، أو ما يصح
أن يعتبر من أصولها، فعلينا أن ننظر نظره شاملة عميقة لنتبين حادثتين
متقاربتين في تاريخ الإسلام، كان أحدهما صدى للاخر وانعكاسا طبيعيا
له، وكانا معا يمتدان بجذور هما وخيوطهما الأولى إلى حيث قد يلتقي
أحدهما بالآخر أو بتعبير أصح إلى النقطة المستعدة في طبيعتها إلى أن تمتد
منها خيوط الحادثتين.
أحدهما: الثورة الفاطمية على الخليفة الأول التي كادت أن تزعزع
كيانه السياسي، وترمي بخلافته بين مهملات التاريخ.
والاخر: موقف ينعكس فيه الأمر فتقف عائشة أم المؤمنين (1) بنت
الخليفة الموتور في وجه علي زوج الصديقة الثائرة على أبيها.
وقد شاء القدر لكلتا الثائرتين أن تفشلا مع فارق بينهما مرده إلى
نصيب كل منهما من الرضا بثورتها، والاطمئنان الضميري إلى صوابها وحظ
كل منهما من الانتصار في حساب الحق الذي لا التواء فيه وهو أن الزهراء
فشلت بعد أن جعلت الخليفة يبكي ويقول: أقيلوني (2) بيعتي، والسيدة عائشة
فشلت فصارت تتمنى أنها لم تخرج إلى حرب (3) ولم تشق عصا طاعة.

(1) إشارة إلى يوم الجمل المشهور، وكان أبطاله الزبير وطلحة وعائشة أم المؤمنين وذلك
سنة 36 ه‍، وكان موقع المواجهة في البصرة.
راجع: تاريخ الطبري 3: 476 حوادث سنة 36 ه‍، مطبعة الاستقامة - القاهرة.
(2) راجع: أعلام النساء 4: 124، قال أبو بكر بعد المحاورة مع الزهراء: أقيلوني. تاريخ
الطبري 3: 353، وفيه: قال أبو بكر رضى عنه الله أجل، إني لا آسى على شئ من الدنيا إلا على
ثلاث فعلتهن، وودت أني تركتهن... وذكر منها: فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن
شئ)، شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 6: 41 في حبه للأمارة.
(3) راجع: تاريخ ابن الأثير 3: 111، تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي: 80 - 81، إصدار
مكتبة نينوى الحديثة - طهران.
60

هاتان الثورتان متقاربتان في الموضوع والأشخاص فلماذا لا تنتهيان
إلى أسباب متقاربة وبواعث متشابهة.
ونحن نعلم جيدا سر الانقلاب الذي طرأ على السيدة عائشة حين
إخبارها بأن عليا ولي الخلافة يرجع إلى الأيام الالى في حياة علي وعائشة
حينما كانت المنافسة على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين زوجته وبضعته.
ومن شأن هذه المنافسة أن تتسع في آثارها فتثبت مشاعر مختلفة من
الغيظ والتنافر بين الشخصين المتنافسين وتلف بخيوطها من حولهما من
الأنصار والأصدقاء، وقد اتسعت بالفعل في أحد الطرفين فكان ما كان بين
السيدة عائشة وعلي، فلا بد أن تتسع في الطرف الآخر فتعم من كانت تعمل
أم المؤمنين على حسابه في بيت النبي.
نعم إن انقلاب أم المؤمنين إنما هو من وحي ذكريات تلك الأيام التي
نصح فيها علي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يطلقها في قصة الإفك المعروفة (1).
وهذا النصح إن دل على شئ فإنه يدل على انزعاجه منها ومن
منافستها لقرينته، وعلى أن الصراع بين زوج الرسول وبضعته كان قد اتسع
في معناه وشمل عليا وغير علي ممن كان يهتم بنتائج تلك المنافسة وأطوارها.
(دوافع الخليفة الأول في موقفه)
نعرف من هذا أن الظروف كانت توحي إلى الخليفة الأول بشعور خاص

(1) راجع تفصيل الحادثة في صحيح البخاري 3: 24 طبعة الميمنية - مصر 1312 ه‍، تاريخ
الطبري 2: 113 حوادث سنة 6 ه‍.
61

نحو الزهراء وزوج الزهراء، ولا ننسى أنه هو الذي تقدم لخطبتها فرده
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم تقدم علي إلى ذلك فأجابه النبي إلى ما أراد (1). وذاك
الرد وهذا القبو ل يولدان في الخليفة إذا كان شخصا طبيعيا يشعر بما يشعر به
الناس، ويحس كما يحسون شعورا بالخيبة والغبطة لعلي - إذا احتطنا في
التعبير - وبأن فاطمة كانت هي السبب في تلك المنافسة بيه وبين علي التي
انتهت بفوز منافسه.
ولنلاحظ أيضا أن أبا بكر هو الشخص الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقرأ
سورة التوبة على الكافرين، ثم أرسل وراءه وقد بلغ منتصف الطريق
ليستدعيه ويعفيه من مهمته (2) لا لشئ إلا لأن الوحي شاء أن يضع أمامه
مرة أخرى منافسه في الزهراء الذي فاز بها دونه (3).
ولا بد أنه كان يراقب ابنته في مسابقتها مع الزهراء على الأولية لدى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتأثر بعواطفها كما هو شأن الاباء مع الأبناء.
وما يدرينا لعله اعتقد في وقت من الأوقات أن فاطمة هي التي دفعت
بأبيها إلى الخروج لصلاة الجماعة في المسجد يوم مهدت له أم المؤمنين التي

(1) الصواعق المحرمة / ابن حجر الهيتمي: 249 - دار الكتب العلمية - بيروت - ط 2 / 1414 ه‍،
قال: وأخرج أبو داود أن أبا بكر خطب فاطمة، فأعرض عنه رسول الله ثم عمر فأعرض عنه.
(2) راجع قصة تبليغ سورة براءة، مسند الأمام أحمد 1: 3 مطبعة دار صادر، الصواعق
المحرقة: 32، الخصائص / النسائي: 90 - 91.
(3) جاء في الصواعق / ابن حجر: 143 عن أنس قال: (بينما أنا قاعد عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ
غشيه الوحي، فلما سرى عنه، قال: إن ربي أمرني أن أزوج فاطمة من علي...)، أخرجه
ابن عسا كر... ثم قال تعليقا على رأي الذهبي: (أخرجه النسائي بسند صحيح وفيه رد على
الذهبي... وتبين أن للقصة أصلا أصيلا...).
62

كانت تعمل على حسابه فهي بيت النبي أن يؤم الناس ما دام النبي مريضا (1).
إن التاريخ لا يمكننا أن نترقب منه شرح كل شئ شرحا واضحا جليا
غير أن الأمر الذي تجمع عليه الدلائل أن من المعقول جدا أن يقف شخص
مرت به ظروف كالظروف الخاصة التي أحاطت بالخليفة من علي وفاطمة
موقفه التاريخي المعروف، وأن امرأة تعاصر ما عاصرته الزهراء في أيام أبيها
من منافسات حتى في شباك يصل بينها وبين أبيها حري بها أن لا تسكت إذا
أراد المنافسون أن يستولوا على حقها الشرعي الذي لا ريب فيه.
(أبعاد قضية فدك السياسية)
هذه هي الثورة الفاطمية في لونها العاطفي وهو لون من عدة ألوان أوضحها
وأجلاها اللون السياسي الغالب على أساليبها وأطوارها.
وأنا حين أقول ذلك لا أعني بالسياسة مفهومها الرائج في أذهان الناس
هذا اليوم المركز على الالتواء والافتراء، وإنما أقصد بها مفهومها الحقيقي
الذي لا التواء فيه. فالممعن في دراسة خطوات النزاع وتطوراته والأشكال
التي اتخذها لا يفهم منه ما يفهم من قضية مطالبة بأرض، بل يتجلى له منها
مفهوم أوسع من ذلك ينطوي على غرض طموح يبعث إلى الثورة ويهدف
إلى استرداد عرش مسلوب وتاج ضائع ومجد عظيم وتعديل أمة انقلبت
على أعقابها (2).

(1) سيرة ابن هشام - مج 3 / 4: 653، توجد رواية تشير إلى ذلك.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم
على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) آل عمران / 144.
وراجع الرواية التي تشير إلى ارتداد الناس وانكفائهم عن الإسلام حديث الحوض
المشهور، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا فرطكم على الحوض فيؤتى برجال أعرفهم فيمنعون مني،
فأقول أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدل
بعدي...، صحيح البخاري 8: 86 كتاب الفتن، الكشاف / الزمخشري 4: 811، تاريخ
الطبري 2: 245.
63

وعلى هذا كانت فدك معنى رمزيا يرمز إلى المعنى العظيم ولا يعني
تلك الأرض الحجازية المسلوبة، وهذه الرمزية التي اكتسبتها فدك في التي
ارتفعت بالمنازعة من مخاصمة عادية منكمشة في أفقها، محدودة في
دائرها إلى ثورة واسعة النطاق رحيبة الأفق.
أدرس ما شئت من المستندات التاريخية الثابتة للمسألة، فهل ترى
نزاعا ماديا، أو ترى اختلافا حول فدك بمعناها المحدود وواقعها الضيق، أو
ترى تسابقا على غلات أرض مهما صعد بها المبالغون وارتفعوا؟ فليست
شيئا يحسب له المتنازعون حسابا.
كلا! بل هي الثورة على أسس الحكم، والصرخة التي أرادت فاطمة
أن تقتلع بها الحجر الأساسي الذي بني عليه التاريخ بعد يوم السقيفة.
ويكفينا لإثبات ذلك أن نلقي نظرة على الخطبة التي خطبتها الزهراء
في المسجد أمام الخليفة وبين يدي الجم المحتشد من المهاجرين
والأنصار، فإنها دارت أكثر ما دارت حول امتداح علي والثناء على مواقفه
الخالدة في الإسلام وتسجيل حق أهل البيت الذين وصفتهم بأنهم الوسيلة
إلى الله في خلقه وخاصته ومحل قدسه وحجته في غيبه، وورثة أنبيائه في
64

الخلافة والحكم. وإلفات المسلمين إلى حظهم العاثر واختيارهم المرتجل
وانقلابهم على أعقابهم، وورودهم غير شربهم، وإسنادهم الأمر إلى غير
أهله، والفتنة (1) التي سقطوا فيها، والدواعي التي دعتهم إلى ترك الكتاب
ومخالفته فيما يحكم به في موضوع الخلافة والإمامة.
فالمسألة إذن ليست مسألة ميراث ونحلة إلا بالمقدار الذي يتصل
بموضوع السياسة العليا، وليست مطالبة بعقار أو دار، بل هي في نظر الزهراء
(مسألة إسلام وكفر، ومسألة إيمان ونفاق، ومسألة نص وشورى) (2).
وكذلك نرى هذا النفس السياسي الرفيع في حديثها مع نساء
المهاجرين والأنصار، إ ذ قالت فيما قالت: (أين زحزحوها عن رواسي
الرسالة، وقواعد النبوة، ومهبط الروح الأمين والطبين بأمر الدنيا والدين ألا
ذلك هو الخسران المبين، وما الذي نقموا من أبي الحسن، نقموا والله نكير
سيفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله، تالله لو تكافؤوا
عن زمام نبذه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاعتلقه وسار إليهم سيرا سجحا لا تكلم
حشاشه، ولا يتعتع راكبه (3)، ولأوردهم منهلا نميرا فضفاضا تطفح

(1) راجع نصوص السقيفة في تاريخ الطبري 2: 235 وما بعدها، وفيها: (أن بيعة أبي بكر فلتة..).
(2) هذا بلحاظ المنظور الفاطمي للقضية برمتها وفي أبعادها، وقد عبرت عن ذلك في
خطبتها قائلة: إنما زعمتهم خوف الفتنة ثم تلت قوله تعالى: (ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم
لمحيطة بالكافرين) التوبة / 49، وراجع المناقشة الوافية الشافية لمسألة (النص والشورى)
في نشأة التشيع والشيعة / الأمام السيد الشهيد الصدر - بتحقيق الدكتور عبد الجبار شرارة.
(3) تاريخ الطبري 2: 580، قول الخليفة الثاني في قصة الشورى... قالوا: يا أمير المؤمنين
لو عهدت عهدا! فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأولي رجلا أمركم، هو
أحراكم أن يحملكم على الحق. وأشار إلى علي...). وراجع أنساب الأشراف / البلاذري
2: 214.
65

فضفاضه، ولأصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأي غير متحل بطائل إلا بغمر
الناهل وردعه سورة الساغب، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض،
وسيأخذهم الله بما كانوا يسكبون، ألا هلم فاستمع وما عشت أراك الدهر
عجبا وإن تعجب فقد أعجبك الحادث إلى أي لجأ استندوا وبأي عروة
تمسكوا، لبئس المولى ولبئس العشير، ولبئس للظالمين بدلا. استبدلوا والله
الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل فرغما لمعاطس قو م يحسبون أنهم
يحسنون صنعا، ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، ويحهم (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا
يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) (1).
ولم يؤثر عن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهن خاصمن أبا بكر في شئ من
ميراثهن، أكن أزهد من الزهراء في متاع الدنيا، وأقرب إلى ذوق أبيها في
الحياة؟ أو أنهن اشتغلن بمصيبة رسول الله ولم تشتغل بها بضعته، أو أن
الظروف السياسية هي التي فرقت بينهن فأقامت من الزهراء معارضة شديدة، ومنازعة خطرة دون نسوة النبي اللاتي لم تزعجهن أوضاع الحكم.
وأكبر الظن أن الصديقة كانت تجد في شيعة قرينها، وصفوة أصحابه
الذين لم يكونوا يشكون في صدقها من يعطف شهادته على شهادة علي
وتكتمل بذلك البينة عند الخليفة. أفلا يفيدنا هذا أن الهدف الأعلى لفاطمة
الذي كانوا يعرفونه جيدا ليس هو إثبات النحلة أو الميراث، بل القضاء على
نتائج السقيفة (2)؟ وهو لا يحصل بإقامة البينة في موضوع فدك، بل بأن

(1) يونس / 35.
(2) راجع: شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 236، ويظهر أن الخلافة فطنت إلى هذا
الأمر، فحالت دونه، ويظهر من المحاورة التي جرت بين الخليفة الثاني وابن عباس جلية
الموقف، جاء في تاريخ الطبري 2: 578... قال عمر: يا ابن عباس أتدري ما منع
قومكم منهم - من بني هاشم - بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال ابن عباس: فكرهت أن أجيبه،
فقلت: إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة
والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا، فاختارت قريش لنفسها فأصابت ووفقت.
فقلت: يا أمير المؤمنين إن تأذن لي في الكلام... فقال: تكلم يا ابن عباس، فقلت: أما
قولك: اختارت قريش فأصابت... فلو أن قريشا اختارت لأنفسها حيث اختار الله عز وجل
لكان لها الصواب بيدها غير مردود... أما قولك: كرهوا أن تجتمع النبوة والخلافة فإن الله
وصف قوما بالكراهية فقال: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) سورة محمد / 9.
66

تقدم البينة لدى الناس جميعا على أنهم ضلوا سواء السبيل (1). وهذا ما
كانت تريد أن تقدمه الحوراء في خطتها المناضلة.
ولنستمع إلى كلام الخليفة بعد أن انتهت الزهراء من خطبتها وخرجت
من المسجد، فصعد المنبر وقال: (أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة! أين
كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ألا من سمع فليقل، ومن شهد
فليتكلم، إنما هو ثعالة شهيده ذنبه، مرب لكل فتنة (هو الذي يقول: كروها
جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة، ويستنصرون بالنساء)، كأم
طحال أحب أهلها إليها البغي. ألا إني لو أشاء أ ن أقول لقلت ولو قلت
لبحت، إني ساكت ما تركت)، ثم التفت إلى الأنصار وقال: (قد بلغني يا
معشر الأنصار مقالة سفهائكم وأحق من لزم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنتم، فقد
جاءكم فآويتم ونصرتم، ألا إني لست باسطا يد ا ولا لسانا على من لم
يستحق ذلك (منا) (2).
وهذا الكلام يكشف لنا عن جانب من شخصية الخليفة، ويلقي ضوءا
على منازعة الزهراء له، والذي يهمنا الان ما يوضحه من أمر هذه المنازعة

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 236.
(2) المصدر السابق 214 - 215.
67

وانطباعات الخليفة عنها، فإنه فهم حق الفهم أن احتجاج الزهراء لم يكن
حول الميراث أو النحلة، وإنما كان حربا سياسية كما نسميها اليوم وتظلما
لقرينها العظيم الذي شاء الخليفة وأصحابه من يبعدوه عن المقام الطبيعي له
في دنيا الإسلام، فلم يتكلم إلا عن علي فوصفه بأنه ثعالة وأنه مرب لكل
فتنة، وأنه كأم طحال، وأن فاطمة ذنبه التابع له، ولم يذكر عن الميراث
قليلا أو كثيرا.
ولنلاحظ ما جاءت به الرواية في صحاح السنة من أن عليا والعباس
كانا يتنازعان في فدك في أيام عمر بن الخطاب، فكان علي يقول إن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم جعلها في حياته لفاطمة، وكان العباس يأبى ذلك ويقول هي ملك
رسول الله وأنا وارثه، ويتخاصمان إلى عمر، فيأبى أن يحكم بينهما ويقول:
(أنتما أعرف بشأنكما أما أنا قد سلمتها إليكما) (1)
فقد نفهم من هذا الحديث إذا كان صحيحا أن حكم الخليفة كان
سياسيا موقتا وإن موقفه كان ضرورة من ضرورات الحكم في تلك الساعة
الحرجة، وإلا فلم أهمل عمر بن الخطاب رواية الخليفة وطرحها جانبا
وسلم فدك إلى العباس وعلي، وموقفه منهما يدل على أنه سلم فدك إليهما
على أساس أنها ميراث رسول الله لا على وجه التوكيل، إذ لو كان على هذا

(1) شرح نهج البلاغة 16: 221، لاحظ الروايات التي تؤكد أن علي بن أبي طالب وصي
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووارثه وخليفته والولي من بعده.
راجع مثلا: تاريخ دمشق / ابن عساكر الشافعي 3: 5 ح 1021، 1022 قول الرسول
الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (لكل نبي وصي ووارث وإن عليا وصيي ووارثي) وراجع حديث الدار
المشهور في تاريخ الطبري 3: 218، ط 1، الحسينية بمصر، وتفسير الخازن 3: 371 -
طبعة دار المعرفة - في تفسير قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين...)، مسند 29 أحمد بن
حنبل 2: 352 ح 1371 - طبعة دار المعارف، بسند صحيح.
68

الوجه لما صح لعلي والعباس أن يتنازعا في أن فدك هل هي نحلة من رسول
الله لفاطمة أو تركة من تركاته التي يستحقها ورثته؟ وما أثر هذا النزاع لو
فرض أنها في رأي الخليفة مال للمسلمين وقد وكلهما في القيام عليه؟
ولفض عمر النزاع وعرفهما أنه لا يرى فدك مالا موروثا ولا من أملاك
فاطمة، وإنما أوكل أمرها إليهما لينوبا عنه برعايتها وتعاهدها، كما أن عدم
حكمه بفدك لعلي وحده معناه أنه لم يكن واثقا بنحلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدك
لفاطمة فليس من وجه لتسليمها إلى علي والعباس إلا الإرث.
وإذن ففي المسألة تقديران:
(أحدهما) أن عمر كان يتهم الخليفة بوضع الحديث في نفي الإرث (1).
(والاخر) أنه تأوله وفهم منه معنى لا ينفي التوريث ولكن لم يذكر
تأويله، ولم يناقش به أبا بكر حينما حدث به وسواء أصح هذا أو ذاك،
فالجانب السياسي في المسألة ظاهر، وإلا فلماذا يتهم عمر الخليفة بوضع
الحديث إذا لم يكن في ذلك ما يتصل بسياسة الحكم يومئذ، ولماذا يخفي
تأويله وتفسيره، وهو الذي لم يتحرج عن إبداء مخالفته للنبي أو الخليفة
الأول فيما اعترضهما من مسائل.
وإذا عرفنا أن الزهراء نازعت في أمر الميراث بعد استيلاء الحزب
الحاكم عليه، لأن الناس لم يعتادوا أن يستأذنوا الخليفة في قبض مواريثهم
أو في تسليم المواريث إلى أهلها، فلم تكن فاطمة في حاجة إلى مراجعة

(1) إشارة إلى الرواية التي انفرد بها الخليفة الأول، وهي قوله: قال رسول الله: (نحن معاشر
الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة...)، راجع: الصواعق المحرقة: 34 شرح نهج البلاغة / ابن
أبي الحديد 16: 223.
69

الخليفة، ولم تكن لتأخذ رأيه وهو الظالم (1) المنتزي على الحكم في رأيها،
فالمطالبة بالميراث لابد أنها كانت صدى لما قام به الخليفة من تأميمه
للتركة على ما نقول اليوم (2)، والاستيلاء عليها.
(أقول): إذا عرفنا هذا وإن الزهراء لم تطالب بحقوقها قبل أن تنتزع
منها، تجلى لدينا أن ظرف المطالبة كان مشجعا كل التشجيع للمعارضين
على أن يغتنموا مسألة الميراث مادة خصبة لمقاومة الحزب الحاكم على
أسلوب سلمي كانت تفرضه المصالح العليا يومئذ، واتهامه بالغصب
والتلاعب بقواعد الشريعة والاستخفاف بكرامة القانون.
(قضية فدك في ضوء الظروف الموضوعية)
وإذا أردنا أن نفهم المنازعة في أشكالها وأسبابها في ضوء الظروف المحيطة
بها، وتأثيرها، كان لزاما علينا أن نعرض تلك الظروف عرضا مستعجلا
ونسجل صورة واضحة الألوان للعهد الانقلابي بالمقدار الذي يتصل بغرضنا.
ولا أعني بالانقلاب حين أصف عهد الخليفة الأول بذلك إلا مفهومه
الحقيقي المنطبق على تلون السلطة الحاكمة بشكل جمهوري يتقوم بالثورة
ويكتسب صلاحياته من الجماعات المنتخبة، ونزعها لشكلها الأول الذي
يستمد قوته وسلطته من السماء.

(1) راجع المحاورة بين الخليفة الثاني وبين علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب،
شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 222.
(2) أصبح مصطلح التأميم شائعا، وهو يعني المصادرة والاستيلاء على الملك الخاص من
قبل الدولة.
70

فقد كانت تلك اللحظة التي ضرب بها بشيرين سعد (1) على يد الخليفة
نقطة التحول في تاريخ الإسلام التي وضعت حدا لأفضل العهود وأعلنت
عهد آخر نترك تقريضه للتاريخ.
(مسألة موت الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم)
وقد كان ذلك في اليوم الذي حانت فيه الساعة الأخيرة في تاريخ النبوات
التي قطعت أقدس أداة وصل بين السماء والأرض وأبركها وأفيضها خيرا
ونعمة وأجودها صقلا للإنسانية إذ لفظ سيد البشر نفسه الأخير وطارت
روحه إلى الرفيق الأعلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فهرع الناس إلى بيت
النبوة الذي كان يشرق بأضوائه لتوديع العهد المحمدي السعيد وتشييع النبوة
التي كانت مفتاح مجد الأمة، وسر عظمتها، واجتمعوا حوله تتقاذفهم شتى
الخواطر وترتسم في أفكارهم ذكريات ممن روعة النبوة وجلال النبي
العظيم. وقد خيل إليهم أن هذه السنوات العشر التي نعموا فيها برعاية خير
الأنبياء، وأبر الاباء كانت حلما لذيذا تمتعوا به لحظة من زمان وازدهرت به
الإنسانية برهة من حياتها، وهاهم قد أفاقوا على أسوأ ما يستيقظ عليه نائم.
وبينما كان المسلمون في هذه الغمرة الطاغية، والصمت الرهيب
لا ينطق منهم أحد بكلمة، وقد اكتفوا في تأبين الراحل العظيم بالدموع
والحسرات والخشوع والذكريات، إذ يفاجؤون بصوت يجلجل في الفضاء
ويقطع خيط الصمت الذي لف المجتمعين وهو يعلن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم
يمت ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله وليرجعن فليقطعن أيدي
رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته: (لا أسمع رجلا يقول مات رسول الله

(1) راجع: تاريخ الطبري 2: 243، وفيه إشارة إلى سبق بشير بن سعد إلى مبايعة الخليفة الأول.
71

إلا ضربته بسيفي) (1).
والتفت الأنظار إلى مصدر الصوت ليعرفوا القائل، فوجدوا عمر بن
الخطاب قد وقف خطيبا بين الناس وهو يجلجل برأيه في شدة لا تقبل نزاعا
وشاعت الحياة في الناس من جديد فتكلموا وتحدثوا في كلام عمر والتف
بعضهم حوله.
وأكبر الظن أن قوله وقع من أكثرهم موقع الاستغراب والتكذيب،
وحاول جماعة منهم أن يجادلوه في رأيه ولكنه بقي شديدا في قوله ثابتا
عليه والناس يتكاثرون حوله ويتكلمون في شأنه ويعجبون لحاله حتى جاء
أبو بكر، وكان حين توفي النبي في منزله بالسنح، والتفت إلى الناس وقال:
(من كان يعبد محمدا فإنه قد مات، ومن كان يعبد الله فإنه حي لا يموت.
قال الله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) (2) وقال: (أفإن مات أو قتل انقلبتم
على أعقابكم) (3)، ولما سمع عمر ذلك أذعن واعترف بموت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وقال: (كأني سمعتها - يعني الآية - (الان) (4).
ونحن لا نرى في هذه القصة ما يراه كثير من الباحثين من أن الخليفة
كان بطل ذلك ا لظرف العجيب، والرجل الذي تهيأت له معدات الخلافة
بحكم موقفه من رأي عمر، لأن المسألة ليست والأهمية بهذا الحد ولم

(1) تاريخ الطبري 2: 232 - 233، وفيه: وكان عمر يتوعد الناس بالقتل، الملل والنحل /
الشهرستاني 1: 29... قال عمر بن الخطاب: من قال: (إن محمدا قد مات قتلته
بسيفي هذا...).
(2) الزمر / 30، 31.
(3) آل عمران / 144.
(4) تاريخ الطبري 2: 232 - 233.
72

يحدثنا التاريخ عن شخص واخذ انتصر لعمر في رأيه، فلم يكن إلا رأيا
شخصيا لا خطر له ولا شأن للقضاء عليه.
وقد يكون من حق البحث أن الاحظ أن شرح الخليفة لحقيقة الحال
في خطابه الذي وجهه إلى الناس كان شرحا باهتا في غير حد لا يبدو عليه
من مشاعر المسلمين المتحرقة في ذلك اليوم شئ، بل لم يزد في بيان
الفاجعة الكبرى على أن قال: (إن من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد
مات). وقد كان الموقف يتطلب من أبي بكر إذا كان يريد أن يقدم في نفسه
زعيما لتلك الساعة تأبينا للفقيد الأعظم يتفق مع العواطف المتدفقة
بالذكريات الحسرات يومئذ.
ومن الذي كان يعبد سيد الموحدين حتى يقول من كان يعبد محمدا
فإنه قد مات؟ وهل كان في كلام عمر معنى يدل على أنه كان يعبد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم؟ أو كانت قد سرت موجة من الارتداد والإلحاد في ذلك المجتمع
المؤمن الذي كان يعتصر دموعه من ذكرياته، وصبره، وتماسكه من عقيدته
حتى يعلن لهم أن الدين ليس محدودا بحياة رسول الله لأنه ليس بالإله المعبود.
إذن فلم يكن لكلام أبي بكر الذي خاطب به الناس صلة بموقفهم ولا
علاقة برأي عمر، ولا انسجام مع عواطف المسلمين في ذلك اليم وشؤونهم،
وقد سبقه به غيره ممن حاول مناقشة الفاروق كما سيأتي.
(مسألة السقيفة وموقف الإمام علي عليه السلام)
وكان يعاصر هذا الاجتماع الذي تكلمنا عنه اجتماع آخر للأنصار عقدوه في
سقيفة بني ساعدة برئاسة سعد بن عبادة زعيم الخزرج ودعاهم فيه إلى إعطائه
73

الرئاسة والخلافة فأجابوه (1). ثم ترادوا الكلام فقالوا: (فإن أبى المهاجرون
وقالوا: نحن أولياؤه وعترته، فقال قوم من الأنصار نقول: منا أمير ومنكم
أمير، فقال سعد: فهذا أومل الوهن، وسمع عمر الخبر، فأتى منزل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه أبو بكر فأرسل إليه أن اخرج إلي،
فأرسل إني مشغول، فأرسل إليه عمر أن اخرج فقد حدث أمر لا بد أن تحضره، فخرج
فأعلمه الخبر، فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة، فتكلم أبو بكر فذكر
قرب المهاجرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم أولياؤه وعترة، ثم قال: نحن
الامراء وأنتم الوزراء لا نفتات عليكم بمشورة، ولا نقضي دونكم الأمور،
فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم
أمركم فإن الناس في ظلكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ولا يصدر
أحد إلا عن رأيكم، أنتم أهل العزة والمنعة وأولو العدد والكثرة وذوو
البأس والنجدة وإنما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم
أموركم فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنهم أمير، فقال عمر:
هيهات لا يجتمع سيفان في غمد، والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها
من غيركم ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة منهم، من
ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته. فقال الحباب بن منذر:
يا معشر الأنصار املكوا أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا
بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم فاجلوهم من هذه البلاد وأنتم أحق
بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين أنا جذيلها المحكك
وعذيقها المرجب أنا أبو شبل في عرينة الأسد، والله إن شئتم لنعيدها

(1) تاريخ الطبري 2: 233.
74

جذعة، فقال عمر: إذن يقتلك الله، قال: بل إياك يقتل. فقال أبو عبيدة:
يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر فلا تكونوا أول من بدل وغير، فقام بشير
ابن سعد والد النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار ألا إن محمدا من
قريش وقومه أولى به وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر. فقال أبو بكر:
هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم، فقالا: والله لا نتولى هذا، الأمر عليك
وأنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وهي أفضل الدين،
ابسط يدك. فلما بسط يده ليبايعاه سبقهما بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحباب
ابن المنذر يا بشير غفتك غفاق، أنفست على ابن عمك الأمارة؟ فقال أسيد
ابن خضير رئيس الأوس لأصحابه: والله لئن لم تبايعوا ليكونن للخزرج
عليكم الفضيلة أبدا، وبايعوا أبا بكر وأقبل الناس يبايعونه من كل جانب (1).
ونلاحظ في هذه القصة أن عمر هو الذي سمع بقصة السقيفة
واجتماع الأنصار فيها وأخبر أبا بكر بذلك، وما دمنا نعلم أن الوحي لم ينزل
عليه بذلك النبأ فلا بد أنه ترك البيت النبوي بعد أن جاء أبو بكر وأقنعه بوفاة
النبي، فلماذا ترك البيت؟ ولماذا اختص أبا بكر بنبأ السقيفة؟ إلى كثير من
هذه النقاط التي لا نجد لها تفسيرا معقولا أولى من أن يكون في الأمر اتفاق
سابق بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة على خطة معينة في موضوع الخلافة،
وهذا التقدير التاريخي قد نجد له شواهد عديدة تجيز لنا افتراضه.
(الأول) تخصيص عمر لأبي بكر بنبأ السقيفة كما سبق، وإصراره على
استدعائه بعد اعتذاره بأنه مشغول حتى أشار إلى الغرض ولمح إليه، خرج

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 1: 127 - 128، طبعة دار الكتب العربية الكبرى -
مصطفى البابي الحلبي. (الشهيد)، وراجع: تاريخ الطبري 2: 243.
75

مسرعا وذهبا على عجل إلى السقيفة (1)، وكان من الممكن أن يطلب غيره
من أعلام المهاجرين بعد اعتذاره عن المجئ، فهذا الحرص لا يمكن أن
نفسره بالصداقة التي كانت بينهما، لأن المسألة لم تكن مسألة صداقة، ولم
يكن أمر منازعة الأنصار يتوقف على أن يجد عمر صديقا له بل على أن
يستعين بمن يوافقه في أحقية المهاجرين أيا كان.
ولا ننسى أن نلاحظ أنه أرسل رسولا إلى أبي بكر، ولم يذهب بنفسه
ليخبره بالخبر خوفا ممن انتشاره في البيت وتسامع الهاشميين أو غيرها الهاشميين
به، وقد طلب من الرسول في المرة الثانية أن يخبره بحدوث أمر لابد أن
يحضره. ونحن لا نرى حضور أبي بكر لازما في ذلك الموضوع إلا إذا
كانت المسألة مسألة خاصة وكان الهدف تنفيذ خطة متفق عليها سابقا (2).
(الثاني) موقف عمر من مسألة وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وادعاؤه أنه لم يمت،
ولا يستقيم في تفسيره، أن نقول إن عمر ارتبك في ساعة الفاجعة، وفقد
صوابه وادعى ما ادعى، لأن حياة عمر كلها تدل على أنه ليس من هذا
الطراز، وخصوصا موقفه الذي وقفه في السقيفة بعد تلك القصة مباشرة.

