الكتاب: زبدة البيان
المؤلف: المحقق الأردبيلي
الجزء:
الوفاة: ٩٩٣
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: تحقيق وتعليق : محمد الباقر البهبودي
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية - طهران
ردمك:
ملاحظات:

زبدة البيان
في
أحكام القرآن
تأليف
العالم الرباني والفقيه الصمداني مولانا أحمد بن محمد
الشهير بالمقدس الأردبيلي
المتوفى سنة 993
حققه وعلق عليه
محمد الباقر البهبودي
عنيت بنشره المكتبة المرتضوية
المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية
تهران - ناصر خسرو پاساژ مجيدي
تعريف الكتاب 1

شكرا لولي النعم الذي سهل لي ما كان في هواجس ضميري
منذ سنين ألا وإنه نشر آثار القدماء من عباقرة الأمة، وإحيائها
وصل إلينا من مؤلفاتهم ومصنفاتهم التي أجمعت في طيها الكتاب و
السنة والأخلاق والحكمة.
المكتبة المرتضوية
كلمة الناشر 2

صورة أخرى من هذه النسخة وهي آخر صحيفة منها
صورة النسخة 3

صورة فتوغرافية من خاتمة النسخة الثانية وهي لخزانة كتب آية الله
السيد شهاب الدين المرعشي نزيل قم.
صورة النسخة 4

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على رسوله وآله أجمعين.
أما بعد (1):
اعلم أن هنا فائدة لا بد قبل شروع في المقصود من الإشارة إليها وهي أن
المشهور بين الطلبة أنه لا يجوز تفسير القرآن بغير نص وأثر حتى قال الشيخ
أبو علي الطبرسي قدس سره في تفسيره الكبير " واعلم أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله
وعن الأئمة عليهم السلام أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح والنص الصريح
ورى العامة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد
أخطأ، قالوا وكره جماعة من التابعين القول في القرآن بالرأي كسعيد بن المسيب
[وعبيدة السلماني] وسالم بن عبد الله وغيرهم والقول في ذلك أن الله سبحانه ندب إلى
الاستنباط وأوضح السبيل إليه ومدح أقواما عليه فقال " لعلمه الذين يستنبطونه منه (2) "
وذم آخرين على ترك تدبره والإضراب عن التفكر فيه فقال " أفلا يتدبرون القرآن
أم على قلوب أقفالها (3) " وذكر أن القرآن منزل بلسان العرب، " إنا
جعلناه قرآنا عربيا (4) ".

(1) في نسخة مخطوطة هكذا: الحمد لولي الحمد، والصلاة على خير الخلق محمد وآله
الأمجاد وفي نسخة أخرى ابتدئ بقوله " اعلم " من دون التحميد والصلاة.
(2) النساء: 83.
(3) القتال: 24.
(4) الزخرف: 3.
1

إلى أن قال: " هذا وأمثاله يدل على أن الخبر متروك الظاهر، فيكون معناه
إن صح أن من حمل القرآن على رأيه، ولم يعلم شواهد (1) ألفاظه فأصاب الحق فقد
أخطأ الدليل وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال إن القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه
على أحسن الوجوه ".
" وروي عن عبد الله بن عباس أنه قسم وجوه التفسير على أربعة أقسام: تفسير
لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العرب بكلامها، وتفسير يعلمه العلماء، و
تفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل: فأما الذي لا يعذر أحد بجهالته، فهو ما يلزم الكافة
من الشرائع التي في القرآن، وجمل دلائل التوحيد (2) وأما الذي تعرفه العرب بلسانها
فهو حقائق اللغة ومصوغ كلامهم (3) وأما الذي يعلمه العلماء فهو تأويل المتشابه و
فروع الأحكام وأما الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل فهو ما يجري مجرى الغيوب
وقيام الساعة تم كلامه (4).
أقول: تحرير الكلام أن الخبر محمول على ظاهره، غير متروك الظاهر، و
أنه صحيح مضمونه على ما اعترف به في أول كلامه، حيث قال قد صح عن النبي
صلى الله عليه وآله، بيانه أن الشيخ أبا على رحمه الله قال في أول تفسيره: التفسير
معناه كشف المراد عن اللفظ المشكل، والتأويل رد أحد المحتملين إلى ما يطابق
الآخر، وقيل التفسير كشف المغطى، والتأويل انتهاء الشئ ومصيره، وما يؤل إليه
أمره، وهما قريبان من الأولين فالمعنى من فسر وبين وجزم وقطع بأن المراد
من اللفظ المشكل مثل المجمل والمتشابه كذا، بأن يحمل المشترك اللفظي مثلا على

(1) في المصدر: ولم يعمل بشواهد ألفاظه.
(2) لعل معناه أنه يجب على كل مكلف أن يعرف هذا القسم من الفروع والأصول
المذكورة في القرآن بالاجتهاد أو التقليد على الوجه المعتبر، ولا يلزم أن يعرفه من القرآن
بل لا يمكن معرفة البعض من القرآن مثل المعرفة، ولا يقدر على المعرفة من القرآن كل مكلف
وكذا معنى القسم الأخير، منه رحمه الله.
(3) في المصدر: موضوع كلامهم.
(4) انتهى كلام الطبرسي، راجع مقدمة تفسيره الفن الثالث.
2

أحد المعاني من غير مرجح وهو إما دليل نقلي كخبر منصوص أو آية أخرى
كذلك أو ظاهر أو إجماع، أو عقلي. أو المعنوي (1) المراد به أحد معانيه بخصوصه
بدليل بغير الدليل المذكور، على فرد معين، فقد أخطأ (2).
وبالجملة المراد من التفسير الممنوع برأيه وبغير نص هو القطع بالمراد من
اللفظ الذي غير ظاهر من غير دليل، بل بمجرد رأيه وميله، واستحسان عقله
من غير شاهد معتبر شرعا كما يوجد في كلام المبدعين وهو ظاهر لمن تتبع كلامهم
والمنع منه ظاهر عقلا، والنقل كاشف عنه، وهذا المعنى غير بعيد عن الأخبار
المذكورة بل ظاهرها ذلك.

(1) يعني أو بأن يحمل المشترك المعنوي الخ.
(2) جواب الشرط في قوله " من فسر وبين الخ.
3

* (كتاب الطهارة) *
نبدأ بالفاتحة تيمنا وتبركا ثم نذكر آياتها.
بسم الله الرحمن الرحيم
يمكن الاستدلال بها على راجحية التسمية عند الطهارة بل عند كل فعل إلا
ما أخرجه الدليل بأن الظاهر أن المراد بها تعليم العباد ابتداء فعلهم فإن معناه على
ما قاله الشيخ أبو علي الطبرسي رحمه الله في كتاب تفسيره الكبير: استعينوا في الأمور
باسم الله تعالى بأن تبدأوا بها في أوائلها كما فعله الله تعالى في القرآن فتقديره استعينوا
بأسمائه الحسنى، وكأن المراد في أول أموركم وابتدائها كما يظهر من المقام بأن
تقولوا " باسم الله " فينبغي قوله في ابتداء الأكل والشرب واللبس والذبح وغيرها
كما قاله الفقهاء، ويؤيده الخبر المشهور: كل أمر ذي بال لم يبدء فيه باسم الله فهو
أبتر، وغيره من الشواهد.
ثم إنه يمكن الاستدلال بها على وجوب ذلك [في ابتداء الأفعال والأمور]
إلا ما وقع الاتفاق أو دليل آخر على عدمه مثل الذبح بالطريق المشهور من الاستدلال:
بأن الآية بل الخبر أيضا دلتا على وجوب التسمية وضع عنه المتفق على عدمه بقي
الباقي تحته فوجب في الذبح.
الحمد لله رب العالمين:
والاستدلال بها على رجحان قولها عند كل فعل مثل الاستدلال الأول و
يؤيده أيضا الخبر المشهور كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد لله فهو أبتر و
أجذم وغيره مثل ما نقل في الكافي عن الصادق عليه السلام أنه قال إن الرجل إذا أراد
أن يطعم فأهوى بيده فقال بسم الله والحمد لله رب العالمين غفر الله له قبل أن تصير
اللقمة إلى فيه (1) وهذا مؤيد للتسمية أيضا. وليس ببعيد كون الفاتحة أول القرآن

(1) الكافي ج 6 ص 293.
4

مبتدءا بالتسمية فالتحميد، يكون مؤيدا أيضا. قال في الكشاف في بيان كون الباء
للاستعانة: " إن المؤمن لما اعتقد أن الفعل لا يجيئ معتدا به في الشرع واقعا على السنة
حتى يصدره باسم الله لقوله عليه السلام كل أمر ذي بال لم يبدء فيه باسم الله فهو أبتر و
إلا كان فعلا كلا فعل، جعل فعله مفعولا باسم الله كما يفعل الكتب بالقلم ". وفي
بيان كونها بمعنى المصاحبة: " هذا مقول على ألسنة العباد إلى قوله ومعناه تعليم
عباده كيف يتبركون باسمه، وكيف يحمدونه " أي في أوائل فعلهم كما هو الظاهر
من المقام والبيان. قال البيضاوي في رب العالمين أي مربيها دلالة على أن الممكن في
بقائه محتاج إلى العلة كحال حدوثه، وليس بواضح، نعم في الحمد لله رب العالمين
دلالة على كونه تعالى قادرا مختارا من وجهين (1) فيفهم كون العالم حادثا أيضا فافهم.
وفي قوله " الرحمن الرحيم " دلالة على العفو والصفح وفي قوله " مالك يوم
الدين " دلالة على الترغيب والترهيب وإثبات القيامة والمعاد لأن المكلف إذا
علم ذلك يرجو ويخاف كما قيل " إياك نعبد " العبادة غاية الخضوع والتذلل وكذا
في الكشاف وتفسير البيضاوي وفي مجمع البيان: هي ضرب من الشكر وغاية فيه
لأنها الخضوع بأعلى مراتبه مع التعظيم وفي كون المراد هنا ما ذكروه تأمل
فإن الظاهر أن ليس ذلك واجبا ولا يدعيه العباد، ويدل على وجوب تخصيصه
تعالى بالعبادة إذ حاصله قولوا نخصك بالعبادة، ولا نعبد غيرك، فيجب العبادة و
الإخلاص فيها حتى يحسن الأمر بالقول، ويكونوا هم صادقين في القول بل الظاهر
أن المقصود من هذا القول هو التخصيص بالعبادة أي العبادة والإخلاص فيها، وهي
النية فيفهم وجوبها فيحرم تركها، والرئاء بقصد غيره تعالى بالعبادة " وإياك نستعين "
يدل على عدم جواز الاستعانة في العبادة بغيره تعالى بل في شئ من الأمور إلا ما أخرجه

(1) أحدهما أنه دل على أن الله تعالى خالق كل ما سواه ومن جملته الحادث، فلا يكون
موجبا فإن أثره قديم وهو ظاهر بين، وثانيهما أن الحمد إنما يكون على الفعل الاختياري
فالمحمود لا يكون إلا مختارا، ويلزم منه حدوث جميع العالم فإن أثر المختار لا يكون قديما
وهو ظاهر. منه رحمه الله.
5

الدليل والأول أظهر والثاني أعم، فعلى الأول يدل على عدم جواز التولية في
العبادات مثل الوضوء والغسل، بل على عدم جواز التوكيل في سائر العبادات وعلى
عدم [جواز] الاستعانة في الصلاة بالاعتماد على الغير، مثل الآدمي والحائط قياما
أو قعودا أو ركوعا أو سجودا وغير ذلك مما لا يحصى، وعلى الثاني يدل عليها وعلى عدم
الاستعانة بغيره تعالى في شئ من الأمور حتى السؤال وأيضا يدل عليه أنه مذموم
في الأخبار حتى نقل عنه صلى الله عليه وآله أنه قال لقوم قالوا له: اضمن لنا الجنة، قال: بشرط
أن لا تسألوا أحدا شيئا فصاروا بحيث لو وقع من يد أحدهم السوط وهو راكب ينزل
ويأخذ، ولم يسأل أحدا أن يعطيه، وإذا عطشوا قاموا من محلهم وشربوا الماء و
لم يطلبوه ممن قرب إليه [المشربة].
والحاصل أن ذم السؤال من غير الله معلوم عقلا ونقلا من غير هذه
الآية أيضا فعلى هذا يمكن أن تحمل الآية على مرجوحية الاستعانة بغيره مطلقا إلا ما
أخرجه الدليل والتفصيل بالكراهية والتحريم يفهم من غيرها أو تحمل على الكراهية
إلا ما يعلم تحريمه أو على التحريم حتى تعلم الكراهية والجواز والله يعلم.
" اهدنا الصراط المستقيم " الآية. الآية تدل على رجحان طلب الخير من الله تعالى
سيما أصل الخير وأساسه، وهو الصراط المستقيم: أي دين الاسلام قاله المفسرون وقيل
إنه النبي والأئمة عليهم السلام القائمون مقامه، وهو المروي عن أئمتنا قال الشيخ أبو علي
الطبرسي رحمه الله ثم قال الأولى حمل الآية على العموم حتى يدخل جميع ذلك فيه
لأن الصراط المستقيم وهو الدين الذي أمر الله تعالى به من التوحيد والعدل وولاية
من أوجب الله تعالى طاعته، ولا يخفى المسامحة في التفسير الثاني، أو عبادة الله فقط
دون غيره كما يدل عليه بعض الآيات مثل قوله تعالى " وأن اعبدوني هذا
صراط مستقيم (1) " فيدل على مشروعية الدعاء، بل على استحبابه مطلقا حتى
لثبات الأمر الذي عليه مثل الدين وعدم تغيره وحصول دين المغضوب عليهم والذين
هم الضالون فيكون تحريضا وترغيبا إلى الانقطاع إلى الله تعالى وطلب التوفيق

(1) يس، 61.
6

منه في الأمور كلها، واعتقاد أنه لا يصير الانسان من عند نفسه وفعله من دون
توفيق الله وهدايته إياه مقبولا عنده بل مسلما أيضا.
ثم اعلم أيضا أن في نظم السورة دلالة ما على طريق تعليم الدعاء وهو كونه بعد
التسمية والتحميد والثناء والتوسل بالعبادة كما هو المتعارف وورد به الرواية (1).
وأيضا إني ما رأيت أحدا يتوجه إلى استنباط هذه الأحكام من الفاتحة نعم
ذكروا في تفسيرها ما يمكن الاستنباط منه، وكأنهم تركوها للظهور أو لوجودها في
غيرها والله يعلم.
ولما توقفت صحة العبادة على الإيمان أشرت إلى بعض الآيات التي تتعلق
به، منها " أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " وهي إشارة إلى المتقين
" الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ومما رزقناهم ينفقون " أما
إعرابها فظاهر فإن " أولئك " مبتدأ و " على هدى " متعلق بمقدر خبره و " من ربهم "
متعلق بمقدر صفة هدى وكذا أولئك الثاني مبتدأ، والمفلحون خبره، وهم ضمير
فصل لا محل له من الإعراب عند البعض، ومبتدأ وما بعده خبره، والجملة خبر
أولئك عند الآخرين، واختير أولئك وكرر للتأكيد والتصريح والمبالغة في كون
الفلاح للمتقين والموصوفين بالصفات المذكورة كما أن الفصل يدل عليه مع إفادته
الحصر، وكذا تعريف الخبر. وأما لغتها فأيضا ظاهرة إذ الهداية هي الدلالة على ما
يوصل إلى المطلوب أو الدلالة الموصلة ولعل الثاني أولى، والفلاح النجاح والظفر
على ما قيل والمعنى أن هؤلاء الموصوفين هم الذين اتصفوا بهداية من الله أو المنتفعون
بها دون غيرهم، وأنهم الظافرون بالبغية والمطلوب وهو الخلاص من النار لا غيرهم.
وأما الدلالة على الأحكام فلا يخلو من خفاء، بيانها أنها تدل على وجوب ما هو
سبب الفلاح من التقوى والإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، أي فعلها والمحافظة
عليها أفعالا، وكيفية، ووقتا، وإيتاء الزكاة مستحقها، والإنفاق مما رزقهم الله
مطلقا لا من المحرمات وذلك لأنه يفهم منه حصر الفلاح في فعل هذه المذكورات، و

(1) راجع الكافي كتاب الدعاء باب الثناء قبل الدعاء ج 2، 484.
7

معلوم أن الفلاح الذي هو النجاة من العذاب والوصول إلى الجنة واجب فيكون
ما هو موقوف عليه وسبب له واجبا وذلك هو المطلوب.
والتقوى على ما نقل من أهل البيت عليهم السلام هو أن لا يراك الله حيث نهاك
ولا يفقدك حيث أمرك، أي التقوى هو اجتناب جميع المنهيات وارتكاب جميع المأمورات.
والإيمان بالغيب، قيل هو التصديق بالغائب الغير المحسوس: وقيل بما غاب عن
العباد علمه، وقيل بما جاء من عند الله، وقيل بجميع ما أوجبه الله تعالى أو ندب إليه
وأباحه، وقيل بالقيامة والجنة والنار، وقيل هو التصديق بالقلب فالغيب هو
القلب حينئذ.
واعلم أنه ينبغي هنا تحقيق الإيمان شرعا إذ يتوقف عليه أمور كثيرة فنقول:
لا شك أنه مطلق التصديق في اللغة، وأما في الشرع، فنقل في مجمع البيان أن
المعتزلة قالوا بأجمعهم أن الإيمان هو فعل الطاعات فمنهم من اعتبر الفرائض والنوافل
ومنهم من اعتبر الفرائض حسب، واعتبروا اجتناب الكبائر كلها وكأنه يريد بفعل
الطاعات مجموع الأمور الثلاثة: اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بمقتضاه، كما
قال في الكشاف ونقل القاضي البيضاوي أنه مذهب المعتزلة وجمهور المحدثين و
الخوارج فمن أخل بالاعتقاد فهو منافق ومن أخل بالإقرار فهو كافر ومن أخل بالعمل
فهو فاسق عند الكل، وكافر عند الخوارج، وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر
عند المعتزلة.
وأما دليلهم فليس مما يعتد به إلا أنه يفهم ذلك من كثير من الأخبار المذكورة
في كتاب الإيمان والكفر من الكافي وغيره من الكتب المعتبرة من الأصحاب حيث
يدل على دخول الأعمال فيه، وأن المؤمن يخرج عن الإيمان حين الفسق ثم إذا
تاب يصير مؤمنا.
منها ما نقل في مجمع البيان قال: وروى العامة والخاصة عن علي بن موسى
الرضا عليه السلام أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان
8

وعنه عليه السلام أيضا الإيمان قول مقول وعمل معمول، وعرفان بالعقول، واتباع
الرسول صلى الله عليه وآله.
ويدل على ضعف مذهبهم عطف العبادات على الإيمان في القرآن العزيز بل
الأخبار أيضا. وأيضا إسناد الإيمان إلى القلب في مثل قوله تعالى " وقلبه مطمئن
بالإيمان " " أولئك كتب في قلوبهم الإيمان " " ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " (1)
وأيضا اقتران الإيمان بالمعاصي في مثل قوله " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا "
و " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى " و " الذين آمنوا ولم يلبسوا
إيمانهم بظلم " (2) وأيضا تكليف المؤمن بالعبادات واجتناب المنهيات مثل قوله تعالى
" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله " (3) وغير ذلك من الآيات. ولو كان الأعمال داخلة
فيه لما حسن جميع ذلك، ويحتاج إلى التأويل والتكلف، فلا يصار إليه إلا بدليل
قطعي المتن وقوي الدلالة إذ الخروج عن ظاهر القطعي لا يجوز إلا بأقوى منه أو
بالمثل، وأيضا الأصل والاستصحاب وعدم الخروج عن معناه اللغوي، فإنه فيها
بمعنى التصديق اتفاقا على ما قالوه، ومعلوم أن الخروج عنه إلى التصديق والإقرار
والأعمال يحتاج إلى دليل قوي بخلاف التصديق الخاص، فإنه بعض أفراد معناه
اللغوي، ولا يبعد ضم الاقرار أيضا إليه، باعتبار أن الكتمان للعناد وغيره إذا
تمكن من الإظهار لا يجوز، وفيه أنه لا يستلزم الدخول حتى أنه لو لم يقل ذلك
بالقول لا يكون مؤمنا بل لا يستلزم عدم العلم أيضا وأيضا باعتبار أنه إما مرادف
للإسلام أو أخص، ومعلوم اعتبار الاقرار فيه، وفيه أيضا أن لمانع أن يمنع ذلك
وهو ظاهر فالعمل غير داخل في الإيمان، والأخبار الواردة بذلك محمولة على الإيمان
الكامل الذي يكون للمؤمنين المتقين المتورعين المخلصين المقبولين.
وأما الإيمان المطلق عند الأصحاب فهو التصديق والإقرار بالله وبرسله و

(1) النحل: 106، المجادلة: 22 الحجرات: 14، على الترتيب.
(2) البقرة: 178، الأنعام: 82، على الترتيب.
(3) النساء: 59، القتال: 33.
9

بما جاءت به على الاجمال وبخصوص كل شئ علم كونه مما جاءت به [على الاجمال]
وبالولاية والإمامة والوصايا لأهل البيت عليهم السلام بخصوص كل واحد واحد مع
عدم صدور ما يقتضي خروجه عنه والارتداد، مثل سب النبي صلى الله عليه وآله وإلقاء المصحف
في القاذورات.
فالنشر إلى ما يدل على كون أمير المؤمنين عليه السلام إماما وهو غير محصور، و
نقتصر على نبذ منه.
منه قوله تعالى (1) " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله
بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين " عاطفين عليهم متذللين جمع ذليل ودخول
" على " إما لتضمين معنى العطف أو للتنبيه على أنه مع ذلك حافظون للمؤمنين، و
حاكمون عليهم وهم في حمايتهم أو لمقابلة " أعزة على الكافرين " شدائد غالبين عليهم
من عزه إذا غلبه " يجاهدون في سبيل الله " صفة أخرى لهم أو حال من الضمير في
أعزة " ولا يخافون لومة لائم " عطف على يجاهدون بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة
في سبيل الله والتصلب في دينه " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع " إشارة إلى
أن الأوصاف المذكورة من عطية الله وفضله، وتهيئ أسبابه، لا يمكن كسبه بغير
عون وفضل منه، وهو كثير الفضل، ولا ينقصه إعطاء شئ " عليم " بمواقع الأشياء
يعرف استحقاق كل أحد لأي مقدار من الفضل والإنعام.
وظاهر أنها في أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه والذين ارتدوا بعده من
الخوارج ومحاربيه يوم الجمل وصفين وغيره إذ ما وقع ارتداد قبله، ولا بعده إلا أمثال
ذلك معه، ولأن هذه غير موجودة إلا فيه وأصحابه لأن الحرب الذي فعله كان
محل اللوم فإن الخوارج أهل القرآن والصلحاء وعائشة زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله و
معها أصحابه ومعاوية خال المؤمنين ومعه أصحابه، فكان محل اللوم. ولكن ما كان
هو وأصحابه يخافون من لومة أي لائم كان، لأنهم كانوا على الحق فلا يحبون
غير الله مع ذلتهم وصغر نفوسهم مع المؤمنين، وتواضعه عليه السلام معهم مشهور حتى نسب إلى

(1) المائدة: 54
10

الدعابة لكثرة تواضعه، وقالوا: إنه كان فينا كأحدنا في زمان خلافته ويمشي في
وق الكوفة وينادي خلوا سبيل المؤمن المجاهد في سبيل الله ولأنه الذي ثبت
محبة الله له أي إرادة الله له بالهدى والتوفيق في الدنيا لما يحب ويرضى، وحسن
الثواب في الآخرة ومحبته لله أي إرادة طاعته جميعها والتحرز عن معاصيه كلها.
ويؤيده ما روي من محبة الله تعالى ورسوله له ومحبته لله وللرسول في خبر
الراية قال الإمام نور الدين علي بن محمد المكي المالكي في كتابه فصول المهمة
في معرفة الأئمة هذه عبارته:
فصل في محبة الله تعالى ورسوله له وذلك أنه صح النقل في كثير من الأحاديث
الصحيحة والأخبار الصريحة في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله
قال يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه
الله ورسوله فبات الناس يخوضون ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على
رسول الله صلى الله عليه وآله كل منهم يرجو أن يعطاها فقال صلى الله عليه وآله: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل
يا رسول الله! هو أرمد فقال فأرسلوا إليه فأتي به فبصق في عينيه ودعا له فبرأ حتى
كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية، فقال علي عليه السلام: يا رسول الله أقاتل حتى
يكونوا مثلنا؟ قال صلى الله عليه وآله: أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم أدعهم إلى الاسلام و
أخبرهم بما يجب عليهم فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن
يكون لك حمر النعم. قال فمضى ففتح الله على يده.
وفي صحيح مسلم قال عمر بن الخطاب فما أحببت الإمارة إلا يومئذ فتساوت له رجاء
أن ادعى لها، قالت العلماء قوله " فتساوت لها " بالسين المهملة أي تطاولت لها و
حرصت عليها حتى أبديت وجهي وتصديت لذلك ليتذكرني قالوا إنما كانت محبة
عمر لها لما دلت عليه من محبة الله تعالى ورسوله ومحبتها له والفتح على يديه، قاله
الشيخ عبد الله اليافعي (1) في كتابه المرهم انتهى كلامه.

(1) الشافعي خ واليافعي هو أبو السعادات عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليمني نزيل
الحرمين، له تأليفات كثيرة في التصوف وأصول الدين والتفسير وغير ذلك توفي بمكة سنة
68؟ ودفن بباب المصلى إلى جانب الفضيل بن عياض
11

ورأيت أيضا مثل ما نقله في مواضع منها مصابيح الأنوار بتغيير ما عد من
الصحاح عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يوم خيبر: لأعطين هذه الراية
غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله فلما أصبح الناس
غدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله كلهم يرجون أن يعطاها فقال: أين علي بن أبي طالب؟
فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه قال فأرسلوا إليه فبصق رسول الله صلى الله عليه وآله
في عينيه فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم
حتى يكونوا مثلنا؟ فقال انفذ على رسلك أي رفقك ولينك والرسل السير اللين
و [ذكر] نحو ذلك بحيث لا يتغير المعنى والمقصود، ونقله من الصحاح (1).
تأمل رحمك الله في هذا الخبر واختياره للمحبة من الجانبين واختصاصه بها
مع عدم كونه حاضرا مع الصحابة وتعرض الصحابة لهذا مع غيبته وهذه القصة
كالصريحة في عدم وجود هذا الوصف في ذلك الزمان إلا فيه.
وكذا يؤيده قصة الطير وهي مشهورة أيضا مروية في كتب العامة والخاصة
قال أخطب خوارزم في كتاب المناقب في آخر الفصل التاسع في بيان أنه أفضل
الأصحاب: وأخبرنا الشيخ وذكر الإسناد إلى قوله عن أنس بن مالك قال أهدي
لرسول الله صلى الله عليه وآله طير فقال اللهم إئتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا
الطير فقلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار فجاء علي بن أبي طالب فقلت: إن
رسول الله على حاجة قال: فذهب ثم جاء فقلت: إن رسول الله على حاجة، قال:
فذهب ثم جاء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله افتح ففتحت ثم دخل فقال
يا علي ما حدث بك؟ قال: هذه آخر ثلاث كرات يردني أنس يزعم أنك على
حاجة، قال صلى الله عليه وآله ما حملك على ما صنعت يا أنس؟ قال سمعت دعاءك فأحببت أن
يكون في رجل من قومي فقال النبي صلى الله عليه وآله إن الرجل قد يحب قومه إن الرجل
قد يحب قومه ومثله في كتب أخر مثل فصول المهمة ثم نقل شعرا في بيان أن
الرجل يحب قومه.
وبالجملة فمحبته لله وللرسول، ومحبة الله ومحبة رسوله له ظاهر، وفي

(1) راجع مشكاة المصابيح: 563.
12

الأخبار ما لا يحصى، من ذلك ما يعلم من كتاب أخطب خوارزم في الفصل السادس
في بيان محبة الرسول صلى الله عليه وآله إياه والحث على محبته وموالاته، ونهيه عن بغضه.
ومن جملة ذلك ما روي بالإسناد في هذا الفصل عن عائشة قالت: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وهو في بيتي: ادعوا لي حبيبي فدعوت أبا بكر فنظر إليه رسول الله
ثم وضع رأسه ثم قال: ادعوا لي حبيبي فقلت: ويلكم ادعوا له علي ابن أبي طالب
فوالله ما يريد غيره، فلما رآه فرج الستور الذي عليه ثم أدخله فيه فلم يزل
يحتضنه حتى قبض ويده عليه، وغير ذلك.
وعدم خوفه من لومة لائم واضح ومتفق عليه وكذا كونه أذله على المؤمنين
وأعزه على الكافرين، وكذا ارتداد قوم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ومقاتلته عليه السلام معهم
وهو أيضا مذكور في الأخبار الكثيرة ومعلوم كالشمس عند الارتفاع.
ومن ذلك حكاية الخوارج والجمل وصفين وغير ذلك مما هو معلوم من
التواريخ ومن كتب أهل العلم مثل كتاب كمال الدين بن طلحة الشافعي وفصول
المهمة للمالكي. والخوارزمي قال بإسناده عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال كنت
أمشي مع النبي صلى الله عليه وآله في بعض طرق المدينة فأتينا على حديقة فقلت: يا رسول الله
ما أحسن هذه الحديقة؟ فقال: لك في الجنة أحسن منها، ثم أتينا على حديقة أخرى
فقلت: يا رسول الله ما أحسن هذه الحديقة؟ قال: لك في الجنة أحسن منها حتى
أتينا على سبع حدائق أقول: يا رسول الله ما أحسن هذه الحديقة؟ فيقول: لك في
الجنة أحسن منها، فلما خلا له الطريق اعتنقني وأجهش باكيا فقلت: يا رسول الله ما
يبكيك؟ قال الضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا بعدي، فقلت في سلامة من
ديني؟ قال: في سلامة من دينك.
وفي كتاب الخوارزمي بإسناده عن علي عليه السلام قال: أمرت بقتال ثلاثة: القاسطين
والناكثين والمارقين فأما القاسطون فأهل الشام، وأما الناكثون فذكرهم (1) وأما

(1) فذكرهم، أي ذكرهم علي عليه السلام، ولم يذكره الراوي تعصبا أو تقية، وهم
طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين مع أهل البصرة، ولعل الراوي للحديث كان من أهل البصرة
الناكثين.
13

المارقون فأهل النهروان يعني الحرورية.
ونقل في الفصل الثامن في بيان أن الحق معه وأنه مع الحق جداله عليه السلام
مع معاوية وقتل عمار، وقوله صلى الله عليه وآله له: ستقتلك الفئة الباغية، وأنت مع الحق و
الحق معك، يا عمار إذا رأيت عليا سلك واديا وسلك الناس واديا غيره فاسلك مع
علي ودع الناس فإنه لن يدليك في ردى ولن يخرجك عن الهدى، يا عمار إنه من
تقلد سيفا أعان به عليا على عدوه قلده الله تعالى يوم القيامة وشاحا من در، ومن
تقلد سيفا أعان به عدو علي قلده الله تعالى يوم القيامة وشاحا من نار قال قلنا: حسبك.
ونقل في هذا الفصل عن علي بإسناده قال: يا عجبي أعصى ويطاع معاوية، ونقل
أن ابن عباس قال له: لأنه يطاع ولا يعصى، أي معاوية وأنت عن قليل تعص ولا
تطاع.
وبالجملة الأوصاف كلها موجودة فيه ويؤيد كونها فيه تعالى متصلا
بالآية المذكورة " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون " مع إجماع المفسرين على أنه في شأنه عليه السلام والأدلة
على إمامته ووصايته من المعقول والمنقول غير محصورة وليس هنا محل ذكرها و
المقصود من ذكر نبذ منها تزيين هذا الكتاب به فنقول في الطهارة آيات:
الأولى:
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم
إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا
فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم
النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته
14

عليكم لعلكم تشكرون (1).
تخصيص المؤمن بالخطاب لأن الكافر لم يقم إلى الصلاة، ولأنه المنتفع به
كما في أكثر التكاليف " إذا قمتم إلى الصلاة " أي إذا صليتم فإن المراد بالقيام
قيامها، والتقدير إذا أردتم الصلاة مثلا " إذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " (2) فأقيم
مسبب الإرادة مقامها للإشعار بأن الفعل ينبغي أن لا يترك ولا يتهاون فيه، ويفعل
سابقا على القصد الذي لا يمكن إلا بعده، فظاهر الأمر الوجوب، فيجب الوضوء
للصلاة بأن يعسل الوجه. والغسل محمول على العرفي، وفسر بإجراء الماء على
العضو ولو كان بالآلة وأقله أن يحري ويتعدى من شعر إلى آخر، وظاهرها يدل
على وجوبه كلما قام إليها لأن ظاهر " إذا " العموم عرفا وإن لم يكن لغة، ولأن
الظاهر أن القيام إليها علة، ولكن قيد بالإجماع والأخبار بالمحدثين.
وقيل: كان ذلك في أول الأمر ثم نسخ وقيل الأمر فيه للندب ورد النسخ
بما روي عنه صلى الله عليه وآله: المائدة آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها
ولي في النسخ تأمل إلا أن يقال المراد نسخ وجوب الوضوء على المتوضئين المفهوم
من عموم فاغسلوا، فعمومه منسوخ، وليس ذلك بتخصيص حيث كان العموم مرادا
معمولا به، وكذا في الندب إلا أن يقال الندب بالنسبة إلى المتوضئين فيكون المراد
به الرجحان المطلق، فكان الندب بالنسبة إلى المتوضئين والوجوب بالنسبة إلى غيرهم
هذا صحيح ولكن ليس هذا قولا (1) بأن الأمر للندب فقط كما قاله في الكشاف وأيضا
قال فيه حمله على الوجوب والندب إلغاز وتعمية، فلا يجوز في القرآن لأنه استعمال
اللفظ في وقت لمعنييه الحقيقي والمجازي في إطلاق واحد، وفيه تأمل لأنه مجاز
والمجاز غير إلغاز، ولكن بعيد لعدم القرينة إلا أن يريد مع فهم التفصيل فهو إلغاز
ولكن يجوز ذلك بالبيان النبوي " كما في سائر الإطلاقات والعمومات المخصوصات
مثل آيات الصلاة والزكاة وغيرها.

(1) المائدة: 6.
(2) النحل: 98.
(3) في المطبوعة: ولكن هذا قول الخ، وهو سهو.
15

على أنه قال فيه بعده بأسطر: إن المراد بمسح الرجلين المفهوم من عطفهما
على الرأس الغسل القليل، ولا شك أنه بالنسبة إلى الرأس مسح حقيقي فهو لفظ
واحد أطلق في إطلاق واحد على المعنى الحقيقي والمجازي معا، مع عدم القرينة
بل مع الاشتباه، فهو إلغاز وتعمية، وهل هذا إلا تناقض؟ فظهر كون المراد المعنى
الحقيقي في الرجلين أيضا كما فهمه بعض الصحابة وأهل البيت عليهم السلام فتأمل فيه.
والآية تدل على وجوب أمور في الوضوء:
الأول غسل الوجه وهو العضو المعلوم عرفا، وقد حد في بعض الأخبار
المعتبرة بأنه الذي يدور عليه الإبهام والوسطى عرضا، وطولا من قصاص شعر الرأس
إلى الذقن، وهو أول فعل في الوضوء، فظاهر الآية لا يدل على اعتبار النية، ولا
على تعيين الابتداء، لكن اعتبار النية معلوم إذ لا يمكن الفعل الاختياري بدونها
وفعلهم عليهم السلام كان من الأعلى إلى الأسفل في أعضاء الغسل فهو أحوط، ولا على
وجوب الترتيب بين أجزاء العضو، بل لا يمكن ذلك حقيقة، نعم ملاحظة العرفي
حسن ولا على وجوب التخليل مطلقا ويدل على عدمه الروايات الصحيحة (1) ولا على
وجوب المس والدلك باليد لصدق الغسل مع الكل، فكلما دل دليل من خبر
أو إجماع يقال به، والباقي يبقى على حاله.
الثاني غسل اليدين والترتيب مستفاد من الاجماع والخبر ويمكن فهمه من
الآية أيضا بتكلف بأن يقال يفهم تقديم الوجه لوجود الفاء التعقيبية ولا قائل بعدم
الترتيب حينئذ فإن الحنفية لا توجب الترتيب أصلا، بل تجوز تقديم غسل الرجلين
على غسل الوجه (2).

(1) الوسائل أبواب الوضوء الباب 46.
(2) قال الشيخ في الخلاف: الترتيب واجب في الوضوء في الأعضاء كلها، ويجب تقديم
اليمين على اليسار، وقال الشافعي بمثل ذلك إلا في تقديم اليمين على اليسار، وبه قال أمير المؤمنين
عليه السلام وابن عباس وبه قال قتادة وأبو عبيدة القاسم بن سلام وأحمد وإسحاق وقال أبو حنيفة
الترتيب غير واجب وبه قال مالك وهو المروي عن ابن مسعود والأوزاعي. أقول ترى تفصيل
ذلك في بداية المجتهد ج 1 ص 16، والمغني لابن قدامة ج ص 136.
16

وأيضا عطف الباقي على الوجه الذي هو مدخول الفاء يفيد التعقيب في كل
واحد فتأمل فيه فإنها تدل على فعل المجموع بعد القيام إلى الصلاة فكأنه قال:
إذا قمتم إلى الصلاة فتوضؤا ولا تدل على الموالاة أيضا وفهمها بأنه يفهم تعقيب
الكل بلا فصل، وذلك غير ممكن فيراعي ما أمكن بعيد، فإن المراد مجرد التعقيب
لا بلا مهلة، وعلى تقدير كونها مرادة فلا يفهم إلا كون غسل الوجه بلا مهلة.
نعم: يفهم وجوب الموالاة وبطلان الوضوء بتركها، مع جفاف جميع الأعضاء
السابقة من الروايات الصحيحة (1) بل الاجماع ويمكن فهم أن محل الوجوب في
غسل اليدين إلى المرافق، وإن سلم أن ظاهرها كون الابتداء من الأصابع، ولكن
انعقد إجماع الأمة على عدم وجوب ذلك فيكون إلى هنا لانتهاء غاية المغسول ومحمولة
على معناها اللغوي لا الغسل بمعنى كونه منتهاه بعد الابتداء من الأصابع، وأنه
يكفي مسمى الغسل فيه أيضا كالوجه على أي وجه كان ولا يبعد وجوب غسل المرفق
وإن كان غاية وخارجا من باب المقدمة لأنه مفصل وحد مشترك، كما ثبت في
الأصول فقول القاضي البيضاوي: وجب غسلها احتياطا غير مناسب.
الثالث مسح الرأس مطلقا، بما يصدق مقبلا ومدبرا قليلا أو كثيرا على
أي وجه كان إلا أن إجماع الأصحاب، على ما نقل، وفعلهم عليهم السلام خصصه بمقدم
الرأس ببقية البلل، لا بالماء الجديد اختيارا، وجوزه بعض نادر، ودليله ليس
بناهض عليه، فإنه روايتان صحيحتان دالتان على عدم جواز المسح بفضلة الوضوء
والندى بل بالماء الجديد، وحملتا، على التقية لذلك مع ما فيه، وعلى غير الاختيار
والاحتياط لا يترك وقد منع بأكثر من ثلاث أصابع استحبابا، ووجوبا كأنه بالإجماع، و
ذهب البعض إلى وجوب ثلاث أصابع، ولا دليل عليه، وعموم الآية والأخبار بل
خصوصها ينفيه.
الرابع مسح الرجلين بالمسمى كالرأس وفي الرواية الصحيحة أنه بكل
الكف ويفهم من الأخرى كل الظهر، وإلى أصل الساق ومفصل القدم (2) وهو

(1) الكافي ج 3 ص 35.
(2) الوسائل أبواب الوضوء، الباب 15.
17

المراد بالكعب، ويدل عليه اللغة، وهو مذهب العلامة وكأنه موافق لمذهب العامة
فافهم، ودليل مسحها إجماع الإمامية وأخبارهم، وظاهر الآية، فإن قراءة الجر
صريحة في ذلك لأنه عطف على رؤوسكم لا يحتمل غيره، وهو ظاهر وجر الجوار
ضعيف خصوصا مع الاشتباه، وحرف العطف، ولهذا ما قاله في الكشاف وقال: المراد
بالمسح حينئذ الغسل القليل. وقد عرفت ما فيه وقراءة النصب أيضا كذلك، لأنه
عطف على محل رؤوسكم وأمثاله في القرآن العزيز وغيره كثيرة جدا وعطفه على
الوجه معلوم قبحه خصوصا في مثل القرآن العزيز، وليس وجود التحديد في
المغسول دليلا عليه كما قاله البيضاوي بل هو دليل على ما ذهب إليه أصحابنا لحصول
التعادل بأن يكون العضو الأول من المغسول والممسوح غير محدود والثاني منهما
محدودا وللقاضي هنا مباحث ولنا كذلك، يطلب من الحاشية، وظاهر الآية عدم
الترتيب بينهما، ولا دليل عليه أيضا من الاجماع والأخبار، بل أكثر الأصحاب على
عدمه والأصل مؤيد، ولا شك في الصدق مع فعله غير مرتب فتأمل.
والظاهر أنه لا يشترط في المسح عدم تحقق أقل الغسل إذ قد يكون المقابلة
باعتبار النية أو باعتبار عدم جواز المسح في المغسول، أو باعتبار بعض أفراد الغسل
مثل عدم الدلك لصدق الاسم المذكور في الكتاب والسنة والإجماع لغة وعرفا
وللزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة لو كان مرادا، ولم يبين فتأمل، وبالجملة
لا شك في صدق المسح مع المس وقلة البلل الذي لا يقال أنه غسل، وإن تحقق
معه أقل الغسل المتعارف عنده، ولأنه تكليف شاق منفي فإن تحقق المسح
بحيث يظهر البلل على العضو، ولم يوجد أقل الغسل كالدهن مشكل فقول الشيخ
زين الدين في شرح الشرايع (1) بذلك بعيد نعم يمكن كونه أحوط.
وظاهر إذا قمتم كون الوضوء واجبا لغيره، وهي الصلاة مثلا و " إن كنتم
جنبا فاطهروا " أي: فاغتسلوا كون الغسل واجبا لنفسه لأن الظاهر أنه معطوف
على قوله " إذا قمتم " فتقديره يا أيها الذين آمنوا إن كنتم جنبا فاطهروا ويدل
عليه الأخبار أيضا مثل إذا التقى الختانان وجب الغسل (2) ويتفرع عليه صحة نية

(1) شرح اللمعة خ.
(2) الكافي ج 3 ص 46.
18

وجوب الغسل لمن لم يجب عليه مشروط به، وعلى تقدير وجوبه لغيره أيضا ليس
بمضيق بل موسع وإنما يتضيق بتضيق المشروط به، وقد صرحوا بذلك.
إلا أن يقال إنه معطوف على إن كنتم محدثين محذوفا وكأنه قيل إذا قمتم
إلى الصلاة إن كنتم محدثين توضؤوا وإن كنتم جنبا فاغتسلوا، ويؤيده كون
باقي الطهارات كذلك، ويشعر به بعض الأخبار وقوله " إن " وإلا كان المناسب " إذا "
فتخصص العمومات من الأخبار والآية أيضا على تقدير كونه معطوفا على إذا و
يؤيده الكثرة وتتمة الآية أيضا.
" وإن كنتم مرضى " كأنه عطف على محذوف هو كنتم صحاحا حاضرين
قادرين، أي إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم صحاحا حاضرين قادرين على استعمال الماء
فإن كنتم محدثين لغير الجنابة توضؤوا، وإن كنتم جنبا فاغتسلوا وإن كنتم مرضى
مرضا يضركم استعمال الماء، أو مسافرين فلم تقدروا على استعمال الماء لعدمه أو
للتضرر " به أو جاء أحد منكم من الغائط " لعله هنا كناية عن الحدث الخارج من أحد
السبيلين فأو، بمعنى الواو " أو لامستم النساء " لعله كناية عن الجماع الموجب لغسل
الجنابة وهو الدخول حتى تغيب الحشفة قبلا أو دبرا " فتيمموا صعيدا طيبا " أي
اقصدوا أرضا طاهرة مباحة فامسحوا بأيديكم بعض وجوهكم وبعض أيديكم مبتدئا
من الصعيد أو ببعض الصعيد، لأن تضعوا أيديكم على بعضه، ثم تمسحوا الوجه
واليد أو من بعد التيمم كما ورد في الرواية أي ما يتيمم به هو الصعيد فلا دلالة
على تقدير كونها تبعيضية على وجوب لصق شئ من الصعيد، فيجب كونه ترابا
يلصق كما توهم.
فالآية تدل على وجوب الغسل، وأن الجنابة موجبة له، وأن الغائط بل
البول والريح أيضا أحداث موجبة للوضوء وأن المرض والسفر مع عدم القدرة
على الماء موجب للتيمم بدلهما، ومشعرة بأنه يبيح به ما يبيح بهما وعلى اشتراط
طاهرية ما يتيمم به، بل إباحته أيضا بل طهارة الماء وإباحته أيضا في الوضوء والغسل
وأن كيفية التيمم أن المسح يكفي ببعض الوجه مطلقا وكذا ببعض اليد وأنه
19

لا يحتاج إلى الاستيعاب والتخليل وأن أول أفعال التيمم مسح الوجه.
والوضوء والغسل والتيمم مبينات في كتاب الفروع مع أحكامها وجميع واجباتها
وموجباتها والفروعات الكثيرة ليس هذا محلها إذ المقصود هنا ما يمكن فهمه من
الآيات الكريمة، ثم لا يخفى أن نظم هذه الآية مثل التي سيجئ لا يخلو عن إشكال
على حسب فهمنا مثل ترك الحدث في أولها وذكر الجنابة فقط بعضه والإجمال الذي
لم يفهم أن الغسل بعد القيام إلى الصلاة أم لا، وترك كنتم حاضرين صحاحا
قادرين على استعمال الماء، ثم عطف إن كنتم عليه، وترك تقييد المرضى وتأخير فلم
تجدوا عن قوله أو جاء وذكر جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم مع عدم الحاجة
إليهما إذ يمكن الفهم عما سبق، والعطف بأو، والمناسب بالواو، وغير ذلك مثل
الاختصار في بيان الحدث الأصغر على الغائط والتعبير عنه بجاء أحد منكم من الغائط
والأكبر على لامستم والتعبير عن الجنابة به وكأنه لذلك قال في كشف الكشاف
ونعم ما قال: والآية من معضلات القرآن ثم طول الكلام في توجيه " أو " في قوله:
أو جاء أحد منكم ولعل السر في الترغيب على الاجتهاد، وتحصيل العلوم لتظفير
السعادات الدائمة.
ثم في الآية احتمالات وأبحاث أخر ستجئ في الثانية إن شاء الله تعالى وقد
استدل بقوله " فلم تجدوا ماء " على طلب الماء غلوة سهم في الحزنة، وغلوتين في
السهلة ولا دلالة عليه فيها، ولا في الخبر (1) والأصل ينفيه نعم ينبغي الطلب حتى
يتحقق عدم الماء عنده عرفا مثل رحله وحواليه مع الاحتمال فتأمل.
" ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " قيل: أي ما يريد الله الأمر بالوضوء
للصلاة أو بالتيمم تضييقا عليكم ويحتمل أن يكون المراد ما يريد الله جعل الحرج
عليكم بالتكاليف الشاقة مثل تحصيل الماء على كل وجه ممكن مع عدم كون الماء
حاضرا وإن كان ممكنا في نفس الأمر، ولا [يكلف] بالطلب الشاق كالحفر

(1) الوسائل أبواب التيمم الباب الأول الحديث 2.
20

وغيره بل بني على الظاهر فقبل التيمم ولا كلف في التيمم أيضا بأن يوصل الأرض
إلى جميع البدن أو أعضاء الوضوء بل التيمم أيضا وأن يطلب ما يمكن إيصاله بل
يكفي مجرد وجه الأرض، وهو مقتضى الشريعة السمحة.
" ولكن يريد ليطهركم " أي من الذنوب فإن العبادة مثل الوضوء كفارة
للذنوب أو لينظفكم عن الأحداث ويزيل المنع عن الدخول فيما شرط فيه الطهارة
عليكم فيطهركم بالماء عند وجوده وعند الإعواز بالتراب، فالآية تدل على أن
التيمم رافع في الجملة وطهارة فيباح به ما يباح بالماء، ويؤيده ما في الأخبار و
يكفيك الصعيد عشر سنين والتراب أحد الطهورين ورب الماء ورب التراب واحد (1)
فيبعد منع إباحة التيمم ما يبيحه الماء، وأنه يجب لما يجب له.
ثم إنه يزول التيمم بزوال المانع لأنه لا يرفع الحدث بالكلية نعم يحتمل
رفعه إلى أن يتحقق الماء أو توجد القدرة على استعماله إذ لا استبعاد في حكم الشارع
بزوال الحدث إلى مدة فإنه مجرد حكم الشارع فلعل البحث يرجع إلى اللفظي
فتأمل. واللام للعلة فمفعول يريد محذوف وهو الأمر في الموضعين وقيل زائدة و
ليجعل وليطهركم مفعول، والتقدير لأن يجعل عليكم ولأن يطهركم وليس فيه
قصور وضعف: لأن " أن " لا تقدر بعد اللام المزيدة كما قاله البيضاوي. لأن الشيخ
المحقق الرضي قدس سره قال في شرح الكافية: وكذا اللام زائدة في لا أبا لك عند
سيبويه، وكذا اللام المقدر بعدها أن بعد فعل الأمر والإرادة كقوله تعالى " و
ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " على أنه قال البيضاوي أيضا في تفسير
قوله تعالى " يريد الله ليبين لكم " أن يبين مفعول يريد، واللام مزيدة لتأكيد معنى
الاستقبال اللازم للإرادة، وهل هذه إلا تناقض.
" وليتم نعمته " أي ليتم بشرعه ما هو مطهر لأبدانكم ومكفر لذنوبكم في
الدين، أو ليتم برخصه إنعامه " عليكم " بعزائمه " لعلكم تشكرون " نعمته ثم أمر

(1) الكافي ج 3 ص 63، التهذيب ج 1 ص 195.
21

الله تعالى بعد ذلك بذكر النعمة والميثاق والعهد الذي عاهدتم بقوله " واذكروا
نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به " الآية وأمر المؤمنين بكونهم قوامين لله
شهداء بالعدل فأوجب عليهم ذلك، ونهاهم عن أن يحملهم البغض على العدول والخروج
عن الشرع بقوله " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم
شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " قال البيضاوي في " اعدلوا
هو أقرب للتقوى " إذا كان هذا مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين؟ ثم أمر
بالتقوى ووعدهم بالامتثال وأوعدهم على تركه بقوله " واتقوا الله إن الله خبير
بما تعملون ".
ثم اعلم أن في حكاية ابني آدم نبينا وآله وعليه السلام إشارة إلى أن التقوى
شرط لقبول العمل: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " صفة مصدر محذوف
أي أتل واقرأ تلاوة متلبسة بالحق أو حال من ضمير " أتل " أو من نبأ " إذ قربا قربانا "
ظرف نبأ، أو حال منه، والقربان اسم لم يتقرب به إلى الله من ذبيحة وغيرها
كما أن الحلوان اسم لما يحلى أي يعطى وهو في الأصل مصدر ولهذا لم يثن مع
أن المراد منه اثنان، وقيل تقديره إذ قرب كل واحد منهما قربانا فلا يحتاج
إلى التثنية " فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال " قابيل " لأقتلنك " وعده بالقتل
بعد عدم قبول قربانه وقبول قربان أخيه، لفرط الحسد على ذلك ولبقاء ما يريده
له " قال " أخوه هابيل " إنما يتقبل الله من المتقين " أي إنما أصابك ما أصابك
من عدم القبول عند الله من قبل نفسك، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ فاقتل نفسك
لا نفسي، وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره فيكون
الذنب له لا للمحسود، فلا بد أن يجتهد في تحصيل ما صار به المحسود محسودا و
محفوظا لا في إزالة حظ المحسود فإن ذلك يضره ولا ينفع الحاسد، بل يضره و
هو ظاهر. وفيه دلالة على أن القبول يشترط فيه التقوى كما قلناه.
قال البيضاوي: وفيه إشارة إلى أن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متق وفيه
إشكال ولهذا ما شرطه الفقهاء فإن الفسق لا يمنع من صحة عبادة إذا فعلت على
22

وجهها، ويمكن أن يقال المراد اشتراط التقوى في تلك العبادة أي لا يقبل الله العبادة
إلا من المتقين فيها بأن يأتي به بحيث لا يكون عصيانا مثل أن يقصد بها الرئاء أو
غيره من المبطلات أو المراد تقوى عن ذنب ينافي تلك العبادة فيكون إشارة إلى أن
الأمر بالشئ يستلزم النهي عن ضده وهو موجب للفساد، وبالجملة يشترط في قبولها
عدم كونها معصية ولا مستلزما لها، الله يعلم " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا
بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " قال في الكشاف: كان هابيل
أقوى من قابيل، ولكنه تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من الله تعالى لأن
الدفع لن يبح بعد أو تحريا لما هو الأفضل، قال عليه الصلاة والسلام: كن عبد الله
المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، ويمكن أن يقال التسليم غير ظاهر، وكذا كونه
مباحا فإن وجوب حفظ النفس عقلي ولا يمكن إباحة التسليم الذي هو ينافيه بل
هو قتل النفس والآية لا تدل على التسليم، فإنه قال " ما أنا بباسط يدي إليك
لأقتلك " فإنه يدل على عدم بسط اليد بقصد قتله لا للدفع أيضا وهو ظاهر ويمكن
فهم وجوب الدفن من آخر الآية (1) فافهم.
الثانية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى
تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى
أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا
صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا (2).
أي لا تصلوا أيها المؤمنون، والمخاطبون هم الذين يعلمون ما يقولون من
السكارى وليس كل سكران لا يعقل فيصح تكليفهم ونهيهم عن الصلاة حين علموا

(1) يعني قوله تعالى، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه "
والآيات في سورة المائدة: 27 - 31.
(2) النساء: 42.
23

أن يشرعوا في الصلاة لا الذين لا يعلمون ما يقولون بزوال عقلهم فتأمل.
" وأنتم سكارى " من الشراب ونحوه بحيث إذا دخلتم في الصلاة ما تعرفون
ولا تعلمون ما تقولون " حتى تعلموا " لأن الصلاة مع زوال العقل لا تصح وهو
ظاهر، ولهذا أوجب الفقهاء القضاء على السكران، وجملة " وأنتم سكارى " حال
عن فاعل " لا تقربوا "، " ولا جنبا " عطف عليها أي لا تقربوا الصلاة جنبا وهو من وجد
منه الجنابة ولم يغتسل مذكرا أو مؤنثا واحدا أو أكثر " حتى تغتسلوا " إلا المسافرين
منكم فإنه تجوز صلاته جنبا لكن بالتيمم مع تعذر الغسل كما سيجيئ.
وقيد العبور لأغلبية الاحتياج إلى التيمم في السفر، وقيل المراد لا تقربوا
مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم سكارى ولا أنتم جنب إلا أن تكونوا عابرين
فيها بأن تدخلوا من باب وتخرجوا من آخر، وقال في مجمع البيان وهو المروي
عن أبي جعفر عليه السلام (1) ويؤيده عدم الاحتياج إلى قيده بالتيمم وجعل في مجمع
البيان ذكر كون الصلاة مع التيمم بعده مؤيدا وكأنه يريد لزوم التكرار وهو
غير لازم، والقول بتحريم دخول السكران المسجد غير معلوم إلا يكون للصلاة
فيرجع إلى تحريمها حينئذ، وحذف المضاف تكلف وعموم المساجد غير جيد لعدم
جواز العبور في المسجدين وأن تتمة الآية أحكام الصلاة، فلو لم يكن المراد الدخول
فيها لن يفهم ذلك.
فالظاهر أن المراد بصدر الآية الدخول في الصلاة وإن أمكن جعل جنبا
باعتبار المساجد بارتكاب تقدير، ويحتمل أن يكون المنهي القرب إلى الصلاة
مطلقا ومجملا: بالنسبة إلى السكران فعلها، وبالنسبة إلى الجنب الدخول إلى
مواضعها ويكون ذلك معلوما بالبيان ولا يخلو عن بعض والأول أبعد هذا كله على
تقدير عدم صحة الرواية وأما على تقديرها فالقول بمضمونها متعين وفي الآية
دلالة ما على عدم خروج المؤمن عن الإيمان بشرب الخمر فتأمل فيه وعلى تحريم
دخول شارب الخمر الذي يعقل إذا علم عدم عقله بعد الدخول في الصلاة أو في المساجد

(1) ومثله في تفسير العياشي ج 1 ص 243.
24

أو فيهما ويحتمل كون كل مزيل للعقل كذلك وفيها الإشارة إلى أن القلب لا بد
أن لا يكون غافلا حال الصلاة ولا مشغولا بغير ما يتعلق بها وكذا على تحريم دخول
الجنب فيها أو في المسجد إلا المتيمم المسافر أو العابر فيه وعدم حصول رفع
الحدث بالتيمم.
" وإن كنتم مرضى أو على سفر " يعني ولا يقربها الجنب حتى يغتسل فلا بد
من الغسل للصلاة، إن تمكن منه، فإن لم يتمكن منه لمرض يضر معه الغسل
ضررا يعد ذلك ضررا عرفا فيتيمم لها ولعل القيد للإجماع والخبر وإلا ظاهر الآية
تجويز التيمم للمرض مطلقا أو لسفر لا يكون فيه الماء بوجه.
فتقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا إن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون على
استعمال الماء أو مسافرين كذلك محتاجين إلى التطهير مطلقا محدثين بحدث أصغر
أو أكبر فتيمموا! وأشار إلى مطلق المحدث بالحدث الأصغر بقوله " أو جاء أحد منكم
من الغائط " أي المواضع التي يغاط فيها فهو كناية عن الحدث الأصغر ولكن في
إدخال الكل فيه فيه تأمل، فإن الظاهر أنه مخصوص بالغائط أو كناية عما يخرج عن
السبيلين البول والغائط والريح أيضا كما أن " أو لامستم النساء " كناية عن الجماع
الموجب للغسل وقد فسر به في الروايات (1) وهو مذهب الأصحاب وأبي حنيفة
كالمباشرة في الصوم والاعتكاف، ويحتمل كونه كناية عن مطلق موجب الغسل لكنه
بعيد سيما المس (2) و " فلم تجدوا " عطف على " أو جاء " قيدا للمرض والسفر والفاء
إشارة إلى أن عدم الوجدان ينبغي أن يكون بعد الحدث فالقبل لا يكفي، وعلى
تقدير تخصيص الغائط واللمس (3) كما هو الظاهر يكون كون باقي الموجبات
مثل الدماء الثلاثة وخروج المني بغير جماع ومس الميت وزوال العقل بالنوم والسكر
ونحوه حدثا مفهوما من غير الكتاب من السنة والإجماع.

(1) الوسائل الباب التاسع من أبواب نواقض الوضوء الحديث الرابع، وهكذا تفسير
العياشي ج 1: 243.
(2) يعني مس الميت
(3) الأول بما يخرج من أحد السبيلين والثاني بالجماع.
25

والمعنى: إن كنتم مرضى أو على سفر، وجاء أحد منكم، فيكون أو بمعنى
الواو كما مر " فلم تجدوا ماء " أي لم تقدروا على استعمال الماء بوجه إما لعدمه
أو لعدم القدرة على استعماله للتضرر به أو لعدم تحصيله وحينئذ يكون حكم عدم
القدرة على استعمال الماء بغير سفر ومرض مفهوما من غير الآية أو من سوقها للإشعار
في قوله: فلم تجدوا ماء.
ثم الخلاف في كيفية التيمم كثير والمشهور عند أصحابنا النية مقارنة لضرب
اليدين على الأرض ضربة للوجه فيمسحه باليدين من قصاص شعر الرأس إلى طرف
الأنف الأعلى، وضربة لليدين فيمسح ببطن كل واحدة ظهر الأخرى من الزند
إلى أطراف الأصابع إن كان بدلا عن الغسل. وإن كان بدلا عن الوضوء فضرب
واحد، ودليله غير ظاهر، وقيل ضربه واحدة فيهما والآية تدل عليه فافهم وكذا
الأخبار الصحيحة (1) وقيل ضربتان فيهما لبعض الأخبار ولا يبعد كون الضرب
فيهما واحدا والتخيير أو استحباب الثانية جمعا بين الأدلة والظاهر أنهما أحوط وتفصيل
باقي الأحكام معلوم من محله والمشهور كون الضرب أول الأفعال ويمكن فهم
كونه المسح من الآية فافهم والأحوط أن ينوي عند الضرب والمسح وكذا الموالاة
في الجملة ولا بد من كون التيمم بالصعيد، وهو مطلق الأرض ولا يشترط التراب
فيصح بالحجر الأملس وهو الأظهر من مذهب الأصحاب ومذهب أبي حنيفة ويؤيده
اللغة وقوله تعالى " صعيدا زلقا " ولا ينافيه ما في سورة المائدة من قوله " منه ": لأنه
يدل على كون المسح بالوجه واليد ببعض الأرض فلا بد أن يكون شيئا ملصوقا
باليد ومن للتبعيض. لأنه يجوز كونها لابتداء الغاية لا للتبعيض هكذا قال في الكشاف
وغيره، ويجوز كونها للتبعيض مع عدم لزوم لصوق شئ لما مر ويؤيده إهمالها هنا
لأنه لو كان المراد وجوب اللصوق ما كان ينبغي تركها، ولهذا لا يعتبر اللصوق
في اليد لمسح اليد أيضا فتأمل.

(1) الوسائل أبواب التيمم الباب الثاني عشر.
(2) الكهف: 40.
26

وأيضا في الأخبار ما يدل على أن المراد بالصعيد مطلق الأرض ويجوز
التيمم بالحجر، والمراد بالطيب كأنه الطاهر، ويحتمل المباح أيضا، ففي الآية
دلالة على كون الغائط ونحوه حدثا أصغر موجبا للطهارة أي الوضوء والتيمم، و
عدم اشتراط حصول المني في الجنابة فيكفي غيبوبة الحشفة لصدق الملامسة التي هي
الجماع، وخرج ما دون غيبوبة الحشفة بالإجماع والخبر، وعلى كون الجماع حدثا
أكبر موجبا للغسل والتيمم، وعدم احتياج الوضوء في غسل الجنابة، ودلالة الآية
السابقة عليه أظهر، ووجوب التيمم بالصعيد للعذر ونفي غيره بالأصل، وعدم
الدليل، وعلى كونه مبيحا واعتبار المسح باليدين والوجه عرفا ويشعر بأن المسح
أول أفعال التيمم إلا أن يريد بالتيمم بالصعيد الضرب باليد عليه، وعلى كون
التيمم البدل عن الوضوء والغسل واحدا فيكفي ضربة واحدة فيهما وعلى بطلان صلاة
السكران للنهي فيجب القضاء لأنها فائتة.
ولا يبعد فهم عموم بدلية التيمم عن الوضوء والغسل وعموم إباحة ما يبيح بهما
به، ومنع فخر المحققين من جواز الطواف بالبيت للجنب المتيمم لأنه جنب
ولا يجوز دخوله في المسجد إلا عابرا لهذه الآية، وليس الدخول للطواف عبورا، بعيد
لعدم الفرق بين العبادات وأيضا يلزم المحذور إما عدم وجوب الطواف عليه، أو عدم
تحلله حتى يتمكن من الغسل وهو حرج منع بالعقل والنقل وللأخبار الكثيرة
جدا بأنه أحد الطهورين وأنه يكفي عشر سنين إشارة إلى دوامه وأن رب الماء و
رب التراب واحد (1) وغير ذلك والكل صريح في العموم وظاهر هذه الآية يشعر
به ولا تدل على ما ذكره لبعد تقدير مواضع الصلاة لما مر، وأن الأولى كون
المعنى ولا يقرب الجنب الصلاة إلا حال السفر كما تقدم وأن المراد على تقدير
مواضع الصلاة بلا تيمم يعني لا يجوز دخول الجنب بغير طهور ولو بالتيمم المسجد
إلا عابرا مع التيمم وهو ظاهر، وحينئذ ما يفهم كون المتيمم جنبا ولا عدم

(1) التهذيب ج ص 1951، الكافي ج 3 ص 63.
27

[جواز] دخوله المسجد فبقي ما ذكرناه من الأدلة سالما عن المعارض فتأمل.
" إن الله كان عفوا غفورا " أي كثير الصفح والتجاوز كثير المغفرة والستر
على ذنوب عباده.
الثالثة: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا
الصلاة ويؤتوا الزكاة (1).
لعل المأمورين هم الأناس المكلفون أو الكفار فقط، وهو أظهر بحسب
اللفظ والأول بحسب المعنى " مخلصين " حال عنهم " والدين " مفعوله " وحنفاء "
حال آخر و " يقيموا ويؤتوا " عطف على " يعبدوا " أي أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين
له ما يوجب الدين أي الجزاء والأجر وهي العبادة ولا يعبدوا غيره ولا يشركوه
في عبادة الله، وفيها إشارة إلى أن الرئاء شرك فتأمل " حنفاء " أي مائلين عن
الطريق الباطل إلى طريق الصواب والحق فهو تأكيد لحصر العبادة في الله المفهوم
من قوله " إلا " بعد تأكيده بالإخلاص، وعطف يقيموا ويؤتوا يدل على زيادة
الاهتمام بشأن الصلاة والزكاة.
واستدل بها على وجوب النية في العبادات كلها حتى الطهارات مائية و
ترابية، وفي الدلالة تأمل ظاهر، خصوصا على ما فسر البيضاوي وما أمروا أي الكفار
في كتبهم، نعم يمكن الاستلال بها على إيقاع ما ثبت كونها عبادة شرعية على وجه
الإخلاص لا غير، وأما النية على الوجه الذي ذكرها الأصحاب فلا، وهم أعرف
ويدل أيضا على وجوب التعبد وهو واضح، والدليل عليه كثير، بل لا يحتاج
إلى الدليل ويؤكده " وذلك دين القيمة " أي دين الملة المستقيمة الحقة ويحتمل
كون المراد بالدين التعبد أي إيقاع العبادة مخلصا وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
هو التعبد بالملة المستقيمة وهي شريعة نبينا صلى الله عليه وآله وكون الإضافة بيانية. وتقدير
الملة الذي فعله المفسرون لإظهار موصوف القيمة فإنها صفة، وأما ما قاله في مجمع

(1) البينة: 5.
28

البيان: تقديره دين الملة القيمة لأنه إذا لم يقدر ذلك كان إضافة للشئ إلى صفته، و
ذلك غير جائز لأنه بمنزلة إضافة الشئ إلى نفسه، فغير واضح: لأن الكوفيين
يجوزونها والذين لم يجوزوها إنما لم يجوزوها مع إفادة معنى الصفتية لا مطلقا وهو
مصرح، ولهذا يجوز الإضافة البيانية بالاتفاق وعلى تقدير العدم، فالفرق بين إضافته
إلى الملة والقيمة غير واضح، خصوصا مع القول بكون الصفة والموصوف بمنزلة شئ
واحد فافهم والقائل به أعرف.
وقريب منه قوله " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " أي أمر ربك أمرا مقطوعا به
أي حكم وقال: لا تعبدوا إلا إياه، أي يجب أن تعبدوا الله وحده ولا تعبدوا غيره
فتجب العبادة لله وتحرم لغيره، فتدل على الإخلاص فافهم، أو حكم بأن لا تعبدوا
فعلى الأول أن مفسرة وعلى الثاني صلة، مع حذف الباء عنها، وهو قياس مطرد
عندهم.
الرابعة " أنه " أي المنزل " لقرآن كريم " (2) صفة أي قرآن حسن مرضي
أو كثير النفع " في كتاب مكنون " صفة بعد أخرى أو خبر بعد خبر أي مستور عن
الخلق في لوحه المحفوظ " لا يمسه إلا المطهرون " صفة لقرآن أو كتاب أو خبر إن.
قيل: تدل على عدم جواز مس القرآن للمحدث مطلقا وهو موقوف على
كونه خبرا بمعنى النهي وكونه صفة لقرآن أو خبر إن بتقدير مقول فيه لا يمسه
إلا المطهرون ورجوع ضمير لا يمسه إلى القرآن أو إلى المنزل. والرجوع إلى
كتاب مكنون وكونه صفة له محتمل واضح مذكور في الكشاف ويكون المراد
حينئذ بالمطهرون الملائكة المطهرون من الذنوب مع بقائه بمعناه الخبري وجواز
كونه صفة لقرآن وخبر إن باعتبار ما كان، والأصل يؤيده وليس ههنا إجماع
ولا خبر صريح صحيح والاحتياط واضح.
الخامسة " فيه " أي في مسجد قبا " رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب
المتطهرين " (3) وفي سبب النزول دلالة على استحباب الجمع بين الأحجار والماء

(1) الإسراء: 23.
(2) الواقعة: 76.
(3) براءة: 109.
29

في الاستنجاء والمبالغة في الاجتناب عن النجاسات وأن العلم لا يحتاج [إليه] ظ للعمل
في مثل ذلك فتأمل.
قيل لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وآله: يا معشر الأنصار ما الذي صنعتم فقد نزلت
فيكم؟ فخافوا أن نزلت فيهم ما يسوؤهم بفعلهم ذلك، فقالوا: نتبع الأحجار الماء، فتلا
النبي صلى الله عليه وآله " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " الخ [وقال:] فقد أثنى عليكم (1) فطابت
نفوسهم على محبتهم وحرصهم على التطهير من النجاسات كحرص المحب على المحبوب
ومحبة الله إياهم أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه، وهي
تشعر بالمدح على فعل مقدمات العبادات.
وتدل على حصول الأجر، بالسعي في عمل الخير من المقدمات القريبة و
البعيدة، حتى الخطوات في تحصيل الحج وغير ذلك مع بعض الأخبار قوله تعالى:
" ذلك بأنهم " أي المسلمين المجاهدين " ولا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل
الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل
صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون
واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون (2) " أي كتب لهم ذلك
العمل من الانفاق وقطع الوادي، أو كتب لهم به عمل صالح فيدل على استحباب
ما يتوقف عليه المستحب، بل على وجوب ما يتوقف عليه الواجب فتأمل (3).
السادسة: وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم
رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام (4).

(1) راجع تفسير العياشي ج 2 ص 111 و 112، الوسائل أبواب أحكام الخلوة الحديث
الأول من الباب 34، تفسير البيضاوي ص 180 ط إيران.
(2) براءة: 120.
(3) قيل: لأنه يمكن أن يقال الذي يفهم من ظاهر الآية المدح على ارتكاب الأولى و
الأحسن وذلك لا يدل على الوجوب.
(4) الأنفال: 1.
30

فيها دلالة على كون الماء طاهرا ومطهرا ويتطهر به ويرفع حدث الجنابة به
وأن الاحتلام من الشيطان، ويحتمل أن يراد من رجز الشيطان المني، ويدل
على نجاسته فتأمل فيه قال في الكشاف: رجز الشيطان ورجسه تخييله ووسوسته إليهم
وتخويفه إياهم من العطش، وقيل الجنابة، وذلك أن إبليس تمثل لهم وكان
المشركون قد سبقوهم إلى الماء ونزل المؤمنون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام
على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم، فقال لهم: أنتم يا أصحاب محمد! تزعمون
أنكم على الحق، وإنكم تصلون على غير الوضوء وعلى الجنابة، وقد عطشتم، ولو
كنتم على الحق ما سبق عليكم هؤلاء على الماء، وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم
العطش، فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم
إلى مكة، فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا، فأنزل الله مطرا فمطروا ليلا حتى جرى
الوادي، واتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه الحياض على عدوة الوادي، وسقوا
الركاب، واغتسلوا وتوضؤوا وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدو حتى
ثبتت عليه الأقدام وزالت وسوسة الشيطان وطابت النفوس.
ويؤيد هذه الآية آيات أخر مثل قوله تعالى " وأنزلنا من السماء ماء طهورا
لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا (1) " وهي تدل على
إباحة الماء وجواز التصرف فيه أي تصرف كان، حتى يثبت المانع.
وقريب منه قوله " وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض، وإنا
على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه
كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين (2).
فيه دلالة على إباحة الماء والنخل والعنب والزيتون وفي قوله تعالى " وإن
لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون
وعليها وعلى الفلك تحملون " دلالة على الانتفاع بالأنعام مثل الإبل والبقر: يحل

(1) الفرقان: 50.
(2) المؤمنون: 18 - 19 وما بعدها ذيلها.
31

أكلها وسائر الانتفاعات وكذا الجلوس في السفينة.
ويدل عليه أيضا " فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله
الذي نجينا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين (1) "
وتدل على رجحان قول ذلك بعد الجلوس في الفلك. وقوله " منزلا " إما اسم مكان
محل النزول، أو مصدر ميمي أي إنزالا مباركا كثير الخير والبركة، والظاهر
استحبابه في مطلق المنزل، كما ورد به الرواية (2).
ويستحب بعد ركوب الدابة تلاوة قوله تعالى " سبحان الذي سخر لنا هذا
وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون " (3) وقوله تعالى: " والحمد لله رب
العالمين ".
السابعة: ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في
المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (4).
قيل: كانوا في الجاهلية يمتنعون عن مؤاكلة الحيض ومشاربتهن ومجالستهن
فسألوا عن ذلك فنزلت، والمحيض مصدر كالمجئ والمبيت يعني يسألونك يا محمد عن
الحيض وأحكامه قل يا محمد إنه أذى، أي قذر ونجس وموذ لمن يقربه، للنفرة منه
" فاجتنبوا النساء في المحيض " أي مجامعتهن في الفرج زمان الحيض، وهو عن
ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة ومجاهد ومحمد رفيق أبي يوسف وهو مذهب
أكثر أصحابنا، ويدل عليه أنه المتبادر من اعتزالهن، إذ المقصود من معاشرتهن

(1) المؤمنون: 28
(2) فقيه من لا يحضره الفقيه الباب 101 راجع ج 2 ص 195.
(3) الزخرف: 13.
(4) البقرة: 222.
32

هو الجماع في الفرج، والأصل (1) والاستصحاب وبعض الروايات والشهرة و
الكثرة، وسهولة الجمع بينها وبين ما ينافيها (2) بالحمل على الاستحباب، والامتناع
عن مطلق الدخول، بل مطلق الانتفاع منهن حينئذ حسن، وعدم المقاربة بالتعانق
والتقبيل أحوط.
وقيل: اجتنبوا عما تحت الإزار فيحل ما فوقه وهو مذهب أبي حنيفة و
أبي يوسف وكونه مذهبا للشافعي أيضا كما قاله في مجمع البيان غير ظاهر مع
أنه نقل عن الشافعي أنه قال اجتنبوا مجامعتهن لقوله صلى الله عليه وآله إنما أمرتم أن
تجتنبوا مجامعتهن إذا حضن، ولم يأمركم بإخراجهن عن البيوت كفعل الأعاجم.
ولم يسنده أيضا في الكشاف إلا إلى أبي حنيفة وأبي يوسف ونقل عن عايشة أنها
قالت تجتنب شعار الدم (3) وله ما سوى ذلك وأنت تعلم عدم فهم هذا المعنى من الآية
فالحمل عليه بعيد موجب للإجمال الذي هو منفي عن القرآن العزيز إلا عند
الضرورة، وليس له دليل إلا ما نقل محمد صاحب أبي يوسف عن عائشة أن عبد الله بن
عمر سألها هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت تشد إزارها على سفلتها
ثم ليباشرها إن شاء، وما روى زيد بن أسلم أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله ما يحل
لي من امرأتي وهي حائض؟ قال لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها.
ثم قال محمد: وهذا قول أبي حنيفة، وقد جاء ما هو أرخص من هذا عن عائشة
أنها قالت تجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك. وأنت تعلم بعد تسليم صحة الإسناد
أن الأول منقول عن عايشة وقولها ليس بحجة وما أسندته إليه صلى الله عليه وآله ودلالته
أيضا ليست بصريحة والثاني غير معلوم الصحة وليس بعام ولا صريح، ومع ذلك

(1) أي ويدل عليه سوى التبادر الأصل الخ.
(2) وذلك لأن روايات الباب على طائفتين طائفة تحكم بالاجتناب مطلقا، فتحمل على
الاستحباب وطائفة أخرى تقصر وجوب الاجتناب على المجامعة في الفرج فيؤخذ به.
(3) الشعار: الثوب الذي يلي الجسد، والمراد بشعار الدم، الثوب الذي يجعل على
الفرج ليقي الدم.
33

يقبل الحمل على الاستحباب، للجمع بين الأدلة، كما يفهم أنه فعله محمد حيث قال:
وقد جاء أرخص.
" ولا تقربوهن " تأكيد للاعتزال، وبيان لغايته، وهو مؤيد للمعنى الأول
إذ الظاهر من مقاربة النساء هو ذلك. وأما الغاية فقراءة التخفيف يدل على أنه
انقطاع الدم كما هو مذهب أكثر الأصحاب ويدل عليه بعض الروايات والجمع
بين الروايات والقراءات، إذ تحمل قراءة التشديد وبعض الروايات الأخر على
عدم الرجحان المطلق إلى حين الغسل: التحريم قبل الانقطاع والكراهية بعده إلى
حين الغسل، وقراءة التشديد يدل على أنها إما الغسل أو الوضوء أو غسل الفرج
بعد الانقطاع.
والأول مذهب الشافعي ومنسوب إلى بعض الأصحاب وهو ابن بابويه
والظاهر أنه ليس كذلك (1) ولا بد له من حمل قراءة التخفيف أيضا على الغسل
للجمع بين القراءتين، حتى يصح هذا، وقال في الكشاف وذهب الشافعي إلى
أنه لا يقربها حتى تطهر وتطهر فيجمع بين الأمرين وهو قول واضح، ويعضده
" فإذا تطهرن ". كأنه يريد ذلك وإلا فغير واضح إذ بين غاية التخفيف والتشديد
منافاة ولا يمكن الجمع إلا على ما قلنا وأشار إليه القاضي وكأن في مجيئه كذلك
مناقشة سهلة.
والثاني مختار صاحب مجمع البيان، حيث قال: واختلف فيه أي في غاية
تحريم الوطي فمنهم من جعل الغاية انقطاع الدم، ومنهم من قال إذا توضأت أو
غسلت فرجها حل وطيها عن عطا وطاوس، وهو مذهبنا (1) وما اختاره ما نعرف

(1) فإنه قال في الفقيه ج 1 ص 53 (ط - النجف) ولا يجوز مجامعة المرأة في حيضها
لأن الله عز وجل نهى عن ذلك فقال: " ولا تقربوهن حتى يطهرن " يعني بذلك الغسل من
الحيض، فإن كان الرجل شبقا - مغرما - بالجماع وقد طهرت المرأة وأراد أن يجامعها قبل الغسل
أمرها أن تغسل فرجها ثم يجامعها.
(2) قال الشيخ في الخلاف: إذا انقطع دم الحيض جاز لزوجها وطيها إذا غسلت فرجها، سواء
كان ذلك في أقل الحيض أو في أكثره، وإن لم تغتسل، وقال أبو حنيفة: إن أنقطع دمها
لأكثر مدة الحيض وهو عشرة أيام حل وطيها، ولم يراع غسل الفرج وإن انقطع دون العشرة
أيام لم يحل ذلك إلا بعد أن توجد ما ينافي الحيض، وهي أن تغتسل أو تتيمم وتصلي، فإن
تيممت ولم تصل لم يجز وطيها فإن خرج عنها الوقت ولم تصل جاز وطيها، وقال الشافعي لا
يحل وطيها إلا بعد أن تستبيح فعل الصلاة إما بالغسل مع وجود الماء أو بالتيمم عند عدمه
فأما قبل استباحة الصلاة فلا يجوز وطيها على حال.
ثم استدل الشيخ رحمه الله على جواز ذلك بالآية الشريفة ثم قال: وعليه إجماع الفرقة
ثم نقل الأحاديث في ذلك فراجع، والعجب من المصنف قدس سره حيث قال قبل ذلك بأسطر:
" وأما الغاية فقراءة التخفيف يدل على أنه انقطاع الدم كما هو مذهب أكثر الأصحاب " إلى آخر
كلامه، فاعترف بأن تحريم الوطي غايته انقطاع الدم عند الأكثر، ثم يقول ههنا: " وما اختاره
ما نعرف مذهبا لأصحابنا ".
34

مذهبا لأصحابنا وهو أعرف بما قال، ومعلوم زواله بالغسل ولنا في تحقيق هذه
الآية مع الأحكام رسالة جامعة للأقوال والأبحاث وتحقيق المقال فمن أرادها
فعليه بمطالعتها، وأما مذهب أبي حنيفة على ما ذكره في الكشاف فبعيد عن الآية
كثيرا ولا وجه له، وهو أنه إن كان لأكثر الدم فيحرم إلى انقطاع الدم وفي
أقله إلى بعد الغسل أو بعد مضي وقت صلاة كامل مع أنه بقي حكم الوسط إلا أن يريد
بالأقل غير الأكثر أو العكس.
وأنت تعلم بعد إرادة الله تعالى مثل هذا المعنى عن هذه الآية، مع احتياج
الخلق في أكثر الأوقات إلى حكمها، سيما مع عدم بيان واضح، ومعلوم عدم
ذلك، وإلا لما اختلف الفقهاء وما يختفي عن مثل الشافعي وغيره، فالعقل يجزم
بعدم إمكان إرادة هذا المعنى من هذه فتأمل ولا تقل على الله ما لا تعلم فإن الذي
تتخيل من استحسان العقل من عدم الاحتياج إلى الصبر إذا كان الدم كثيرا
واحتياجه في القليل، باطل بطلانا واضحا، وزمان الغسل قليل جدا وإن وقت
الصلاة حينئذ لا معنى له، ويمكن الاعتبارات التي أحسن منها، مثل كونها حارة
المزاج أو الباردة وكونها في البلاد الحارة أو الباردة وكونها قريبة إلى سن
35

الصغر وسن اليأس وغيرها مما لا يتناهى فلا يمكن، الجرأة في الأحكام الإلهية بمثل
هذه الأشياء.
" فإذا تطهرن فآتوهن " أي، فجامعوهن فالأمر بالجماع للإباحة بالمعنى
الأخص أو بالمعنى الأعم فيمكن حينئذ الأحكام الأربعة فيه " من حيث أمركم
الله " من قبل الطهر لا من قبل الحيض عن السدي والضحاك، وقيل من قبل النكاح
دون الفجور عن ابن الحنفية، والأول أليق قال الزجاج معناه عن الجهات التي
يحل فيها، ولا تقربوهن من حيث لا يجوز مثل كونهن صائمات أو محرمات
أو معتكفات، وقال الفراء: ولو أراد الفرج لقال في حيث فلما قال " من حيث "
علمنا أنه أراد من الجهة التي أمركم الله فيها كذا في مجمع البيان " إن الله يحب
التوابين ويحب المتطهرين " أي بالماء، ويدل عليه سبب نزول قوله تعالى " فيه
رجال (1) " الآية المشهورة، وقيل التوابين من الكباير، والمتطهرين من الصغاير
كأنه بالتوبة أيضا، أو بأنهم لم يفعلوها، ولم يذكر المطهرات لدخولهن في
المطهرين كما في كثير من الأحكام، أو يكون المراد بهما التائبين عن الدخول في
الحيض والمتنزهين عنه (2).

(1) براءة: 108.
(2) أقول، والذي يحصل بعد التدبر في الآية الشريفة - وهو الظاهر منها - أن
الحائض لها ثلاثة أحوال - حالة الطمث التي تجري من رحمها الدم، وقد حرم وطيها بصريح
الآية الشريفة " فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن " وحالة أخرى بعدها قد نقيت
الرحم من الدم، لكنها لم تغتسل عن قذارة الدم وتبعتها وهي العرق والأرواح الخبيثة
التي صاحبتها، والآية الشريفة ساكتة عن حكمها، وحالة أخرى بعد الاغتسال وهو غسل
البدن كلها، والآية " فإذا تطهرن فآتوهن " تصرح بجواز إتيانها فإن الأمر عقيب الحظر
لمطلق الإباحة والجواز - بل تدعو إلى إتيانها بقوله " من حيث أمركم الله " يعني بذلك قوله
تعالى " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ".
والكلام في الحالة الثانية فأما أن نسكت عما سكت الله، وأما أن نتدبر في ذلك والتدبر
يقتضي الكراهية، لأن الحيض الذي كان بصريح الآية أذى موجبا للاعتزال قد ذهب وحصل
النقاء، فلا حرمة، لكنه لم يطب بعد وطيها بحكم الآية الشريفة فإن الآية إنما استطاب وطيها
وأمر به بعد التطهير المطلق وهو الاغتسال الشرعي (فإن عدم تقييد التطهير بعضو دون
عضو كما في غسل الجنابة يقتضي الاستيعاب) فإذا لم تتطهر ولم تغتسل بعد، حكمنا بعدم الاستطابة
وهو معنى الكراهية، ودون ذلك في الكراهية ما إذا تطهرت لكن مقيدا بغسل الفرج من قذارة
الدم، لا بالإطلاق كما هو مفاد الآية الشريفة. ولذلك أفتى أهل البيت عليهم السلام بجواز
وطيها خصوصا إذا غسلت فرجها مع شبق زوجها كما في حديث محمد بن مسلم عن أبي جعفر
عليه السلام أو بدونه كما في حديث علي بن يقطين عن أبي عبد الله عليه السلام.
36

الثامنة: إنما المشركون نجس، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم
هذا (1).
النجس القذر، ظاهرها حصر أوصاف المشركين في النجاسة أي ليس لهم
وصف إلا النجاسة، فالحصر إضافي بالنسبة إلى الطهارة أي لا طهارة لهم.
فقول الفخر الرازي: حصر الله تعالى في هذه الآية الشريفة النجاسة في المشركين
أي لا نجس غيرهم، وعكس بعض الناس ذلك وقال لا نجس إلا المسلم، حيث ذهب
إلى أن الماء الذي استعمله المسلم في رفع الحدث مثل الوضوء والغسل نجس
فالمنفصل من أعضائه من ذلك الماء حينئذ نجس بخلاف الماء الذي استعمله المشرك
فإنه طاهر لعدم إزالة حدثه (2) باطل أراد منه أبا حنيفة فإنه الذي ذهب إلى ذلك
على ما هو المشهور وفيه تعريض عظيم على أبي حنيفة، حيث إنه عكس ما قال
الله تعالى، مع أنه ليس في محله على ما عرفت.

(1) براءة: 28.
(2) قال في تفسيره الكبير بعد كلام له في مدلول الآية الشريفة ودلالتها على نجاسة
المشرك، واعلم أن قوله تعالى " إنما المشركون نجس " يدل على فساد هذا القول، لأن
كلمة " إنما " للحصر، وهذا يقتضي أن لا نجس إلا المشرك، فالقول بأن أعضاء المحدث
نجسة مخالف للنص، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس وفي أن المؤمن
ليس بنجس، ثم إن أقواما - يعني الحنفية - قلبوا القضية وقالوا: المشرك طاهر والمؤمن
حال كونه محدثا أو جنبا نجس، وزعموا أن المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت
طاهرة مطهرة، والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة، وهذا
من العجائب.
37

ومنه يعلم أن مذهبه نجاسة المشركين نجاسة عينية كما هو الظاهر المتبادر
لغة وعرفا، فيجب الحمل عليه، وهو مذهب الإمامية وابن عباس حيث نقل
الكشاف والبيضاوي أنه قال أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وعن الحسن أنه
قال: من صافح مشركا توضأ أي غسل يده فحمل الآية على أنهم ذو نجاسة لأن معهم
الشرك الذي هو بمنزلة النجس، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون
النجاسات كما فعله صاحب الكشاف والبيضاوي بعيد من جهة جعلهما [النجس] ظ
بمعنى ذي النجاسة وجعل الشرك بمنزلته مع عدم ظهور ذلك أيضا وإخراج القرآن عن
الظاهر بغير دليل وهو غير جائز عقلا ونقلا.
وزاد القاضي بعد قوله فهم ملابسون لها غالبا قوله: وفيه دليل على أن ما
الغالب فيه النجاسة نجس (1) وأنت تعلم أن عدم التطهير والاجتناب غالبا لا يستلزم
نجاستهم حقيقة، نعم يظن كونهم ذوي نجاسة، والأصل في الأشياء الطهارة ما لم
يعلم أنه نجس، فالحكم بالنجاسة حقيقة لا معنى له حينئذ: فكأنه على وجه المجاز و
حينئذ لا دليل فيه إذ لا يلزم من تسميتهم بالنجاسة مبالغة للغلبة، كونهم [ذوي]
نجاسة حقيقة فضلا عن نجاسة غيرهم مما الغالب فيه ذلك، بل لا يلزم صحة إطلاقها
عليه مجازا لعدم اطراد المجاز نعم لو قيل بالنجاسة حقيقة وعلم أن لا دليل لها إلا
الغلبة وقيل بصحة القياس قيل بنجاسة ما الغالب فيه أيضا للقياس، ولكن لا شك
في أنها مرتبة خاصة من الغلبة، فمن غلبتها لنجاستهم لا يعلم كون كل غلبة
كذلك إذ قد يكون مرتبة منها علة ولا يكون ما دونها كذلك، وأيضا يلزمه كون
المسلم الغالب نجاسة بدنه نجسا فلا يعذر قائله (2) ويجب اجتنابه. وليس كذلك.
ثم إن الظاهر من المشرك هو الذي أثبت للواجب شريكا، فهو غير الموحد
فلا يدخل الموحد الكتابي ويحتمل أن يجعل الجميع مشركا لقوله تعالى " عزير
ابن الله والمسيح ابن الله " إلى قوله " تعالى عما يشركون (3) " وقد استدل به

(1) تفسير البيضاوي ص 172.
(2) أي إذا قال له: أنت نجس.
(3) براءة: 30 و 31، والآية هكذا: وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى
المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل، قاتلهم الله أنى
يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا
ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون.
فالظاهر من الآية أن المراد بالشرك شرك العبادة والطاعة وقلما تنجو منه أمة من
الأمم، وأما قولهم بأن عزيرا ابن الله أو المسيح ابن الله، فكقول اليهود عامة " نحن أبناء
الله " ولم يعن علماؤهم من الأحبار والرهبان أنهما ابنا الله حقيقة، بل على التأويل، وقولهم
هذا ليس بكفر بل يضاهي قول الذين كفروا وقد خرج عن أفواههم لا عن قلوبهم وإنما قالوا
ذلك تخليطا وتطبيقا لمذاهب الوثنية وترغيبا في دخولهم في أديانهم واستجلابا لأنظارهم
وأفكارهم.
38

على شرك الكل أيضا صاحب الكشاف في غير هذا الموضع فتأمل فيه ويستفاد من
الآية أحكام:
منها كون المشرك نجسا، ويتفرع عليه نجاسة ما باشره من المايعات كما
ينجس سائر الأشياء بملاقات النجاسة رطبا فقوله تعالى: " طعامهم حل لكم " (1) يراد
به الحبوب كما ورد به الرواية (2) ويحتمل كون المراد حلية طعامهم من حيث
إنه طعامهم (3) أي أنه لا يصير الطعام بمجرد أنه طعامهم حراما بل، إنما يحرم

(1) المائدة: 5، والآية هكذا، اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب
حل لكم وطعامكم حل لهم ".
(2) راجع تفسير العياشي ج 1 ص 296، وقد قال جمع من أساطين اللغة بأن المراد بالطعام
في عرف أهل الحجاز البر خاصة، وراجع مقاييس اللغة لابن فارس، النهاية لابن الأثير، وقال
الجوهري الطعام، ما يؤكل، وربما خص بالطعام البر، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه
" كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله صاعا من طعام، أو صاعا من
شعير ".
(3) يعني أن إطلاق الآية الشريفة إنما هو من جهة إضافة الطعام إليهم إضافة الملك، و
لذلك قال: " وطعامكم حل لهم " يعني أنه لا بأس بأن تبيعوا طعامكم منهم كما أن لا بأس
بأن تشتروا أنتم طعامهم، وليس لها إطلاق من حيث المباشرة وصنع الطعام أو من حيث جنس
الطعام حتى يحل لحم الخنزير والخمر وغير ذلك.
39

منه ما نجس بملاقات النجس فتأمل.
ومنها كون الكفار مكلفين بالفروع
ومنها عدم جواز دخولهم في المسجد الحرام صريحا فإن المراد ذلك والنهي
عن القرب للمبالغة كما في قوله " فلا تقربوا الزنا " (1) والحمل على الحج والعمرة
كما فعله أبو حنيفة بعيد غير مفهوم، ولا ينافيه الخبر الدال على منعهم عن الحج
والعمرة ولا يضر عدم دلالته على المنع عن دخول المسجد فاستدلال أبي حنيفة به عليه
غير جيد، ويمكن فهم تحريم دخولهم المسجد مطلقا أي مسجد كان.
[ومنها عدم تمكين المسلمين لهم بمعنى منعهم عن دخوله، بل قيل هو المراد
من النهي] (2).
ومنها عدم جواز إدخال مطلق النجاسة المسجد، وإن لم يتعد، كما هو
مذهب العلامة. للتعليل المفهوم فإن عدم دخولهم المسجد متفرع على نجاستهم
فكأنه قيل لا يدخلون المسجد لأنهم أنجاس والأنجاس لا يجوز دخولهم المسجد
لاستلزام كون النجاسة في المسجد ويؤيده وجوب تعظيم شعائر الله، وما روي من
قوله صلى الله عليه وآله جنبوا مساجدكم النجاسة (3) فيجب إزالة النجاسة عن المسجد بالطريق
الأولى. ولكن الآية ليست بصريحة لاختصاص الحكم بنجاسة الشرك ولم يثبت
وجوب تعظيم الشعائر إلى هذه المرتبة، والرواية ما تعرف سندها فضلا عن صحتها
ولهذا ذهب الأكثر إلى عدم الجواز مع التعدي لا بدونه، ولعل دليلهم الاجماع
مؤيدا بما تقدم من التعظيم، والخبر مع الحمل على التعدي.
التاسعة: يا أيها الذين آمنوا - وجه التخصيص قد تقدم - إنما الخمر
والميسر والأنصاب والأزلام رجس (4).

(1) أسرى: 32.
(2) ما بين العلامتين لا توجد في نسخة عتس.
(3) الوسائل أبواب أحكام المساجد الباب 24. وقال الشهيد: لم أقف على إسناد
الحديث.
(4) المائدة: 90.
40

قيل: قذر يعاف عند العقول وإفراده لأنه جنس أو لأنه خبر للخمر، وخبر
المعطوفات محذوف من جنسه، ويدل هو عليه: أو المضاف محذوف، وكأنه قيل
إنما تعاطي الخمر الآية ويحتمل أن يكون خبرا عن كل واحد واحد " من عمل
الشيطان " صفة رجس أو خبر آخر، نسب إليه لأنه من تزيينه.
" فاجتنبوه " يحتمل كون الضمير راجعا إلى كل واحد من المذكورات
أو المنهي عنه المفهوم، أو الرجس، أو عمل الشيطان، أو التعاطي، " لعلكم
تفلحون " لكي تفلحوا بالاجتناب عما نهي عنه، وفي الآية مبالغة زائدة من وجوه
شتى في تحريم الخمر والميسر من جهة المقارنة بالأصنام التي عبادتها كفر، و
الحصر بأنه ليس إلا الرجس، ثم كونه من عمل الشيطان. ثم الأمر بالاجتناب
بعد ذلك كله والتصدير بأنما والإشعار بأن شاربها لا يفلح ثم التأكيد ببيان
ضررها بقوله " إنما يريد الشيطان " و " فهل أنتم منتهون " (1) وبعده بالأمر
بطاعة الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه، والحذر. وغير ذلك فتأمل.
وفي الآية دلالة على تحريم تعاطي هذه الأشياء المذكورة في الخمر بالشرب
قال في مجمع البيان الخمر عصير العنب المشتد وهو العصير الذي يسكر كثيره، ونقل
عن ابن عباس أن المراد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر " والميسر " أي القمار
كله بلعبه " والأنصاب " بالتعظيم والعبادة لها جمع نصب، وهو الصنم " والأزلام "
بالاستقسام وهي الأقداح والسهام كانوا يستقسمون به لحوم الجزور في الجاهلية
ونهوا عنه وهو مشهور قال في مجمع البيان في الكلام حذف والمعنى شرب الخمر
وتناوله أو التصرف فيه وعبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام " رجس " أي خبيث
إلى قوله: والرجس واقع على الخمر وما ذكر بعدها.
وفي هذه الآية دلالة على تحريم سائر التصرفات في الخمر من الشرب والبيع

(1) والآية ذيل الآية السابقة هكذا: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء
في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون، وأطيعوا الله وأطيعوا
الرسول واحذروا الآية.
41

والشراء والاستعمال على جميع الوجوه ولا دلالة فيها على نجاسة الخمر، ولهذا
قال الصدوق: إن الله عز وجل حرم شربها لا الصلاة في ثوب إصابته فتأمل والأخبار
مختلفة في ذلك، والأصل يؤيده، نعم إن ثبت كون الرجس بمعنى النجس الشرعي
فقط لدلت عليها لكن قال في القاموس (1) إن الرجس بالكسر القذر وبحرك وتفتح
الراء وتكسر الجيم والمأثم وكل ما استقذر من العمل، والعمل المؤدي إلى العذاب و
الشك والعقاب والغضب، ورجس كفرح وكرم رجاسة عمل عملا قبيحا.
قال في مجمع البيان قال الزجاج: الرجس في اللغة اسم لكل ما استقذر من
عمل يقال رجس يرجس إذا عمل عملا قبيحا فالإجماع الذي على كون الرجس بمعنى
النجس في التهذيب غير معلوم، بل كونه بمعنى النجس الشرعي، إذ ما يفهم ذلك
إلا من القذر، وكونه بذلك المعنى غير ظاهر، والظاهر أنه بمعنى المأثم أو
الفعل المؤدي إلى العقاب أو القبيح كما في آية التطهير ليصح كونه خبرا عن
الميسر وغيره أيضا وإن سلم مجيئه بمعنى النجس وبالجملة لا دلالة فيها على نجاسة
الخمر وهو ظاهر بل لا دلالة في الأخبار (2) أيضا لاختلافها والجمع بحمل ما
يدل على وجوب الغسل على الاستحباب أولى من حمل ما يدل على عدمه على التقية (3).
العاشرة: وثيابك فطهر (4).
قيل في معناه أمور كثيرة، والمتبادر هو الأمر بتطهير الثياب عن النجاسات
مؤيدا بأن الكفار ما كانوا يتطهرون من النجاسة بأن لا تنجسها وإن نجست

(1) يفهم منه كون القذر ليس بمعنى النجاسة الشرعية فافهم، منه رحمه الله.
(2) الوسائل الباب 38 من أبواب النجاسات.
(3) وممن قال بطهارة الخمر: الصدوق وأبوه والجعفي والعماني من المتقدمين و
جماعة من المتأخرين كالمحقق الخوانساري وصاحب المدارك وقال به من أهل السنة ربيعة
شيخ الإمام مالك، وحكي عن حبل المتين أنه قال: أطبق علماؤنا الخاصة والعامة على نجاسة
الخمر، إلا شرذمة منا ومنهم لم يعتد الفريقان بمخالفتهم.
(4) المدثر: 4.
42

تطهرها بالماء المطلق لأنه المفهوم من التطهير إذ لا عرف في التطهير بغيره، فدلت
على وجوب طهارة الثياب، وكونها بالماء المعروف لا غير، وأن صدقة يكفي
للطهارة من غير عصر، ولا ورود ولا عدد، إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو خبر
والتفصيل معلوم من كتب الفروع، وإن أريد تقصير الثياب كما قيل ونقل عن
الصادق عليه السلام أيضا فيمكن فهم الطهارة حينئذ أيضا لأنها المقصود من التقصير كما
علل القائل به، وفي الرواية تشمير الثياب طهور لها، قال الله تعالى " وثيابك فطهر "
أي فشمر (1) ويحتمل أن يكون المراد التنظيف الذي هو الطهارة لغة، فإن النظافة
مطلوبة للشارع بإزالة الوسخ ونحوه، ففهم وجوب الطهارة الشرعية محل تأمل
ولكن ظاهر الأمر الوجوب، ومعلوم عدم الوجوب غير الشرعية، ولهذا على تقدير
حملها على الشرعية ما حملت على الأعم من أن يكون فيما يجب إزالة النجاسة فيه
مثل الصلاة، أم لا. بل خصت بالأول فتأمل " والرجز فاهجر " أي خص الرجز
بوجوب الاجتناب، والحصر إضافي أو يكون التقديم لغيره، قيل الرجز بالضم
والكسر هو الصنم، والمراد عدم عبادته وعدم تعظيمه والثبات على هجره، فإنه
صلى الله عليه وآله كان بريئا منه، لم يزل ولا يزال، ويحتمل أن يكون
المراد أعم، فيدخل غيره صلى الله عليه وآله وترك من أهله (2) ورعيته أو كسره وإهانته بمهما
أمكن له صلى الله عليه وآله أو أعم، وقيل الرجز هو العذاب والمراد وجوب اجتناب موجبه وهو
الشرك وعبادة الأصنام وغيره من المعاصي مطلقا، وقيل بالضم الصنم وبالكسر
العذاب قال في القاموس الرجز بالكسر والضم: القذر وعبادة الأوثان، والعذاب
والشرك، فعلى الأول يكون تأكيدا لقوله " وثيابك فطهر " وتفسيرا له وهو هنا
المناسب لتكبير الصلاة وطهارة الثياب وعلى هذا حمل في بعض استدلالات الأصحاب
وقيل معناه أخرج حب الدنيا عن قلبك لأنه رأس كل خطيئة.

(1) الكافي ج 6: 455.
(2) عطف على قوله المراد عبادته الخ.
43

الحادية عشرة: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك
للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (1).
الابتلاء هو الاختبار والامتحان والكلمات هي التكاليف الشاقة على بعض
الاحتمالات مثل ذبح الولد وغيره من تكاليفه المذكورة في التفاسير، وقيل هي السنن
الحنيفية العشر خمس في الرأس وخمس في البدن أما الرأس فالمضمضة، والاستنشاق
والفرق، وقص الشارب، والسواك، وأما البدن فالختان، وحلق العلة، و
تقليم الأظفار، ونتف الإبطين والاستنجاء بالماء (2) ونسخ شريعة نبينا صلى الله عليه وآله شريعة
من قبلنا لا ينافي إثبات بعض أحكامها لأن المراد نسخ المجموع من حيث هو مجموع
والاتمام هنا هو فعل التكاليف تاما، وعلى ما أمر به، والإمام: المقتدى به في أفعاله
وأقواله، وهو أحد معنيي الإمام في مجمع البيان وفي الكشاف هو اسم لمن يؤتم
به كالإزار لما يؤتزر به، يعني يأتمون بك في دينهم، والذرية هو النسل ومن يحصل
من الشخص من الأولاد، والنيل هو الوصول والإدراك، والعهد هو الإمامة كما
هو الظاهر وفي مجمع البيان وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
والظلم كأنه الفسق الذي يصير به الانسان غير عدل كما يفهم من الكشاف
حيث قال فيه: وأنما ينال عهدي من كان عادلا بريئا من الظلم، وإذ ظرف أذكر
المحذوف في أمثاله، والمخاطب هو نبينا صلى الله عليه وآله. وإبراهيم مفعول ابتلى " وربه "
فاعله، والضمير المضاف إليه راجع إلى إبراهيم و " بكلمات " متعلقة بابتلى وفاء
فأتمهن للتعقيب وهو فعل ومفعول وفاعله ضمير إبراهيم، وفاعل قال ضمير الرب
والياء اسم إن، وجاعل خبره: مضاف إلى الكاف الذي هو مفعوله الأول والثاني
إماما، وللناس إما متعلق به أو بمقدر حال عن إماما، وضمير قال لإبراهيم والواو
للاستيناف ومن ابتدائية أو زائدة، لوجود زيادتها في المثبت، أو للتبعيض مفعول

(1) البقرة: 124.
(2) راجع تفسير البرهان ذيل الآية الشريفة، الوسائل ب 1 من أبواب السواك الحديث 23.
44

فعل مقدر، والتقدير واجعل أو تجعل ذريتي أو بعض ذريتي إماما أيضا على طريق
السؤال، ويحتمل [كون] العطف على محذوف والتقدير واجعلني إماما واجعل بعض
ذريتي أيضا كذلك.
وأما عطفه على الكاف في " جاعلك " كما قاله صاحب الكشاف والقاضي
البيضاوي فمما لا أعرف له وجه صحة لأنه حينئذ يصير بعض الذرية مفعولا أو لا
للجعل الذي أخبر الله تعالى بفعله، فيكون من تتمة قوله، فيلزم أن يكون ذلك
البعض أيضا إماما مخبرا بجعله كذلك مع أنه من كلام إبراهيم وسؤاله الإمامة
فكأن مقصودهما أنه يسأل الله تعالى أن يجعل البعض أيضا مفعولا الجعل مثله، كما
قلناه، والعبارة وقعت قاصرة عنه، ومفيدة لغيره كما ترى.
وقد قال صاحب الكشاف مثله في قوله تعالى بعد هذه الآية " وإذ قال إبراهيم
رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر
قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار " فإنه قال " ومن كفر "
عطف على " من آمن " كما عطف ومن ذريتي على الكاف في " جاعلك " فزادنا
الحيرة و " لا ينال " فعل فاعله عهدي والظالمين مفعوله، ولا شك أنه أولى من العكس
كما قرئ على ما نقل (1) إذ إسناد النيل إلى العهد أولى فإنه النائل، لا أنهم يصلون
إليه وينالونه، وأن صح ذلك أيضا لأنه من الجانبين.
ثم اعلم أن صاحب الكشاف استدل بهذه الآية على اعتبار العدالة في الإمام
حيث قال: وقالوا في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة، وكيف يصلح
لها من لا يجوز حكمه وشهادته، ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدم
للصلاة انتهى فيفهم منه المبالغة في ذلك الاشتراط، ونقل عن أبي حنيفة أيضا ما يدل
عليه، حيث قال: كان يعني أبا حنيفة يقول في المنصور وأشياعه لو أرادوا بناء مسجد
وأرادوني على عد أجره لما فعلت، وعن ابن عيينة لا يكون الظالم إماما قط
وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة، فإذا نصب من
كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر " من استرعى الدئب ظلم " انتهى. أيضا

(1) نقل عن ابن مسعود أنه قرأ: لا ينال عهدي الظالمون.
45

يفهم من كلامه اشتراط العدالة في القاضي والشاهد والراوي وإمام الجماعة مع
أنه حنفي المذهب كما هو المشهور والظاهر من كلامه، وخلاف ذلك كله مشهور
عنه، والمعمول عندهم.
وفي الاستدلال تأمل إذ الواسطة بين الظلم والعدل ثابتة، فلا يلزم من
مانعية الأول (1) للإمامة اشتراط الثاني لها، وهو ظاهر ولعله يريد به غيره أو يضم
معه عدم القول بالواسطة أي كل من لم يجوزها للفاسق لم يجوزها لغير العدل و
يمكن الاستدلال به على اشتراطها في إمام الجماعة، بمعنى عدم تجويز إمامة الفاسق
لصدق الإمام عليه بالتفسير الماضي، وإن كان المقصود بالسؤال هو الخلافة والإمامة
المطلقة إذ لا يبعد كون المراد بالعهد ما هو الأعم منها أي ما أجوز تفويض أمري
إلى الظالم، فإنه غير معقول، بل ظلم كما يفهم في الكشاف، ولا شك في كون
تجويز إمامة الفاسق للجماعة تفويض أمر عظيم إليه، وقد فسر عهد الله بأمره و
وصيته في مجمع البيان، حيث قال في تفسير " والذين ينقضون عهد الله " وعهد الله
وصيته وأمره يقال عهد الخليفة إلى فلان كذا أي أمره وأوصى به ولاشتراك (2)
علية منع الفاسق من مطلق الإمامة فيه، كما يظهر من كلام صاحب الكشاف و
كذا في القاضي والشاهد والراوي فتأمل فإن الغرض إظهار الإشعار في الآية بما
ذكرناه، وإنما الاعتماد على غيرها من الآيات والروايات وإجماع الأصحاب و
الاحتياط.
وقال القاضي: وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة، وأن
الفاسق لا يصلح للإمامة (3) والأولى أن يقول: ولو فبل البعثة، ولعل وجه الدلالة
أن فاعل الكبيرة وقتا ما يصدق عليه أنه ظالم في الجملة، وقد نفى الله العهد الذي
هو الإمامة مطلقا عمن صدق عليه أنه ظالم في الجملة، وهو ظاهر على تقدير كون

(1) فلا يلزم من نفى ما نفيه الأول خ. من نفي مانعية الأول خ. من نفيه الأول: ظ.
(2) عود إلى كلامه قبل ذلك " لصدق الإمام عليه " الخ.
(3) تفسير البيضاوي: 41.
46

المشتق حقيقة لمن اتصف به وقتا ما، وكذا على تقدير كونه حقيقة حين اتصاف
المشتق بالمبدء فقط، فإن ذلك ليس بمراد ها هنا، فيتعين الأول.
[فقد نفى الله العهد الذي هو الإمامة عمن صدق عليه أنه ظالم في الجملة] (1).
فحاصله أن الذي اتصف أو يتصف بالظلم بالفعل أي وقتا ما أو بالإمكان على
الخلاف بين المنطقيين لا تناله الإمامة، وتخصيصه بوقت دون آخر يخرجه عن ظاهره
ولا يجوز ذلك إلا بدليل يجوز تخصيص مثله بمثله وليس، وكذا الكلام في الإمام والخليفة
فلزم من كلامه عدم جواز كون من اتصف بفسق ما وقتا ما نبيا وإماما فلا بد من
كونهم معصومين من أول عمرهم إلى آخره من الكبائر على زعمه أيضا وهو خلاف
مذهب الأشاعرة بل خلاف معتقده، فإنه يعتقد وقوع الكبائر منهم مثل ما وقع من
آدم على نبينا وآله وعليه السلام فإنه سمي بالعصيان والظلم أيضا في قوله تعالى:
" وعصى آدم ربه - فتكونا من الظالمين (2) " بل بوقوع الكفر ممن يعتقد إمامته إلا أن يؤول
ذلك بالصغاير وتختص الآية بالنبوة، وهو بعيد، إذ الظاهر أن العهد هو الإمامة
وهي أعم كما ذهب إليه صاحب الكشاف كما مر وفهم من كلام القاضي أيضا حيث قال:
وإن الفاسق لا يصلح للإمامة بعد إثبات العصمة للأنبياء قبل البعثة، وأيضا للعلة
الظاهرة من الآية وهي الظلم.
وكذا استدلال الأصحاب بها على وجوب العصمة عن الذنوب مطلقا للنبي
صلى الله عليه وآله والإمام، فكأنهم نظروا إلى أن الظلم في الأصل هو انتقاص
الحق، وقيل وضع الشئ في غير موضعه من قولهم " ومن أشبه أباه فما ظلم (3) " أي
فما وضع الشبه في غير موضعه كذا في مجمع البيان أو التعدي عن حدود الله كما يفهم
من قوله تعالى: " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه (4) " وغيره إذ لا شك أن فعل
الصغيرة خروج عن الاستقامة والطاعة، وأنه نقص ووضع في غير المحل، وتعد عن

(1) تكرر هذه العبارة هنا في كل النسخ، والظاهر أنها سهو.
(2) طه: 121 والآية الثانية في البقرة، 35، الأعراف: 19.
(3) كقول الشاعر: وبأبه اقتدى عدي في الكرم * ومن يشابه أبه فما ظلم.
(4) الطلاق: 1.
47

الحدود، إذ حدود الله هي الأوامر والنواهي أيضا ترك حكم الله ورفضه لا يتفاوت فيه
الحال بالكبر والصغر، فإنه يكون عاصيا سيما بالنسبة إلى الأنبياء والأئمة
[المعصومين] عليهم أفضل الصلوات والتسليمات على أن البعض لم يقل بالصغيرة، بل
يقول: الذنوب كلها كبائر.
وبالجملة الذي نقلته عن القاضي ههنا مع عدم انطباقه على مذهبه، وبعض
قوانين الأصول عندهم مثل مجازية صدق المشتق على من انقضى عنه المبدء، وإلا
يلزم صدق الكافر حقيقة على أكابر الصحابة، وتعليق الحكم على المشتق يفيد علية
المبدء له حين الاتصاف، وأن الحكم حين وجود العلة مثل أكرم العلماء، يدل
على صدوره عنه بغير روية وإجرائه على لسانه ليكون حجة عليه، وفضيحة له عند الله
وعند الناس، كما هو الموجود مثله في غير هذا المحل أيضا ومن غيره أيضا كثيرا كما
سيظهر لك إذا تأملت كلامهم وسيجيئ بعضه إن شاء الله وقد أشرت إليها في مواضع [شتى]
سأجمعها إن شاء الله.
48