(1) تاريخ الطبري 2: 242.
(2) راجع: تاريخ الطبري 2: 234، وفيه: عن الحميري... قال: (فحلف رجال أدركناهم من
أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ما علمنا أن الآيتين نزلتا حتى قرأهما أبو بكر يومئذ، إذ جاء رجل
يسعى فقال: هاتيك الأنصار قد اجتمعت في ظلة بني ساعدة، يبايعون رجلا منهم،
يقولون منا أمير ومن قريش أمير، قال: فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتياهم، فأراد
عمر أن يتكلم، فنهاه أبو بكر، فقال: عمر لا أعصي خليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم مرتين...)
يعني في المرة الأولى إعلانه موت النبي، وهذه المرة الثانية، ولاحظ تعبيره (خليفة النبي)
قبل حصول البيعة (الفلتة) على ما قاله لاحقا، كما في 2: 235.
76

فالذي تؤثر المصيبة عليه إلى حد تفقده صوابه لا يقف بعدها بساعة يحاجج
ويجادل ويقاوم ويناضل (1).
ونحن نعلم أيضا أن عمر لم يكن يرى ذلك الرأي الذي أعلنه في تلك
الساعة الحرجة قبل ذلك بأيام أو بساعات حينما اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
المرض وأراد أن يكتب كتابا لا يضل الناس بعده، فعارضه عمر وقال: إن
كتاب الله يكفينا وأن النبي يهجر (2)، أو قد غلب عليه الوجع كما في صحاح
السنة. فكان يؤمن بأن رسول الله يموت وأن مرضه قد يؤدي إلى موته وإلا
لما اعترض عليه
وقد جاء في تاريخ ابن كثير أن عمر بن زائدة قرأ الآية التي قرأها أبو بكر
على عمر قبل أن يتلوها أبو بكر فلم يقتنع عمر وإنما قبل كلام أبي بكر خاصة
واقتنع به (3)
فما يكون تفسير هذا كله إذا لم يكن تفسيره إن عمر شاء أن يشيع
الاضطراب بمقالته بين الناس لينصرفوا إليها وتتجه الأفكار نحوها تفنيدا أو
تأييدا ما دام أبو بكر غائبا، لئلا يتم في أمر الخلافة شئ ويحدث أمر لا بد
أن يحضره أبو بكر - على حد تعبيره - وبعد أن أقبل أبو بكر اطمأن باله، وأمن
من تمام البيعة للبيت ا لهاشمي ما دام للمعارضة صوت في الميدان،
وانصرف إلى تلقط الأخبار حادسا بما سيقع، فظفر بخبر ما كان يتوقعه.

(1) راجع: تاريخ الطبري 2: 235.
(2) راجع الرواية في صحيح البخاري 1: 37 كتاب العلم - باب كتابة العلم، و 8: 161، كتاب
الاعتصام - طبعة دار العامرة - استانبول، دار الفكر - بيروت.
(3) البداية والنهاية / ابن كثير 5: 213 - نشر دار الكتب العلمية - بيروت.
77

(الثالث) شكل الحكومة التي تمخضت عنها السقيفة، فقد تولى أبو
بكر الخلافة، وأبو عبيدة المال، وعمر القضاء (1). وفي مصطلحنا اليوم أن
الأول تولى السياسة العليا، والثاني تولى السياسة الاقتصادية، والثالث تولى
السلطات القضائية، وهي الوظائف الرئيسية في مناهج الحكم الإسلامي.
وتقسيم المراكز الحيوية في الحكومة الإسلامية يومئذ بهذا الأسلوب على
الثلاثة الذين قاموا بدورهم المعروف في سقيفة بني ساعدة لا يأتي بالصدفة
على الأكثر ولا يكون مرتجلا.
(الرابع) قول عمر حين حضرته الوفاة: (لو كان أبو عبيدة حيا لوليته) (2).
وليست كفاءة أبي عبيدة هي التي أوحت إلى عمر بهذا التمني، لأنه كان
يعتقد أهلية علي للخلافة ومع ذلك لم يشأ أن يتحمل أمر الأمة حيا وميتا (3).
وليست أمانة أبي عبيدة التي شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها - بزعم الفاروق -
هي السبب في ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخصه بالاطراء، بل كان في
رجالات المسلمين يومئذ من ظفر بأكثر من ذلك من ألوان الثناء النبوي (4)

(1) الكامل في التاريخ / ابن الأثير 2: 176 الطبعة الأولى - مصر / الأزهرية 1301 / ه‍. (الشهيد)،
لما ولي أبو بكر قال له أبو عبيدة: أنا أكفيك المال، وقال له عمر: أنا أكفيك القضاء...
وكان على مكة عتاب بن أسيد.
(2) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 1: 64 طبعة مصطفى البابي - مصر (الشهيد)، وراجع
تاريخ الطبري 2: 580، أخرج رواية عن الأودي قال: (إن عمر بن الخطاب لما طعن قيل
له: يا أمير المؤمنين، لو استخلفت، قال: من أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا
استخلفته...).
(3) راجع تاريخ الطبري 2: 580، الأنساب / البلاذري 5: 16 (الشهيد).
(4) راجع مثلا: مختصر تاريخ ابن عساكر 17: 356 وما بعدها، ففيه مناقب علي عليه السلام والثناء
عليه، الخصائص / النسائي: 72 ح 113، مروج الذهب / المسعودي 2: 437، مطبعة السعادة ط 2 - مصر / 1948 م.
78

كما تقرر ذلك صحاح السنة والشيعة.
(الخامس) اتهام الزهراء للحاكمين بالحزبية السياسية، كما سنرى في الفصل الآتي.
(السادس) قول أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - للفاروق رضى عنه الله: احلب
يا عمر حلبا لك شطره اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غدا (1).
ومن الواضح أنه يلمح إلى تفاهم بين الشخصين على المعونة
المتبادلة واتفاق سابق على خطة معينة، وإلا فلم يكن يوم السقيفة نفسه
ليتسع لتلك المحاسبات السياسية التي تجعل لعمر شطرا من الحلب.
(السابع) ما جاء في كتاب معاوية بن أبي سفيان إلى محمد بن أبي بكر
(رضوان الله عليه) في اتهام أبيه وعمر بالاتفاق على غصب الحق العلوي
والتنظيم السري لخطوط الحملة على الأمام، إذ قال له فيما قال: فقد كنا
وأبوك نعرف فضل ابن أبي طالب وحقه لازما لنا مبرورا علينا، فلما اختار
الله لنبيه (عليه الصلاة والسلام) ما عنده وأتم وعده وأظهر دعوته فأبلج
حجته وقبضه إليه (صلوات الله عليه) كان أبوك والفاروق أول من ابتزه حقه
وخالفه على أمره، على ذلك اتفقا واتسقا، ثم إنهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ
عنهما وتلكأ عليهما فهما به الهموم وأراد به العظيم (2).

(1) راجع: شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 6: 11 - الطبعة المحققة، و 2: 5، من الطبعة المصرية - مطبعة مصطفى البابي الحلبي (الشهيد).
(2) مروج الذهب / المسعودي 3: 199 - تحقيق شارل پلا - بيروت / 1970 كتاب معاوية
إلى محمد بن أبي بكر: إن أباك أول من ابتزه حقه.
79

ونحن نلاحظ بوضوح عطفه طلب أبي بكر وعمر رضى عنه الله للبيعة من الأمام
ب‍ (ثم) على كلمتي اتفقا واتسقا وهو قد يشعر بأن الحركة أنت منظمة
بتنظيم سابق، وأن الاتفاق على الظفر بالخلافة كان سابقا على الايجابيات
السياسية التي قاما بها في ذلك اليوم.
ولا أريد أن أتوسع في دراسة هذه الناحية التاريخية أكثر من هذا،
ولكن هل لي أن ألا حظ في ضوء ذلك التقدير التاريخي، أن الخليفة لم يكن
زاهدا في الحكم كما صوره كثير من الباحثين، بل قد نجد في نفس
المداورة التي قام بها الخليفة في السقيفة دليلا على تطلعه للأمر، فإنه بعد أن
أعلن الشروط الأساسية للخليفة شاء أن يحصر المسألة فيه فتوصل إلى ذلك
بأن ردد الأمر بين صاحبيه (1) اللذين لن يتقدما عليه، وكانت النتيجة الطبيعية
لهذا الترديد أن يتعين وحده للأمر.
فهذا الاسراع الملحوظ من الخليفة إلى تطبيق تلك الصورة التي فدمها
للخليفة الشرعي في رأيه على صاحبيه خاصة الذي لم يكن يؤدي إلا إليه،
كان معناه أنه أراد أن يسلب الخلافة من الأنصار، ويقر ها في شخصه في آن
واحد، ولذا لم يبد ترددا أو ما يشبه التردد لما عرض الأمر عليه صاحباه.
وعمر نفسه يشهد لأبي بكر بأنه كان مداورا سياسيا بارعا في يوم السقيفة في
حديث طويل له يصفه فيه بأنه أحسد قريش (2).

(1) راجع تاريخ الطبري 2: 233 قال أبو بكر: (إني رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر أو
أبا عبيدة...).
(2) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 1: 125 طبعة مصطفى البابي - مصر (الشهيد)
80

ونجد فيما يروى عن الخليفتين في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على
هوى سياسي في نفسيتهما، وأنهما كانا يفكران في شئ على أقل تقدير. فقد
ورد في طرق العامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن منكم من يقاتل على تأويل
القرآن كما قاتلت على تنزيله، فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله، قال: لا،
قال عمر: أنا هو يا رسول الله، قال: لا ولكن خاصف النعل - يعني عليا) (1).
والمقاتلة على التأويل إنما تكون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمقاتل
لا بد أن يكون أمير الناس، فتلهف كل من أبي بكر وعمر على أن يكون
المقاتل على التأويل مع أن القتال على التنزيل كان متيسرا لهما في أيام
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشاركا فيه بنصيب قد يدل على ذلك الجانب الذي
نحاول أن نستكشفه في شخصيتهما.
بل أريد أن أذهب إلى أكثر من هذا فألاحظ أن أناسا متعددين كانوا
يعملون في صالح أبي بكر وعمر (2) وفي مقدمتهم عائشة وحفصة اللتان

(1) الصواعق المحرقة / ابن حجر: 123 ط 2 / مكتبة القاهرة / 1965، مسند الأمام أحمد
3: 33، كنز العمال 15: 94، ط 2 حيدر آباد - الدكن - الهند / 1968، خصائص أمير
المؤمنين / النسائي الشافعي (ت 303 ه‍): 131، طبعة طهران، راجع: التاج الجامع
للأصول 3: 336.
(2) قال الشهيد الصدر (معلقا): وقد سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما هدد طائفة من
قريش برجل من قريش امتحن الله قلبه للأيمان يضرب رقابهم على الدين، إن ذلك الرجل هل هو أبو بكر؟
فقال: لا، فقيل: عمر؟ قال: لا... إلخ. مسند الأمام أحمد 3: 33، والرواية تهمل اسم
السائل الذي توهم أن الشخص ا لذي وصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو
أبو بكر أو عمر، وإذا لم يكن أبو بكر وعمر معروفين بشجاعة وبسالة في المشاهد الحربية على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فلا بد أن أمرا آخر دعى السائل إلى أن يسأل ذ ينك السؤالين والبقية أتركها لك.
81

أسرعتا باستدعاء والديهما عندما طلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حبيبه في لحظاته
الأخيرة
(1) التي كانت تجمع دلائل الظروف على أنها الظرف الطبيعي للوصية
ولا بد أنهما هما اللتان عنتهما الرواية التي تقول إن بعض نساء النبي أرسلن
رسولا إلى أسامة لتأخيره عن السفر (2). فإذا علمنا هذا، وعلمنا أن هذا لم
يكن بإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلا لما أمره بالإسراع بالرحيل لما قدم عليه بعد
ذلك (3)، وأن سفره مع من معه كان يعيق عن تحقق النتائج التي أنتجها يوم
السقيفة، خرجت لدينا قضية مرتبة الحلقات على أسلوب طبيعي يعزز ما
ذهبنا إليه من رأي.
ومذهب الشيعة في تفسير ما قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تجنيد جيش
أسامة معروف، وهو أنه أحس بأن اتفاقا ما بين جملة من أصحابه على أمر
معين، وقد يجعل هذا الاتفاق منهم جبهة معارضة لعلي.
ونحن إن شككنا في هذا فلا نشك في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جعل أبا بكر
وعليا في كفتي الميزان مرارا أمام المسلمين جميعا ليروا بأعينهم أنهما لا
يستويان في الميزان العادل. وإلا فهل ترى إعفاء أبي بكر (4) من قراءة التوبة

(1) راجع الرواية في سنن الكبرى / النسائي 5: 145 باب 54، وأيضا في مختصر تاريخ
ابن عساكر 18 / 21.
(2) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 1: 53 (الشهيد) الطبعة القديمة - المصرية - مصطفى
البابي الحلبي.
(3) في مسألة بعث أسامة، وطلب الإسراع بتنفيذ الحملة التي أمر فيها النبي أسامة بن زيد
على شيوخ المهاجرين والأنصار.
راجع الكامل في التاريخ 2: 218، الطبقات الكبرى / ابن سعد 2: 248 - 250.
(4) في قصة إعفاء الخليفة الأول أبي بكر عن مهمة تبليغ سورة براءة وإرسال علي بن أبي
طالب لتنفيذ المهمة، راجع: مسند الأمام أحمد بن حنبل 1: 3، الكشاف / الزمخشري
2: 243، الصواعق المحرقة / ابن حجر: 32، طبعة القاهرة.
82

على الكافرين بعد أن كلف بذلك أمرا طبيعيا؟ ولماذا انتظر الوحي وصول
الصديق إلى منتصف الطريق لينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويأمره باسترجاعه
وإرسال علي للقيام بالمهمة؟ أفكان عبثا أو غفلة أو أمرا ثالثا؟ وهو أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحس بأن المنافس المتحفز لمعارضة ابن عمه ووصيه هو
أبو بكر، فشاء وشاء له ربه تعالى أن يرسل أبا بكر ثم يرجعه بعد أن يتسامع
الناس جميعا بإرساله ليرسل عليا الذي هو كنفسه (1) ليوضح للمسلمين مدى
الفرق بين الشخصين وقيمة هذا المنافس الذي لم يأتمنه الله على تبليغ سورة
إلى جماعة، فكيف بالخلافة والسلطنة المطلقة؟!
إذن فنخرج من هذا العرض الذي فرض علينا الموضوع أن نختصره
بنتيجتين:
(الأولى) أن الخليفة كان يفكر في الخلافة ويهواها وقد أقبل عليها
بشغف ولهفة.
(الثانية) أن الصديق والفاروق وأبا عبيدة كانوا يشكلون حزبا سياسيا
مهما لا نستطيع أن نضع له صورة واضحة الخطوط، ولكنا نستطيع أن نؤكد
وجوده بدلائل متعددة، ولا أرى في ذلك ما ينقص من شأنهم أو يحط من
مقامهم، ولا بأس عليهم أن يفكروا في أمور الخلافة ويتفقوا فيها على
سياسة موحدة إذا لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نص في الموضوع، ولا يبرؤهم

(1) راجع: الكشاف / الزمخشري 1: 368. وكما هو مقتضى آية المباهلة، الصواعق المحرقة /
ابن حجر: 156، أخرج الدارقطني احتجاج الأمام على القوم وإنه كنفس النبي.
83

إذا كان النص ثابتا بعدهم عن الهوى السياسي وارتجال فكرة الخلافة في
ساعة السقيفة (1) من المسؤولية أمام الله وفي حكم الضمير.
(تحليل الموقف في قصة السقيفة)
لست الان بصدد تحليل الموقف الذي اشتبك فيه الأنصار مع أبي بكر وعمر
وأبي عبيدة وشرح ما يدل عليه من نفسية المجتمع الإسلامي ومزاجه
السياسي، وتطبيق قصة السقيفة (2) على الأصول العميقة في الطبيعة العربية،
فإن ذلك كله خارج عن الحدود القريبة للموضوع، وإنما أريد أن الاحظ أن
الحزب الثلاثي الذي قدر له أن يلي الأمور يومئذ كان له معارضون على
ثلاثة أقسام:
الأول: الأنصار الذين نازعوا الخليفة وصاحبيه في سقيفة بني ساعدة
ووقعت بينهم المحاورة السابقة التي انتهت بفوز قريش بسبب تركز فكرة
الوراثة الدينية في الذهنية العربية وانشقاق الأنصار (3) على أنفسهم، لتمكن
النزعة القبلية من نفوسهم.
الثاني: الأمويون الذين كانوا يريدون أن يأخذوا من الحكم بنصيب
ويسترجعوا شيئا من مجدهم السياسي (4) في الجاهلية وعلى رأسهم أبو سفيان.

(1) إشارة إلى قولة الخليفة عمر بن الخطاب: (إن بيعة أبي بكر كانت فلتة غير أن الله وقى
شرها..) تاريخ الطبري 2: 235.
(2) راجع: السقيفة والخلافة / عبد الفتاح عبد المقصود: 264.
(3) راجع: تاريخ الطبري 2: 243.
(4) المصدر السابق 2: 237، قال: (حدثني محمد بن عثمان بن صفوان الثقفي قال:
حدثنا أبو قتيبة، قال: حدثنا مالك - يعني ابن مغول - عن ابن الحر قال: قال أبو سفيان
لعلي: ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش! والله لو شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا!
قال: فقال علي: يا أبا سفيان، طالما عاديت الإسلام وأهله...).
84

الثالث: الهاشميون وأخصاؤهم كعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد
رضوان الله عليهم وجماعات من الناس (1) الذين كانوا يرون البيت الهاشمي
هو الوارث الطبيعي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحكم الفطرة ومناهج السياسة التي
كانوا يألفونها.
واشتبك أبو بكر وصاحباه في النزاع مع القسم الأول في سقيفة بني
ساعدة، وركزوا في ذلك الموقف دفاعهم عما زعموا من حقوق على نقطة
كانت ذات وجاهة في نظر كثير من الناس، فإن قريشا ما د أمت عشيرة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخاصته (2) فهي أولى به من سائر المسلمين وأحق بخلافته
وسلطانه.
وقد انتفع أبو بكر وحزبه باجتماع الأنصار في السقيفة من ناحيتين:
(الأولى) أن الأنصار سجلوا على أنفسهم بذلك مذهبا لا يسمح لهم بأن
يقفوا بعد ذلك إلى صف علي ويخدموا قضيته بالمعنى الصحيح كما
سنوضحه قريبا.
(الثانية) أن أبا بكر الذي خدمته الظروف فأقامت منه المدافع الوحيد
عن حقوق المهاجرين في مجتمع الأنصار لم يكن ليتهيأ له ظرف أوفق

(1) تاريخ الطبري 2: 233.
(2) المصدر نفسه 2: 243، قولة الخليفة الأول: (من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مذ دل بباطل أو متجانف لإثم...).
85

بمصالحه من ظرف السقيفة، إذ خلا الموقف من أقطاب المهاجرين الذين
لم يكن لتنتهي المسألة في محضرهم إلى نتيجتها التي سجلتها السقيفة في
ذلك اليوم.
وخرج أبو بكر من السقيفة خليفة وقد بايعه جمع من المسلمين الذين
أخذوا بوجهة نظره في مسألة الخلافة أو عز عليهم أن يتولاها سعد بن عبادة.
ولم يعبأ الحاكمون بمعارضة الأمويين وتهديد أبي سفيان وما أعلنه
من كلمات الثورة بعد رجوعه من سفره الذي بعثه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لجباية الأموال، لعلمهم بطبيعة النفس الأموية وشهواتها السياسية والمادية.
فكان من السهل كسب الأمويين إلى جانب الحكم القائم كما صنع أبو بكر
فأباح لنفسه أو أباح له عمر بتعبير أصح كما تدل الرواية (1)، أن يدفع لأبي
سفيان جميع ما في يده من أموا ل المسلمين وزكواتهم (2) ثم جعل
للأمويين (3) بعد ذلك حظا من العمل الحكومي في عدة من المرافق الهامة.
وهكذا نجح الحزب الحاكم في نقطتين، ولكن هذا النجاح جره إلى
تناقض سياسي واضح، لأن ظروف السقيفة كانت تدعو الحاكمين إلى أن
يجعلوا للقرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم حسابا في مسألة الخلافة ويقروا مذهب

(1) راجع شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 1: 130 طبعة القاهرة - مصطفى البابي. (ا لشهيد)
(2) قد نستطيع أن نجيب في ضوء هذه القصة عما عرض لنا من سؤال في بداية هذا الفصل
عن موقف الخليفتين لو قدر لهما أن يقفا موقف علي الذي كان يفرض عليه أن يغري كثيرا
من أمثال أبي سفيا ن بالمال والجاه. (الشهيد)
(3) راجع تاريخ الطبري 2: 237، أخرج عن ثابت قال: لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان:
ما لنا ولأبي فصيل، إنما هي بنو عبد مناف!
قال: فقيل له: إنه قد ولى ابنك، قال - أي أبو سفيان -: وصلته رحم..
86

الوراثة للزعامة الدينية. غير أن الحال تبدلت بعد موقف السقيفة والمعارضة
اتخذت لها لونا جديدا وواضحا كل الوضوح يتلخص في أن قريشا إذا
كانت أولى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سائر العرب لأنه منها فبنو هاشم أحق بالأمر
من بقية قريش.
وهذا ما أعلنه علي حين قال: إذا احتج عليهم المهاجرون بالقرب من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت الحجة لنا على لمهاجرين بذلك قائمة، فإن فلجت
حجتهم كانت لنا دونهم وإلا فالأنصار على دعوتهم (1)، وأوضحه العباس
لأبي بكر في حديث له معه إذ قال له: وأما قولك نحن شجرة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فإنكم جيرانها ونحن أغصانها (2).
وقد كان علي الذي تزعم معارضة الهاشميين مصدر رعب شديد في
نفوس الحاكمين، لأن ظروفه الخاصة كانت تمده بقوة على لونين من
العمل الإيجابي ضد الحكومة القائمة: -
أحدهما ضم الأحزاب المادية إلى جانبه كالأمويين والمغيرة بن شعبة
وأمثالهم ممن كانوا قد بدأوا يعرضون أصواتهم للبيع ويفاوضون الجهات
المختلفة في اشترائها بأضخم الأثمان، كما نعرف ذلك من كلمات أبي
سفيان التي واجه بها خلافة السقيفة يوم وصوله إلى المدينة، وحديثه مع
علي وتحريضه له على الثورة، وميله إلى جانب الخليفة، وسكوته عن
المعارضة حينما تنازل له الخليفة عن أموال المسلمين (3) التي كان قد جباها

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 6: 5.
(2) المصدر نفسه 6: 5.
(3) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 1: 130، طبعة مصطفى البابي الحلبي - القاهرة.
87

في سفره، وموقف عتاب بن أسيد الذي سنشير إلى سره في هذا الفصل.
وإذن فقد كان الهوى المادي مستوليا على جماعة من الناس يومئذ.
ومن الواضح أن عليا كان يتمكن من إشباع رغبتهم بما خلفه رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم من الخمس وغلات أراضيه في المدينة وفدك التي كانت ذات
نتاج عظيم كما عرفنا في الفصل السابق.
والطور الاخر من المقاومة التي كان علي مزودا بإمكانياتها ما لمح
إليه بقوله: (احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة)، وأعني بذلك أن الفكرة
العامة يومئذ التي أجمعت (1) على تقديس أهل ا لبيت والاعتراف لهم
بالامتياز العظيم بقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت سندا قويت للمعارضة
وقد رأى الحزب الحاكم أن موقفه المادي حرج جدا، لأن أطراف
المملكة التي تجبى منها الأموال لا تخضع للحكم الجديد إلا إذا استقرت
دعائمه في العاصمة، والمدينة بعد لم تخضع له خضوعا إجماعيا.
ولئن كان أبو سفيان أو غير أبي سفيان قد باع صوته للحكومة، فمن
الممكن أن يفسخ المعاملة إذا عرض عليه شخص آخر اتفاقا أكثر منها ربحا،
وهذا ما كان يستطيع علي أن يقوم به في كل حين. فيجب والحالة هذه أن
تنتزع من علي الذي لم يكن مستعدا للمقابلة في تلك الساعة الأموال التي
صارت مصدرا من مصا در الخطر على مصالح الحزب الحاكم ليضمن بقاء

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 6: 21، روى الزبير بن بكار، قال: روى محمد بن
إسحاق أن أبا بكر لما بويع افتخرت تيم بن مرة، قال: وكان عامة المهاجرين وجل
الأنصار لا يشكون أن عليا هو صاحب الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
88

الأنصار على نصرتهم، وعدم قدرة المعارضين على إنشاء حزب من
أصحاب المطامع والأهواء يومذاك.
ولا يجوز أن نستبعد هذا التقدير لسياسة الفئة المسيطرة ما دام منطبقا
على طبيعة السياسة التي لا بد من انتهاجها. وما دمنا نعلم أن الصديق اشترى
صوت الحزب الأموي بالمال، فتنازل لأبي سفيان عن جميع ما كان عنده
من أموال المسلمين، وبالجاه أيضا إذ ولى ابن أبي سفيان، فقد جاء أن أبا
بكر لما استخلف قال أبو سفيان: ما لنا ولأبي فصيل إنما هي بنو عبد مناف،
فقيل له أنه قد ولى ابنك قال: وصلته رحم (1).
فلا غرابة في أن ينتزع من أهل البيت أموالهم المهمة ليركز بذلك
حكومته، أو أن يخشى من علي عليه السلام أن يصرف حاصلات فدك وغير فدك
على الدعوة إلى نفسه.
وكيف نستغرب ذلك من رجل كالصديق وهو الذي قد اتخذ المال
وسيلة من وسائل الاغراء، واكتساب الأصوات حتى اتهمته بذلك معاصرة
له من مؤمنات ذلك الزمان فقد ورد أن الناس لما اجتمعوا على أبي بكر قسم
قسما بين نساء المهاجرين والأنصار، فبعث إلى امرأة من بني عدي بن
النجار قسمها مع زيد بن ثابت فقالت: ما هذا؟ قال: قسم قسمه أبو بكر
للنساء، قالت: أتراشوني عن ديني؟ والله لا أقبل منه شيئا. فردته عليه (2).
وأنا لا أدري من أين جاء إلى الخليفة (رضي الله تعالى عنه) هذا المال

(1) راجع: تاريخ الطبري 2: 237 طبعة المكتبة العلمية. (الشهيد)
(2) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 1: 133. (الشهيد)، الطبقات الكبرى / ابن سعد 3: 182.
89

ما دامت الزكوات التي جمعها الساعي قد صارت من نصيب بطنه (1)
وحد ها، إن لم يكن من بقية الأموال التي خلفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان أهل البيت
يطالبون بها.
وسواء أصح هذا التقدير أو لا، فإن المعنى الذي نحاول فهمه من هذه
الرواية هو أن بعض معاصري الصديق أحس 40 بما نحس به على ضوء
معلوماتنا التاريخية عن تلك الأيام.
ولا ننسى أن نلاحظ أن الظروف الاقتصادية العامة كانت تدعوا إلى
الارتفاع بمالية الدولة والاهتمام بإكثارها استعدادا للطوارئ المترقبة، فلعل
هذا حدى بالحاكمين إلى انتزاع فدك، كما يتبين ذ لك بوضوح من حديث
لعمر مع أبي بكر يمنعه (2) فيه عن تسليم فدك إلى الزهراء ويعلل ذلك بأن
الدولة في حاجة إلى المال لانفاقه في توطيد الحكم، وتأديب العصاة،
والقضاء على الحركات الانفصالية التي قد يقوم بها المرتدون.
ويظهر من هذا رأي للخليفتين في الملكية الفردية، هو أن للخليفة
الحق في مصادرة أموال الناس لانفاقها في أمور المملكة وشؤون الدولة
العامة بلا تعويض، ولا استئذان. فليس للفرد ملكية مستقرة لأمواله وعقاره
في حال احتياج السلطات إلى شئ منها. وقد ذهب إلى هذا الرأي كثير من

(1) يقصد من نصيب الساعي وهو أبو سفيان كما في الرواية التي أوردها ابن أبي الحديد في
شرح النهج: 1: 130 طبعة القاهرة - مصطفى البابي الحلبي.
(2) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 274، (وقد روي أن أبا بكر لما شهد أمير المؤمنين عليه السلام
(بفدك) كتب بتسليمها إليها - إلى فاطمة - فاعترض عمر قضيته، وخرق ما كتبه...)،
السيرة الحلبية 3: 391.
90

الخلفاء الذين انتهى إليهم الأمر بعد أبي بكر وعمر، فامتلأ تاريخهم
بالمصادرات (1) التي كانوا يقومون بها، غير أن أبا بكر لم يطبق الرأي
إلا في أملاك بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة.
وقد تردد الحزب الحاكم في معالجة الأسلوب الثاني من المعارضة
بين الثنتين: -
(إحداهما) أن لا يقر للقرابة بشأن في الموضوع، ومعنى هذا أنه ينزع
عن خلافة أبي بكر ثوبها الشرعي الذي ألبسها إياه.
(والأخرى) أن يناقض نفسه فيظل ثابتا على مبادئه التي أعلنها في
السقيفة، ولا يرى حقا للهاشميين ولا امتيازا لهم في مقاييس الرجال، أو
يراه لهم ولكن في غير ذلك الظرف يكون معنى المعارضة فيه مقابلة
حكم قائم ووضع تعاقد عليه الناس.
واختارت الفئة المسيطرة أن تثبت على آرائها التي روجتها في مؤتمر
الأنصار وتعترض على المعارضين بأن مخالفتهم بعد بيعة الناس للخليفة
ليست إلا إحداثا للفتنة (2) المحرمة في عرف الإسلام.