كتاب الصلاة
وهو يتنوع أنواعا الأول في البحث عنها بقول مطلق وفيه آيات:
الأولى: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا (1).
مفروضة أو موقتة فلا تضيعوها ولا تخلوا بشرائطها وأوقاتها، وسيأتي تتمة
البحث فيها إن شاء الله تعالى.
الثانية: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (2).
كأن الأمر بمحافظة الصلوات بالأداء لوقتها، والمداومة عليها، بعد بيان
أحكام الأزواج والأولاد لئلا يلهيهم الاشتغال بهم عنها و " الوسطى " تأنيث الأوسط
من الوسط أي البين أو الفضل، وخصها بعد العموم للاهتمام بحفظها، لأفضليتها
قيل: هي الظهر، وهو المروي عن الباقر والصادق (3) عليهما السلام كذا في مجمع
البيان وقيل: العصر يدل عليه الرواية عنه صلى الله عليه وآله: شغلونا عن الصلاة الوسطى
صلاة العصر (4) وقيل: كل واحدة من الصلوات الخمس، ولكن وجه ظاهر، وقيل
هي مخفية مثل ليلة القدر، وساعة الإجابة، واسم الله الأعظم، لأن يهتموا بالكل
غاية الاهتمام، ويدركوا الفضيلة في الكل، فهي تدل على جواز العمل المعين لوقت
من غير جزم بوجوده، مثل عمل ليلة القدر، والعيد، وأول رجب وغيرها مع عدم
ثبوت الهلال، وقد صرح بذلك في الأخبار فلا يشترط الجزم في النية، ولهذا جاز
الترديد فيها ليلة الشك فافهم.
" وقوموا لله " في الصلاة " قانتين " ذاكرين لله في قيامكم، والقنوت أن يذكر

(1) النساء: 102.
(2) البقرة: 238.
(3) وراجع الوسائل الباب 5 من أبواب أعداد الفرائض، تفسير العياشي ج 1 ص 127.
(4) سنن أبي داود ج 1 ص 97.
49

الله قائما، وقيل كانوا يتكلمون في الصلاة فنهوا عنه وقيل هو الركود وكف الأيدي و
البصر كذا في الكشاف.
قال في مجمع البيان: " وقوموا لله قانتين " قال ابن عباس معناه داعين والقنوت
هو الدعاء في الصلاة حال القيام، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام (1)
وقيل طائعين وقيل خاشعين وقيل ساكتين والذكر أنسب من الدعاء فإنه أعم و
الأصحاب لا يشترطون الدعاء في القنوت فإنهم يجعلون كلمات الفرج أفضله، وليس
فيها دعاء، فدلت الآية على وجوب محافظة الصلوات خرج ما ليس بواجبة منها إجماعا
بقي الباقي منها تحت العموم فلا يبعد الاستدلال بها على وجوب الجمعة والعيدين
والآيات أيضا.
واستدل بها على وجوب القنوت فيها، وفيه تأمل، لاحتمال معان آخر كما
مر، وعدم ثبوت كونه بالمعنى المتعارف عند الفقهاء واحتمال كونه مخصوصا بالوسطى
كما قيل، ولأنه أمر بالقيام فهو إما قيام حقيقي أو كناية عن الاشتغال بالعبادة لله
تعالى في حال القنوت فالواجب حينئذ هو القيام حال القنوت لا القنوت، وإن احتمل
حينئذ وجوب القنوت أيضا إذ على تقدير تركه ما وجد المأمور به، وهو القيام حال القنوت
فوجوبه يستلزم وجوبه، لكن وجوبه غير معلوم القائل، وعلى تقديره يكون مشروطا
أي إن قنتم فقوموا، والأصل عدم الوجوب وهو مذهب الأكثر، وأنه ليس في روايتي
تعليم النبي صلى الله عليه وآله صلاة الأعرابي والصادق عليه السلام حماد بن عيسى وغيرها (2) من
الروايات، فالاستحباب غير بعيد، ويمكن حمل الآية عليه فتأمل.
الثالثة: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك
والعاقبة للتقوى (3).
أي أقبل أنت مع أهلك على عبادة الله والصلاة، واستعينوا بها على حاجتكم

(1) الكافي ج 3 ص 340.
(2) الفقيه ج 1 ص 106، التهذيب ج 1 ص 157.
(3) طه: 132.
50

ولا تهتم بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك يأتيك من عندنا، ونحن رازقوك، ولا
نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك، ففرغ بالك لأمر الآخرة، وعن عروة بن
الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ " ولا تمدن الآية " (1) ثم ينادي الصلاة
الصلاة رحمكم الله، وعن بكر بن عبد الله المزني كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا
وصلوا، بهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله ثم يتلو هذه الآية.
ثم ظاهر الآية وجوب أمر أهله بالصلاة فقط ولعل المراد وجوبها على
الآمر بها أيضا وترك للظهور إذ هو مأمور بالصبر عليها، وعدم جعل طلب الرزق
وكسبه مانعا عن ذلك، معللا بأنه يأتيه من عند الله ما يحتاج إليه هو وأهله من
غير سبب وكسب، وتخصيص الأهل يحتمل لكثرة الاهتمام، وكونه معهم دائما
وكون رزقهم مانعا.
فيحتمل المضمون ترك الكسب للرزق بالكلية، والتوجه إلى الأمر بالمعروف
والتصبر على مشاقة الصلاة والأمر بها، وعدم تكليفه برزق نفسه، وعياله، و
يكون ذلك من خصائصه، ويحتمل العموم إن توجه إليها غيره صلى الله عليه وآله مثل توجهه
إليها كما في آيات أخر (2) ولهذا قيل من كان في عمل الله كان الله في عمله، وقال
بعض الفقهاء: طالب العلم المتقي لا يحتاج إلى الكسب للرزق فإنه يأتيه من عند الله
بغير كسب من حيث لا يحتسب.
وفي مجمع البيان: وأمر يا محمد أهل بيتك وأهل دينك بالصلاة وروى أبو سعيد
الخدري قال: لما نزلت هذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وآله يأتي باب فاطمة وعلي عليهما السلام تسعة
أشهر عند كل صلاة فيقول: الصلاة الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت ويطهركم تطهيرا، ورواه ابن عقدة بإسناده بطرق كثيرة عن أهل
البيت عليهم الصلاة والسلام وغيرهم، مثل أبي برذة وأبي رافع (3) وقال أبو جعفر
عليه الصلاة والسلام أمره الله تعالى أن يخص أهله دون الناس ليعلم الناس أن لأهله

(1) طه: 131.
(2) قوله تعالى. " ويرزقه من حيث لا يحتسب ".
(3) وقد أخرج جميعها في البحار في تاريخ أمير المؤمنين عليه السلام الباب الخامس.
51

عند الله منزلة ليست للناس، فأمرهم مع الناس، ثم أمرهم خاصة (1) هذا يدل على
أن المراد بأهلك من يختص به من أهله لا أهل دينه أيضا.
" واصطبر عليها " أي على فعلها وعلى أمرهم بها، وعلى مشاق ذلك " لا
نسألك رزقا " لا لخلقنا ولا لنفسك، بل كلفناك العبادة وأداء الرسالة وضمنا رزق
الجميع " نحن نرزقك " الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به الجميع أي نرزق الخلق
جميعهم، ولا نسترزقهم وننفعهم ولا ننتفع بهم، فيكون أبلغ الامتنان عليهم " و
العاقبة للتقوى " أي العاقبة المحمودة لأهل التقوى.
واعلم أن هذا التفسير لا يناسب رواية أبي جعفر عليه الصلاة والسلام وهو
الظاهر، وأنه خلاف الظاهر، وأن ظاهرها اختصاصه بعدم طلب الرزق وأنه
يرزقه، وكذا أهل بيته لا كل خلقه، فإنه لا يفهم كعدم فهم أهل دينك من أهلك
وهي تدل على وجوب الأمر بها والصبر عليها، ولا يبعد فهم الأمر بكل المأمور [به]
والصبر على التكاليف الشاقة، وعدم جعل الرزق مانعا عنها، وعدم الاعتداد بالدنيا
وجعلها محمودة، وكون التقوى هي العاقبة المحمودة.
الرابعة: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون (2).
في مجمع البيان أي خاضعون متواضعون متذللون لا يرفعون أبصارهم عن
مواضع سجودهم، ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله رأى رجلا
يعبث بلحيته في صلاته فقال أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه، وفي هذا دلالة
على أن الخشوع في الصلاة يكون بالقلب والجوارح. أما بالقلب فهو أن يفرغ قلبه
بجميع همه لها، والإعراض عما سواها، فلا يمكن فيه غير العبادة والمعبود وأما
بالجوارح فبغض البصر والإقبال إليها، وترك الالتفات والعبث، وفيما ذكر من

(1) رواه في المجمع ج 7 ص 37 -
(2) المؤمنون 1 و 2 وما بعدها ذيلها.
52

غض البصر، مطلقا فتأمل (1) إذ المستحب النظر إلى موضع السجدة حال القيام إلى آخر
ما هو المشهور. نعم، ورد غض البصر حال الركوع، في رواية حماد (2) وفي
رواية زرارة النظر إلى ما بين الرجلين (3) وحمل الشيخ الأولى على الثانية بأنه إذا
لم ينظر إلا إلى ما بين رجليه كأنه غض بصره ويحتمل العمل بهما، فيكون كل
واحد من الغض والنظر مستحبا تخييريا وأيضا كون الإقبال إليها من الجوارح
غير ظاهر فتأمل.
وفي الكشاف: الخشوع في الصلاة خشية القلب، وإلزام البصر موضع السجود
ولعل مراده حال القيام، وبالجملة الظاهر أنه حضور القلب وتأثره وخوفه و
طمعه، ويظهر ذلك بالتوجه بالكلية إلى الصلاة وإلى الله، بحيث يظهر أثر البكاء في
العين، والاضطراب في القلب، واستعمال الأعضاء الظاهرة على الوجه المندوب
وترك المكروهات مثل العبث بجسده وثيابه، والالتفات يمينا وشمالا، بل النظر
إلى غير المسجد حال القيام، والتمطي والتثاؤب والفرقعة وغير ذلك مما بين
في الفروع وورد في الأصول (4) يعني لا يفعل المكروهات، ويفعل المندوبات
في الصلاة.
" والذين عن اللغو معرضون " واللغو لا يعنيك من قول أو فعل، كاللعب
والهزل، وما يوجب المروة إلقاءه وإطراحه، يعني أن لهم من الجد في العبادة
ما يشغلهم عن الهزل وقال في الكشاف: ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة، أتبعه الوصف
بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما
قاعدتا بناء التكليف، وأنت تعلم أن الخشوع في الصلاة كان مشتملا على الفعل
والترك، وترك اللغو أي ما لا يعني مطلقا فعلا كان أو تركا، فترك الذي

(1) أقول: لا منافاة فإن الغض دون الغمض، فإذا غض الانسان بصره، وقع نظره في
القيام على موضع السجدة، وفي الركوع بين رجليه، وفي الجلوس على ذيله.
(2) الكافي ج 3 ص 311.
(3) الكافي ج 3 ص 320.
(4) الكافي ج 3: 299.
53

هو ما لا ينفع (1) أيضا داخل في الإعراض عن اللغو فكأنه للتأكيد وبالجملة هو شامل
لكل من الفعل والترك اللذين لا ينفعان، ولا يحصل الإعراض عن ذلك إلا بترك
المباحات أيضا فعلا وتركا، فيوجب ذلك الاشتغال بالعبادة دائما فتأمل.
فدلت على الترغيب بالخشوع بالمعنى المتقدم [فيها] حتى كاد أن يكون له
دخل عظيم في الإيمان، أي في كماله فدلت على استحباب بعض الأفعال في الصلاة
وكراهية البعض على الاجمال، وتفصيله يعلم من الأخبار، ومذكور في الفروع
وكذا دلت على الترغيب بالإعراض عن اللغو، بل يفهم وجوب ذلك حيث إن له
دخلا في الإيمان أي في كماله، وقارنه بفعل الزكاة، وترك الزنا ودلت أيضا
على أن فعل الزكاة وترك الزنا كذلك حيث قال عاطفا على الذين " والذين هم
للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون " الآية، المراد بالزكاة هنا المصدر
فيكون مثل ما يقال " فاعل الضرب " بإضافة الفاعل إلى الأحداث كما هو المتعارف
مثل أن يقال " من فاعل هذا " يقال " زيد أو الله أو خلق الله.
قوله " والذين هم على صلواتهم يحافظون " في مجمع البيان أي يقيمونها في
أوقاتها ولا يضيعونها، وإنما أعاد ذكر الصلاة تنبيها على عظم قدرها وعلو رتبتها
عنده تعالى " أولئك هم الوارثون " معناه أن من كان بهذه الصفات واجتمعت
فيه هذه الخلال، هم الوارثون يوم القيامة منازل أهل النار من الجنة، فقد روي
عن النبي صلى الله عليه وآله قال ما منكم من أحد إلا وله منزلان في الجنة ومنزل في النار
فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله، وقيل إن معنى الميراث هنا أنهم
يصيرون إلى الجنة بعد الأحوال المتقدمة، وينتهي أمرهم إليها، كالميراث الذي
يصير الوارث إليه، ثم وصف الوارثين فقال: " الذين يرثون الفردوس هم فيها
خالدون " الفردوس اسم من أسماء الجنة، وقيل هو اسم لرياض الجنة، وقيل هي
جنة مخصوصة، قال في الكشاف: ليس ذكر الصلاة هنا مكررا بل لأنهما مختلفان
إذ وصفوا أولا بالخشوع في صلاتهم وآخرا بالمحافظة عليها، وذلك بأن لا يسهو

(1) فترك الذي هو قوله ما لا ينفع خ.
54

عنها، ويؤدوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها، و
بما ينبغي أن يتم به أوصافها. وأيضا قد وحدت أولا لتفاد الخشوع في جنس
الصلاة أي صلاة كانت وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على أعدادها، وهي الصلوات
الخمس، والوتر والسنن المرتبة مع كل صلاة، وصلاة الجمعة، والعيدين
والجنازة، والاستسقاء، والكسوف، والخسوف، وصلاة الضحى، والتهجد، و
صلاة التسبيح، وصلاة الحاجة وغيرها من النوافل أي أولئك الجامعون لهذه
الأوصاف، هم الوارثون الأحقاء بأن يسموا وراثا دون من عداهم ثم ترجم الوارثين
بقوله " الذين يرثون الفردوس " فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا يخفى على الناظر
ومعنى الإرث ما مر في سورة مريم (1). أنث الفردوس على تأويل الجنة وهي البستان
الواسع الجامع لأنواع الثمر، وروي أن الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من
ذهب، ولبنة من فضة، وجعل خلالها المسك الأذفر وفي رواية لبنة من مسك مذري، و
غرس فيها من جيد الفاكهة، وجيد الريحان.
ففيها دلالة على الترغيب بمحافظة الصلوات بالمعنى المتقدم، وأنه لا بد من
محافظة جميعها حتى يكون موجبة لحصر إرث الفردوس، والخلود في المتصف بها
بخلاف الخشوع، فإنه يكفي في الواحدة أيها كانت كما ذكره صاحب الكشاف
وإن جميع ما ذكره من الصلوات مرغوبة إلا صلاة الضحى فإنها بدعة عندنا.
* (النوع الثاني) *
في دلايل الصلوات الخمس وأوقاتها وفيه آيات:
الأولى: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن

(1) قال في سورة مريم في تفسير قوله تعالى: " تلك الجنة التي نورث من عبادنا من
كان تقيا " استعارة أي نبقي عليه الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث، ولأن الأتقياء
يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة، فإذا أدخلهم الله الجنة
فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى. منه رحمه الله.
55

قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك
مقاما محمودا (1).
في الكشاف: دلكت الشمس غربت وقيل زالت وروي عن النبي صلى الله عليه وآله
" أتاني جبرئيل لدلوك الشمس فصلى بي الظهر (2) " واشتقاقه من الدلك لأن
الانسان يدلك عينيه عند النظر إليها، فإن كان الدلوك الزوال، فالآية جامعة
لأوقات الصلوات الخمس والظاهر ذلك كما يدل عليه اللغة والرواية المتقدمة، و
كذا روايات الخاصة، ولكن يتوقف مع ذلك على كون الغسق غير دخول أول
الليل، بل الظلمة الشديدة، وهو نصف الليل كما يدل عليه بعض روايات الخاصة
ففيها دلالة على سعة وقت جميع الصلوات الخمس على الاجمال، فيخصص ويتعين
بضم الأخبار أو الاجماع على الوجه المقرر فيتم المطلوب فتأمل.
قال في الكشاف: والغسق الظلمة، هو وقت صلاة العشاء، وفيه إجمال من
حيث عدم معلومية آخر الوقت بل أوله أيضا وقال فيه أيضا " وقرآن الفجر "
صلاة الفجر، سميت قرآنا، وهو القراءة لأنها ركن كما سميت ركوعا وسجودا
وقنوتا، لعل مراده بالركن هو الواجب الذي بتركه عمدا تبطل الصلاة لا سهوا
أيضا كما هو اصطلاح الأصحاب " مشهودا " تشهده ملائكة الليل والنهار، هذا إن
فعلت في أول وقتها، ففيه إشارة إلى المبالغة في فعلها أول الوقت، وعند بعض
الفقهاء ليس الوقت إلا الآخر في جميع الصلوات الموسعة، ومن يفعلها في أول الوقت
فهو مقدمها، ويجزئ، فهو خروج عن النص بالهوى فتأمل.
قال في مجمع البيان في الدلوك: فقال قوم زوالها وهو المروي عن أبي
جعفر وأبي عبد الله عليهما الصلاة والسلام (3) ومعنى " لدلوك الشمس " عند دلوكها.
وقيل غسق الليل هو أول بدو الليل عن ابن عباس، وقيل هو انتصاف الليل

(1) أسرى. 78 و 79.
(2) سنن أبي داود ج 1 ص 93، ومثله في سيرة ابن هشام ج 1 ص 245.
(3) تفسير العياشي ج 2 ص 308
56

عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام (1) ثم قال واستدل قوم من أصحابنا بالآية على
أن وقت الظهرين موسع إلى آخر النهار، لأنه سبحانه أوجب إقامة الصلاة من
وقت دلوكها إلى غسق الليل وذلك يقتضي أن بينهما وقتا، ولم يرتضه الشيخ
أبو جعفر قدس الله روحه (2) قال إن الدلوك هو غروب الشفق (3) ومن قال إن الدلوك
هو الزوال أمكنه أن يقول إن المراد بيان وجوب الصلوات الخمس، على ما ذكره
الحسن لا لبيان وقت صلاة واحدة.
وأقول: إنه يمكن الاستدلال بالآية على ذلك أي على سعة الوقت على الوجه
المشهور بأن يقال: إن الله سبحانه جعل دلوك الشمس الذي هو الزوال إلى غسق
الليل وقتا للصلوات الأربع إلا أن الظهر والعصر اشتركا في الوقت من الزوال
إلى الغروب، والمغرب والعشاء الآخرة اشتركا في الوقت مع المغرب إلى الغسق
وأفرد صلاة الفجر بالذكر في قوله تعالى " إن قرآن الفجر " ففي الآية بيان
وجوب الصلوات الخمس، وبيان أوقاتها، ويؤيد ذلك ما رواه العياشي بالإسناد
عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى " أقم الصلاة
لدلوك الشمس إلى غسق الليل " قال: إن الله افترض أربع صلوات أول وقتها من

(1) الوسائل الباب 21 من أبواب المواقيت الحديث 2.
(2) المصرح من كلامه في الخلاف أن الدلوك عندنا هو الزوال وبه قال ابن عباس و
ابن عمر وأبو هريرة والشافعي وأصحابه، ورووا عن علي عليه السلام وابن مسعود أنهما
قالا: الدلوك هو الغروب، فالآية عندنا محمولة على صلاة الظهر وعند من خالف على صلاة
المغرب، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم.
وما نقله الطبرسي عن الشيخ ليس هكذا ولفظه: ولم يرتضه الشيخ أبو جعفر رحمه
الله وقال: إن من قال: إن الدلوك هو الغروب فلا دلالة فيها عنده، بل يقول أوجب الله سبحانه
إقامة المغرب من عند المغرب إلى وقت اختلاط الظلام الذي هو غروب الشفق ومن قال إن
الدلوك الخ.
وهكذا لفظه في تفسير التبيان ج 6 ص 510 فالظاهر أن المصنف نقل كلام المجمع
عن نسخة سقيمة.
(3) الشمس خ ل ظ.
57

زوال الشمس إلى انتصاف الليل، منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس
إلى غروب الشمس إلا أن هذه قبل هذه، ومنها صلاتان أول وقتهما من عند غروب
الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه، وإلى ذلك ذهب المرتضى علم
الهدى قدس الله روحه في أوقات الصلوات وهذه الرواية (1) موجودة في الأصول ويوجد
غيرها أيضا ونقلها الشيخ أيضا في كتبه (2) وقال بها.
وقال الزجاج إن في قوله تعالى " أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر " فائدة عظيمة
هي أنها تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة لأن قوله أقم الصلاة وأقم قرآن
الفجر قد أمر فيه أن يقيم الصلاة بالقراءة حتى سميت الصلاة قرآنا فلا تكون
صلاة إلا بقرآن فيه تأمل كما في قول الكشاف خصوصا في قوله: " وقنوتا " فإنه
ليس بمشروع إلا في بعض الصلوات عندهم الوتر والصبح، وجزء مستحب فتأمل.
قوله " ومن الليل فتهجد " الآية تدل على وجوب صلاة الليل واختصاصه
به صلى الله عليه وآله يمنع من التأسي فيه.
الثانية: أقم الصلاة طرفي النهار (3).
قيل إن طرفي النهار وقت صلاة الفجر والمغرب، وقيل غدوة وعشية، و
هي صلاتا الصبح والعصر وقيل والظهر أيضا لأن بعد الزوال كله عشية ومساء
عند العرب، فتدل على سعة وقتهما في الجملة، وينبغي إدخال العشائين أيضا.
وزلفا من الليل.
قيل العشائين وقيل أي ساعات من الليل وهي ساعاته القريبة من آخر
النهار. وقيل: زلفا من الليل أي قربا من الليل، وحقها على هذا التفسير أن
يعطف على الصلاة أي أقم الصلاة وأقم زلفا من الليل على معنى وأقم صلوات
يتقرب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل فيمكن أن يكون إشارة إلى صلاة

(1) تفسير العياش ج 2 ص 310.
(2) التهذيب ج 2 ص 24 و 25، تحت الرقم 68 و 72.
(3) هود: 115.
58

الليل المشهورة. " إن الحسنات يذهبن السيئات " يحتمل وجهين تكفير الذنوب
بالطاعات، في صريحة في وقوع التكفير وكذا غيرها من الآيات والأخبار واللطف
يعني أن الطاعات موجب لترك المعصيات بالخاصية أو بسبب لطفه تعالى كقوله
تعالى " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " (1) " ذلك ذكرى للذاكرين " أي ما ذكر
من قوله " فاستقم " (2) إلى ههنا عظة للمتعظين، ثم رجع إلى ذلك للتذكير بالصبر
بقوله " واصبر فأن الله لا يضيع أجر المحسنين " وهو دليل على الحث والتحريض
والترغيب على الوعظ والاتعاظ، وعلى الصبر والإحسان وهو ظاهر.
الثالثة: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في
السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون (3).
سئل ابن عباس هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، وقرأ
هذه الآية فالتسبيح حين تمسون صلاة المغرب والعشاء وحين تصبحون صلاة الفجر
وعشيا صلاة العصر، وحين تظهرون صلاة الظهر، ويحتمل أن يراد بالأول
المغرب وبعشيا العشاء وبتظهرون الظهرين وغير ذلك مثل أن يراد بعشيا المغرب
والعشاء وبتمسون العصر وبتظهرون الظهر فقط. وعشيا عطف على حين فيكون وله
الحمد معترضة ويحتمل عطفه على السماوات ولكن يبعد حينئذ فهم الصلاة و
يحتمل أن يراد من الحمد الصلات إلا أنه حينئذ الصلوات في السماوات غير
ظاهرة وعطف " عشيا " " وحين تظهرون " أيضا على السماوات غير مناسب، وحين
تظهرون مشعر بعطفه على الأول وترك حين في عشيا كأنه لعدم مجئ الفعل منه فتأمل.
الرابعة: فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس
وقبل غروبها (4).

(1) العنكبوت: 35.
(2) أي فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا
إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون وأقم الصلاة طرفي
النهار الآية.
(3) الروم: 27.
(4) طه: 130
59

معناه في الكشاف: فكأنه قال: صل لله قبل طلوع الشمس، يعني صلاة
الفجر، وقبل غروبها يعني الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار
فحينئذ فيها دلالة على وجوب الصلوات الثلاث وسعة وقتها، وعدم اختصاصها بأول
الوقت، فالقول بأن وقت صلاة الفجر إلى الإسفار والتنوير كما هو قول بعض أصحابنا
غير واضح وكذا اختصاص الظهر بأول الوقت وكذا العصر بأول وقتها. وهو ظاهر بناء
على تفسير التسبيح بالصلاة، وأما على الاحتمال بكون المراد هو التسبيح حقيقة
فلا دلالة، بل المراد هو الترغيب والتحريض، على تسبيحه تعالى وتنزيهه في هذه
الأوقات الشريفة.
" ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى " قدم الظرف ههنا
على الفعل عكس الأول، للاهتمام بفعلها ليلا لعدم شغل النفس حينئذ ولأنها
أشق ويحتمل كون " من " بمعنى " في " وابتدائية، وقال في الكشاف: وقد
تناول التسبيح في آناء الليل صلاة العتمة، وفي أطراف النهار صلاة المغرب، وصلاة
الفجر على التكرار إرادة الاختصاص كما اختصت في قوله " حافظوا على الصلوات
والصلاة الوسطى " عند بعض المفسرين.
ويحتمل " من آناء الليل " إرادة صلاة الليل المشهورة أيضا أو مطلق الصلاة
ليلا فإنها عبادة مطلوبة جدا وإرادة نافلة الفجر أيضا، وكذا من أطراف النهار
أيضا بحمل الأمر على الرجحان المطلق فتأمل.
الخامسة: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن
الليل فسبحه وأدبار السجود (1)
أي سبح حامدا ربك قبل الطلوع وقبل الغروب وسبحه أيضا في بعض
الليل وفي أدبار السجود، والتسبيح، إما محمول على ظاهره، أو على الصلاة

(1) ق: 39 و 40.
60

فالصلاة قبل طلوع الشمس الفجر، وقبل الغروب الظهر والعصر، ومن الليل
العشاءان، فيها دلالة على سعة وقتها، وأدبار السجود التسبيح في آثار الصلوات
والسجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة، وقيل النوافل بعد المكتوبات، وعن
علي عليه الصلاة والسلام الركعتان بعد المغرب وروي عن النبي صلى الله عليه وآله من صلى
بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين ومثلها موجود من طرقنا
أيضا (1).
والظاهر أن المراد قبل أن يتكلم بكلام أجنبي لا التعقيب، وهو مفسر في
الرواية الصحيحة به والأدبار جمع دبر وقرئ بكسر الهمزة مصدرا والكل من
أدبرت الصلاة: إذا انقضت وتمت، ومعناه وقت قضاء السجود كقولهم أتيتك
خفوق النجم، ويقرب من الآية ما في الطور " فسبح بحمد ربك حين تقوم (2) "
أي سبح بحمد ربك حين تقوم من أي مكان، وقيل: من نومك، وقيل تقوم: إلى
الصلاة المفروضة، فقل سبحانك اللهم وبحمدك وقيل: وصل بأمر ربك حين تقوم من
مقامك، قيل: الركعتان قبل صلاة الفجر، وقيل حين تقوم من المجلس فقل سبحانك
اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت اغفر لي وتب علي وقد روي مرفوعا أنه كفارة
المجلس (3) وروي عن علي عليه الصلاة والسلام من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى
فليكن آخر كلامه من مجلسه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على
المرسلين والحمد لله رب العالمين (4).
وقيل أذكر الله بلسانك حين تقوم إلى الصلاة إلى أن تدخل في الصلاة " و
من الليل فسبحه وإدبار النجوم " بالكسر قيل المراد الأمر بقول: سبحان الله وبحمدك
في هذه الأوقات وقيل يعني صلاة الليل، وروى زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن

(1) تفسير الكشاف ومجمع البيان ذيل الآية الشريفة.
(2) الطور: 49.
(3) رواه مرفوعا في المجمع، وكنز العرفان ج 1 ص 78، ورواه مسندا السجستاني
في سننه ص 563 و 564 في حديثين فراجع.
(4) الوسائل الباب 24 من أبواب التعقيب الحديث 11.
61

أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام في هذه الآية قالا إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقوم من
الليل ثلاث مرات فينظر في آفاق السماء فيقرأ خمس آيات من آل عمران: " إن
في خلق السماوات والأرض - إلى قوله تعالى - إنك لا تخلف الميعاد " ثم يفتح صلاة
الليل الخبر (1).
وقيل معناه صلاة المغرب والعشاء الآخرة، وإدبار النجوم يعني الركعتين
قبل صلاة الفجر وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام (2) وذلك حين
تدبر النجوم أي حين تغيب بضوء الصبح، وقيل معناه صلاة الفجر المفروضة وقيل معناه
لا تغفل عن ذكر ربك صباحا ومساء ونزهه في جميع أحوالك ليلا ونهارا فإنه
لا يغفل عنك وعن حفظك، وفي هذه الآية دلالة على أنه سبحانه قد ضمن حفظه
وكلايته حتى بلغ الرسالة، الله يعلم بحقيقة كلامه وغيره.
ويدل على رجحان القيام للصلاة عن المضاجع، والصلاة بالليل ودعاء
الرب خوفا من العقاب، وطمعا في الثواب، والإنفاق مما رزقه الله تعالى قوله تعالى:
" تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون (3) "
ترتفع جنوبهم عن مواضع اضطجاعهم لصلاة الليل وهم المتهجدون بالليل الذين
يقومون عن فرشهم للصلاة، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، فهو
القيام في الليل لصلاة الليل والتهجد المشهور، وظاهر الآية أنهم يقومون للدعاء
خوفا من عدم الإجابة وطمعا لها، كأنه الدعاء في الوتر وغيره، وقيل هم الذين
لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة، قال أنس نزلت فينا معاشر الأنصار كنا
نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله صلاة العشاء
وقيل هم الذين يصلون ما بين المغرب والعشاء الآخرة وهي صلاة الأوابين، و
قيل هم الذين يصلون العشاء والفجر في جماعة " يدعون ربهم خوفا " من عذاب الله

(1) الوسائل الباب 53 من أبواب المواقيت ح 1 - 4.
(2) ذكر في مجمع البيان مرسلا ورواه الكليني في الكافي مسندا ج 3 ص 444.
(3) السجدة: 16:
62

وطمعا في رحمة الله ومما رزقهم الله ينفقون في سبيل الله وطاعته (1).
واعلم أن وجوب الصلوات ليس من الفقه فإنه من ضروريات الدين، مع
أن الآيات الدالة عليها في غاية الاجمال فكان تركها أليق، ولكن ذكرنا بعض الآيات
في ذلك لبيان الوقت، وبعض الفوايد الأخر.
تذنيب
" سابقوا إلى مغفرة من ربكم " (2) قيل تدل على أن المراد بالأمر الفور، و
ذلك غير ظاهر، فإنه يحتمل أن يقال: المراد استحباب المسارعة فإنه إنما يقال
مثل هذا الكلام عرفا إذا لم يكن واجبا فتأمل ويؤيده دخول المستحبات أيضا فيه
فتدل على استحباب فعل العبادات أول وقتها كما تقدم.
* (النوع الثالث) *
في القبلة وفية آيات:
منها: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك
شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وأن الذين أوتوا
الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما تعملون (3).
الرؤية هنا بمعنى العلم، والتقلب التحول والتحرك في الجهات، والقبلة
هي الكعبة للقادر على المشاهدة على سبيل العادة، وللبعيد الجهة على ما هو المشهور
الرضا هو المحبة والتولية هو التصبير والتصريف والشطر هو الجانب والنحو والجهة
والحرام هو المحرم كالكتاب بمعنى المكتوب، والحق هو وضع الشئ موضعه، و
الغفلة هي السهو عن بعض الأشياء.

(1) راجع في ذلك مجمع البيان للطبرسي.
(2) الحديد: 21.
(3) البقرة: 142.
63

المقصود [من الآية] أن الله تعالى: يقول للنبي صلى الله عليه وآله إنا قد نعلم تردد وجهك
في جهة السماء أي توجهك نحوها انتظارا لتحويل القبلة، النازل منها نحوك، إلى
قبلة تحبها وتتشوق إليها لأغراضك الصحيحة التي في نفسك، ووافقت في ذلك
مشية الله وحكمته، وهي قبلة أبيك إبراهيم عليه وآله السلام وأدعى إلى الإيمان
لأنها مفخرتهم ومطافهم، فلنعطينك تلك القبلة المرضية.
ثم بينها بقوله: " فول " أي فاجعل تولية وجهك في جهة المسجد وسمته، و
اصرفه نحو المسجد المحرم فيه القتال، وإخراج الملتجي والمصيد، وباقي ما يحرم
على المحرم يعني اجعل قبلتك التي تتوجه إليها للصلاة وغيرها تلك الجهة ثم أشار
إلى وجوب ذلك على كل مكلف في كل مكان بقوله تعالى: " وحيث ما كنتم فولوا
وجوهكم شطره " ولعل في التعبير بالنحو والمسجد دون البيت دلالة على وسعة أمر
القبلة، وأنها الجهة الواسعة، لا البيت كما هو للقريب واختيار المسجد دون الحرم
مع أنها أدل لئلا يتوهم كون الحرم قبلة للبعيد كما قيل، على أنه يحتمل إن يكون
المراد الحرم ويكون التعبير عنه باسم أشرف أجزائه، فيكون تسمية للكل باسم
الجزء، أو على أن حكمه حكم المسجد في وجوب التعظيم ويؤيده وصفه بالحرام
ويحتمل أن يكون التعبير عن البيت بالمسجد الحرام، تسمية للجزء باسم الكل
فيكون القبلة للقريب نفسه، وللبعيد جهته كما هو مذهب أكثر الأصحاب، وعلى
التقادير لا تفاوت في القبلة المتعينة للبعيد فإنها مبينة إما على العلامات الموضوعة
لها شرعا على ما ذكره الفقهاء، مثل جعل الجدي خلف المنكب الأيمن، وهو
مجمع الكتف والعضد، وقال المحقق الثاني وهو الكتف، وذلك غير ظاهر بحسب اللغة و
الشرع والدليل، وإما على المقدمات الهيوية كما بينها أهلها لكل إقليم إقليم، فالجهة
حينئذ هي السمت والجانب المأخوذ للتوجه إلى القبلة المعتبرة في الأمور المعينة
على الوجه المقرر من العلامات المتعينة له إما من دليل شرعي أو عقلي كما أشير
إليه وقد ذكر أصحابنا تعاريف كثيرة لها وكاد أن لا يكون واحد منها سالما مع أنه
لا اعتداد بتحقيقها إذ الواجب استعمال العلامات فقط وليست الجهة واقعة في النص
64

بحيث ما لم تتحقق لم يجز لنا التوجه إلى القبلة، وهو أمر ظاهر.
ثم اعلم أنه قال في مجمع البيان ذكر أبو إسحاق الثعلبي عن كنانة (1) عن ابن
عباس أنه قال: البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب، والبيت قبلة أهل المسجد، و
المسجد قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة أهل الأرض، وهذا موافق لما قاله أصحابنا
أن الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق انتهى (2) لعله يريد بعض
الأصحاب وهو الشيخ ومن تبعه وقد ضعفه المتأخرون إذ دليله بعض الروايات
الغير الصحيحة، ويدل على كون القبلة هي البيت نفسه للقريب وجهته للبعيد أدلة
صحيحة وإن كان في إفادتها تأمل إلا أنها تتم بضم أمور أخر، مع أنه يلزمه
خروج الصف عن القبلة إذا زاد عن الحرم إلا أن يؤول بجهة الحرم، فيبقى النزاع
في القريب حيث يجوز الشيخ مع قدرة التوجه إلى البيت التوجه إلى الحرم مع
العلم بأنه غير موافق للبيت وكذا المسجد على أنه ينبغي أن يقول من خرج بدل
من نأى وأيضا كون الباب فقط قبلة البيت غير واضح، ولا مطابق لكلام أصحابنا
بل للأدلة أيضا، فكلام ابن عباس غير واضح، ولعل الإسناد إليه غير صحيح أو
محمول على الأفضلية.
وأيضا إن أمر القبلة على ما أفهم من قلة أدلته مع اهتمام الشارع ببيان أحكام
الشرع حتى مستحبات الخلا واسع جدا، وليس أمر القبلة يضيق بل فيه وسعة
وقناعة بأدنى التوجه المناسب إلى جهة البيت كما يفهم من كلام بعض الأصحاب
مثل المحقق الثاني من أنه لا بد من حصول زاويتين قائمتين من الخط الخارج من
بين عيني المصلي الواصل إلى الخط الذي هو الجهة مع أنه ما بين الخط الجهتي
وكلام الذكرى من أنه لا يجوز الانحراف ولو قليلا.
أما قلة الأدلة فظاهرة إذ الآية الكريمة في غاية الاجمال، إذ من يعرف أن
نحو المسجد أين؟ مع أنه ورد في المدينة المشرفة، فإذا علم ذلك هناك ببيان مثلا
فمن أين يفهم حال جميع الآفاق مع الاحتياج إليه للكل للصلاة ليلا ونهارا بل

(1) في المصدر: في كتابه، وهو سهو.
(2) مجمع البيان ج 1 ص 228.
65

دائما لمن يصلي والذبح والاحتضار والدفن وللمستحبات من الجلوس والدعاء والانحراف في الخلا وغير ذلك، وليس من الأخبار الآن إلا خبر واحد في
التهذيب (1) في نهاية ما يكون من ضعف السند فإنه قال عن الطاطري بغير واسطة
عن جعفر بن سماعة عن علاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما الصلاة و
السلام قال سألته عن القبلة قال: ضع الجدي على قفاك وصل، وطريقه إليه غير
واضح، وهو ضعيف جدا على ما ذكروه وفي الطريق جعفر بن سماعة، وهو أيضا
من الضعفاء وآخر في الفقيه (2) بغير إسناد قال رجل للصادق عليه الصلاة والسلام:
إني أكون في السفر ولا أهتدي للقبلة بالليل، فقال أتعرف الكوكب الذي يقال
له الجدي؟ قلت: نعم، قال: اجعله على يمينك وإذا كنت في طريق الحج فاجعله
بين كتفيك، وهما مع ما في سندهما في غاية الاجمال كما ترى واستبعد من الحكيم
العالم أن يكلف بمثل هذا التكليف الشاق بهذه الأدلة فقط.
وأما ما يدل على عدم الضيق فهو بعض الأخبار الصحيحة أيضا مثل قولهم عليهم
الصلاة والسلام: بين المشرق والمغرب قبلة (3) كما يظهر من قوله تعالى: أيضا " ولله
المشرق والمغرب " (4) الآية على الظاهر.
وإن كان السبب ترك الأدلة المفصلة تفويض أمر القبلة إلى علم الهيئة فعلى
تقدير التسليم فذلك أيضا علم دقيق كثير المقدمات على ما يفهم من لسان أهله، ولا
يمكن الوصول إلى التحقيق به إلا بمشقة كثيرة في زمان طويل، والتكليف به أيضا
بعيد عن الشرع وقوانينه ولطفه، وكونه شريعة سهلة سمحة، والتفويض إلى تقليد أهل
ذلك العلم أيضا بعيد، إذ تقليدهم مع عدم عدالتهم، ليس من قوانين الشرع، إذ الظاهر
أنه لا بد من الانتهاء إلى قول بعض الحكماء الذي لا نعلم إسلامه فضلا عن العدالة
وإن أمكن وجود من يعلم عدالته مع علمه به من غير أخذ ممن تقدم من الحكماء
فهو نادر جدا.

(1) التهذيب ج 1 ص 244.
(2) فقيه من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 181.
(3) الفقيه ج 1 ص 179.
(4) البقرة: 116، وسيأتي الكلام فيه.
66

ومع ذلك كله لا يحصل العلم بالبيت، بل ولا مكة بل ولا الحرم أيضا، نعم يدعي
بعضهم القدرة عليه، مع وجود آلات كثيرة بحيث لا يمكن استحصاله إلا لمثل السلطان، و
مع ذلك كيف يمكن في البراري والقرى التي لا يعلم عرضها وما رصدوها بل في البلد
المرصد أيضا فإنهم يعينون عرض البلد من موضع معين من البلد، مثل وسط البلد
فيبقى نهاية البلد غير مرصد، فيتفاوت الحال فلا يفيد إلا تخمينا مع أنه في الأصل
تخميني إذ التحقيق على ما يظهر من كلامهم مما يعسر جدا، بل لا يمكن لعدم مساعدة
الآلات.
على أنا نجد الاختلاف فيما بينهم أيضا في المسائل والتحقيقات، نعم يقرب
ذلك للمهرة في الجملة، ولكن لا يسمن ولا يغني من جوع، وأيضا ما نعرف وجه ضم
الأصحاب مشرق الاعتدال ومغربه، إلى علامة العراق، مع أن الظاهر أن قبلتهم
ليست نقطة الجنوب كما يظهر من المشاهدة في مكة وتعيين الجدي خلف المنكب
مع أنهم يقولون حين كونه علامة هو واقع على النقطة الشمالية التي يوافق خط
نصف النهار والقطب، فيكون حينئذ بين الكتفين فكأنه بالنسبة إلى بعض البلدان.
وأيضا جعل النجم الصغير الذي بينه وبين الفرقدين قطبا لكونه عنده كما يظهر
من كلام العلامة أيضا على ما رأيت في حاشيته على المحرر غير واضح، على ما سمعت
من بعض أهل هذا العلم الذي هو خالي الذي لا نظير له اليوم في هذا العالم بل يقول
إن القطب قريب من الجدي جدا وأيضا شاهدته كما قال فإني نظرت وعلمت
علامة ورأيت هذا النجم الصغير يتحرك كثيرا ويقطع دائرة كثيرة، وحركة الجدي
كانت قليلة جدا، ودائرته أقل من دائرة تلك النجم بكثير، إذ رأيته كأنه ما يتحرك
من أول الليل إلى نصفه تخمينا ثم تبين له حركة قليلة وأيضا كلام أكثر الأصحاب
خال عن تسميته قطبا وما رأيته إلا في شرح الإرشاد للشيخ زين الدين رحمه الله.
ثم جعلهم قبلة خراسان مثلا مثل قبلة العراق كالكوفة بعيد أيضا لأنه شرقي
بالنسبة إلى الكوفة من مكة، مع أنهم يقولون إن قبلتها يقينية، إذ ثبت بالتواتر
صلاة المعصوم فيه بتلك القبلة، والعجب أنا نرى الجدي في الكوفة خلف المنكب
67

لا خلف الكنف كما قاله المحقق الثاني وجعل قبلة خراسان وأكثر بلاد العجم على
وضع الجدي خلف الكتف، وغير ما كان على غير ذلك إليه (1) والظاهر خلاف ذلك
وأن ما فعله بعيد جدا خصوصا في الخراسان. الله يعلم.
ومنها: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع
عليم (3).
" المشرق " مبتدأ " لله " متعلق بمقدر خبره و " المغرب " عطف عليه والفاء
للتفريع وأين للمكان و " ما " زائدة كما في حيثما وكيفما، متضمن لمعنى الشرط، و
هو مفعول فيه لتولوا، وهو فعل شرط حذف نونه بالجزم وفاء " فثم " للجزاء و
" وجه الله " مبتدأ و " ثم " ظرف لمقدر خبره، والجملة جزاؤه، والمقصود من الآية
على ما يفهم من الكشاف أن البلاد والأرض المنقسمة إلى المشرق أي النصف الذي فيه
محل طلوعها، والمغرب أي النصف الذي فيه محل غروبها كلها ملك لله، ففي أي مكان
فعلتم التولية بمعنى تولية وجوهكم شطر المسجد الحرام بدليل قوله تعالى: " فول
وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " فثم وجه الله
أي ثم جهته التي جعلها قبلة لكم، وأمركم أن تجعلوا وجوهكم إليها حيث ما كنتم
أو فثم ذاته تعالى يعني عالم فعلتم فيه، فيقبل منكم ويثيبكم مثل ما أثابكم في
المسجد الحرام وبيت المقدس.
يعني أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس كما فهم من
الآية السابقة، وهي " ومن أظلم " الآية (3) فإنها قبلها بلا فصل فقد جعلت لكم
الأرض مسجدا فصلوا في أي بقعة وأي جزء منها أردتم فإن الكل لله، وافعلوا
التولية، أي ولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام فإن ذلك ممكن في كل مكان، و

(1) أي غير ما كان لفظه على غير الكتف إلى الكتف.
(2) البقرة: 116.
(3) والآية هكذا: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها وسعى إلى خرابها الخ.
68

ليست بمخصوصة بمكان دون مكان، ويريد الله أن يدفع بذلك وهم من يتوهم عدم
إمكان التوجه إلى جهة واحدة من جميع الأمكنة.
" إن الله واسع " الرحمة يريد التوسعة واليسر لعباده " عليم " بمصالحهم
فإن المصلحة الحاصلة للصلاة في المساجد حاصلة لهم في أي مكان كان مع التولية
وحصول سائر الشرايط، وليست هذه بمنسوخة ولا مخصوصة بحال الضرورة ولا
بالنوافل مطلقا أو حال السفر كما يفهم من سائر التفاسير.
أما سبب النزول فقيل كان اليهود أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت
المقدس، وقيل نزلت في [صلاة] التطوع على الراحلة، حيث توجهت حال السفر
قاله في مجمع البيان ثم قال: هذا مروي عن أئمتنا عليهم السلام روي عن جابر أنه قال:
بعث النبي صلى الله عليه وآله سرية (1) كنت فيها وأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة، فقال طائفة
منا قد عرفنا القبلة هي هنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطا، قول بعضنا القبلة
هي ههنا قبل الجنوب فخطوا خطوطا فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك
الخطوط لغير القبلة، فلما رجعنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك فسكت
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقيل كان للمسلمين التوجه حيث شاؤوا في صلاتهم، وفيه نزلت الآية ثم
نسخت بقوله تعالى " فول " الآية ويفهم من رواية جابر أنه لا تجب الصلاة حال
الحيرة إلى أكثر من جانب واحد ويكفي الظن إلى جهته، وإن لم يكن عن علامات
شرعية وأن العلم قبل الفعل ليس بشرط بل إذا حصل الظن وفعل وكان موافقا
لغرضه كان مجزيا لا يحتاج إلى الإعادة، كما يفهم من عبارات الأصحاب.
وأما الحكم المستفاد من الآية بناء على الأول فهو إباحة الصلاة في أي
مكان كان، وعموم التوجه إلى المسجد الحرام، وأما على ما يستفاد من ظاهرها
قبل التأمل فهو عدم اشتراط القبلة مطلقا ويقيد بحال الضرورة، أو النافلة على
الراحلة سفرا لما مر، وغير ذلك، ويحتمل عموم النافلة فتأمل.

(1) السرية العسكر الذي لم يكن فيها النبي صلى الله عليه وآله.
69

* (النوع الرابع) *
في مقدمات أخر للصلاة وفيه آيات:
الأولى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا (1).
أي خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة منه، ونظيره قوله تعالى:
" وأنزل لكم من الأنعام " (2) وقوله تعالى " وأنزلنا الحديد (3) " فأشار إلى
أن للأمور السماوية مثل المطر دخلا في حصول اللباس، وقد تكون إشارة إلى
الرتبة فقط، فإن حصول اللباس لما كان بأمر الله وحكمته، وكان عاليا، فصار
نازلا من الأعلى إلى الأسفل " يواري سوأتكم " صفة " لباسا " يستر عورتكم و
روي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في ثياب عصينا الله
فيها " وريشا " عطف على لباسا، وهو لباس التجمل.
ففي الأول إشارة إلى وجوب ستر العورة باللباس مطلقا لقوله يواري سوأتكم
فإنه يدل على قبح الكشف وأن الستر مراد الله تعالى، وفي الثاني إلى استحباب
التجمل باللباس ويمكن فهم اشتراط كون اللباس مباحا لأن الله تعالى لا يمن
بإعطاء الحرام " ولباس التقوى " أي خشية الله أو الإيمان أو لباس يقصد به العبادة
والخشية من الله تعالى والتواضع له كالصوف والشعر، أو مطلق اللباس الذي
يتقى به من الضرر، كالحر والبرد والجرح، مبتدأ " وذلك خير " خبره بأن يكون
" ذلك " مبتدأ ثان (4) وخبره " خير " والجملة خبر لباس، أو " ذلك " صفته وخير خبره
أي لباس التقوى المشار إليه خير، وقرئ بالنصب (5) عطفا على لباسا كأنه يريد
على الأخير لباس يتقى به عن الحر والبرد والجرح والقتل دون اللباس الذي

(1) الأعراف: 25. وما بعدها ذيلها.
(2) الزمر: 6.
(3) الحديد: 25.
(4) مبتدءا ثانيا.
(5) قرأ ابن عامر والكسائي وهكذا أهل المدينة: " لباس التقوى " بنصب اللباس.
70

يستر عورته أو يتجمل به، فاللباس ثلاثة قد امتن الله على عباده بخلقه. وحينئذ
في " ذلك خير " تأمل ويمكن كونه خيرا لأنه يحصل به الستر والحفظ عن الحر
والبرد والجرح بخلافها، ويحتمل رجوعه إلى اللباس مطلقا
ثم أشار بقوله " ذلك من آيات الله لعلهم يتذكرون يا بني آدم لا يفتننكم
الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوأتهما إنه
يريكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون "
إلى أن إنزال اللباس من آيات الله ليتذكر الانسان ويتعظ، وأوصى إلى بني
آدم أن لا يمتحنه الشيطان ويبتليه ببلية، بأن يوقعه في ذنب يوجب دخوله النار
وينزع لباسه ويبدو عورته، كما فعل بأبويه، وأنه يراهم وهم لا يرونه، فالحذر
كل الحذر منه، ولا بد من عدم الغفلة، وقال إن الشيطان (1) هو [وقبيله] ظ
أولياء الذين لا يؤمنون فلا يجوز للمؤمن أن يأخذه وليا.
" وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها " كأن المراد
بالفاحشة الذنب الفاحش قال القاضي: فعلة متناهية في القبح والفحش، كعبادة
الصنم وكشف العورة إذا فعلوها يعتذرون باتباع الآباء وأن الله أمرهم بها
فرده الله تعالى بأن قال " قل إن الله لا يأمر بالفحشاء " أي الله لا يأمر بالفحش
والقبح فإنه قبيح ومنهي عنه، كأنه ترك الأول لظهور قبحة وعدم صلاحيته
للعذر (2) ومثله في القرآن كثير، ففيه دلالة على عدم جواز التقليد، وأن الله لا
يأمر بالقبح، وأنه قبيح، وأنه لا يفعل القبيح، وأن الفعل في نفسه قبيح، من
غير أمر الشارع، وأمثالها كثيرة في القرآن العزيز مثل " إن الله يأمر بالعدل و
الاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر (3) " فقول الأشعري
إن الحسن محض قول الشارع افعل، والقبح قوله لا تفعل: باطل، وهو واضح.
وأكد نفي صدور القبح عن الله تعالى بقوله " أتقولون على الله ما لا تعلمون

(1) لفظ الآية " إذا جعلنا الشياطين أولياء " الخ.
(2) الأول قولهم " أنا وجدنا عليها آباءنا " والثاني: " والله أمرنا بها ".
(3) النحل: 90.
71

قل أمر ربي بالقسط " ومعلوم قبح الأمر بالفحش، وأن الآمر به ليس بمسقط
ففيها تأكيدات على نفي القبح عن الله تعالى، وكون الفعل قبيحا في نفسه فهو
حجة على النافي من الأشعري.
الثانية: يا بني آدم خذوا زينتكم (1).
أي لباسكم، حيث إنه ساتر للعورة، فهو زينة " عند " دخول " كل مسجد "
لطواف أو صلاة أو مطلق دخول المساجد، ويحتمل أن يريد أخد ثياب التجمل
فيهما فإن الزينة أخذت لله تعالى، فعلى الأول دليل وجوب ستر العورة في الصلاة
والطواف. وعلى الثاني استحباب الزينة فيهما، أو مطلق المسجد، وقد فسر بالمشط
والسواك والخاتم والسجادة والسبحة، ثم عقب الأمر بالستر بالأمر بالأكل و
الشرب وعدم التنزه عن ذلك، بقوله " وكلوا وأشربوا " ما طاب أو أبيح أو
استلذ مما خلقه الله لكم كاللبس " و " لكن " لا تسرفوا " بتعدي حدود الله مطلقا بتحريم
الحلال، وبالعكس، أو في المأكل والمشرب والملبس، فلا يجوز أكل وشرب
ولبس ما لا يجوز، ولا ينبغي ما لا يليق بحاله، وعدم لبس لباس التجمل وقت
النوم والخدمة، ونحو ذلك كما بين في محل تفصيله. أو في الأكل والشرب حتى
يكون إشارة إلى كراهة وتحريم كثرة الأكل المؤدي إلى المرض ولهذا قيل (2)
جمع الله الطب في نصف آية " كلوا واشربوا ولا تسرفوا " " إن الله لا يحب المسرفين "
أي يبغضه، فينبغي حمل " ولا تسرفوا " على الاسراف الحرام، ثم أكد ما تقدم
بقوله " قل من حرم زينة الله " أي قل يا محمد ما حرم الله زينته أي الأمور التي
خلقها الله تعالى لزينة عباده " التي أخرج " الله " لعباده " أي خلقها لعباده وأخرجها
من النبات كالقطن والكتان ومن الحيوانات كالصوف والسفر آلات " والطيبات

(1) الأعراف: 30.
(2) القائل هو علي بن الحسين بن واقد للطبيب النصراني بمحضر هارون الرشيد العباسي
راجع الكشاف ج 2 ص 60 مجمع البيان ج 4 ص 413.
72

من الرزق " المستلذات من المأكل والمشرب أو المباحات، ففيها دلالة واضحة على
أن الأشياء خلقت على الإباحة دون الحرمة، كما في غيرها، كما صرح به صاحب
الكشاف في أول سورة البقرة في قوله تعالى " هو الذي خلق لكم ما في الأرض
جميعا (1) " أي لانتفاعكم بجميع ما خلق فيها بل هي وما فيها كما دل عليه العقل
فاجتمع الآن العقل والنقل على أن الأصل في الأمور هو الإباحة، وغيرها يحتاج
إلى الدليل فتأمل. " قل هي للذين آمنوا " أي الطيبات ثابتة ومباحة للمؤمنين مع
مشاركة الكفار لهم " في الحياة الدنيا خالصة " للمؤمنين مختصة بهم " يوم القيمة "
ففي الحياة الدنيا، متعلقة بمتعلق " للذين " ويحتمل بآمنوا، وخالصة حال عن
ضمير الطيبات في متعلق " للذين " ويوم القيمة ظرف لخالصة.
ثم أشار مرة أخرى إلى حصر المحرمات الإضافية بقوله " قل إنما حرم
ربي الفواحش " الفواحش ما زاد فحشه وقبحه، وقيل: المراد ما يتعلق بالفروج
" ما ظهر منها وما بطن " جهرها وسرها " والإثم " أي ما يوجب الإثم تعميم بعد
تخصيص وقيل: شرب الخمر " والبغي " الظلم والكبر " بغير الحق " متعلق
بالبغي مؤكدا له " وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا " تهكم بالمشركين، و
تنبيه على وجوب اتباع البرهان، حيث يفهم أنه لو كان على الشرك برهان لوجب
إلا أن البرهان عليه محال، وعلى تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان " وأن
تقولوا على الله ما لا تعلمون " بالإلحاد في صفاته، والافتراء عليه، وإسناد الأمور
الغير الصادرة عنه إليه تعالى، منها أن الحكم في المسألة كذا مع أنه ليس كذلك
وأن الله يعلم كذا ولم يكن كذلك، ويدخل فيه الفتوى والقضاء بغير الاستحقاق
وهو ظاهر، ومعلوم وجود محرمات غير هذه المذكورات فهي متروكة الظاهر، و
مخصوصة بها، والحصر إضافي فتأمل.
الثالثة: حرمت عليكم الميتة (2).