(1) جرى أكثر الخلفاء بالا. خص الأمويين والعباسيين على تطبيق نظام المصادرات أو ما
يعرف في عصرنا (بالتأميم) أو الاستيلاء على الأموال المنقولة وغير المنقولة بأمر من
الحاكم، بعضها لأغراض اقتصادية - التأميم - وبعضها بسبب مخالفة من صودرت أموالهم
للدولة.
راجع بحثا مفصلا عن المصادرات في التاريخ / الدكتور محمد سعيد رضا / مجلة كلية
الآداب - جامعة البصرة - العدد 15 / 1978.
(2) تاريخ الطبري 2: 234 - 235 أحداث قصة السقيفة، وراجعها في الكامل / ابن الأثير.
91

وهذا هو الأسلوب الوقتي الذي اتخذه الحاكمون للقضاء على هذا
الجانب من المعارضة الهاشمية، وقد ساعدتهم الظروف الإسلامية الخاصة
يومئذ على نجاحه كما سنوضحه.
غير أننا نحس ونحن ندرس سياسة الحاكمين بأنهم انتهجوا منذ
اللحظة الأولى سياسة معينة تجاه آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقضاء على الفكرة التي
أمدت الهاشميين بقوة على المعارضة كما خنقوا المعارضة نفسها. ونستطيع
أن نصف هذه السياسة بأنها تهدف إلى إلغاء امتياز البيت الهاشمي، وإبعاد
أنصاره والمخلصين له عن المرافق 41 الهامة في جهاز الحكومة الإسلامية
يومئذ وتجريده عما له من الشأن والمقام الرفيع في الذهنية الإسلامية.
وقد يعزز هذا الرأي عدة ظواهر تاريخية:
(الأولى) سيرة الخليفة وأصحابه مع علي التي بلغت من الشدة أن عمر
هدد بحرق بينه وإن كانت فاطمة فيه (1)، ومعنى هذا إعلان أن فاطمة وغير
فاطمة من آلها ليس لهم حرمة تمنعهم عن أن يتخذ معهم نفس الطريقة
التي سار عليها مع سعد بن عبادة حين أمر الناس بقتله (2). ومن صور ذلك
العنف وصف الخليفة لعلي بأنه مرب لكل فتنة وتشبيهه له بأم طحال أحب
إلى أهلها إليها البغي (3)، وقد قال عمر لعلي بكل وضوح: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

(1) تاريخ الطبري 2: 233، العقد الفريد / ابن عبد ربه 4: 242 وما بعدها، شرح ابن أبي
الحديد 16: 47 - 48.
(2) راجع تاريخ الطبري 2: 244 في قصة السقيفة:... فقال ناس من أصحاب سعد: (اتقوا
سعدا لا تطؤوه، فقال عمر: اقتلوه قتله الله، ثم قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك
حتى تندر عضدك...).
(3) شرح نهج البلاغة 16: 215.
92

منا ومنكم.
(الثانية) أن الخليفة الأول لم يشارك شخصا من الهاشميين في شأن
من شؤون الحكم ا لمهمة، ولا جعل فيهم واليا على شبر من المملكة
الإسلامية الواسعة مع أن نصيب الأمويين في ذلك كان عظيما (1).
وأنت تفهم بوضوح أن هذا وليد سياسة متعمدة من محاورة وقعت
بين عمر وبان عباس أظهر تخوفه من تولية الثاني حمص، لأنه يخشى
إذا صارد الهاشميون ولاة على أقطار المملكة الإسلامية أن يموت وهم
كذلك فيحدث في أمر الخلافة ما لا يريد (2).
ونحن إذا عرفنا من رأي عمر أن ظفر ببيت من البيوت الطامحة إلى
السلطان بالولاية في الأقطار الإسلامية يهيؤهم لنيل الخلافة والمركز
الأعلى، ولا حظنا أن الأمويين ذوي الألوان السياسية الواضحة كان فيم
ولاة احتلوا الصدارة ت في ا لمجالات الإدارية أيام أبي بكر وعمر، وأضفنا إلى
ذلك أنه كان يعلم على أقل تقدير بأن الشورى التي ابتكرها سوف تجعل من
شيخ الأمويين عثمان خليفة، خرجنا بنتيجة مهمة وتقدير تاريخي تدل على
صحته عدة من الظواهر، وهو أن الخليفتين كانا يهيئان للسلطان الأموي
أسبابه ومعداته، وهما يعلمان حق العلم أن إنشاء كيان سياسي من جديد
للأمويين خصوم بني هاشم القدامى معناه تقديم المنافس للهاشميين في

(1) تاريخ الطبري 2: 337، ثم تولية الخليفة الأول معاوية بن أبي سفيان وأقرب الولاية من
قبل الخليفة الثاني.
(2) راجع مروج الذهب على هامش الجزء الخامس من تاريخ ابن الأثير ص 135. (الشهيد).
تاريخ الطبري 2: 578، طبعة دار الكتب العلمية.
93

زعيم أموي، وتطور المعارضة الفردية للبيت الهاشمي إلى معارضة بيت مستعد للنزاع والمناقشة أكمل استعداد.
ومن شأن هذه المعارضة أنها تطول وتتسع لأنها ليست متمثلة في
شخص بل في بيت كبير، ونستطيع أن نفهم من هذا أن سياسة الصديق
وعمر هي التي وضعت الحجر الأساسي لملك بني أمية حتى يضمنا بذلك
المنافس لعلي وآل 42 علي على طول الخط
(1).
(الثالثة) عزل الخليفة لخالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش
الذي وجهه لفتح الشام بعد أن أسندها إليه لا لشئ إلا لأن عمر نبهه إلى
نزعته الهاشمية وميله إلى آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذكره بموقفه تجاههم بعد وفاة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم (2).
ولو كنا نريد التوسع في دراسة هذه الناحية لعطفنا على هذه الشواهد
قصة الشورى العمرية (3) التي نزل فيها عمر (رضي الله تعالى عنه) بعلي عليه السلام
إلى صف أشخاص خمسة لا يكافئون عليا في شي من معانيه المحمدية،
وقد كان الزبير وهو أحد الخمسة يرى يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الخلافة
حق شرعي لعلي، فلاحظ كيف انتزع عمر هذا الرأي من عقله وأعده
للمنافسة بعد حين، إذ جعله أحد الستة الذين فيهم علي.

(1) وهذا هو السر السياسي الذي غفل عنه الباحثون في قصة الشورى. وقد جاء عن عمر أنه هدد
الستة الذين وأوكل إليهم الأمر بمعاوية، وتنبأ لهم بأنه سيملك الأمر... راجع شرح نهج البلاغة /
ابن أبي الحديد 1: 62، وهذا إن دل على فراسته، فهو على لون سياسته أدل. (الشهيد)
(2) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 1: 135. (الشهيد)
(3) راجع في قصة الستة الشورى - تاريخ الطبري 2: 580 - 581.
94

وإذن فقد كانت الفئة الحاكمة تحال أن تساوي بين بني هاشم وسائر
الناس وترتفع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الاختصاص بهم لتنتزع بذلك الفكرة
التي كانت تزود الهاشميين بطاقة على المعارضة. ولئن اطمأن الحاكمون
إلى أن عليا لا يثور عليهم في تلك الساعة الحرجة على الإسلام، فهم لا
يأمنون من انتفاضه بعد ذلك في كل حين، ومن الطبيعي حينئذ أن يسارعوا
إلى الاجهاز على كلتا قوتيه المادية والمعنوية ما دامت الهدنة قائمة قبل أن
يسبقهم إلى حرب أكول.
ومن المعقول بعد هذا أن يقف الخليفة موقفه التاريخي المعروف من
الزهراء في قضية فدك، فهو موقف تلاقى فيه الغرضان وتركز على الخطين
الأساسيين لسياسته، لأن الدواعي التي بعثته إلى انتزاع فدك كانت تدعوه
إلى الاستمرار على تلك الخطة ليسلب بذلك من خصمه الثروة التي كانت
سلاحا قويا في عرف الحاكمين يو مذاك، ويعزز بها سلطانه، وإلا فما الذي
كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد أن أعطته الوعد القاطع بأن تصرف
منتوجاتها في سبيل لخير ووجوه المصلحة العامة؟! (1) إلا أنه خاف منها أن
تفسر وعدها بما يتفق مع صرفها لغلات فدك في المجالات السياسية. وما
الذي صده عن إرضاء فاطمة بالتنازل لها عن حصته ونصيب ا لصحابة إذا
صح أن فدك ملك للمسلمين سوى أنه أراد أن يقوي بها خلافته؟
وأيضا فإننا إذا عرفنا أن الزهراء كانت سندا قويا لقرينها في دعوته إلى
نفسه، ودليلا يحتج به أنصار الأمام على أحقيته بالأمر، نستوضح أن الخليفة

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 4: 80 (الشهيد) طبعة قديمة.
95

كان موفقا كل التوفيق في موقفه تجاه دعوى الزهراء للنحلة، وجاريا على
المنهج السياسي الذي كان يفرضه عليه الظرف الدقيق، إذ اغتنم الفرصة
المناسبة لأفهام المسلمين بصورة لبقة، وعلى أسلوب غير مباشر بأن فاطمة
امرأة من النساء ولا يصح أن تؤخذ آراؤها ودعاويها دليلا في مسألة بسيطة
كفدك فضلا عن موضوع كالخلافة، وأنها إذا كانت 43 تطلب أرضا ليس لها بحق
فمن الممكن أن تطلب (1) لقرينها المملكة الإسلامية كلها وليس له فيها حق.
ونخرج من البحث بنتيجة وهي أن تأميم الصديق لفدك يمكن تفسيره:
1 - بأن الظرف الاقتصادي دعى إلى ذلك.
2 - بأن أبا بكر خشي أن يصرف علي ثروة قرينته في سبيل التوصل إلى
السلطان.
وإن موقفه من دعاوى الزهراء بعد ذلك واستبساله في رفضها قد
يكون مرده إلى هذين السببين:
1 - إلى مشاعر عاطفية كانت تنطوي عليها نفس الخليفة رضى عنه الله عرضنا
لجملة من أسبابها فيما سبق.
2 - وحدة سياسية عامة بنى عليها الصديق سيرته مع الهاشميين وقد
تبيناها من ظواهر الحكم يومئذ.

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 284، الطبعة المحققة / أبو الفضل إبراهيم، وفيه
جواب مدرس المدرسة الغربية علي بن الفارقي بهذا المعنى عندما سأله ابن أبي
الحديد... وقد عقب عليه بأنه كلام صحيح.
96

(الإمام علي عليه السلام خصائصه وموقفه من الخلافة)
لعل أعظم رقم قياسي ضربه أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام للتضحية في
سبيل الإسلام والاخلاص للمبدأ إخلاصا جرده عن جميع الاعتبارات
الشخصية وأقام منه حقيقة سامية سمو المبدأ ما بقي للمبدأ حياة هو الرقم
الذي سجله بموقفه (1) من خلافة الشورى وقدم بذلك في نفسه مثلا أعلى
للتفاني في المبدأ الذي صار شيئا من طبيعته.
إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تمكن من محو ضلال الوثنية، فقد استطاع
أن يجعل من علي بما أفاض عليه من حقائق نفسه عينا ساهرة على القضية
الإلهية، فنامت فيه الحياة الإنسانية بأهوائها ومشاعرها وصار يحيا بحياة
المبدأ والعقيدة (2).

(1) لاحظ موقفه من محاولة أبي سفيان، ودعوته إلى مجابهة مسلحة تسيل فيها الدماء، مع
الخلافة، التي انبثقت عن ا لشورى، فقد ذكر الطبري في تاريخه 2: 237 حدثت عن هشام،
قال: حدثني عوانه، قال: لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان، وهو يقول:
والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم؟ يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم!... وقال:
أبا حسن ابسط يديك أبايعك فأبى علي، فجعل يتمثل بأبيات... قال الراوي: فزجره علي
وقال: إنك والله ما أدرت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرا!
(2) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (علي مع الحق، والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا علي
الحوص يوم القيامة)، راجع في إخراج هذا الحديث: تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي
14: 321، تفسير الفخر الرازي 1: 111، المناقب / الخوارزمي: 77، المعجم الصغير / الطبراني
1: 255. (الشهيد)
وفي حديث آخر: (رحم الله عليا: اللهم أدر الحق معه حيثما دار).
راجع: التاج الجامع للأصول / الشيخ منصور علي ناصف 3: 337 قال: أخرجه
الترمذي، مستدرك الحاكم 3: 125 (الشهيد)، كنز العمال 6: 175، جامع الترمذي 2:
213. (الشهيد)
97

وإن كان للتضحية الإنسانية الفاضلة كتاب فأعمال علي عنوان ذلك
الكتاب المشع بأضواء الخلود (1).
وإن كان لمبادئ السماء التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعبير عملي على
وجه الأرض فعلي هو تعبيرها الحي على مدى الدهور والأجيال.
وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خلف في أمته عليا والقرآن (2) فإنما جمع
بينهما ليكون القرآن تفسيرا لمعاني علي العظيم، ولتكون معاني علي
أنموذجا لمثل القرآن الكريم.
وإن كان الله تعالى قد جعل عليا نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آية
المباهلة (3) فلأجل أن يفهم المسلمون أنه امتداد طبيعي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وشعاع
متألق من روحه العظيمة.
وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج من مكة مهاجرا خائفا على نفسه وخلف

(1) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لضربة علي يوم الخندق خير من عبادة الثقلين، أو قال: لمبارزة
علي لعمرو أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة).
راجع: المستدرك / الحاكم 3: 32. (الشهيد) نشر دار المعرفة - بيروت.
(2) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم الثقلين أو الخليفتين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا
بعدي، كتاب الله وعترتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
راجع صحيح مسلم 4: 1874، صحيح الترمذي 1: 130، سنن الدارمي 2: 432،
مسند الأمام أحمد 4: 217، المستدرك 3: 119.
(3) آية المباهلة، راجع تفسير الفخر الرازي / سورة آل عمران: 261، الصواعق المحرقة: 143،
أسباب النزول / الواحدي: 67 دار الكتب العلمية - بيروت.
98

عليا على فراشه (1) ليموت بدلا عنه، فمعنى ذلك أن المبدأ المقدس هو
الذي كان يرسم للعظيمين خطوط حياتهما، وإذا كان لا بد للقضية الإلهية
من شخص تظهر به وآخر يموت في سبيلها، فيلزم أن يبقى رجلها الأول
لتحيا به، ويقدم رجلها الثاني نفسه قربانا لتحيا به أيضا.
وإن كان علي هو الذي أباحت له السماء خاصة النوم في المسجد
والدخول فيه جنبا (2) فمفهوم هذا الاختصاص أن في معانيه معنى المسجد
لأن المسجد رمز السماء الصامت في دنيا المادة وعلي هو الرمز الإلهي
الحي في دنيا الروح والعقيدة.
وإن كانت السماء قد امتدحت فتوة علي وأعلنت عن رضاها عليه إذ
قال المنادي: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي (3)، فإنها عنت بذلك
أن فتوة علي وحدها هي الرجولة الكاملة التي لا يرتفع إلى مداها إنسان
ولا ترقى إلى أفقها بطولة الأبطال وإخلاص المخلصين.
ومن مهزلة الأقدار أن هذه الفتوة التي قدسها الهاتف الإلهي كانت
عيبا في رأى مشايخ السقيفة (4) ونقصا في علي يؤاخذ عليه وينزل به عن

(1) راجع تفسير الرازي 5: 204، نشر دار الكتب العلمية - طهران، سيرة ابن هشام 2: 95،
مطبعة الحجازي / ط 10، تذكرة سبط ابن الجوزي: 34.
(2) راجع مسند الأمام أحمد بن حنبل 4: 369، وشرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد
2: 451، وتذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي: 41، والصواعق المحرقة / ابن حجر: 123،
تاريخ الخلفاء / السيوطي: 172 قال: أخرجه البزار عن سعد. (الشهيد)
(3) راجع: تاريخ الطبري 2: 65، دار الكتب العلمية - بيروت (الشهيد). وابن هشام في
سيرته، وابن أبي الحديد في شرح النهج. (الشهيد)
(4) راجع شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 6: 45، وفيها: محاورة بين الخليفة الثاني
عمر وابن عباس، قال الخليفة عمر: (يا ابن عباس ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم
استصغروه... قال ابن عباس: فقلت: والله ما استصغره الله حين أمره أن يأخذه سورة براءة
من أبي بكر...). وفي ص 12 من شرح النهج: قول أبي عبيدة: (يا أبا الحسن إنك حديث
السن وهؤلاء مشيخة قريش قومك).
99

الصديق الذي لم يكن يمتاز عليه إلا بسنين قضاها كافرا مشركا. وأنا
لا أدري كيف صار الازدواج بين الجاهلية والإسلام في حياة شخص واحد
مجدا يمتاز به عمن خلصت حياته كلها لله (1).
ولئن ظهرت للناس في البحوث الجديدة القوم الطبيعية التي تجعل
الأجسام الدائرة حول المحور تسير على خط معين، فلقد ظهرت في علي
قبل مئات السنين قوة مثلها ولكنها ليست من حقائق الفيزياء، بل من قوى
السماء وهي التي جعلت من علي مناعة طبيعية للاسلام حفظت له مقامه
الأعلى ما دام الأمام حيا، ومحورا تدور عليه الحياة الإسلامية لتستمد منه
روحانيتها وثقافتها وروحها وجوهرها سواء أكان على رأس ا لحكم أو لا.
وقد علمت هذه القوة عملها السحري في عمر نفسه، فجذبته إلى
خطوطها المستقيمة مرارا حتى قال: لولا علي لهلك عمر (2)، وظهر تأثيرها
الجبار في التفاف المسلمين حوله في اليوم الذي أسندت فيه مقدرات
الخلافة إلى عامة المسلمين، ذلك الالتفاف الفذ (3) الذي يقل مثيله في
تاريخ الشعوب.
ونعرف من هذا أن عليا بما جهزته السماء به من تلك القوة، كان

(1) راجع الصواعق المحرقة: 120.
(2) راجع: الطبقات الكبرى / ابن سعد 2: 339، الصواعق المحرقة: 127.
(3) تاريخ الطبري 2: 696 وما بعدها.
100

ضرورة من ضرورات الإسلام (1) التي لا بد منها وشمسا يدور عليها الفلك
الإسلامي بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسب طبيعته التي لا يمكن أن تقاوم حتى التجأ
الفاروق إلى مسيرتها كما عرفت.
ويتجلي لدينا أيضا أن الانقلاب الفجائي في السياسة الحاكمة لم يكن
ممكنا يومئذ لأنه - مع كونه طفرة - يناقض تلك القوة الطبيعية المركزة في
شخصية الأمام، فكان من الطبيعي أن تسير السياسة الحاكمة في خط منحن
حتى تبلغ النقطة التي وصل إليها الحكم الأموي، تفاديا من تأثير تلك القوة
الساهرة على الاعتدال والانتظام كما ينحني السائق بسيارته عندما ينحرف
بها إلى نقطة معاكسة تحذرا من القوة الطبيعية التي تفرض الاعتدال في
السير. وهذا الفصل الرائع من عظمة الأمام يستحق دراسة وافية مستقلة قد
نقوم بها في بعض الفرص لنكشف بها عن شخصية علي المعارض للحكم
والساهر على قضية الإسلام والموفق بين حماية القوة الحاكمة من
الانحراف وبين معارضتها في نفس الوقت.
وإن كانت مواقف الأمام كلها رائعة، فموقفه من الخلافة بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أكثرها روعة (2).
وإن كانت العقيدة الإلهية تريد في كل زمان بطلا يفتديها بنفسه، فهي

(1) وعلى ضوء ما بيناه نفهم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت
خليفتي. وقوله له عندما تهيأ للخروج إلى غزوة تبوك: لا بد أن أقيم أو تقيم. راجع: مسند
الأمام أحمد 1: 331، ذخائر العقبى: 46 87، الخصائص / النسائي: 80 - 81. (الشهيد)،
صحيح الترمذي 5: 596 مطبعة دار الفكر.
(2) سيأتي بيان هذه النقطة في الفصل الأخير.
101

تريد أيضا بطلا يتقبل القران ويعزز به المبدأ، وهذا هوى الذي بعث بعلي إلى
فراش الموت (1) وبالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مدينة النجاة يوم الهجرة الأغر كما أشرنا
إليه قريبا، ولم يكن ليتهيأ للأمام في محنته بعد وفاة أخيه أن يقدم لها كلا
البطلين، لأنه ضحى بنفسه في سبيل توجيه الخلافة إلى مجراها الشرعي
في رأيه لما بقي بعده من يمسك الخيط من طرفيه، وولدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
طفلان لا يتهيأ لهما من الأمر ما يريد.
وقف علي عند مفترق طريقين كل منهما حرج وكل منهما شديد على
نفسه: -
(أحدهما) أن يعلن الثورة المسلحة على خلافة أبي بكر.
(والاخر) أن يسكت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، ولكن ماذا
كان يترقب للثورة من نتائج؟ هذا ما نريد أن نتبينه على ضوء الظروف
التاريخية لتلك الساعة العصيبة.
إن الحاكمين لم يكونوا ينزلون عن مراكزهم بأدنى معارضة وهم من
عرفناهم حماسة وشدة في أمر الخلافة. ومعنى هذا أنهم سيقابلون
ويدافعون عن سلطانهم الجديد، ومن المعقول جدا حينئذ أن يغتنم سعد بن
عبادة الفرصة ليعلنها حربا أخرى في سبيل أهوائه السياسية، لأننا نعلم أنه
هدد الحزب المنتصر بالثورة عندما طلب منه البيعة وقال: (لا والله حتى

(1) راجع الرازي في التفسير الكبير / 5: 204 في افتداء الإمام علي عليه السلام النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
في يوم هجرته المباركة وانجاء الرسول من الموت، وفيه نزلت الآية المباركة: (ومن
الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) البقرة / 207.
102

أرميكم بما في كنانتي وأخضب سنان رمحي وأضرب بسيفي وأقاتلكم بأهل
بيتي ومن أطاعني ولو اجتمع معكم الأنس والجن ما بايعتكم) (1). وأكبر
الظن أنه تهيب الأقدام على الثورة ولم يجرأ على أن يكون أول شاهر للسيف
ضد الخلافة القائمة، وإنما اكتفى بالتهديد الشديد الذي كان بمثابة إعلان
الحرب، وأخذ يترقب تضعضع الأوضاع ليشهر سيفه بين السيوف، فكان
حريا به أن تثور حماسته ويزول تهيبه ويضعف الحزب القائم في نظره إذا
رأى صوتا قويا يجهر بالثورة فيعيدها جذعة ويحاول إجلاء المهاجرين من
المدينة بالسيف (2) كما أعلن ذلك المتكلم عن لسانه في مجلس السقيفة.
ولا ننسى بعد ذلك الأمويين وتكتلهم السياسي في سبيل الجاه
والسلطان، وما كان لهم من نفوذ في مكة في سنواتها الجاهلية الأخيرة، فقد
كان أبو سفيان زعيمها في مقاومة الإسلام والحكومة النبوية، وكان عتاب
ابن أسيد بن أبي العاص بن أمية أميرها المطاع في تلك الساعة.
وإذا تأملنا ما جاء في تاريخ تلك الأيام (3) من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما
توفي ووصل خبره إلى مكة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن
أمية استخفى عتاب وارتجت المدينة وكاد أهلها يرتدون، فقد لا نقتنع بما
يعلل به رجوعهم عن الارتداد من العقيدة والأيمان. كما أني لا أؤمن بأن

(1) راجع تاريخ الطبري 2: 244. 47
(2) تاريخ الطبري 2: 243، قصة السقيفة، قول الحباب بن المنذر: (أما والله لئن شئتم لنعيدنها
جذعة....).
(3) الكامل في التاريخ / ابن الأثير 3: 123 وصل خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان عتاب بن أسيد
ابن أبي العاص بن أمية أميرا على مكة.
103

مرد ذلك التراجع إلى أنهم رأوا في فوز أبي بكر فوزهم وانتصارهم على أهل
المدينة كما ذهب إليه بعض الباحثين، لأن خلافة أبي بكر كانت في اليوم
الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكبر الظن أن خبر الخلافة جاءهم مع خبر
الوفاة، بل تعليل القضية في رأيي أن الأمير الأموي عتاب بن أسيد شاء أن
يعرف اللون السياسي الذي اتخذته أسرته في تلك الساعة، فاستخفى وأشاع
بذلك الاضطراب حتى إذا عرف ان أبا سفيان قد رضي بعد سخط وانتهى
مع الحاكمين إلى نتائج في صالح البيت الأموي (1) ظهر مرة أخرى للناس
وأعاد الأمور إلى مجاريها. وعليه فالصلة السياسية بين رجالات الأمويين
كانت قائمة في ذلك الحين. وهذا التقدير يفسر لنا القوة التي تكمن وراء
أقوال أبي سفيان حينما كان ساخطا على أبي بكر وأصحابه، إذ قالك إني
لأرى عجاجة لا يطفيها إلا الدم، وقال عن علي والعباس: أما والذي نفسي
بيده لأرفعن لهما من أعضادهما (2). فالأمويون قد كانوا متأهبين للثورة
والانقلاب، وقد عرف علي منهم ذلك بوضوح حينما عرضوا عليه أن
يتزعم المعارضة ولكنه عرف أنهم ليسوا من الناس الذين يعتمد على
تأييدهم، وإنما يريدون الوصول إلى أغراضهم عن طريقه، فرفض طلبهم،
وكان من المنتظر حينئذ أن يشقوا عصا الطاعة إذا رأوا الأحزاب المسلحة
تتناحر، ولم يطمئنوا إلى قدرة الحاكمين على ضما ن مصالحهم، ومعنى
انشقاقهم حينئذ إظهارهم للخروج عن الدين وفصل مكة عن المدينة.

(1) راجع تاريخ الطبري / 2: 237، هدأت ثائرة أبي سفيان بعد أن ولى الخليفة الأول ابنه
معاوية... فقال: وصلته رحم.
(2) تاريخ الطبري 2: 237.
104

وإذن فقد كانت الثورة العلوية في تلك الظروف إعلانا لمعارضة
دموية تتبعها معارضات دموية ذات أهواء شتى، وكان فيها تهيئة لظرف قد
يغتنمه المشاغبون ثم المنافقون.
ولم تكن ظروف المحنة تسمح لعلي بأن يرفع صوته وحده في وجه
الحكم القائم، بل لتناحرت ثورات شتى، وتقاتلت مذاهب متعددة
الأهداف والأغراض، ويضيع بذلك الكيان الإسلامي في اللحظة الحرجة
التي يجب أن يلتف فيها المسلمون حول قيادة موحدة، ويركزوا قواهم
لصد ما كان يترقب أن تتمخض عنه الظروف الدقيقة من فتن وثورات.
إن عليا الذي كان على أتم استعداد لتقديم نفسه قربانا للمبدأ في جميع
أدوار حياته (1) منذ أن ولد في البيت الإلهي وإلى أن قتل فيه، قد ضحى
بمقامه الطبيعي ومنصبه الإلهي فهي سبيل المصالح العليا التي جعله رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وصيا عليها وحارسا لها.
ولفقدت بذلك الرسالة المحمدية الكبرى بعض معناها، فإن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم لما أمره ربه بتبليغ دعوته والأنذار برسالته جمع بني عبد المطلب
وأعلن عن نبوته بقوله: (إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل
مما قد جئتكم به). وعن إمامة أخيه بقوله: (إن هذا أخي ووصيي وخليفتي
فيكم فاسمعوا له وأطيعوا) (2) ومعنى ذلك أن إمامة علي تكملة طبيعية لنبوة

(1) راجع مختصر تاريخ ابن عساكر / ابن منظور 17: 356 وما بعدها، الخصائص / النسائي،
تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي وغيرهم كثير، ينقلون لك مواقف ابن أبي طالب منذ
الأيام الأولى للرسالة إلى أن توفاه الله تعالى شهيدا في المحراب.
(2) تاريخ الطبري 3: 218 - 219، المطبعة الحسينية بمصر - الطبعة الأولى / 1903، تفسير
الخازن 3: 371، وشرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد - الطبعة القديمة. (الشهيد)
105

محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الرسالة السماوية قد أعلنت عن نبوة محمد الكبير صلى الله عليه وآله وسلم
وإمامة محمد الصغير في وقت واحد.
إن عليا الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وربى الإسلام معه - فكانا ولديه
العزيزين - كان يشعر بإخوته لهذا الإسلام. وقد دفعه هذا الشعور إلى افتداء
أخيه بكل شئ حتى أنه اشترك في حروب الردة التي أعلنها المسلمون
يو مذاك (1)، ولم يمنعه تزعم غيره لها عن القيام بالواجب المقدس، لأن أبا
بكر إن كان قد ابتزه حقه ونهب تراثه، فالاسلام قد رفعه إلى القمة وعرف له
أخوته الصادقة وسجلها بأحرف من نور على صفحات الكتاب الكريم.
وصمد الأمام على ترك الثورة ولكن ماذا يفعل؟ وأي أسلوب يتخذه
لموقفه؟ هل يحتج على الفئة الحاكمة بنصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكلماته التي
أعلنت أن عليا هو القطب المعد لأن يدور عليه الفلك الإسلامي والزعيم
الذي قدمته السماء إلى أهل الأرض (2)؟؟
تردد هذا السؤال في نفسه كثيرا ثم وضع له الجواب الذي تعينه
ظروف محنته وتلزمه به طبيعة الأوضاع القائمة، فسكت عن النص إلى حين.
(مسألة عدم الاحتجاج بالنص)
ونحن نتبين من الصورة المشوشة التي عرفناها عن تلك الظروف والأوضاع

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 4: 165. (الشهيد)
(2) كما هو نص حديث الغدير المتواتر ونصوص أخرى تؤكد أن عليا هو ولي المؤمنين بعد
النبي. راجع: التاج الجامع للأصول 3: 335، وأخرجه ابن ماجة في سننه - المقدمة 1:
11، مسند الأمام أحد 4: 281، الصواعق المحرمة: 122، مكتبة القاهرة، ط 2 / 1965.
106

أن الاعتراض بتلك النصوص المقدسة والاحتجاج بها في ساعة ارتفع فيها
المقياس الزئبقي للأفكار المحمومة والأهواء الملتهبة التي سيطرت على
الحزب الحاكم إلى الدرجة العالية، كان من التقدير المعقول افتراض
النتائج السيئة له، لأن أكثر النصوص (1) التي صدرت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
شأن الخلافة لم يكن قد سمعها إلا مواطنوه في المدينة من مهاجرين
وأنصار فكانت تلك النصوص إذن الأمانة الغالية عند هذه الطائفة التي
لابد أن تصل عن طريقهم إلى سائر الناس في دنيا الاسلام يومئذ وإلى
الأجيال المتعاقبة والعصور المتتالية. ولو احتج الأمام على جماعة أهل
المدينة بالكلمات التي سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شأنه وأقام منها دليلا
على إمامته وخلافته كان الصدى الطبيعي لذلك أن يكذب الحزب الحاكم
صديق الأمة (2) في دعواه وينكر تلك النصوص التي تمحو من خلافة
الشورى لونها الشرعي وتعطل منها معنى الدين.
وقد لا يجد الحق صوتا قويا يرتفع به في قبال ذلك الإنكار، لأن كثيرا
من قريش وفي مقدمتهم الأمويون كانوا طامحين إلى مجد السلطان ونعيم
الملك، وهم يرون في تقديم الخليفة على أساس من النص النبوي تسجيلا
لمذهب الإمامة الإلهية. ومتى تقررت هذه النظرية في عرف الحكم

(1) النصوص التي صدرت عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بحق الإمام علي عليه السلام في الخلافة
والإمامة والولاية لا تحصى كثرة، راجع على سبيل المثال: كتاب الغدير / العلامة الأميني،
مختصر تاريخ ابن عساكر 17: 356 وما بعدها، التاج الجامع للأصول في أحاديث
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم 3: 333 وما بعدها، الصواعق المحرقة: 122 قال: روى حديث الغدير
ثلاثون صحابيا.
(2) راجع: الصواعق المحرقة: قال أمير المؤمنين: (أنا الصديق الأكبر لا يقولها غيري إلا كذاب).
107

الإسلامي كان معناها حصر الخلافة في بني هاشم آل محمد الأكرمين
وخروج غيرهم من المعركة خاسرا. وقد نلمح هذا اللون من التفكير في
قول عمر لابن عباس معللا إقصاء علي عن الأمر: (إن قومكم كرهوا أن
يجمعوا لكم الخلافة والنبوة) * (1) فقد يدلنا هذا على أن إسناد الأمر إلى علي
في بداية الأمر كان معناه في الذهنية العامة حصر الخلافة في الهاشميين،
وليس لذلك تفسير أولي من أن المفهوم لجمهرة من الناس يومئذ من الخلافة
العلوية تقرير شكل ثابت للخلافة يستمد شرعيته من نصوص السماء لا من
انتخاب المنتخبين. فعلي إن وجد نصيرا من علية قريش يشجعه على مقاومة
الحاكمين، فإنه لا يجد منهم عضدا في مسألة النص إذا تقدم إلى الناس
يحدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سجل الخلافة لأهل بيته حين قال: إني
مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي الخ (2).
وأما الأنصار فقد سبقوا جميع المسلمين إلى الاستخفاف بتلك
النصوص، والاستهانة بها، إذ حدت بهم الشراهة إلى الحكم إلى عقد
مؤتمر في سقيفة بني ساعدة ليصفقوا على يد واحد (3) منهم. فلن يجد علي
فيهم إذا استدل بالنصوص النبوية جنودا للقضية العادلة وشهودا عليها،
لأنهم إذا شهدوا على ذلك يسجلون على أنفسهم تناقضا فاضحا في يوم
واحد وهذا ما يأبونه على أنفسهم بطبيعة الحال.