(1) البقرة: 29.
(2) المائدة: 4.
73

كأنه إشارة إلى بيان المستثنى الذي أشار إليه بقوله " إلا ما يتلى (1) "
فمن المحرمات المتلوة الميتة والظاهر أنها كل حيوان فارقته الروح من غير
تذكية شرعية، ولو باخراج المسلم السمك من الماء حيا وأخذ الجراد كذلك
ويحتمل أن يكون المراد كل حيوان مأكول اللحم حين حياته، وفارقته الروح
من غير تذكية شرعية فيكون التحريم من جهة الموت الخاصة كما هو ظاهر سوق
الآية، وظاهر لفظ الميتة مشعر بأن ما لم تحل فيه الحياة منها لا يكون حراما
ولهذا استثناه الأصحاب مؤيدا بالإجماع على الظاهر والأخبار ويمكن أن يقال:
المتبادر من تحريم الميتة تحريم أكلها كما في الدم ولحم الخنزير، وإن ثبت
تحريم جميع انتفاعاتها فيكون بغيرها ويحتمل فهمه أيضا ولهذا قالوا يحرم جميع
الانتفاعات بالميتة لأن العين ما تحرم، وتقدير الأعم أولى، لئلا يلزم الاجمال
والترجيح بلا مرجح، إذ لا قرينة على الخصوص فافهم وحينئذ يدل على عدم
جواز لبس جلد الميتة في الصلاة وغيرها، دبغت أم لا، كما يدل عليه الأخبار بل
إجماع الأصحاب، ولا دلالة في الآية على نجاسة الميتة فتأمل، وسوف يأتي البحث
في تتمة الآية في كتاب الأطعمة إنشاء الله تعالى.
الرابعة والخامسة: والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها
تأكلون (2)، الآية.
عد الله تعالى نعما منها خلق الأنعام للإنسان، المشتملة على الدفء و
هو ما يدفأ به من الأكسية والملابس المأخوذة من شعرها وصوفها ووبرها، ومنافع
أخرى لهم مثل الركوب واللبن والحرث، وأكل لحومها وغيرها ثم عد نعما
أخر بقوله " والله جعل لكم من بيوتكم " أي جعل من البيوت المأخوذة من الحجر
والمدر وغيرهما " سكنا " أي ما تسكن النفس إليه، وتطمئن إليه من مسكن و

(1) في قوله تعالى: " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " المائدة: 1.
(2) النحل: 79 و 80.
74

موضع تسكنون فيه " وجعل لكم من جلود الأنعام " يعني الأدم " بيوتا " قال القاضي
ويجوز أن يتناول المتخذ من الوبر والصوف والشعر فإنها من حيث إنها نابتة
على جلودها يصدق عليها أنها مأخوذة من جلودها، فتأمل فيه " تستخفونها "
قبابا وخياما يخف عليكم حملها في أسفاركم " يوم ظعنكم " أي وقت ارتحالكم من
مكان إلى آخر " ويوم إقامتكم " أي الوقت الذي تنزلون موضعا تقيمون فيه، لا
يثقل عليكم في الحالين " ومن أصوافها " وهي للضأن " وأوبارها " وهي للإبل " و
أشعارها " للمعز (1) " أثاثا " مالا، قيل أنواعا من متاع البيت من الفرش والأكسية
" ومتاعا " أي سلعة تنتفعون بها وتتخذونها " إلى حين " إلى يوم القيمة عن الحسن
وقيل إلى وقت الموت، يحتمل أن يراد به موت المالك أو موت الأنعام، وقيل
إلى وقت البلى والفنا، وفيه إشارة إلى أنها فانية فلا ينبغي للعاقل أن يختارها
كذا في مجمع البيان والأول بعيد.
السادسة: والله جعل لكم مما خلق ظلالا (2).
أي وجعل لكم مما خلق من الأشجار والأبنية ظلالا أشياء تستظلون بها
في الحر والبرد " وجعل لكم من الجبال أكنانا " مواضع تسكنونها من كهف و
ثقبة تأوون إليهما " وجعل لكم سرابيل " قمصا من القطن والكتان والصوف
" تقيكم الحر " ترك البرد، لأن ما يقيه يقيه، واختاره على البرد، لأن
المخاطبين أهل الحر وليس عندهم البرد إلا قليلا، فالحفظ عنه أهم عندهم، و
قيل: إن الحر يقتل دون البرد، ويحتمل أن البرد يمكن دفعه بشئ مثل النار
والدخول في البيت، بخلاف الحر " وسرابيل " الدروع والجواشن " تقيكم

(1) الشعر ما ينبت من مسام البدن مما ليس بصوف ولا وبر، وهو عام، وقول المصنف
" للمعز " تمثيل، قال في الكليات: الشعر للإنسان وغيره، والصوف للغنم، والمرعزاء
للمعز، والوبر للإبل والسباع، والعفاء للحمير، والهلب للخنزير، والزغب للفرخ، و
الريش للطائر، والزف للنعام.
(2) النحل: 81.
75

بأسكم " شدة الطعن والضرب في الحروب، وتدفع عنكم سلاح أعدائكم وفيها
دلالة على إباحة هذه الأمور ونحوها وهو ظاهر فتأمل " يعرفون نعمة الله ثم
ينكرونها (1) " في الكشاف قال: إنكارهم النعمة هو قولهم: لولا فلان ما أصبت
كذا لبعض نعم الله، وإنما لا يجوز التكلم بنحو هذا القول إذا لم يعتقد أنها من الله
وأنه أجراها على يد فلان وجعله سببا في نيلها، فتدل على تحريم هذا القول، بل
هو قريب من الكفر، ويدل عليه بعض الأخبار أيضا، فلا بد من الاجتناب و
الاحتياط.
السابعة: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى
في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي
ولهم في الآخرة عذاب عظيم (2).
المنع هو الصد والحيلولة، قال في مجمع البيان: الظلم اسم ذم لا يجوز
إطلاقه على الأنبياء والمعصومين كأنه التعدي وخلاف العدل، والخروج عن
طاعة الله تعالى، والسعي هو الكسب، يقال فلان يسعى على عياله أي يكسب لهم
وضده الوقف والترك، والخراب هو الهدم، ومن للاستفهام الإنكاري مبتدأ و
أظلم خبره، ومساجد المفعول الأول لمنع، وأن يذكر مفعوله الثاني، ويحتمل
أن يكون محذوفة عن أن، لأن حذف حرف الجر عن أن قياس ويجوز أن
يكون مفعولا له بحذف المضاف، أي كراهة أن يذكر.
كذا في الكشاف، ومجمع البيان، ولا يرد عليه أنه يفيد تحريم
المنع المعلل والمقيد لا المطلق، فيعلم الجواز في الجملة، لأن نهاية ما
يفهم منه أنه من منع لا لذلك، لا يكون أظلم، بل يوجد من هو أظلم وهو كذلك
فلا يحتاج إلى أنها للمبالغة فيكون المبالغة أقل من المنع للكراهة، وزاد في

(1) النحل: 83.
(2) البقرة: 114.
76

مجمع البيان احتمال كون المذكور بدلا عن مساجد، بدل اشتمال، كأنه يقول
ليس أحد أظلم ممن منع أن يذكر في مساجد الله اسمه، لعل علاقة الاشتمال مثل اشتمال
الظرف على المظروف والتقدير: ومن أظلم ممن منع الناس من مساجد الله كراهية
أن يذكر أو من ذكر الله، وفي جعل مساجد ممنوعا كما وقع في الاحتمال الأول
مسامحة، فيحتمل القول بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فكأن الأصل
" مترددي مساجد الله " فلا يرد ما قيل إن " منع " يقتضي مفعولين، ولا يمكن أن
يقدر إلا الذكر فإنه الممنوع. على أن الذكر ممنوع منه، والناس هم الممنوعون.
والمقصود تحريم المنع من ذكر الله في المساجد أي مسجد كان، وبأي ذكر كان
وإن كان سبب النزول خاصا بأنه كان النزول في الروم حيث غزوا في بيت المقدس
وخربوه، أو في المشركين حيث منعوا رسول الله صلى الله عليه وآله أن يدخل المسجد الحرام
عام الحديبية فتأمل.
ولا يبعد أن يراد به مطلق العبادة فيه، بل المنع عن مطلق العبادة، لظهور
العلة وتدل الآية على تحريم السعي في خرابه، فيحرم الخراب بالطريق الأولى
وفي ذكر السعي في الخراب بعد المنع إشعار ما بأن يكون المنع عن الذكر فيها
تخريبا، والعبادة فيها تعميرا، فيدخل الذكر فيها في تعمير المساجد، وأما دلالة
تتمة الآية على تحريم دخول المساجد على الكفار كما قيل، فليس بظاهر. إذ
ليس بظاهر في أن معناها النهي عن تمكن الكفار وتمكينهم من دخولها، إذ قد يكون
معناها كما هو الظاهر ما كان ينبغي لهم الدخول في نفس الأمر ولا يليق لهم ذلك إلا
خائفين من أذى المسلمين، والإخراج لهم، وصار الأمر الآن بالعكس، يعني في
الواقع ما يستحقون الدخول إلا خائفين وذليلين وهو يتعدون ذلك ويمنعون المسلمين
من الدخول، كما يدل عليه أيضا آخرها " لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة
عذاب عظيم " ويمكن كون ذلك الدخول خائفا والخزي (1) هو الذل في الدنيا
أو إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون ويكون العذاب العظيم في الآخرة إشارة إلى

(1) في نسخة سن بعد قوله خائفا: ولذا سئموا الخزي في الدنيا وإعطاء الجزية الخ.
77

عذاب يوم القيامة، وهو عظيم، وأي عظيم نعوذ بالله منه.
قيل (1) في الآية أحكام، ما عرفناها بل لم يظهر كون بعضها حكما في نفس
الأمر مثل وجوب اتخاذ المساجد كفاية، ووجوب عمارة ما استهدم منها، ووجوب
شغلها بالذكر، واستحباب كل واجب كفائي عينا فتأمل وهو أعلم.
الثامنة: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة
وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين (2).
فيها حث عظيم وترغيب جزيل على تعمير المساجد، وأن له شانا كبيرا
عند الله حتى أنه لا بد من اتصاف فاعله بهذه الأوصاف الجليلة، وإلا ففعله كعدمه
فينبغي أن يكون التعمير ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ولم يخش إلا الله وإلا
فتعميره ليس تعميرا مرضيا.
والمراد المبالغة، وإلا فالتعمير أمر مطلوب للشارع من كل مؤمن ويترتب عليه
ثوابه الذي قرره [الله] ولكن قد يكون فيه الزيادة بالإخلاص، واتصاف فاعله
بالأفعال الحسنة، ولا بعد في ذلك، ولهذا قيل " حسنات الأبرار سيئات المقربين "
فكأنه إشارة إلى أن المؤمن الكامل لم يترك شيئا من العبادات، بل يجعل غير الله
معدوما حتى لم يخف مما يهلكه من الإنس والجن، ويجعل خوفه وطمعه منحصرا
فيه تعالى، ومع ذلك يرجى أن يكون من المهتدين.
ثم إنه قيل يحتمل أن يكون المراد بالتعمير رم المساجد بإصلاح ما يستهدم
وتزيينها، وإزالة ما تكره النفس منه، مثل كنسها، فإنه روي: من كنس مسجدا
يوم الخميس وليلة الجمعة وأخرج من التراب مقدار ما يذر في العين غفر له (3)
والاسراج فيها روي أنه من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش

(1) راجع كنز العرفان ج 1 ص 6 10.
(2) براءة: 19.
(3) الوسائل أبواب أحكام المساجد الباب 8.
78

يستغفرون له ما دام ذلك المسجد ضوؤه، ويحتمل أن يكون المراد شغلها بالعبادة
مثل الصلاة والزكاة وتلاوة القرآن، وتجنبها من أعمال الدنيا واللهو واللعب
وعمل الصنايع بل الحديث فإنه مروي: الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل
النار الحطب، قيل المراد اللهو من الحديث وأيضا قد ذكروا أن منع المساجد من
العبادة فيها تخريب حتى إطفاء السراج، ويمكن أن يكون المراد كلاهما ولا بعد
في ذلك لوجود الدليل عليهما، كما عرفت، مع إمكان الصدق عرفا وشرعا وإن
يكن لغة وعرفا عاما والله يعلم بحقيقة الحال.
وهنا آيات أخر تتعلق بالمساجد ذكرنا آية منها:
وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين (1).
أي توجهوا إلى عبادة الله مستقيمين، غير عادلين إلى غيرها، وأقيموها نحو
القبلة في كل وقت سجود أو في كل مكانه وهو الصلاة، أو في أي مسجد حضرت
الصلاة وأنتم فيه، لا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم، فيحتمل استخراج
صلاة التحية على ما قيل فتأمل ثم أمرهم بالدعاء عند كل مسجد مخلصين له ذلك
وفيه دلالة على الحث على الدعاء في المساجد.
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين
أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين " (2) يعني
الذين يتخذون دينكم لهوا ولعبا وهزؤا، ويتمسخرون بدينكم من أهل الكتاب
والمشركين، لا يصح ولا يجوز لكم أيها المؤمنون أن تحبوهم وتولوهم ويكون
بينكم وبينهم مودة ووداد، أو تكونوا أولياء لهم، وتجعلونهم أولياء لكم، بل
بينكم وبينهم البغضاء والقتال، فإن محبة الله لا يجتمع مع محبة عدوه، واتقوا
الله في موالاتكم أعداء الله إن كنتم مؤمنين حقا وأن الإيمان يعاند موالاة أعداء

(1) الأعراف: 28.
(2) المائدة: 63، وذكرها كالمقدمة للآية التاسعة الآتية.
79

الدين، ففيه إشعار بعدم جواز موالاة الفساق، والمعاشرة معهم، بحيث يشعر
بالصداقة فافهم.
التاسعة: وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم
قوم لا يعقلون (1).
أي لا تتخذوا الذين إذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوا مناداة الصلاة أي الأذان
هزوا ولعبا " أولياء " قيل: كان رجل من النصارى إذا سمع أشهد أن محمدا رسول الله
في الأذان قال حرق الكاذب، يعني المؤذن فدخلت خادمته أي جاريته بنار ذات
ليلة وهو نائم، فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت، واحترق هو وأهله
لعنه الله، قيل فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده، وفيه
تأمل إذ فيه دلالة على ثبوته في الشرع، ففي الكتاب دلالة على أنه كان في الشرع
ذلك أما ثبوته بالكتاب فلا، ولما كان لعبهم وهزوهم من أفعال السفهاء والجهلة
قال: " لا يعقلون " كأنه لا عقل لهم.
* (النوع الخامس) *
* (في مقارنات الصلاة وفيه آيات) *
قد استدل على وجوب القيام والنية والقنوت بقوله تعالى: " وقوموا لله
قانتين " وفي إفادته لها تأمل لا يخفى، وكذا استدل على وجوب تكبيرة الاحرام
المشهور على الوجه المنقول بقوله تعالى " وكبره تكبيرا " وبقوله " وربك فكبر " (2)
وفي دلالتهما أيضا خفاء فافهم، واستدل على وجوب القراءة حتى السورة أيضا
بقوله تعالى وهي الرابعة: " فاقرؤا ما تيسر من القرآن (3) " وبقوله تعالى:

(1) المائدة: 64.
(2) الأولى في البقرة، 238، والثانية في أسرى: 111، والثالثة في المدثر: 3.
(3) المزمل: 20.
80

" فاقرؤا ما تيسر منه (1) " وفي إتمام الاستدلال به أيضا تأمل يعلم بالتأمل في
تقريره مع التأمل في الآية وتفسيرها وقد فسرت القراءة بصلاة الليل، وهو ظاهر
سوق الكلام، أو تلاوة القرآن في الليل أو مطلقا استحبابا أو وجوبا، لحفظ المعجزة
وغيرها، والمخاطب هو صلوات الله عليه مع طائفة معه، وأما القراءة في الصلاة
فلا يفهم فتأمل.
الخامسة: يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم و
افعلوا الخير لعلكم تفلحون (2).
ليس فيها دلالة على استحباب السجود عند قراءتها، بل وجوب الركوع و
السجود، كأنه في الصلاة، وعبادة الرب من الصوم والصلاة والحج والغزو وغير
ذلك ثم أمر بفعل الخيرات مطلقا مثل صلة الرحم، وفي الكشاف صلة الرحم و
مكارم الأخلاق وافعلوا ذلك كله لعلكم تفلحون وأنتم راجون الفلاح، طامعون
فيه، غير مستيقنين، ولا تتكلوا على أعمالكم، وعن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول
الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: نعم، إن لم تسجدهما فلا تقرأهما (3).
السادسة: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (4).
قيل المراد بالمساجد الأعضاء السبعة التي يسجد عليها، وأيد بقوله صلى الله عليه وآله:
أمرت أن أسجد على سبعة آراب أي أعضاء، وقد روي عن أبي جعفر عليه
الصلاة والسلام (5) فالمعنى أنها لله أي خلقت لأن يعبد بها الله، فلا تشركوا معه
غيره في سجودكم عليها وظاهر أنها المساجد المعروفة كما قيل، فالمعنى أنها
مختصة بالله تعالى، فلا يتعبد فيها مع الله غيره، وقيل: المراد بقاع الأرض كلها

(1) المزمل: 20.
(2): 77
(3) سنن أبي داود ج 1 ص 324.
(4) الجن: 18.
(5) نقله عن المجمع ج 10 ص 372 وروي الحديث في سنن أبي داود ج 1: 205.
81

لقوله صلى الله عليه وآله " جعلت لي الأرض مسجدا " فلا يعبد فيها غيره، وقيل المسجد الحرام
عبر [عنه] بالمساجد لأنه قبلتها وهو بعيد، الله يعلم.
قيل السجدات (1) جمع مسجد بالفتح مصدرا، فالمراد يجب السجود لله، فلا
يفعل لغيره.
السابعة: فسبح باسم ربك العظيم ومثلها: سبح اسم ربك الأعلى (2).
روي من طرق العامة أنه لما نزلت الأولى قال النبي صلى الله عليه وآله اجعلوها في
ركوعكم، ولما نزلت الثانية قال: اجعلوها في سجودكم (3) ومن طرقنا (4) عن
الصادق عليه الصلاة والسلام أنه يقول في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود
سبحان ربي الأعلى الفريضة واحدة والسنة ثلاثة، فالروايتان تدلان على كون
الذكر الخاص فيهما، ولكن بحذف " وبحمده " وتدل غيرهما على زيادته وهي
مقبولة كما ثبت في الأصول، وكذا على إجزاء مطلق التسبيح، بل مطلق الذكر
وذلك غير بعيد، والاحتياط قولهما ثلاثا مع زيادة وبحمده.
الثامنة: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (5).
قال في مجمع البيان: في معناه أقوال أحدهما أن معناه لا تجهر بإشاعة صلاتك
عند من يؤذيك، ولا تخافت بها عند من يلتمسها منك عن الحسن، وروي أن النبي
صلى الله عليه وآله كان إذا صلى فجهر في صلاته تسمع له المشركون فشتموه، وآذوه
فأمره سبحانه بترك الجهر، وكان ذلك بمكة في أول الأمر وبه قال سعيد بن جبير
وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام ولا يخفى بعده، فإنه حينئذ لا معنى لقوله

(1) يعني قيل: المراد بالمساجد السجدات الخ.
(2) الواقعة: 74 و 96، والحاقة: 52.
(3) سنن أبي داود ج 1 ص 201.
(4) الوسائل ب 4 من أبواب الركوع الحديث الأول.
(5) أسرى: 110.
82

" ولا تخافت بها وابتغ " ولعل الرواية عنهما غلط، ويؤيده نقل خلاف ذلك عنه
عليه الصلاة والسلام أو الاخفات محمول على عدم حديث النفس، بحيث لا يظهر الحروف
والابتغاء على وجه لا يسمع من يؤذي ويستمع فتأمل.
وثانيها: أن معناه لا تجهر بدعائك ولا تخافت به، ولكن أطلب بين ذلك
سبيلا، فالمراد بالصلاة الدعاء، ولا يخفى بعده أيضا فإن المتبادر منها الصلاة
الشرعية، وأن الاخفات في الدعاء مطلوب قال الله تعالى " ادعوا ربكم تضرعا و
خفية (1) " وفي موضع آخر " وخيفة ودون الجهر من القول (2) " وفي الأخبار
ما يدل عليه كثير.
وثالثها أن معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافك بها كلها وابتغ بين
ذلك سبيلا: بأن تجهر بصلاة الليل، وتخافت بصلاة النهار، ليمكن المتابعة و
الجماعة في الفريضة والقيام للنافلة أيضا. هذا أيضا بعيد، وغير مفهوم، مع أنه
لا بد من جعل صلاة الفجر من الليلية، وجعل ركعتي العشاء والأخيرة من المغرب
من النهارية، وهو مما لا يفهم بوجه.
ورابعا لا تجهر جهرا يشغل به من يصلي قربك، ولا تخافت حتى لا تسمع
نفسك عن الجبائي وقريب منه ما رواه أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال الجهر
بها رفع الصوت شديدا والمخافتة ما لم تسمع أذنك وابتغ بين ذلك سبيلا أي
قراءة وسط بين الجهر والمخافتة، وهذا هو المتبادر فالمنهي هو الجهر العالي جدا
بحيث يخرج عن كونه قارئا في الصلاة، والاخفات الخفي بحيث يلحق بحديث
النفس، ويخرج عن القراءة، فلا يجوز الافراط ولا التفريط، بل يجب الوسط و
الاقتصاد والعدل، وما بين الافراط والتفريط، ولكن علم من السنة الشريفة
اختيار بعض أفراد هذا الوسط في بعض الصلوات: الجهر في الجملة للرجل في
الصبح وأولتي المغرب والعشاء، وجميع النوافل الليلية، والاخفات في غيرها.

(1) الأعراف: 55.
(2) الأعراف: 205.
83

ولكن كون ذلك على سبيل الوجوب غير معلوم الدليل، إذ لا دليل على
وجوب التفصيل المشهور، ويؤيد عدمه الأصل، والرواية الصحيحة (1) وظاهر الآية
وخفاء معنى الجهر والاخفات، وبيانهم في الرجل بحيث يعد عرفا جهرا والاخفات
بما لا يسمعه القريب [أو] بحيث لا يعد عرفا جهرا، بل يعد إخفاتا، وإن كان مما
يسمعه القريب بل البعيد أيضا وفي المرأة لا يسمعه الأجنبي، غير معلوم المأخذ، مع
عدم الوضوح، والبيان، فإن فيه خفاء، فيمكن حمل الرواية المجملة في الجهر و
الاخفات على الاستحباب، للجمع كما هو مذهب علم الهدى في الانتصار والله يعلم
بحقيقة الحال والصواب.
وقال في الكشاف: " بصلاتك " بقراءة صلاتك على حذف المضاف، لأنه لا
يلتبس من قبل أن الجهر والمخافتة صفتان تعتقبان على الصوت لا غير، والصلاة
أفعال وأذكار، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يرفع صوته بقراءته، فإذا سمعه المشركون
لغوا وسبوا، فأمر بأن يخفض من صوته، والمعنى ولا تجهر حتى تسمع المشركين
ولا تخاف حتى لا تسمع من خلفك، وابتغ بين الجهر والمخافتة سبيلا وسطا انتهى، هذا
مع عدم ظهوره لا يوافق المسألة، إذ ليس دائما مأمورا باسماع من خلفه، بل مأمور
في بعضها بذلك في الجملة وفي بعضها بعدمه، وذهب قوم إلى أن الآية منسوخة
بقوله " ادعوا ربكم تضرعا وخفية (2) " وابتغاء السبيل مثل لانتحاء الوجه الوسط
في القراءة وفيها ما تقدم، مع زيادة لزوم النسخ، على أنه غير لازم لامكان الجمع
فتأمل.
التاسعة: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا
عليه وسلموا تسليما (3).
أي قولوا الصلاة والسلام على رسول الله أو اللهم صل وسلم عليه، في الكشاف:

(1) الوسائل أبواب القراءة الباب 25 الحديث 6، عن علي بن جعفر.
(2) الأعراف: 54.
(3) الأحزاب: 56.
84

معناه الدعاء بأن يترحم عليه ويسلم، وفي رواية كعب الأحبار (1) إنا قد عرفنا
السلام عليك يا رسول الله فكيف الصلاة؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد
وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وظاهرها وجوب الصلاة والسلام
عليه في الجملة، فيحتمل أن يكون الصلاة هي التي جزء التشهد، والسلام حال
حياته، وقد يكون واجبا حينئذ، أو يكون مندوبا كما يسلم عليه في آخر الصلاة
يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته أو يقصد بالسلام المخرج عن الصلاة
أو يكون بمعنى التسليم والانقياد كما قيل، ويحتمل وجوب الصلاة عليه كلما
ذكر، كما دل عليه بعض الأخبار، وبالجملة لا يفهم وجوب غير ذلك.
قال في الكشاف: الصلاة عليه واجبة، وقد اختلفوا في حال وجوبها، فمنهم
من أوجبها كلما جرى ذكره، وفي الحديث من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل
النار فأبعده الله، هذه مروية من طرقنا (2) أيضا مع غيرها، ويروى أنه قيل: يا
رسول الله أرأيت قول الله تعالى: " إن الله وملائكته يصلون على النبي " فقال
عليه الصلاة والسلام: هذا من العلم المكنون، ولولا أنكم سألتموني عنه، ما

(1) كذا في جميع النسخ، وهو سهو من طغيان قلمه الشريف، والصحيح كعب بن
عجرة، راجع الوسائل الباب 35 من أبواب الذكر الحديث الثاني، مجمع البيان ج 8 ص
369، ورواه في مشكاة المصابيح ص 86، بلفظ آخر وقال: متفق عليه، وهكذا في المنتقى
على ما في نيل الأوطار ج 2 ص 298، وقال رواه الجماعة، وقد روي مثل الحديث عن أبي
حميد الساعدي كما في مشكاة المصابيح ص 86، وقال: متفق عليه، ونظيره عن أبي مسعود
الأنصاري رواه المنتقى على ما في نيل الأوطار ج 2 ص 294، قال رواه أحمد ومسلم والنسائي
والترمذي وصححه وأبو داود (أنظر ج 1 ص 225) وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وحسنه والحاكم وصححه. والبيهقي وصححه، وفي بعض هذه الروايات: " أمرنا الله
أن نصلي عليك فإذا نحن صلينا عليك في صلاتنا نصلي عليك؟ " أنظر السراج المنير
في شرح الجامع الصغير ج 3 ص 68.
(2) الوسائل الباب 10 من أبواب التشهد ح 3. ومثله عن السيوطي في الجامع الصغير
على ما في السراج المنير ج 3 ص 357.
85

أخبرتكم به، إن الله وكل بي ملكين، فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلي على إلا
قال ذانك الملكان غفر الله لك، وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين آمين، ولا
أذكر عند عبد مسلم فلا يصلي على إلا قال ذانك الملكان: لا غفر الله لك، وقال الله
وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين (1) ومنهم من قال: يجب في كل مجلس
مرة، وإن تكرر ذكره، كما قيل في آية السجدة، وتسميت العاطس وكذلك
في كل دعاء في أوله وآخره، ومنهم من أوجبها في العمر مرة وكذا قال في إظهار
الشهادتين مرة، والذي يقتضيه الاحتياط الصلاة عليه عند كل ذكر، لما ورد من
الأخبار انتهى.
والأخبار من طرقنا أيضا مثل الأول موجودة مع صحة بعضها، ولا شك
أن احتياط الكشاف أحوط، واختار في كنز العرفان (2) الوجوب كلما ذكر
وقال إنه اختيار الكشاف، ونقل عن ابن بابويه، وأنت تعلم أنه لم يفهم اختياره
ويمكن اختيار الوجوب في كل مجلس مرة إن صلى آخرا، وإن صلى ثم ذكر
يجب أيضا كما في تعدد الكفارة بتعدد الموجب، إذا تخللت، وإلا فلا، ولعل
دليل عدم الوجوب الأصل والشهرة المستندان إلى عدم تعليمه صلى الله عليه وآله؟ للمؤذنين، و
تركهم ذلك مع عدم وقوع نكير لهم، كما يفعلون الآن، ولو كان لنقل فتأمل.
ثم قال في الكشاف: فإن قلت: فما تقول في الصلاة على غيره صلى الله عليه وآله قلت القياس
يقتضي جواز الصلاة على كل مؤمن، لقوله تعالى: " هو الذي يصلي عليكم و
ملائكته (3) " وقوله " وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم (4) " وقوله صلى الله عليه وآله اللهم
صل على آل أبي أوفى (5) ولكن للعلماء تفصيلا في ذلك، وهو أنها إن كان على
سبيل التبع كقولك صلى الله على النبي وآله، فلا كلام فيها، وأما إذا أفرد

(1) كما في الدر المنثور ج 5 ص 218. من حديث الحسن بن علي عليهما السلام.
(2) كنز العرفان ج 1 ص 133.
(3) الأحزاب: 43.
(4) براءة: 103.
(5) راجع سنن أبي داود ج 1 ص 368.
86

غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو، فمكروه لأن ذلك صار شعارا لذكر
رسول الله صلى الله عليه وآله، ولأنه يؤدي إلى الاتهام بالرفض (1).
ولا يخفى ما فيه فإن ما ذكره برهان لا قياس، وإن البرهان من العقل
والنقل كتابا وسنة كما نقله، ومثله قوله تعالى " وبشر الصابرين الذين إذا
أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم و
رحمة (2) " فإنها تدل على إن صلوات الله على من يقول هذا بعد المصيبة، ولا
شك في صدوره كذلك عن أهل البيت بل غيرهم أيضا، فإذا ثبت لهم الصلاة من الله
فيجوز القول بذلك لهم، وهو ظاهر اقتضى جوازه مطلقا، بل الانفراد بخصوصه
فلا مجال للتفصيل، ولا ينبغي جعله شعارا له أيضا صلى الله عليه وآله ولا ذلك مانعا، مع أنه لا
معنى للحكم بكراهة ما ثبت بالبرهان العقلي والنقلي كتابا وسنة من الترغيب
والتحريض بالأمر به، وإنما صار ذلك شعارا له أيضا صلى الله عليه وآله بسبب جعلهم ذلك له صلى الله عليه وآله
ومنعهم لغيره صلى الله عليه وآله.
ومع أن كون أهل بيته مثله في هذه الحال مما لا قصور فيه، كما هو عند
الاجتماع، وإنما صار ذلك شعار الرفضة، لأنهم فعلوا ذلك، وتركه غيرهم بغير وجه
وإلا فهو مقتضى البرهان، ومع ذلك لا يستلزم كونه شعارا لهم، ومتداولا بينهم
تركه وإلا يلزم ترك العبادات كذلك فإنها شعارهم، وبالجملة لا ينبغي منع
ما يقتضي العقل والنقل جوازه بل استحبابه وكونه عبادة، بسبب أن جماعة من
المسلمين يفعلون هذه السنة والعبادة، فإن ذلك تعصب وعناد محض، و [ليس] فيه
تقرب إلى الله تعالى وطلب لمرضاته وعمل لله تعالى، وهو ظاهر، ولا يناسب من
العلماء العمل إلا لله.
ولهم أمثال ذلك كثيرة، مثل ما ورد في تسنيم القبور أن المستحب هو
التسطيح، ولكن هو شعار للرفضة فالتسنيم خير منه، وكذلك في التختم باليمين

(1) تفسير الكشاف ج 2 ص 549.
(2) البقرة: 157.
87

وغير ذلك، ومنه ذكر " على " بعد قوله صلى الله عليه وعلى آله وترك الآل معه صلى الله عليه وسلم
مع أنه مرغوب بغير نزاع، وإنما النزاع كان في الافراد، فإنهم يتركون الآل معه، و
يقولون صلى الله عليه والعجب أنهم يتركون الآل وفي حديث كعب الأحبار (1) حيث
يقولون سأله عن كيفية الصلاة عليه، فقال صلى الله عليه وآله قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد
كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم الخ فتأمل.
ويدل على أن إيذاء الله ورسوله حرام موجب للعن أبدا قوله تعالى: " إن
الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا (2) "
ويدل على تحريم إيذاء المؤمنين والمؤمنات، أي المسلمين والمسلمات بغير
استحقاق وجناية يقتضي ذلك ويبيحه قوله تعالى " والذين يؤذون المؤمنين و
المؤمنات بغير ما اكتسبوا " أي بغير جناية واستحقاق تبيح ذلك " فقد احتملوا بهتانا
وإثما مبينا ".
ويدل على أن التقوى وهو الاتيان بالمأمور به، والانتهاء عن المعاصي و
القول السديد أي قولا حقا عدلا موجب لاصلاح الأعمال، وغفران الذنوب قوله
تعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعماكم ويغفر
لكم ذنوبكم (3) " والمراد حفظ اللسان في كل باب لان حفظه وسداد القول رأس
الخير كله والمعنى راقبوا الله من حفظ ألسنتكم وتسديد قولكم، فإنكم إن فعلتم
ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة، من تقبل حسناتكم، والإثابة عليها، ومن
مغفرة سيئاتكم وتكفيرها، وقيل: إصلاح الأعمال التوفيق في المجئ بها صالحة
مرضية.

(1) مر أن الصحيح كعب بن عجزة.
(2) الأحزاب: 57، وما بعدها ذيلها
(3) الأحزاب: 70.
88

* (النوع السادس) *
في المندوبات وفيه آيات:
الأولى: فصل لربك وانحر (1).
قيل: المراد صلاة العيد، فيكون دليلا على وجوبها، ويكون الشرائط
مستفادة من السنة الشريفة ويؤيده " وانحر " على تقدير أن المراد به نحر الإبل
كما قيل، ويمكن إرادة ذبح ما ذبح ليدخل الشاة وغيرها أيضا، أي صل صلاة
العيد، واذبح أضحيتك، ويكون المراد الهدي الواجب، أو يكون وجوب الأضحية
مخصوصا به صلى الله عليه وآله للإجماع المنقول على الظاهر على عدم وجوبها على أمته، بل هي
سنة مؤكدة للأخبار المذكورة في محلها، وإن نقل الوجوب عن ابن الجنيد في
في الدروس قال: وروى الصدوق خبرين (2) بوجوبها على الواجد، وأخذ ابن الجنيد
بهما، وقيل المراد صلاة الفجر بالمشعر، وذبح الهدي بمنى، وقيل المراد الصلاة
مطلقا وجعل نحر المصلي إلى القبلة فيها، وهو كناية عن استقبال القبلة فيها
فكأنه قيل: صل إلى القبلة ويحتمل كون المراد رجحان فعل الصلاة لله مطلقا والذبح
له، ويكون التفصيل بالوجوب والندب من السنة والاجماع وقد نقل في مجمع
البيان (3) أخبارا دالة على أن المراد رفع اليد بالتكبيرات في الصلاة إلى محاذاة
نحر الصدر وهو أعلاه كالمنحر، أو موضع القلادة قاله في القاموس وهي رواية عمر
بن يزيد قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول في قوله " فصل لربك وانحر " هو رفع
يديك حذاء وجهك، ورواية عبد الله بن سنان عنه عليه الصلاة والسلام مثلها ورواية
جميل قال: قلت لأبي عبد الله عليه الصلاة والسلام " فصل لربك وانحر " فقال بيده

(1) الكوثر: 2.
(2) الفقيه ج 2 ص 292.
(3) مجمع البيان ج 10 ص 550، وأخرج بعضها الحر العاملي في الوسائل الباب 9
من أبواب تكبيرة الاحرام، ومثلها في الدر المنثور للسيوطي ج 6 ص 403.
89

هكذا يعني استقبل بيديه حذاء وجه القبلة في افتتاح الصلاة (1) وفي رواية مقاتل
ابن حبان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام قال: لما نزلت
هذه السورة قال النبي صلى الله عليه وآله لجبرئيل ما هذه النحيرة التي أمرني ربي بها؟ قال:
ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا عزمت للصلاة أن ترفع يديك، إذا كبرت وإذا
ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، وإذا سجدت فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة في
السماوات السبع فإن لكل شئ زينة، وإن زينة الصلاة رفع الأيدي على كل
تكبيرة.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: رفع الأيدي من الاستكانة قلت وما الاستكانة؟ قال: ألا
تقرأ هذه الآية " فما استكانوا لربهم وما يتضرعون (2) ".
وقال في مجمع البيان بعده: أورده الثعلبي والواحدي في تفسيريهما فيكون
المراد مطلق الصلاة ورفع اليدين معا إلى حذاء الوجه والخد حال تكبيراتها، ويكون
مستحبا كما هو رأي أكثر الأصحاب، ويؤيده الأصل والشهرة والاحتمالات في
الآية. وبعض الأخبار الدالة على الترك، مثل صحيحة (3) حماد المشهورة الطويلة
فإنه ترك فيها رفع اليد في تكبير السجود كجلوس الاستراحة يدل على عدم وجوبها
لأنه في مقام التعليم، وكما في صحيحه (4) علي بن جعفر عن أخيه موسى بن
جعفر عليهما السلام قال: على الإمام أن يرفع يده في الصلاة، ليس على غيره أن يرفع يده
في الصلاة.
والظاهر أنه لا قائل بالفرق، قال في التهذيب وقال محمد بن الحسن: المعنى في

(1) وزاد في هامش المطبوعة كما في المجمع وهكذا كنز العرفان ج 1 ص 147: ورواية
حماد بن عثمان قال سألت أبا عبد الله عليه السلام ما النحر فرفع يديه إلى صدره فقال هكذا ثم رفعهما
فوق ذلك فقال هكذا يعني استقبل بيديه القبلة في استفتاح الصلاة.
(2) المؤمنون: 177.
(3) الفقيه ج 1 ص 196.
(4) الوسائل الباب 9 من أبواب تكبيرة الاحرام الحديث: 7
90

هذ أن فعل الإمام أكثر فضلا وأشد تأكيدا من فعل المأموم، وإن كان فعل المأموم
أيضا فيه فضل على ما بيناه، والأولى " الغير " بدل " المأموم " في الموضعين (1) والرواية
الأخيرة فإنها تدل على أنها من زينة الصلاة، وأنه من التضرع والخضوع فيها
ومعلوم عدم وجوبهما، فإنهما زائدتان على الأصل والاحتياط أن لا يترك، فإنه
نقل عن السيد قدس سره وجوبه، كأنه لما تقدم، مع صحة رواية عبد الله بن سنان
فإنها صحيحة في التهذيب ولرواية أخرى صحيحة في التهذيب (2).
ويحتمل إرادة السيد قدس سره أيضا بالوجوب والاستحباب فإنه قد يطلق
ذلك عليه، ويؤيده أنه ما نقل عنه وجوب التكبير صريحا ويبعد وجوب الرفع به
مع عدم وجوبه، وجعل ذلك شرطا، ولهذا قال الشهيد رحمه الله: كأنه قائل بوجوب
التكبير أيضا إذ لا معنى لوجوب الكيفية مع استحباب الأصل، وفيه تأمل معلوم، و
يدل على عدمه أيضا بعض الأخبار.
ويمكن فهم استحباب التعوذ بالله، وأخذ العوذة بالله من الشيطان، والجن
والإنس، وسحرهم، ومن عينهم، من المعوذتين، وأيضا يمكن فهم استحباب
الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى مع عدم العلم بحصول الذنب، فلا يبعد الغسل
المستحب له حينئذ أيضا من سورة النصر، وغيرها استفهم الله يفهمك.
الثانية: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (3).
لما ذكر العمل الصالح قبله بقوله: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو
مؤمن " الآية ذكر الاستعاذة من الشيطان اللعين عند تلاوة القرآن، إشارة إلى أن
الاستعاذة من جملة العمل الصالح، أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله من الشيطان
الرجيم من أن يوسوسك ويغلطك وينسيك، بأن تقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
وعبر عن إرادة القراءة بالقراءة للظهور والتبادر كما يقال إذا أفطرت فقل هذا

(1) يعني والأولى أن يقول: وأشد تأكيدا من فعل الغير وإن كان فعل الغير أيضا فيه فضل
(2) المصدر السابق.
(3) النحل: 98.
91

الدعاء وإذا أكلت فسم واغسل يديك، والمراد قبله كقوله تعالى: " إذا قمتم
إلى الصلاة فاغسلوا " الآية روي عن عبد الله بن مسعود قال قرأت على رسول الله صلى الله عليه وآله
فقلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي: قل أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنيه جبرئيل عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ (1)
فظاهر هذه الآية الشريفة بانضمام أن الأمر للوجوب، يفيد وجوب الاستعاذة عند
ابتداء قراءة القرآن مطلقا حتى أنه لو قطعها في الأثناء ثم أراد أن يقرأ فيستعيذ
ثم يقرء ولو كانت كلمة، والحاصل أنه يستعيذ دائما فيقرأ إلا في الاستدامة، فيلزم
وجوبه في كل ركعة يقرأ فيها، ولكن الظاهر أنه ما ذهب إليه أحد من العلماء، و
يحتمل كون الوجوب من خصايصه صلى الله عليه وآله، نعم نقل وجوبها عن أبي علي الحسن بن
الشيخ الطوسي رحمهما الله في أول الركعة قبل الحمد، فقط، محتجا بها، ولا دلالة
فيها عليه بخصوصه، وكأنه نظر إلى أنه يعلم الوجوب دائما، وما ذهب إليه أحد من العلماء
فيختص بأول الركعة، فلا يكون المراد إلا ذلك، وهو بعيد إذ القول لغيره في
ذلك أيضا بعيد، وإرادة قراءة الركعة الأولى من الصلاة الواجبة من ذلك
أيضا بعيد، لا يفهم من غير قرينة دالة عليه، فلا يمكن إرادة الله تعالى ذلك فيحمل
على الاستحباب دائما كما هو الظاهر، ويؤيده بعد التخصيص المذكور، وقرب
كون الأمر للندب، ولو كان مجازا مع كثرته، وكونه خيرا منه، فتبقى الآية
على عمومها، وبعد وجوب الاستعاذة مع عدم القائل بمجرد إرادة الأمر المندوب
أي قراءة القرآن، إذ له أن يرجع بعد، فما تجب القراءة أصلا، فكيف الاستعاذة؟
ولهذا قالوا لا يجب الغسل مثلا إلا إذا كانت غايته من الصلاة ودخول المساجد و
قراءة العزائم واجبة، فلا يوجبونه بقصد الصلاة وغيرها، وهو ظاهر ومصرح به
فتأمل.

(1) راجع تفسير البيضاوي: 232، المستدرك للنوري ج 1 ص 294، أخرجه عن غوالي
اللئالي.
92

والأصل (1) وقول أكثر العلماء وعدمها في تعليم الصلاة كما مر، وخلو
الأخبار عنها فتأمل.
قال في مجمع البيان (2) والاستعاذة استدفاع الأدنى بالأعلى، على وجه
الخضوع والتذلل، وتأويله: استعذ بالله من وسوسة الشيطان عند قراءتك لتسلم في
التلاوة من الزلل وفي التأويل من الخطل، والاستعاذة عند التلاوة مستحبة غير
واجبة بلا خلاف في الصلاة وخارج الصلاة. فحملها على الاستحباب غير بعيد إلا
أن الظاهر حينئذ كان استحبابا في أول كل ركعة، وما رأيت قائلا به منا
فكأنه خص بالدليل مثل الاجماع، وأنه فعل واحد وقراءة واحدة، مع أنها
ليست بصريحة في العموم بحيث يشمل كل ركعة فتأمل فيه، والأخبار أيضا
ظاهرة في الاستحباب في أول ركعة فقط، حيث ما ذكر غيرها فتأمل.
وبالجملة المسألة لا يخلو عن إشكال إن نظر إلى ظاهر الآية، فإن ظاهرها
الوجوب أو الاستحباب دائما، وما نجد قائلا فكأنهم حملوها على الاستحباب دائما
وأخرجوا غير الركعة الأولى من سائر الركعات، للإجماع ونحوه. وقال القاضي:
والجمهور على أنه للاستحباب، وفيه دليل على أن المصلي يستعيذ في كل ركعة
لأن الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرره قياسا (3). وهذا جيد إلا قوله
" قياسا " لبطلانه، وعدم ظهور الأصل والعلة، فالتكرر والعموم ليس للقياس
بل للعموم العرفي المفهوم من مثل هذه العبارة عرفا، كما في قوله تعالى " إذا
قمتم إلى الصلاة ".
الثالثة آيات متعددة، الأولى: يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا
نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4)

(1) عطف على قوله ويؤيده بعد التخصيص المذكور.
(2) مجمع البيان ج 6: 385.
(3) تفسير البيضاوي: 232.
(4) المزمل: 1 - 6.
93

أصل المزمل المتزمل، من تزمل، أدغم التاء في الزاي كما هو المشهور، لقرب
المخرج، أي قم الليل أيها المزمل بالثياب أو بأعباء النبوة للصلاة في جميع الليل
أو أن القيام بالليل كناية عن الصلاة بالليل وقال في مجمع البيان: إنه عبارة
عن الصلاة بالليل " إلا قليلا " منه وهو " نصفه " فنصفه بدل عن قليلا، كما هو الظاهر
وقلته بالنسبة إلى جميع الليل، " أو انقص أو زد " عطف على " قم " بتقدير فتأمل.
وضمير " منه وعليه " للنصف أو قليلا، فمعناه قم واشتغل بالصلاة نصف
الليل، أو أقل منه أو أزيد منه، وإلى هذا أشار الصادق عليه السلام على ما نقل في مجمع
البيان قال عليه السلام القليل النصف أو انقص من القليل، أو زد على القليل، ويبعد
كون نصفه بدلا من الليل، لتوسط الاستثناء بين البدل والمبدل منه. مع الالتباس
بل الظاهر خلافه، ولزوم لغوية أو انقص منه، لأنه بعينه معنى قوله قم نصف
الليل، إلا قليلا، فيحتاج إلى العذر بأنه قيل أو انقص لمناسبة أو زد كما قال
في مجمع البيان، أو أنه قد يحسن الترديد بين الشئ على البت وبينه وبين غيره على
التخيير كما فعله صاحب الكشاف والقاضي وصاحب كنز العرفان (1) وكلاهما تكلف
بعيد عن فصاحة كلام الله تعالى، خصوصا الثاني لأن مرجعه إلى التخيير بينهما.
قال البيضاوي: أو " نصفه " بدل من الليل، والاستثناء منه، والضمير في منه وعليه
للأقل من النصف كالثلث، فيكون التخيير بينه وبين الأقل منه كالربع والأكثر
منه، كالنصف، ولا يخفى ما فيه من لزوم لغوية الاستثناء فإنه ينبغي أن يقول
حينئذ: قم نصف الليل أو انقص منه، ومن أن الأقل ليس مرتبة معينة حتى يقال
أو انقص منه أو زد عليه ليصل إلى الربع والنصف وهو ظاهر.
وكذا كون المراد بإلا قليلا: قليلا من الليالي، وهو ليالي العذر والمرض
لعدم ظهور كون الليل للاستغراق، وعدم الاحتياج إلى الاستثناء، وللاحتياج إلى
التكلف في الاستثناء والبدل، وفي أو انقص أو زد ولما سيجئ في هذه السورة من

(1) كنز العرفان ج 1 ص 150، تفسير البيضاوي ص 345.
94

قوله " إن ربك يعلم أنك تقوم " الخ.
فيمكن أن تكون هذه الآية إشارة إلى وجوب صلاة الليل عليه صلى الله عليه وآله كقوله
تعالى " ومن الليل فتهجد به نافلة لك "، (1) أي يجب عليك التهجد وهو الصلاة
بالليل، زيادة على باقي الصلوات مخصوصة بك دون أمتك، على ما قيل، ويكون
المراد بالترخيص المفهوم من قوله تعالى في آخر هذه السورة: " فاقرؤا ما تيسر
من القرآن " وقوله " فاقرؤا ما تيسر منه " التخفيف في الوقت، لا اسقاط الصلاة
بالكلية، على تقدير [كون] المراد من القراءة الصلاة وأما على تقدير حملها على
القراءة فقط فيلزم السقوط بالكلية، فيمكن حملها على عدم القدرة فتأمل.
وعن ابن عباس تكون مندوبة على الأمة لدليل الاختصاص من الاجماع، و
ظاهر الآية والأخبار مع الأصل.
الثانية: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى - أي أقرب - وأقل من ثلثي الليل
ونصفه وثلثه (2).
وهما عطف على " أدنى " أي أنك تقوم نصف الليل وثلثه، وعلى قراءة
الجر عطف على ثلث الليل أي أقل من نصفه وأقل من ثلثه " و " كذا تقوم " طائفة
من الذين معك " نقل في مجمع البيان رواية: أنه كان علي بن أبي طالب عليه
السلام وأبا ذر. " والله يقدر الليل والنهار " يعلم مقدارهما، فيعلم القدر الذي
تقومون فيه، وهو القادر على التقدير والعلم بحيث يوافق ما أراد به النصف أو
الناقص أو الزائد " علم أن لن تحصوه " علم أنكم لا تطيقون إحصاء الوقت المقدر
على الحقيقة، والمداومة على ذلك بسهولة " فتاب عليكم " أي خفف عليكم، أو لا
يلزمكم عقابا وإثما على التقصير في ذلك، كما لا يلزم التائب، بل رفع الذنب
والتبعة في ترك ذلك عنكم، كما رفعها عن التائب، فأراد بالتوبة لازمها، فدلت على
سقوط العقاب بها " فاقرؤا ما تيسر من القرآن " أي اقرؤا في صلاة الليل مقدار

(1) أسرى: 79.
(2) المزمل: 20.
95

ما أردتم وأحببتم بالمعنى المتقدم، وعبر عن الصلاة بالقراءة لأنها جزء الصلاة
وتبطل الصلاة بتركها عمدا كالتعبير بالركوع والسجود عنها.
قال في مجمع البيان هو قول أكثر المفسرين كما أن المراد بقم الليل صلاة الليل
بإجماع المفسرين إلا أبا مسلم فإنه قال: المراد قراءة القرآن في الليل فكأنه يريد
الإشارة إلى أن من يقول بأن الليل هو الصلاة فيه، فينبغي أن يقول المراد
بفاقرؤا هو صلاة الليل، وقال فيه أيضا: والظاهر أن معنى ما تيسر مقدار ما
أردتم وأحببتم وهو ظاهر بقرينة إرادة التخفيف ولأنه المتبادر من هذه العبارة
ولهذا لو قيل: أعط السائل ما تيسر ونحوه لا يفهم المخاطب إلا ذلك، فقد ظهر
أن لا يمكن الاستدلال بنحوه على وجوب السورة على ما هو المشهور كما أشرت
إليه في محله فتذكر.
وأشار إلى أعذار أخر للتخفيف بقوله " علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون
يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله " كأن المراد بالضرب في الأرض السفر
للتجارة ونحوها مما يحصل به المال، أو لتحصيل العلم أو الحج أو الزيارات أو صلة
الرحم، وكلما كان لله تعالى من المشي والسفر في الأرض.
وقد وردت روايات كثيرة في الترغيب على التجارة من طريق العامة والخاصة
مذكورة في محلها قال في مجمع البيان: قال عبد الله بن مسعود " أيما رجل جلب شيئا
إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه، كان عند الله بمنزلة
الشهداء ثم قرأ وآخرون يضربون في الأرض " الآية (1).
" وآخرون يقاتلون في سبيل الله " هذا عذر آخر فإن المقاتلة تمنع من الصلاة
بالليل، فالكل عذر للتخفيف، ولهذا رتب عليه التخفيف وقال تعالى " فاقرؤا ما
تيسر منه " أي من القرآن تأكيدا للحكم المتقدم، وعلى كل تقدير لا ينبغي
الترك بالكلية فيمكن الاستدلال بهذه الآيات على وجوب صلاة الليل على النبي صلى الله عليه وآله
والاستحباب على أمته في الجملة، سواء كان في كل الليل أو بعضه، ولا ينبغي الأقل

(1) مجمع البيان ج 10 ص 382.
96

من ثلاثة عشر ركعة مشهورة، ولا يشترط صحة البعض بالبعض، ولا يلزم فعل كلها
بل يكون تخييرا بين الكل والبعض الذي يطلق عليه الصلاة، والكل أفضل، و
يفهم عدم سقوطها سفرا ومرضا أيضا وذلك مفهوم من الأخبار بل الاجماع أيضا.
ويحتمل أن يكون صلاة الليل في المقدار المتقدم واجبة ثم نسخ الوجوب
عن الأمة بقوله " إن ربك " الآية بتخصيصه بهم دونه، لبقائه عليه صلى الله عليه وآله بالإجماع
وبقوله تعالى " ومن الليل فتهجد " الآية، وأن يكون مستحبة ثم خفف ورخص
بمعنى سقوط تأكيد ذلك المقدار مطلقا خصوصا عند الأعذار، ويحتمل أن يكون
المراد بفاقرؤا قراءة القرآن بالليل استحبابا لا وجوبا فإن قراءة القرآن مستحبة
مطلقا خصوصا في الليل، ويدل عليه الأخبار من العامة والخاصة.
فإن قيل قراءة القرآن واجبة كفاية للحفظ في الصدر، لبقاء الأحكام والمعجزة
وأدلة أصول الدين، فليحمل عليه، قيل: لأن القيد حينئذ يصير لغوا فتأمل.
قال في مجمع البيان: ثم اختلفوا في القدر المستحب في الليل، المراد بهذه
الآية، فقال سعيد بن جبير خمسون آية، وقال ابن عباس مائة آية، وعن الحسن
من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن وقال من قرأ مائة آية في ليلة كتب من
القانتين، وينبغي أن يكون المراد ما يصدق عليه وما تيسر لما مر، وكلما زاد
فهو أحسن، فإن زيادة الخير خير، ويحمل ما ورد من المقدار في الأخبار على
التأكيد روي عن الصادق عليه السلام أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله من قرأ عشر آيات في
ليله لم يكتب من الغافلين ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، ومن قرأ
مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين ومن قرأ ثلاث
مائة آية كتب من الفائزين، ومن قرأ خمس مائة آية كتب من المجتهدين، و
من قرأ ألف آية كتب له قنطار من بر، والقنطار خمسة عشر مثقالا من الذهب
والمثقال أربعة وعشرون قيراطا أصغرها مثل جبل أحد وأكبرها ما بين السماء و
الأرض. وقال الصادق عليه السلام من قرأ في المصحف متع ببصره، وخفف عن والديه
ولو كانا كافرين.
97

ثم إنه ينبغي القراءة في المصحف كما دل عليه الخبر، وإن كان حافظا.
وعنه عليه الصلاة والسلام يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله: ليس شئ أشد على الشيطان
من القراءة في المصحف نظرا، والمصحف في البيت يطرد الشيطان: وقال إسحاق بن
عمار قال: قلت لأبي عبد الله عليه الصلاة والسلام: جعلت فداك أني أحفظ القرآن على
ظهر قلبي فأقرأ على ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف؟ قال اقرأه وانظر في
المصحف، فهو أفضل، أما علمت أن النظر في المصحف عبادة، وكل ذلك عن عدة
الداعي.
وقال في آداب المتعلمين للمحقق خواجة نصير الدين الطوسي قدس سره
إن قراءة القرآن نظرا أفضل لقول النبي صلى الله عليه وآله أفضل أعمال أمتي قراءة القرآن
نظرا، وأيضا إنه قد يحصل الغلط بالاشتباه بين الحروف مثل الضاد والظاء، وغير
ذلك، وينبغي أن يقرأها مستقبلا لعموم استحباب الاستقبال ومتطهرا وقاعدا إذا
لم يكن في الصلاة وقائما فيها للتأدب، ولما قال في عدة الداعي وقال عليه الصلاة
والسلام كأنه الصادق عليه الصلاة والسلام لأنه تقدم لقارئ القرآن بكل حرف
يقرء في الصلاة قائما مائة حسنة، وقاعدا خمسون حسنة ومتطهرا في غير الصلاة
خمس وعشرون حسنة، وغير متطهر عشر حسنات، أما أني لا أقول " المرا " حرف
بل له بالألف عشر، وباللام عشر، وبالميم عشر، وبالراء عشر، وأيضا عن الحسين
ابن علي عليهما الصلاة والسلام قال: من قرأ آية من كتاب الله عز وجل في صلاته
كتب الله له بكل حرف مائة حسنة، فإن قرأها في غير صلاة كتب الله له بكل حرف
عشرا.
وتدل على أن القراءة قائما في الصلاة ضعفها فيها جالسا الرواية المتقدمة
المذكورة في عدة الداعي فتدل على أن كون الصلاة قائما أفضل حتى الوتيرة، وقد
بينته في محله وأدلة قراءة القرآن كثيرة (1) وشرائطها مذكورة في محلها، والغرض
هنا الإشارة إليها مجملا. وينبغي أن يكون بالترتيل كما قال الله تعالى بعد قوله

(1) راجع الوسائل أبواب القراءة في غير الصلاة.
98

" أو زد عليه ": " ورتل القرآن ترتيلا " روي عن أمير المؤمنين عليه السلام (1) في معناه:
بينه بيانا ولا تهذه هذ الشعر ولا تنثره نثر الرمل، ولكن أقرع به القلوب القاسية
ولا يكونن هم أحدكم آخر السورة. أي اقرأ متفكرا على هنيئك كما قيل إنه
يكون بحيث لو أراد السامع عد حروف الكلمات لعده كما روي في قراءة رسول
الله صلى الله عليه وآله عن عائشة في الكشاف، وقيل: البيان لا يتم بالتعجيل وإنما يتم أن
يبين جميع الحروف ويوفي حقها من إشباع الحركات، وكأنه إشارة إلى ما قيل
في معناه إنه بيان الكلمات وأداء الحروف، وعن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام
قال: إذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فاسأل الله الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر
النار، فتعوذ بالله من النار (2) وقيل هو أن يقرأه على نظمه وتواليه، ولا يغير لفظا
ولا يقدم مؤخرا وكأن المراد حينئذ الوجوب لا الاستحباب، وروى أبو بصير عن
أبي عبد الله عليه السلام (3) في معناه قال هو أن تتمكث فيه، وتحسن به صوتك، وروي
عن أم سلمة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقطع قراءته آية آية، وعن أنس
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمد صوته مدا (4) وأكثر ما روي في معناه يدل على
أنه مستحب فهو مؤيد لحمل قيام الليل على الاستحباب فتأمل.
ويؤيد استحباب القراءة ليلا قوله " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " يعني
سنوحي عليك القرآن، وجه الثقل كون الأحكام الشاقة فيه سيما على رسول الله
صلى الله عليه وآله فإنه يعمل به ويأمر به، ويبلغ ويتحمل الأذى فيه، ولما
فيه من قيام الليل، ومجاهدة النفس، وترك الراحة، أو أنه يثقل في الآخرة في
ميزان الأعمال العمل به وقراءته، وأنه قول ربنا فثقيل عظيم " إن ناشئة الليل "
أي النفس التي تقوم وتنشئ في الليل للصلاة أو القراءة " هي أشد وطأ " أي
كلفة ومشقة " وأقوم قيلا " أي أشد مقالا وقراءة لحضور القلب.