(1) راجع: تاريخ ابن الأثير 3: 24. (الشهيد)، تاريخ الطبري 2: 577، محاورة الخليفة عمر
مع ابن عباس.
(2) راجع الرواية في صحيح مسلم 4: 1874، مسند الأمام أحمد 4: 281 طبعة دار صادر.
(3) راجع تاريخ الطبري 2: 242 في اتفاقهم على سعد بن عيادة.
108

وليس في مبايعة الأوس لأبي بكر أو قول من قال: لا نبايع إلا عليا (1)
مناقضة كتلك المناقضة، لأن المفهوم البديهي من تشكيل مؤتمر السقيفة أن
مسألة الخلافة مسألة انتخاب لا نص، فليس إلى التراجع عن هذا الرأي في
يوم إعلانه من سبيل.
وأما اعتراف المهاجرين بالأمر فلا حرج فيه لأن الأنصار لم يجتمعوا
على رأي واحد في السقيفة وإنما كانوا يتذاكرون ويتشاورون، ولذا نرى
الحباب بن المنذر (2) يحاول بث الحماسة في نفوسهم والاستمالة بهم إلى
رأيه بما جلجل به في ذلك الاجتماع من كلام وهو يوضح أنهم جمعوا
لتأييد فكرة لم يكن يؤمن بها إلا بعضهم.
وإذن فقد كان الأمام يقدر أنه سوف يدفع الحزب الحاكم إلى إنكار
النصوص والاستبسال في هذا الإنكار إذا جاهر بها ولا يقف إلى جانبه
حينئذ صف ينتصر له في دعواه، لأن الناس بين من قادهم الهوى السياسي
إلى إنكار عملي للنص يسد عليهم مجال التراجع بعد ساعات، وبين من يرى
أن فكرة النص تجعل من الخلافة وقفا على بني هاشم لا ينازعهم فيها
منازع. وإذا سجلت الجماعة الحاكمة وأنصارها إنكارا للنص واكتفى
الباقون بالسكوت في الأقل فمعنى هذا أن النص يفقد قيمته الواقعية وتضيع
بذلك مستمسكات الإمامة العلوية كلها ويؤمن ا لعالم الإسلامي الذي كان
بعيدا عن مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إنكار المنكرين لأنه منطق القوة الغالب في
ذلك الزمان.

(1) تاريخ الطبري 2: 233.
(2) المصدر نفسه 2: 243.
109

لنلاحظ ناحية أخرى فإن عليا لو ظفر بجماعة توافقه على دعواه،
وتشهد له بالنصوص النبوية المقدسة، وتعارض إنكار الفئة الحاكمة، كان
معنى ذلك أن ترفض هذه الجماعة خلافة أبي بكر وتتعرض لهجوم شديد
من الحاكمين ينتهي بها إلى الاشتراك في حرب مع الحزب الحاكم المتحمس
لكيانه السياسي إلى حد بعيد، فإنه لا يسكت عن هذا اللون من المعارضة
الخطرة. فمجاهرة علي بالنص كانت تجره إلى المقابلة العملية، وقد عرفنا
سابقا أنه لم يكن مستعدة لاعلان الثورة على الوضع القائم والاشتراك مع
السلطات المهيمنة في قتال.
ولم يكن للاحتجاج بالنص أثر واضح من أن تتخذ السياسة الحاكمة
احتياطاتها وأساليبها الدقيقة لمحو تلك الأحاديث النبوية من الذهنية
الإسلامية، لأنها تعرف حينئذ أن فيها قوة خطر على ا لخلافة القائمة ومادة
خصبة لثورة المعارضين في كل حين.
وإني أعتقد أن عمر لو التفت إلى ما تنبه إليه الأمويون بعد أن احتج
الأمام بالنصوص في أيام خلافته (1)، واشتهرت بين شيعته، من خطرها
لاستطاع أن يقطعها من أصولها، ويقوم بما لم يقدر الأمويون عليه من إطفاء
نورها. وكان اعتراض الأمام بالنص في تلك الساعة ينبهه إلى ما يجب أن
ينتهجه من أسلوب فأشفق على النصوص المقدسة أن تلعب بها السياسة

(1) أشهد الإمام علي عليه السلام جماعة المسلمين على نص حديث الغدير في زمن خلافته، راجع:
البداية والنهاية / ابن كثير 7: 360، وقد أشهد علي جمعا من الناس فشهد له ثلاثون أنهم
سمعوا هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الصواعق المحرقة: 122 قال: رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ثلاثون صحابيا، وأن كثيرا من طرقه صحيح أو حسن...).
110

وسكت عنها على مضض، واستغفل بذلك خصومه، حتى إن عمر (رضي الله
تعالى عنه) نفسه صرح بأن عليا هو ولي كل مؤمن ومؤمنة بنص النبي (1) صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم ألم يكن من المعقول أن يخشى الأمام على كرامة حبيبه وأخيه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تنتقض وهي أغلى عنده من كل نفيس - إذا جاهر بنصوص
النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وهو لم ينس موقف الفاروق من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين طلب دواة
ليكتب كتابا لا يضل الناس بعده أبدا، فقال عمر: (إن النبي ليهجر أو قد
غلب عليه الوجع) (2). وقد اعترف فيما بعد لابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كان يريد أن يعين عليا للخلافة وقد صده عن ذلك خوفا من الفتنة (3).
وسواء أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يحرر حق علي في الخلافة أو
لا، فإن المهم أن نتأمل موقف عمر من طلبه، فهو إذا كان مستعدا لاتهام
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجها لوجه بما ينزهه عنه نص القرآن 51 (4)، وضرورة الإسلام،
خوفا من الفتنة، فما الذي يمنعه عن اتهام آخر له بعد وفاته مهما تلطفنا في
تقديره فلا يقل عن دعوى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يصدر عن أمر الله في
موضوع الخلافة، وإنما استخلف عليا بوحي من عاطفته، بل كان هذا أولى
من تلك المعارضة لأن الفتنة التي تقوم بدعوى على النص أشد مما كان
يترقبه عمر من اضطراب فيما إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خلف نصت تحريريا

(1) ذخائر العقبى: 67، والحديث يدلنا على أن الفاروق كان يميل أحيانا إلى تغيير
الطريقة التي سار عليها الحزب في بداية الأمر مع الهاشميين، غير أن الطابع السياسي
الأول غلب عليه أخيرا. (الشهيد)، مسند الأمام أحمد بن حنبل 4: 281.
(2) راجع الرواية في صحيح البخاري 1: 37 باب كتابة العلم.
(3) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 3: 97، طبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر.
(4) القرآن يقول: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) سورة النجم / 3 و 4.
111

بإمامة علي يعلمه الجميع.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ترك التصريح بخلافة علي في ساعته
الأخيرة لقول قاله عمر، فإن المفهوم أن يترك الوصي الاحتجاج بالنصوص
خوفا من قول قد يقوله.
ونتيجة هذا البحث أن سكوت أمير المؤمنين عن النص إلى حين، كان
يفرضه عليه:
1 - إنه لم يكن يجد في رجالات تلك الساعة من يطمئن إلى شهادته بذلك.
2 - إن الاعتراض بالنصوص كان من الحري به أن يلفت أنظار الحاكمين
إلى قيمتها المادية، فيستعملون شتى الأساليب لخنقها.
3 - إن معنى الاعتراض بها التهيؤ للثورة بأوسع معانيها، وهذا ما لم يكن
يريده الامام.
4 - إن اتهام عمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في آخر ساعاته عرف عليا بمقدار تفاني
الحاكمين في سبيل مراكزهم، ومدى استعدادهم لتأييدها والمدافعة عنها
وجعله يخاف من تكرر شئ من ذلك فيما إذا أعلن عن نصوص إمامته.
(المواجهة السلمية)
انتهى الأمام إلى قرار حاسم، وهو ترك الثورة وعدم التسلح بالنصوص في
وجه الحاكمين جهارا وعلانية إلا إذا اطمأن إلى قدرته على تجنيد الرأي
العام ضد أبي بكر وصاحبيه، وهذا ما أخذ يحاوله علي في محنته آنذاك.
112

فبدأ يطوف (1) سرا على زعماء المسلمين ورجالات المدينة، يعظهم
ويذكرهم ببراهين الحق وآياته، وإلى جانبه قرينته تعزز موقفه وتشاركه في
جهاده السري، ولم يكن يقصد بذلك التطواف إنشاء حزب يتهيأ له القتال به
لأننا نعرف أن عليا كان له حزب من الأنصار هتف باسمه، وحاول الالتفاف
حوله وإنما أراد أن يمهد بتلك المقابلات لاجماع الناس عليه.
وهنا تجئ مسألة فدك لتحتل الصدارة في السياسة العلوية الجديدة،
فإن الدور الفاطمي الذي رسم هارون النبوة خطوطه بإتقان، كان متفقا مع
ذلك التطواف الليلي في فلسفته وجديرا بأن يقلب الموقف على الخليفة
وينهي خلافة الصديق كما تنتهي القصة التمثيلية لا كما يقوض حكم مركز
على القوة والعدة.
وكان الدور الفاطمي يتلخص في أن تطالب الصديقة الصديق بما
انتزعه منها من أموا ل، وتجعل هذه المطالبة وسيلة للمناقشة في المسألة
الأساسية وأعني بها مسألة الخلافة وإفهام الناس بأن ا للحظة التي عدلوا فيها
عن علي عليه السلام إلى أبي بكر كانت لحظة هوس وشذوذ (2)، وأنهم بذلك
أخطأوا وخالفوا كتاب ربهم ووردوا غير شربهم (3).

(1) راجع شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 6: 13، الطبعة المحققة، أخرج عن أبي جعفر
محمد بن علي عليهما السلام أن عليا حمل فاطمة على حمار وسار بها ليلا إلى بيوت الأنصار،
يسألهم النصر ة، وتسألهم فاطمة الانتصار له).
(2) راجع: بلاغات النساء: 25: قالت في هذا المعنى من خطبة لها عليها السلام: (وأطلع الشيطان
رأسه من مغرزه، صارخا بكم، فوجدكم لدعائه مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين،
فاستنهضكم فوجدكم خفافا... فوسمتم غير إبلكم).
(3) جاء في شرح البلاغة / ابن أبي الحديد 6: 12: قال علي عليه السلام في محاورة مع القوم:
(يا معشر المهاجرين الله الله، لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم،
ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق
بهذا الأمر منكم..).
113

ولما اختمرت الفكرة في ذهن فاطمة اندفعت لتصحح أوضاع الساعة
وتمسح عن الحكم الإسلامي الذي وضعت قاعدته الأولى في السقيفة
الوحل الذي تلطخ به، عن طريق اتهام الخليفة الحاكم بالخيانة السافرة،
والعبث بكرامة القانون، واتهام نتائج المعركة الانتخابية التي خرج منها أبو
بكر خليفة بمخالفة ا لكتاب والصواب (1).
وقد توفرت في المقابلة الفاطمية ناحيتان لا تتهيئان للأمام فيما لو
وقف موقف قرينته.
(إحداهما) إن الزهراء أقدر منه بظروف فجيعتها الخاصة ومكانتها من
أبيها، على استثارة العواطف، وإيصال المسلمين بسلك من كهرباء الروح
بأبيها العظيم صلوات الله عليه وأيامه الغراء وتجنيد مشاعرهم لقضايا
أهل البيت.
(والأخرى) إنها مهما تتخذ لمنازعتها من أشكال فلن تكتسب لون
الحرب المسلحة التي تتطلب زعيما يهيمن عليها ما دامت امرأة وما دام
هارون النبوة في بيته محتفظا بالهدنة التي أعلنها حتى تجتمع الناس عليه
ومراقبا للموقف ليتدخل فيه متى شاء، متزعما للثورة إذا بلغت حدها
الأعلى أو مهدئا للفتنة إذا لم يتهيأ له الظرف الذي يريده. فالحوراء

(1) راجع الصواعق المحرقة: 36، طبعة مكتبة القاهرة، قال الخليفة الثاني: (كانت بيعة
أبي بكر فلتة وقى الله شرها فمن عاد لمثلها فاقتلوه...).
114

بمقاومتها إما أن تحقق انتقاضا إجماعيا على الخليفة وإما أن لا تخرج عن
دائرة الجدال والنزاع ولا تجر إلى فتنة وانشقاق.
وإذن فقد أراد الأمام صلوات الله عليه أن يسمع الناس يومئذ صوته
من فم الزهراء ويبقى هو بعيدا عن ميدان المعركة ينتظر اللحظة المناسبة
للاستفادة منها، والفرصة التي تجعل منه رجل الموقف. وأراد أيضا أن
يقدم لامة القرآن كلها في المقابلة الفاطمية برهانا على بطلان الخلافة
القائمة. وقد تم للأمام ما أراد حيث عبرت الزهراء صلوات الله عليها عن
الحق العلوي تعبيرا واضحا فيه ألوان من الجمال والنضال.
وتتلخص المعارضة الفاطمية في عدة مظاهر: -
(الأول) إرسالها لرسول (1) ينازع أبا بكر في مسائل الميراث ويطالب
بحقوقها وهذه هي الخطوة الأولى التي انتهجتها الزهراء صلوات الله عليها
تمهيدا لمباشرتها للعمل بنفسها.
(الثاني) مواجهتها بنفسها له في اجتماع خاص (2) وقد أرادت بتلك
المقابلة أن تشتد في طلب حقوقها من الخمس وفدك وغير هما لتعرف مدى
استعداد الخليفة للمقاومة.
ولا ضرورة في ترتيب خطوات المطالبة على أسلوب تتقدم فيه
دعوى النحلة على دعوى الميراث كما ذهب إلى ذلك أصحابنا، بل قد

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 218 - 219 عن أبي الطفيل قال: (أرسلت فاطمة
إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم أهله؟ قال: بل أهله...).
(2) المصدر السابق 16: 230.
115

يغلب على ظني تقدم المطالبة بالإرث، لأن الرواية تصرح بأن رسول
الزهراء إنما كان يطالب بالميراث، والأقرب في شأن هذه الرسالة أن تكون
أولى الخطوات كما يقضي به التدرج الطبيعي للمنازعة، وأيضا فإن دعوى
الإرث أقرب الطريقين إلى استخلاص الحق لثبوت التوارث (1) في التشريع
الإسلامي بالضرورة فلا جناح على الزهراء في أن تطلب ابتداء ميراثها من
أبيها الذي يشمل في معتقد الخليفة لعدم اطلاعه على النحلة (2) وليس
في هذه المطالبة مناقضة لدعوى نحلة فدك إطلاقا، لأن المطالبة بالميراث
لم تتجه إلى فدك خاصة وإنما تعلقت بتركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عامة.
(الثالث) خطبتها في المسجد بعد عشرة أيام من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما
في شرح النهج (3) لابن أبي الحديد.
(الرابع) حديثها مع أبي بكر وعمر حينما زاراها بقصد الاعتذار منها
وإعلانها غضبها عليهما وأنهما أغضبا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك (4).

(1) ثبوت التوارث في التشريع الإسلامي من ضروريات الإسلام للنصوص الصريحة القطعية،
منها (للرجال نصيب مما ترك الولدان والأقربون وللنساء نصيب) النساء / 7 وقال تعالى:
(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين...). النساء / 11.
(2) ادعى الخليفة الأول عدم اطلاعه على النحلة - شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 225.
(3) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 211 أخرج عن جماعة قال: (قالوا: لما بلغ
فاطمة عليها السلام إجماع أبي بكر على منعها فدك، لاثت خمارها وأقلبت في لمة من حفدتها
ونساء قومها... حتى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار...).
(4) راجع: الإمامة والسياسة / ابن قتيبة: 14. (الشهيد)، شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد
16: 281، 264. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني)
صحيح البخاري 5: 83 باب 43 - فضائل الصحابة، أعلام النساء 4: 123. (الشهيد)
116

(الخامس) خطابها الذي ألقته على نساء المهاجرين والأنصار حين
اجتماعهن عندها (1).
(السادس) وصيتها بأن لا يحضر تجهيزها ودفنها (2) أحد من خصومها
وكانت هذه الوصية الإعلان الأخير من الزهراء عن نقمتها على الخلافة
القائمة.
وقد فشلت الحركة الفاطمية بمعنى ونجحت بمعنى آخر.
فشلت لأنها لم تطوح بحكومة الخليفة رضى عنه الله في زحفها الأخير الخطير
الذي قامت به في اليوم العاشر من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا نستطيع أن نتبين الأمور التي جعلت الزهراء تخسر المعركة، غير
أن الأمر الذي لا ريب فيه أن شخصية الخليفة رضى عنه الله من أهم الأسباب التي
أدت إلى فشلها، لأنه من أصحاب المواهب السياسية، وقد عالج الموقف
بلباقة ملحوظة نجد لها مثالا فيما أجاب به الزهراء من كلام وجهه إلى
الأنصار من خطاب بعد انتهائها من خطبتها في المسجد. فبينما هو يذوب
رقة في جوابه للزهراء وإذا به يطوي نفسه على نار متأججة تندلع بعد خروج
فاطمة من المسجد، في أكبر الظن، فيقول: ما هذه الرعة إلى كل قالة إنما
هو ثعالة شهيده ذنبه (3) - وقد نقلنا الخطاب كاملا فيما سبق - فإن هذا
الانقلاب من اللين والهدوء إلى الغضب الفائر يدلنا على مقدار ما أوتي من

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 233.
(2) المصدر السابق 6: 281، حلية الأولياء 2: 42. مستدرك الحاكم 3: 178 طبعة دار
الكتب العلمية.
(3) راجع الخطبة في شرح نهج البلاغة 16: 214 - 215.
117

سيطرة على مشاعره وقدرته على مسايرة الظرف وتمثيل الدور المناسب في
كل حين.
ونجحت معارضة الزهراء لأنها جهزت الحق بقوة قاهرة، وأضافت
إلى طاقته على الخلود في ميدان النضال المذهبي طاقة جديدة. وقد سجلت
هذا النجاح في حركتها كلها وفي محاورتها مع الصد يق والفاروق عند
زيارتهما لها بصورة خاصة إذ قالت لهما: أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعرفانه وتفعلان به؟ فقالا: نعم، فقالت: نشدتكما الله ألم
تسمعا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة
من سخطي، فمن أحب فاطمة فقد أحبني ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني
ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني) (1) قالا: نعم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قالت: (فإني اشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن
لقيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأشكونكما عنده) (2).

(1) صحت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبائر متعددة بهذا المعنى فقد جاء عنه في الصحيح أنه قال
لفاطمة (رضي الله عنها): (إن الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك..) وقال: (فاطمة
بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها)..
راجع: صحيح البخاري 5: 83 باب 43 حديث رقم 232، صحيح مسلم 4: 1902
حديث رقم 93 / 2449، مستدرك الحاكم 3: 167 حديث رقم 4730 / 328، دار الكتب
العلمية. (الشهيد)، ذخائر العقبى: 39، مسند الأمام أحمد بن حنبل 4: 328، جامع
الترمذي 5: 699، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الصواعق المحرقة / ابن حجر: 190 -
طبعة القاهرة، كفاية الطالب: 365، دار احياء تراث أهل البيت - طهران.
(2) تجد غضب فاطمة عليها السلام على أبي بكر في صحيح البخاري 5: 5 وصحيح مسلم 2: 72
ومسند الأمام أحمد 6: 1، تاريخ الطبري 2: 236، كفاية الطالب: 266، سنن البيهقي 6:
300. (الشهيد)
118

ويصور لنا هذا الحديث مدى اهتمامها بتركيز الاعتراض على خصميها
ومجاهرتهما بغضبها ونقمتها لتخرج من المنازعة بنتيجة لا نريد درسها
والانتهاء فيها إلى رأي معين لأن ذلك خارج عن دائر ة عنوان هذا البحث
ولأننا نجل الخليفة عن أن ندخل معه في مثل هذه المناقشات وإنما نسجلها
لتوضيح أفكار الزهراء صلوات الله عليها ووجهة نظرها، فقط، فإنها كانت
تعتقد أن النتيجة التي حصلت عليها هي الفوز المؤكد في حساب العقيدة
والدين وأعني بها أن الصديق قد استحق غضب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم
بإغضابها، وآذاهما بأذاها لأنهما يغضبان لغضبها ويسخطان لسخطها بنص
الحديث النبوي الصحيح، فلا يجوز أن يكون خليفة لله ورسوله. وقد قال
الله تبارك وتعالى:
(وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم
كان عند الله عظيما) (1).
(إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا
مهينا) (2).
(والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) (3).
(يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) (4).
(ومن يحل عليه غضبي فقد هوى) (5).

(1) الأحزاب / 53.
(2) الأحزاب / 57.
(3) التوبة / 61.
(4) الممتحنة / 13.
(5) طه / 81.
119

الفصل الرابع
قبسات
من الكلام الفاطمي
يوم جاءت إلى عدي وتيم * ومن الوجد ما أطال بكاها
تعظ القوم في أتم خطاب * حكت المصطفى به وحكاها * (الآزري)
121

نقتبس هنا عدة عبائر من خطبة الزهراء عليها السلام لنعطيها حقها من التحليل والتوضيح،
ونفهمها كما هي في عالم الخلود، وكما هي في واقعها الرائع، قالت:
(عظمة الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم)
(ثم قبضه إليه قبض رأفة واختيار ورغبة وإيثار، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم عن
تعب هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار
ومجاورة الملك الجبار).
انظر إلى البليغة كيف تركت النعيم المادي كله، وملذوذات الحس
حين أرادت أن تقرض فردوس أبيها، وجنته الخالدة، لأنها رأت في معاني
أبيها العظيم ما يرتفع على ذلك كله، وما قيمة اللذة المادية جنينية كانت أو
دنيوية في حساب محمد صلى الله عليه وآله وسلم الروحي الذي لم يرتفع أحد بالروح الإنسانية
كما ارتفع بها، ولم يبلغ بها أحد سواه أوجها المحمدي (ولم يغذها مصلح
عداه بالعقيدة الإلهية الكاملة التي هي غاية العقول في طيرانها الكفري
والشوط الأخير للطواف الإنساني حول الحقيقة المقدسة الذي يستقر عنده
الضمير وتطمئن إليه الروح) (1).

(1) نقلنا هذه الجملة عن كتابنا - العقيدة الإلهية في الإسلام. (الشهيد)
123

فهو إذن: المربي الأكبر للروح، والقائد الفريد الذي سجلت
المعنويات الروحية تحت رايته انتصارها الخالد على القوى المادية في
معركتهما القائمة منذ بدأ العقل حياته في وسط المادة.
وما دام هو بطل المعركة الفاصلة بين الروحية والمادية الذي ختمت
برسالته رسالات السماء فلا غرو أن يكون محور ذلك العالم الروحي
الجبار، وهذا ما شاءت أن تقوله الزهراء حين قالت تصف الفردوس
المحمدي: فمحمد عن تعب هذه الدنيا في راحة، قد حف بالملائكة
الأبرار فهو القطب أبدا في الدنيا والآخرة، غير أنه في الأولى متعب لأنه
القطب الذي يجاهد ليقيم دورة الحياة الإنسانية عليه، على أسلوب خالد،
وفي الأخرى مرتاح لأنه المحور الذي يكهرب الحياة الملائكية بنوره،
فتحف به الملائكة لتقدم بين يديه آيات الحمد والثناء.
وما دام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الطراز الأسمى فلتكن جنته على غراره ملؤها
الترف المادي بل هي في أوضح معانيها الترف المعنوي - إن صح التعبير -
وأي ترف روحي أسمى من مجاورة الملك الجبار والظفر برضوان الرب
الغفار.
وهكذا وصفت الزهراء جنة أبيها في جملتين، فإذا به القطب المتصل
بمبدأ النور والشمس التي تحيط بها الملائكة في دنيا النور.
(عظمة الإمام علي عليه السلام ومؤهلاته الشخصية)
وقالت: -
(وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة
124

العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون الورق، أذلة خاسئين
تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى
بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني ببهم الرجال، وذؤبان العرب،
ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن
للشيطان، وفغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ
حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه مكدودا في ذات الله،
مجتهدا في أمر الله قريبا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد أولياء الله مشتمرا ناصحا
مجدا كادحا، وأنتم في رفاهية من العيس وادعون فاكهون آمنون) (1).
ما أروعها من مقارنة هذه التي عقدتها الزهراء بين أسمى طراز من
الكفاءة العسكرية في دنيا الإسلام يومئذ وبين رجولة مفطومة - إن صح
التعبير - من ملكات البطل ومقومات العسكري الموهوب. بين بسالة هتفت
بآياتها السماء والأرض، وكتبت بمداد الخلود في فهرس المثاليات
الإنسانية، وشخصية اكتفت من الجهاد المقدس بالوقوف في الخط الحربي
الأخير - العريش - ويا ليتها اقتنعت بذلك عن الفرار المحرم في عرف
الإسلام، وفي عرف التضحية، وفي عرف المفاداة بالنفس لتوحيد الحكومة
السماوية على وجه الأرض.
ولا نعرف في تاريخ الإنسانية موهبة عسكرية بارعة لها من الآثار
الخيرة في حياة هذا الكوكب كالموهبة العلوية الفذة في تاريخ الأبطال، فإن
مواقف الأمام (2) في سوح الجهاد وميادين النضال كانت بحق هي الركيزة

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 250 - 251.
(2) راجع تاريخ الطبري 2: 25، 65 - 66.
125

التي قامت عليها دنيا الإسلام، وصنعت له تاريخه الجبار.
فعلي هو المسلم الأول في اللحظة الأولى من تاريخ النبوة عندما لعلع
الصوت الإلهي من فم محمد (1) صلى الله عليه وآله وسلم، ثم هو بعد ذلك الغيور الأول،
والمدافع
الأول الذي أسندت إليه السماء تصفية الحساب (2) مع الإنسانية الكافرة.
إن فوز الأمام في هذه المقارنة يعني أن له حقا في الخلافة من
ناحيتين: -
(إحداهما) إنه الشخص العسكري الفريد بين مسلمة ذلك اليوم الذي لم
يكن قد فصل فيه تماما المركز السياسي الأعلى عن المقامات العسكرية.
(والأخرى) إن جهاده الرائع يكشف عن إخلاط أروع لا يعرف الشك
إليه سبيلا، وجذوة مضطرمة بحرارة الأيمان لا يجد الخمود إليها طريقا.
وهذه الجذوة المتقدة أبدا، وذلك الاخلاص الفياض دائما هما الشرطان
الأساسيان للزعيم لذي توكل إليه الأمة حراسة معنوياتها الغاية وحماية
شرفها في التاريخ.
(مقارنة بين مواقف الإمام عليه السلام والآخرين)
اقرأ حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتاريخ الجهاد النبوي، فسوف ترى أن عليا هو الذي

(1) إشارة إلى إسلام علي عليه السلام ومؤازرته النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستعداده غير المحدود للتضحية والفداء
في سبيل الإسلام، راجع: الصواعق المحرقة: 185، تاريخ الطبري 3: 218 - 219،
حديث الدار المشهور ذكرناه سابقا.
(2) راجع رواية سعد بن أبي وقاص - صحيح الترمذي 8: 596.
126

أدهش الأرض والسماء بمواساته * (1) وأن الصديق رضى عنه الله هو الذي التجأ إلى
مركز القيادة العليا الذي كان محاطا بعدة من أبطال الأنصار لحمايته (2) حتى
يطمئن بذلك عن غوائل الحرب.
وهو الذي فر يوم أحد (3) كما فر الفاروق (4) ولم يبايع رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم على الموت في تلك الساعة الرهيبة التي قل فيها الناصر
وتضعضعت راية السماء وبايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الشهادة ثمانية، ثلاثة
من المهاجرين وخمسة من الأنصار لم يكن هو واحدا منهم، كما صرح

(1) أخرج الطبري في تاريخه 2: 65 - 66 طبعة دار الكتب العلمية - عن
ابن رافع: لما قتل علي ابن أبي طالب أصحاب الألوية أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من مشركي قريش، فقال لعلي:
احمل عليهم، فحمل عليهم ففرق جمعهم وقتل عمرو بن عبد الله الجمحي، قال: ثم أبصر
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرق
جماعتهم وقتل شيبة بن مالك، فقال جبرئيل: يا رسول الله ان هذه للمواساة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
إنه مني وأنا منه، فقال جبريل: وأنا منكما، قال: فسمعوا صوتا: لا سيف إلا
ذو الفقار، ولا فتى إلا علي.
ولنتأمل جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنلاحظ كيف أنه ارتفع بعلي عن مفهوم المواساة الذي
يقتضي بتعدد محمد وعلي إلى مفهوم الوحدة والامتزاج فقال: إنه مني وأنا منه ولم يرض
بأن يفصل الأمام عن شخصه لأنهما وحدة لا تتجزأ ضربها الله مثلا أعلى تأتم بها الإنسانية
ويهتدي على ضوئها الأبطال والمصلحون في معارج السمو والارتقاء، وأنا لا أدري كيف
حاول الصحابة أو بعض الصحابة أن يفككوا عرى هذه الوحدة ويضعوا بين البطلين أشخاصا
ثلاثة كان من الجدير أن لا يفصلوا بهم بين محمد وبين من هو من محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (الشهيد)
(2) راجع عيون الأثر / ابن سيد الناس 1: 336، مؤسسة عز الدين - بيروت. (الشهيد)
(3) كما يحدثنا بذلك التاريخ الشيعي. (الشهيد)
(4) وقد اعترف هو بذلك وذكره به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - سرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 3: 389 - 390. (الشهيد)
127

بذلك أرباب التاريخ (1)، بل لم يرو له رواة المسلمين جميعا قتالا في ذلك
الموقف مهما يكن لونه (2).
وإذن فلماذا وقف مع الثائبين إن كان لم يفر؟ ألم يكن القتال واجبا ما
دام المدافعون لم يبلغوا العدد المطلوب لمقابلة العدو الذي أصاب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدة إصابات اضطرته إلى الصلاة جالسا؟!
ولعلنا نعلم جميعا أن شخصا إذا كان في وسط الصراح ومعترك
الحرب فلن ينجو من الموت على يد عدوه إلا بالفرار، أو الدفاع بالاشتراك
عمليا في المعركة. والصديق إذا لم يكن قد فعل شيئا من هذين وقد نجا بلا
ريب فمعنى هذا أن عدوا وقف أمام عدوه مكتف اليدين فلم يقتله خصمه،
فهل أشفق المشركون على أبي بكر، ولم يشفقوا على محمد وعلي والزبير
وأبي دجانة وسهل بن حنيف؟!
وليس لدي من تفسير معقول للموقف إلا أن يكون قد وقف إلى
جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكسب بذلك موقفا هو في طبيعته أبعد نقاط المعركة
عن الخطر لاحتفاف العدد المخلص في ا لجهاد يومئذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وليس هذا ببعيد لأننا عرفنا من ذوق الصديق أنه كان يحب أن يكون إلى
جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب لأن مركز النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المركز المصون
الذي تتوفر جميع القوى الإسلامية على حراسته والذب عنه.