(1) راجع الدر المنثور ج 6 ص 277، أصول الكافي ج 2: 614.
(2) الوسائل الباب 18 من أبواب القراءة في الصلاة.
(3) مجمع البيان ج 10 ص 378.
(4) تيسير الوصول ج 1 ص 199، نيل الأوطار ج 2 ص 213.
99

ثم أشار في آخر السورة إلى وجوب إقامة الصلاة المفروضة المقررة، و
الزكاة كذلك بقوله " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " وإلى القرض المعروف أو
مطلق الأنفاق في سبيل الله بل مطلق الاحسان فافهم بقوله " وأقرضوا الله قرضا حسنا "
على وجه حسن معروف خال عن الأذى والمنة والرئاء " وما تقدموا لأنفسكم من
خير " من مال بل مطلق الاحسان " وتجدوا عند الله هو خيرا وأعظم أجرا " ما موصول
متضمن لمعنى الشرط، مبتدأ مع صلته، وتجدوه خبر بمنزلة الجزاء وماء المفعول
الأول لتجدوا و " عند " ظرفه وهو فصل بين مفعوله الأول ومفعوله الثاني و
هو خيرا، وكأنه وجد شرط الفصل وهو كون ما بعده معرفة، لأن خيرا يستعمل
بمن لأن معناه خيرا مما تؤخرونه إلى وقت الوصية، وإليه أشار فيما روي عن
عنبسة العابد قال: قلت لأبي عبد الله عليه الصلاة والسلام أوصني فقال أعد جهازك
وقدم زادك، وكن وصي نفسك، ولا تقل لغيرك، يبعث إليك بما يصلحك (1) أو
من مطلق ما تترك إنفاقه وفعله من التقربات، والطاعات والمستعمل بمن بمنزلة
المعرفة، ولهذا لا يعرف باللام، مع أنه قد توجد مع كون ما بعده نكرة أيضا
اطرادا للباب، و " أعظم " عطف على " خيرا " و " أجرا " تميز عن نسبة وجدان ما
عنده خيرا وأعظم. قال القاضي هو تأكيد وفصل، وقال في التركيب فصل أو بدل
أو تأكيد، فيه أنه يلزم تأكيد المنصوب بالمرفوع وبدليته عنه، وقال في مجمع
البيان أو صفة لها، فيه أن المشهور أن الضمير لا يوصف ولا يوصف به، ثم أشار
إلى وجوب الاستغفار والتوبة بقوله " واستغفروا الله " في جميع الأحوال، فإن
الانسان لا يخلو عن تفريط وتقصير وذنب دائما " إن الله غفور رحيم " دليل على
وجوب الاستغفار، يعني يجب عليكم ذلك، فإنه يغفر لكم فإنه ستار لذنوبكم و
صفوح عنكم رحيم بكم [عليكم] فلا تتركوه، فدلت على وجوب الاستغفار ومشروعيته
دائما وإن لم يشعر بالذنب فيمكن استحباب التوبة حينئذ دائما من غير شعور بصدور
الذنب، ويدل على قبول التوبة أيضا فافهم.

(1) الكافي ج 7 ص 65.
100

* (النوع السابع) *
في أحكام متعددة يتعلق بالصلاة وفيه آيات:
الأولى: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان
على كل شئ حسيبا (1).
قال مجمع البيان: اللغة، التحية السلام يقال حيى يحيي تحية إذا سلم
قال في القاموس أيضا التحية هو السلام ثم قال في مجمع البيان المعنى " وإذا
حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها " أمر الله تعالى المسلمين برد السلام على المسلم
بأحسن مما سلم إن كان مؤمنا وإلا فليقل وعليكم، لا يزيد على ذلك، فقوله
بأحسن منها للمسلمين خاصة، وقوله أو ردوها لأهل الكتاب عن ابن عباس، فإذا
قال المسلم " السلام عليكم " فقلت وعليكم السلام ورحمة الله [وإذا قال السلام عليكم
ورحمة الله فقلت وعليكم السلام ورحمة الله] وبركاته فقد حييته بأحسن منها
وهذا منتهى السلام، وقيل إن قوله " أو ردوها " للمسلمين أيضا إلى قوله: وهذا
أقوى لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله قال إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم.
وذكر علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما الصلاة والسلام أن المراد
بالتحية في الآية السلام وغيره من البر، وذكر الحسن أن رجلا دخل على
النبي صلى الله عليه وآله فقال: السلام عليك! فقال النبي: وعليك السلام ورحمة الله، فجاءه
آخر وسلم عليه فقال: السلام عليك ورحمة الله، فقال النبي: وعليك السلام ورحمة
الله وبركاته، فجاءه آخر فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال النبي صلى الله عليه وآله
وعليك [السلام ورحمة الله وبركاته] فقيل يا رسول الله زدت للأول والثاني في التحية
ولم تزد للثالث؟ فقال إنه لم يبقي لي من التحية شيئا فرددت عليه مثله (2) انتهى.
وقال القاضي: الجمهور على أنه في السلام، وتدل على وجوب الجواب إما

(1) النساء: 85.
(2) تفسير مجمع البيان ج 4 ص 85.
101

بأحسن منها، وهو أن يزيد عليه ورحمة الله، فإن قاله المسلم زاد وبركاته وهي
النهاية، وإما برد مثله لما روي - ونقل الرواية المتقدمة إلى قوله: ومنه قيل " أو "
للترديد بين إن يحيي المسلم ببعض التحية، وبين أن يحيي بتمامها، وهو الوجوب
على الكفاية، وحيث السلام مشروع فلا يرد في الخطبة وقراءة القرآن وفي الحمام
وعند قضاء الحاجة ونحوها والتحية في الأصل مصدر حياك الله على الأخبار من
الحياة ثم استعمل للحكم والدعاء بذلك، ثم قبل لكل دعاء فغلب في السلام، و
قيل المراد بالتحية العطية وأوجب الثواب (1) أو الرد على المتهب، وهو قول قديم
للشافعي (2).
وقال في الكشاف: الأحسن منها أن يقول وعليكم السلام ورحمة الله إذا قال
السلام عليكم، وأن يزيد وبركاته، إذا قال ورحمة الله، ونقل الرواية المتقدمة.
فقد ظهر من اللغة وتفسيري مجمع البيان والقاضي، بل الكشاف أيضا أن
المراد بالتحية هنا هي التحية الغالبة المتعارفة بين المسلمين، بعد رفع ما كان
متعارفا في الجاهلية، وهي لسلام المتعارف بينهم فالحمل عليه أولى من الحمل
على العطية فيجب عوضها أو ردها كما قاله الشافعي في القديم، لأنه
خلاف المتبادر، والأصل، عدم وجوب عوض العطية، ووجوب ردها، بل ردها
مذموم شرعا جدا (3)، فلا يمكن الايجاب بمثل هذا الاحتمال وكذا حملها على السلام
وعلى كل بر كما نقل عن تفسير علي بن إبراهيم، نعم لو ثبت صحة الرواية
المنقولة في تفسيره يمكن حملها على الرجحان المطلق لا الوجوب إذ الظاهر لعدم القائل
بوجوب تعويذ كل بر وإحسان، وهو معلوم من الروايات أيضا فتأمل وكذا
حملها على كل تحية من السلام ونحوه مثل صباحكم ومسائكم ونحوها لعدم التبادر

(1) المراد بالثواب هو العوض، كما في نسخة سن، وهو اصطلاح في كتاب الهبة
لقوله صلى الله عليه وآله: الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها.
(2) تفسير البيضاوي 102.
(3) لقوله صلى الله عليه وآله: العائد في هبته كالعائد في قيئه.
102

وبعد الفهم، وعدم ظهور الوجوب، والأصل عدمه، وليس بظاهر من الآية
فالأصل ينفيه، ولأنه تحية الجاهلية، والإسلام نسخه.
وبالجملة الذي يتبادر من الآية السلام المتعارف بين المسلمين، ولهذا لا
خلاف في وجوب رده فهو معنى بالآية، وغيره غير ظاهر كونه مرادا بها، فيترك
بالأصل، والاحتياط ظاهر لا يترك.
وأيضا الظاهر أن كل صيغة صحيحة متعارفة في العرف بالقواعد المقررة
توجب وجوب الرد مثل السلام فقط، كما هو متعارف بين الناس بحذف
الخبر، فإنه جائز، ولصدق التحية عليه أيضا على ما فسرت، ويحتمل العدم
للأصل، وعدم كونه متعارفا شرعا وعرفا عاما، وعدم العلم بكونه مرادا في الآية
لأنها غير صريح في العموم، لأنها مهملة، وإن كان ظاهرها عرفا عاما، ثم إن
الظاهر وجوب الرد بالمثل، أو بالأحسن كليا لا خلاف فيه، ويدل عليه الأخبار
أيضا فالإجماع والخبر مؤيدان للآية، والظاهر أيضا أنه فوري على ما يظهر من
كلامهم ويدل عليه الفاء، فلو ترك يأثم ويبقى في ذمته، مثل سائر الحقوق، و
هذا مؤيد لفورية حقوق الناس فتأمل، وليس ببعيد، لأنه المتعارف والمطلوب
من المسلم عليه.
وأيضا قالوا: يجب الاسماع وهو أيضا ليس بواضح الدليل، بل بعض الأخبار
الصحيحة صريحة في عدم وجوب الاسماع (1) وأنه يكفي أن يجيب في نفسه بحيث لا
يسمع المسلم إلا أن يكون إجماعيا فتؤول الأخبار وأيضا ظاهرهم أن الوجوب
كفائي وظاهر الدليل خلافه بل الوجوب العيني، لأنه المتبادر من الأمر الذي
للوجوب لأنه إذا خوطب به كل واحد يفهم وجوبه عليهم، مع عدم دليل مسقط
عن البعض بفعل البعض، لكن الظاهر إجماع الأمة على ذلك، ولأنه إنما سلم
سلاما واحدا، فليس له إلا عوض واحد، ولكن الظاهر أنه إنما يسقط بفعل من
كان داخلا في المسلم عليهم، ويكون ذلك مكلفا بالجواب، فلا يسقط برد من لم
يكن كذلك فلو خصص البعض من جماعة، لم يجب الرد إلا على من خصص، ولا

(1) الفقيه ج 1 ص 240.
103

يسقط عنه برد غيره، وأيضا لو رد غير المكلف ولو كان داخلا فيهم لا يسقط عن
الباقين، لأنه قد وجب الرد عليهم، ولم يأت أحد به، إذ لا يجب على غير البالغ
فهو بمنزلة العدم، ويمكن أن يقال فلو سلم عليهم وهو داخل ومقصود أيضا بالسلام
فكأن المسلم ما أوجب الرد بل جاء بكلام يريد عوضه بواجب وغير واجب فكأنه
ما أتى بالموجب أو أنه لما قصد السلام على غير المكلف فكأنه سلم على غير المكلف
وحده فتأمل.
وأيضا لو سلم غير البالغ المميز الذي يقصد التحية فظاهر الآية وجوب
رده كالبالغ، وقيل لا يجب لعدم كونه مكلفا وأفعاله شرعية، وشرطية المكلفية
والشرعية غير ظاهرة، ولو قيل إن أفعال الصبي شرعي كما هو الظاهر فالاجزاء
والوجوب قوي والاحتياط واضح. ثم إنه معلوم أن وجوب الرد إنما يكون
في السلام المشروع، ولكن الظاهر عموم المشروعية حتى يحصل المانع، فيجب
الرد حال الخطبة والقراءة والحمام والخلاء، فإن الظاهر استحباب ذلك كله
ومشروعيته إلا أن يكون ثوابه أقل من بعض الأفراد الأخر، نعم إن ثبت كراهية
السلام في هذه المواضع بمعنى كونه مرجوحا من عدمه ويكون الجواب مخصوصا
بالمستحب والراجح لم يجب الرد ولكن ظاهر الآية العموم، ولهذا قيل بوجوب
رد سلام الأجنبية مع القول بالتحريم فتأمل، والظاهر أن الكراهة بهذا المعنى
لا بالمعنى الأقل ثوابا من فرد آخر، كما قال بعض الأصحاب أن لا كراهة في
العبادات إلا بهذا المعنى، وظاهر الأصحاب الوجوب كليا فكأنه بالإجماع وبالعموم
العرفي المفهوم من الآية والرواية، ويؤيدها ما ورد من الرد في الصلاة فيدل
على المشروعية بل الوجوب إذ السلام منهي عنه فيها، فلو لم يكن واجبا لم يرد
وهو مذكور في الرواية الصحيحة بقول السلام عليكم بمثل ما قال المسلم، فالظاهر
الوجوب فتأمل واحفظ.
ثم إن الظاهر أن الرد بالمثل شامل لقوله السلام عليكم إذا قاله المسلم من
غير إشكال ويؤيده الرواية المتقدمة وغيرها، وعمل الطائفة، والظاهر أنه كذلك
104

وعليكم السلام بتقديم الخبر، لعدم التفاوت بين التقديم والتأخير، ولما تقدم في
الرواية المذكورة في مجمع البيان والكشاف والبيضاوي وكذا بالتنكير والتعريف
وسلامي وسلام الله ونحو ذلك على الظاهر، وأن الأفضلية تحصل بضم ورحمة
الله وبركاته مع عدمها في الأول، وأن الانسان مخير في الرد بينهما بظاهر الآية
وغيره، ولكن خصص الأحسن بالمسلم، فما قيل إن معنى الآية أن الأحسن
للمسلم، والمثل للكافر الكتابي خلاف ظاهر الآية، والأصل عدم وجوب العوض
بأحسن، فكلاهما في المسلم يجوز، والأحسن حسن، وفي الكتابي يمكن المثل
لما تقدم من الروايتين مع احتمال تخصيص الأمر بالمسلم، فلا يجب رد الكتابي
أيضا كالحربي لعدم حسن التحية عليهم، بل يجب البغض وعدم المحبة لمن حارب
الله ورسوله وينبغي تتبع ما في الرواية مثل وعليك، فتأمل.
ثم إنه ذكر البعض أن السلام على المصلي مستحب وليس بمكروه كأنه
للعموم وأنه إذا سلم عليه يجب الرد، ولو ترك يمكن أن يبطل صلاته إن كان وقت
السلام مشغولا بذكر من أذكار الصلاة كالقراءة، فإن ذلك حرام لفورية الجواب
فيكون كلاما أجنبيا منهيا، والنهي في العبادة مبطل لها كما ثبت في الأصول
وأنت تعلم عدم صراحة العموم، ولهذا قيل بالكراهة في الخلاء والحمام للعاري
وعلى تقديره فالوجوب حينئذ مقدما على أفعال الصلاة ممنوع، لوجوب الموالاة
في القراءة فلا فورية (1) وعلى تقدير وجوبه قد يكون مساويا مخيرا بينه وبين
الموالاة، وعلى تقدير الرجحان فتحريم الكلام فرع أن الأمر بالشئ مستلزم
للنهي عن ضده الخاص وقد حققناه في موضعه، ثم إنه على تقدير ذلك ينبغي أن
يكون النهي شاملا للأفعال أيضا كالأذكار إذا منعت من الرواح إلى أن يرد إذا
سلم وذهب فيبطل الصلاة مطلقا إلا إذا علم إمكان رده، ولم يشتغل قبله بشئ
ينافيه، إلا أن يقال لا يجب الذهاب إلى أن يرد وتبطل، فلو تعارضا سقط وجوب

(1) في النسخ: مثلا فورية، والظاهر أنه تصحيف.
105

الرد، ويتعين الاشتغال بها حينئذ فيحتاج إلى الدليل وأيضا ينبغي أن يقول بالبطلان
بناء على تقديره إذا تكلم بذكر في وقت يمكن الرد وإن لم يكن ذاكرا حين سلم
عليه، بل ذكر بعد أن ذهب وراح المسلم إلا أنه يمكن أن يرد السلام من غير
إبطال للصلاة بأن يصيح حتى يصل إليه الرد فكأنه المراد.
ثم إن كون الكلام الأجنبي منهيا في الصلاة لا يستلزم بطلانها لأنه نهي
مبطل إذ النهي في العبادة معناه أن يكون المنهي نفس العبادة فيبطل حينئذ فلو تكلم
الانسان في الصلاة بكلام أجنبي منهي عنه بالعرض كالتسليم لم يدل على البطلان، نعم
لو تكلم بجزء واجب منهي عنه، واكتفى بذلك ولم يتداركه في وقته، بطل ذلك
الجزء، وببطلانه يبطل الكل من جهة ترك الجزء، لا من جهة أن النهي في العبادة
مبطل، ففي الصلاة المذكورة على تقدير تسليم النهي عن كلمة وكلام حين ترك
الرد لو عاد بعده في وقت ما فات الموالاة التي هي شرط وأعاد ذلك الكلام لم تبطل
صلاته إلا أن نثبت أن كل كلام أجنبي حرام ومبطل، وإن كان قرآنا وذكرا
وذلك غير ثابت، بل في النهي ما يدل على اختصاص ذلك بغير القرآن، وكذا لو
أتى بالأذكار المستحبة فتأمل جدا هذا.
الثانية: قل إن صلاتي ونسكي محياي ومماتي لله رب العالمين لا
شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (1).
قيل: المراد بنسكي سائر العبادات، فهو تعميم بعد تخصيص، وقيل أفعال
الحج، والمراد بالمحيا والممات العبادات الواقعة حال الحياة والتي تقع بعد الموت
بالوصية، مثل التدبير (2) أو كون نفس الحياة والموت لله أي العبادة خالصة له، و
الحياة والممات خاصة به لا يقدر عليهما ولا يفعلهما غيره، " وبذلك أمرت " أي
بالقول المذكور أو بالإخلاص في الأمور الذي فهم منها، وقد استفيد منها النية و
وجوب كون العبادة لله لا لغيره، فيفهم بالمفهوم تحريم الشرك الظاهر مثل عبادة

(1) الأنعام: 162.
(2) تدبير العبيد.
106

الأصنام والكواكب، والخفي وهو والرياء والسمعة، ويشكل إدخال قصد حصول
الثواب وعدم العقاب بالعبادة فيه، فإن فعلها لوجوبها حسن بل واجب عندهم و
هو مستلزم لذلك وما نقل عن أمير المؤمنين (1) عليه الصلاة والسلام فمن خصائص
مثله، على أنه لا يدل عليه بل يدل على أن فعله عليه الصلاة والسلام ما كان لذلك
بل لكون الله أهلا له وكذا لا يفهم أن الإخلاص المذكور من أحكام الاسلام فيكون
كل مسلم مأمورا به، ولا يدل أيضا على كون العبادات شكرا لله وهو ظاهر.
وفي دلالتها على أن صحة الصلاة بل سائر العبادات متوقفة على معرفة الله
ووحدانيته، وكونه مربيا وكونه منشئا للعالمين، وعالما وقادرا وحكيما فإن
العلم بكونه مربيا ومنشئا لهم يستلزم العلم بكونه عالما وقادرا وحكيما حفاء
نعم يمكن الاستدلال به على وجوب المعرفة، وتوقف الصحة عليها للمأمور بذلك
القول، فإنه يفهم أنه يجب قول ذلك، ومعرفة القول وفهمه وصدقه مع التعلقات
متوقفة عليها، وأبعد منه توقفها على معرفة تلك الأمور بالدليل سيما مع القول
بأنه بدون ذلك مسلم في الظاهر إذ لا يشترط في صحة الصلاة غير الاسلام والايمان
ويمكن فهم عدم جواز إسناد خلق شئ من العالم إلى غيره مثل الكواكب والعقول
والأفلاك.
الثالثة: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون (2).
حصر ولاية الخلق في الله ورسوله والذين آمنوا: الذين يقيمون الصلاة و
يتصدقون حال صلاتهم راكعين، الظاهر من الولي هو المتولي للأمر كله، و
الأولى بهم من أنفسهم، ومن بيده أمورهم مثل الله ورسوله والإمام، إذ لا معنى
للحصر في المذكورين بغير هذا المعنى، مثل المولى والناصر والمحب، وكون

(1) وهو قوله المشهور: ما عبدتك خوفا من نارك، ولا شوقا إلى جنتك بل وجدتك
أهلا للعبادة فعبدتك، راجع البحار ج 41 ص 14 من طبعته الحديثة.
(2) المائدة: 55.
107

الولي بغير هذا المعنى في الآية السابقة (1) مع بعدها على تقدير تسليمه لا يدل على
كونه هنا أيضا كذلك، وكذا في الآية المتأخرة (2) وقال على القوشجي في
شرحه للتجريد: اتفق المفسرون على أنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه الصلاة
والسلام حين تصدق بخاتمه في الصلاة راكعا ويدل عليه الروايات من الخاصة و
العامة (3) وسوق الآية، واختصاص الأوصاف المذكورة به عليه الصلاة والسلام
بالإجماع، والجمع للتعظيم، وترغيب الناس في التصدق، ولأنه نقل في أخبارنا
أنه وقع مثل هذا الفعل من كل من الأئمة الأحد عشر من ولده عليهم الصلاة
والسلام والحصر إضافي بالنسبة إلى من يتوقع أنه ولي مثله في ذلك الزمان، و
يكفي للحصر علمه تعالى بأنه يقع التردد، بل يجزم جماعة بخلافه ولا يحتاج إلى
ثبوته حين النزول إن ثبت عدم ثبوته حينئذ له عليه الصلاة والسلام فإن لله أن يخبر
بأنه الإمام حين الاحتياج وهو بعد فوته صلى الله عليه وآله بغير فصل وهو ظاهر، وأنه بعد
وجود أدات الحصر وانحصار الأوصاف فيه عليه الصلاة والسلام واتفاق المفسرين
على أنه في حقه عليه الصلاة والسلام يدل على اختصاصه به فلا معنى لجعل " وهم
راكعون " عطفا أو جعله بمعنى خاضعون والاعتراض بأنه قد يكون بمعنى الناصر و
غيره مما أشرنا إليه وبأنه ليس في حقه للجمع وللحصر وهم لا يقولون به (4) كما
قال علي القوشجي، مع أنه لو صح لكان اعتراضه على الله تعالى فإنه قال اتفق
المفسرون على أنه في حق علي عليه الصلاة والسلام حين تصدق بخاتمه في الصلاة
وهو راكع.

(1) يعني قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم
أولياء بعض " الآية.
(2) يعني قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا
من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء " الآية.
(3) راجع بحار الأنوار ج 35 ص 183 206.
(4) أي: " الشيعة لا يقولون بانحصار الإمامة والولاية فيه بل يقولون بامامة الأئمة
الاثني عشر " وقد علم جوابه أيضا مما مر في كلامه. منه رحمه الله.
108

" ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " كأنه
قال فهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون، وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على
البرهان عليه، وتنويها بذكرهم، وتعظيما لشأنهم: وتشريفا لهم بهذا الاسم، و
تعريضا يمن يوالي غير هؤلاء، فإنهم حزب الشيطان، والحزب بمعنى القوم فالآية
تدل على جواز النية في الزكاة قصدا فقط، والتصدق ونيته في الصلاة وتسمية
التصدق زكاة لأن الظاهر أن الذي فعله ما كان زكاة واجبة، وإن كانت واجبة
فتدل على جواز التأخير في الجملة وإخراج القيمة، قال أخطب خوارزم في الفصل
السابع عشر في بيان ما أنزل الله من الآيات في شأنه: أخبر الإمام إلى قوله فقال لهم
النبي صلى الله عليه وآله إنما وليكم الله ورسوله إلى قوله وهم راكعون ثم إن النبي صلى الله عليه وآله
خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع، فبصر بسائل فقال له النبي صلى الله عليه وآله هل
أعطاك أحد شيئا؟ فقال نعم خاتما من ذهب (1) فقال له النبي صلى الله عليه وآله من أعطاكه؟
قال ذلك القائم وأومأ بيده إلى علي عليه الصلاة والسلام فقال النبي صلى الله عليه وآله على
أي حال أعطاك؟ فقال أعطاني وهو راكع، فكبر النبي صلى الله عليه وآله ثم قرأ " ومن يتول
الله ورسوله " الآية فأنشد حسان بن ثابت في ذلك:
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي * وكل بطيئ في الهوى ومسارع
أيذهب مدحي في المحبر ضايعا (2) * وما المدح في جنب الإله بضايع

(1) لعل الذهب زيادة غلطا من الراوي أو من الناسخ أو من السائل ولهذا ما وجد
في غيره بل الموجود الفضة في مجمع البيان في غير هذه الرواية، ويحتمل أن يكون عنده
غير لابس له، أو صار ذهبا لما أعطاء السائل، منه رحمه الله.
أقول: روي الحديث في المجمع عن أبي القاسم الحسكاني وفيه " خاتم من فضة "
راجع ج 3: 210، وأخرج القضية في الدر المنثور ج 2 ص 293 عن جمع من أصحاب
المجاميع وليس فيها ذكر الذهب ولا الفضة.
(2) في نسخة البحار، أيذهب مدحي والمحبر ضائع، وفي المجمع: أيذهب مدحيك
المحبر ضائعا " وفي نسخة سن: للمحبين ضايعا " وما جعلناه في المتن أشبه بنسخة عش
فإن الظاهر من نسخته " بالمحبر " " في المبحر " خ ل، لكن الكاتب أراد تصحيحه فأصلحه
" بالمحبين " لقصور فهمه لمعنى المحبر، والتحبير: التزيين والتحسين.
109

فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا * فدتك نفوس القوم يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولاية * فبينها في محكمات الشرايع
ثم روي عنه صلى الله عليه وآله باسناده " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم
خير البرية (1) " هم يا علي أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جثت
الأمم للحساب تدعون غرا محجلين ونقل في هذا الكتاب مرارا أن المراد بخير
البرية هو علي عليه الصلاة والسلام، ونقل أنه كان إذا أقبل قالت الصحابة هذا
خير البرية، وكانوا يدعونه به.
الرابعة: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن
الساعة آتية أكاد أخفيها أي أظهرها فالهمزة للإزالة لتجزى كل نفس بما
تسعى (2).
قيل: معناه أقم الصلاة لذكرك إياها فإن فاتتك ثم ذكرت فصلها أي وقت
كان، فأراد بذكري ذكر الصلاة، لاستلزام ذكرها ذكره، أو بحذف المضاف، و
فهم المعنى المذكور من غير ضم الخبر (3) مشكل، ومعه لا يحتاج إليه في ذلك نعم
يؤكده.
الخامسة: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر
أو أراد شكورا (4).
أي جعل كل واحد منهما خليفة الآخر للذي أراد أن يذكر نعمة الله فيهما
أو يشكره عليهما فيهما، وحاصله جعل ذلك إرادة [أن يراد] ذكره وشكر نعمه

(1) البينة: 8.
(2) طه: 14.
(3) قوله صلى الله عليه وآله: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن
الله تعالى قال: أقم الصلاة لذكري " راجع سنن أبي داود ج 1 ص 103، الدر المنثور ج 4 ص
293.
(4) الفرقان: 62.
110

فيهما استدل بها على مشروعية فعل فائت الليل نهارا والعكس، فإن معناها الليل
خليفة النهار فيما يصح أن يقع فيه، وبالعكس، وفهمه من مجردها مشكل كسابقتها
فافهم (1).
السادسة: فإذا انسلخ الأشهر الحرم إلى قوله: فإن تابوا وأقاموا الصلاة
وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم (2).
قيل: استدل بها على أن تارك الصلاة مستحلا مرتد يجب قتله، لأنه
تعالى علق المنع من قتلهم على التوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولا شك أن
تركهم الصلاة كان على وجه الاستدلال، لعدم تحقق اعتقاد وجوبها من المشرك و
الحكم المعلق على مجموع لا يتحقق إلا مع تحقق المجموع، ويكفي في حصول
نقيضه فوات واحد من المجموع، ولا يخفى ما فيه فافهم.
السابعة: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم
لعلكم تتقون (3).
أما اللغة فالعبادة هي أقصى غاية الخضوع كما مر في " إياك نعبد " والخلق
هو الفعل والإيجاد على تقدير واستواء. والباقي ظاهر.
وأما الاعراب فلعلكم تتقون، جملة حالية عن الخالق، لكن على طريق
التشبيه بالراجي لاستحالة حقيقة الرجاء منه، أو عن المخلوقين أو عن العابدين و
أما كونها علة فتكون بمعنى كي فيكون موافقا لقوله تعالى " وما خلقت الجن و
الإنس إلا ليعبدون " (4) كما يظهر من مجمع البيان ففيه أنه نقل في الكشاف وتفسير
القاضي أن لعل ما جاء بهذا المعنى فعلى تقدير التسليم يحتمل كون ما ذكر في
مجمع البيان محصل المعنى، ومعناها المجازي، والمنع المذكور فيهما يكون باعتبار

(1) راجع مجمع البيان ج 7 ص 178، الدر المنثور ج 5 ص 75.
(2) براءة: 5.
(3) البقرة: 21.
(4) الذاريات: 56.
111

الحقيقة " الذين " عطف على مفعول خلقكم، وغلب الخطاب على الغيبة في لعلكم
أو حذف " وإياهم " للظهور.
وأما المعنى فهو الأمر وإيجاب مطلق العبادة على كل الناس المخلوقين
مسلما كان أو كافرا حرا أو عبدا إلا ما أخرجه الدليل من الصبيان والمجانين، و
المتصف بالمانع من العبادة، وأما الاستنباط فهو أنها تدل على وجوب العبادة في
الجملة، ومشروعيتها مطلقا فلا يحتاج إلى التوقيف، فتصلح النافلة دائما والصوم
كذلك وإعادة العبادة والقضاء وغير ذلك من أنواع العبادات، وكون الكافر
مكلفا والعبد كذلك حتى يثبت المنع، وأما دلالتها على أن العبد لا يستحق
بعبادته ثوابا لأنها تدل على أن الوجوب المذكور للشكر على النعم المعدودة
عليهم، على ما ذكره القاضي ومثله قال في مجمع البيان فغير ظاهرة، لجواز كون ذكر
النعم المعدودة للترغيب والتحريص على الفعل، والمنع من الترك، لأن الآمر
إذا كان ذا نعم كثيرة، وذكر نعمة عند الأمر، يكون ذلك أتم وأعلى في حصول
الأمر فيزيد للمأمورين رغبة في الفعل، وحثا في عدم الترك، نعم يمكن كون ذلك
المعنى أيضا ولكن مع قيام هذا الاحتمال ما صارت الدلالة عليه واضحة، نعم لا بد
من دليل على إثبات استحقاق الثواب عليها، غير هذا الأمر، لقيام ذلك الاحتمال
وذلك موجود ولعله إجماع الخاصة والآيات والأخبار الكثيرة، والدليل المذكور
في أصول الكلام (1) ويؤيده أن المنعم الغني المطلق يمن على العباد في مواضع
كثيرة بهذه النعم، وإنما هو المناسب مع عدم إرادة العوض، فلا ينبغي كونها
سببا وموجبا للعبادة فتأمل.
الثامنة: الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء
ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (2).
أما الاعراب، فالذي إما منصوب بأنه صفة بعد صفة للرب، أو بالمدح، و

(1) من وجوب شكر المنعم عقلا.
(2) البقرة: 22.
112

الأرض والفراش مفعولا جعل، والسماء والبناء عطف عليهما، و " من " الأولى
ابتدائية، والثانية تبعيضية، ويكون الرزق حينئذ حالا أو مفعولا له، أي
حال كونه رزقا، أو ليكون رزقا ومرزوقا لكم، أو بيانية مقدمة على المبين، و
هو الرزق كما يقال أنفقت من الدراهم ألفا وأنزل عطف على جعل، وماء مفعوله
وأخرج عطف عليه، ورزقا مفعوله، وضمير به راجع إلى الماء، ولكم صفة رزقا
والفاء في " فلا " للتفريع إما على اعبدوا، أو على لعل، أو على الذي خلقكم
و " أندادا " مفعول فلا تجعلوا، وأنتم تعلمون جملة حالية من فاعل " فلا تجعلوا "
ومفعوله إما محذوف، أو مقدر وهو أنه لا يقدر على مثل هذه الأفعال غيره تعالى
أو أنه لا ند له.
وأما اللغة فالفراش هو البساط، والبناء هو المبني وهو هنا قبة وفي
الأصل أعم من أن يكون بيتا أو قبة كذا في الكشاف، والند المثل الذي يكون
ضدا.
وأما المعنى فباعتبار ضمها إلى الأولى هو الأمر بعبادة الله الموصوف بالصفات
المذكورة، والنهي عن الاشراك به، والإشارة إلى قطع عذرهم بالجهل، لعدم
القدرة، ولعدم ما يوصلهم إليه لوجود العلم والتمييز فيهم، ووجود ما يوصلهم من
خلق هذه المذكورات الذي لا يقدر عليه غيره، سيما الضد الذي يجعلونه شريكا
له، وقائما مقامه من الأصنام، فإنها لا تقدر على شئ ولا تنفع ولا تضر.
وأما الأحكام المستنبطة منها، فهي إباحة السكون في أي جزء كان من الأرض
على أي وجه أراد، والصلاة فيه، وسائر العبادات كذلك، وطهارتها أيضا، و
استعمال الماء في أي شئ كان على أي وجه اتفق، وطهارته، بل طهوريته أيضا
لأنها من جملة انتفاعاته المتعارفة المطلوبة منه ومقام الامتنان يعم جميع ذلك مع
إباحة جميع الثمرات المخرجة به للرزق، وقيل: الثمرة أعم من المطعوم والملبوس
والرزق أعم من المأكول والمشروب، وفيه تأمل إذ الثمرة المخرجة هي الرزق
لا غير، فما ذكر أنها أعم من الملبوس غير ظاهر حقيقة، ولكنه لا يبعد شمولها
113

للكل فإن القطن مثلا ثمرة شجرة، والإبريسم يحصل من ورق الشجر ويكون
المراد بالرزق ما يعيش به الانسان ويؤيده ما ذكره في مجمع البيان في تفسير الآية
الثالثة بعد هذه، في بيان " كلما رزقوا " من أن الرزق عبارة عما يصح الانتفاع به
ولا يكون لأحد المنع منه، فيدخل الجميع فيه.
وتحريم الشرك (1) وثبوت الوحدانية وأن الجاهل معذور على تقدير عدم
القدرة على العلم أو عدم الدليل الموصل إليه، وذلك من تقييد النهي بالحال (2) بالعلم
الذي مر تفسيره فيعلم منه عدم التكليف بما لا يطاق، فيبطل مذهب من يقول به
وأما دلالتها على كون العبادات شكرا وعدم استحقاق الثواب لأن الصفات المذكورة
للآمر الذي هو الله تفيد عليتها للتكليف بها، على ما ذكره القاضي ههنا وفي الآية
السالفة على وجه يفهم اعتقاده لذلك أنه الحق، فباطل لما مر في السالفة والظاهر
أنه ما ذهب إليه من الطائفة المحقة، بل من مطلق المسلمين إلا قليل، وليس بمذهب
مشهور من المتعبدين بالشريعة فإن الثواب والعقاب قريب أن يكونا من ضروريات
دين محمد صلى الله عليه وآله بل كل الأديان، وبهما يثبتون الحشر والنشر، وعليه يدل كثير
من الآيات والأخبار بل الاجماع، لأن هذا المذهب منسوب إلى أبي القاسم البلخي
فقط على ما ذكره في شرح التجريد الجديد وحاله أيضا ليس بظاهر الله يعلم.
ثم اعلم أن في الآية الثالثة بعد هذه التي ذكرناها، دلالة على إبطال قوله
حيث قال تعالى: " وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات " الآية
حيث يعلم تعليل حصول هذه النعم العظام للإنسان بالايمان والعمل الصالح فيكون
مستحقا لها وهو ظاهر كدلالتها على خروج العمل الصالح عن الايمان، وكذا في غيرها
أيضا من الآيات.

(1) أي ومن الأحكام المستنبطة تحريم الشرك.
(2) يعني قوله تعالى: " وأنتم تعلمون ".
114

* (النوع الثامن) *
فيما عدا اليومية من الصلوات وأحكام تلحق اليومية أيضا وفيه آيات:
الأولى: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا
إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
الثانية: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله
واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون.
الثالثة: وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما
عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين (1).
خص الخطاب بالمؤمنين أي المسلمين لأنهم المنتفعون بإيجاب الصلاة الخاصة
وهي صلاة الجمعة عليهم بعد سماع الأذان، لقوله تعالى " اسعوا " أي اذهبوا وامضوا
على ما روي، وعبر بالسعي، الذي يفيد المبالغة في الذهاب، للمبالغة في الفعل و
عدم الترك، لأنه قد روي أن المستحب هو الرواح إلى الصلاة بالسكينة والوقار
لا بالسرعة، وذكر الله هو الصلاة فكأنه قال إليها إلا أنه عبر عنها بالذكر إشارة إلى
أنها ذكر الله، وأنه ينبغي القصد بفعلها أنها ذكر الله، ويحتمل الخطبة.
وكأن تحريم البيع والشراء وقت وجوبها تعبد وإن لم يكن مانعا عنها
إذ يجوز الجمع بين المضي إلى الصلاة الواجب، والبيع والشراء، وهو ظاهر، فلا
ينبغي التعدي إلى سائر ما يشبهه، لأنه قياس ممنوع، من غير ظهور العلة، مع
مخالفته للأصل، وما يدل على إباحتها من العقل والنقل كتابا وسنة إجماعا، ولا

(1) سورة الجمعة الآية 9 و 10 و 11.
115

يبعد عدم الانعقاد، وإن لم يكن النهي مطلقا دالا على الفساد، ليتم المطلوب و
الترغيب إلى الصلاة، ولأن ما يدل على انعقاده هو إباحته، فمع رفعها لا ينعقد
مؤيدا بأصل عدم انتقال المال إلا بديل، وليس بظاهر كون العقد الحرام الذي
لا يرضى الله به دليلا موجبا لذلك فتأمل.
وبالجملة انتقال مال البايع إلى المشتري وبالعكس الذي الأصل عدمه
يحتاج إلى الدليل، ومجرد البيع الذي هو حرام وخلاف ما يرضى الله به غير ظاهر
في ذلك، مع أنه قد يدعى ظهور عدم الانعقاد من النهي، كما ادعى بعض
الأصوليين فتأمل.
" ذلكم خير لكم " أي السعي إليها وترك البيع خير لكم، إن كنتم من أهل
العلم والعرفان، أو إن كنتم تعلمون الخير والشر، تعلمون أن ذلك خير بالنسبة
إليكم من عدمها وما يتبعه.
ثم أباح الله بعد أداء الصلاة الانتشار وطلب الرزق به من فضل الله ورحمته و
لطفه، إشارة إلى أن التاجر والكاسب للرزق، لا ينبغي أن يعتمد على كسبه وتجارته
بل إنما يطلب من فضل الله عليه ورحمته، ويجعل الكسب والتجارة وسيلة وسببا لذلك
وبسبب ترغيبه، فالأمر هنا بعد التحريم للإباحة، وإن كان في الأصل للوجوب، للإجماع
على عدم وجوب ذلك، ويحتمل الوجوب في بعض الأحيان مثل الكسب للنفقة
الواجبة.
ثم أشار في الآية الثالثة إلى ذم المسلمين، وظاهر أنهم الذين كانوا معه صلى الله عليه وآله
بأنهم إذا رأوا أو علموا تجارة أو لم يعلموا بل ظنوا بسبب سماع صوت دال عليهما
في الجملة وهو المراد باللهو - قيل كان للتجار الذين يجيؤن بالتجارة إلى المدينة
طبل يضربونه بعد الوصول، لأخبار الناس، - ذهبوا إلى التجارة الموهومة القليلة
الفائدة الفانية، وتركوا تجارة باقية عظيمة، وهي الصلاة معك، تركا مستلزما
للعقاب بترك واجب عظيم، وقطعه المحرم، ولمفارقته صلى الله عليه وآله في الدنيا، فإنه روي
116

أنهم لما سمعوا صوت الطبل تركوه قائما في الصلاة وذهبوا إليها، وقد علم سبب
وحدة الضمير.
ثم أمر صلى الله عليه وآله بالقول لهم أن ما عند الله من الخير الباقي وهو خير الآخرة والدنيا
خير من التجارة المحققة والموهومة أو منها ومن اللهو إذ قيل ذهب بعضهم لمحض
الطبل وبعضهم للتجارة وحينئذ يمكن أن يكون التقدير " وانفضوا إليه " وحذف
لدلالة المذكور عليه، وأمثاله كثيرة، وأن الله تعالى خير الرازقين فيرزق من غير
أن يسرع إلى التجارة، فلو ترك الذهاب لله ولعبادته لرزق خيرا مما تخيل حصوله
بسبب المسارعة إليها وترك العبادة.
ثم اعلم أن الذي استفيد من الآية الشريفة، هو وجوب صلاة الجمعة على
كل مؤمن بعد النداء يوم الجمعة مطلقا وتحريم البيع حينئذ ثم إباحته بعدها
وقد ذكروا لها شروطا وفروعا كثيرة في كتب الفقه فليطلب هناك غير أنا نذكر
أن أكثر الروايات الموجودة الآن في الكتب وأصحها وأصرحها أن العدد المشترط
في وجوبها هو الخمسة، وهو قول أكثر الفقهاء المعروفين الآن، وقال في مجمع
البيان: والعدد يتكامل عند أهل البيت عليهم السلام بسبعة، وهو في بعض الروايات وبعض
الأقوال للشيخ مع أنه يقول بالوجوب التخييري بالخمسة والحتمي بالسبعة جمعا
للأخبار وهو أعلم.
وقال أيضا في فضل السورة: منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال من الواجب
على كل مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبح اسم ربك
الأعلى وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين، فإذا فعل ذلك فكأنما يعمل بعمل
رسول الله صلى الله عليه وآله وكان ثوابه وجزاؤه على الله تعالى الجنة (1) وما رأيت هذه في
الكتب المشهورة إلا في ثواب الأعمال (2) للصدوق فإنه نقلها في ثواب سور القرآن
بإسناده وفيه محمد بن حسان وهو مجهول وإسماعيل بن مهران وفيه خلاف، وإن
كان الظاهر أنه ثقة، والحسن وهو مشترك والذي يظهر من ثواب الأعمال أنه ابن

(1) مجمع البيان ج 10 ص 282.
(2) ثواب الأعمال ص 107.
117

علي كأنه ابن فضال الله يعلم، فالوجوب ما يثبت والاستحباب غير بعيد، لما ثبت
بالنص وبإجماع الأمة العمل بالروايات في السنن والوصول إلى ما نقل فيها من
الثواب وإن لم يكن كما نقل، ولهذا أثبت الجمهور وأصحابنا الاستحباب والكراهة
بالرواية الضعيفة فالجمهور وأصحابنا يتعبدون بها، وما ذكرها الصدوق القائل
بوجوب قراءتها في ظهر يوم الجمعة (1) في الفقيه وما ذكرها القائل باستحباب
الجمعة وسبح اسم في المغرب والعشاء ليلة الجمعة، وسندها غير واضح، وآخرها
صريحة في أن المراد القراءة في الصلاة وأولها ظاهر في ذك فيحتمل إرادة قراءتهما
في أوليي المغرب أو العشاء أو هما، والظاهر الأخير، وعليه حمل في المختلف رواية
أبي بصير عن الصادق عليه السلام قال اقرأ في ليلة الجمعة الجمعة وسبح اسم ربك (2)
وتدل على العشاء الرواية عن الصادق عليه الصلاة والسلام فإذا كان العشاء الآخرة
فاقرء سورة الجمعة وسبح اسم ربك، واستحباب ذلك في ليلة الجمعة خصوصا في الصلوات
سيما الفرائض خصوصا العشاء غير بعيد، كاختيار الجمعتين في الظهرين، ولهذه
الرواية وغيرها، وللخروج عن الخلاف المنقول، ولا شك أن ذلك أحوط، وكأن
المراد الاستحباب، لعدم القائل بالوجوب على الظاهر فتأمل.
الرابعة: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم
كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (3).
ظاهرها يدل على عدم جواز الصلاة في وقت من الأوقات على أحد من الكفار
الذين ماتوا على كفرهم، وكذا الوقوف على قبورهم للدعاء لهم، وأن علة ذلك
هو الكفر، وفيها إشعار بجواز ذلك للمسلمين مطلقا فتأمل.
الخامسة: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من
الصلاة (4).

(1) الفقيه ج 1 ص 201.
(2) راجع الكافي ج 3 ص 425. الخلاف ج 1 ص 224.
(3) براءة: 85.
(4) النساء: 100.
118

أي إذا سافرتم فلا جناح عليكم أن تقصروا الصلاة الرباعية الفريضة بحذف
ركعتي آخرها، ويمكن ونافلتها أيضا، والآية مجملة بيانها بالأخبار والاجماع
فالسفر شرط لقصر الصلاة بالآية، ودلت عليه الأخبار أيضا والاجماع وأما الخوف
فظاهر قوله " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا
مبينا " يعني إن خفتم فتنة الذين كفروا في أنفسكم أو دينكم، أنه أيضا شرط فلا
قصر مع الأمن، ولكنه بالمفهوم الشرطي وهو وإن كان حجة إلا أنه مشروط بعدم
ظهور فائدة للتقييد سوى المفهوم كما بين في موضعه، وقد يكون وقوع الخوف
وقت النزول أو كونه الأغلب والأعم كما قيل وأمثاله في القرآن والسنة كثيرة
مثل " فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت " (1) " ولا تكرهوا
فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " (2) وأيضا هو معتبر ما لم يعارضه أقوى من ذلك
وهنا معارض بأقوى وأصرح منه من الاجماع ومنطوق الأخبار.
قال القاضي: وقد تظافرت السنن على جوازه أيضا في حال الأمن فترك
المفهوم بالمنطوق وإن كان المفهوم حجة أيضا لأنه أقوى. ويدل عليه الخبر الصحيح
عن زرارة ومحمد بن مسلم (3) أنهما قالا قلنا لأبي جعفر عليه الصلاة والسلام ما تقول
في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال: إن الله عز وجل يقول: " وإذا
ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " فصار التقصير في السفر
واجبا كوجوب التمام في الحضر، قالا: قلنا إنما قال الله تعالى " فليس عليكم جناح "
ولم يقل افعلوا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه الصلاة
والسلام: أوليس قد قال الله تعالى في الصفا والمروة " فمن حج البيت أو اعتمر فلا
جناح عليه أن يطوف بهما (4) " ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض لأن
الله عز وجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه صلى الله عليه وآله وكذلك التقصير في السفر شئ
صنعه النبي صلى الله عليه وآله وذكره الله تعالى في كتابه، قالا: قلنا له: فمن صلى في السفر أربعا

(1) البقرة: 229.
(2) النور: 33.
(3) الفقيه ج 1 ص 278.
(4) البقرة: 185.
119

أيعيد أم لا؟ قال: إن كان قد قرئت عليه آية التقصير وفسرت له وصلى أربعا أعاد
وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه، والصلوات كلها في السفر
الفريضة ركعتان كل صلاة إلا المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول
الله صلى الله عليه وآله في السفر والحضر ثلاث ركعات، وقد سافر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ذي
خشب وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلا فقصر
وأفطر فصارت سنة وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وآله قوما صاموا حين أفطر: العصاة. قال
فهم العصاة إلى يوم القيامة، وإنا لنعرف أبناءهم إلى يومنا. هذا وفيها فوائد وأحكام
كثيرة (1) لذلك نقلت فافهمها.
ثم إن ظاهر الآية يدل على القصر بمجرد صدق السفر، ولكن ثبت بالإجماع
أن ذلك لم يكف فعند الشافعي مسيرة يومين ستة عشر فرسخا وعند أبي حنيفة مسيرة
ثلاثة أيام بلياليهن مسير الإبل ومشي الأقدام على القصد، ولا اعتبار بإبطاء الضارب
المسافر وإسراعه قال في الكشاف: كأنه أربعة وعشرون فرسخا ولكن لا يناسب
إدخال الليل إذ يمكن قطع ثمانية فراسخ في يوم واحد معتدل يوم صوم، ولهذا
ما اعتبره القاضي بل قال أربعة برد للشافعي وستة لأبي حنيفة، والبرد جمع
بريد وهو أربعة فراسخ، وعند أصحابنا بريدان وهو ثمانية فراسخ يوجب القصر
ودلت عليه الروايات الكثيرة الصحيحة عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام وهو
أولى، لأن ظاهر الآية أنه يكفي مطلق السفر وما يصدق عليه ولا شك أنه مما

(1) وهي كون القصر عزيمة وواجبا كالتمام، وكون الأمر للوجوب، وكون نفي الجناح
لا ينافي الوجوب العيني، وكون التأسي واجبا، وكون السعي واجبا، ووجوب إعادة الصلاة
الباطلة بالزيادة مع العلم بعدمها أداء وقضاء، وكون الجاهل معذورا في الاتمام، ووجوب
التقصير في جميع الصلوات بحذف الركعتين الأخيرتين إلا المغرب، وكونها ثلاثة فيه وفي الحضر
وكون مسيرة يوم أربعة وعشرين ميلا، وهي ثماني فراسخ، فكل ميل ثلث فرسخ، وكون ذلك موجبا
للتقصير، ووجوب الافطار، وتسمية الواجب بالسنة، وكون ترك ذلك عصيانا، وكونهم عليهم السلام
عالمين بالغيب وهو باعلام الله ورسوله صلى الله عليه وآله إياهم، منه رحمه الله.
120

يصدق عليه وأنه خرج أقل من ذلك بالإجماع وبقي ما فوقه تحت الآية ولكن
يدل على أن الأقل أيضا مثل بريد يوجب ذلك بعض الروايات الصحيحة (1) ولكن
الظاهر أنه ما قال به أحد، وحملها على التخيير حينئذ بعض، والبعض الآخر
على عدم نية الإقامة، وعلى قصد الرجوع في يومه أو ليلته فيصير بريدان في يوم
ولكن تدل رواية صحيحة (2) على وجوب القصر على أهل مكة بالخروج إلى عرفة
بحيث يبعد كل مذكورات.
وأيضا ظاهر الآية أن مجرد الخروج إلى السفر وصدق الضرب سبب للقصر
ولكن حدده أكثر الأصحاب بالوصول إلى موضع لا يسمع الأذان ولا يرى
الجدران أو أحدهما وقال البعض بمجرد الخروج عن موضعه، ولكل شاهد من
الروايات فتأمل في تحقيق الحق.
ثم إن ظاهر أيضا أن القصر رخصة لا عزيمة، ولكن مذهب أصحابنا
وأبي حنيفة أنه عزيمة أي واجب معين لا يجزئ غيره، لا جائز مخير فيه ويدل
عليه ما روي من طرق العامة والروايات الصحيحة عن أهل البيت عليهم الصلاة
والسلام وإجماع الطائفة، ونفي الجناح لا ينافي ذلك، مثل وجوب السعي بل يعم
وإن كان في الجواز أكثر استعمالا إذ لا شك في أنه لا حرج في فعل الواجب.
فإذا دلت الأخبار من الخاصة والعامة عليه، مثل قول عمر صلاة السفر ركعتان
تام غير قصر على لسان نبيكم (3) وقول عائشة أول ما فرضت الصلاة فرضت
ركعتين ركعتين في السفر، وزيدت في الحضر (4) فالآية تحمل عليه، ولا شك أن
القصر أحوط وأولى، ومجمع عليه، فلا بد من المصير إليه.
قال في الكشاف: كأنهم ألغوا الاتمام، وكانوا مظة لأن يخطر ببالهم أن

(1) راجع الكافي ج 3: 434.
(2) الوسائل أبواب صلاة المسافر الباب 3 الحديث 1.
(3) أخرجه الشيخ في الحلاف عن عمر ج 1 ص 202 وأخرجه في مشكاة المصابيح: 119
عن ابن عمر وقال: رواه ابن ماجة.
(4) مشكاة المصابيح: 119، الخلاف ج 1: 202، سنن أبي داود ج 1: 274.
121

عليهم نقصانا في القصر، فرفع عنهم الجناح بقوله " لا جناح " الآية لتطيب أنفسهم
بالقصر، ويطمئنوا إليه.
ثم إن لصلاة القصر شرائط وأحكاما مذكورة في مظانها فليطلب هناك و
أنه قال أصحابنا: الخوف موجب للقصر كالسفر، فالشرط أحد الأمر المذكورين
في الآية وإن لم يفهم من ظاهرها، بل ظاهرها أن كلاهما معا شرط ولكن دلت
الأخبار مع الاجماع على أنهما ليسا بشرطين بل أحدها فقط، ولا استبعاد في ذلك
فإن أكثر الآيات المستنبطة منها الأحكام في غاية الاجمال، وإنما يفهم تفصيلها
من الاجماع والأخبار، على أنه يمكن فهم القصر مع الخوف وحده من آية صلاة
الخوف المذكورة بعد آية القصر بلا فصل، حيث دلت على كونها ركعتين ظاهرا و
فسرت به فتأمل.
السادسة: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة. الآية (1).
إشارة إلى الصلاة حال الخوف جماعة، وفيها كمال الاهتمام بها، حيث لا
يترك في مثل الحال، مع ارتكاب بعض الأمور في الصلاة، للتحفظ عليها، و
بظاهرها تعلق من قال: إن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وآله من جهة الخطاب وسبب
النزول، ولكن الظاهر أنه يثبت عمومها بإجماع الطائفة ودليل التأسي وأن حكم
الإمام حكمه، فلا شك في الجواز معه، وأما بدونه فإذا وجد ما يخالف القواعد
فمشكل ولكن ظاهر ما مر ذلك، مع أنه ليس فيها مخالفة واضحة كثيرة للقواعد.
وتركت ذكر تفصيلها لاحتمال الاختصاص به وبالأئمة عليه وعليهم السلام مع ذكر
أحكام صلاة الخوف وأقسامها في الفقه، وعدم ظهور المقصود منها، بل هي صلاة

(1) وهي: فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم
ولتأت طائفة أخرى يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون
عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر
أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا، النساء: 101.
122

بطن النخل أو ذات الرقاع فتأمل (1) ويمكن أن يكون إشارة إلى صلاة شدة الخوف
كما قيل.
السابعة: فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم
فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة الآية (2).
أي إذا أردتم الصلاة - مثل فإذا قرأت القرآن - فصلوا فالذكر بمعنى الصلاة
أو بمعناه، ولكن بأن تصلوا له، وهو في القرآن كثير، فحال الخوف صلوا
مهما أمكنكم على أي وجه يمكن قياما وقعودا ونحو ذلك، ويحتمل أن
تكون إشارة إلى صلاة القادر والعاجز أي صلوا قياما إذا كنتم أصحاء، وقعودا إذا
كنتم مرضى لا تقدرون على القيام وعلى جنوبكم إذا لم تقدروا على القعود، وقال في
مجمع البيان (3) عن ابن مسعود وروي عن ابن عباس أنه قال عقيب تفسير الآية لم
يعذر الله أحدا في ترك ذكره إلا المغلوب على عقله، وقد روي في أخبارنا أيضا هذا
المعنى للآية ويفهم الترتيب بين القيام والقعود والجنوب في الصلاة، ولم يعلم الترتيب
بين الجنبين والاستلقاء ويحتمل إرادة الكل من الجنوب من غير ترتيب، أو مع الترتيب
ولعل في الرواية إشارة إليه كما صرح به بعض الأصحاب، ولا شك أنه أحوط
وكأنه يؤيد إرادة الصلاة، ولكن يشعر بحال الخوف، قوله " فإذا اطمأننتم "
يعني في وقت عدم الاطمينان صلوا على قدر ما تتمكنون منه من القيام والقعود
والجنوب، فإذا اطمأننتم وقدرتم على أن تقيموها بأركانها المعتبرة حال القدرة
فأقيموا الصلاة أي صلوها بحدودها وحافظوا على أركانها وشرائطها كملا كما هي

(1) موضعان: الأول في طريق البصرة قريب من المدينة، والثاني قريب من النخيل
بين السعد والشقرة وبئر أرما على ثلاثة أيام من المدينة، راجع شرح ذلك في كنز العرفان
ج 1 ص 189.
(2) النساء: 103.
(3) مجمع البيان ج 3 ص 103، وفيه: وروي أنه قال، والظاهر من كلامه أن
القائل هو ابن مسعود لا ابن عباس.
123

وقد مضى تفسير تتمتها أعني: " إن الصلاة كانت (1) " الآية.
فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم
تكونوا تعلمون (2).
الرجال جمع راجل، مثل تجار وصيام وقيام والراجل هو الكائن على رجله
واقفا كان أو ماشيا، والركبان جمع راكب كالفرسان جمع فارس، وكل شئ علا
شيئا فقد ركبه، فرجالا حال، والتقدير فصلوا رجالا يعني إن خفتم من عدو أو
سبع أو غرق ونحوها ولم يمكنكم الصلاة تامة الأفعال والشروط كما هي المقررة حال
الأمن، فصلوا رجالا على أرجلكم وعلى أي هيئة يمكنكم ماشين أو واقفين إلى القبلة
وغيرها بالقيام والركوع والسجود، إن أمكن وإلا فبالنية والتكبير والتشهد و
التسليم، يعني تتعمدوا المقدور من الهيئة أو على ظهور دوابكم على أي جهة يتوجه
ولو تمكن من القبلة فيها، وإلا فمهما أمكن، وبالجملة في الآية الشريفة إشارة إلى
صلاة الخوف على طريق الاجمال، والتفصيل مذكور في الكتب الفقهية مع
أدلتها.
وفي مجمع البيان (3) إن عليا عليه الصلاة والسلام صلى ليلة الهرير خمس
صلوات بالايماء، وقيل بالتكبير، وإن النبي صلى الله عليه وآله صلى يوم الأحزاب إيماء " فإذا
أمنتم " من الخوف " فاذكروا الله " أي فصلوا صلاة الأمن، وقيل اذكروا الله بالثناء
عليه، والحمد له شكرا للخلاص من الخوف والعدو، فكأنه الأولى لظهور الذكر
فيه ولفهم صلاة الأمن من قبيله بقوله " فإذا اطمأننتم " الآية، فدلت على استحباب
الذكر شكرا لله على دفع الألم أو الخوف " كما علمكم " أي الذكر مثل ما علمكم
من الشرايع وكيفية صلاة الخوف والأمن وغيرها، أو شكرا يوازي نعمه، فما
موصولة أو مصدرية، و " ما لم تكونوا تعلمون " مفعول علمكم، وما موصولة أو

(1) راجع الصفحة 49 فيما سبق.
(2) البقرة: 239.
(3) مجمع البيان ج 2: 344.
124

موصوفة، ولم تكونوا صلة له أو صفة، وتعلمون خبر تكونوا.
الثامنة: فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب (1).
قيل: فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء، وارغب
إليه في المسألة يعطك، وهو مروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما الصلاة والسلام (2)
وعن غيرهما أيضا و " انصب " من النصب، وهو التعب أي لا تشتغل بعد الصلاة بالراحة
مثل النوم والأكل وعدم الاشتغال بشئ بل اشتغل بالعبادة مثل الدعاء بعدها فيكون
المراد التعقيب، وهو الدعاء بعد الصلاة، ونقل عن الصادق عليه الصلاة والسلام أنها
الدعاء في دبر الصلاة (3) فتكون إشارة إلى استحباب التعقيب كما هو المشهور والمجمع
عليه، وهو الاشتغال بعد الفريضة بالدعاء والمسألة، كما يدل عليه الأخبار من
الخاصة (4) والعامة، وينبغي إيقاعها بعد الفريضة قبل الاشتغال بشئ حتى قبل
النافلة في صلاة المغرب أيضا ويدل عليه الأخبار بخصوصها، فما ورد من فعلها قبل
الكلام وتعجيلها، فالمراد غير التعقيب، كما صرح به في الرواية في الفقيه (5) وينبغي
أيضا أن يكون على هيئة الصلاة كما يشعر به الآية، ويدل عليه الأخبار وقاله
بعض الأصحاب حتى بالغ في الذكرى أنه يضر بالتعقيب جميع ما يضر بالصلاة، و
الظاهر أن المراد المبالغة ونقص الفضيلة، وإلا فالدعاء مستحب على كل هيئة
وورد في الحديث بعد سؤال التعقيب بعد القيام: أنه معقب ما دام متطهرا (6) ويمكن
استفادة استحباب الدوام على الطهارة من هذه الرواية.
وبالجملة الظاهر أنه يفهم من الآية استحباب الطاعة بعد الصلاة سيما الدعاء

(1) الانشراح: 7 و 8
(2) مجمع البيان ج 10 ص 509 و 510.
(3) مجمع البيان ج 10 ص 509 و 510.
(4) الكافي: ج 3 ص 341.
(5) فقيه من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 143.
(6) راجع الفقيه ج 1 ص 216 حديث هشام تحت الرقم 963 من الباب 46.
125

فإنه ورد في الرواية حث عظيم، وترغيب كثير، وثواب جزيل في التعقيب (1) وهو
مذكور مع ما ورد في محله فاطلبه، وعدم الفراغ أو النوم فإنهما يضران بالدين و
الدنيا، كما ورد في الروايات الكثيرة خصوصا النوم بعد الغداة إلى أن تطلع الشمس
فإنه مذموم جدا [وكذا بعد صلاة الليل فإنه ورد أنه لم يمدح صاحبه بصلاة
الليل التي صلاها] وكذا ورد ذم الكسل والضجر فينبغي الاجتناب عنها. الله
الموفق.
وأيضا فيها إشارة إلى أن الطلب والرغبة إلى الله فقط لا غير حيث قدم
الصلاة لإفادة الحصر وقال: " وإلى ربك فارغب " أي لا غيره وهو ظاهر.
التاسعة: وأقيم الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (2).
الصلاة معلومة لغة وشرعا وإقامتها أداؤها بأركانها وشروطها المعتبرة شرعا
والركوع لغة هو الانحناء والانخفاض، وقيل هو الخضوع، وهما متقاربان، وشرعا
انحناء خاص، وهو الانحناء بحيث يصل يد مستوي الخلقة ركبتيه، على ما ذكره الفقهاء
وقد يطلق ويراد به الصلاة فالمعنى إيجاب الصلاة على الاطلاق والعموم، وإيجاب
الركوع فيها مع الراكعين أو الترغيب إلى الخضوع فيها أو مطلقا مع كل خاضع
وخاشع، ومعنى " مع " على الأول لا يخلو عن مسامحة إلا أن يكون المراد الترغيب
والتحريض على الجماعة، بعد إيجاب الصلاة، فالمعنى حينئذ صلوا مع المصلين أي
صلوا جماعة إماما أو مأموما، فيحتمل أن يكون فيها حينئذ إشارة إلى أن الجماعة
لا بد لادراكها من الركوع، ويشعر بكون الركوع مع الإمام (3) فلو كان الإمام
راكعا وأدركه حينئذ لم يكن مدركا لعدم صدق الركوع مع الراكع، بل بعده

(1) راجع التهذيب ج 1 ص 227، الكافي ج 3 ص 341.
(2) البقرة: 43.
(3) يعني ابتداء الركوع.
126

ويدل عليه الخبر الصحيح (1) وهو مذهب الشيخ والمشهور خلافه ويدل عليه بعض
الأخبار مؤيدا بالكثرة، وبخبر انتظار الإمام راكعا للداخل (2) وبالإجماع المنقول
عليه والاحتياط يقتضي الأول بل الأصل أيضا.
أو يكون المراد إيجاب الصلاة التي يجب فيها الجماعة كصلاة الجمعة والعيدين
أو يكون إشارة إلى وجوب الركوع في الصلاة حيث كان الخطاب لبني إسرائيل وما كان
الركوع في صلاتهم كأنه قال: صلوا مثل صلاة المسلمين.
ثم اعلم أن ظاهرها أن الخطاب لبني إسرائيل لما سبق من قوله تعالى " يا بني
إسرائيل " [الآية] (3) ولكن لما علم عدم الفرق في الحكم، فلا يبعد الاستدلال
بها على ثبوته على كل المكلفين، مع أن هذا الحكم موجود في آيات وأخبار أخر
كما أن الخطاب فيما يتلوها مخصوص بعلماء اليهود كما قال في مجمع البيان، مع
أن الظاهر أن الحكم مشترك للإجماع وغيره، وهو قوله تعالى " أتأمرون الناس
بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أو لا تعقلون (4) " قيل: كان علماء بني
إسرائيل يأمرون الناس باتباعه صلى الله عليه وآله ولم يؤمنوا به، ولم يتبعوه، فنزلت الآية
الكريمة، ومضمونها النهي عن ترك النفس تاركة للخير والعمل الصالح، مثل الايمان
به صلى الله عليه وآله واتباعه، وفاعلة للمعاصي والذنوب مع أمر الناس بضدهما، مع قراءة
الكتاب الدال على وصفه ووجوب الايمان به واتباعه، وهو التوراة مع العلم بقبح

(1) كصحيحة محمد بن مسلم: " إذا لم تدرك تكبيرة الركوع فلا تدخل معهم في تلك
الركعة " وفي أخرى " لا تعتد بالركعة التي لم تشهد تكبيرها مع الإمام " راجع الوسائل
أبواب صلاة الجماعة الباب 43 تحت رقم 2 و 3.
(2) راجع التهذيب ج 1 ص 285، الكافي ج 3 ص 282، الاستبصار ج 1 ص 36.
(3) والآية: يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف
بعهدكم وإياي فارهبون * وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا
تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون * ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم
تعلمون * وأقيموا الصلاة الآية.
(4) البقرة 44.
127

ذلك من العقل، وبالجملة الآية تدل على أن الذي يريد لغيره الخير ولا يريده
لنفسه لا يعقل، ففيها توبيخ عظيم لمن يفعل ذلك، فهي تدل على كون النفس مذمومة
بذلك عقلا، ففيها دلالة على كون القبح عقليا ولا يدفعه " وأنتم تتلون الكتاب "
كما قاله التفتازاني في حاشية الكشاف فافهم.
وليس المراد عدم جواز أمر الناس بالطاعات مع ارتكابه المعاصي كما يتوهم
إذ العدالة لا يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما هو الأصل و
المشهور ومقتضى الدليل، وعدم اشتراط كون الواعظ متعظا لأن الأمر بالمعروف
واجب (1) وفعله واجب آخر، ولا يستلزم ترك الثاني سقوط الأول، وهو
ظاهر، بل المراد إظهار قبحه وكونه أفحش وأظهر قبحا عند العقل لا زيادة
عقابه، نعم يمكن كون وعظ المتعظ أدخل، فحينئذ يجوز لتارك الصلاة أمر غيره
بها، ولهذه المناسبة أيضا ذكرناها هنا، وبالجملة تفهم من ظاهر الآية الحظر
والتهديد العظيم، على من ترك نفسه مع أمر غيره كما يدل عليه قوله تعالى " لم
تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " (2) إن حمل على
الأعم، لا على خلاف الوعد فقط فيدل على وجوب الوفاء بالوعد.
" واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " (3) الاستعانة
طلب العون والمعاونة، والصبر منع النفس عن محابها وكفها عن هواها، والمعنى
إيجاب الجمع بين الصلاة والصبر، وجعل ذلك معينا لقضاء الحوائج بأن تصلوا
صابرين على تكليف الصلاة، متحملين لمشاقها، وما يجب فيها من إخلاص القلب
وصدق النيات ودفع الوساوس، ومراعاة الآداب، والاحتراس عن المكاره مع
الخشية والخشوع، واستحضار أنه انتصاب بين يدي جبار الأرض والسماوات
فإنه إذا فعل ذلك تقضي الحوائج فهي معينة لقضائها وقد وردت الصلاة للحاجة
فيحتمل إياها ويحتمل أن يكون المراد بالصبر الصوم فإن الصائم يصبر نفسه على

(1) زاد في المطبوعة: والنهي عن المنكر، وهو سهو.
(2) الصف: 3.
(3) البقرة: 45.
128

الجوع والعطش، ولهذا سمي شهر رمضان شهر الصبر، والضمير راجع إلى الاستعانة
أو الصلاة صابرين على مشاقها، وعلى الأخير حذف ضمير الصوم للظهور واكتفي
بإحداهما العمدة، ويحتمل كونه راجعا إلى جميع ما تقدم من تكاليف بني إسرائيل
من قوله " اذكروا " الآية.
ويحتمل أن يكون المعنى واستعينوا على البلايا والنوائب بالصبر والصلاة
والالتجاء إليهما، كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة
ويحتمل كون الصلاة بمعنى الدعاء حينئذ فيكون الأمر بالدعاء والصبر عند
البلايا [الخ] " وإنها لكبيرة " أي لشاقة على كل مكلف إلا على المتذللين و
المستكينين، وثقيلة من قوله " كبر " على ما في الكشاف وسبب عدم ثقلها عليهم
توقعهم ما وعده للمصلين والصابرين، بقوله " وبشر الصابرين (1) " الآية، و
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (2) " كما يفهم من وصفهم بعده بقوله
" الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون " أي الذين يتوقعون
لقاء ثوابه ويطمعون به كذا في الكشاف وفي مجمع البيان الظن هنا بمعنى العلم و
اليقين.
العاشرة: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون
واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال
ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه
وله يسجدون (3).
الانصات هو الاستماع ويحتمل أن يكون مع السكوت، قيل: كانوا يتكلمون
في الصلاة فأمروا باستماع قراءة الإمام، بل مطلق القراءة المسموعة، والانصات

(1) البقرة: 105.
(2) الزمر: 10.
(3) الأعراف: 204 - 206.
129

إليها، لكن الظاهر عدم وجوبهما بالإجماع إلا في الصلاة للمأموم، فيجب عليه استماع
قراءة إمامه، والانصات إليها، ويكون المراد وجوب ترك قراءة المأموم في الجملة
أي في الجهرية، وما يسمع ولو همهمة في الإخفاتية، وبها استدل عليه بعض
الأصحاب، والحنفية وذلك لا يخلو عن بعد، من جهة إطلاق عام كثير الأفراد
وإرادة فرد خاص قليل، وأيضا من جهة إيجاب الانصات والاستماع ظاهرا بل
صريحا وإرادة عدم وجوبها بل وجوب أمر آخر، وهو ترك القراءة، لاستلزامهما
ذلك على أن في الاستلزام تأملا، إذ يمكن القراءة مع الاستماع والانصات إلا أن
يريد به السكوت، فيمكن حملها على عموم رجحان الاستماع والانصات، بترك الكلام
والتوجه إلى سماعه، وفهم معناه والتدبر فيه، ويكون التفصيل بالوجوب في
بعض أوقات الصلاة، وبالاستحباب في الباقي معلوما من غيرها، وعلى استحبابهما
للإجماع على عدم وجوبهما إلا ما أخرجه الدليل، ويعلم وجوب ترك قراءة المأموم
في موضعه بدليل آخر، وهو الأخبار كما تبين في محله وهي مختلفة، والجمع
بينهما لا يخلو عن تكلف، ولهذا اختلف الأصحاب في الحكم وتمام تحقيقه في
محله فتأمل.
قوله " واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة " الآية تدل على وجوب
الاخفات في القراءة والدعاء والذكر مطلقا، والظاهر عدم القائل به، ويمكن
حمله على موضع وجوب ذلك مثل القراءة في الإخفاتية وأريد بالذكر في النفس
عدم الجهر العرفي الفقهي مع إسماع النفس، وذلك لا يخلو عن بعد، لما مر من
بعد حمل لفظ عام على فرد قليل منه، بأن يخصص بالقراءة في بعض الصلاة، مع
جعل المراد بالذكر في النفس الاخفات المصطلح عليه في الفقه، ويمكن حمله على
الحث والترغيب على إخفاء الذكر والدعاء والقراءة مطلقا بحيث لا يسمع أو بمعنى
عدم اطلاع الغير عليه، ليبعد عن الرياء، وعدم الجهر العالي الممنوع منه شرعا، و
يؤيده " ودون الجهر من القول " أي الجهر العالي، قال القاضي: أي متكلما من الكلام
فوق السر ودون الجهر، فإنه أدخل في الخشوع والاخلاص، وذلك قد يكون
130

واجبا إذا كان موجبا لترك الرياء أو يكون قراءة واجبة فيجب إسماع النفس، بحيث
يخرج عن حديث النفس، ولا يكون عاليا بحيث يخرج عن الحد، وقد قالوا ذلك
في قراءة الصلاة الفريضة، بل يمكن ذلك في مطلق القراءة الواجبة بل مطلق القراءة
والدعاء، وفي بعض الأخبار إشارة إلى ذلك، وإن كان في بعضها ما يدل على
جواز حديث النفس فتأمل وأول.
ويحتمل أن يكون المراد استحباب إخفات الذكر والدعاء والقراءة، دون
المقدار الواجب ليبعد عن الرياء كما قيل في استحباب السر في التصدق المندوبة
واستحباب فعل النافلة في المنزل دون المسجد، وإن كان ذلك غير ظاهر، وكذا
سائر العبادات، فإن الاخلاص فيها هي العمدة، فكلما بعدت عن شبهة الرياء كانت
أولى، فيكون المستحب في مطلق الذكر أوصاف التضرع والخوف والخفات و
الذكر بالقلب واللسان، لا بمجرد اللسان والتلفظ به، فيكون " في نفسك "
إشارة إلى اعتبار القصد لا إلى السر، ويؤيده قوله " ودون الجهر " حتى لا يلزم
التكرار، فالمعنى اذكروا الله متكلما قاصدا ومتضرعا ومخافة وخائفا من عدم
الإجابة، وطامعا لها، كما يدل عليه قوله تعالى " خوفا وطمعا (1) ".
وهذا آداب القراءة في نفسها، وأما من حيث الوقت فينبغي أن يكون بالغدو
والآصال، أي أوقات الغدوات والعشيات أول النهار وأخره وقت العصر كأنهما
اختصا لفضلهما، ولبعد العبادات فيهما عن الرئاء، لعدم اطلاع الناس لأن أكثر
الناس فيهما في منزلهم مشغولون بحالهم فتأمل.
ثم رغب في الذكر وعدم تركه ونسيانه والغفلة عنه بقوله تعالى " ولا تكن
من الغافلين " ويحتمل التحريم كما هو ثابت في بعض الأوقات، وعموم الترغيب
على عدم الغفلة، والتذكر للعبادة والاشتغال بذكر الله كما مر أو استعمال
أوامره ونواهيه بأن يذكر الله وثوابه الموعود وعقابه عند أوامره فيفعل ولا يترك
وعند النواهي فيترك ولا يرتكب.

(1) السجدة: 16.
131

ثم إنهم ذكروا استحباب السجدة في آخر هذه السورة، ولعل في قوله
" إن الذين " الآية إشارة بعيدة إلى ذلك، وكذا في غيرها والمجموع أحد عشر: آخر
الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والحج في موضعين
والفرقان، والنمل، و ص وإذا السماء انشقت وفي أربع مواضع واجب ألم
السجدة عند قوله " إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا
بحمد ربهم وهم لا يستكبرون (1) " وكذا في سورة حم عند قراءة " لا تسجدوا
للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن " (2) الآية ويحتمل عند قوله " لا يسئمون (3) "
ولعل الأخير أولى، والأحوط السجدة فيهما، وفي آخر والنجم [فاسجدوا لله]
" واعبدوا (4) " وآخر اقرأ " واسجد واقترب (5) ".
ولعل دليل الأصحاب على الوجوب في السور الأربع والاستحباب في الباقي
هو الاجماع، وبعض الأخبار، مثل ما نقل عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام
عزائم السجود أربع (6) وقول الصادق عليه الصلاة والسلام: إذا قرئ شئ من
العزائم الأربع فسمعتها فاسجد، وإن كنت على غير وضوء وإن كنت جنبا، وإن
كانت المرأة لا تصلي، وسائر القرآن أنت فيها بالخيار (7) ولا يستدل على الوجوب
بأنها واردة بصيغة الأمر الدالة على الوجوب لأنه منقوص (8) وممنوع إذ لا دلالة

(1) ألم السجدة: 15.
(2) فصلت: 37 و 38.
(3) فصلت: 37 و 38.
(4) النجم: 62.
(5) العلق: 19.
(6) رواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد ج 2 ص 285 وأخرجه سعيد بن
منصور وابن أبي شيبة كما في الدر المنثور ج 5 ص 171.
(7) راجع الكافي ج 3: 318
(8) لأنه لو كان وجوبها بصيغة الأمر فينبغي أن يكون واجبا في المواضع التي ورد الأمر
فيها وأنتم لا تقولون به، فعلى هذا لا يرد النقض على الشافعي لوجوب السجدة عنده في المواضع
كلها، منه رحمه الله في هامش نسخة عش.
أقول: من المواضع التي ورد الأمر فيها ولم يقولوا به ما في سورة الحج: 77 " يا
أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا وافعلوا الخير لعلكم تفلحون " وقد حملت على الركوع
والسجود في الصلاة، وكذا منقوض طردا بما في سجدة ألم السجدة، لأنها إنما تعير المشركين
على عدم السجدة وتمدح المؤمنين على فعلها من دون أمر.
132

فيها على وجوب لسجدة عند [سماع قراءة السجدة وكذا] قراءة الآية التي هي
فيها، وهو ظاهر، فلا بد من انضمام مثل: إنه يدل على الوجوب ولا وجوب في غير
قراءة هذه الآية والصلاة بالإجماع، وليست سجدة الصلاة بالإجماع وفيه أنه ينبغي
أن يدعي الاجماع في المدعى، وعند الشافعي كلها مستحبة وأسقط سجدة ص و
عند أبي حنيفة كلها واجبة، وأسقط السجدة الثانية عن الحج (1) قال في الكشاف
لأن المراد بالسجدة فيه، هو سجدة الصلاة بقرينة مقارنتها بالركوع، وفيه أنه ما
استدل الشافعي على استحبابها عندها بهذه الآية، بل بالحديث كما نقل في الكشاف
أيضا وغيره وبالجملة لا بد من الدليل وذلك خارج عن نفس آية السجدة، وهو
ظاهر ثم إن الظاهر من السجود هنا هو وضع الجبهة فقط، فلا يجب وضع الباقي
مع احتماله، وكذا الطهارة والذكر، وغير ذلك مما يجب في سجدة الصلاة، و
التشهد والتسليم، ويستحب التكبير بعد الرفع والذكر لما روي في الكافي (2) في
الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال إذا قرأت شيئا من العزائم التي يسجد فيها فلا
تكبر قبل سجودك، ولكن تكبر حين ترفع رأسك وفي الصحيح عنه عليه السلام أيضا
قال: إذا قرأ أحدكم السجدة من العزائم فليقل في سجوده سجدت لك تعبدا ورقا
لا مستكبرا عن عبادتك ولا مستنكفا، ولا مستعظما، بل أنا عبد ذليل، خائف مستجير (3).
ولنتبع الكتاب بذكر آيات:
الأولى: فمن كان يرجو لقاء ربه (4).
في مجمع البيان: أي فمن يطمع في لقاء ثواب ربه ويأمله، ويقر بالبعث
إليه والوقوف بين يديه، وقيل: معناه فمن كان يخشى لقاء عذاب ربه وقيل إن
الرجاء يشتمل على المعنيين: الخوف والأمل، وأنشد في ذلك قول الشاعر:

(1) الحج: 77.
(2) راجع الكافي ج 3 ص 317.
(3) المصدر ج 3 ص 328.
(4) وصدرها: قل إنما أنا بشر منكم يوحى إلي أنما إلهكم وإله واحد فمن كان، الآية
110 من سورة الكهف وهي آخر آية منها.
133

فلا كل ما ترجو من الخير كائن * ولا كل ما يرجو من الشر واقع.
" فليعمل عملا صالحا " أي خالصا لله يتقرب إليه " ولا يشرك بعبادة ربه
أحدا " غيره من ملك أو بشر أو حجر أو شجر عن الحسن، وقيل: معناه لا يرائي
في عبادته أحدا عن سعيد بن جبير ومجاهد، وقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله
فقال: إني أتصدق وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله فيذكر ذلك مني وأحمد
عليه فيسرني ذلك وأعجب منه، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يقل شيئا فنزلت الآية
قال عطا عن ابن عباس إن الله تعالى قال " ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " ولم يقل ولا
يشرك به لأنه أراد العمل الذي [يعمل] لله ويحب أن يحمد عليه، قال: ولذلك
يستحب للرجل أن يدفع صدقته إلى غيره ليقسمها كيلا يعظمه من يصله بها، وروي
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشركة فمن
عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا منه برئ فهو للذي أشرك أورده مسلم في الصحيح
وروي عن عبادة ابن الصامت وشداد بن أوس قالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من
صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك، ومن صام صوما يرائي به فقد أشرك، وقرأ هذه
الآية، وروي أن أبا الحسن الرضا عليه السلام دخل يوما على المأمون فرآه يتوضأ للصلاة
والغلام يصب على يده الماء فقال " ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " فصرف المأمون
الغلام وتولى إتمام وضوئه بنفسه، وقيل إن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن
روى الشيخ أبو جعفر بن بابويه رضي الله عنه بإسناده عن عيسى بن عبد الله عن أبيه
عن جده عن علي عليه السلام قال ما من عبد يقرء " قل إنما أنا بشر مثلكم " الخ إلا كان
له نورا في مضجعه إلى بيت الله الحرام، وإن كان من أهل البيت الحرام كان له
نورا إلى بيت المقدس وقال أبو عبد الله عليه السلام ما من أحد يقرء آخر الكهف عند النوم
إلا تيقظ في الساعة التي يريدها (1).
ثم اعلم أن هذه الآية الشريفة بالتفسير المتقدم يدل على وجوب الاخلاص
واشتراطه في العبادة بحيث لا يلحقه بعد ذلك أيضا عجب وسرور بعمله، ويدل عليه

(1) انتهى مجمع البيان ج 6 ص 499.
134

أيضا قوله تعالى " يحبون أن يحمدوا " الآية (1) وهو في غاية من الاشكال والصعوبة
الله يعين ويعفو، ويفهم التأويل مما سيجيئ من الكشاف وأيضا يدل على اشتراط
الاستقلال بالعبادة فلا يصح التولية والاستعانة فيها، ويدل عليه أيضا ما روي عن
الرضا عليه السلام حين (2) سئل أن يصب الماء عليه ومنعه، فقال السائل ما تحب أن
أوجر؟ فقال: توجر أنت وأعاقب أنا، ولكن هذه مع ما تقدم من حكاية المأمون
يدلان على صحة ذلك الفعل، وحصول الثواب للمعين والعقاب للمعان، وهو مشكل
فإنه ينبغي بطلان العبادة، فكان يجب على المأمون إعادة الوضوء، وعلى الإمام
الأمر بها لا الاتمام، والعقاب على المعين أيضا، فإنه يصير معينا على الحرام إلا أن
يحمل على الكراهة مع الطلب، ويكون مقصوده عليه السلام بقراءة الآية إشارة إلى
المبالغة في المنع لا الحقيقة، أو يكون ما فعله المأمون من مندوبات الصلاة (3) أو ما تمكن
عليه السلام من أكثر من ذلك، ويكون المعين جاهلا وقصد القربة فيثاب، فيكون
هذا دليلا لكون الجاهل معذورا.
واعلم أنا قد جربنا الانتباه في وقت أردناه بقراءة الآية المتقدمة، وقد وجدناه
كما روي غير مرة وأخبرنا بعض من يوثق به من الأصحاب أيضا بذلك، فالخبر صحيح
فيكون وجود النور من المضجع إلى البيت الحرام كذلك صحيحا فإنهما مروية
في رواية واحدة، ولا معنى لصدق بعضه وكذب البعض، ولكن مع حشو ذلك النور
من الملائكة ويدعون للقارئ إلى أن يستيقظ كما رأيته في غير مجمع البيان مثل
التهذيب (4) وسيجيئ في الكشاف كذلك فلعل في مجمع البيان غلطا ونقصا و
يؤيده ما رواه أبو جعفر بن بابويه في الفقيه (5) في باب ما يقول الرجل إذا أوى

(1) وهي: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا
تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم، آل عمران 188.
(2) الكافي ج 3 ص 69، والسائل هو الحسن بن علي الوشاء.
(3) أي كان الوضوء للصلوات المندوبة، وفي بعض النسخ: من مندوبات الوضوء خ ل.
(4) التهذيب ج 1 ص 185.
(5) الفقيه ج 1 ص 297.
135

إلى فراشه قال النبي صلى الله عليه وآله من قرأ هذه الآية عند منامه " قل إنما أنا بشر " الآية
سطع له نور إلى المسجد الحرام حشو ذلك النور ملائكة يستغفرون له حتى يصبح.
أو يكون في غير هذا المحل وأيضا يكفي للعمل وحصول ذلك الثواب الاجماع و
الأخبار من العامة والخاصة المنقولين في حصول الثواب لعامل عمل بما روي عنه
عليه السلام وإن لم يكن كما روي، وهو ينفع هنا وفي غيره من الأعمال الكثيرة
وفقنا الله وإياكم للعلم والعمل الخالصين.
وفي الكشاف: فمن كان يأمل حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضى وقبول - وقد
فسر اللقاء - أو فمن كان يخاف سوء لقاء ربه، والمراد بالنهي عن الاشراك بالعبادة
أن لا يرائي بعلمه، وأن لا ينبغي به إلا وجه ربه خالصا، لا يخلط به غيره، وقيل
نزلت في جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه وآله أني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه
سرني، فقال إن الله لا يقبل ما شورك فيه، وروي أنه قال له: لك أجران أجر
السر وأجر العلانية، وذلك إذا قصد أن يقتدى به وعنه عليه السلام اتقوا الشرك الأصغر
قالوا: وما الشرك الأصغر قال الرياء. عن رسول الله صلى الله عليه وآله من قرأ سورة الكهف
من آخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه، ومن قرأها كلها كانت له نورا من
الأرض إلى السماء وعنه عليه السلام من قرأ عند مضجعه " قل إنما أنا بشر مثلكم " كان
له في مضجعه نورا يتلألأ إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى
يقوم، وإن كان مضجعه بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور و
حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ، فالخبر في ثواب قراءة هذه و
تفسيرها ما وافق عليه العامة والخاصة (1).
الثانية: واصبر نفسك أي احبس نفسك يا محمد مع الذين يدعون ربهم
بالغداة والعشي (2).

(1) وفي الدر المنثور ج 4 ص 256 - 258 روايات في ذلك.
(2) الكهف: 28.
136

يتداومون على الصلاة والدعاء عند الصباح والمساء لا شغل لهم غيره، فيفتتحون
يومهم بالدعاء، ويختمونه به، ويحتمل عموم العبادة وما يتقرب به " يريدون وجهه "
رضوانه أو يريدون تعظيمه والقربة إليه، دون الرياء والسمعة " ولا تعد عيناك "
لا تتجاوز عيناك " عنهم " بالنظر إلى غيرهم من أبناء الدنيا " تريد زينة الحياة الدنيا "
أي تريد مجالسة أهل الشرف والغنى وكان النبي صلى الله عليه وآله حريصا على إيمان العظماء
طمعا في إيمان أتباعهم، أو لا تمل إلى الدنيا وزينتها قط، ولا إلى أهلها، ولما
كان بعض الأحيان يميل إلى ايمان الرؤساء عوتب بهذه الآية، وأمر بالاقبال على
فقراء المؤمنين، وأن لا يرجع بصره عنهم إرادة مجالسة الأشراف " ولا تطع من
أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا " أي من جعلنا قلبه غافلا
عن ذكرنا بتعريضه للغفلة هكذا في مجمع البيان (1) ويفهم منه الترغيب والتحريض
بمجالسة الفقراء والصلحاء والعباد دون أهل الدنيا والأغنياء، وهو ظاهر. قيل نزلت
في سلمان وأبي ذر وصهيب وخباب وذويهم من فقراء أصحابه وذلك أن المؤلفة
قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله عيينة بن حصين والأقرع بن حابس وذووهم
فقالوا يا رسول الله إن جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وروايح صنانهم
وكانت عليهم جباب الصوف جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك، فلا يمنعنا عن الدخول
عليك إلا هؤلاء فلما نزلت الآية قام النبي صلى الله عليه وآله يلتمسهم فأصابهم في مؤخر المسجد
يذكرون الله عز وجل فقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي
مع رجال من أمتي، معكم الحياة والممات، كذا في مجمع البيان (2) أيضا.
الثالثة: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات
لأولي الألباب (3).
الآيات منصوب بأنه اسم إن وخبره الظرف المقدم عليه، أي في إيجاد الله
تعالى السماوات والأرض وجعله الليل والنهار مختلفين باعتبار الخواص والأحوال

(1) المصدر: ج 6 ص 465.
(2) المصدر: ج 6 ص 465.
(3) آل عمران: 190.
137

بل اختلاف كل واحد منها: تارة بارد، وتارة حار وتارة قصير وتارة طويل
لدلالات وأدلة على وجود الله وتوحيده، صفات الله العليا من الوجودية والسلبية
لذوي البصائر والعقول، واللب هو الخالص وسمي العقل به، لأنه أشرف و
أخص ما في الانسان فدلت على الترغيب بعلم الكلام بل الهيئة أيضا " الذين يذكرون
الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم " في محل الجر بأنه صفة أو عطف بيان أو تأكيد
لأولي، ويحتمل أن يكون مرفوعا أو منصوبا على المدح، وهو إشارة إلى أن ذوي
العقول، هم الذين يذكرون الله دائما وعلى كل حال، ولهذا ورد التحريص و
الترغيب بذكر الله كثيرا مثل ما روي عنه عليه السلام من أحب أن يرتع في رياض الجنة
فليكثر من ذكر الله، يا موسى ذكري حسن على كل حال (1) فدلت على الترغيب
بذكر الله دائما وعلى كل حال، صحيحا أو مريضا قائما أو قاعدا أو مضطجعا، و
على أي حال كان من غير مانع بوجه من الوجوه عن ذلك، ويحتمل أن يكون
معناه يصلون على هذه الهيئة على حسب طاقتهم كما روي عن الخاصة والعامة روي
عنه صلى الله عليه وآله أنه قال لعمران بن الحصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع
فعلى جنب تومئ إيماء، وهذه حجة الشافعي على أن المريض يصلي مضطجعا
مستقبلا بمقاديم بدنه، وعلى بطلان مذهب أبي حنيفة أنه يستلقي ومذهب الشافعي
موافق لمذهب أصحابنا، ولكن في بعض الروايات الترتيب بين الجنبين اليمين ثم
اليسار فيكون المراد حينئذ بذكر الصلاة قاله البيضاوي (1) ورواه علي بن
إبراهيم في تفسيره ولا تنافي بين التفسيرين فإنه غير ممتنع وصفهم بالذكر في هذه
الأحوال، وهم في الصلاة، وهي تدل على هيئة الصلاة في المرض كما ذكره أصحابنا
ودلت عليه الروايات.
" ويتفكرون في خلق السماوات والأرض " عطف على " يتذكرون " فتدل
على أن من كمال العقل والبصيرة التفكر في خلقهما للاستدلال به، من جهة

(1) الوسائل أبواب الذكر.
(2) أنوار التنزيل: 88.
138

اختراع هذه الأجرام وإبداع أوضاعها، وما دبر فيها مما يتحير فيه العقول عن
إدراك بعض عجائبها كما يظهر بالتأمل خصوصا مع ملاحظة علم الهيئة على عظم شأن
الصانع، وكبرياء سلطانه، وصفاته الثبوتية والسلبية، وكمال قدرته التي
تعجز عن تخيله العقل فيتحقق أن ليس لها صانعا إلا الله الذي لا إله إلا هو، ولا
يشبه شيئا ولا يقدر القادرون قدره. وعن سفيان الثوري أنه صلى خلف المقام ركعتين
ثم رفع رأسه إلى السماء فلما رأى الكواكب غشي عليه، وكان يبول الدم من
طول حزنه وفكرته.
وفي الآية دلالة على عظم شأن علم أصول الدين وفضله والتفكر في خلق
الله مستدلا به على وجود الله وصفاته، حيث جعل كذكر الله ومن لوازم العقل و
شرطه على الظاهر، ولهذا روي في أخبار الخاصة والعامة (1) ما يفيد ذلك مثل ما
روي عنه صلى الله عليه وآله أنه لا عبادة كالتفكر، وأن ذلك مفيد للعلم ومعلوم شرف العلم
بذات الله على غيره من العلوم والأعمال، فإنه شرط للكل، وعنه صلى الله عليه وآله بينما رجل
مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لك
ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له، وعن ابن عمر قال قلت لعايشة
أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله فبكت وأطالت ثم قالت: كل أمره
عجيب أتاني في ليلتي ودخل لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال: يا عايشة
هل لك أن تأذن لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت يا رسول الله أني لأحب قربك و
أحب هواك، قد أذنت لك. فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من
صب الماء ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه ثم
جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه وجعل يبكي حتى رأيت
دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه لصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له: يا رسول
الله أتبكي؟ وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال يا بلال أفلا أكون
عبدا شكورا؟ ثم قال: وما لي لا أبكي وقد أنزل الله علي في هذه الليلة " إن في

(1) الدر المنثور ج 2 ص 110 - 111.
139

خلق السماوات والأرض " الآية ثم قال: ويل لم قرأها ولم يتفكر فيها، وروي
ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها.
وفي هذه دلالة على أن العبد الشكور هو الذي يبكي كثيرا وأنه ينبغي الأذن
من الزوجة إن أراد القيام للعبادة في ليلتها، فكأنه تجب المضاجعة طولها وأنه
لا يضر البكاء والدعاء بحضور الزوجة والأصحاب، ولا ينافي الخفية التي هي مطلوبة
في الدعاء، وعلى الوعيد في عدم التأمل في معنى الآية، وعدم التفكر فيما يدل
على صفاته، وكأنه يشعر بوجوب المعرفة بالدليل ولا يضر عدم العلم بسند الرواية
فتأمل.
" ربنا ما خلقت هذا باطلا " كأنه حال عن فاعل " يتفكرون " أي يتفكرون
قائلين ربنا و " هذا " إشارة إلى المخلوق المذكور من السماوات والأرض أو الخلق
بمعناه (1) أو إليهما يعني ليس ما خلقت عبثا لا حكمة ولا فائدة ولا غرض فيه، بل
فيه حكمة عظيمة، ومصالح كثيرة، من جملتها كونها دليلا على التوحيد والعلم
والقدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات، وكون الأرض مبدءا لوجود الانسان
وسببا لاستقراره، وترتب الفوائد التي يراها يترتب على خلق الأرض والسماء
واختلاف الليل والنهار، التي لا يحصيها إلا الله، فيمكن أن يستدل بها على أن
أفعال الله تعالى معللة بالأعراض الحاصلة للعباد، فلا يجب عود الغرض من الفعل
إلى فاعله، وهو ظاهر، وفيها حكم ومصالح، وأن الباطل والعبث محال عليه
وأنه مذموم وقبيح، وأنه منزه عنه كما أشار إليه بقوله " سبحانك " أي ننزهك
تنزيها من العبث والباطل.
" فقنا عذاب النار " إشارة إلى أن مجرد العلم بفائدة الخلق، يدل على
استحقاق العبادة وحسن التكليف والعقاب بتركها، والتقصير في التفكر وغيره مما
يستحق وأن له المغفرة والعفو، وأنه قادر على ذلك ولا قبح فيها، وأنه لا بد
لطلبها من العلم بما تقدم، فلا بد من الايمان والعلم بأنه لم يفعل عبثا وباطلا و

(1) أي بمعنى المخلوق كما في أنوار التنزيل: 88.
140

أن مجرد ذلك كاف للطلب وأنه بذلك أهل لها فتأمل.
" ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته " بمنزلة العليل للطلب المتقدم
كأنهم قالوا إن لم تغفر لنا فتدخلنا النار، فهو الخزي العظيم الذي لا خزي فوقه
فهو تأكيد للطلب، وإلحاح فيه، وإظهار الاحتياج إليه تعالى سواء قلنا المراد هو
دوام الخلود أم لا؟ ويؤيده الأخبار، فإن الاستعاذة من عذاب النار فيها أكثر
من أن تحصى، بل في بعضها ما يدل على أن لا عذاب إلا عذاب النار " وما للظالمين
من أنصار " أراد بهم مدخلين النار، وضع المظهر موضع المضمر، للإشارة إلى أن
سبب الدخول هو الظلم على أنفسهم لا غير، وأنهم يستحقون ذلك، فالعفو والمغفرة
إحسان ولطف وتفضل غير لازم، فيدل على أنه بغير التوبة يجوز ويحتمل كما
مر، وهو لتأكيد الطلب حيث لا ناصر لهم، وكأن المراد بالناصر: الذي يخلص
الداخل منه بنصرة وغلبة على من أراد إدخالهم، فإنه الظاهر من الناصر فلا ينافي
وجود الشفيع فافهم، ويحتمل أن يراد بالظالمين الكفار، فلا يحتاج إلى التأويل.
" ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم " أي آمنوا أو بأن
آمنوا (1) " فآمنا " قيل المنادي هو النبي صلى الله عليه وآله وقيل القرآن، والأول أظهر، و

(1) قيل عليه: فيه إشكال فإن الأخيرة إشارة إلى أن كون أن مصدرية، وذلك غير جد
فإنه يصير التقدير ينادي للايمان بالايمان فأجيب بأنها مخففة من المثقلة، واعترض عليه بأنه
لا يدفع الاشكال عن صاحب الكشاف مع أنه لا بد للمخففة من أحد حروف أربعة حرف النفي
وحرف التحقيق، وحرف الاستقبال إلا أن يدخل على الجملة الإسمية أو على فعل غير متصرف
لأن أن المصدرية لا تدخل هاهنا ثم قال المعترض ويمكن دفع الاشكال عن القرآن بجعلها زائدة
كما جوزه بعضهم وأيضا لا استحالة في كون التقدير ينادي للايمان بالايمان بربكم، لأن
الأول مطلق والثاني مقيد، فلا تكرار، وأيضا النداء للايمان أعم من أن يكون بلفظ الايمان
أو بلفظ آخر متناول له، ومستلزم له، فقال بالايمان ليفيد أن النداء إلى الايمان إنما كان
بلفظه.
أقول: في دفع الاشكال على تقدير أن المصدرية لا يلزم أن يكون المأول بالمصدر مصدرا
صريحا وقد صرح به السيد الشريف في بعض تحقيقاته وأيضا [لا قصور في ذلك التقدير فإنه
لا قصور إذا قيل ينادي للايمان بالايمان بالرب أي ينادي له بقول بكونه مضمونه طلب الايمان
141

في ذكره أو لا مجملا ومنكرا ثم مفصلا تأكيد كما في تكرار " ربنا " للطلب.
" ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا " يمكن أن تكون الكبائر، كما
قالوا: وسيئاتنا إشارة إلى الصغاير فإنها تكون مكفرة باجتناب الكبائر عند البعض
" وتوفنا مع الأبرار " أمتنا موتتهم، واجعلنا بعده معهم، والأبرار جمع بر أو
بار كأصحاب وأرباب في جمع رب وصاحب " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك "
ما وعدتنا على تصديق رسلك من الأجر والثواب أو ما وعدتنا بلسانهم ونقلهم عنك
وهذا السؤال ليس لأن يعمل بوعده وعدم الاخلال به، لاحتمال أن لا يفعل ذلك
لأن ذلك محال عليه تعالى الله عنه، بل طلب لبقائه على استحقاق ذلك بالموت
على الايمان، والعمل الصالح الكامل الذي يستحق بهما ذلك الوعد، مخافة أن لا
يكون من الموعودين لسوء العاقبة، أو لقصور في الامتثال للاخلال بشرائطها من

من المخاطبين بالنداء، سواء كان بقوله آمنوا أو صدقوا، أو أسلموا أو قولوا لا إله إلا الله محمد
رسول الله، ونحو ذلك، ولا قصور في ذلك: ويؤيده ما قيل أن أن المصدرية إذا دخلت أمرا
يكون للطلب.
ويجوز كونها مخففة أيضا وما ذكره المعترض من الشرط غير ظاهر، وما ذكره
بعض النحاة فكأنه يريد به الأغلبية، ولهذا قال في الكشاف وتفسير البيضاوي في تفسير قوله
تعالى " أن إذا سمعتم " أن المخففة من المثقلة وأيضا كلام الكشاف ليس بصريح في كون أن
مصدرية أو يكون مقصودة دفع الاشكال بوجه آخر.
وأيضا في قول المعترض في دفع الاشكال بزيادة " أن " لأنه جاز عند البعض تأمل
فإن مجرد ذلك لا ينفع وهو ظاهر، وأيضا ليس الاشكال بالتكرار حتى يدفع بما ذكره: بل
عدم ظهور المعنى بقول النداء بالايمان، وقد عرفت له معنى صحيحا فاندفع الاشكال، وأيضا
النداء بالايمان أعم كما بيناه، وبالجملة لا إشكال في القرآن ولا في كلام صاحب الكشاف ولا
في كلام صاحب القيل: وإنما ذلك في كلام المعترض وهو السيد اليمني والله أعلم، منه ره.
أقول: هذه الحاشية قد طبعت في الطبعة الأولى الحجرية في المتن ونسخة سن خالية
عنها متنا وهامشا، وأما نسخة عش فقد جعلتها في المتن والهامش معا، وقال بعد تمامها
في الهامش " منه رحمه الله " وإنما جعلناه في الهامش لظاهر نسخة عش وأصالة نسخة
سن، ولأن مسلك المؤلف رحمه الله في متن الكتاب لم يكن على المناقشات الأدبية.
142

الاخلاص وغيره، أو تعبد واستكانه كما يقول الأنبياء والأولياء عليهم السلام " اللهم
اغفر لي " من غير ذنب، بل يظهرون البكاء والخوف العظيم من العقاب والتقصيرات
المفرطة والإقرار بالذنوب العظيمة جدا مع عدم شئ منها " ولا تخزنا يوم القيامة "
بالعذاب وإدخال النار بأن تعصمنا عما يقتضيه وتوفقنا لما يبعدنا عنه ولا تفعل ذلك
بنا " إنك لا تخلف الميعاد " بإثابة المؤمن وإجابة الداعي، بمنزلة دليل على أنه لم
يفعل، أي لم تخزنا لأنك وعدت بذلك، وأنت لا تخلف الميعاد، أو أنه خبر بمعنى
الدعاء فيكون تأكيدا للعصمة، وقال في مجمع البيان: دعاء بمعنى الخبر فافهم
" فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض "
يحتمل أن يكون المراد فأجاب دعاءهم وطلبهم بأن الله لا يضيع عمل مؤمن فإنه
يثيبه على ذلك، فتدل على أنه لا بد من العمل ومن الايمان معه، وقالوا أي
استجاب طلبتهم وأعطاهم مرادهم ومقصودهم، فدلت الآية على أن الدعاء مع تقديم
العجز والانقطاع مستجاب قال في الكشاف روي عن جعفر الصادق عليه الصلاة و
السلام من حزنه [أي أصابه] أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما أخاف و
أعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية، وكأنه يريد ذكر المطلب بعد قول ربنا خمسا
قال في مجمع البيان وهذا يتضمن الحث على مواظبة الأدعية التي في الآية المتقدمة
والإشارة إلى أنه مما يتعبد الله بها وندب إليها، وذلك يتضمن الإجابة لمن
دعا بها انتهى.
ثم إن في تتمة هذه الآيات دلالة على الاستحباب والترغيب العظيم على
المهاجرة في سبيل الله وطاعته، والصبر على الأذى في الله وعلى الاخراج عن الديار
والأهل، كالصبر على القتل والقتال، فإن ذلك ليس بمخصوص بالمهاجرين معه
صلى الله عليه وآله من مكة إلى المدينة لعموم اللفظ قال الله " فالذين هاجروا و
أخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم
ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب " (1)

(1) آل عمران: 195.
143

لأنها تدل على أن هذه الأمور مطلقا موجبة لمحو الذنوب، والثواب الجزيل
ففيها دلالة على أن العمل فيها لا يقع شكرا بل له أجر وعوض، وأن الذنوب يكفر
بالعمل الصالح ومثلها كثيرة فتأمل، كقوله تعالى " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا
يره " (1) الآية.
" يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم
تفلحون (2) " يمكن أن يستدل بها على استحباب المرابطة المصطلحة مع عدم
الضرورة، لعدم القائل، وعلى الوجوب معها فهي محمولة على المرابطة المصطلحة و
هي ربط النفس وحبسها في ثغور الكفار لدفع من أراد منهم السوء بالمسلمين إن
قدروا، ولاخبار المسلمين حتى يدفعوهم فيأمنوا من هجومهم كما يدل عليه بعض
الروايات وقال في مجمع البيان: وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال معناه
اصبروا على المصائب، وصابروا على عدوكم، وقيل معنى رابطوا أي رابطوا الصلاة
أي انتظروها واحدة بعد واحدة لأن المرابطة لم تكن حينئذ روي ذلك عن علي (3)
عليه السلام ويؤيده ما روي في انتظار الصلاة بعد الصلاة من الأجر العظيم مثل من
جلس في مصلاه بعد الصلاة إلى وقت صلاة أخرى أنه ضيف الله فيكرمه ويعطيه ما سأل (4)
قال في مجمع البيان روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال: إسباغ الوضوء
في السبرات (5) ونقل الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط
ثم قال وهذه الآية تتضمن جميع ما يتناوله التكليف لأن قوله " اصبروا " يتناول
لزوم العبادات وتجنب المحرمات " وصابروا " يتناول ما يتصل بالغير كمجاهدة
الجن والإنس وما هو أعظم منها من جهاد النفس " ورابطوا " يدخل فيه الدفاع عن
المسلمين والذب عن الدين " واتقوا الله " يتناول الانتهاء عن جميع المناهي والزواجر
والايتمار بجميع الأوامر، ثم يتبع جميع ذلك الفلاح والنجاح، وبالله التوفيق.

(1) الزلزال: 7.
(2) آل عمران: 200.
(3) مجمع البيان ج 2 ص 562.
(4) راجع مستدرك الوسائل ج 2 ص 246.
(5) السبرات جمع السبرة الغداة الباردة.
144

كأنه يريد بلزوم العبادات المتعلقة بنفسه من غير نظر إلى غيره، وكذا
بتجنب المحرمات وإن فهم ذلك المعنى من " صابروا " باعتبار كونه من باب المفاعلة
بين الاثنين كما أشار إليه قبله، وكذا رابطوا فكأنه حمله على المعنى الأعم المستفاد
من معناه اللغوي وهو مشتق من الرباط والمرابطة وقيل معناه اصبروا على مشاق
الطاعات وما يصيبكم من الشدائد، وصابروا أي غالبوا أعداء الله في الصبر على
شدائد الحرب وأعدى عدوكم في الصبر على مخالفة الهوى، وتخصيصه بعد الأمر
بالصبر مطلقا لشدته، ورابطوا أبدانكم وخيولكم في الثغور مترصدين للغزو، و
أنفسكم على الطاعة كما قال النبي صلى الله عليه وآله الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة، وعنه عليه السلام: من
رابط يوما وليلة كان كعدل صيام شهر وقيامه، ولا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة (1).
" وإذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (2) " تدل على الترغيب
على السجدة، والبكاء عند سماع آيات الله، قالوا يستحب السجدة عند سماع هذه
الآية، وليست بمفهومة بخصوصها منها، كأنه من الاجماع والأخبار فتأمل " فخلف
من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ": شرا، فيها دلالة
على تحريم إضاعة الصلاة واتباع الشهوات قيل المراد بالإضاعة تركها، وقيل تأخيرها
عن أوقاتها، وفي آخرها ما يدل على قبول التوبة من التارك والتابع للشهوة مع العمل
الصالح حيث قال " إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا
يظلمون شيئا " (3).

(1) الدر المنثور ج 2 ص 113، أنوار التنزيل: 89.
(2) مريم: 58، وما بعدها ذيلها.
(3) نقل في النسخة المطبوعة بعد ذلك شطرا مما تقدم من كلامه في مبحث سجدة
العزائم ص 133 أوله، " ونقل في الكشاف وغيره " إلى قوله: " خائف مستجير ": وهو سهو.
145

* (كتاب الصوم) *
وفيه آيات:
الأولى والثانية: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب
على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياما معدودات فمن كان منكم مريضا
أو على سفر فعدة من أيام أخر إلى قوله إن كنتم تعلمون (1).
يعني أوجب الله وكتب أيها المؤمنون الصوم عليكم كتابة مثل كتابته على
الذين من قبلكم - فما مصدرية ولعل التشبيه في أصل الصوم، أو العدد والوقت أيضا
لكن غير كما نقل في التفاسير - رجاء لتقواكم أي حال كونكم مرجوا منكم التقوى
أو راجين أن تكونوا من المتقين، أو لرجاء تقواكم بالصوم، فإنه أصل ومن العبادات
المعتبرة في التقوى، أو لأنه شعارهم ولحصول التقوى لكم به عن سائر المعاصي
فإن الصوم يكسر الشهوة كما في الحديث: من لم يطق الباه، فعليه بالصوم، فإن
الصوم له وجاء. أي الصوم للعزب بمنزلة الخصاء وفي آخر خصاء أمتي الصوم
هذا في مجمع البيان (2) والأول في الكشاف والبيضاوي (3) بل القوة الغضبية
وما يتبعها من الشرور ويحصل للنفس انكسار، وعدم الميل والقوة إلى ما يضره
كما نجد في أنفسنا إذا كنا مفطرين.