(1) صرح بذلك الواقدي كما في شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 3: 338 والمقريزي في
الأمتاع: 132. (الشهيد)
(2) اعترف بذلك ابن أبي الحديد: 3: 389.
128

وخذ حياة الإمام علي عليه السلام وحياة الصديق وادرسهما، فهل تجد في
حياة الأول خمودا في الاخلاص أو ضعفا في الاندفاع نحو التضحية أو
ركونا إلى الدعة والراحة في ساعة الحرب المقدسة؟ فارجع البصر هل ترى
من فطور (ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) (1)
لأنه سوف يجد روعة واستماتة في سبل الله لا تفوقها استماتة، وشخصا لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيه استعداد للخلود ما خلد محمد
أستاذه الأكبر لأنه نفسه صلى الله عليه وآله وسلم (2).
ثم حدثني عن حياة الصديق (رضي الله تعالى عنه) أيام رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فهل تجد فيها إلا تخاذلا وضعفا في الحياة المبدئية، والحياة
العسكرية، يظهر تارة في التجائه إلى العريش، وأخرى في فراره يوم أحد
وهزيمته في غزوة حنين (3) وتلكئه عن الواجب حينما أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بالخروج تحت راية أسامة للغزو (4)، مرة أخرى في هزيمته يوم خيبر حينما

(1) الملك / 4.
(2) استنادا إلى آية المباهلة، وهي قوله تعالى: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناء كم ونساءنا ونساءكم
وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل...) آل عمران / 61. راجع الرواية في صحيح مسلم 4: 1873،
تفسير الكشاف 1: 369، دار الكتب العلمية، الخصائص / النسائي: 89، رواية تصرح أن
عليا عليه السلام كنفسه صلى الله عليه وآله وسلم.
(3) كما في الحلبية 2: 126، إذ حصر الثابتين بغيره، وأما فرار الفاروق في ذلك اليوم،
فقد جاء ما يدل عليه في صحيح البخاري 3: 67، دار المعرفة - بيروت. إذ روى بإسناده
عمن شهد يوم حنين أنه قال: وانهزم المسلمون، وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في
الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ قال: أمر الله. فإن هذا يوضح أن عمر كان من بين
المنهزمين.
(4) فقد جاء في عدة من المصادر أن عمر وأبا بكر كانا فيمن جنده النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحرب
تحت راية أسامة، منها في السيرة الحلبية ج 3، وراجع طبقات ابن سعد 2: 248 - 250.
129

بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاحتلال الوكر اليهودي على رأس جيش فرجع فارا ثم
أرسل الفاروق (رضي الله تعالى عنه) وإذا به من طراز صاحبه (1) حيث
تبخرت في ذلك الموقف الرهيب حماسة عمر وبطولته الرائعة في أيام السلم
التي اعتز بها الإسلام يوم أسلم كما يقولون. ورجع عمر مع أصحابه يجبنهم
ويجبنونه (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني دافع الراية غدا لرجل يحبه الله
ورسوله ويحب الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح له (3). يشعر كلامه هذا
بتعريض بليغ يدغدغ به مشاعر القائدين الفاشلين واعتزاز صريح بعليه
العظيم الذي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله (4).
يا خليفتي المسلمين - أو بعض المسلمين - رضي الله تعالى عنكما
أهكذا كان نبيكما الذي قمتما مقامه؟ ألم تتلقيا عنه دروسه الفذة في الجهاد
والمعاناة في سبيل الله؟ ألم يكن في صحبتكما له طوال عقدين حاجز

(1) راجع مسند أحمد 5: 253، المستدرك / الحاكم 3: 27، كنز العمال 6: 394، تاريخ
الطبري 2: 136. (الشهيد)
(2) هذا تصوير علوي رائع للقائد الفاشل والجنود المتخاذلين وقد اطلع كل منهما على ضعف
الاخر فأخذ يهول الموقف ليجد له من ذلك عذرا في الفرار. (الشهيد) راجع تاريخ الطبري
2: 136..
(3) صحيح البخاري 5: 18، مسند الأمام أحمد 5: 353، الترمذي 5: 596، صحيح مسلم 4: 1873.
(4) وأكبر الظن ان الجيش الذي سار الأمام على رأسه لاحتمال المستعمرة اليهودية هو والجيش
الذي فر بالأمس، ونفهم ممن هذا مدى تأثير القائد على جيشه وتكهرب الجيش بمشاعره
فإن عليا استطاع أن يجعل من أولئك الجنود الذين كانوا يجبنون الفاروق في الحملة
السابقة أبطالا فتحين بما سكب في أرواحهم من روحة العظيمة المتدفقة بالحماس
والاخلاص.
130

يحجز عن ذلك؟ ألم تستمعا إلى القرآن الذي أسندت إليكما حراسته والتوفر
على نشر مثله العليا في المعمورة وهو يقول: -
(ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب
من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) (1).
وقد توافقني على أن مقام الصديق والفاروق رضى عنه الله في الإسلام يرتفع
بهما عن الفرار المحرم، فلا بد أنهما تأولا ووجدا عذرا في فرار هما ونحن
نعلم أن مجال الاجتهاد والتأويل عند الخليفة كان واسعا حتى أنه اعتذر عن
خالد لما قتل مسلما متعمدا بأنه (اجتهد فأخطأ) (2).
عذرتكما إن الحمام لمبغض * وإن بقاء النفس للنفس محبوب
ليكره طعم الموت والموت طالب * فكيف يلذ الموت والموت مطلوب
ولنعتذر إذا كان فيما قدمناه سبب للاعتذار وقد اضطرنا إلى ذلك
الوقوف عند المقارنة الفاطمية وما تستحقه من شرح وتوضيح.
(حزب السلطة الحاكمة)
قالت:
(تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار).

(1) الأنفال / 16.
(2) تاريخ الطبري 2: 273، قال الخليفة عمر بن الخطاب لأبي بكر: إن في سيف خالد
رهقا، فإن لم يكن هذا حقا، حق عليه أن تقيده، وأكثر عليه في ذلك... فقال - أبو بكر - هيه
يا عمر تأول فأخطأ). وراجع تاريخ ابن شحنة: على هامش الكامل 11: 114. (الشهيد)
131

هذا الخطاب موجه إلى الحزب الحاكم لأنه هو الذي زعم ما نسبته
الزهراء إلى مخاطبيها فيما يأتي من تعليل التسرع إلى إتمام البيعة بالخوف
من الفتنة. وإذن فهو اتهام صريح له بالتآمر على السلطان واتخاذ التدابير
اللازمة لهذه المؤامرة الرهيبة ووضع الخطط المحكمة لتنفيذها وتربص
الفرصة السانحة للانقضاض على السلطة وتجريد البيت الهاشمي منها.
وقد رأينا في الفصل السابق أن الاتفاق السري بين الصديق والفاروق
وأبي عبيدة (1) رضى عنه الله مما تعززه الظواهر التاريخية.
ولا ينبغي أن نترقب دليلا ماديا أقوى من كلام الزهراء الذي
بينا اشعاره إلى هذه المعنى بوضوح لمعاصرتها لتلك الظروف العصيبة. فلا
ريب أنها كانت تفهم حوادث تلك الساعة فهما أخص ما يوصف به أنه
أقرب إلى واقعها وأكثر إصابة له من دراسة يقوم بها النقاد بعد مئات السنين.
ومن حق البحث أن نسجل أن الزهراء هي أول من أعلنت - إن لم
يكن زوجها هو المعلن الأول - عن التشكيلات الحزبية للجماعة الحاكمة
واتهمتها بالتآمر السياسي، ثم تبعها على ذلك جملة من معاصريها كأمير (2)
المؤمنين (صلوات الله عليه) ومعاوية (3) بن أبي سفيان - كما عرفنا سابقا.

(1) نعتذر إلى سيدنا أبي عبيدة عن ذكر اسمه مجردا عن اللقب، وليس هذا ذنبي بل ذنب
الأجل الذي عجل بروحه قبل أن يصير الأمر إليه فيمنحه الناس لقبا من الألقاب، وأما لقب
الأمين فالأرجح عندي أنه لم يحصل عليه من طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن طريق الناس،
وإنما لقب به لمناسبات خاصة ليس من شأنها تقرير الأوسمة الرسمية. (الشهيد)
(2) إشارة إلى قول الإمام علي عليه السلام: (احلب يا عمر حلبا لك شطره! اشدد له اليوم أمره ليرد
لك غدا...). شرح النهج 6: 11. وراجع ص 12، قول أبي عبيدة للأمام.
(3) راجع قول معاوية في رسالة جوابية إلى محمد بن أبي بكر - مروج الذهب 3: 199،
وقعة صفين / نصر بن مزاحم: 119 - 120.
132

وما دام هذا الحزب الذي تجزم بوجوده الزهراء ويشير إليه الأمام
ويلمح إليه معاوية هو الذي سيطر على الحكم ومقدرات الأمة، وما دامت
الأسر الحاكمة بعد ذلك التي وجهت جميع مرافق الحياة العامة لخدمتها قد
طبقت أصول تلك السياسة وعناصر ذلك المنهج الحزبي الذي دوخ دنيا
الإسلام، فمن الطبيعي جدا لا نرى في التاريخ أو على الأقل التاريخ العام
صورة واضحة الألوان لذلك الحزب الذي كان يجتهد أبطاله الأولون في
تلوين أعمالهم باللون الشرعي الخاص الذي هو أبعد ما يكون عن الألوان
السياسية والاتفاقات السابقة.
قالت: -
(فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم هذا والعهد قريب، والكلم
رحيب، الجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر، أبدارا زعمتهم خوف
الفتنة؟ ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين.
أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تحلب ثم احتلبوها طلاع القعب
دما عبيطا هنا لك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أسس الأولون ثم
طيبوا عن أنفسكم نفسا وأبشروا بسيف صارم وهرج شامل واستبداد من
الظالمين يدع فيئكم زهيدا وجمعكم حصيدا فيا حسرة عليكم) (1).
لئن كان الصديق وصاحباه يشكلون حزبا ذا طابع خاص فمن العبث
أن ننتظر منهم تصريحا بذلك أو نتوقع أن يعلنوا عن الخطوط الرئيسية

(1) خطبة الزهراء، راجع شرح نهج البلاغة 16: 234.
133

لمنهاجهم ويبرروا بها موقفهم يوم السقيفة ومع هذا:
فلا بد من مبرر...
ولا بد من تفسير...
فقد ظهر في ذلك الموقف تسرعهم إلى إتمام البيعة لأحدهم وتلهفهم
على المقامات العليا تلهفا لم يكن منتظرا بالطبع من صحابة على نمطهم،
لأن المفروض فيهم أنهم أناس من نوع أكمل وعقول لا تفكر إلا في صالح
المبدأ، ولا تعبأ إلا بالاحتفاظ له بالسيادة العليا. أما الملك الشخصي واما
اقتناص الكراسي فلا ينبغي أن يكون هو الغاية في حساب تلامذة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أحس الحاكمون بذلك وأدركوا أن موقفهم كان شاذا على أقل تقدير،
فأرادوا رضى عنه الله أن يرقعوا موقفهم بالأهداف السامية والخوف على الإسلام من
هبوب فتنة طاغية تجهز عليه، ونسوا أن الرقعة تفضح موضعها وأن الخيوط
المقحمة في الثوب تشي بها.
ولذا دوت الزهراء بكلمتها الخالدة:
زعمتم خوف الفتنة (ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) (1).
نعم انها الفتنة ثم هي أم الفتن بلا ريب.
ما أروعك يا بضعة النبي حين تكشفين القناع عن الحقيقة المرة
وتتنبئين لامة أبيك بالمستقبل الرهيب الذي تلتمع في أفقه سحب حمراء!
ماذا أقوال؟.. بل أنهار من دم تزخر بالجماجم وهي تنعى على سلفها

(1) من خطبتها عليها السلام، والآية 49 / التوبة.
134

الصالح فعلهم وتقول: ألا أنهم في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين.
(الفتنة الكبرى)
كانت العمليات السياسية يومئذ فتنة وكانت أم الفتن (1).
كانت فتنة في رأي الزهراء - على الأقل - لأنها خروج على الحكومة
الإسلامية الشرعية القائمة في شخص علي هارون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأولى من
المسلمين بأنفسهم (2).
ومن مهازل القدر أن يعتذر الفاروق عن موقفه، بأنه خاف الفتنة وهو
لا يعلم أن انتزاع الأمر ممن أراده له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتراف عمر (3) هو
الفتنة بعينها المستوعبة لكل ما لهذا المفهوم من ألوان.

(1) كما يظهر من قولة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب: إن بيعة أبي بكر فلتة وقى ا لله
المسلمين شرها، تاريخ الطبري 2: 235، وفي الصواعق المحرقة: (... فمن عاد إلى!
مثلها فاقتلوه..) راجع ص 36 من الطبعة المصرية - مكتبة القاهرة بتعليق عبد الوهاب عبد
اللطيف - الطبعة الثانية / 1965.
(2) قال الأمام الشهيد الصدر رضى عنه الله:
بنص حديث الغدير الذي رواه مائة وأحد عشر من الصحابة، وأربعة وثمانون من
التابعين، وثلاثمائة وثلاثة وخمسون مؤلف من إخواننا السنة كما يظهر من كتاب الغدير
للعلامة الأميني، وأحب أ ن الاحظ هنا أن كثيرا من القرآن لم يروه من الصحابة - يريد على
مبناهم - عدد يبلغ مبلغ الرواة الحديث الغدير منهم، فالتشكيك فيه ينتهي بالمشكك إلى
التشكيك في القرآن الكريم. واما دلالة الحديث على خلافة علي وإمامته فهي أيضا ترتفع
عن التشكيك لوضوحها وبداهتها، وتعدد القرائن عليها. ولتراجع في ذلك (مراجعات)
سيدنا سدن المذهب وحامي التشيع في دنيا الإسلام آية الله السيد عبد الحسين شرف
الدين (رضوان الله عليه)، راجع الصواعق المحرقة: 122.
(3) راجع شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 3: 114 - 115، الطبعة غير المحققة.
135

وأنا لا أدري ما منع هؤلاء الخائفين من الفتنة الذين لا مطمع لهم في
السلطان إلا بمقدار ما يتصل بصالح الإسلام أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن
خليفته أن يطلبوا منه أن يعين لهم المرجع الأعلى للحكومة الإسلامية من
بعده، وقد طال المرض به أياما متعددة، وأعلن فيها مرارا عن قرب أجله،
واجتمع به جماعة من أصحابه فسألوه عن كيفية غسله وتفصيلات تجهيزه (1)،
ولم يقع في أنفسهم مطلقا أن يسألوه عن المسألة الأساسية، بل لم يخطر في
بال أولئك الذين أصروا على عمر بأن يستخلف ولا يهمل الأمة وألحوا عليه
في ذلك خوفا من الفتنة (2) أن يطلبوا نظير هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهل
ترى أنهم كانوا حينذاك في غفلة عن أخطار الموقف بالرغم من إنذار
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفتن كقطع الليل المظلم؟! حتى إ ذا لحق سيد البشر بالرفيق
الأعلى توهجت مشاعرهم بالغيرة على الدين، وملأ قلوبهم لخوف من
الفتنة والانعكاسات السيئة. أو تعتقد معي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد اختار
للسفينة ربانها الأفضل ولذلك لم يسأله السائلون!!
دع عنك هذا واختلق لهم ما شئت من المعاذير، فإن هؤلاء الغيارى
على الإسلام لم يكتفوا بترك السؤال، بل منعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مقاومة
الخطر المرتقب حينما أراد أن يكتب (كتابا لا يضل المسلمون بعده
أبدا) (3). والفتنة ضلال، وإذن فلا فتنة بعد ذلك الكتاب أبدا فهل كانوا

(1) راجع الكامل في التاريخ / ابن الأثير 2: 122 (الشهيد)، والسيرة النبوية / ابن كثير 4 / 527
طبعة دار إحياء التراث العربي - بيروت.
(2) تاريخ الطبري 2: 580، العقد الفريد 4: 260. (الشهيد)
(3) إشارة إلى قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الأخير: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا
لا تضلوا بعده...)، صحيح البخاري 1: 371 كتاب العلم - باب كتابة العلم، وراجع
8: 161 - كتاب الاعتصام.
136

يشكون في صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟! أو يرون أنهم أقدر على الاحتياط للاسلام
والقضاء على الشغب والهرج من نبي الإسلام ورجله الأول!
وخليق بنا أن نسأل عما عناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفتن التي جاء ذكرها في
مناجاته لقبور البقيع في أخريات أيامه إذ يقول: ليهنكم ما أصبحتم فيه قد
أقلبت الفتن كقطع الليل المظلم (1).
ولعلك تقول: إنها فتن المرتدين، وهذا تفسير يقبل على فرض واحد
وهو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتخوف على موتى البقيع من الارتداد، فأما إذا لم
يكن يخشى عليهم من ذلك كما - هو في الواقع - لأنهم على الأكثر من
المسلمين الصالحين، وفيهم الشهداء فلماذا يهنئهم على عدم حضور تلك
الأيام؟ ولا يستقيم في منطق صحيح أن يريد بهذه الفتن المشاغبات الأموية
التي قام بها عثمان ومعاوية (2) بعد عقود ثلاثة من ذلك التاريخ تقريبا.
وإذن فتلك الفتن التي عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بد أن تكون فتنا حادثة
بعده مباشرة، ولا بد أيضا أن تكون أكثر اتصالا بموتى البقيع لو قدرت لهم
الحياة من فتن الردة والمتنبئين.
وهي إذن عين الفتنة التي عنتها الزهراء بقولها: ألا في الفتنة سقطوا
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين.

(1) تاريخ ابن الأثير 2: 318 دار صادر. (الشهيد)
(2) راجع: التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم / الشيخ علي ناصف 5: 310 الهامش 4، 5: 316 الهامش 5.
137

وهل من غضاضة بعد أن يصطلح عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفتنة أن
تمنح لقب الفتنة الأولى في دنيا الإسلام.
وقد كانت العمليات السياسية يومئذ فتنة من ناحية أخرى، لأنها
فرضت خلافة على أمة لم يقتنع بها إلا القليل (1) من سوقتها الذين ليس
لمثلهم الحق في تقرير مصير الحكم في عرف الإسلام ولا في لغة القوانين
الدستورية جميعا.
تلك هي خلافة الصديق (رضي الله تعالى عنه) عندما خرج من
السقيفة (وعمر يهرول بين يديه وقد نبر حتى أزبد شدقاه) وجماعته
تحوطه (وهم متزرون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه
فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى) (2).
ومعنى هذا أن الحاكمين زفوا إلى المسلمين خلافة لم تباركها السماء ولا
رضي بها المسلمون. وأن الصديق لم يستمد سلطانه من نص نبوي -
بالضرورة - ولم ينعقد الاجماع عليه ما دام سعد لم يبايع إلى أن مات
الخليفة، وما دام الهاشميون لم يبايعوا إلى ستة أشهر من خلافته - كما في
صحيح البخاري (3).
قالوا: إن أهل الحل والعقد قد بايعوه وكفى.
ولكن ألا يحتاج هذا المفهوم إلى توضيح وإلى مرجع يرجع إليه في

(1) راجع تاريخ الطبري 2: 233.
(2) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 1: 74، الطبعة غير المحققة. (الشهيد)
(3) صحيح البخاري - فضائل الصحابة باب 35 ص 66، وباب 43 ص 83. (الشهيد)
138

ذلك؟ فمن هو الذي اعتبر مبايعي أبي بكر أهل الحل والعقد، وأعطاهم
هذه الصلاحيات الواسعة؟
ليس هو الأمة ولا النبي الأعظم، لأننا نعلم أن أبطال السقيفة لم
يأخذوا أنفسهم بمناهج الانتخاب غير المباشر، ولم يستفتوا المسلمين في
تعيين المنتخبين الثانويين الذين اصطلح عليهم في العرف القد يم بأهل الحل
والعقد.
كما أنه لم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إعطاء هذه الصلاحيات لجماعة
مخصوصة، فكيف تمنح لعدد من المسلمين ويستأمنون على مقدرات الأمة
بغير رضى منها في ظل نظام دستوري كنظام الحكم في الإسلام كما يزعمون؟!
ومن العجيب في العرف السياسي أن تعين الحكومة نفسها أهل الحل
والعقد (1)، ثم تكتسب منهم كلمتها العليا.
وأعجب من ذلك إخراج علي والعباس وسائر بني هاشم وسعد بن
عبادة والزبير وعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد وجميع أهل الحجى والرأي -
على حد تعبير ابن عباس لعمر (2) - من أهل الحل والعقد إذا صح أن في

(1) راجع تاريخ الطبري 2: 233، قال أبو بكر: إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر
وأبا عبيدة،... وأنا أرضى لكم أبا عبيدة، فقام عمر، فقال: أيكم - الخطاب للمجتمعين
في السقيفة - تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم! فبايعه عمر وبايعه
الناس، فقالت الأنصار:... لا نبايع إلا عليا.
(2) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 3: 115، الطبعة غير المحققة، إذ قال ابن عباس: أما
أهل الحجى والنهى فإنهم ما يزالون يعدونه - أي عليا - كاملا منذ رفع الله منار الإسلام،
ولكنهم يعدونه محروما مجدودا. (الشهيد)
139

الإسلام طبقة مستأثرة بالحل والعقد.
وقد جر وضع هذه الكلمة في قاموس الحياة الإسلامية إلى تهيئة الجو
لإرستقراطية هي أبعد ما تكون عن روح الإسلام وواقعة المصفى من الطبقية
والعنعنات.
وهل كانت تلك الثروات الضخمة التي امتلأت بها أكياس
عبد الرحمن بن عوف وطلحة وأضرابهما إلا بسبب هذا اللقب المشؤوم على
الإسلام الذي لقبوا به، فرأوا أنهم من الطراز الرفيع الذي يستحق أن يملك
الملايين ويتحكم في حقوق الناس كما يريد؟!
وقالوا: إن الأكثرية هي مقياس الحكومة الشرعية والمبدأ الذي لا بد
أن تقوم على أساسه الخلافة.
وقد استهان القرآن الكريم بالأكثرية ولم يجعل منها في حال من
الأحوال دليلا وميزانا صحيحا إذ جاء فيه:
(وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (1).
(وأكثرهم للحق كارهون) (2).
(وما يتبع أكثرهم إلا ظنا (3).
(ولكن أكثرهم يجهلون) (4).

(1) الأنعام / 116.
(2) المؤمنون / 70.
(3) يونس / 36.
(4) الأنعام / 111.
140

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صحاح السنة أنه قال: (بينا أنا قائم
- يعني يوم القيامة على الحوض - فإذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل
من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت: وما
شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم هم القهقرى - إلى أن قال -: فلا
أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم) (1).
ولا يمكن أن تكون هذه الأكثرية الجهنمية التي حدث عنها رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم مصدر السلطة في 65 الإسلام، لأنها لا تنشئ بطبيعة الحال إلا خلافة
مطبوعة بطابعها.
وإذا خرجنا بالأكثرية عن حدود المدنيين الذين عرفنا أنفا مراكزهم
الجهنمية على ا لأغلب في الحياة الخالدة، واعتبرنا أكثرية المسلمين عموما
هي المقياس الصحيح، فلا بد أن نلاحظ أن المدينة هل كانت وحدها
مسكن المسلمين ليكتمل النصاب المفروض بالأكثرية المدنية أو أن
أبا بكر لم يكتف بها وإنما بعث إلى المسلمين المنتشرين في أرجاء المملكة
بالخبر ليأخذ آراءهم ويستشيرهم؟! كلا لم يحدث شئ من ذلك وإنما
فرض حكومته على آفاق المملكة كلها فرضا لا يقبل مراجعة ولا جدالا
حتى أصبح التردد في الخضوع لها جريمة لا تغتفر (2).
وقالوا: إن الخلافة تحصل ببيعة بعض المسلمين، ولا ريب أن ذلك
قد حصل لأبي بكر.
ولكن هذا مما لا يقره المنطق السياسي السليم، لأن البعض لا يمكن

(1) صحيح البخاري 8: 86 - كتاب الفتن.
(2) صحيح البخاري 8: 86 - كتاب الفتن.
141

أن يتحكم في شؤون الأمة كلها، ولأن حياة الأمة لا يمكن أن تعلق على خيط ضعيف كهذا
الخيط، ويرن في حفظ مقدساتها ومقامها إلى حكومة
أنشأها جماعة من الصحابة لم يزكهم إجماع شعبي، ولا نص مقدس، بل
هم أناس عاديون من الصحابة. ونحن نعلم أن (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون) (1) (ومنهم من عاهد الله لئن اتانا من فضله لنصدقن ولنكونن
من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم
نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) (2)،
ومنهم من خص الله تعالى نفسه بالاطلاع على سرائرهم ونفاقهم فقال
لرسوله: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) (3).
فجماعة فيها المنافق، وفيها من يؤذي رسول الله، وفيها الكاذب لا
يمكن أن يعتبر رأى بعضهم أيا كان، ملاكا للمنصب الأول في العالم الإسلامي.
وتعليقا على هذه المعلومات نقول: إن خلافة الصديق لم تكن خلافة
نص، ولا خلافة أكثرية ولا نتيجة انتخاب مباشر ولا غير مباشر، نعم بذل في
سبيلها بعض المسلمين جهودا رائعة، والتفت حولها طائفة من الناس وانتصرت
لها جماعات عديدة في المدينة، ولكن هؤلاء جميعا ليسوا إلا بعض
المسلمين، والبعض ليس له حكم مطاع في الموضوع، لأن الحكم الذي يستمد
معنويته القانونية من الأمة يلزم أن يكون صاحبه ممثلا للأمة بجميع عناصرها
أو أكثر عناصرها، هذا أولا، وأما ثانيا فلأن في المسلمين منافقين لا يعلمهم

(1) التوبة / 61.
(2) التوبة / 75 - 77.
(3) التوبة / 101.
142

إلا الله بنص القرآن الكريم، وتنزيه هذا البعض المتوفر على إنشاء الكيان
السياسي للأمة حينئذ عن النفاق لا بد أن يكون عن طريق النص أو الأمة.
وإذن فليسمح لنا الصديق أن نميل إلى رأي الزهراء بعض الميل أو كل
الميل، لأننا لا نجد للفتنة واقعا أوضح من تسلط رجل بلا وجه قانوني على
أمة، وتصرفه في مرافقها الحيوية جميعا كالصديق رضى عنه الله في أيام خلافته، أو
في الأشهر الأولى أو في الأسابيع الأولى من حكومته التي خطبت فيها
الزهراء - على أقل تقدير.
وما أدري هل خطرت للمتسرعين المستبدين نتائج استبدادهم
واستقلالهم عن العناصر التي كان من الطبيعي أن يكون لها رأي في الموضوع
لو قامت تلك العناصر بالمعارضة، واستعد الهاشميون للمقاومة، وقد كان
تقدير هذا المعنى قريبا ومعقولا إلى حد بعيد، فكيف لم يحتاطوا له وانتهوا
إلى نتيجتهم المط لوبة في مدة قد لا تزيد على ساعة؟!
ولماذا نقدس الموقف أكثر مما قدسه أبطاله؟ فقد بلغ من تقديس
الفاروق أنه أمر بقتل من عاد إلى مثل بيعة أبي بكر (1) وكرر ذلك الموقف.
وإذا أردنا أن نأخذ هذا الكلام ونفهمه على أنه كلام إمام يراعي
دستور الإسلام، فمعنى ذلك أنه رأى موقف أبي بكر وأصحابه في السقيفة
فتنة وفسادا، لأن القتل لا يجوز بغير ذلك من الأسباب.
وهي بعد ذلك كله أم الفتن لأنها هي التي جعلت الخلافة سلطان الله

(1) الصواعق المحرقة: 56، طبعة دار الكتب العلمية، ط 3 - بيروت / 1414 ه‍، طبعة المطبعة
الميمنية / 1312 ه‍: 21.
143

الذي يأتيه البر والفاجر كما صرحت بذلك السيدة عائشة (رضي الله عنها)
التي كانت بلا شك تمثل نظريات الحزب الحاكم (1). وهي التي فتحت
للأهواء والأطماع السياسية ميدانها الواسع، فتولدت الأحزاب وتناحرت
السياسات وتفرق المسلمون وانقسموا شر انقسام (2) ذهب بكيانهم الجبار
ومجدهم في التاريخ.
وماذا ظنك بهذه الأمة التي أنشأت في ربع قرن المملكة الأولى في
أرجاء العالم بسبب ان زعيم المعارضة للحكومة في ذلك الحين - أعني
عليا - لم يتخذ للمعارضة أسبابها المزعزعة لكيان الأمة ووحدتها؟!
(أقول) ماذا تقدر لها من مجد وسلطان وهيمنة على العالم لو لم تبتل
بعشاق الملك المتضاربين، والامراء السكارى بنشوة السلطان، ولم تكن
مسرحا للمعارك الدامية التي يقل نظيرها في التاريخ، ولم يستغل حكامها
الغاشمون إمكانيات الأمة كلها للذاتهم وهنائهم ويستهينون بعد ذلك
بمقدراتها جميعا (3)؟
لم ينظر الصديق والفاروق إلا إلى زمانهما الخاص، فتصورا أن في
طاقتهما حماية الكيان الإسلامي، ولكنهما لو تعمقا في نظرتهما كما تعمقت
الزهراء وتوسعا في مطالعة الموقف لعرفا صدق الإنذار الذي أنذرتهما به
الزهراء.