(1) البقرة: 183 و 184، وتمام الآية: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين
فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون.
(2) راجع ج 2 ص 272.
(3) أنوار التنزيل: 49، وتراه في الكافي ج 4 ص 180 ولفظه، يا معشر الشباب
عليكم بالباه فإن لم تستطيعوه فعليكم بالصيام فإنه وجاؤوه، ورواه في البخاري ج 1 ص 326
كتاب الصوم ج 3 ص 238 كتاب النكاح. الدر المنثور ج 1 ص 176.
146

والصوم قيل لغة الامساك وشرعا إمساك شخص مخصوص عن أشياء مخصوصة
في زمان مخصوص، ولا يضر الاجمال لأن المقصود هو الإشارة إليه في الجملة، لا
بين حقيقته إذ لا يعلم ذلك إلا بعد الإحاطة بشرائط صحته ومفسداته، وهو موكول
إلى محله، ووجه ذكر الوجوب على الأمم السابقة تسلية المؤمنين بهذا التكليف
فيفهم أنه شاق على النفس لأنه مناف لمشتهاها كما مر، ويفهم أيضا الاهتمام بتوطين
النفس على فعله، وحسن قبوله " أياما معدودات " أي المفروض عليكم الصوم
في أيام معلومات موقتات كما ستعلمونه أو قلائل، فعامله الصيام المصدر، وإن
وجد الفصل، لأن الظرف يكفيه رائحة العامل، فليس ذلك موجبا للذهاب إلى
التقدير أي صوموا أياما كما قاله البيضاوي مع أنه موجب للتكرار والثقل
على الطبيعة، وكذا قله عمل المصدر المعرف كما قيل، ولم يثبت قول من قال بعدم
وجوده في القرآن، على أنه قد يكون المراد العمل في غير الظرف فافهم.
ولعل تلك الأيام شهر رمضان كما سنبين عن قريب إن شاء الله تعالى قال في
مجمع البيان وعليه أكثر المفسرين، لا ما وجب ونسخ به وهو عاشورا، وثلاثة
أيام من كل شهر كما جوزه البيضاوي إذ جعل مثل هذه الآية منسوخة خلاف
الظاهر كثيرا بل لا يجوز النسخ ما لم يتعين، سيما مع بقاء حكم ما بعدها المتفرع
عليه وأيضا وجوب ثلاثة أيام على غير النبي صلى الله عليه وآله من المؤمنين غير معلوم وإنما
نقل في الكشاف وجوبها عليه فقط وإن نقل في غيره صلى الله عليه وآله وأيضا لا ينافي وجوب
رمضان وجوب غيره فلا يصلح نسخا له فتأمل.
ففهم منها وجوب صوم شهر رمضان بانضمام ما، والاهتمام بشأنه، وكونه سببا
للتقوى، وعلم أيضا كونه واجبا على غير المريض والمسافر من قوله " فمن كان "
أي كل من كان " منكم مريضا " ظاهره مطلق المرض أي مرض كان، وما يصدق عليه
المرض عاما كما نقل عن البعض في الكشاف لكن خصه الأصحاب بمرض يضره
الصوم إما لعسر برئه وطوله أو زيادته بالأخبار ولعله بالإجماع أيضا والاحتياط، و
بالمناسبة العقلية، وبما يفهم من قوله " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ".
147

قال في الكشاف: وقيل هو المرض الذي يعسر معه الصوم ويزيد فيه لقوله تعالى
" يريد الله بكم اليسر " وما رده، ولعله رضي به، ونقل عن الشافعي أنه لا يفطر
حتى يجهده الجهد غير المحتمل، وما استدل عليه ودليل غير واضح، والآية و
الأخبار تدفعه كما عرفت وأيضا أكثر أهل الاسلام خصص المرض بما مر كما
خصصوا السفر بسفر التقصير، ولكن ما قيد بحصول المشقة بالصوم فيه إما دائما
أو أكثريا بحيث يضمحل عدمها لعدم ضبطها ولظهور الآية والأخبار الكثيرة في
عدم القيد مع عدم الموجب من الاجماع والأخبار، بل عدم الخلاف على عدمه
كما يفهم.
وقوله " أو على سفر " أي من كان منكم على سفر، فيكون معطوفا على
" مريضا " أي من كان منكم في هذه الأيام راكب السفر وفي البيضاوي: فيه إيماء
بأن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر كأنه أخذه من لفظة " على " و " الأيام " وليس
بواضح إذ ظاهره كونه في هذه الأيام على السفر، وذلك يتحقق بوجوده أكثره في
السفر، كما هو المتعارف باجراء حكم الشئ على أكثره، وتدل عليه أخبار صريحة
صحيحة وهو المذهب المنصور من المذاهب في هذه المسألة كما هو المحقق في محله
فعليه عدة أيام المرض والسفر بعده بمعنى معدودة، وقرئ بالنصب أي فليصم
عدة كذا في الكشاف وتفسير القاضي ولا شك أن " عليه " و " فليصم " مفيدان
للوجوب كما هو المقرر في الأصول، فقولهما وجزمهما أنه على سبيل الرخصة لا
على سبيل الوجوب - وقيل على الوجوب وزاد القاضي: وذهب إليه الظاهرية وبه
قال أبو هريرة - لا يناسب (1) فإنه خروج عن ظاهر الآية بل عما قال في بيان
التركيب.
وقال في مجمع البيان (2) وقد ذهب إلى وجوب الافطار في السفر جماعة من
الصحابة كعمر بن الخطاب وعبد الله بن العباس وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن

(1) خبر قوله: فقولهما وجزمهما الخ.
(2) راجع ج 2 ص 273.
148

عوف وأبي هريرة وعروة الزبير وهو المروي عن أئمتنا فقد روي أن عمر بن
الخطاب أمر رجلا صام سفرا أن يعيد صومه، وروي عنهم عليهم الصلاة والسلام ذلك
فقد علم عدم الاجماع أيضا عندهم على الرخصة، بل عدم الخبر الصحيح، بل مطلق
الدليل الصحيح لبعد خفائه عنهم، وزيادة البيضاوي قوله " إن أفطر " خلاف الظاهر
وارتكاب مثل هذا الحذف في القرآن العزيز من غير ضرورة لا يجوز، إذ العمل
بظاهر القرآن بل مطلق الأدلة متعين كما هو المبين في الأصول والعقول.
ففهم من ذلك وجوب القضاء على المريض والمسافر سواء صاما أو أفطرا لإيجابه
بقوله " فعدة " على ما مر، فلا يكون ذلك الصوم مجزيا لأنه ما يسقط به القضاء عند
الفقهاء، فلا يكون جائزا، إذ لو كان جائزا لأجزأ، وأيضا أحد لم يقل بجوازه
من غير أن يكون أحد الواجبين وقد أبطلناهما، وأيضا ظاهر قوله " فليصم غير هذه
الأيام " أنه لا يصم هذه، فيكون الصوم فيها حراما كما ذهب إليه أصحابنا ولعله
إجماعي وعليه أخبار كثيرة صحيحة (1) بل يفهم تحريم مطلق الصوم في السفر إلا أنا
نجد في الكتب أنهم استثنوا مثل صوم النذر المقيد به، وعليه رواية صحيحة (2) و
يجعل بعضهم بل أكثرهم الصوم الغير الواجب في السفر مكروها، وبين ذلك بعضهم
بأنه أقل ثوابا إذ لا تكون العبادات إلا راجحة أو حراما فلو كانت جايزة مكروهة
لكان بالمعنى الذي مر، وذلك غير واضح، إذ العبادة كما لا يجوز كونها محرمة يجوز
كونها مكروهة بالمعنى الحقيقي أيضا إلا أن يقال باعتبار النية، فيحرم لأنه تشريع
فتأمل فالظاهر في الصوم سفرا إما التحريم مطلقا إلا ما ثبت استثناؤه، أو الكراهة بمعناه
المتعارف في الأصول بمعنى أنه لم يصم لكان أحسن من الصوم أي عدمه خير من
وجوده، ولا يعاقب عليه، ولا مانع في العقل أن يقول الشارع ذلك للمكلف وقد
ثبت في الأخبار كثيرا النهي عنه سفرا، ولم يثبت ما يدل على الرجحان بخصوصه إلا
ما روي في خبرين ضعيفين جدا (3) من فعل أحد الأئمة عليهم الصلاة والسلام في

(1) الكافي ج 4 ص 126، الفقيه ج 2 ص 90.
(2) راجع صحيحة علي بن مهزيار في التهذيب ج 1 ص 433.
(3) الكافي ج 4 ص 130 باب صوم التطوع تحت الرقم 1 و 5.
149

صوم شعبان سفرا، وليس بصريح أيضا في المندوب، لاحتمال النذر، ويحتمل
اختصاصه به أيضا ويبعد الجمع بحمل الأكثر الأصح لأجل واحد أو اثنين ضعيفين
غير صريحين على الكراهة بالمعنى المذكور، إذ يبعد أن يمنع الإمام بقوله " لا تصم أوليس
من البر " (1) عن صوم مثل يوم الغدير، وأول رجب وسائر الأيام المتبركة من
يريد صومه ويسأله عن فعله أو لا، بمعنى أن الثواب أقل من ثواب الصائم في الحضر
أو بمعنى أن الثواب في الافطار سفرا أكثر من الصوم فيه، إذ ليس الفطر عبادة في
السفر على ما هو المشهور في غير الواجب مثل شهر رمضان ويبعد أن يكون الانسان
مثابا في السفر بالإفطار بثواب أكثر من الثواب الذي يحصل له بالصوم فيه، وأيضا
لا معنى لصومه عليه الصلاة والسلام في السفر مع مرجوحيته من الافطار على ما دل
عليه الخبران اللذان هما وجه حمل الأخبار الدالة على نهي الصوم في السفر ندبا
على الكراهة فتأمل الله يعلم.
وأما التتابع في القضاء فلا يبعد كونه مستحبا لما في بعض الروايات، وقراءة
" متتابعات (2) " وإن كان الحق عدم حجية ما لم يثبت كونه قرآنا كما بين في
الأصول، لكنه مؤيد - وأيضا " سارعوا " (3) وغيره مما يدل على التعجيل في فعل
الخير وأيضا ربما يحصل مانع فتفوت تلك العبادة العظيمة وأيضا يتمكن به من
الصوم المندوب بالاتفاق، حيث ذهب أكثر الأصحاب إلى عدم جوازه لمن عليه
الفرض، وعليه دل الخبر الصحيح والحسن أيضا كلاهما في الكافي (4) وأيضا أظن
أن بعض الأصحاب ذهب إلى وجوب التعجيل في القضاء فيخلص بذلك عن الخلاف
وما ورد في بعض الروايات من التفصيل من الأمر بالتتابع في الستة والتفريق في

(1) لفظ الحديث ليس من البر الصيام في السفر، والحديث مروي بطرق كثيرة عن
العامة والخاصة، راجع الوسائل الباب 1 من أبواب من يصح منه الصوم تيسير الوصول ج 2
ص 312، مشكاة المصابيح: 177 وقال: متفق عليه. سنن ابن ماجة تحت رقم 1664 و 1665.
(2) نقله في كنز العرفان ج 1 ص 207 ونسب القراءة إلى أبي بن كعب. وقيل:
إنه في مصحف ابن مسعود أيضا.
(3) آل عمران: 133.
(4) راجع ج 4 ص 123.
150

الباقي فليس بثابت، بل الظاهر استحباب التتابع مطلقا للروايات، والجمع بينها
وبين ما يدل على التفريق لو وجد لا يفيد ترجيح التفريق، ولو في البعض بل ولا
التساوي.
وأما معنى " وعلى الذين يطيقونه " ففيه اختلاف كثير والمنقول عن أهل البيت
عليهم الصلاة والسلام الذين هم العارفون بالقرآن أن المراد بهم الشيوخ والعجايز
الذين كانوا يطيقون أولا الصوم، ثم صاروا بحيث لا يطيقونه إلا على وجه المشقة التي
لا يتحمل مثلها عادة أو يطيقونه بجهد وطاقة ومشقة لا يتحمل مثلها في العادة، وكذا
الحوامل المقربات، والمرضعات القليلات اللبن كما قاله الأصحاب، فعلى الأول في الآية
حذف أي كانوا يطيقونه من قبل والآن ليسوا كذلك وعلى الثاني يكون مؤولا
بمعنى يطيقونه الصوم بالجهد والطاقة أي المشقة، والذي يدل عليه ما رواه محمد بن
يعقوب في كتابه عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن صفوان بن يحيى عن علا بن
رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه الصلاة والسلام في قول الله عز وجل
" وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " قال الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش
[وعن] قوله " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " قال من مرض أو عطاش (1)
والظاهر أن هذا الخبر صحيح وما رواه في كتابه صحيحا عن محمد بن مسلم قال:
سمعت أبا جعفر عليه الصلاة والسلام يقول: الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج
عليهما أن يفطرا في رمضان ويتصدق كل واحد منهما في كل يوم بمد من طعام
ولا قضاء عليهما، فإن لم يقدرا فلا شئ عليهما (2) وروي أيضا فيه مرسل ابن بكير عن
بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل " وعلى الذين يطيقونه فدية
طعام مسكين " قال الذين كانوا يطيقون الصوم فأصابهم كبر أو عطاش أو شبه ذلك
فعليهم لكل يوم مد، وروي أيضا فيه صحيحا (3) عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا
جعفر عليه الصلاة والسلام: يقول الحامل والمقرب والمرضع القليلة اللبن لا حرج

(1) الكافي ج 4 ص 116.
(2) الكافي ج 4 ص 116.
(3) الكافي ج 4 ص 117.
151

عليهما أن يفطرا في شهر رمضان، لأنهما لا يطيقان الصوم: وعليهما أن يتصدق
كل واحد منهما في كل يوم يفطر فيه بمد من طعام، وعليهما قضاء كل
يوم أفطرتا فيه تقضيانه بعد، وفي صحيح آخر فيه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر
عليه السلام قال مثله فكأن ترك التاء في " واحد " باعتبار التعبير بالحامل المقرب و
لفظه مذكر ويفهم من الخبر الثاني إطلاق رمضان فيمكن حمل المنع الوارد في بعض
الروايات على تقدير الصحة على الكراهة وأيضا فهم حكم العطاش ونحوه ودخولهم
في الآية.
وقال في مجمع البيان (1) وروي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه الصلاة
والسلام قال معناه: وعلى الذين كانوا يطيقون الصوم، ثم أصابهم كبر أو عطش أو
شبه ذلك، فعليهم لكل يوم مد، وكأنه إشارة إلى مرسل ابن بكير فكأنه لصراحته
وكونه عاما في المقصود اختاره فكأن الارسال لا يضر حيث أسنده غيره مع عمل
الأصحاب بل الظاهر عدم الخلاف قال فيه أيضا وروي عن علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق عليه الصلاة والسلام قال: " وعلى الذين يطيقونه فدية " من مرض في شهر
رمضان فأفطر ثم صح ولم يقض ما فات حتى جاء شهر رمضان آخر فعليه أن يقضي
ويصدق لكل يوم مدا من طعام، وهذا رأيته في تفسيره من غير أن يسنده ولم
يرو عنه في الكافي مع نقله عنه في هذه المسألة روايتين وسيجيئان.
" ومن تطوع خيرا " أي تطوع في البر في جميع الأمور، سواء كان زيادة في
الفدية بأن يطعم أكثر من ستين مسكينا كما قال بعض، أو زيادة على المد لمسكين
واحد، أو الأدام كما قال به الآخر، أو الزيادة في الاطعام المذكور مطلقا جامعا
بين القولين كما نقل عن ابن عباس كل ذلك في مجمع البيان " فهو " أي التطوع
" خير له " وأحسن " وأن تصوموا خير لكم " يعني صومكم خير لكم من الافطار
لما فيه من المصالح الخفية والظاهرة، " وأن تصوموا " بمعنى الصوم مبتدأ و " خير "
خبره و " لكم " متعلق به. أو أن ثواب من صام أكثر من ثواب فدية من أفطر، و

(1) راجع ج 2 ص 274.
152

إن كانا واجبين، والظاهر منها أن الصوم خير من اختيار الفدية قال في الكشاف
وتفسير القاضي: " وأن تصوموا خير لكم " أيها المطيقون أو المطوقون (1) وحملتم
على أنفسكم وجهدتم طاقتكم " خير لكم " من الفدية وتطوع الخير، فتدل على التخيير
بين الفدية والصوم لهؤلاء الذين ذكرناهم، فيمكن القول به، لكن بشرط عدم
حصول العلم بالضرر الذي يؤول إلى وجوب الافطار، والظاهر من عبارات الأصحاب
هو جواز الافطار لا الوجوب " إن كنتم تعلمون " أي إن كنتم تعلمون ما في الصوم
من الفضيلة والمصالح تعرفون أنه خير لكم من الفدية والإفطار، ويحتمل أن
يكون معناه إن كنتم من أهل العلم والعقل السليم، والتميز بين الحسن والأحسن
والقبيح والأقبح (2) تعرفون أنه خير لكم، فالجزاء محذوف، وليس ببعيد كونه
إشارة إلى إظهار فضيلة الصوم كما مرت إليها الإشارة في الأخبار مطلقا من غير قيد
بما نحن فيه كما هو الظاهر من المعنى الأخير الذي هو أولى وأعم فكأن معناه
إن كنتم من أهل العلم والتميز تعرفون خيرية الصوم لكم من الافطار، وبالجملة
لا يدل على خيرية الصوم في السفر والمرض عن الافطار كما هو المشهور في ألسنة
الطلبة والعوام على طريق التخيير.
والآية دلت على وجوب الافطار للمريض والمسافر وكذا الأخبار بل إجماعهم
أيضا على الظاهر، وعلى وجوب القضاء عليهما أيضا، ولكن إذا اتصل المرض إلى
رمضان آخر، فهل يجب عليه القضاء أم لا؟ فعموم الآية يفيد ذلك، وذهب إليه بعض
الأصحاب والمشهور عدمه لظهور الروايات الصحيحة مع عدم وجوب الفدية لتلك الروايات
ويجب القضاء معها - وذهب إليه الصدوقان وقواه في الدروس وأيضا الشيخ زين
الدين في شرح الشرايع - إذا لم يتصل المرض إلى رمضان آخر وصح فيما بينهما
بحيث يقدر على القضاء وترك سواء كان متهاونا أم غيره، وهو من كان عازما وأخر
باعتقاد وسعة الوقت، ثم حصل له مانع، مثل حيض أو مرض أو سفر ضروري، و

(1) إشارة إلى قراءة ابن عباس " وعلى الذين يطيقونه " بمعنى يكلفونه منه رحمه الله.
(2) بين الحسن واللاحسن: والقبيح واللاقبيح، عش.
153

المتهاون من لم يخطر بباله أو خطر وعزم على الترك.
وذهب الشيخ وأكثر المتأخرين إلى وجوب الفدية على المتهاون دون غيره
وأما القضاء فالظاهر أنه إجماعي عندهم، والروايات تدل على الأول، فليس ببعيد
القول به، مثل ما رواه محمد بن يعقوب في كتابه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن
ابن أبي عمير بن حماد بن عيسى عن حريز عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله
عليهما السلام قال: سألتهما عن رجل مرض فلم يصم حتى أدركه رمضان آخر، فقالا:
إن كان برأ ثم توانى قبل أن يدركه رمضان آخر، صام الذي أدركه، وتصدق
عن كل يوم بمد من طعام على مسكين، وعليه قضاؤه، إن كان لم يزل مريضا
حتى أدركه رمضان آخر صام الذي أدركه وتصدق عن الأول لكل يوم مدا
على مسكين، وليس عليه قضاء، وما رواه أيضا فيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه
ومحمد بن إسماعيل عن فضل بن شاذان جميعا عن ابن أبي عمير عن جميل عن زرارة عن
أبي جعفر عليه الصلاة والسلام في الرجل يمرض ويدركه شهر رمضان ويخرج
عنه وهو مريض ولا يصح حتى يدركه شهر رمضان آخر، قال: يتصدق عن الأول
ويصوم الثاني، وإن كان صح في ما بينهما ولم يصم حتى أدركه شهر رمضان آخر
صامهما جميعا ويتصدق عن الأول (1).
وهذه مذكورة في الفقيه أيضا عن جميل عن زرارة إلى آخر ما نقلناه، و
زيادة (2) وجميل هذا الظاهر ابن دراج الثقة لأنه هو الذي نقل وأخذ عن زرارة
وروى عنه أيضا ابن أبي عمير كما قال في كتاب النجاشي (3) وطريق الفقيه إليه صحيح
كما هو مذكور في كتاب الرجال، فالخبر صحيح في الفقيه وغيره كما سمي في
كتب الفقه به مثل المختلف وشرح الشرايع وأما الأول فالظاهر أنه حسن لوجود
علي بن إبراهيم بن هاشم وكذا سماه في المختلف والمنتهى وقال الشيخ زين الدين

(1) الكافي ج 4 ص 119 تحت الرقم 1 و 2.
(2) والزيادة: ومن فاته شهر رمضان حتى يدخل الشهر الثالث من مرض فعليه أن
يصوم هذا الذي دخله وتصدق عن الأول لكل يوم بمد من طعام ويقضي الثاني، راجع الفقيه
ج 2 ص 96.
(3) رجال النجاشي: 98.
154

في شرح الشرايع " لصحيحة محمد بن مسلم وزرارة " وما وجدت في كتب الأخبار غير
ما ذكرته عن محمد بن مسلم فالظاهر [أنه] إنما عنى ذلك فاشتبه عليه الأمر أو تعمد و
ثبت توثيقه عنده، والظاهر أنه يفهم توثيقه من بعض الضوابط والذي رأيته من
الأخبار المعتمدة في هذه المسألة في الكتب الخبرين المذكورين والصحيحة المذكورة
في التهذيب عن (1) الحسين بن سعيد عن فضالة كأنه هو ابن أيوب الثقة، وطريق
الشيخ فيه إلى الحسين صحيح [عن عبد الله بن سنان] عن أبي عبد الله عليه الصلاة و
السلام قال: من أفطر في شهر رمضان في عذر ثم أدركه رمضان آخر وهو مريض
فليتصدق بمد لكل يوم فأما أنا فإني صمت وتصدقت.
وأما التفصيل الذي ذهب إليه الشيخ في التهذيب، والمتأخرون من الأصحاب
فدليله غير واضح إذ نقل له رواية غير ظاهرة الصحة، دلالتها أيضا ضعيفة، فالمصير
إليها بعيد، وهي (2) رواية الحسين بن سعيد عن القاسم بن محمد عن علي عن أبي بصير
كلهم مشتركون بل ضعفاء غير الحسين عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال إذا
مرض الرجل بين رمضان إلى رمضان ثم صح فإنما عليه لكل يوم أفطر مدا فدية
طعام، وهو مد لكل مسكين، قال وكذلك أيضا في كفارة الظهار مدا مدا، و
إن صح فيما بين الرمضانين، فإنما عليه أن يقضي الصيام، فإن تهاون به وقد صح
فعليه الصدقة والصيام، لكل يوم مد إذا فرغ من ذلك الرمضان. والسند علم و
أما الدلالة فليست فيها، إذ ما فيها تفصيل، وليس التهاون أيضا بصريح فيما قاله
يعني أخر من غير قصد وعزم على القضاء، بل هو مطلق الترك ولهذا ما ذكر خلافه
ولو كان كذلك كان المناسب ذكر ما يقابله أي العازم، وإنما قابله بمن لم يفعل ولم
يقض، قال في الصحاح: الهون هو السكينة والوقار، وتهاون به أي استحقره، و
الظاهر أن معناه هنا كان عليه القضاء، فإن ترك القضاء ولم يفعله مطلقا كما هو

(1) التهذيب ج 1 ص 423.
(2) الاستبصار ج 2 ص 111 التهذيب ج 1 ص 423 ومثله في تفسير العياشي ج 1
ص 79.
155

موافق لغيره من الأخبار المعتمدة التي ذكرناها، وغيرها مما لم نذكر، وقول
الشيخ زين الدين قدس سره في شرح الشرايع: ودلت عليه - مشيرا إلى ما ذكرناه -
الأخبار الصحيحة كصحيحة محمد بن مسلم وزرارة وغيرهما يدل على وجود الصحيح
أكثر مما نقلناه، وما عرفناه ذلك، وقد عرفت من هذه الأخبار أن الواجب هو
المد أيضا كما هو مذهب الأكثر، ولو كان للأقل (1) دليل على المدين، فحمله
على الاستحباب غير بعيد وكذا استحباب القضاء، لمن اتصل مرضه إلى رمضان آخر
وكذا التتابع في القضاء لما مر ولصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه الصلاة و
السلام قال إذا كان على الرجل شئ من رمضان فليقض في أي شهر شاء أياما متتابعة
فإن لم يستطع فليقضه كيف شاء، وليحص الأيام، فإن فرق فحسن وإن تابع
فحسن، المذكورة في الفقيه وهي في الكافي حسنة (2) وحسنة عبد الله أي عبد الله سنان
أيضا وسماها في شرح الارشاد صحيحة، وليس بواضح لأن إبراهيم بن هاشم في
الطريق على ما في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير (3) عن حماد
أظنه ابن عيسى عن الحلبي عن عبد الله بن المغيرة عن عبد الله سنان عن أبي عبد الله
عليه الصلاة والسلام قال من أفطر شيئا من شهر رمضان في عذر فإن قضاه متتابعا
فهو أفضل، وإن قضاه متفرقا فحسن لا بأس به، فعلى تقدير وجود خبر دال على
التفرق كلا أو بعضا يحمل على التخيير، وكذا الاختصار للمسافر على القدر
القليل من الأكل والشرب وترك الجماع للأخبار، والجمع والخروج عن

(1) يعني الأقل من الأصحاب.
(2) الفقيه ج 2 ص 95، الكافي ج 4 ص 121.
(3) الكافي ج 4 ص 120، ولكن نقل عن المنتقى أنه قال، اتفق في الطريق غلط
واضح في جميع ما عندي من نسخ الكافي، والذي يقوى في خاطري أن ما بين قوله [عن
أبيه] وقوله [عن عبد الله بن المغيرة] مزيد سهوا من الطريق الآخر، ولم يتيسر له أن يصحح
ويحتمل أن يكون الغلط بإسقاط واو العطف من قوله " وعن عبد الله بن المغيرة " فيكون
الاسناد مشتملا على طريقين للخبر يرويه بهما إبراهيم بن هاشم ولا يخلو من بعد بالنظر إلى
المعهود في مثله، راجع مرآة العقول شرح الكافي للعلامة المجلسي رحمة الله عليه.
156

الخلاف، وكذا للمريض ترك الزيادة على ما يستضر بتركه للعلة المفهومة من
الآية، والأخبار، سيما الخبر الذي يدل على اجتناب الجماع للمسافر، وترك
زيادة الأكل والشرب، وأيضا لا يبعد إلحاق المسافر في بعض الأحكام المذكورة
بالمريض.
ثم إن الله تعالى أردف وجوب الصوم وأكده وبين تلك الأيام بقوله
تعالى أعني الآية الثالثة
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى
والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة
من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة و
لتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (1).
الشهر معروف وهو ما بين الهلالين أو ثلاثين يوما ورمضان مصدر رمض بمعنى
الحر والشدة فنقل إلى الشهر، وجعل الشهر مضافا إليه، فصار المجموع علما
وهو غير منصرف للألف والنون مع التعريف كذا في الكشاف وتفسير القاضي و
فيه تأمل، إذ المجموع هو المعرفة والعلم لا المضاف إليه فقط وقيل هو أيضا علم
فكانا له علمين مركب ومفرد، فلا يحتاج إلى الجواب بحذف المضاف من العلم
فإنه خلاف الأصل، وبعيد عن الطبع والاستعمال في مثل ما روي عنه صلى الله عليه وآله: من
صام رمضان ايمانا واحتسابا الحديث (2) ومن أدرك رمضان ولم يغفر له الخبر (3)

(1) البقرة: 185.
(2) تمامه: غفر الله له ما تقدم من ذنبه، والحديث أخرجه في المستدرك ج 1 ص 570
عن دعائم الاسلام والسيوطي في الجامع الصغير على ما في السراج المنير ج 3 ص 366.
(3) تمامه: ففي أي شهر يغفر له، راجع الوسائل الباب 1 من أبواب أحكام شهر رمضان
الحديث 14.
157

ولا يبعد أن يحمل مثل هذه على الجواز والبيان عنه صلى الله عليه وآله والذي ورد في البعض
من المنع عنه بأنكم لا تقولوا رمضان فإنكم ما تدرون ما هو؟ بل قولوا شهر رمضان
بحملها على الكراهة لو ثبت الصحة إذا لم يكن غرض صحيح أو لمن لم يعرف مطلقا
وقيل في وجه التسمية إنه إنما سمي الشهر بذلك لارتماض الناس واحتراقهم في
حر الجوع وعطش بصومه، أو لارتماض الذنوب فيه به، وهما مبنيان على
وجود الصوم في هذا الشهر حين التسمية، وهو غير معلوم.
في الكشاف إن الصوم عبادة قديمة وكأنهم سموه لارتماضهم الخ أو لوقوع
التسمية لهذا الشهر في رمض الهواء بالشمس أي حرارته. والإرادة ظاهرة أي طلب
المراد، واليسر والعسر متضادان معلومان أي اللين والصلابة والتكميل والاكمال
الاتمام، و " شهر " رفعه إما بأنه خبر مبتدأ محذوف، أي هي يعني الأيام المعدودة
التي فرض صومها شهر رمضان، وكونه بدلا عن الصيام كما قيل في تفسير البيضاوي بعيد
لحذف المضاف ووجود الفصل الكثير، ولزوم كونه مكتوبا على الذين من قبلنا
أيضا وهو غير معلوم أو مبتدأ خبره الذي أنزل أو هو صفة و " فمن شهد " خبره، و
لوصفه بما تضمن معنى الشرط صح الفاء في خبره " وهدى وبينات " حالان عن
القرآن و " من " بيانية و " الفرقان " عطف على الهدى أي هو آيات واضحات مما
يهدي إلى الحق ويفرق بينه وبين الباطل، وإعراب " فمن " الخ ظاهر.
و " لتكملوا " يحتمل عطفه على ما يستفاد مما سبقه أي أسقط الصوم عن المريض
والمسافر، وأوجب في أيام أخر لإرادة التيسير، وعدم إرادة التعسير، وللتكميل.
أو يكون التقدير: وشرع ذلك للتكميل. وحذف للظهور، ويحتمل أيضا أن يكون
معطوفة على اليسر أي يريد أن تكملوا، قالهما في تفسير القاضي والكشاف وفي الثاني
الأول أوجه، ولعل حاصل التفسير: فرض وأوجب عليكم الصيام الشهر الشريف الذي
أنزل الله فيه القرآن العزيز الذي هو هاد للناس من الضلال إلى الهدى، ومبين
، الحلال والحرام، والفارق لهم بين الحق والباطل، بمعنى كون ابتداء النزول
وقع فيه أو أنزله إلى السماء الدنيا كله كان فيه، ثم ينزل بالتدريج على مقدار
158

المصلحة أو أنه نزل في شأنه بعض القرآن، أي وصفه وبيان رتبته بأن فيه ليلة
[هي] خير من ألف شهر.
ثم بين كيفية وجوب هذا الصوم بأنه على من يجب وفي أي وقت؟ كما
سنذكره في الآية اللاحقة، فقال " فمن شهد " أي حضر في موضع في هذا الشهر غير
مسافر بل ولا مريض أيضا، فالشهر مفعول فيه كما صرح به في تفسير القاضي و
الكشاف ومجمع البيان، فالشهود هو الحضور في البلد وكأن المراد مع القدرة
على الصوم في الصحة التي يفهم من إيجاب الصوم وفهم من الأولى أيضا، فلا يكون
" ومن كان مريضا " بمنزلة الاستثناء والتخصيص فإنه خلاف الظاهر من العبارة و
سوقها، ولهذا ما ذكر فيها، وكان المراد أعم من الحضور في بعض أو كله " فليصمه "
أي يجب عليكم الصيام في الذي كنتم حاضرين وقادرين فيه على الصوم من الشهر -
فنصب ضمير " فليصمه " وإن كان الظاهر على أنه مفعول به، إلا أنه في الحقيقة
على الظرفية وحذف الخافض وأوصل الفعل - وذلك لأن الله تعالى يريد ويحب
لكم أمرا هينا غير شاق وصلب وحرج وضيق في جميع أموركم، ولا يريد ضد
ذلك، بل يريد عدمه، فإن إرادة الشئ مستلزما لعدم إرادة ضده بل ادعي العينية
وأكده مع ذلك بقوله " ولا يريد بكم العسر " المنفي بالأول فيفهم منه كمال المبالغة
لإرادة اليسر وعدم العسر.
فأشار مرة إلى عدم مرغوبية صوم المسافر لتقييد وجوبه بالحضر، ثم التصريح
بصوم عوضه بعد زواله، ثم ببيان العلة له مع نفي ضدها اللازم لإرادة اليسر، ثم
التصريح بعدم إرادة العسر، ثم بالعلل الآخر مثل التكبير والشكر على تشريع
اليسر دون العسر كما هو منقول عن الأمم السابقة، فيحتمل أن يكون قوله " و
لتكملوا " علة الأمر بمراعاة العدة أي إنما أمرتكم بقضاء الشهر لتكملوا عدته
" ولتكبروا الله " علة لتعليم كيفية القضاء للمسافر بعد السفر وللمريض بعد المرض
" ولعلكم تشكرون " علة اليسر وإسقاط الصوم ففيها لف ونشر، ويحتمل أن يكون
كل واحد علة لكل واحد، بل الظاهر أن " لتكملوا " علة القضاء، ولتكبروا
159

بمعنى لتعظموا الله وتحمدوه على هدايتكم أو على الذي هداكم إليه من العبادات
والعلم بكيفية العمل، فما إما مصدرية أو موصولة، وقيل المراد به التكبير في
عيد الفطر أو التكبير عند رؤية الهلال وكلاهما بعيد، سيما الأخير لعدم الفهم و
بعد العلية.
فالحكم الذي يستفاد منها وجوب صوم شهر رمضان بعد حصوله من الآية الأولى
إجمالا وكذا وجوب الافطار على المسافر والمريض لما مر تحريره، وفهم أيضا
من بيان اهتمام الواجب تعالى بذلك حيث أكده بتأكيدات شتى كما عرفت ووجوب
القضاء عليهما، ونفي المشقة والحرج والضيق عن العباد في كل الأمور إلا مشقة
علم وجوب تحملها لمصلحة يعلمها الله، وعدم مشروعية عبادة شاقة من عند نفسه
كما يدل عليه غيرها من الآيات والأخبار، فتكون الشريعة سمحة سهلة فكأنما
ذكرت هذه الآية لتأكيد وجوب الافطار على المسافر والمريض، ليندفع وهم عدم
جواز ذلك، بل عدم وجوبه أيضا ولبيان أن الواجب في الآية الأولى هو صوم أيام
شهر رمضان أو أن اليسر مطلوب والعسر منفي وإلا فعلم وجوب الصوم من الأولى
وعدمه عليهما.
ولا يبعد أيضا الاستدلال على جواز السفر في شهر رمضان من غير ضرورة بهذه
الآية وما قبلها، حيث فهم أن المسافر مطلقا يجب عليه الافطار والقضاء كما مر
ولو كان السفر غير جائز لما كان كذلك بل كان الواجب عليه الصوم، ويحرم
الافطار، ولا يجب القضاء، بل يجزئ ما صامه في السفر، ولأن هذه الآية تدل
على نفي العسر وطلب اليسر، ولا شك أن منعه من السفر لما ينتفع به لدينه أو
دنياه عسر، وليس بيسر.
ويدل عليه بعض الأخبار الصحيحة الصريحة مثل ما رواه محمد بن مسلم في
الصحيح (1) عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال إذا سافر الرجل في شهر رمضان
فخرج بعد نصف النهار عليه صيام ذلك اليوم ويعتد به [من شهر رمضان]. وكذا

(1) الكافي ج 4 ص 131، الفقيه ج 2 ص 92، التهذيب ج 1 ص 417.
160

صحيحة الحلبي عن الصادق عليه الصلاة والسلام أنه سئل عن الرجل يخرج من
بيته وهو يريد السفر وهو صائم قال إن خرج قبل أن ينتف النهار فليفطر وليقض
ذلك اليوم، وإن خرج بعض الزوال فليتم صومه. وهو حسن على رواية الشيخ و
صحيح على ما رواه في الفقيه (1) وهذه صريحة في الجواز قبل الزوال ويفهم بعده
أيضا في الجملة لعدم المنع في الخبرين وعدم القول بالواسطة على ما أظن.
ولصحيحة رفاعة (2) قال سألت أبا عبد الله عليه الصلاة والسلام عن الرجل
يريد السفر في شهر رمضان قال: إذا أصبح في بلده ثم خرج فإن شاء صام، وإن شاء
أفطر، ولصحيحة محمد بن مسلم عن الباقر عليه الصلاة والسلام أنه سئل عن الرجل
يعرض له السفر في شهر رمضان وهو مقيم وقد مضى منه أيام فقال: لا بأس أن يسافر
ويفطر ولا يصوم، ولصحيحة حماد بن عثمان، قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام رجل من
أصحابنا جاء خبره من الأعراض (3) وذلك في شهر رمضان أتلقاه وأفطر؟ قال نعم
قلت أتلقاه وأفطر أو أقيم وأصوم؟ قال تلقاه وأفطر، ولما في الفقيه في الصحيح
عن أبان بن عثمان (4) وسئل الصادق عليه الصلاة والسلام عن الرجل يخرج
يشيع أخاه مسيرة يومين أو ثلاثة فقال: إن كان في شهر رمضان فليفطر، قيل:
فأيهما أفضل يصوم أو يشيع؟ قال يشيع إن الله تعالى وضع الصوم عنه إذ أشيع.
ويفهم منه استحباب التشييع على وجه آكد، فافهم وغيرها من الأخبار على ما في
المختلف لكن تركتها لعدم الصحة.
والذي يدل على مذهب أبي الصلاح وهو تحريم السفر في شهر رمضان أخبار
غير صحيحة إلا خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
الخروج إذا دخل شهر رمضان فقال لا، إلا فيما أخبرك به: خروج فيه إلى مكة
أو غزو في سبيل الله، أو مال تخاف هلاكه، أو أخ تخاف هلاكه، وإنه ليس بأخ

(1) التهذيب ج 1 ص 416، الفقيه ج 2 ص 92، الكافي ج 4 ص 131.
(2) ترى هذه الروايات في المصادر الثلاثة بتقديم وتأخير في الصفحات.
(3) أعراض الحجاز رساتيقه، وفي الفقيه والكافي: الأعوص وهو عين قرب المدينة.
(4) في نسبة هذا الحديث إلى أبان بن عثمان سهو راجع الفقيه ج 2 ص 90.
161

من الأب والأم (1) ويمكن الجواب عن استدلاله بضعف الأخبار، وبأن أبا بصير
مشترك وأيضا أرسل عن أبي حمزة عنه في الفقيه، فإن كان الثمالي كما هو الظاهر
فالطريق على ما قيل قوي على تقدير توثيق أبي بصير وإن كان البطائني فليس
بقوي أيضا لأنه مجهول والظاهر أن أبا بصير هو يحيى بن القاسم على ما نقل في
الكافي عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير وعلي هو قائد أبي بصير يحيى فيحتمل
سقوطه على ما في الفقيه.
وأيضا في الكافي " تريد وداعه " بدل تخاف هلاكه، فلا دلالة فيه حينئذ و
بأنه ليس بصريح في التحريم، فإن كلمة " لا " تحتمل التحريم والكراهة وإن
قلنا إن الأول أظهر، ولكنه ليس بمثابة يعارض هذه الأخبار، ويخصص عموم
القرآن به إذ لا بد لتخصيص القرآن بالخبر من كون الخبر نصا في الدلالة على
ما يخرج به القرآن عن ظاهره، وبالجملة ينبغي في تخصيص قطعي المتن بظني
المتن من كون دلالة المخصص الظني قطعية لينجبر به قطعية العام، فلا بد أن
يكون دلالة الخاص على الفرد المخرج بالمخصص عن العام القطعي أقوى وأتم
من دلالة العام عليه، وهو ظاهر ومبين في الأصول، فلا تغفل عن هذه اللطيفة
وبأنه قد يكون بترك ما أخبر به أيضا مثل ما فهم من الأخبار، بل ذلك متعين
لعدم إمكان ترك هذه الأخبار كلها، أو أن هذا عام فيخصص بتلك الأخبار يعني
نزيد عليه ما وجد في الأخبار الأخر، ولا يمكن حمل تلك على هذا، إذ فيه حصر
في أمور مذكورة محصورة ولو حمل على كل ضروري كما هو مذهب أبي الصلاح
فهو خلاف الظاهر من الرواية فمذهبه أيضا لا يناسب دليله، ومع ذلك لا يمكن
حمل بعض الروايات عليه، كما يعلم إذا تأملتها.
وبعد هذا كله حمله على الكراهية للجمع ويدل عليه ما ذكره الشيخ
في التهذيب عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قلت جعلت فداك يدخل علي شهر

(1) التهذيب ج 1 ص 444، الفقيه ج 2 ص 89، الكافي ج 4 ص 126. وفيه أو أخ
تريد وداعه.
162

رمضان فأصوم بعضا فيحضرني زيارة قبر أبي عبد الله عليه السلام فأزوره وأفطر ذاهبا وجائيا
أو أقيم حتى أفطر وأزوره بعد ما أفطر بيوم أو يومين؟ فقال: أقم حتى تفطر
قلت جعلت فداك فهو أفضل؟ قال: نعم أما قرأت كتاب الله " فمن شهد منكم الشهر
فليصمه ". ففيه دلالة على الأفضلية وكذا يدل عليها ما رواه في الفقيه (1) في
صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال: سألته عن الرجل يدخل
شهر رمضان وهو مقيم لا يريد براحا ثم يبدو له بعد ما يدخل، فسكت فسألته غير
مرة فقال يقيم أفضل إلا أن يكون له حاجة لا بد من الخروج فيها أو يتخوف على
ماله، وإن كان الحلبي محتملا ولكن الظاهر أنه ثقة كما يفهم من كلامهم و
المشهور أنه مكروها إلى أن يمضي ثلاثة وعشرون يوما، فتزول الكراهة للخبر
بذلك التفصيل، حيث قال في الرواية: فإذا مضت ليلة ثلاث وعشرين فليخرج حيث
شاء.
ثم اعلم أن في الأخبار المتقدمة دلالة على الافطار لو سافر قبل الزوال، و
على الصوم والاجزاء لو سافر بعده، ويدل عليها مع ذلك الاجماع المنقول في المختلف
عن الشيخ والأخبار الصحيحة الدالة على أن من قصر الصلاة قصر الصوم، ومن
لم يقصرها لم يقصره (2) فالعجب أن في المختلف بعد ما اختار ما قلناه هنا ورد
مذهب الشيخ قال: قوله إذا خرج بعد الزوال مع تبييت النية للسفر أمسك وعليه
الإعادة ليس ببعيد من الصواب، إذ لم يتحقق منه شرط الصوم، وهو النية. فإنه
في غاية البعد، إذ لا معنى بالاعتداد بالصوم والأمر به، ووجوب القضاء والإعادة
مع أن الأمر مفيد للاجزاء والصحة كما بين في محله إلا أن يؤول بالإمساك وهو
بعيد أيضا، وليس له دليل إلا ما تخيل من قوله هنا، إذ لم يتحقق إلى آخره
يعني النية شرط فإذا بيت بنية السفر لم يتحقق نية الصوم فلا يصح الصوم، و
هو ليس بدليل بعد ما نقلنا لك ما رأيت من أن النية قد لا تشترط في الليل وقد

(1) الفقيه ج 2 ص 90 الكافي ج 4 ص 126.
(2) الفقيه ج 1 ص 280 و ج 2 ص 91 و 92.
163

يتحقق على طريق الشرط، ولهذا يوجبون النية على من بيت نية السفر، و
يوجبون عليه الصوم لا الامساك فقط حتى يخرج وأيضا قد تحصل النية بالنهار
بعد أن عرف أنه إنما يسافر بعد الزوال وحينئذ يصح فيجزي صومه أو يكون
تبييت النية في الليل على هذه المثابة أي بأنه إنما يسافر بعد الزوال.
ثم قال بالتخيير بين الافطار والصوم لصحيحة رفاعة المتقدمة، بعد أن قال
أصح ما بلغنا في هذا الباب هي مع روايتي الحلبي ومحمد الصحيحتين المتقدمتين و
قال إنما قيدنا ذلك بالخروج بعد الزوال، جمعا بين الأخبار، ولك أن تقول:
الجمع بين الأخبار إن اقتضى ذلك يقتضيه قبل الزوال أيضا فإنه نقل في المختلف
أخبارا تدل على وجوب الصوم إذا سافر قبل الزوال أيضا مع أن حمل صحيحة رفاعة
على النصف الأول أقرب، لقوله أصبح، ويأبى حمله على تفصيل صحيحة الحلبي المتقدمة
فيمكن الحمل على عمومه وهو ظاهر، وحمل المتقدمة على الاستحباب، ويمكن
حملها على قبل الزوال على معنى مخير بين أن يبطل سفره فيصوم، وبين أن يلتزمه
فيفطر، أو يحمل على أن معناها إن خرج قبل الزوال فيفطر، وإن خرج بعده
فيصوم، فهو مخير بين الصوم والإفطار بهذا التفصيل، بل يجب حملها عليه لوجوب
حمل المطلق والمجمل على المقيد والمفصل، وقد مضى المفصل والمقيد.
واعلم أنه قد طولنا في هذه المسألة، والعذر ما ذكره في المختلف للتطويل
وهو كونه من المسائل الجليلة، وأنه أفتى فيه أولا بما ذكرناه أولا ثم استصوب
مذهب الشيخ، بعد رده، واستدل عليه، ثم استصوب التخيير واستدل عليه، وهذا
لا يخلو عن اضطراب، على أنه اعترض في هذه المسألة على ابن إدريس بالاضطراب
الله تعالى يعلم الصواب.
ثم اعلم أنه لما كانت في الآية المذكورة بعدها دلالة ما على بعض الأحكام
مع اشتمالها على التحريض، في الطلب والدعاء والسؤال من الله تعالى، مع ورود
أن دعاء الصائم لا يرد ذكرناها هنا.
164

وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا
لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (1).
روي أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟
فنزلت (2). النداء للبعيد المحتاج إلى رفع الصوت والمناجاة للقريب الذي لا يحتاج
إلى ذلك والخطاب له صلى الله عليه وآله والتقدير فقل لهم إني قريب - وهو تمثيل لكمال علمه
بأفعال العباد واطلاعه على أحوالهم - بحال من قرب مكانه منهم، يعني إذا سألك
عبادي - وفي هذه الإضافة تشريف لهم - عن كيفية أحوالي من جهة القرب والبعد
فقل إني عليم أعلم دعاءكم، ولو كان في غاية الخفاء كما يسمع القريب إذا قرب
فمه إلى أذنه يناجيه، بل أقرب من حبل الوريد، فأقبل دعاء الداعي إذا دعاني، و
لعل " ذكر إذا دعان " للتحريص في الدعاء والترغيب في التكرار، وتعريف الداعي
إشارة إلى داع خاص وهو الذي يدعو متيقنا للإجابة، ويطلب ماله فيه المصلحة، لا
المحرم، ولا ما لا يليق بحاله وليس فيه المصلحة، أو يكون إلى الجنس، وبالجملة
إن الله يعلم المصلحة ويستجيب معها، ولا يستجيب بدونها، ويعجل ويؤخر لذلك
ولو لم يستجب يعوض ويثيب في الدنيا والآخرة فعلى تقدير عدم الإجابة لا ينبغي
الترك واليأس، فإن ذلك للمصلحة.
فاندفع بما قررناه السؤال المشهور كما ذكره المفسرون أيضا.
وبعد أن وعد بالإجابة والقبول قال: " فليستجيبوا لي " أي اقبلوا أنتم أيضا
دعوتي إذا دعوتكم وأمرتكم بالطاعات والدعاء، فاطلبوا واسألوا تضرعا وخفية لا
بقلب ساه وغير متوجه، ومتعقل لمعنى ما تقولون، لا جهرا ورياء فإن الله لا يحب
المعتدين واطلبوا ولا تستكبروا ولا تتركوا الدعاء استكبارا وتجبرا، وعدم اعتقاد

(1) البقرة: 185.
(2) راجع الدر المنثور ج 1 ص 194، مجمع البيان ج 2 ص 278.
165

الإجابة وعدم علمه بالسماع وقدرته على الإجابة، فإن من فعل ذلك يدخل النار
مقيما فيها.
" وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين " إلى قوله (1)
" وكانوا لنا خاشعين " في الكشاف سأل زكريا عليه السلام ربه أن يرزقه ولدا يرثه، ولا
يدعه وحيدا بلا وارث ثم رد أمره إلى الله مستسلما فقال وأنت خير الوارثين، إن
لم ترزقني من ترثني، فلا أبالي فإنك خير وارث، وإصلاح زوجه أن جعلها صالحة
للولادة، بعد عقرها، وقيل تحسين خلقها، وكانت سيئة الخلق، فيمكن أن يستدل
بها على تحقق الإرث من الأنبياء عليهم السلام فتذكر! وعلى استحباب هذا الدعاء لطلب
الولد، ولا يبعد أن يستجاب له كما لزكريا عليه السلام مثل الآيتين المتقدمتين (2) و
يدل عليه الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام (3).
" إنهم كانوا " بمنزلة التعليل لاستجابة دعاء الأنبياء السابقين عليهم السلام، يريد أن
الأنبياء المتقدمين استحقوا إجابة دعوتهم وقبول دعائهم بمبادرتهم إلى أبواب
الخير، ومسارعتهم في تحصيل العبادات كما يفعل الراغبون في الأمور الجادون
وقرئ " رغبا ورهبا " بالاسكان، وأنهم يدعون الله رغبا راغبين في الدعاء، وراجين
للإجابة، وخائفين من الرد، وعدم الإجابة، وعقاب ربهم، مثل قوله " ويحذر
الآخرة ويرجو رحمة ربه " (4) وأنهم كانوا خاشعين متضرعين، فالمسارعة إلى العبادات
مطلقا مطلوبة لله كما في " وسارعوا " (5) فيدل على أن فعلها في أول الوقت أفضل، الصلاة
وغيرها، إلا لدليل وعلى الدعاء.

(1) والآية هكذا: فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون
في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين - الأنبياء: 89 و 90.
(2) هما قوله " وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له
وكشفنا ما به من ضر " الآية وقوله بعدها " وذا النون إذ ذهب مغاضبا إلى قوله تعالى فاستجبنا
له " الآية.
(3) يعني الرواية الآتية.
(4) الزمر: 9.
(5) آل عمران: 133.
166

فهذه الآية تدل على استحباب كون الداعي مسارعا في الخيرات، وراغبا و
راهبا وخاشعا ليستجاب دعاؤه، فيمكن أن يقيد به عموم ما يدل على استجابة
الدعاء مطلقا، مثل قوله تعالى " ادعوني أستجب لكم " وهذا أحد الأجوبة لما يقال:
كثيرا ما ندعو ولا نرى الإجابة فتأمل.
قال في مجمع البيان: روى الحارث بن المغيرة قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام أني
من أهل بيت قد انقرضوا، وليس لي ولد، فقال لي: ادع وأنت ساجد رب هب لي
من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين " (1)
فقد أشرنا فيما قلناه إلى معنى قوله تعالى في التحريص على الدعاء في الآيتين الأخيرتين
بقوله " ادعوا ربكم تضرعا وخفية إن الله لا يحب المعتدين " و " ادعوني أستجب لكم
إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " (2).
" وليؤمنوا بي " أمر بتحصيل الايمان أي التصديق بجميع ما جاء به الأنبياء
لمن لا ايمان له، وبالثبات والاستمرار للمتصف به أو التصديق بأنه قادر على الإجابة
" لعلهم يرشدون " راجين في ذلك كله الرشد، يعني إصابة الحق والخير.
واعلم أنه لما أمر بعبادات شاقة وهي الصوم بتكميل العدة على وجه أمر به
والقيام بوظائف التحميد والتكبير والشكر على ما يليق به، فإن الاتيان بالمأمور
به على وجهه ومع شرائطه عسر ومشقة كما يفهم من الرواية المشهورة، وهي على
ما سمعتها من بعض الفضلاء أنه روي أنه قال صلى الله عليه وآله شيبتني سورة هود إذ فيها " فاستقم
كما أمرت " في الكشاف عن ابن عباس: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله في جميع القرآن
آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية، ولهذا قال شيبتني سورة هود والواقعة
وأخواتهما، وروي أن أصحابه قالوا له لقد أسرع فيك الشيب، فقال شيبتني سورة
هود (3)، وعن بعض رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام فقلت له: روي عنك أنك قلت

(1) راجع مجمع البيان ج 7 ص 61.
(2) الأعراف: 5، غافر: 50. راجع ص 82 و 84 مما سبق.
(3) ورواه الثعلبي بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة كما في المجمع ج 5 ص 140
وهكذا في الدر المنثور ج 3 ص 319.
167

شيبتني سورة هود؟ فقال نعم، فقلت: ما الذي شيبتك منها أقصص الأنبياء؟ و
هلاك الأمم؟ فقال: لا، ولكن قوله " فاستقم كما أمرت " (1) وعن جعفر الصادق
عليه الصلاة والسلام " فاستقم كما أمرت " قال: افتقر إلى الله بصحة العزم، وغيره
من الأخبار عن أهل البيت عليهم السلام وأيضا قال في الفقيه قال أبو جعفر عليه السلام يا
جابر من دخل عليه شهر رمضان فصام نهاره، وقام وردا من ليلة، وحفظ فرجه
ولسانه، وغض بصره وكف أذاه خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه، قال جابر
قلت له: جعلت فداك ما أحسن هذا من حديث؟ قال: ما أشد هذا من شرط (2)
أتى (3) بهذه الآية الشريفة الدالة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم
مجيب لدعائهم، مجاز لهم بأعمالهم حتى يهون ذلك عليهم، ويكون حريصا عليها
ففهم من الآية وجوب الايمان وقبوله، ووجوب قبول سائر الطاعات واعتقاد
إجابة الدعاء، واعتقاد أنه سميع عليم، وأنه ليس في جهة ولا مكان إذ لو كان
كذلك لما قرب إلى كل داع، ثم بين أحكام الصوم وكيفية فعله بعد أن بين
الفاعل فقال:
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن
علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفى عنكم فالآن باشروهن و
ابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من
الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم
عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته
للناس لعلهم يتقون (4).