(1) الدر المنثور 6: 19، المطبعة الميمنية بمصر / 1314 ه‍. (الشهيد)
(2) الملل والنحل / الشهرستاني 1: 30 - 31، مكتبة الإنجلو المصرية - القاهرة / ط 2.
(3) راجع: مروج الذهب / المسعودي 3: 214 وما بعدها، العقد الفريد / ابن عبد ربه 5: 200 - 202،
العدالة الاجتماعية في الإسلام / الشهيد سيد قطب.
144

الفصل الخامس
محكمة الكتاب
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم
بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله
كان سميعا بصيرا)
النساء / 58
145

(تمهيد)
إذا أردنا أن نرتفع بمستوى دراستنا إلى مصاف الدراسات الدقيقة، فلا بد أن
نأخذ أ نفسنا بمناهج البحث العلمي في درس ناحيتين:
(موقف الخليفة الأول من تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)
الناحية الأولى: موقف الخليفة تجاه ميراث الزهراء الذي كان يستند
فيه إلى ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موضوع الميراث بأساليب متعددة
وصور مختلفة لتعدد مواجهات الخصمين، فجاءت الأحاديث التي تنقل
روايته وهي لا تتفق (1) على حد تعبير واحد، ولا تجمع على لفظ معين،
لاختلاف المشاهد التي ترويها، واختصاص كل منها بصيغة خاصة للحديث
على حسب ما كان يحضر الخليفة من عبائر أو تعدد الروايات التي رواها في
المسألة.
1 - وقبل كل شئ نريد أن نلاحظ مقدار تأكد الخليفة من صحة

(1) راجع الرواية التي انفرد بها الصديق مع اختلاف التعابير التي وردت فيها في: سنن البيهقي
6: 297 - 302، شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 214، 218، 219، 221، 227.
147

الحديث الذي رآه دالا على نفي توريث التركة النبوية واطمئنانه إلى سماع
ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثباته عليه. ويمكننا فهم ذلك مما تحدثنا به
الروايات (1) من أن الخليفة سلم فدك للحوراء وكاد الأمر أن يتم لولا أن
دخل عمر وقال له: (ما هذا؟ فقال له: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من
أبيها، فقال: ماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى ثم أخذ
الكتاب فشقه) (2). ونحن ننقل هذه الرواية في تحفظ وإن كنا نستقرب
صحتها، لأن كل شئ كان يشجع على عدم حكاية هذه القصة لو لم يكن
لها نصيب من الواقع، وإذا صحت ففي تدل على أن أمر التسليم وقع بعد
الخطبة الفاطمية الخالدة ونقل الخليفة لحديث نفي الإرث عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، لأن حروب الردة التي أشار إليها عمر في كلامه ابتدأت بعد يوم
السقيفة بعشرة أيام (3)، وخطبة الزهراء قد كانت في اليوم العاشر أيضا
كما سبق (4).
2 - وقد أظهر الخليفة الندم في ساعة وفاته على عدم تسليم فدك
لفاطمة (5)، وقد بلغ به التأثر حينا أن قال للناس وقد اجتمعوا حوله: أقيلوني
بيعتي. وندرك من هذا أن الخليفة كان يطوي نفسه على قلق عظيم عظيم مرده إلى
الشعور بنقص مادي في حكمه على فاطمة وضعف في المدرك الذي استند

(1) ذكره سبط ابن الجوزي كما في السيرة الحلبية 3: 363. (الشهيد)، شرح النهج 16: 234.
(2) راجع شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 234 - 235.
(3) مروج الذهب 2: 193. (الشهيد)
(4) ولعل هذا يضعف من شأن الرواية، لأن الخليفة لو كان مستعدا للتراجع لأجاب الزهراء إلى
ما تطلب في المسجد حينما خطبت وأسمعته من التأنيب والتقريع الشئ الكثير. (الشهيد)
(5) تاريخ الطبري 2: 353، سمو المعنى في سمو الذات / العلايلي: 18. (الشهيد)
148

إليه، ويثور به ضميره أحيانا فلا يجد في مستنداته ما يهدئ نفسه المضطربة
وقد ضاق بهذه الحالة المريرة، فطفحت نفسه في الساعة الأخيرة بكلام
يندم فيه على موقفه من الزهراء، تلك الساعة الحرجة التي يتمثل فيها
للإنسان ما مثله على مسرح الحياة من فصل أو شك الستار أن يسدل عليها،
وتجتمع في ذاكرته خيوط حياته بألوانها المختلفة التي آن لها أن تنقطع، فلا
يبقى منها إلا التبعات.
3 - ولا ننسى أن أبا بكر أوصى (1) أن يدفن إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
ولا يصح ذلك إلا إذا كان قد عدل عن اعتبار روايته مدركا قانونيا في
الموضوع، واستأذن ابنته في أن يدفن فيما ورثته من أرض الحجرة - إذا
كان للزوجة نصيب في الأرض، وكان نصيب عائشة يسع ذلك - ولو كان
يرى أن تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة مشتركة بين المسلمين عامة، للزمه الاستئذان
منهم. وهب أن البالغين أجازوا ذلك فكيف بالأطفال والقاصرين ممن كانوا
في ذلك الحين؟!
4 - ونحن نعلم أيضا أن الخليفة لم ينتزع من نساء النبي بيوتهن
ومساكنهن التي كن يسكن فيها في حياد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما عساه أن
يكون سبب التفريق الذي أنتج انتزاع فدك من الزهراء وتخصيص حاصلاتها
للمصالح العامة وإبقاء بيوت نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهن يتصرفن فيها كما يتصرف
المالك في ماله حتى تستأذن عائشة في الدفن في حجرتها؟ أكان الحكم
بعدم التوريث مختصا ببضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟! أو أن بيوت الزوجات كانت

(1) تاريخ الطبري 3: 349.
149

نحلة لهن؟ فلنا أن نستفهم عما أثبت ذلك عند الخليفة ولم قتم بينة، عليه
ولا ادعته واحدة منهن، وليست حيازتهن للبيوت في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
شاهدا على ملكيتهن لها، لأنها ليست حيازة استقلالية، بل من شؤون
حيازة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ككل زوجة بالنسبة إلى زوجها؟ كما أن نسبة البيوت
إليهن في الآية الكريمة: (وقرن في بيوتكن) (1)، لا يدل على ذلك، لأن
الإضافة يكفي في صحتها أدنى ملابسة، وقد نسبت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
القرآن الكريم بعد تلك الآية بمقدار قليل إذ قال الله تبارك وتعالى: (يا أيها
الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) (2). فإذا كان الترتيب القرآني
حجة، لزم الأخذ بما تدل عليه هذه الآية. وورد في صحاح السنة عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إسناد البيت إليه في قوله: (إن ما بين بيتي ومنبري روضة
من رياض الجنة) (3).
5 - ولنتساءل عما إذا كان الحكم بعدم توريث الأنبياء الذي ذهب إليه
الخليفة مما اختزنه الوحي الخاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، واقتضت المصلحة
تأخيره عن وقت الحاجة، وإجراءه على الصديقة دون سائر ورثة الأنبياء؟
أو أن الرسل السابقين قد أهملوا تبليغه وتعريف خلفائهم وورثتهم به طمعا
بالمادة الزائفة، واستبقاء لها في أولادهم وآلهم؟ أو أنهم كانوا قد انتهجوا
هذا الطريق ونفذوا الحكم بعدم التوريث، ومع ذلك لم يؤثر في التواريخ
جميعا؟ أو أن السياسة السائدة يو مذاك هي التي أنشأت هذا الحكم؟

(1) الأحزاب / 33.
(2) الأحزاب / 53.
(3) مسند الأمام أحد 2: 236 - طبعة دار الفكر - بهامشه المنتخب من كنز العمال.
150

6 - ومن جهة أخرى هل يمكننا أن نقبل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجر على
أحب الناس إليه وأقربهم منه البلايا والشدائد وهي التي يغضب لغضبها ويسر
لسرورها وينقبض لانقباضها (1)، ولم يكن ليكلفه دفع هذه المحن عنها أكثر
من إعلامها بحقيقة الأمر لئلا تطلب ما ليس لها بحق، وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لذ له أن ترزى ابنته، ثم تتسع هذه الرزية فتكون أداة اختلاف وصخب بين
المسلمين عامة، وهو الذي ارسل رحمة للعالمين، فبقي مصرا على كتمان
الخبر عنها مع الأسرار به إلى أبي بكر.
(روايات الخليفة الأول ومناقشتها)
1 - لأجل أن نلقي نظرة على الحديث من الناحية المعنوية بعد الملاحظات
التي أسلفنا ها، نقسم الصيغة التي جاءت في رواية الموضوع إلى قسمين: -
(الأول) ما جاء في بعضها من أن أبا بكر بكى لما كلمته فاطمة ثم قال:
يا بنت رسول الله، والله ما ورث أبوك دينارا ولا درهما، وإنه قال: إن
الأنبياء لا يورثون (2). وما ورد في الخطبة من قوله: (إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا أرضا
ولا عقارا ولا دار ا لكنما نورث الأيمان والحكمة والعلم والسنة) (3). 69

(1) صحيح البخاري 5: 83 باب 43 حديث رقم 232، صحيح مسلم 4: 1902 حديث رقم
93 / 2449. تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي 17: 203 دار الكتب العلمية - بيروت. مسند
الأمام أحمد 1: 6، طبعة دار صادر.
(2) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 316، سنن البيهقي 6: 301.
(3) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 252، 214، سنن البيهقي 6: 300.
151

(الثاني) التعبير الذي تنقله عدة أخبار عن الخليفة وهو ما رواه عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من (إنا لا نورث ما تركناه صدقة) (1).
2 - والنقطة المهمة في هذا البحث هي معرفة ما إذا كانت هذه الصيغ
تدل بوضوح لا يقبل تشكيكا ولا تأويلا - وهو النص (2) في العرف العلمي
- على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تورث تركته، أو ما إذا كانت تصلح للتعبير بها عن
معنى آخر وإن كانت للتعبير بها عن الحكم بعدم التوريث أصلح - وهو
الظاهر في الاصطلاح - وللمسألة تقدير ثالث وهو أن لا يرجح المعنى الذي
هو في صالح الخليفة على ما قد يؤدي باللفظ من معان اخر - وهو
المجمل (3).
3 - إذا لا حظنا القسم الأول من صيغ الحديث وجدنا رواياته تقبل أن
تكون بيانا لعدم تشريع توريث الأنبياء كما فهمه الخليفة، ويمكن أن تكون
كناية عن معنى أن يقع في نقس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيانه، وهو تعظيم
مقام النبوة وتجليل الأنبياء، وليس من مظهر للجلالة الروحية والعظمة الإلهية

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 224، 218، سنن البيهقي 6: 301.
(2) النص: قال الرازي: إذا كان اللفظ موضوعا لمعنى، ولا يكون محتملا لغيره فهذا
هو النص.
وأما المجمل فيظهر من كلامه أنه ما دل على معنيين على التساوي.
راجع التفسير الكبير / الرازي 7: 18.
وجاء في معارج الأصول / المحقق الحلي: 105: النص: (هو الكلام الذي يظهر إفادته
لمعناه، ولا يتناول أكثر مما هو مقول فيه. أما المجمل: فهو ما أفاد جملة من
الأشياء... واللفظ لا يعينه...).
وراجع بيان النصوص التشريعة / بدران أبو العينين: 5.
(3) المصباح المنير / 2: 654، نشر دار الهجرة - قم المقدسة.
152

أجلى دلالة وأكثر مادية من الزهد في الدنيا، ولذائذها الزائفة، ومتعها
الفانية. فماذا لا يجوز لنا افتراض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يشير إلى أن الأنبياء
أناس ملائكيون وبشر من الطراز الأسمى الذي لا تشوبه الأنانيات الأرضية
والأهواء البشرية؟ لأن طبيعتهم قد اشتقت من عناصر السماء - بمعناها
الرمزي - المتدفقة بالخير لا من مواد هذا العالم الأرضي، فهم أبدا ودائما
منابع الخير، والطالعون بالنور، والمورثون للأيمان والحكمة، والمركزون
للسلطان الإلهي في الأرض. وليسوا مصادر للثروة بمعناها المصطلح عليه
في عرف الناس، ولا بالساعين وراء نفائسها. ولماذا لا يكون قوله: (إنا
معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا أرضا ولا عقارا ولا دار ا) كناية
عن هذا المعنى؟ لأن توريثهم لهذه الأشياء إنما يكون بحيازتهم لها،
وتركهم إياها بعد موتهم وهم منصرفون عنها، لا يحسبون لها حسابا ولا
يقيمون لها وزنا ليحصلوا على شئ منها. فما هو تحت اللفظ نفي التوريث
لعدم وجود التركة كما إذا قلنا: إن الفقراء لا يورثون، لا أنهم يختصون عن
سائر الناس بحكم يقتضي بعدم جريان أحكام الإرث على تركاتهم.
والهدف الأصلي من الكلام بيان جلال الأنبياء. وهذا الأسلوب من البيان
مما يتفق مع الأساليب النبوية الرائعة التي تطفح بالمعاني الكبار وتزخر
بأسماها في موجاتها اللفظية القصيرة.
4 - ولكي تتفق معي على تفسير معين للحديث، يلزم أن نعرف معنى
التوريث لنفهم الجملة النافية له كما يلزم. و 70 معنى التوريث جعل شئ
ميراثا، فالمورث من يكون سببا لانتقال المال من الميت إلى قريبه (1) وهذا

(1) المصباح المنير 2: 654 نشر دار الهجرة - قم المقدسة.
153

الانتقال يتوقف على أمرين: -
(أحدهما) وجود التركة.
(والاخر) القانون الذي يجعل للوارث حصة من مال الميت. ويحصل
الأول بسبب نفس الميت، والثاني بسبب المشرع الذي وضع قانون الوراثة
سواء أكان فردا أسندت إليه الناس الصلاحيات التشريعية أو هيئة تقوم على
ذلك، أو نبيا يشرع بوحي من السماء، فكل من الميت والمشرع له نصيب
من إيجاد التوارث، ولكن المورث الحقيقي الذي يستحق التعبير عنه بهذا
اللفظ بحق هو الميت الذي أوجد مادة الإرث، لأنه هو الذي هيا للإرث
شرطه الأخير بما خلفه من ثروة، وأما المشرع فليس مورثا من ذلك الطراز
لأنه لم يجعل بوضعه للقانون، ميراثا معينا بالفعل، بل شرع نظاما يقتضي بأن
الميت إذا كان قد ملك شيئا وخلفه بعد موته فهو لأقاربه. وهذا وحده لا
يكفي لايجاد مال موروث في الخارج، بل يتوقف على أن يكون الميت قد
أصاب شيئا من المال وخلفه بعده.
فالواضع التشريعي نظير من يضيف عنصرا خاصا إلى طبيعة من
الطبائع، فيجعلها قابلة لاحراق ما يلاقيها. فإذا ألقيت إليها بورقة فاحترقت
كنت أنت الذي أحرقتها لا من أضاف ذلك العنصر المحرق إلى الطبيعة،
والقاعدة التي ذلك، أن كل شئ يسند بحسب أصول التعبير إلى
المؤثر الأخير فيه. وفي ضوء هذه القاعدة نعر ف أن نسبة التوريث إلى
شخص تدل على أنه المؤثر الأخير في الإرث، وهو الموروث (1) الذي

(1) المصدر السابق.
154

أوجد التركة. فالمفهوم من جملة: أن الأنبياء يورثون، أنهم يحصلون على
الأموال ويجعلونها تركة من بعدهم، وإذا نفي التوريث عنهم، كان مدلول
هذا النفي أنهم لا يهيؤون للإرث شرطه الأخير، ولا يسعون وراء الأموال
ليتركوها بعد وفاتهم لورثتهم. وإذن فليس معنى: أن الأنبياء لا يورثون،
عدم التوريث التشريعي، ونفي الحكم بالإرث، لأن الحكم بالإرث ليس
توريثا حقيقيا، بل التوريث الحقيقي تهيئة نفس التركة وهذا هو المنفي في
الحديث.
وعلى طراز آخر من البيان أن التوريث الذي نفاه خاتم النبيين عن
الأنبياء، إن كان هو التوريث التشريعي، كان مفاد النفي إلغاء قانون الإرث
من شرائع السماء، لأن توريثهم التشريعي لا يختص بورثتهم حتى يكون
المنفي توريثهم خاصة. وإن كان هو التوريث الحقيقي، بمعنى تهيئة الجو
المناسب للإرث، سقطت العبارة عما أراد لها الصديق من معنى وكان
معناها أن الأنبياء لا تركة لهم لتورث.
5 - وفي الرواية الأولى مهد الخليفة للحديث بقوله: (والله ما ورث
أبوك دينارا ولا درهما) (1)، وهذا التعبير واضح كل الوضوح في نفي التركة
وعدم ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا من المال. فإذا صح للخليفة أن يستعمل
تلك الجملة في هذا المعنى، فليصح أن تدل صيغة الحديث عليه أيضا
ويكون هو المقصود منها.
6 - وإذا لاحظنا الأمثلة التي ذكرت في الرواية الثانية نجد فيها ما يعزز

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 216.
155

قيمة هذا التفسير، لأن ذكر الذهب والفضة والعقار والدار - مع أنها من
مهمات التركة - لا يتفق مع تفسير الحديث بأن لا تورث، لأن اللازم
ذكر أتفه الأشياء لبيان عموم الحكم بعدم الإرث لسائر مصاديق التركة. كما
إنا إذا أردنا أن نوضح عدم إرث الكافر لشئ من تركة أبيه لم نقل: إن الكافر
لا يرث ذهبا ولا فضة ولا دارا وإنما نقول: إنه لا يرث تمرة واحدة من
تركة الميت. وبتعبير واضح أن الاهتمام بتوضيح عموم الحكم لكل أقسام
التركة يقتضي التصريح ببعض أقسام المال الذي قد يتوهم متوهم عدم
اندراجه في التركة التي لا تورث. وقولنا: الأنبياء لا يورثون أو أن الكفار
لا نصيب لهم من تركة آبائهم، يدل أول ما يدل على عدم انتقال الدار
والعقار والذهب والفضة وغيرها من نفيس التركة ومهمها. فذكر هذه الأمور
في الحديث يرجح أن المقصود بنفي توريث الأنبياء، بيان زهدهم وعدم
اهتمامهم بالحصول على نفائس الحياة المحدودة التي يتنافس فيها
المتنافسون، لأن المناسب لهذا الغرض ذكر الأموال المهمة التي تكون
حيازتها وتوريثها منافيا للزهد والمقامات الروحية العليا. وأما الأخبار عن
عدم التوريث في الشريعة فاللائق به ذكر التوافه من التركة دون أقسامها
الواضحة المهمة.
7 - وأمر آخر يشهد لما ذكرناه من التفسير وهو الجملة الثانية الإيجابية
في الحديث أي جملة: (ولكنا نورث الأيمان والحكمة والعلم والسنة) (1)،
فإنها لا تدل على تشريع وراثة هذه الأمور، بل على توفرها في الأنبياء إلى

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 214.
156

حد يؤهلهم لنشرها وإشاعتها بين الناس. فقد نفهم حينئذ أن المراد بالجملة
الأولى التي نفت التوريث، بيان أن الأنبياء لا يسعون للحصول على الذهب
والعقار ونحو هما، ولا يكون لهم من ذلك شئ ليرثه آلهم.
8 - ولا يجوز لنا أن نقيس عبارة الحديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بقوله: (إن الناس لا يورثون الكافر من أقاربهم (1)، بل يلزمنا أن نفرق بين
التعبيرين لأن المشرع إذا تكلم عمن يشرع لهم أحكامهم كان الظاهر من
كلامه أنه يلقي بذلك عليهم حكما من الأحكام. فإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن
عدم توريث الناس للكافر من أقاربهم لا يصح تفسيره بأنه إخبار فقط، بل
يدل فوق هذا على أن الكافر لا يرث في شريعته. وتختلف عن ذلك العبارة
التي نقلها الخليفة، لأن موضوع الحديث فيها هو الأنبياء لا جماعة ممن
تشملهم تشريعات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحكامه، فليس في الأمر ما يدل على حكم
وراء الأخبار عن عدم توريثهم.
9 - وليس لك أن تعترض بأن الأنبياء كثيرا ما يحوزون على شئ مما
ذكر في الحديث، فيلزم على ما ذكرت من التفسير أن يكون الحديث كاذبا،
لأنك قد تتذكر أن الذي نفي عن الأنبياء هو التوريث خاصة، وهو ينطوي
على معنى خاص، وأعني به إسناد الإرث إلى المورث. وهذا الأسناد
بتوقف على أن يكون المورث قد سعى في سبيل الحصول على المال الذي
تركه ميراثا بعده، كما يتوقف معنى المهذب على استعمال وسائل التهذيب.

(1) ورد الحديث بألفاظ وعبارات أخرى مفادها ما تقدم، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يرث
المسلم الكافر ولا الكفار المسلم، راجع سنن ابن ماجة 2: 164، صحيح سنن المصطفى /
أبي داود 2: 19 - باب هل يرث المسلم الكافر.
157

فإذا استطاع شخص أن يقرأ أفكار عالم من علماء الأخلاق، ويهذب نفسه
على هدى تلك الأفكار، لم يصح تسمية ذلك العالم مهذبا، لأن إيجاد أي
شئ سواء أكان تهذيبا أو توريثا أو تعليما أو نحو ذلك لا يستقيم إسناده إلى
شخص إلا إذا كان للشخص عمل إيجابي، وتأثير ملحوظ في تحقق ذلك
الشئ الموجود. والأنبياء وإن حازوا شيئا من العقارات والدور، ولكن
ذلك لم يكن بسعي منهم وراء المال كما هو شأن الناس جميعا. ونقرر
علاوة على هذا أن المقصود من الكلام ليس هو بيان أن الأنبياء لا يورثون
ولا يتركون مالا، بل ما يدل عليه ذلك من مقامهم وامتيازهم. وما دامت
الجملة كذلك ولم يكن الهدف الحقيقي منها بيان معناها الحرفي، فلا يمنع
حيازة الأنبياء لبعض تلك الأموال عن صواب التفسير الذي قدمناه، كما أن
من كنى قديما عن الكريم بأنه كثير الرماد (1) لم يكن كاذبا سواء أكان في
بيت الكريم رماد، أو لا، لأنه لم يرد نعته بهذا الوصف حقا وإنما أشار به
إلى كرمه، لان أظهر لوازم الكرم يومذاك كثرة المطابخ الموجبة لكثرة
الرماد. وعدم التوريث من أوضح آثار الزهد والورع، فيجوز أن يكون
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أشار إلى ورع الأنبياء بقوله: إن الأنبياء لا يورثون.
10 - ولأجل أن نتبين معنى القسم الثاني من صيغ الحديث يلزمنا أن
نميز بين معان ثلاثة -:

(1) الكناية عن الكريم بكثير الرماد، مما شاع على ألسنة البلغاء والشعراء. راجع: جواهر
البلاغة / أحمد الهاشمي: 363.
لاحظ بيت الخنساء المشهور في أخيها صخر:
رفيع العماد طويل النجاد كثير الرماد...
158

(الأول) أن تركة الميت لا تورث، ومعنى هذا إن ما كان يملكه إلى
حين وفاته، وتركه بعده لا ينتقل إلى آله بل يصبح صدقة حين موته.
(الثاني) أن ما تصدق به الميت في حياته، أو أقفه على جهات معينة
لا يورث بل يبقى صدقة ووقفا، والورثة إنما يورثون غير الصدقات من
الأموال التي كان يملكها الميت إلى حين وفاته.
(الثالث) أن الشخص ليس لديه أموال مملوكة له لتورث، وكل ما
سوف يتكره من أموال إنما هو من الصدقات والأوقاف.
ومتى عرفنا الفارق بين هذه المعاني يظهر أن صيغة الحديث ليست
واضحة كل الوضوح ولا غنية عن البحث والتمحيص، بل في طاقتها
التعبيرية إمكانيات التفسير بالمعاني الانفة الذكر جميعا، فإن النصف الثاني
من الحديث وهو - ما تركناه صدقة - يجوز أن يكون مستقلا في كيانه
المعنوي، مركبا من مبتدأ وخبر، ويمكن أن يكون تكملة لجملة لا نورث.
ففي الحالة الأولى يقبل الحديث التفسير بالمعنى الأول والثالث من المعاني
السابقة لأن جملة - ما تركناه صدقة - قد يراد بها أن التركة لا تنقل من ملك
الميت إلى آله وإنما تصبح صدقة بعد موته، وقد يقصد بها بيان المعنى
الثالث وهو أن جميع التركة صدقة ولم يكن يملك منها الميت شيئا ليورث
كما إذا أشار الإنسان إلى أمواله وقال: إن هذه الأموال ليست ملكا لي وإنما
هي صدقات أتولاها. والحديث على تقدير أن تكون له وحدة معنوية، يدل
على المعنى الثاني، أي أن الصدقات التي تصدق بها الميت في حياته لا
تورث دون سائر تركته، ويكون الموصول مفعولا لا مبتدأ. ويتضح من
الصيغة على هذا التقدير نفس ما يفهم منها إذا انعكس الترتيب فيها وجاءت
159

هكذا: - ما تركناه صدقة لا نورثه - فكما يؤتى بهذه الجملة لبيان أن
الصدقات لا تور ث، لا أن كل أقسام التركة صدقة، كذلك يصح أن يقصد
نفس ذلك المعنى من صيغة الحديث بترتيبها المأثور. فتكون دليلا على
عدم انتقال الصدقات إلى الورثة على على عدم تشريع الإرث إطلاقا. وقد
يكون من حق سيبويه علينا أن نشير إلى أن قواعد النحو ترفع كلمة صدقة
على تقدير استقلال - ما تركناه صدقة - معنويا وتنصبها على التقدير الاخر.
ومن الواضح أن الحركات الاعرابية لا تلحظ في التكلم عادة بالنسبة إلى
الحرف الأخير من حروف الجملة للوقوف عليه المجوز لتسكينه.
11 - وإذن فقد وضعنا بين يدي الحديث عدة من المعاني في سبيل
البحث عن مدلوله. وليس من الإسراف في القول أن نقرر أن تفسير الحديث
بما يدل على أن أموال النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكون صدقة بعد موته، لا يرجح على
المعنيين الآخرين، بل قد نتبين لونا من الرجحان للمعنى الثاني - وهو أن
المتروك صدقة لا يورث - دون سائر التركة إذا تأملنا ضمير الجمع في
الحديث، وهو النون، وهضمنا دلالته كما يجب لأن استعماله في شخصه
الكريم خاصة لا يصح إلا على سبيل المجاز، ثم هو بعد ذلك بعيد كل البعد
عن تواضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله وفعله. فالظواهر تجمع على أن النون
قد استعملت في جماعة، وإن الحكم الذي تقرره العبارة ثابت لها وليس
مختصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأوفق بأصول التعبير أن تكون الجماعة جماعة
المسلمين لا الأنبياء، لأن 73 الحديث مجرد عن قرينة تعين هؤلاء، ولم يسبق
بعهد يدل عليهم. وليس لك أن تعترض بأن صيغة الحديث يجوز أنها كانت
مقترنة حال صدورها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقرينة أو مسبوقة بعهد يدل على أن
160

مراده من الضمير جماعة الأنبياء، لأن اللازم أن تعتبر عدم ذكر الخليفة
لشئ من ذلك - مع أن الراوي لحديث لا بد له من نقل سائر ما يتصل به مما
يصلح لتفسيره - دليلا على سقوط هذا الاعتراض. وأضف إلى هذا أن إغفال
ذلك لم يكن من صالحه، وإذن فليكن الواقع اللفظي للحديث هو الواقع
المأثور عن الخليفة بحدوده الخاصة بلا زيادة ولا نقيضة.
والمفهوم من الضمير حينئذ جماعة المسلمين لحضورهم ذاتا عند
صدور العبارة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد جرت عادة المتكلمين على أنهم إذا
أوردوا جملة في مجتمع من الناس، وأدرجوا فيها ضمير المتكلم الموضوع
للجماعة، أن يريدوا بالضمير الجماعة الحاضرة. فلو أن شخصا من العلماء
اجتمع عنده جماعة من أصدقائه، وأخذ يحدثهم وهو يعبر بضمير المتكلم
الموضوع للجمع بلا سبق ذكر العلماء، لفهم من الضمير أن المتكلم يعني
بالجماعة نفسه مع أصدقائه الحاضرين لا معشر العلماء الذين يندرج فيهم،
ولو أراد جماعة غير أولئك الحاضرين لم يكن مبينا بل ملغزا. وتعليقا على
هذا التقدير ماذا تراه يكون هذا الحكم الذي أثبته الحديث للمسلمين - الذين
قد عرفنا أن الضمير يدل عليهم - هل يجوز أن يكون عبارة عن عدم توريث
المسلم لتركته؟ أو أن الأموال التي عند كل مسلم ليست ملكا له وإنما هي
من الصدقات؟ كلا! فإن هذا لا يتفق مع الضروري من تشريع الإسلام، لأن
المسلم في عرف القرآن يملك بألوان متعددة من أسباب الملك عند الناس،
ويورث ما يتركه من أموال (بعد وصية يوصي بها أو دين) (1). وأنت ترى

(1) إشارة إلى قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين
فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم
يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين)
النساء / 11.
161

معي الان بوضوح أن الحكم ليس إلا أن الصدقة لا تورث، فإن هذا أمر عام
لا يختص بصدقة دون صدقة بل يطرد في سائر صدقات المسلمين.
ولا غرابة في بيان الحكم بعدم توريث الصدقات في صدر زمان التشريع مع
وضوحه الان، لأن قواعد الشريعة وأحكامها لم تكن قد تقررت واشتهرت
بين المسلمين فكان لاحتمال انفساخ الصدقات والأوقاف بموت المالك
ورجوعها إلى الورثة متسع، ولا يضعضع قيمة هذا التفسير عدم ذكر الزهراء
له واعتراضها به على الخليفة.
أما أولا: فلأن الموقف الحرج الذي وقفته الزهراء في ساعتها
الشديدة لم يكن ليتسع لمثل تلك المناقشات الدقيقة، حيث أن السلطة
الحاكمة التي كانت تريد تنفيذ قراراتها بصورة حاسمة قد سيطرت على
الموقف بصرامة وعزم لا يقبلان جدالا، ولذا نرى الخليفة لا يزيد في
جواب استدلال خصمه بآيات ميراث الأنبياء على الدعوى الصارمة إذ
يقول: (هكذا هو) - كما في طبقات ابن سعد * (1) - فلم يكن مصير هذه
المناقشات لو قدر لها أن تساهم في ا لثورة بنصيب إلا الرد والفشل.
وأما ثانيا: فلأن هذه المناقشات لم تكن تتصل بهدف الزهراء وغرضها
الذي كان يتلخص في القضاء على جهاز الخلافة الجديدة كلها، فمن
الطبيعي أن تقتصر على الأساليب التي هي أقرب إلى تحقيق ذلك الغرض،

(1) طبقات ابن سعد 2: 315، طبعة دار صادر، قول الخليفة الأول في الجواب: هكذا هو.
162

فتراها مثلا في خطابها الخالد خاطبت عقول الناس وقلوبهم معا، ولكنها لم
تتجاوز في احتجاجها الوجوه البديهية التي كان من القريب أن يستنكر
اغضاء الخليفة عنها كل أحد، ويجر ذلك الاستنكار إلى معارضة حامية.
فقد نفت وجود سند لحكم الخليفة من الكتاب الكريم، ثم ذكرت ما
يخالفه من الآيات العامة المشرعة للتوارث بين سائر المسلمين (1)، والآيات
الخاصة الدالة على توريث بعض الأنبياء كيحيى وداود عليهما السلام، ثم عرضت
المسألة على وجه آخر وهو: إن ما حكم به الخليفة لو كان حقا للزم أن
يكون أعلم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه، لأنهما لم يخبراها بالخبر مع أنهما
لو كانا على علم به لأخبراها به، ومن الواضح أن الصديق لا يمكن أن يكون
أعلم بحكم التركة النبوية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو علي الذي ثبتت وصايته (2)
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في قولها:
(يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد
جئت شيئا فريا! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ
يقول: (وورث سليمان داود) (3) وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا:

(1) من الواضحات العلمية أخيرا: أن الخبر الواحد المعتبر يصلح لتخصيص الكتاب، لأنه
حاكم أو وارد كما هو الصحيح على أصالة العموم وأصالة الإطلاق. وإنما احتجت الزهراء
بالآيات العامة، لأنها لم تكن تعترف بوثاقة الصديق وعدالته. (الشهيد)
(2) وصاية الإمام علي عليه السلام ثابتة على كل حال: أما عند الأمامية، فعليها الاجماع، وعلى أنها
بالمعنى الأعم أي الخلافة أيضا، وأما عند غيرهم فثابتة ولكن بالمعنى الأخص. راجع
حديث الدار المشهور تاريخ الطبري 2 وقد تقدم، مسألة الوصية والاستدلال عليها
تفصيلا، المراجعات / العلامة عبد الحسين شرف ا لدين: 236.
(3) النمل / 16.
163

(فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب) (1) وقال: (وأولوا
الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) (2) أفخصكم الله بآية أخرج منها
أبي؟ أم هل تقولون: أهل ملتين لا يتوارثان؟! أو لست أنا وأبي من أهل ملة
واحدة؟ أن أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي (3)؟!).
وكانت أبرز الناحيتين في ثورتها الناحية العاطفية. وليس من العجيب
أن تصرف الزهراء أكثر جهودها في كسب معركة القلب، فإنه السلطان الأول
على النفس، والمهد الطبيعي الذي تترعرع فيه ر و ح الثورة. قد نجحت
الحوراء في تلوين صورة فنية رائعة تهز المشاعر، وتكهرب العواطف،
وتهيمن على القلوب، كانت هي أفضل سلاح تتسلح به امرأة في ظروف
كظروف الزهراء.
ولأجل أن نستمتع بالجمال الفني في تلك الصورة الملونة بأروع
الألوان، لا بأس بأن نستمع إلى الصديقة حين خاطبت الأنصار بقولها:
(يا معشر البقية، وأعضاد الملة، وحضنة الإسلام، ما هذه الفترة عن
نصرتي؟ والونية عن معونتي؟ والغمزة في حقي؟ والسنة عن ظلامتي؟ أما
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (المرء يحفظ في ولده) (4)؟! سرعان ما

(1) مريم / 5 و 6.
(2) الأنفال / 75.
(3) نقلنا هذه القطعة على وجه الاختصار (الشهيد)، إن اختصاص الإمام علي عليه السلام بفقه
القرآن، ومعرفة عامه وخاصه ومحكمه ومتشابهه وظاهره وباطنه مما تضافر على نقله
الخاص والعام. راجع: الاتقان / السيوطي 4: 233، طبقات ابن سعد 2: 338، الصواعق
المحرقة / ابن حجر: 127 وغيرها. 75
(4) وردت روايات بمعناه كثيرة راجع: الصواعق المحرقة: 173.
164

أحدثتم، وعجلان ما أتيتم، ألأن مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمتم دينه؟! ها إن
موته لعمري خطب جليل، استوسع وهنه، واستبهم فتقه، وفقد راتقه،
وأظلمت الأرض له، خشعت الجبا ل، وأكدت الآمال. أضيع بعده
الحريم، وهتكت الحرمة، وأذيلت المصونة، وتلك نازلة أعلن بها كتاب
الله قبل موته، وأنبأكم بها قيل وفاته، فقال: (وما محمد إلا رسول قد خلت من
قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر
الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) (1) إيها بني قيلة! اهتضم تراث أبي وأنتم
بمرأى ومسمع تبلغكم الدعوة، ويشملكم الصوت، وفيكم العدة والعدد،
ولكم الدار والجنن، وأنتم نخبة الله التي انتخب وخيرته التي
اختار... الخ) (2).
وإذن فلم تكن المناقشات في تفسير الحديث وتأويله مما تهضمها
السلطات الحاكمة، ولا هي على علاقة بالغرض الرئيسي للثائرة من ثورتها.
وهذا يفسر لنا عدم تعرضها للنحلة في خطابها أيضا.
(موقف الخليفة من مسألة الميراث)
1 - يجب الان توضيح موقف الخليفة تجاه الزهراء في مسألة الميراث
وتحديد رأيه فيها - بعد أن أوضحنا حظ الصيغ السابقة من وضوح المعنى
وخفائه - وهو موقف لا يخلو من تعقيد إذا تعمقنا شيئا ما في درس

(1) آل عمران / 144.
(2) خطبة الزهراء / شرح النهج 16: 212 - 213.
165

المستندات التاريخية للقضية. ومع أن المستندات كثيرة فإنها مسألة محيرة
أن نعرف ماذا عسى أن تكون النقطة التي اختلف فيها المتنازعان، ومن
الصعوبة توحيد هذه النقطة.
والناس يرون أن مثار الخلاف بين أبي بكر والزهراء هو مسألة توريث
الأنبياء، فكانت الصديقة تدعي توريثهم، والخليفة ينكر ذلك. وتقدير
الموقف على هذا الشكل لا يحل المسألة حلا نهائيا ولا يفسر عدة أمور:
(الأول) قول الخليفة لفاطمة في محاورة له معها - وقد طالبته بفدك -:
إن هذا المال لم يكن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما كان مالا من أموال المسلمين يحمل
النبي به الرجال وينفقه في سبيل الله، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليته كما
كان يليه (1). فإن هذا الكلام يدل بوضوح على أنه كان يناقش في أمر آخر
غير توريث الأنبياء.
(الثاني) قوله لفاطمة في محاورة أخرى: (أبوك والله خير مني وأنت
والله خير من بناتي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا نورث ما تركناه صدقة (2).
يعني هذه الأموال القائمة، وهذه الجملة التفسيرية التي ألحقها الخليفة
بالحديث تحتاج إلى عناية، فإنها تفيدنا أن الخليفة كان يرى أن الحكم الذي
تدل عليه عبارة الحديث مختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس ثابتا لتركة سائر الأنبياء
ولا لتركة سائر المسلمين جميعا، فحدد التركة التي لا تورث بالأموال
القائمة، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعنيها هي بالحديث. وعلى هذا

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 214.
(2) المصدر السابق.
166

التحديد نفهم أن المفهوم للخليفة من الحديث ليس هو عدم توريث
الصدقات، لأن هذا الحكم عام، ولا اختصاص له بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يجوز
أن يحدد موضوعه بالأموال القائمة بل كان اللازم حينئذ أن يأتي الخليفة
بجملة تطبيقية بأن يقول: إن الأموال القائمة مما ينطبق عليها الحديث.
كما يتضح لدينا أن الخليفة لم يكن يفسر الحديث بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لا تورث تركته وأملاكه التي يخلفها، بل تصبح صدقة بعد موته، لأنه لو
كان يذهب هذا المذهب في فهم الحديث لجاء التفسير في كلامه على
أسلوب آخر، لأن المقصود من موضوع الحديث حينئذ تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
على الإطلاق ولا يعني الأموال القائمة التي كانت تطالب بها الزهراء
خاصة. وأعني بذلك أن هذه الأموال الخاصة لو كانت قد خرجت عن ملك
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل وفاته، لم يكن الحكم بعدم التوريث ثابتا لها كما أن غيرها
من الأحوال لو حصل (للنبي) لما ورثها آله أيضا. فعدم توريث التركة
النبوية إن ثبت فهو امتياز لكل ما يخلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أملاك سواء أكانت
هذه التي خلفها أو غيرها. ولا يصح أن يقال: إنه عنى بالتركة الأموال
القائمة التي كانت تطالب بها الزهراء.
ونظير ذلك قولك لصاحبك: أكرم كل من يزورك الليلة، ثم يزوره
شخصان فإنك لم تعن بكلامك هذين الشخصين خاصة، وإنما انطبق عليهما
الأمر دون غير هما على سبيل الصدفة. وعلى أسلوب أوضح، إن تفسير التركة
التي لا تورث بأموال معينة - وهي الأموال القائمة - يقضي بأن الحكم
المدلول عليه بالحديث مختص - عند المفسر - بهذه الأموال المحدودة.
ولا ريب أن تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كانت لا تورث لما اختص الحكم
167

بالأموال المعينة المتروكة بالفعل، بل لثبت لكل يتركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن
لم يكن من تلك الأموال. وأيضا فمن حق البحث أن أتساءل عن فائدة
الجملة التفسيرية، والغرض المقصود من ورائها فيما إذا كان الحكم
المفهوم للخليفة من الحديث أن أملاك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تورث، فهل كان
صدق التركة على الأموال القائمة مشكوكا، فأراد أن يرفع الشك لينطبق
عليها الحديث، ويثبت لها الحكم بعدم التوريث؟ وإذا صح هذا التقدير
فالشك المذكور في صالح الخليفة لأن المال إذا لم يتضح أنه من تركة
الميت لا ينتقل إلى ا لورثة، فلا يجوز أن يكون الخليفة قد حاول رفع هذا
الشك، ولا يمكن أن يكون قد قصد بهذا التطبيق منع الزهراء من المناقشة
في انطباق الحديث على ما تطالب به من أموال، لأنها ما دامت قد طالبت
بالأموال القائمة على وجه الإرث فهي تعترف بأنها من تركة رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولنفترض أن الأموال القائمة قسم من التركة النبوية وليس
المقصود منها مخلفات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميعا - ولعلها عبارة عن الأموال
والعقارات الثابتة نحو فدك - فهل يجوز لنا تقدير أن غرض الخليفة من
الجملة تخصيص الأموال التي لا تورث بها؟ لا أظن ذلك، لأن أملاك
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تختلف في التوريث وعدمه. ونخرج من هذه التأملات بنتيجة
وهي أن ا لمفهوم من الحديث للخليفة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن عدم
تملكه للأموال القائمة، وأشار إليها بوصف التركة فقال: (ما تركناه
صدقة)، فشأنه شأن من يجمع ورثته ثم يقول لهم: إن كل تركتي صدقة،
يحاول بذلك أن يخبرهم بأنها ليست ملكا له ليرثوها بعده لأن ذلك هو
المعنى الذي يمكن أن يختص بالأموال القائمة ويحدد موضوعه بها.
168

(الثالث) جواب الخليفة لرسول أرسلته فاطمة ليطالب بما كان
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، إذ قال له: (إن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد من هذا المال،
وإني والله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حالها التي كانت
عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1). فإننا إذا افترضنا أن معنى الحديث في
رأي الخليفة عدم توريث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأملاكه، كان كلامه متناقضا، لأن
استدلاله بالحديث في صدر كلامه يدل حينئذ على أنه يعترف بأن ما تطالب
به الزهراء هو من تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأملاكه التي مات عنها - ليصح انطباق
الحديث عليه - والجملة الأخيرة من كلامه وهي قوله: (وإني والله لا أغير
شيئا من صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم)، تعاكس هذا المعنى، لأن ما طلبت الزهراء تغييره عن أيام
النبي صلى الله عليه وآله وسلم - بزعم الخليفة - هو فدك وعقاراته في المدينة، وما بقي من
خمس خيبر. فأبو بكر حين يقول: إني والله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، يعني بها تلك الأموال التي طالبت بها الزهراء، ورأي معنى
مطالبتها بها تغييرها عن حالها السابقة، ومعنى تسميته لها بصدقات رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم أن من رأيه أنها ليست ملكا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بل صدقاته التي كان
يتولاها في حياته. ويوضح لنا هذا أن استدلاله بالحديث في صدر كلامه لم
يكن لإثبات أن أملاك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تورث وإنما أراد بذلك توضيح أن
الأموال القائمة ليست من أملاك النبي، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أنها صدقة.
2 - ونستطيع أن نتبين من بعض روايات الموضوع أن الخليفة ناقش

(1) شرح النهج 16: 218.
169

في توريث الأنبياء لأملاكهم ولم يقصر النزاع على الناحية السابقة، فإن
الرواية التي تحدثنا بخطبة الزهراء واستدلال أبي بكر بما رواه عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديث: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث... الخ) واعتراض
الزهراء عليه بالآيات العامة المشرعة للميراث والآيات الخاصة الدالة على
توريث بعض الأنبياء تكشف عن جانب جديد من المنازعة إذ ينكر أبو بكر
توريث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمواله، ويستند إلى الحديث في ذلك، ويلح في الإنكار
كما تلح فاطمة في مناقشته (1) والتشبث بوجهة نظرها في المسألة.
3 - وإذن فللخليفة حديثان:
(الأول) لا نورث ما تركناه صدقة (2).
(والثاني) إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة (3). وقد ادعى
أمرين:
أحدهما: إن فدك صدقة فلا تورث.
والاخر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تورث أملاكه. واستدل بالحديث الأول على
أن فدك صدقة وبالحديث الثاني على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يورث.
(نتائج المناقشة)
1 - قد لا يكون من العسير تصفية الحساب مع الخليفة بعد أن اتضح

(1) المصدر السابق 16: 211.
(2) المصدر نفسه 16: 218، وراجع سنن البيهقي 6: 300 - 301.
(3) شرح النهج 16: 252.
170

موقفه، وتقررت الملاحظات التي لاحظناها في الحديثين اللذين رواهما
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وتتلخص المؤاخذة التي آخذناه بها حتى الان في عدة أمور
نشير إليها لنجمع نتائج ما سبق:
(الأول) أن الخليفة لم يصدق روايته في بعض الأحايين كما ألمحنا في
مستهل هذا الفصل...
(الثاني) أن من الإسراف في الاحتمال أن نجوز إسرار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
إلى الخليفة بحكم تركته 78 وإخفاءه عن بضعته وسائر ورثته. وكيف اختص
بالخليفة دون غيره بمعرفة الحكم المذكور؟ (1) مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن
من عادته الاجتماع بأبي بكر وحده إلا بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اخبره
بالخبر في خلوة متعمدة ليبقى الأمر مجهولا لدى ورثته وبضعته ويضيف
بذلك إلى آلامها من ورائه محنة جديدة.
(الثالث) أن عليا هو وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا ريب، للحديث الدال
على ذلك الذي ارتفع به رواته إلى درجة التواتر واليقين حتى شاع في شعر
أكابر الصحابة فضلا عن رواياتهم كعبد الله بن عباس وخزيمة بن ثابت
الأنصاري وحجر بن عدي وأبي الهيثم بن التيهان وعبد الله بن أبي سفيان بن
الحرث بن عبد المطلب وحسان بن ثابت وأمير المؤمنين علي بن أبي
طالب (2). وإذن فالوصاية من الأوسمة الإسلامية الرفيعة التي اختص بها

(1) حتى قالت عائشة في كلام لها: واختلفوا في ميراثه فما وجدنا عند أحد في ذلك علما،
فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورث... إلخ.
راجع الصواعق المحرقة / ابن حجر: 34. (الشهيد) تاريخ الخلفاء / السيوطي: 73.
(2) راجع شرح النهج 1: 47 - 48 و 3: 15 من الطبعة المصرية غير المحققة.
171

الأمام بلا ريب (1).
وقد اختلف شيعة علي وشيعة أبي بكر في معنى هذه الوصاية فذهب
السابقون الأولون إلى أنها بمعنى النص عليه بالخلافة، وتأولها الآخرون
فقالوا: إن عليا وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على علمه أو شريعته أو مختصاته. ولا
نريد الان الاعتراض على هؤلاء أو تأييد أولئك، وإنما نتكلم على الحديث
بمقدار ما يتطلبه اتصاله بموضوع هذا البحث ونقرر النتيجة التي يقضي بها
على كل من تلك التفاسير.
فنفترض أولا: إن الوصاية بمعنى الخلافة، ثم نتبين الصديق على
هدى الحديث. فإنا سوف نراه شخصا سارقا لأنفس المعنويات الإسلامية،
ومتصرفا في مقدرات الأمة بلا سلطان شرعي. ولا مجال لهذا الشخص
حينئذ أن يحكم بين الناس، ولا يسعنا أن نؤمن له بحديث. ولنترك هذا
التفسير ما دام شديد القسوة على صاحبنا ونقول: إن عليا وصي رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم على علمه وشريعته، فهل يسعنا مع الاعتراف بهذه الوصاية
المقدسة أن نؤمن بحديث ينكره الوصي؟! وما دام هو العين الساهرة على
شريعة السماء (2)، فلا بد أن يؤخذ رأيه في كل مسألة نصا لا مناقشة فيه،

(1) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج 1: 46: فلا ريب عندنا أن عليا عليه السلام كان وصي رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وإن خالف من ذلك من هو منسوب عندنا إلى العناد. (الشهيد)
(2) راجع قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي
الحوض) - المعجم الصغير / الطبراني وإنه صلى الله عليه وآله وسلم اختصه من بين أصحابه وأهل بيته بأن
عهد إليه سبعين عهدا لم يعهد لأحد غيره، أنه مع الحق والحق معه، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(علي مني وأنا ولا يؤدي عني إلا هو...). راجع في كل ذلك الصواعق المحرقة / ابن
حجر: 122 وما بعدها، مختصر تاريخ ابن عساكر 17: 256 وما بعدها.
172

لأنه أدرى بما أوصاه به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وائتمنه عليه. وخذ إليك بعد ذلك
الأسلوب الثالث، فإنه ينتهي إلى النتيجة السابقة عينها لأن عليا إذا كان وصيا
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تركته ومختصاته، فلا معنى لسطو الخليفة على التركة
النبوية ووصي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها موجود وهو أعرف بحكمها ومصيرها
الشرعي.
(الرابع) أن تأميم التركة النبوية من أوليات الخليفة في التاريخ، ولم
يؤثر في تواريخ الأمم السابقة ذلك، ولو كان قاعدة متبعة قد جرى عليها
الخلفاء بالنسبة إلى تركة سائر الأنبياء لاشتهر الأمر، وعرفته أمم الأنبياء
جميعا.
كما أن إنكار الخليفة لملكية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفدك - كما تدل عليه
بعض المحاورات السابقة - كان فيه من التسرع شئ كثير، لأن فدك مما لم
يوجف عليها بخيل ولا ركاب، بل استسلم أهلها خوفا ورعبا باتفاق أعلام
المؤرخين (1) من السنة والشيعة. وكل أرض يستسلم أهلها على هذا
الأسلوب فهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خالصة (2). وقد أشار الله تعالى في الكتاب
الكريم إلى أن فدك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما
أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) (3). ولم يثبت تصدق النبي بها ووقفه لها.
(الخامس) إن الحديثين اللذين استدل بهما في الموضوع لا يقوم منهما

(1) راجع: فتوح البلدان / البلاذري: 46، تاريخ ابن الأثير 2: 231 دار صادر، شرح نهج البلاغة
4: 78، سيرة ابن هشام 2: 368، دار إحياء التراث العربي - بيروت / 1985. (الشهيد)
(2) راجع تفسير الكشاف / الزمخشري 4: 502.
(3) الحشر / 6.
173

دليل على ما أراد، وقد خرجنا من دراستهما قريبا بمعنى لكل منهما لا
يتصل بمذهب ا لخليفة عن قرب أو بعد. وإن أبيت فلتكن المعاني الانفة
الذكر متكافئة، ولتكن العبارة ذات تقادير متساوية، ولا يجوز حينئذ
ترجيح معنى لها والاستدلال بها عليه.
2 - هذه هي الاعتراضات التي انتهينا إليها أنفا. ونضيف إليها الان
اعتراضا سادسا بعد أن نفترض أن جملة (إنا معاشر الأنبياء لو نورث) أقرب
إلى نفي الحكم بالميراث منها إلى نفي التركة الموروثة، ونقدر لجملة: (لا
نورث ما تركناه صدقة) من المعنى ما ينفع الخليفة، ونلغي تفسيرها بأن
الصدقة المتروكة لا تورث، ثم ندرس المسألة على ضوء هذه التقادير.
وهذا الاعتراض الجديد هو أن اللازم - في العرف العلمي - متى صحت هذه
الفروض تأويل الخبر، ولم يجز الركون إلى أوضح معانيه، لأنه يقرر حينئذ
عدم توريث سائر الأنبياء لتركاتهم، لما جاء في بعضها من التصريح
بالتعميم نحو إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ولما يدل عليه بالنون في قوله: لا
نورث ما تركناه صدقة، من تعليق الحكم على جماعة. وحيث يتضح أن
الحكم في الحديث عدم توريث التركة، يتجلى أن المراد بالجماعة جماعة
الأنبياء، إذ لا توجد جماعة أخرى نحتمل عدم انتقال تركاتها إلى الورثة.
وقد دل صريح القرآن الكريم على توريث بعض الأنبياء، إذ قال الله تبارك
وتعالى في كتابه الكريم مخبرا عن زكريا عليه السلام: (وإني خفت الموالي من ورائي
وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله
رب رضيا) (1). والأرث في الآية بمعنى إرث المال، لأنه هو الذي ينتقل

(1) مريم / 6.
174

حقيقة من الموروث إلى الوارث، وأما العلم والنبوة فلا ينتقلان انتقالا
حقيقيا (1)، وامتناع انتقال العلم على نظرية اتحاد العاقل والمعقول (2)
واضح كل الوضوح. وأما إذا اعترفنا بالمغايرة الوجودية بينهما، فلا ريب
في تجرد الصور العلمية (3) وأنها قائمة بالنفس قياما صدوريا (4)، بمعنى

(1) شرح النهج 16: 241.
(2) وتقوم الفكرة في هذه النظرية على أن الصور المعقولة - وهي عبارة عن وجود مجرد عن
المادة - لا قوام لها إلا 80 بكونها معقولة. فالمعقولية نفس هويتها، وتجريدها عن العاقل
تجريد لها عن نحو وجودها الخاص. وهذا آية الوحدة الوجودية. وإذن فتدرج النفس في
مراتب العلم هو تدرجها في أطوار الوجود، وكلما صار الوجود النفسي مصداقا فالمفهوم
عقلي جديد زاد في تكامله الجوهري وأصبح من طراز أرفع، ولا مانع مطلقا من اتحاد
مفاهيم متعددة في الوجود كما يتحد الجنس والفصل، وليس ذلك كالوحدة الوجودية
لوجودين أو الوحدة المفهومية لمفهومين، فإن هاتين الوحدتين مستحيلتان في حساب
العقل دون ذاك الاتحاد. والتوسع لا مجال له. (الشهيد)
(3) فإن الحق جميع مراتب العلم والصور المدركة، ولكن على تفاوت في مراتب
التجريد، فإن المدرك بالذات لا يمكن أن يكون أن يكون نفس الشئ بهويته المادية، فحتى
المدرك بحاسة البصر له نحو من التجرد وليس في نورية خروج الشعاع أو الانطباع. وما
ثبت حول الرؤية في علم المرايا أو بحوث الفيزياء ما يفسر الإدراك البصري تفسيرا
فلسفيا، فلا بد من الاعتراف بتجرده فضلا عن الخيال والعقل. وقد أوضحنا هذا المذهب
في كتابنا العقيدة الإلهية في الإسلام. (الشهيد)
(4) لا قياما حلوليا بمعنى كونها أعراضا لها، وإنما ذهب هذا المذهب بعض الفلاسفة لحل
المشكلة التي اعترضت الباحثين عندما أردوا أن يوفقوا بين أدلة الوجود الذهني وبين ما
اشتهر من كون العلم كيفا، وهي أن الصورة المعقولة إذا كانت كيفا فما نتعقله من الإنسان
ليس جوهرا لأنه كيف وليس إنسانا إذن لأن كل إنسان جوهر وإنما هو مثال. ولما أفلست
جميع الحلول التي وضعت لحل الشبهة من إنكار الوجود الذهني وتقرير مذهب المثالية،
واختيار التعدد وكون العلم عرضا والمعلوم جوهرا وتفسير الجوهر بأنه الموجود المستقل
خارجا لا ذهنا، والانقلاب: اضطر الباحثون المتأخرون إلى تقرير أن الصورة المعقولة
من الجوهر جوهر لا كيف، غير أن الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي اختار
في الأسفار أنها جوهر بحسب ماهيتها وكيف بالعرض. ويمكن الاعتراض عليه بأن كل ما
بالعرض لا بد أن ينتهى إلى ما بالذات وإذن فلا بد أن نفترض كيفا حقيقيا متحدا مع الصورة
لتكون كيفا بالعرض. وتنتهي النظرية حينئذ بصاحبها إلى أحد أمرين أما الالتزام بتعدد ما
في النفس أو الاصطدام بالمشكلة الأولى نفسها ولذا كان الأفضل تقرير ان الصورة المدركة
من الإنسان مثلا جوهر وليست بعرض إطلاقا، وارتباطها با لنفس ارتباط المعلول بالعلة لا
العرض بموضوعه. (الشهيد)
175

أنها معلولة للنفس والمعلول الواحد بحسب الذات - لا بمجرد الاتصال فقط -
متقوم بعلته ومرتبط الهوية بها، فيستحيل انتقاله إلى علة أخرى. ولو
افترضنا أن الصور المدركة أعراض وكيفيات قائمة بالمدرك قياما حلوليا،
فيستحيل انتقالها لاستحالة انتقال العرض من موضوع إلى موضوع كما
برهن عليه في الفلسفة سواء أقلنا بتجردها أو بماديتها بأن اعترافنا باشتمال
الصور المدركة على الخصائص العامة للمادة من قابلية الانقسام ونحوها.
وإذن فالعلم يستحيل انتقاله في حكم المذاهب الفلسفية الدائرة حول
الصور العلمية جميعا.
وإذا لاحظنا النبوة وجدنا أنها هي الأخرى أيضا مما لا يجوز في
عرف العقل انتقالها سواء أذهبنا في تفسيرها مذهب بعض الفلاسفة وقلنا
أنها مرتبة من مراتب الكمال النفسي، ودرجة من درجات الوجود الإنساني
الفاضل الذي ترتفع إليه المهية الإنسانية في ارتقاءاتها الجوهرية
وتصاعداتها نحو الكمال المطلق، أو أخذنا بالمعنى المفهوم للناس من
الكلمة واعتبرنا النبوة منصبا إلهيا مجعولا لا كمنصب الملك والوزير، ويكون
ذلك التكامل النفسي شرطا له، فالمفهوم الأول يمتنع انتقاله بالضرورة لأنه
176

نفس وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكمالاته الذاتية، والنبوة بالمعنى الاخر يستحيل
انتقالها أيضا لأنها حينئذ أمر اعتباري متشخص الأطراف ولا يعقل تبدل
طرف من أطرافه إلا بتبدل نفسه وانقلابه إلى فرد آخر. فنبوة زكريا مثلا هي
هذه التي اختص بها زكريا ولن يعقل ثبوتها لشخص آخر لأنها لا تكون
حينئذ تلك النبوة الثابتة لزكريا بل منصبا جديدا أو مقاما نبويا حادثا.
والنظر الأولي في المسألة يقضي بامتناع انتقال العلم والنبوة من دون
حاجة إلى هذا التعمق والتوسع. وإذن فالنتيجة التي يقررها العقل في شوطه
الفكري القصير الذي لا يعسر على الخليفة مسايرته فيه هي أن المال وحده
الذي ينتقل دون العلم والنبوة.
3 - وقد يعترض على تفسير الإرث في كلام زكريا بإرث المال بأن
يحيى عليه السلام لم يرث مال أبيه لاستشهاده في حياته فيلزم تفسير الكلمة بإرث
النبوة، لأن يحيى قد حصل عليها ويكون دعاء النبي حينئذ قد استجيب.
ولكن هذا الاعتراض لا يختص بتفسير دون تفسير، لأن يحيى عليه السلام كما أنه
لم يرث مال أبيه كذلك لم يخلفه في نبوته. وما ثبت له من النبوة لم يكن
وراثيا وليس هو مطلوب زكريا وإنما سأل زكريا ربه وا رثا يرثه بعد موته
ولذا قال: (وإني خفت الموالي من ورائي) (1) أي بعد موتي، فإن كلامه يدل
بوضوح على أنه أراد وارثا يخلفه ولم يرد نبيا يعاصره، وإلا لكان خوفه من
الموالي بعد وفاته باقيا. فلا بد - على كل تقدير - أن نوضح الآية على
أسلوب يسلم عن الاعتراض، وهو أن تكون جملة (يرثني ويرث من آل

(1) مريم / 6، وراجع تفسير الكشاف 3: 4، طبعة دار الكتاب العربي - بيروت.
177

يعقوب)، جوابا للدعاء بمعنى إن رزقتني ولدا يرث، لا صفة ليكون زكريا
قد سأل ربه وليا وارثا. فما طلبه النبي من ربه تحقق وهو الولد وتوريثه
المال أو النبوة لم يكن داخلا في جملة ما سأل ربه وإنما كان لازما لما رجاه
في معتقد زكريا عليه السلام.
ويختلف تقدير العبارة صفة عن تقديرها جوابا من النواحي اللفظية
في الاعراب، لأن الفعل إذا كان صفة فهو مرفوع، وإذا كان جوابا يتعين
جزمه. وقد ورد في قراءته (1) كلا الوجهين.
وإذا لا حظنا قصة زكريا في موضعها القرآني الاخر وجدنا أنه لم يسأل
ربه إلا ذرية طيبة، فقد قال تبارك وتعالى في سورة آل عمران: (هنالك دعا
زكريا ربه قال رب هبب لي من لدنك ذرية طيبة) (2).
وأفضل الأساليب في فهم القرآن ما كان منه مركزا على القرآن (3)
نفسه، وعلى هذا فنفهم من هذه الآية أن زكريا كان مقتصدا في دعائه ولم
يطلب من ربه إلا ذرية طيبة، وقد جمع القرآن الكريم دعاء زكريا في جملة
واحدة تارة وجعل لكل من الذرية ووصفها دعوة مستقلة في موضع آخر
فكانت جملة هب لي من لدنك وليا طلبا للذرية، وجملة واجعله ربي رضيا
دعوة بأن تكون الذرية طيبة. وإذا جمعنا هاتين الجملتين أدت نفس المعنى

(1) راجع: املاء ما من به الرحمن من وجوه الاعراب والقراءات / أبي البقاء العكبري، مطبعة
مصطفى البابي الحلبي - القاهرة / 1969، تفسير مجمع البيان / الطبرسي 6: 647. الكشاف /
الزمخشري 3: 5.
(2) آل عمران / 38.
(3) راجع الإتقان / السيوطي 4: 200، مقدمة في أصول التفسير / ابن تيمية.
178

الذي تفيده عبارة هب لي من لدنك ذرية طيبة وتخرج كلمة (يرثني)
بعد عملية المطابقة بين الصيغتين القرآنيتين عن حدود الدعاء، ولا بد حينئذ
أن تكون جوابا له.
4 - وعلى ذلك يتضح أن كلمة الإرث في الآية الكريمة قد أعطيت
حقها من الاستعمال وأريد بها إرث النبوة، لأن الشئ إنما يصح أن يقع
جوابا للدعاء فيما إذا كان ملازما للمطلوب ومتحققا عند وجوده دائما أو
في أكثر الأحايين. ووراثة النبوة ليست ملازمة لوجود الذرية إطلاقا، بل قد
لا تتفق في مئات الملايين من الأشخاص لما يلزم في هذا المقام من كفاءة
فذة وكمال عظيم، فلا يجوز أن توضع النبوة بجلالها الفريد جوابا لسؤال الله
تعالى ذرية طيبة، لأن النسبة بين الذرية الإنسانية وبين الجديرين بتحمل
أعباء الرسالة السماوية هي النسبة بين الآحاد والملايين. وأما وراثة المال
فيمكن أن تكون جوابا لدعاء زكريا عليه السلام لأن الولد يبقى بعد أبيه عليه الأكثر
فوراثته للمال مما يترتب على وجوده غالبا، وأضف إلى ذلك أن زكريا
نفسه لم يكن يرى النبوة ملازمة لذريته بل ولا ما دونها من المراتب الروحية،
ولذا سأل ربه بد ذلك بأن يجعل ولده رضيا.
5 - ولنترك هذا لندرس كلمة الإرث في الآية على ضوء تقدير الفعل
صفة لا جوابا للدعاء. وفي رأيي أن هذا التقدير لا يضطرنا إلى الخروج
بنتيجة جديدة، بل الإرث في كلمة (يرثني) هو إرث المال في الحالين
معا بلا ريب. والذي يعين هذا المعنى للكلمة على التقدير الجديد أمران:
(الأول) أن زكريا عليه السلام لو كان قد طلب من ربه ولدا وارثا لنبوته لما
طلب بعد ذلك أن يكون رضيا، لأنه دخل في دعوته الأولى ما هو أرفع
179

من الرضا.
(الثاني) أن إغفال الإرث بالمرة في قصة زكريا الواردة في سورة آل
عمران إن لم يد ل على أن الإرث خارج عن حدود الدعاء، فهو في الأقل
يوضح أن معنى الإرث في الموضع القرآني الاخر للقصة إرث المال لا إرث
النبوة، لأن زكريا لو كان قد سأل ربه أمرين: أحدهما أن يكون ولده طيبا
رضيا، والاخر أن يرث نبوته، لما اقتصر القرآن الكريم على ذلك الوصف
الأول الذي طلبه زكريا عليه السلام فإنه ليس شيئا مذكورا بالإضافة إلى النبوة.
ولكي تتفق معي على هذا لاحظ نفسك فيما إذا سألك سائل بستانا ودرهما
فأعطيته الأمرين معا. ثم أردت أن تنقل القصة وتخص الدرهم بالذكر، لا
أراك تفعل ذلك إلا إذا كنت كثير التواضع. ورجحان البستان على الدراهم
في حساب القيم المادية هو دون امتياز النبوة على طيب الذرية في موازين
المعنويات الروحية. وإذن فقصة زكريا التي جاءت في سورة آل عمران،
ولم يذكر فيها عن الإرث كثير أو قليل، دليل على أن الإرث المذكور في
الصورة الأخرى للقصة بمعنى إرث المال لا إ ث النبوة، وإلا لكان من أبرز
عناصر القصة التي لا يمكن إغفالها.
(السادس) ولاحظ بعض الباحثين (1) في الآية الكريمة نقطتين
تفسران الإرث فيها بإرث النبوة:
(الأولى) قول زكريا عاطفا على كلمة (يرثني): - (ويرث من
آل يعقوب) - فإن يحيى لا يرث أموال آل يعقوب، وإنما يرث منهم

(1) راجع الملاحظة والايراد والمناقشة في شرح النهج / ابن أبي الحديد 16: 239.
180

النبوة والحكمة.
(الثانية) ما قدمه النبي تمهيدا لدعائه من قوله: وإني خفت الموالي
من روائي، حيث أن خوفه إنما كان سبب الاشفاق على معالم الدين،
والرغبة في بقائها باستمرار النبوة، لأن هذا هو اللائق بمقام الأنبياء دون
الحرص على الأموال، والخوف من وصولها إلى بعض الورثة.
واعترض أصحابنا على النقطة الأولى، بأن زكريا عليه السلام لم يسأل ربه أن
يرث ولده أموال آل يعقوب جميعا، وإنما أراد أن يرث منها، فلا يكون
دليلا على التفسير المزعوم.
وأما النقطة الثانية فهي من القرائن على التفسير الذي اخترناه، لأن
الخوف على ا لدين والعلم من أبناء العم لا معنى له، لأن اللطف الإلهي
لا يترك الناس سدى بلا حجة بالغة. فمعالم الدين، وكلمة السماء محفوظة
بالرعاية الإلهية، والنبوة مخوصة أبدا بالأقلين من نوابغ البشر لا يخشى
عليها من السطو والنهب. وإذ ن فماذا كان يحسب زكريا ربه صانعا 83 لو لم
يمن عليه بيحيى؟ أكان يحتمل أن يكلف برسالته مواليه؟ أعني بني
عمومته مع عدم كفاءتهم للقيام بواجب الرسالة الإلهية وعدم جدارتهم
بهذا الشرف؟! أو كان يرى أن الله تعالى يهمل أمر خلقه ليكون لهم الحجة
عليه؟ ليس هذا ولا ذاك مما يجوزه نبي، وإنما خاف زكريا من بني
أعمامه على أمواله فطلب من الله ولدا رضيا يرثها. ولا جناح عليه في ذلك،
إذ يحتمل أن تكون رغبته في صرف أمواله عن بني عمومته بسبب أنها لو
آلت إليهم لوضعوها في غير مواضعها، وأنفقوها في المعاصي وألوان الفساد
لما كان يلوح عليهم من علامات الشر وإمارات السوء حتى قيل أنهم شرار
181

بني إسرائيل.
وقد حاول ابن أبي الحديد أن يصور وجها لخوف زكريا من الموالي
على الدين من ناحيتين: -
(الأولى) عن طريق أصول الشيعة، فذكر أن دعوى امتناع مثل هذا
الخوف على النبي غير مستقيم على مذهب الشيعة لأن المكلفين قد حرموا
بغيبة الأمام عندهم ألطافا كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحدود وصلاة الجمعة
والأعياد، وهم يقولون في ذلك أن اللوم على المكلفين لأنهم قد حرموا
أنفسهم اللطف، فهلا جاز أن يخاف زكريا عليه السلام من تبديل لدين وتغييره
وإفساد الأحكام الشرعية لأنه إنما يجب على الله التبليغ بالرسول إلى
المكلفين، فإذا أفسدوا هم الأديان وبدلوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم
لأنهم هم الذين حرموا أنفسهم اللطف (1)
. ولأسجل ملاحظتي على هذا الكلام ثم أنتقل بك إلى الناحية الثانية.
فأقول: إن الخوف من انقطاع النبوة إنما يصح على أصول الشيعة إذا نشأ عن
احتمال إفساد الناس لدينهم على نحو لا يستحقون معه ذلك، كما هو الحال
في زمان غيبة الأمام المنتظر صلوات الله عليه، لا فيما إذا كان سببه الاطلاع
على عدم لياقة جماعة خاصة للنبوة مع استحقاق الناس لها. فإن إرسال
الرسول، أو نصب من يقوم مقامه واجب في هذه الصورة على الله تعالى لما
أوجبه على نفسه من اللطف بعباده. وإذن فقصور أبناء العمومة عن نيل
المنصب الإلهي لا يجوز أن ينتهي بزكريا إلى احتمال انقطاع النبوة

(1) راجع شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 257، الطبعة المحققة.
182

وانطماس معالم الدين إذا كان الناس مستحقين للألطاف الإلهية. وإذا لم
يكونوا جديرين بها فمن الممكن انقطاع الاتصال بين السماء والأرض سواء
أكان بنو العمومة صالحين أو لا، وسواء من الله عليه بذرية أو بقي عقيما.
والآية الكريمة تدل على أن الباعث إلى الخوف في نفس زكريا إنما هو فساد
الموالي لا فسا د الناس.
(الثانية) عن طريق تفسير الموالي بالأمراء، بمعنى أن زكريا خاف أن
يلي بعد موته ا مراء ورؤساء يفسدون شيئا من الدين، فطلب من الله ولدا
ينعم عليه بالنبوة والعلم ليبقى الدين محفوظا (1).
ولنا أن نتساءل عما إذا كان هؤلاء الرؤساء الذين أشفق على الدين
منهم، هم الأنبياء الذين يخلفونه أو أنهم أصحاب السلطان الزمني والحكم
المنفصل عن السماء؟ ولا خوف منهم على التقدير الأول إطلاقا لأنهم
أنبياء معصومون. وأما إذا كانوا ملوكا فقد يخشى منهم على الدين. ولكن
ينبغي أن نلاحظ أن وجود النبي حينئذ هل يمنعهم عن التلاعب في الشريعة
والاستخفاف بالدستور الإلهي أو لا؟ فإن كان كافيا لوقاية الشريعة وصون
كرامتها فلماذا خاف زكريا من أولئك الامراء ما دامت الألطاف الإلهية قد
ضمنت للنبوة الامتداد في تاريخ الإنسانية الواعية وخلود الاتصال بين
الأرض والسماء ما بقيت الأرض أهلا للتثقيف السماوي؟ وإن لم يكن
وجود النبي كافيا للحراسة المطلوبة فلا يرتفع الخوف من الحاكمين بوجود
ولد لزكريا يرث عنه النبوة ما دام النبي قاصرا عن مقاومة القوة الحاكمة،
وما دام الامراء من الطراز المغشوش، مع أن الآية تدل على أن زكريا كان

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 257 - 258.
183

يرى أن خوفه يرتفع فيما إذا من الله عليه بولد رضي يرثه.
ونتيجة هذا البحث أن الإرث في الآية هو إرث المال بلا ريب. وإذن
فبعض الأنبياء يورثون وحديث الخليفة يقضي بأن الجميع لا يورثون.
فالآية والرواية متعاكستان وكل ما عارض (1) الكتاب الكريم فهو ساقط.
ولا يجوز أن نستثني زكريا خاصة من سائر الأنبياء، لأن حديث
الخليفة لا يقبل هذا ا لاستثناء وهذا التفريق بين زكريا عليه السلام وغيره. والنبوة إن
اقتضت عدم التوريث فالأنبياء كلهم لا يورثون. ولا نحتمل أن يكون لنبوة
زكريا عليه السلام خاصية جعلته يورث دون سائر الأنبياء. وما هو ذنب زكريا عليه السلام،
أو ما هو فضله الذي يسجل له هذا الامتياز؟ أضف إلى ذلك أن تخصيص
كلمة الأنبياء الواردة في الحديث والخروج بها عما تستحقه من وضع
لا ضرورة له بعد أن كان الحديث كما أوضحناه سابقا، فهو تفسير على كل
حال، فلماذا نفسر الحديث بأن تركة النبي لا تورث لنضطر إلى أن نقول بأن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعني بالأنبياء غير زكريا عليه السلام؟ بل لنأخذ بالتفسير الاخر
ونفهم من الحديث أن الأنبياء ليس لهم من نفائس الدنيا ما يورثونه ونحفظ
للفظ العام حقيقته (2).

(1) جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصح عنه قوله: (ما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار، أو
فدعوه...).
راجع: أصول الكافي / الكليني 1: 55 كتاب فضل العلم - باب الأخذ بالسنة وشواهد
الكتاب، الرد على سير الأوزاعي / أبى يوسف الأنصاري: 25.
(2) والجملة خبرية وليست إنشائية، لأن إنشاء حكم على الأنبياء بعد وفاتهم، وانقراض
ورثتهم لا معنى له، وحينئذ فالتخصيص يستلزم مجازية الاستعمال، وليس شأن صيغة
الحديث شأن الجمل الانشائية التي يكشف تخصيصها عن عدم إرادة الخاص بالإرادة
الجدية. ويقدم لذلك على سائر التأويلات والتجوزات، بل هي خبرية، والجملة الخبرية
إذا خالفت الإرادة الاستعمالية فيها الجد والحقيقة كانت كذبا، فتخصيصها يستلزم صرفها
إلى المعنى المجازي، وحينئذ فلا يرجع على تجوز آخر إذا دار الأمر بينهما. (الشهيد)
184

ونعرف مما سبق أن صيغة الحديث لو كانت صريحة في ما أراده
الخليفة لها من المعاني، لنا قضت القرآن الكريم، ومصيرها الاهمال حينئذ.
وليس في المسألة سبيل إلى اعتبار الحديث مدركا قانونيا في موضوع
التوريث، ولذا لم يتفطن الصديق إلى جواب يدفع به اعتراض خصمه عليه
بالآية الانفة الذكر، ولم يوفق أوحد من أصحابه إلى الدفاع عن موقفه.
وليس ذلك إلا لأنهم أحسوا بوضوح أن الحديث يناقض الآية بمعناه الذي
يبرر موقف الحاكمين.
ولا يمكن أن نعتذر عن الخليفة بأنه يجوز اختيار أحد النصين
المتناقضين وتنفيذه كما يرتئيه جماعة من علماء الإسلام، وقد اختار أن
ينفذ مدلول الحديث، وذلك لأن المعارض للقرآن باطل بلا ريب لأنه الحق، وهل بعد
الحق إلا الضلال؟؟
(مسألة النحلة)
الناحية الثانية: المناقشة التي قامت بين الخليفة والصديقة حول نحلة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم إياها فدك، فقد ادعت الصديقة النحلة وشهد بذلك قرينها وأم
أيمن فلم يقبل الخليفة دعواها (1)، ولم يكتف بشاهديها، وطالبها بينة كاملة
وهي رجلان أو رجل وامرأتان.

(1) شرح النهج 16: 216.
185

1 - والنقطة الأولى التي نؤاخذ الصديق عليها هي وقوفه موقف الحاكم
في المسألة مع أن خلافته لم تكتسب لونا شرعيا إلى ذلك الحين على أقل
تقدير (1). ولكننا لا نريد الان أن نضع هذه المؤاخذة قيد الدرس، لأن
المناقشة على هذا الشكل تبعثنا إلى آفاق واسعة من البحث وتضطرنا إلى
نسف الحجر الأساسي لدنيا السياسة في الإسلام، وهي عملية لها حساب
طويل.
2 - والملاحظة الثانية في الموضوع هي أن فدك إذا كانت في حيازة
الزهراء عليها السلام فلا حاجة لها إلى البينة وفي هذه الملاحظة أمران:
(أولا) من هو الذي كانت فدك في حيازته؟ وهل كانت في يد
الزهراء حقا؟ قد يمكن أ ن نفهم ذلك من قول أمير المؤمنين في رسالته
الخالدة إلى عثمان بن حنيف: بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته
السماء. فشحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين (2). فإن
المفهوم من كلمة أيدينا أن فدك كانت في أيدي أهل البيت وقد نصت على
ذلك روايات الشيعة.
وحصر ما كان في تلك الأيدي التي عناها الأمام بفدك يدل على أنها
كانت في حيازة علي وزوجه خاصة، ويمنع عن تفسير العبارة بأن فدك
كانت في يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار أن حيازته حيازة أهل البيت، لأننا نعلم

(1) قوله: إلى ذلك الحين، أي بعد عشرة أيام من قيام الخلافة وحينذاك لم يكن بنو هاشم
وجماعة من أجلاء الصحابة قد بايعوا أبا بكر، فلم يكتسب الخليفة إذن الشرعية الكاملة.
راجع تاريخ الطبري 2: 233.
(2) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 208.
186

أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت في يده أشياء أخرى غير فدك من مختصاته
وأملاكه.
(وثانيا) هل الحيازة دليل على الملكية؟ والجواب الإيجابي عن
هذه المسألة مما أجمع (1) عليه المسلمون، ولولا اعتبارها كذلك لاختل
النظام الاجتماعي للحياة الإنسانية.
وقد يعترض على دعوى أن فدك كانت في يد الزهراء بأنها لم تحتج
بذلك، ولو كانت في يدها لكفاها عن دعوى النحلة والاستدلال
بآيات الميراث، وفي المستندات الشيعية للقضية جواب عن هذا الاعتراض
لأنها تنقل احتجاج أهل البيت بذلك على الخليفة، غير أننا لا نريد دراسة
المسألة على ضوء شئ منها.
ولكن ينبغي أن نلاحظ أن فدك كانت أرضا مترامية الأطراف وليس
شأنها شأن التوافه من الأملاك والمختصات الصغيرة التي تتضح حيازة
مالكها لها بأدنى ملاحظة. فإذا افترضنا أن فدك كانت في يد فاطمة يتعهدها
وكيلها الذي يقوم بزراعتها، فمن يجب أن يعرف ذلك من الناس غير الوكيل؟!
ونحن نعلم أن فدك لم تكن قريبة من المدينة ليطلع أهلها على
شؤونها، ويعرفوا من يتولاها، فقد كانت تبعد عنها بأيام، كما أنها قرية

(1) راجع: القواعد الفقهية / السيد حسن البجنوردي 1: 113، المحلى / ابن حزم 9: 436،
المهذب / الشيرازي الشافعي 2: 312، الفروق / القراني المالكي 4: 78، تحرير المجلة
الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء 4: 150 قال: إن اليد هي إمارة على الملكية شرعا
وعرفا...).
187

يهودية (1)، وليست في محيط إسلامي لتكون حيازة فاطمة لها معروفة بين
جماعة المسلمين.
فماذا كان يمنع الزهراء عن الاعتقاد بأن الخليفة سوف يطالبها بالبينة
على أن فدك في يدها إذا ادعت ذلك كما طالبها على النحلة ما دام - في
نظرها - مسيرا في الموقف بقوة طاغية من هواه لا تجعله يعترف بشئ؟
وكان من السهل في ذلك اليوم أن تبتلع الحوت وكيل فاطمة على
فدك أو أي شخص له اطلاع على حقيقة الأمر كما ابتلعت أبا سعيد الخدري
فلم يرو النحلة. وقد حدث بها بعد ذلك كما ورد في طريق الفريقين، أو أن
تقتله الجن كما قتلت سعد بن عبادة وأراحت الفاروق (2)، أو أن يتهم بالردة
لأنه امتنع عن تسليم صدقة المسلمين للخليفة كما اتهم مانعوا الزكاة
والرافضون لتسليمها له (3).
3 - ولنترك هذه المناقشة لنصل إلى المسألة الأساسية وهي: أن
الخليفة هل كان يعتقد بعصمة الزهراء ويؤمن بآية التطهير نفت الرجس
عن جماعة منهم فاطمة أو لا؟!
ونحن لا نريد أن نتوسع في الكلام على العصمة وإثباتها للصديقة بآية

(1) راجع: فتوح البلدان / البلاذري: 42 - 43.
(2) وقد جاءت الرواية مصرحة بأن عمر أرسل رسولا إلى
سعد ليقتله إن لم يبايع، فلما أبى سعد قتله الرسول. راجع العقد الفريد 4: 247.
(3) كما في قصة مالك بن نويرة. راجع تاريخ الطبري 2: 273، وراجع الطبعة المحققة 2:
28، وقد وضح ذلك الخليفة الثاني مطالبا بالقود من خالد بن الوليد لأنه على حد تعبيره:
(قتل مسلما ونزا على امرأته).
188

التطهير لأن موسوعات الأمامية في فضائل أهل البيت تكفينا هذه المهمة.
ولا نشك في أن الخليفة كان على علم بذلك لأن السيدة عائشة نفسها كانت
تحدث بنزول آية التطهير في فاطمة وقرينها وولديها (1)، وقد صرحت بذلك
صحاح الشيعة والسنة. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلما خرج إلى الفجر بعد نزول
الآية يمر ببيت فاطمة ويقول الصلاة يا أهل البيت إنما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، وقد استمر على هذا ستة
أشهر (2).
وإذن فلماذا طلب الخليفة بينة من فاطمة على دعواها؟ وهل تحتاج
الدعوى المعلوم صدقها إلى بينة؟
قال المعترضون على أبي بكر: إن البينة إنما تراد ليغلب في الظن
صدق المدعي، والعلم أقوى منها فإذا لزم الحكم للمدعي الذي تقوم البينة
على دعواه يجب الحكم للمدعي الذي يعلم الحاكم بصدقه.
وألاحظ أن في هذا الدليل ضعفا ماديا لأن المقارنة لم تقم فيه بين
البينة وعلم الحاكم، بالإضافة إلى صلب الواقع، وإنما لوحظ مدى تأثير كل
منهما في نفس الحاكم، وكانت النتيجة حينئذ أن العلم أقوى من البينة لأن
اليقين أشد من الظن. وكان من حق المقارنة أن يلاحظ الأقرب منهما إلى
الحقيقة المطلوب مبدئيا ا لأخذ بها في كل مخاصمة. ولا يفضل علم

(1) صحيح مسلم: 3: 331، المستدرك 3: 159، طبعة دار الكتب العلمية، التاج الجامع
للأصول في أحاديث الرسول / منصور علي ناصف 3: 333.
(2) مسند الأمام أحمد 3: 295 - طبعة دار صادر، وراجع المستدرك 3: 172 - طبعة دار
الكتب العلمية.
189

الحاكم في هذا الطور من المقايسة على البينة، لأن الحاكم قد يخطأ كما أن
البينة قد تخطأ، فهما في شرع الواقع سواء كلاهما مظنة للزلل والاشتباه.
ولكن في المسألة أمر غفل عنه الباحثون أيضا، وهو أن ما يعلمه
الخليفة من صدق (1) الزهراء يستحيل أن لا يكون حقيقة، لأن سبب علمه
بصدقها ليس من الأسباب التي قد تنتج توهما خاطئا وجهلا مركبا، وإنما
هو قرآن كريم دل على عصمة (1) المدعية. وعلى ضوء هذه الخاصية التي
يمتاز بها العلم بصدق الزهراء، يمكننا أن نقرر أن البينة التي قد تخطأ إذا
كانت دليلات شرعيا مقتضيا للحكم على طبقه. فالعلم الذي لا يخطئ وهو ما
كان بسبب شهادة الله تعالى بعصمة المدعي، وصدقة أولى بأن يكتسب تلك
الصفة في المجالات القضائية.
وعلى أسلوب آخر من البيان نقول: إن القرآن الكريم لو كان قد نص
على ملكية الزهراء لفدك وصدقها في دعوى النحلة لم يكن في المسألة
متسع للتشكيك لمسلم أو مساغ للتردد لمحكمة من محاكم القرآن. ومن
الواضح أن نصه على عصمة الزهراء في قوة النص على النحلة، لأن
المعصوم لا يكذب، فإذا ادعى شيئا فدعواه صائبة بلا شك. ولا فرق بين النص على العصمة
والنص على النحلة فيما يتصل بمسألتنا، سوى أن ملكية
الزهراء لفدك هي المعنى الحرفي للنص الثاني، والمعنى المفهوم من النص

(1) راجع قوله - أي الخليفة الأول - في تصديق الزهراء، شرح النهج 16: 216.
(2) كما في آية التطهير قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل لبيت ويطهركم تطهيرا)
الأحزاب / 33. راجع المستدرك 3: 160 - 161، طبعة دار الكتب العلمية، راجع صحيح
مسلم 5: 37، فضائل الصحابة، باب فضائل أهل البيت عليهم السلام، ط 1، مؤسسة عز الدين -
بيروت / 1407 ه‍، تحقيق الدكتور موسى لاشين والدكتور أحمد عمر هاشم.
190

الأول عن طريق مفهومه الحرفي.
4 - ونقول من ناحية أخرى: إن أحدا من المسلمين لم يشك في
صدق الزهراء ولم يتهمها بالافتراء على أبيها، وإنما قام النزاع بين
المتنازعين في أن العلم بصواب الدعوى هل يكفي مدركا للحكم على
وفقها أو لا؟ فلندع آية التطهير ونفترض أن الخليفة كان كأحد هؤلاء
المسلمين، وعلمه بصدق الزهراء حينئذ ليس حاويا على الامتياز الذي أشرنا
إليه في النقطة السابقة، بل هو علم في مصاف سائر الاعتقادات التي تحصل
بأسباب هي عرضة للخطأ والاشتباه، ولا يدل حينئذ جعل البينة دليلا على
مشاركته لها في تلك الخاصية، لأنه ليس أولى منها بذلك كما عرفنا سابقا.
ولكن الحاكم يجوز له مع ذلك - أن يحكم على وفق علمه (1)، كما
يجوز له أن يستند في الحكم إلى البينة بدليل ما جاء في الكتاب الكريم مما
يقرر ذلك، إذ قال الله تعالى في سورة النساء: (وإذا حكمتم بين الناس أن
تحكموا بالعدل) (2)، وقال في سورة الأعراف: (وممن خلقنا أمة يهدون
بالحق وبه يعدلون) (3) أي يحكمون.
وللحق والعدل ملاحظتان: -

(1) راجع سنن البيهقي 10: 142، طبعة دار الفكر، وقد نقل عن الشيخ الطوسي أنه ادعى
الاجماع في الجواز.
راجع: تنقيح الأدلة في بيان حكم الحاكم بعلمه / محمد رضا الحائري، كما ذكر ابن رشد:
إنه قول الجمهور (أي الجواز) راجع بداية المجتهد 2: 465 منشورات الرضي - قم / 1966.
(2) النساء / 58.
(3) الأعراف / 181.
191

(إحداهما) الحق والعدل في نفس الأمر والواقع.
(والأخرى) الحق والعدل بحسب الموازين القضائية. فالحكم على
وفق البينة. حق واعتدال في عرف هذه الملاحظة وإن أخطأت، ويعاكسه
الحكم على وفق شهادة الفاسق، فإنه ليس حقا ولا عد لا وإن كان الفاسق
صادقا في خبره.
والمعني بالكلمتين في الآيتين الكريمتين إن كان هو المعنى الأول
للحق والعدل، كانتا دالتين على صحة الحكم بالواقع من دون احتياج إلى
البينة فإذا أحرز الحاكم ملكية شخص لمال صح له أن يحكم بذلك لأنه
يرى أنه الحق الثابت (1) في الواقع والحقيقة العادلة، فحكمه بملكية ذلك
الشخص للمال مصداق في عقيدته للحكم بالحق والعدل الذي أمر به الله
تعالى. وأما إذا فسرنا الكلمتين في الآيتين بالمعنى الثاني أعني ما يكون حقا
وعدلا بحسب مقاييس القضاء فلا يستقيم الاستدلال بالنصين القرآنيين على
شئ في الموضوع لأنهما لا يثبتان حينئذ أن أي قضاء يكون قضاء بالحق
وعلى طبق النظام، وأي قضاء لا يكون كذلك؟
ومن الواضح أن المفهوم المتبادر من الكلمتين هو المعنى الأول دون
الثاني وخاصة كلمة الحق، فإنها متى وصف بها شي فهم أن ذلك الشئ
أمر ثابت في الواقع، فالحكم بالحق عبارة عن الحكم بالحقيقة الثابتة. ويدل
على ذلك الأسلوب الذي صيغت عليه الآية الأولى، فإنها تضمنت أمرا
بالحكم بالعدل. وواضح جد ا أن تطبيق التنظيمات الإسلامية في موارد

(1) الحق: هو الأمر الثابت. راجع المصباح المنير 1: 143، نشر دار الهجرة.
192

الخصومة لا يحتاج إلى أمر شرعي، لأن نفس وضعها قانونا للقضاء معناه
لزوم تطبيقها، فلا يكون الأمر بالتزام القانون إلا تكرارا أو تنبيها، وليس من
حقيقة الأمر في شئ. وأما الأمر بالحكم على طبق الحقائق الواقعية سواء
أكان عليها دليل من بينة وشهادة أو لا، فهو من طبيعة الأمر بالصميم لأنه
تقرير جديد يوضح أن الواقع هو ملاك القضاء الإسلامي والمحور الذي
ينبغي أن يدور عليه دون أن يتقيد بالشكليات والأدلة الخاصة (1).
وإذن فالآيتان دليل على اعتبار علم الحاكم في قوانين القضاء
الإسلامية (2).
وأضف إلى ذلك أن الصديق نفسه كان يكتفى كثيرا بالدعوى
المجردة عن البينة. فقد جاء عنه في صحيح البخاري (3) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما

(1) وإذا أردنا أن نترجم هذا المعنى إلى اللغة العلمية قلنا: إن الأمر على التقدير الثاني يكون
إرشاديا إذ لا ملاك للأمر المولوي في المقام، حيث أن المأمور اتباعه هو بنفسه كاف للبعث
والتحريك، فظهور الأمر في المولوية يقضي بصرف لفظة العدل إلى المعنى الأول لجواز
الأمر مولويا باتباع الواقع فيما إذا دلت عليه البينة خاصة وإمكان الأمر باتباعه مطلقا.
وأنا أعتذر عن عدم استعمال الاصطلاحات العلمية الدائرة في مباحث المنطق
والفلسفة والفقه والأصول - إلا حين اضطر إلى ذلك اضطرارا - لأنني أحاول أن تكون
بحوث هذا الفصل مفهومة لغير المتخصصين في تلك العلوم. (الشهيد)
(2) إن قيل: إن الحديث الوارد عن أهل البيت فيمن قضى بالحق وهو لا يعلم الحكم
باستحقاقه للعقاب يدل على عدم كون القضاء من آثار الواقع، فيدور الأمر بين صرف هذه
الرواية عن ظهورها في عدم نفوذ الحكم وحمل العقاب فيها على التجري، وبين
صرف الكلمتين إلى المعنى الثاني قلت: لا وجه لكلا التأويلين بل الرواية المذكورة مقيدة
للآيات بصورة العلم، فيكون موضوع القضاء مركبا من الواقع والعلم به، وبتعبير آخر أنه من
آثار الواقع الواصل. (الشهيد)
(3) صحيح البخاري 2: 953، حديث 2537 كتاب الشهادات - باب 29. (الشهيد)
193

مات، جاء لأبي بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر: من
كان له على النبي دين أو كانت له قبله عدة فليأتنا. قال جابر: وعدني رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يده ثلاث مرات، قال
جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة.
وروي في الطبقات (1) عن أبي سعيد الخدري أنه قال: سمعت
منادي أبي بكر ينادي بالمدينة حين قدم عليه مال البحرين: من كانت له
عدة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فليأت؟ فيأتيه رجال فيعطيهم. فجاء أبو بشير
المازني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا أبا بشير إذا جاءنا شئ فأتنا،
فأعطاه أبو بكر حفنتين أو ثلاثا فوجدوها ألفا وأربعمائة درهم.
فإذا كان الصديق لا يطالب أحدا من الصحابة بالبينة على الدين أو
العدة فكيف طب من الزهراء بينة على النحلة؟!
وهل كان النظام القضائي يخص الزهراء وحدها بذلك أو أن الظروف
السياسية الخاصة هي التي جعلت لها هذا الاختصاص؟
ومن الغريب حقا أن تقبل دعوى صحابي لوعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمبلغ من
المال وترد دعوى بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها لم تجد بينة على ما تدعيه.
وإذا كان العلم بصدق المدعي مجوزا لاعطائه ما يدعيه فلا ريب أن
الذي لا يتهم جابر ا أو أبا بشير بالكذب يرتفع بالزهراء عن ذلك أيضا.
وإذا لم يكن إعطاء الخليفة لمدعي العدة ما طلبه على أساس الأخذ

(1) الطبقات الكبرى 2: 318، طبعة دار صادر. (الشهيد)
194

بدعواه، وإنما دعاه احتمال صدقة إلى إعطائه ذلك، وللأمام أن يعطي أي
شخص المبلغ الذي يراه، فلماذا لم يحتط بمثل هذا الاحتياط في مسألة
فدك؟!
وهكذا أجز الصديق وعود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي لم تقم عليها بينة
وأهمل هباته المنجزة التي ادعتها سيدة نساء العالمين. وبقي السؤال عن
الفارق بين الديون والعدات وبين نحلة بلا جواب مقبول.
5 - ولنستأنف مناقشتنا على أساس جديد وهو: إن الحاكم لا يجوز له
الحكم على طبق الدعوى المصدقة لديه إذا لم يحصل المدعي على بينة
تشهد له، ونهمل النتيجة التي انتهينا إليها في النقطة السابقة ونسأل على هذا
التقدير:
(أولا) عما منع الصديق من التقدم بالشهادة على النحلة إذا كان عالما
بصدق الحوراء سلام الله عليها، إذ يضم بذلك شهادته إلى شهادة علي
وتكتمل بهما البينة ويثبت الحق. واعتباره لنفسه حاكما لا يوجب سقوط شهادته لأن
شهادة الحاكم معتبرة (1) وليست خارجة عن الدليل الشرعي
الذي أقام البينة مرجعا في موارد الخصومة.
(وثانيا) عن التفسير المقبول لاغفال الخليفة للواقع المعلوم لديه
بحسب الفرض. ولأجل توضيح هذه النقطة يلزمنا أن نفرق بين أمرين
اختلطا على جملة الباحثين في المسألة.

(1) شهادة الحاكم جائزة: راجع سنن البيهقي 10: 131.
195

(أحدهما) الحكم للمدعي بما يدعيه.
(والاخر) تنفيذ آثار الواقع.
وإذا افترضنا أن الأول محدود بالبينة فالاخر واجب على كل تقدير،
لأنه ليس حكما ليحدد بحدوده. فإذا علم شخص بأن بيته للاخر فسلمه
لمالكه، لم يكن هذا حكما بملكيته له، وإنما هو إجراء للأحكام التي نص
عليها القانون. كما أن الحاكم نفسه إذا ادعى شخص عنده ملكية بيت وكان
في حيازته، أو دل الاستصحاب على الملكية المدعاة، فاللازم عليه وعلى
غيره من المسلمين أن يعتبروا هذا البيت كسائر ممتلكات ذلك ا لمدعي.
وليس معنى هذا ان الحاكم حكم بأن البيت ملك المدعية مستندا إلى قاعدة
اليد (1) أو الاستصحاب. وإن المسلمين أخذوا أنفسهم باتباع هذا الحكم،
بل لو لم يكن بينهم حاكم للزمهم ذلك. وليس الاستصحاب أو اليد من
موازين الحكم في الشريعة وإنما يوجبان تطبيق أحكام الواقع.
والفارق بين حاكم الحاكم بملكية شخص لمال، أو فسقه ونحو هما
من الشؤون التي تتسع لها صلاحيات الحاكم وبين تطبيق آثار تلك الأمور
هو: امتياز الحكم بفصل الخصومة، ونعني بهذا الامتياز أن الحاكم إذا
أصدر حكما حرم نقضه على جميع المسلمين، ولزم اتباعه من دون نظر إلى
مدرك آخر سوى ذلك الحكم.
وأما تطبيق القاضي لاثار الملكية عمليا بلا حكم فلا يترتب عليه ذلك

(1) قاعدة اليد هنا تعني: إثبات الملكية بواسطة اليد. والمقصود باليد التسلط على المال.
راجع: القواعد / السيد محمد كاظم المصطفوي: 329.
196

المعنى ولا يجب على كل مسلم متابعته وإجراء تلك الآثار كما يجريها إلا
إذا حصل له العلم بذلك كما حصل للحاكم.
والنتيجة: إن الخليفة إذا كان يعلم بملكية الزهراء لفدك، فالواجب
عليه أن لا يتصرف فيها بما تكرهه، ولا ينزعها منها سواء أجاز له أن يحكم
على وفق علمه أو لا. ولم يكن في المسألة منكر ينازع الزهراء ليلزم طلب
اليمين منه واستحقاقه للمال إذا أقسم، لأن الأموال التي كانت تطالب بها
الزهراء أما أن تكون لها أو للمسلمين. وقد افترضنا أن أبا بكر هو الخليفة
الشرعي للمسلمين يومئذ، وإذن فهو وليهم المكلف بحفظ حقوقهم
وأموالهم، فإذا كانت الزهراء صادقة في رأيه، ولم يكن في الناس من
ينازعها فليس للخليفة أن ينتزع فدك منها. وتحديد الحكم بالبينة خاصة إنما
يحرم الحكم ولا يجيز انتزاع الملك من صاحبه.
وإذن فعدم جواز حكم الحاكم على وفق علمه (1) لا يخفف من
صعوبة الحساب ولا يخرج الخليفة ناجحا من الامتحان.
محمد باقر الصدر

(1) سنن البيهقي 10: 143 - 144 باب عدم جواز حكم القاضي بعلمه.
197