(1) أخرجه البيهقي في شعب الايمان عن أبي على السري كما في الدر المنثور ج 3 ص 320.
(2) الفقيه ج 2 ص 60.
(3) جواب قوله في الصفحة الماضية، لما أمر.
(4) البقرة: 187.
168

قيل: سبب نزولها أن الله تعالى لما أوجب الصوم على الناس، كان وجوبه بحيث
لو صلوا العشاء الآخرة أو رقدوا، ما يحل لهم الأكل والشرب والجماع إلى
الليلة القابلة، ثم إن عمر باشر بعد العشاء فندم وأتى النبي صلى الله عليه وآله واعتذر إليه
فقام إليه رجال واعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزلت كذا في تفسير القاضي والكشاف
وقاله في مجمع البيان، أيضا، وأنت تعلم أن هذا أيضا لا يناسب ما نقلنا عنهما في
تفسير قوله تعالى في أوائل السورة " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات (1) " الآية
أنها تدل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة، وأن النبي معصوم قبل النبوة أيضا
وهذا دليل على أنه (2).
وأما تفسيرها فهو أن الله تعالى أباح الجماع في الليلة التي يصبح فيها صائما
إذ الرفث هو الجماع هنا كما قاله المفسرون، ودل عليه سبب النزول، وكأن
لتضمنه معنى الافضاء عدي بالي " هن لباس " استيناف لبيان سبب الإباحة، بمعنى
أن الصبر عنهن صعب لأنهن مثل الثياب لكم وأنتم كذلك، فشبه شدة المخالطة
والملامسة والانضمام بمخالطة الثياب وملامستها وانضمامها بصاحبها، وقيل هن
فروش لكم وأنتم لحاف لهن أو شبه حفظ كل واحد حال صاحبه عن كشفه عند
غيره بفعل الساتر وصيانته عن كشف عورته عند الغير.
" علم الله " بيان لزيادة سبب الإباحة ولطفه ورحمته لعباده، بأنه يعلم أنهم
ما يفعلون الصبر، بل يختانون الأوامر والنواهي بالمخالفة والمعصية فما يؤدون
الأوامر الشرعية التي هي أمانات، ويظلمون أنفسهم بتعريضها للعقاب وتنقيص
حظها عن الثواب لشهوتهم وقلة تدبرهم في العواقب ويسعون ويبالغون في الظلم
والاختيان والخيانة لكثرة الميل والشهوة، ولهذا قال " تختانون " وما قال

(1) البقرة: 124. راجع ص 44 - 48 فيما سبق.
(2) عجز شعر أوله:
يحب الغلام إذا ما التحى * وهذا دليل على أنه
يقال: التحى الغلام: إذا نبت شعر لحيته وقوله على أنه أي على أنه كذا وكذا، كناية،
169

" تخونون " إذ الاختيان أبلغ في الخيانة كالاكتساب والكسب، فإن زيادة المباني
تدل على زيادة المعاني، كما هو المشهور عندهم، فيحتمل أن يكون الزيادة في
الاكتساب هنا (1) إشارة إلى أن المعصية لا تكتب عليها، ولا تصير سببا للعقاب إلا بعد
كثرتها: فعلا أو إصرارا والسعي والجد في تحصيلها وتعمدها وعمدها (2)
والكسب في الطاعة، إلى أن الطاعة تكتب ويثاب عليها، بمجرد وقوعها، على
أي وجه كانت وأدنى شئ منها، فيكون إشارة إلى كمال كرم الله ولطفه ورحمته
وشفقته قال صاحب الكشاف وذكر في المطول أيضا أنه إشارة إلى أن النفس إنما
تعمل المعاصي بالميل والشهوة والسعي، فهي أعمل وأجد في المعصية، بخلاف الطاعة.
" فتاب عليكم " أي قبل توبتكم إن تبتم عما فعلتم، ومحا عنكم ذنوب ما
فعلتم من المحرم الذي ذكرناه من قبل أو مطلقا لعموم اللفظ، فدل على الوجوب
قبول التوبة سمعا، لأن الله تعالى أخبر بذلك " فالآن باشروهن " يعني لما جوزنا
ورفعنا التحريم، فافعلوا ما نهيناكم عنه وابتغوا واطلبوا ما كتبنا لكم وقدرنا
وأثبتناه في اللوح المحفوظ من الولد، إشارة إلى أنه لا ينبغي حصر الغرض من هذا
الفعل في الشهوة وإعطاء النفس ما تريد، بل ينبغي جعل ما هو مطلوب لله منه
غرضا ومطلوبا، أو اجعلوا جميع ما تطلبون في مطالبكم وأفعالكم من أرزاقكم و
أزواجكم وأولادكم ما كتب الله لكم، أي اقصدوا الذي قدره ورضيه لكم، لا
غيره، فإنكم تتعبون في التحصيل، ولم يحصل وما يليق بكم أيضا، لعموم اللفظ.
" وكلوا " أي باشروهن وأطعموا " واشربوا " من حين الافطار إلى أن
يعلم لكم الفجر المعترض في الأفق ممتازا عن الظلمة التي معه، فشبه الأول بالخيط
الأبيض، والثاني بالأسود، وبين المراد بأن الأول هو الفجر، واكتفى ببيانه
عن بيان الثاني لأنه علم من ذلك، ثم بين آخر الصوم بقوله: " ثم أتموا الصيام

(1) في قوله تعالى: " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " البقرة 286.
(2) في النسخ: وعدمها، وهو تصحيف: وقد فسره بعضهم بقوله: أي يحتمل أن عدم
زيادة الحروف والمعاني والكسب إشارة إلى أن الطاعة تكتب، وهو كلام بارد.
170

إلى الليل " بأنه أول الليل، وهو دخول الظلمة في الجملة، وقالوا يعلم بغروب
الشمس المعلوم بذهاب الحمرة المشرقية، بحيث لا يبقى منها شئ وإن بقيت صفرة
أو بياض، هذا عند أكثر الأصحاب وعند الشيخ باستتار القرص كما عند العامة
والروايات مختلفة، ولعل الأحوط ما قاله الأكثر للأكثرية، واحتمال دليل
غيره التقييد به، للخبر الدال على أن غيبوبة القرص المذكور في بعض الروايات
يعلم بالذهاب المذكور.
ثم إنه نهى عن المباشرة في حال كونهم عاكفين في المساجد، وكأنه لمناسبة
اشتراط الصوم في الاعتكاف ذكر متصلا بأحكام الصوم والاعتكاف هو اللزوم لغة، و
شرعا هو اللبث المخصوص في مكان مخصوص للقربة، ولا يحسن تعريفه بأنه لبث
في جامع صائما للعبادة كما هو في كلام بعض الأصحاب، فإنه مشعر بكون الغرض
من اللبث فيه عبادة أخرى غيره من صلاة أو تسبيح أو قراءة أو غير ذلك وليس
كذلك وتفصيل أحكامه وأحكام الصوم يطلب من كتب الفقه.
ثم أكد الأحكام المذكورة بقوله " تلك حدود الله " يعني أن ما نهيتم عنه
من المنهيات صريحا أو في ضمن الأمر، من حدود الله " فلا تقربوها " فنهى عن قرب
المنهيات وترك المأمورات للمبالغة مثل " لا تقربوا الزنا ".. (1) أو المراد بالقرب
المخالفة، وبحدود الله أحكامه أمرا كان أو نهيا أي لا تتعدوها لقوله تعالى " تلك
حدود الله فلا تعتدوها " (2) " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " (3).
" كذلك يبين الله " الخ أي مثل هذا البيان المذكور يبين الله لكم آياته
مثل الترخص، رجاء تقواكم عن المعاصي والمحارم.
وأما الأحكام المستفادة منها فهي إباحة الوطئ في ليلة كل يوم يراد صومه
أول الليل وآخره أي ليلة كانت، وأي صوم كان، وتحريم ذلك في النهار من
المفهوم، ومن مفهوم المفهوم إباحة التقبيل وغيره من الأفعال المتعلقة بالنساء

(1) أسرى: 32.
(2) البقرة: 229.
(3) الطلاق: 1.
171

غير الجماع، إذ مفهوم الإباحة المذكورة تحريم الرفث في النهار، ومفهومه ما
قلناه، وذلك كله معلوم بالأصل والأخبار بل الاجماع أيضا فخلافه من التحريم
والكراهة يحتاج إلى الدليل، ووجوب التوبة، لأنه قد علم سقوط الذنب بها
وفعل مسقطه الذي هو مخلص من ضرر عظيم واجب عقلا وسمعا أيضا على ما هو
المقرر.
ورجحان المباشرة المستفادة من الأمر أي باشروهن ويحتمل الاستحباب
مطلقا إلا أن يدل على غيره دليل، كالكراهة مثل أول ليلة كل شهر غير شهر
رمضان، ونصفه وغيرهما مما هو المذكور في الفقه مع دليله، إذ لا قائل بالوجوب
أو يكون للإباحة مجملا، والتفصيل مستفاد من الشرع مثل وجوبها لو خاف الوقوع
في الزنا، أو بعد مضي أربعة أشهر، واستحبابها في أول ليلة شهر رمضان للرواية
وانكسار الشهوة في النهار، ورفع حدث يحتمل وقوعه من غير شعور، وعند كثرة
الميل مع عدم الوصول إلى الوجوب، ورجاء حصول ولد يعبد الله، والكراهة مثل
ما مر، والإباحة إذا لم يكن دليل على غيرها.
واستحباب النكاح ووجوبه أو التسري (1) لأن المباشرة المستحبة أو الواجبة
موقوفة عليه إذ الأصل عدم التقدير، واستحباب طلب الولد بالنكاح ليعبد الله لا
المال والجمال، كما وقع النهي عنهما في الأخبار، ولا قصد التلذذ والشهوة كالبهائم
واستحباب القناعة والرضا بما كتب الله، واستحباب اختيار الولود أي من هي في
سن من تلد أو من البيت الغالب عليهن الولادة أو الخالية من علامات العقم، مثل
عدم الحيض على ما قيل أو التي تزوجت وما ولدت، ولا يبعد فهم كراهة الوطئ
في غير القبل الذي ليس هو من مظنة حصول الولد، وكراهة العزل عن الأمة و
المتعة، والتحريم في غيرهما يكون مستفادا من غيرها من الأخبار أو الاجماع إن كان.
وإباحة الأكل والشرب بل رجحانهما، لبقاء الأمر في معناه الأصلي في

(1) التسري: أخذ السرية. والسرية كذرية الأمة التي أنزلتها بيتا وتزوجتها سرا لئلا
تعلم زوجتك بها، أو هو مطلق التزوج بالإماء.
172

الجملة وإن كان بعد النهي وقلنا إنه للإباحة بمعنى رفع الحظر أم لا، وهذا يجري
في المباشرة أيضا، وتحريم الأكل والشرب بعد الفجر للغاية لأن مفهوم الغاية
حجة كما هو الحق المبين في الأصول وهذا على تقدير حمل الأمر على الإباحة
بالمعنى الأعم واضح، وبالمعنى الأخص كذلك بضم أمر آخر إليه لا على حمله على
الاستحباب.
وليس ببعيد اخراج جزء ما قبل الفجر أيضا من باب المقدمة، فيحرمان
في ذلك أيضا كما يحرمان في جزء من أول الليل كذلك كما هو المصرح في الأصول
والمدلل فحينئذ يمكن أن لا يصح النية مقارنة للفجر، فكيف في النهار، لوجوب
تقديمها على المنوي بحيث لا يقع جزء منه خاليا عنها يقينا، وذلك لم يتحقق إلا
بوقوعها قبله، ففهم أيضا وجوب النية ليلا لأن الصوم المنوي الذي هو الامساك
في تمام النهار مع جزء من الليل من باب المقدمة لا بد أن لا يخلو عن النية يقينا
ولو لم تكن في الليل لم يتحقق ذلك، نعم لو فرض تحقق الصوم بدون جزء من
الليل يمكن القول بالمقارنة، فيسقط المقدمة كما في سائر ما يجعلونه مقدمة للواجب
فبناء على ما تقرر عندهم يلزم مقارنة النية لذلك الجزء، فجوازها من أول الليل
وكذا النهار فيما يجوزونه يحتاج إلى الدليل.
فقد ظهر لك من ذلك أنه على تقدير جعل " حتى " غاية للمباشرة أيضا لا
يدل على جواز الوطئ إلى الفجر، فيدل على جواز وقوع الغسل نهارا وصحة
صوم المصبح جنبا، وما ذكره في الكشاف بقوله: قالوا فيه دليل على جواز النية
بالنهار في صوم شهر رمضان، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر، كما قاله القاضي
أيضا غير ظاهر، ثم إن الظاهر أن حتى غاية للشرب لأن المذهب الحق الثابت
في الأصول أن القيد المذكور بعد الجمل المتعددة للأخيرة فكأنه أشار إليه صاحب
الكشاف باسناد ما مر إلى الغير كيف لا، وهو خلاف مذهب الحنفي؟ وأما هنا
فيمكن تعلقه بكلوا أيضا لأنه مع الشرب كشئ واحد فكأنهما جملة واحدة، أو
نقول ليس بمتعلق إلا بالشرب وكون الأكل مثله لدليل آخر من السنة والاجماع
173

أو إجماع مركب، وكذا غاية الجماع، واشتراط الصوم بالغسل في الليل وعدمه يفهم من
موضع آخر، وأكثر الأصحاب على اشتراطه، وابن بابويه على عدمه، والأخبار
مختلفة، والظاهر مذهب ابن بابويه للأصل والرواية الصحيحة الصريحة (1) بل
ظاهر الآية حيث دلت على جواز الرفث والمباشرة في جميع أجزاء الليل والشريعة
السهلة وأولوية الجمع بين الأدلة بحمل ما يدل على الغسل ليلا على الاستحباب
ولكن الاحتياط مع الجماعة، وتركنا ذكر الأخبار والبحث عنها خوفا من
التطويل مع أنها مبينة في موضعها.
وأيضا وجوب الافطار بمعنى تحصيل مبطل للصوم ولو كان بقصد إبطاله في
الليل، ويحتمل كون الاتمام إشارة إلى وجوب استمراره إلى الليل حسب فلا يجب
غيره. وتحريم الوصال، وأيضا مشروعية الاعتكاف في المسجد، وتحريم مباشرة
النساء فيه، ولو ليلا، ولا يفهم منه الشرطية ولا فساد الاعتكاف بالوطئ لأن النهي
ليس بمتعلق بالعبادة حتى يلزم تعلق الأمر والنهي معا بشئ واحد شخصي فيكون
محالا فيفسد، نعم ذلك ثابت بالأخبار بل الاجماع أيضا على الظاهر، فقد علمت فساد
قول القاضي: " وفيه دليل على أن الاعتكاف يكون في المسجد، ولا يختص بمسجد
دون مسجد، وأن الوطئ يحرم فيه ويفسده لأن النهي في العبادات يوجب الفساد ".
لأنك قد علمت أن النهي إنما يدل على الفساد في العبادة إذا تعلق بها أو بجزئها
أو بشرطها الشرعي المأمور به.
وبالجملة التحقيق ما أشرت إليه، ففي كل صورة يلزم اجتماع الطلب و
النهي يفسد، وهنا ليس كذلك إلا أن يقال: يفهم التنافي هنا فتأمل، بل يمكن
كون التحريم لكونه في المسجد لا للاعتكاف فتأمل، وأيضا خفاء في دلالة الآية بمجردها
من غير انضمام تعريف الاعتكاف وثبوت الحقيقة الشرعية على أن الاعتكاف لا يكون
في غير المسجد، كما هو ظاهر كلامه، وكذا في دلالتها على عدم الاختصاص بمسجد
دون مسجد كما هو صريح نقل الكشاف، حيث قال: " وقالوا: فيه دليل على أن

(1) راجع الفقيه ج 2 ص 75، التهذيب ج 1 ص 411 و 412.
174

الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد وأنه لا يختص به مسجد دون مسجد " فإن مضمونها
تحريم المباشرة حين الاعتكاف في المساجد - بعد أن سلمنا إرادة عموم المساجد أي أي
مسجد كان - ولكن ما يفهم جواز الاعتكاف في أي مسجد كان، بل تحريم المباشرة
في أي مسجد يجوز الاعتكاف [ويتحقق الاعتكاف فيه] وقد يكون ذلك مخصوصا ببعض
دون بعض، كما قيل إن مالكا يقول باختصاصه بالجامع، وكذا بعض أصحابنا
وبعض يقول باشتراطه في مسجد جمع فيه معصوم جمعة، وقيل جماعة، فخصص البعض
بالأربعة المسجدين ومسجد الكوفة ومسجد البصرة، وبعضهم بالثلاثة الأول، و
بدل البعض البصرة بالمداين وهو بعيد، وقال في الكشاف: وقيل: لا يجوز إلا
في مسجد نبي وهو أحد المساجد الثلاثة، وقيل في مسجد جامع والعامة على أنه
في مسجد جماعة وقرأ مجاهد " في المسجد " انتهى، لعل المراد بالثلاثة مسجد الحرمين
ومسجد الأقصى، والجامع المسجد الأعظم، وهذا يدل على عدم فهم العموم و
فهم الاختصاص إلا أن يقال: إنهم فهموا العموم وخصصوا بدليل، وإن كان يلزمهم
خلاف ظاهر الآية، ولكنه غير بعيد ولا عزيز.
175

* (كتاب الزكاة) *
وفيه أبحاث:
* (الأول) *
في وجوبها ومحلها
وفيه آيات:
الأولى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر
من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على
حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب
وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرين في
البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (1).
أي ليس الخير والفعل المرضي كله صرف الوجه في الصلاة إلى القبلة حتى
يضاف إليه سائر الطاعات، فيكون الخطاب للمسلمين أيضا أو يكون الخطاب
لأهل الكتاب، فإنهم لما أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت وادعى كل
طائفة أن البر هو التوجه إلى قبلته فاليهود يدعي أن البر هو التوجه قبل المغرب
أي إلى بيت المقدس، والنصارى قبل المشرق قال الله تعالى ليس البر ذلك بل
البر المعتمد عليه هو بر من آمن بالله الآية، فهنا المضاف محذوف، وهو أولى
من جعل البر بمعنى البار لموافقة ليس البر، أي من صدق بالله وبجميع صفاته من
العلم والإرادة والكراهة والوحدة والقدرة والسمع والبصر والعدل والحكمة وجميع
الصفات الثبوتية والسلبية، كأن ذلك كله مراد بالايمان بالله قال في مجمع البيان

(1) البقرة: 177.
176

يدخل فيه جميع ما لا يتم معرفة الله تعالى إلا به كمعرفة حدوث العالم الخ.
وصدق بيوم القيامة بأنه حق وفيه الحساب والعقاب، والحشر والنشر و
الميزان وتطاير الكتب وجميع الأمور الواقعة فيه وصدق بوجود الملائكة وأنهم
عباد الله يعبدون حيث يؤمرون وبالكتب المنزلة بأنه حق وثابت ومنزل من الله
تعالى إلى عباد الله وأن ما فيه حق وصدق، وكذا التصديق بالأنبياء بأنهم مبعوثون
إلى الناس لتعليمهم، وأنهم معصومون من الذنوب وما يفعلون إلا الحق.
" وأتى المال " عطف على " آمن " أي من أعطى المال مع حب المال أي مع احتياجه
كما روي عنه صلى الله عليه وآله لما سئل أي الصدقة أفضل قال: أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل
العيش وتخشى الفقر (1) أو على حب الله تعالى أي لوجهه، والتقرب به إلى الله، وهذا
نقله في مجمع البيان عن السيد المرتضى قدس الله روحه قال: ما سبقه إليه أحد و
هو مذكور في الكشاف وتفسير القاضي أيضا، أو على حب الاعطاء، والجار و
المجرور حال " وذوي القربى " أي قرابة المعطي أو قرابة النبي صلى الله عليه وآله فإنه ورد
الثواب العظيم لاعطاء القرابة، لأنه تصدق وصلة الرحم، وكذا صلة قرابة رسول
الله صلى الله عليه وآله فإنها تصدق وصلة رسول الله صلى الله عليه وآله.
واليتيم من الإنس من لا أب له ممن لم يبلغ، ومن باقي الحيوانات ما ليس له
أم كذا قيل في مجمع البيان وغيره وفيه أيضا فيحتمل أن يكون معطوفا على القربى
فيعطي المال من يكفلهم لأنه لا يصح إيصال المال إلى من لا يعقل، أو يكون معطوفا
على ذوي القربى فيعطي المال أنفسهم، نقلا عن الغير في كلا الوجهين، ومنع إعطاء
المال للأطفال سيما المميز غير ظاهر إلا أن يكون من الحقوق الواجبة وكذا
يشكل إعطاؤه لكل من يكلفهم حيث لا يكون وليا، فينبغي الاعطاء للولي ولا
يبعد الاعطاء على تقدير عدمه إلى ثقة ليخرجه عليهم، وصرف المعطي بنفسه عليهم
على تقدير عدم الغير فتأمل.

(1) تمامه: ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا. راجع مجمع
البيان ج 1 ص 263، الدر المنثور ج 1: 171 من حديث أبي هريرة.
177

والمسكين من ليس له نفقة السنة، على ما قالوا، وابن سبيل من أنقطع
بسفره عن أهله ويكون غير قادر على الرواح إلى أهله وإن كان غنيا في أهله، و
لعله يشترط عدم قدرته على التصرف في ماله الذي في بلده ببيع ونحوه، والسائل
الفقير الذي يسأل فهو أخص من المسكين، والظاهر أن الفقر شرط في الجميع
على التقدير الاعطاء من الزكاة الواجبة وترك لعدم الالتباس كما قال في الكشاف و
تفسير القاضي " وفي الرقاب " أي أعطى المال في الرقاب بأن يشتري العبيد والإماء
ويعتق مطلقا أو الذين تحت الشدة، أو المكاتبين فقط، والأول هو الظاهر من
الآية.
وكذا البر بر من أقام الصلاة بحدودها في أوقاتها مع الشرائط المعتبرة
فيها، وبر من آتي الزكاة مع الشرايط أيضا، فهما أيضا عطف على " آمن " كما قبلهما
" والموفون " أي هم الموفون بعهدهم فهو خبر مبتدأ محذوف، أي الذين ذكروا
من أصحاب البر هم الذين يوفون بما عاهدوا الله، ويمكن أن يعم العهد واليمين
والنذر أيضا، بل لا يبعد شموله لما عاهدوا الناس أيضا، وهم الصابرون أيضا أي
الحابسون أنفسهم على ما تكرهه لله " في البأساء والضراء " البؤس الفقر والوجع
والعلة " وحين البأس " وقت القتال وجهاد العدو أو الشدة والرخاء، والصحة و
والمرض و " الصابرين " قيل منصوب على المدح، أي أعني بمن ذكرناه الصابرين
كما أن الموفون مرفوع بالمدح، ولكن وجود الواو غير مناسب في المنصوب بالمدح
والمرفوع به أيضا لأنهما صفتان في الأصل، ولعدم ما عطفا عليه ظاهرا وكأنه
استيناف، ويحتمل أن يكون الموفون عطفا على " من آمن " والصابرين بتقدير
وبر الصابرين عطفا عليه أيضا، ولكن في الأول حذف المضاف وأعرب المضاف
إليه بإعرابه. وفي الثاني أقيم على حاله كما في " والله يريد الآخرة (1) " بقراءة
الجر بتقدير عرض الآخرة، قال في الكشاف " الموفون " عطف على " من آمن "
وأخرج " الصابرين " منصوبا على الاختصاص والمدح، إظهارا لفضل الصبر في

(1) " تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة " الأنفال: 67.
178

الشدائد، وقرئ " والصابرون " وقرئ: والموفين والصابرين.
" أولئك الذين صدقوا " أي الموصوفون بالصفات المتقدمة هم الذين صدقوا
الله فيما قبلوا وعاهدوا وقت القتال، أو هم الذين صدق أفعالهم نياتهم، وهو المتقون
بفعلهم عن نار جهنم وسائر العذاب، أو عن الكفر وسائر المعاصي المهلكة، ويحتمل
أن يكون " وآتى المال " إشارة إلى غير الزكاة الواجبة من المندوبات والصلات و
آتي الزكاة إشارة إليها أو يكون كلاهما في الواجبة: الأولى لبيان المصرف، و
الثانية لبيان الفعل فقط، ويكون الذكر على هذا الوجه والتكرار للاهتمام فما
قال في مجمع البيان: في الآية دلالة على وجوب إعطاء مال الزكاة المفروضة غير
ظاهر عندي إلا باعتبار حصر البر أو حصر الصدق والتقوى في فاعل المذكورات، و
ذلك أيضا غير واضح فافهم.
واعلم أنه ليس في الآية دلالة على وجوب الزكاة بل ولا على وجوب شئ
من المذكورات، نعم فيها ترغيب وتحريص على الأمور المذكورة فيعلم الوجوب
من موضع آخر، فما كان فيها أحكام يعتد بها مع أن هذه الأحكام يفهم من غيرها
مفصلة، ولكن ذكرتها لمتابعة من تقدمنا كغيرها، واشتمالها على فوائد حتى
قال القاضي: والآية جامعة للكمالات الانسانية بأسرها دالة عليها صريحا أو ضمنا
فإنها بكثرتها وشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء: صحة الاعتقاد، وحسن المعاشرة
وتهذيب النفس، وقد أشير إلى الأول بقوله " من آمن - إلى - والنبيين " وإلى
الثاني بقوله " وآتى المال على حبه - إلى قوله تعالى - وفي الرقاب " وإلى الثالث
بقوله " وأقام الصلاة " إلى آخرها، ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا
إلى ايمانه واعتقاده، بالتقوى باعتبار معاشرته للخلق، وتهذيب أفعاله ونفسه
أيضا، وكأنه إليه أشار بقوله صلى الله عليه وآله: من عمل بهذه الآية فقد استكمل الايمان (1)
وفيها وفيه دلالة على عدم اعتبار الأعمال في الايمان بل في كماله.

(1) تفسير البيضاوي: 47.
179

الثانية: وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهو بالآخرة هم
كافرون (1).
فيها دلالة على وجوب الزكاة على الكفار لأنه يفهم منها أن للوصف بعدم
إيتاء الزكاة دخلا في ثبوت الويل لهم، ولكن علم من الاجماع وغيره عدم الصحة
منهم إلا بعد الاسلام وكذا علم بالإجماع سقوطها عنهم بالإسلام، ويدل عليه الخبر
المشهور " الاسلام يجب ما قبله (2) " وأما دلالتها على كون مستحل تركها كافرا
ففيها خفاء، نعم إشعار به من قوله " وهم بالآخرة هم كافرون " فإنه يدل على كفر
الموصوفين بعدم الايتاء، وذلك لم يكن إلا مع الاستحلال بالنص والاجماع ولكنهما
يكفيان فتلغو الآية أو يقال: لأنهم ما كانوا يتركونها إلا استحلالا فتأمل فيه.
الثالثة: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و
جنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (3).
الكنز هو المال المذخور تحت الأرض، ولعل المراد هنا حفظه وعدم إنفاقه
في سبيل الله، فيكون " ولا ينفقونها " بيانا للمقصود، ولعل الضمائر للكنوز أو
الأموال أو لكل واحد من الذهب والفضة، والتأنيث باعتبار الفضة أو باعتبار
التعدد والكثرة، وقيل للفضة والاختصار لقربها، وفهم حكم الذهب بالطريق
الأولى و " الذين " مبتدأ تضمن معنى الشرط و " فبشرهم " خبره مع التأويل، و
" يوم " يحتمل أن يكون ظرفا لقوله " فبشر " وأن يكون صفة " عذاب " أو " أليم "

(1) حم السجدة: 7.
(2) تراه في الجامع الصغير على ما في السراج المنير ج 2 ص 131 الدر المنثور ج 3
ص 184.
(3) براءة: 36:
180

أي كائن يوم يحمى، أو ظرف لهما، واختار هذه الأعضاء لأن الجبهة كناية عن
الأعضاء المقاديم المواجهة، والجنوب عن الايمان والشمائل والظهور عن المتأخرة
فاستوعب الكي البدن كله، وقيل غير ذلك فتأمل.
" هذا ما كنزتم " الآية بتقدير: تقول لهم خزنة جهنم هذا ما كنزتم، والآية
ظاهرة في تحريم الكنز، وعدم الأنفاق، فقيل نسخت بالزكاة ولا منافاة، مع أن
الأصل عدم النسخ، فيحتمل أن يكون الكنز وعدم الأنفاق كناية عن عدم الزكاة
فيكون في الآية إشارة مجملة إلى وجوب الزكاة، وبيانها من النصاب والقدر المخرج
وما يخرج منه علم بالإجماع والأخبار، ويدل عليه الخبر من أهل البيت عليهم
الصلاة والسلام والتفصيل مذكور في الكتب الفقهية فليطلب هنا.
ويدل ما بعده هذه الآية على أن عدد الشهور اثني عشر، ثم في الآيات بعدها
أحكام الجهاد، ويدل على عدم قبول الأنفاق والزكاة من الكفار بعدها قوله تعالى:
" قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين * وما منعهم
أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله (1) " خطاب للكفار بأن إنفاقهم
طوعا وكرها سواء في عدم القبول، والمراد بالفسق هو الكفر، قاله في الكشاف و
يؤيده " وما منعهم " الآية وقال أيضا المراد بالأمر بالانفاق هو الخبر، لا الانشاء
والطلب، ففيها دلالة على عدم قبول ما يعتبر فيه القربة منهم، فتأمل [في صحة
وقفهم (2)].
ويدل على مذمة الكسل وعدم قبول العبادة كسلا وكرها قوله: " ولا
يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون " ففي صحة العبادة من
المكره عليها مثل الصلاة جبرا والزكاة التي يأخذها الإمام قهرا تأمل إلا أن يقال:
إنه يؤخذ بحسب الظاهر ويكلف، ولو لم يرض لم ينتفع به في الآخرة بل يمكن
عدم السقوط في الدنيا أيضا، ولكن ظاهر كلامهم خلاف ذلك فتأمل، وذلك في مثل

(1) براءة: 55، وما بعدها ذيلها.
(2) فإن وقفهم سواء كان على أهل نحلتهم أو لمصالح العامة جائز.
181

الزكاة من الحقوق المالية بعيد حيث إنه حق الناس، ويمكن أخذه منه، فيجب
وتبرء ذمته وسقطت النية منه فيما يشترط، وينوي وليه وهو الإمام عليه الصلاة
والسلام، ومن يقوم مقامه، وأما في العبادة المحضة المحتاجة إلى الاخلاص فالظاهر
عدم السقوط إلا مع وجوده، فإن حصل بعد الاكراه فيقبل منه [وسقط عنه التكليف
في نفس الأمر] وإلا يسقط عنه التكليف بحسب الظاهر بمعنى عدم جواز تكليفه
مرة أخرى لا بحسب نفس الأمر فتأمل.
الرابعة: وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (1).
من جملة صفة المتقين أنهم يقدرون في أموالهم نصيبا وحظا للمستجدي الذي
يطلب وللمتعفف الذي يظن لذلك غنيا فيحرم عن الصدقة والاعطاء، فيمكن أن
يستدل بها على الترغيب في نذر الأموال ونحوه، وتعيين شئ منها للمذكورين
ولو بالوصية وغيرها، خصوصا إذا يدوم، وأن يكون إشارة إلى ما تقرر شرعا وجوبه
مثل الزكاة والخمس فيكون المدح حينئذ باعتبار الكسب والإخراج.
* (الثاني) *
* (في قبض الزكاة واعطائها المستحق) *
وفيه آيات:
الأولى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم
إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة عن
عباده ويأخذ الصدقات وإن الله هو التواب الرحيم (3).
تدل على جواز الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وآله منفردا وكذا يدل عليه قوله

(1) الذاريات: 19، ومثلها في المعارج: 24.
(2) براءة: 104 و 150.
182

صلى الله عليه وآله: اللهم صل على آل أبي أوفى (1) وغير ذلك وقال في الكشاف (2)
في تفسير قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " القياس جواز
الصلاة على كل مؤمن لقوله: " هو الذي يصلي عليكم " وقوله " وصل عليهم إن صلاتك
سكن لهم " وقوله عليه السلام " اللهم صل على آل أبي أوفى " ولكن للعلماء تفصيلا
في ذلك وهو أنها إن كان على سبيل التبع كقولك صلى الله على النبي وآله، فلا
كلام فيها، وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو فمكروه، لأن
ذلك صار شعارا لذكر رسول الله صلى الله عليه وآله ولأنه يؤدي إلى الاتهام بالرفض (3).
وقبح هذا الكلام واضح بحيث لا يحتاج إلى التصريح إذ لا معنى لجعل الآيات
والأخبار دليل القياس وجعل المدلول قياسا، ومنع ما صرح الله ورسوله بجوازه
وندبه بل وجوبه لأنه شعار النبي صلى الله عليه وآله ولأنه شعار جماعة، لأن الله ورسوله كانا
عالمين بذلك، ومع ذلك ندبا إليها فكأنه منع علمهما به وكان خفيا عليهما مفسدة
ذلك، نعوذ بالله من ذلك، وكونه شعارا لرسول الله صلى الله عليه وآله لا ينافي جوازه لغيره على
أنها إنما صارت شعارا له لمنعهم ذلك وإنها ليست شعارا له وحده، بل يذكر معه
آله حتى في الصلاة، فلا وجه للمنع لآله صلوات الله عليه وعلى آله، وقد مر زيادة
بحث فيه فتذكر.
وهي تدل على وجوب أخذ الزكاة على النبي صلى الله عليه وآله إن جاء أهلها بها إليه: و
أن الزكاة تطهير للمال وتنمية، ووجوب الدعاء عليه لأهله، وأن دعاءه مما يسكن
إليه قلوبهم وتطمئن به، ولا تدل على وجوب الدفع إليه ولا إلى النائب، ولا
على وجوب الدعاء على مطلق الآخذ، أي الساعي والنائب، لأن الأمر مخصوص
به صلى الله عليه وآله بل لا يدل على وجوب الأخذ والدعاء عليه أيضا مطلقا لأنها واردة في
جماعة مخصوصة مثل أبي لبابة وأصحابه وقصتهم مشهورة (4) والضمير راجع إليهم فتأمل.

(1) سنن أبي داود ج 1 ص 368، الدر المنثور ج 3: 275.
(2) راجع في ذلك ص 86 فيما تقدم، والبحث هناك مستوفى.
(3) تفسير الكشاف ج 2 ص 549.
(4) كما رواه في الاستيعاب في ترجمة أبي لبابة، وقد قيل في نزول الآية غير ذلك
راجع مجمع البيان ج 5 ص 79، الدر المنثور ج 3 ص 286. سيرة ابن هشام ج 2 ص 531
راجع شرح ذلك فيما علقناه على كنز العرفان ج 1 ص 227.
183

وعلى قبول التوبة، وقبول الزكاة على الله بل سائر العبادات، بل وجوب العلم
بذلك، وكذا كونه رحيما، وهي أن جماعة تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله حين ذهب
إلى الجهاد قيل هم ثلاثة، وقيل عشرة، سبعة منهم أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد
لما بلغهم ما نزل في المتخلفين، فأيقنوا بالهلاك، فقدم رسول الله صلى الله عليه وآله فدخل
المسجد فصلى ركعتين وكان عادته ذلك كلما قدم من سفر، وكأنه لذلك يستحب
لكل قادم ذلك كما ورد به الرواية وذكر في الدروس، فسأل عنهم فذكر له أنهم
أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يحلهم رسول الله صلى الله عليه وآله قال أنا أقسم أن لا أحلهم
حتى أؤمر فيهم، فنزلت الآية المتقدمة على هذه، وهي " وآخرون اعترفوا
بذنوبهم (1) " فأطلقهم وأعذرهم فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وآله هذه أموالنا الذي خلفتنا
عنك فتصدق بها وطهرنا، فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم، فنزلت " خذ من
أموالهم " الآية فأخذ منهم الزكاة المقررة شرعا.
الثانية: يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا
لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا
فيه والله غني حميد (2).
هذا بيان لصفة الصدقة: أمر المؤمنون بالانفاق - لأنهم المنتفعون به كما مر -
من بعض طيب مكسوباتهم، سواء كانت من تبعيضية أم ابتدائية، أي حلاله أو
جيده المحبوب عندهم كما أشار إليه في قوله " مما تحبون " (3) وبالانفاق من طيب
ما أخرجته الأرض، فحذف المضاف بقرينة ما سبق، أو أريد مما هو الطيب من
الغلات والثمار والمعادن والكنوز، ونهاهم عن قصد إنفاق الخبيث أي الردي أو
الحرام من المال مطلقا " وتنفقون " كأنه حال عن فاعل " تيمموا " أي لا تقصدوا

(1) تمامه: خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم
خذ من أموالهم الآية:
(2) البقرة: 267.
(3) آل عمران: 192.
184

الخبيث من المال حال كونكم منفقين منه أو بأن تنفقوا منه، فيكون بيانا لتيمموا
ويحتمل أن يكون " منه " متعلقا بتنفقون ويكون حالا عن الخبيث وضمير منه
راجعا إليه، وفيه تكلف. " ولستم " أي حالكم وشأنكم أنكم لا تأخذون الخبيث
في عوض حقوقكم إذا كانت لبعضكم على بعض، لرداءته " إلا أن تغمضوا فيه " و
تسامحوا في أخذ الخبيث بالمعنيين، فالاغماض مجاز في المسامحة من أغمض بصره
إذا غمضه فكما أنه إذا كانت العين مغمضة يؤخذ الردي والمعيب لعدم العلم فكذلك
إذا سامح فكأنه لا يرى عيبه ورداءته، وكذا في الحرام أيضا لكن في الأول أظهر
وعن ابن عباس أنهم كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه.
" واعلموا أن الله غني " عن انفاقكم بالجيد والردي وإنما يأمركم لمصلحتكم
وانتفاعكم و " حميد " باثابته إياكم على الأنفاق وقبوله، فهو حقيق بالحمد. ترغيب
وبيان لانتفاعهم ولهذا عقبه بقوله تعالى " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء
والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم " أي الشيطان يعدكم الفقر في الأنفاق
يعني يقول لا تنفقوا فإنكم إذا أنفقتم تصيرون فقراء محتاجين ويأمركم بالفحشاء أي
المحرمات من عدم الأنفاق وإنفاق الردي أو الحرام وغيره أو البخل وغير ذلك من
سائر المعاصي، والله يعدكم مغفرة منه لذنوبكم وفضلا أي خلفا أفضل مما أنفقتم في
الدنيا من البركة وتزكية المال من الحرام، والنفس من البخل، وفي الآخرة من
الأجر العظيم، والثناء الجميل والله واسع الفضل لمن أنفق عليم بما تعملون، من
إنفاق الردي والحرام والجيد والحلال، فيجازي كلا بعمله.
فظاهرها وجوب إنفاق الطيب بالمعنى المتقدم، فيحتمل أن يكون إشارة إلى
وجوب اخراج ما يجب في الزكاة من الحلال والجيد المكتسب، وتكون المكتسب
عبارة عن المال الذي يجب فيه الزكاة من النقدين والمواشي من الغنم والبقر والإبل
فإنها تحصل بالكسب والعمل، والخمس من جميع ما يكتسب، فلا يجوز اخراج
الحرام ولا الردي من المرضى والمعيبات من غيرها، ولا يكون مجزيا أيضا لأنه
المقصود من النهي، ولعدم العلم بحصول براءة الذمة مع العلم بالاشتغال، وأكد
185

ذلك بقوله " ولا تيمموا " الخ وإلى وجوب الزكاة في الغلات وبعض الثمار وجميع
ما يخرج من الأرض والخمس فيه أيضا حتى المعادن والكنوز إلا ما أخرج بالدليل
من الاجماع والأخبار كجواز اخراج الردي على تقدير كون ما يخرج منه كله
رديا أو بالقيمة السوقية على ما يقولون من جواز اخراج القيمة.
فالآية دلت على وجوب إنفاق بعض ما يكتسب، وما يخرج من الأرض، و
كون المخرج من الطيب، ويحتمل أن يكون المقصود منها وجوب الزكاة والخمس
على الاجمال: فيشعر بوجوب زكاة التجارة أيضا لكنها غير ظاهرة، والأصل وخبر
أبي ذر - وهو ما رواه زرارة في الصحيح قال كنت قاعدا عند أبي جعفر عليه السلام وليس
عنده غير ابنه جعفر فقال: يا زرارة إن أبا ذر وعثمان تنازعا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله
قال عثمان كل مال من ذهب أو فضة يدار ويعمل به ليتجر به ففيه الزكاة إذا حال
عليه الحول فقال أبو ذر: أما ما يتجر به أو دير وعمل به فليس فيه زكاة إنما الزكاة فيه
إذا كان ركازا أو كنزا موضوعا، فإذا حال عليه الحول ففيه الزكاة، فاختصما في
ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قال فقال [رسول الله صلى الله عليه وآله] القول ما قاله أبو ذر الخبر - (1)
ينفيان وكون المراد هو الرجحان المطلق فيشمل الواجب والمندوب وكون المخرج
من الكسب استحبابا كذا قيل وفيه بعد.
الثالثة: فلت ذا القربى والمسكين وابن السبيل (2).
أي أعط حق هؤلاء، حق ذي القربى صلة الرحم بالنفس والمال على الوجه
الذي يمكن ويليق، ويحتمل وجوب نفقة الأقارب، وتخصيصها بالأبوين والأولاد
لاجماع الأصحاب وأخبارهم وحق المسكين وابن السبيل يحتمل أن يكون الزكاة
وما يليق أن يراعي المسكين وابن السبيل، وقيل معناها فأعط يا محمد حقوق ذوي
قرابتك التي جعلها الله لهم من الأخماس عن مجاهد والسدي، وروى أبو سعيد

(1) الوسائل الباب 14 من أبواب ما نجب فيه الزكاة ح 1.
(2) الروم: 38، وما بعدها ذيلها.
186

وغيره أنها لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وآله أعطى فاطمة عليها السلام فدكا وسلمه إليها
وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام وقيل إنه خطاب له ولغيره، والمراد
بالقربى قرابة الرجل وهو أمر بصلة الرحم بالمال والنفس وآت المساكين والمسافر
المحتاج ما فرض الله لهم من مالك، كما ذكرناه أولا فيحتمل أن يكون الأمر
للوجوب ويكون المراد إعطاء النفقة الواجبة على الأبوين والأولاد، والزكاة على
المسكين وابن السبيل، ونحو ذلك مما يجب بإجماع ونحوه، وللرجحان المطلق
فيشمل الصلة الواجبة والمندوبة للأقارب وغيرهم فيكون التفصيل والبيان من غيرها
" ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون " أي إعطاء الحقوق مستحقها
خير لمن يريد رضى الله دون الرئاء والسمعة، فإنه شر لمن يريدهما وأولئك الذين
يريدون وجه الله هو الفائزون بثواب الله والقرب لديه.
" وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله، وما آتيتم من
زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون " في هذه الربا قولان أحدهما أنه ربا
حلال وهو أن يعطي الرجل العطية أو يهدي الهدية ليثاب أكثر منها، فليس له
أجر ولا وزر عليه عن ابن عباس وطاوس، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام والقول
الآخر أنه الربا المحرم، فعلى هذا يكون كقوله " يمحق الله الربا ويربي
الصدقات (1) " وفي قوله " يريدون وجه الله " دلالة على اشتراط الاخلاص في الأنفاق
فكأنه النية فافهم.
الرابعة: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة
قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من
الله والله عليم حكيم (2).
فيها دلالة ما على وجوب الزكاة، وحصر من يزكى عليه، واللام للاختصاص

(1) البقرة: 276.
(2) براءة: 61.
187

في الجملة بمعنى الربط المطلق والتعلق، لا الملكية، لأصل عدم الملك، وكون اللام
للأعم ويؤيده " وفي الرقاب وفي سبيل الله " فإن " في " ليس للملكية، ولهذا حملها
الأصحاب على بيان المصرف والاستحقاق، لا الملك، وإلا يلزم البسط على جميع
الأصناف، والشركة بينهم وبين الملاك، فلا يجوز تصرفهم بغير إذنهم، بل الاعطاء
لبعضهم بغير إذن الباقين وأيضا يلزم إعطاء العين لا العوض، ونحو ذلك من لوازم
الملك والشركة، والكل خلاف الاجماع على الظاهر.
والمراد من الفقراء والمساكين هنا واحد، والذكر للتأكيد ولا فائدة هنا
للبحث عن الأسوء، والمراد من لا يقدر على قوت السنة له ولعياله الواجب نفقتهم
ولو بالصنعة والكسب، والعامل هو الذي يجمع الزكاة ولا يشترط فيه إلا العمل
بظاهر الآية، والمؤلفة هي الطائفة من الكفار التي يعطون حتى يعينوا المسلمين
على الكفار ولا يشترط فيهم أيضا إلا ذلك، وفي الرقاب المراد به المماليك تشتري
من الزكاة وتعتق واشترط البعض كونهم تحت الشدة وبعض الكتابة، والظاهر
الآية خلاف ذلك، وينبغي أن يعتقه الإمام أو المالك أو الوكيل بعد الشراء، و
يحتمل العتق بمحض الشراء، والغارم هو الذي عليه دين وليس له عوضه وظاهر
الآية عدم اشتراط صرفه في المباح، ولكن قيد به للخبر، ويمكن للإجماع، وفي
سبيل الله قيل الجهاد والظاهر أنه مطلق القربات غير المذكورات، وابن السبيل
هو الذي انقطع عن بلده وليس عنده ما يوصله إليه، وإن كان له في بلده شئ، و
يمكن اشتراط عدم القدرة على التدين وغيره للوصول إلى البلد، فإن المتبادر
من ابن السبيل هو العاجز عن الوصول إلى بلده فتأمل ويحتمل العدم لظاهر اللفظ
وعدم ظهور التبادر.
وهنا أحكام تطلب من كتب الفروع، مثل اشتراط الايمان أو حكمه مثل
أطفال المؤمنين في غير المؤلفة، وعدم كونه هاشميا إذا كان المعطي غيرهم للخبر و
الاجماع على الظاهر، إلا مع العجز، فيعطوا ما يسد الرمق، مثل ما يؤكل حال
الضرورة ما لا يجوز أكله للعقل والنقل، ويحتمل مقدار دفع الضرر العرفي الذي
188

لا يتحمل مثله، ويجوز من الهاشمي لهم فتأمل، وعدم اشتراط العدالة في الفقراء
للأصل، وعموم الآيات والروايات، وعدم دليل صالح له، نعم الظاهر اعتبارها
في العامل ليحصل الوثوق به، ولدعوى الاجماع عليه في الدروس، والأحوط اعتبارها
فيهم، واشتراط عدم كونه ممن يجب نفقته (1) على المزكي في الفقراء والمساكين
بل لا يحتاج إلى الذكر لأن ذلك قادر على القوت.
ويدل على أن إيذاء الرسول صلى الله عليه وآله حرام ويحتمل أن يدل
على وجوب القتل والارتداد قوله تعالى: " ومنهم الذين يؤذون النبي و
يقولون هو أذن قل أذن خير لكم (2) " الأذن هو الرجل الذي يصدق كل
ما سمع، ويقبل قول كل أحد - إلى قوله - " والذين يؤذون رسول الله لهم
عذاب أليم " يحتمل العذاب الأليم القتل والخلود في النار، ويدل أيضا على
أن كون الشخص بحيث يقبل قول كل أحد ويعمل بمقتضاه ولا يحمله على الكذب
ولا يظن ذلك ممدوح كما هو المقرر حتى قبول الايمان من المخالف والمنافق، و
العمل بمقتضى ظاهرهما، ولا يكلف ببواطنهم، وأذاه صلوات الله عليه وعلى آله
يمكن أن يشمل حال حياته وموته من الاستهزاء والسخرية، وكذا ذريته
كما روي أنه قال: فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني (3) وغير ذلك من الأخبار
الدالة على ذلك.
الخامسة: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء
فهو خير لكم ونكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير (4).
أي إن تظهروا الصدقات وإنفاقها فنعم الشئ تلك الصدقة المبداة، يعني

(1) كذا في عش، وفي سن، واشتراط كونه ممن لا يجب نفقته.
(2) براءة: 61، وهي ذيل آية الزكاة.
(3) حديث متواتر مشهور، رواه الفريقان، راجع مشكاة المصابيح ص 568.
(4) البقرة: 271 وقراءة عاصم وابن عامر كما في المصحف المطبوع " يكفر ".
189

أن إبداءها نعم شئ لا قبح فيه، بل فيه ثواب وحسن، وإن تخفوا الصدقات وتؤتوها
الفقراء خفية، فذلك الأنفاق خير لكم من إظهاره، والله يسقط بسبب الأنفاق مطلقا
أو الأنفاق المخفي بعض الذنوب عنكم، فمن تبعيضية، قيل: تلك الذنوب صغائر و
قيل: أعم فإن العبادات اللاحقة تسقط الذنوب المتقدمة وجوبا، وهو مذهب الاحباط
والتكفير وعلى مذهب الأصحاب من بطلان الاحباط والتكفير عندهم على ما هو المشهور (1)
بل ادعي عليه الاجماع يكون ذلك الاسقاط تفضلا من الله تعالى بعد ذلك الانفاق
فما يصير واجبا إلا بوعده وقوله، لا قبله بسبب الأنفاق، وكذا جميع ما ورد مثله
في الاحباط والتكفير من الآيات والروايات، أو يقال: المجمع على بطلانهما هو
إحباط المتأخر - ولو كان قليلا - جميع ما تقدم من الطاعة والمعصية، لا اسقاط
ما يساويه، الله يعلم.
قال الفخر الرازي: القول بالإحباط باطل، لأن من أتى بالايمان والعمل
الصالح استحق الثواب الدائم، فإذا كفر بعده استحق العقاب الدائم، ولا يجوز
وجودهما جميعا، ولا اندفاع أحدهما بالآخرة، إذ ليس زوال الباقي بطريان الطاري
أولى من اندفاع الطاري لقيام الباقي، والمخلص أن لا يجب عقلا ثواب المطيع
ولا عقاب العاصي.
وفيه نظر: أولا أنه لا دخل لقوله " ولا يجوز " الخ في بطلان الاحباط، بل
مؤيد له، وثانيا عدم ذكر بطلان ارتفاعهما وثالثا النقض بإيجاد المعدوم، وبالعكس
وبطريان الضد كما قيل، ورابعا الحل بأنه لا يجوز رجحان علة الثاني والطاري
على الباقي الأول، وخامسا لا شك في إحباط الكفر بالايمان، وبالعكس، وهو
صريح القرآن والأخبار، ونقل عليه الاجماع، بل يوجد الاحباط مطلقا فيهما
وسادسا أن هذا بالحقيقة بطلان استحقاق الثواب والعقاب، لا الاحباط فتأمل، و
سابعا أن المخلص ليس بمخلص، فإنه ليس بابطال الاحباط، لأنه إنما هو على

(1) الاحباط بطلان ثواب الحسنات، والتكفير بطلان عقاب السيئات.
190

تقدير الاستحقاق، وأيضا إن الاحباط ممكن على تقدير الاستحقاق الشرعي وما
أبطله حينئذ فما بطل الاحباط وقد كان المطلوب ذلك، وثامنا ينبغي أن يقول ولا
اندفاع الباقي بالطاري كما يقتضيه مدعاه، ودليله، وإلا يصير الدليل أخص من
المدعى وهو ظاهر فتأمل، وتاسعا أن لا معنى لنفي الاستحقاق العقلي أصلا مع أن
دليله ينفي الشرعي أيضا فإن القائل لم يدع الاستحقاق عقلا من غير شرع. بل
يدعي أن العقل يحكم به بعد ورود الشرع، لوجود الآيات الكثيرة الدالة على
ذلك، والقرآن مشحون بذلك مثل " جزاء بما كنتم تعملون (1) " و " بما كسبتم (2) "
وأمثال ذلك كثيرة جدا والأشاعرة يدعون أن ليس ذلك بالاستحقاق لا عقلا ولا
شرعا وقال العلامة الدواني في إثبات الواجب: الثواب والعقاب ليسا لسابقة استحقاق
من غير قيد بالعقل ودليلهم يدل على ذلك وهو أن فعل العبد ليس باختياره، و
أنت تعلم فساد هذا الكلام، فإن الآيات والأخبار مشحونة باستحقاق العبد إياهما
مثل ما مر، وهب أن لا استحقاق للثواب، لاحتمال التفضيل، فلا معنى للعقاب
بغير استحقاق وهو ظاهر، والمخلص أن لا معنى لنفي الحسن والقبح العقليين
ولا لعدم استحقاق الثواب فالعقاب بالعمل، وجواز إدخال الشيطان وسائر العصاة
الجنة، والأنبياء النار، كما جوزه الأشعري، وأن ما يدل على الاحباط كثير
جدا والتأويل ما تقدم فتأمل.
" والله عليم - بجميع - ما تعملون " من الأنفاق أو مطلق العمل سرا وجهرا
ليلا ونهارا حسنا وقبيحا ويجازي على ذلك العمل على قدر الاستحقاق، ويتفضل
على قدر ما يريد بفضله.
ثم إن ظاهر الآية، يدل على أفضلية إخفاء الصدقة مطلقا، ويدل
عليه بعض الروايات أيضا مثل صدقة السر تطفئ غضب الرب وتطفئ الخطيئة

(1) في القرآن العزيز آيات كثيرة بهذا المعنى، مثل قوله تعالى " جزاء بما كانوا
يعملون " الواقعة 24، وأما ما ذكره في المتن فلا يوجد في القرآن الكريم.
(2) راجع البقرة: 134 و 141، ولفظه " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم
ما كسبتم " وقوله تعالى: فأصابهم سيئات ما كسبوا، الزمر: 51.
191

كما يطفئ الماء النار، ويدفع سبعين بابا من البلاء (1) وقوله صلى الله عليه وآله: سبعة يظلهم
الله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه
متعلق بالمسجد حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله: اجتمعا عليه، وتفرقا عليه
ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله عز وجل ورجل تصدق
بصدقة فأخفاها حتى لم يعلم يمينه ما ينفق شماله، ورجل ذكر الله خاليا أي وحده
في الخلوة ففاضت عيناه (2).
والمشهور بين الأصحاب أن الاظهار في الفريضة أولى، سيما في المال الظاهر، و
لمن هو محل التهمة لدفع تهمة عدم الدفع، وبعده عن الرئاء، ولأن يتبعه الناس
في ذلك، والاخفاء في غيرها ليسلم من الرئاء، والمروي عن ابن عباس أن صدقة التطوع
إخفاؤها أفضل، وأما المفروضة فلا يدخلها الرئاء ويلحقها تهمة المنع فاظهارها أفضل وما
رواه في مجمع البيان عن علي بن إبراهيم باسناده إلى الصادق عليه السلام قال الزكاة المفروضة
تخرج علانية وتدفع علانية، وغير الزكاة إن دفعها سرا فهو أفضل (3) فإن ثبت صحته
أو صحة مثله فيخصص هذه الآية ويفصل به، وإلا فهي على عمومها، ومعلوم دخول
الرياء في الزكاة المفروضة، كما في سائر العبادات المفروضة، ولهذا اشترط في
النية عدمه، ولو تمت التهمة لكانت مختصة بمن يتهم.

(1) أخرجه الطبرسي في المجمع ج 2 ص 385، والظاهر أنه ملتقط من أحاديث
راجع الوسائل ب 13 من أبواب الصدقة، ومستدركه ص ج 5341.
(2) أخرجه في الجامع الصغير كما في السراج المنير ج 2 ص 337.
(3) مجمع البيان ج 2 ص 384.
192

* (الثالث) *
* (في أمور تتبع الاخراج) *
وفيه آيات:
الأولى: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه
الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (1).
فيها تحريض على الأنفاق بالخير كأنه المال بأن ذلك أنفع للمنفق لا للمنفق
عليه، وبأنه موجب لتوفية الأجر، واشتراط القربة والاخلاص لأن الظاهر أن
المراد بالنفي في قوله " وما تنفقون " النهي فيفهم النية، فافهم.
الثانية: للفقراء الذين احصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في
الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس
إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم (2).
قيل تقديره اعمدوا للفقراء، أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء، أو يكون
خبرا لمبتدأ محذوف أي صدقاتكم للفقراء، ولما بين الأنفاق الذي هو خير، أراد
أن يشير إلى المنفق عليه الذي الأنفاق عليه خير، فقال " للفقراء " فيحتمل أن
يكون التقدير هو للفقراء أي إعطاؤه للفقراء خير، أو ينبغي كون ذلك الفقراء
كاخفائه، أي للذين ليس لهم نفقة السنة فعلا [أ] وقوة، وأحصروا أنفسهم في سبيل
الله، يعني منعوا أنفسهم عن الكسب بالتجارة وغيرها للتهيؤ للجهاد أو لمطلق العبادة
ولا يقدرون على الرواح في التجارة والكسب لاشتغالهم بالجهاد أو العبادة مطلقا
" يحسبهم الجاهل " بحالهم " أغنياء " من جهة عفتهم وعدم سؤالهم، وكأن جملة:

(1) البقرة: 272.
(2) البقرة: 273.
193

لا يستطيعون بيان لجملة احصروا أو صلة أخرى للذين أو حال، وكذا " يحسبهم "
و " تعرفهم " بعلاماتهم من الضعف وصفرة الوجه كأن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله أو لكل
من يتأمل في شأنهم " ولا يسألون الناس الحافا " أي الحاحا إما مصدر فإن الالحاف
سؤال خاص أي السؤال بحيث يلازم المسؤول حتى يعطيه ولا يفارقه إلا بإعطاء، أو
حال بمعنى ملحفين، والمعنى لا يسألون الناس وإن سألوا لضرورة فلا يسألون
سؤال ملحف وملح، وقيل: المراد نفي السؤال والالحاف جميعا، ونقل من كلام
العرب مثله (1) وهذا هو المناسب لو فهم، والمراد ليسوا كغيرهم يسألون الناس
الحافا لا أنهم يسألون ولا يلحفون، وبالجملة ذكر الالحاف ليس للاعراض (2) بل هو
للوقوع، ووقوعه من غيرهم وكثرة قبحه، وفي الحديث: إن الله يحب الحيي
الحليم المتعفف ويبغض البذي السائل الملحف (3).
وما تنفقوا من مال، لهم ولغيرهم، سرا وعلانية في سبيل الله، فإنه يعلمه
ويجازي عليه على قدر الاستحقاق والمشقة، وحسن المال وحسن الأنفاق، والمنفق
عليه، والمكان والزمان، وحذفت النون لتضمن " ما " معنى الشرط، ولهذا دخل
الفاء في الخبر، قيل الفقراء هم أصحاب الصفة وهم نحو من أربع مائة رجل من مهاجري
قريش لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، وكانوا في صفة المسجد يتعلمون
القرآن بالليل ويلتقطون النوى بالنهار وكانوا يخرجون مع كل سرية بعثها رسول
الله صلى الله عليه وآله فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى (4) وعن ابن عباس وقف رسول
الله صلى الله عليه وآله يوما على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال أبشروا
يا أصحاب الصفة فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه، فإنهم
من رفقائي (5).

(1) راجع تفسير الكشاف ذيل الآية الشريفة.
(2) للاحتراز خ صح، كذا في هامش عش.
(3) أخرجه في الدر المنثور ج 1 ص 359، مجمع البيان ج 2 ص 387.
(4) مجمع البيان ج 2 ص 387.
(5) تفسير الفخر الرازي ج 7 ص 85.
194

فالحديث إشارة إلى حسن حال أصحاب الصفة وأنهم على أمر عظيم، وكذا
من هو مثلهم، ومضمون الآية الشريفة حث الأغنياء على الأنفاق على أمثالهم، و
استحبابه، وحث الفقراء على الاتصاف بصفة هؤلاء الموصوفين من الاشتغال بالعبادات
وبذل النفس وحبسها في سبيل الله، والصبر على الفقر، والرضا به، وعدم السؤال
فإن الظاهر أن الحكم غير مختص بهؤلاء المذكورين كما يفهم من سوق الآية و
ذكر العلماء إياها في باب الزكاة، والخبر المنقول آنفا، وأيضا لعدم وجود الفارق
للاتصاف بالصفات الحسنة حينئذ لا كراهة في أخذ الزكاة، وترك الكسب واشتغالا
بالعبادة، سيما طلب العلوم الدينية فإنه كالجهاد، بل أعظم ما قالوا وورد به
بعض الروايات، بل يكون مستحبا إلا أن يكون صاحب عيلة فيسعى في الكسب لهم
دون الاشتغال بالعبادة لاحتمال حصول الزكاة، الله يعلم.
ثم حث على الأنفاق أيضا بل على الأنفاق دائما وبكل ما له بقوله " الذين
ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم
ولا هم يحزنون " قال في الكشاف وتفسير القاضي ومجمع البيان إنه قال ابن عباس
إنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام حيث كانت معه أربعة دراهم فتصدق بواحد
نهارا وبواحد ليلا وبواحد سرا وبواحد علانية، قال في مجمع البيان وهو المروي
عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام (1) وقيل غير ذلك أيضا مثل أنها نزلت في خيل
المرابطة، وقيل في كل منفق كذلك، والظاهر أنها نزلت فيه عليه السلام للأخبار و
الشهرة ولكنها عامة فكل من يفعل ذلك فله هذا، ولكن السابق هو عليه السلام فله
أجر كل من يفعل من غير أن ينقص من أجر الفاعل شئ للخبر المشهور. (2)
وهذه تدل على حسن الأنفاق واستحبابه ولو بكل المال، وفي كل
وقت وعدم الخوف والحزن لعدم حصول النفقة له على احتمال: إذ حاصلها
وصف الذين يعمون الأوقات والأحوال، وأموالهم بالصدقة، لحرصهم على

(1) مجمع البيان ج 2 ص 388.
(2) من سن سنة حسنة الخ.
195

الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروها ولم يتعللوا
بوقت ولا حال، ولا مال دون آخر، خوفا من الفوت وعدم الوصول إلى مرضات
الله به، والظاهر من " أموالهم " جميع الأموال، ويدل عليه سبب النزول
أيضا، وكأن معنى الآية الأنفاق في النهار سرا وعلانية، وكذا في الليل، ولعل
محصل سبب النزول ذلك والإشارة إلى الأنفاق مطلقا والمبالغة في ذلك، وعدم تركه
وعدم جعل شئ مانعا له، وإلا فالسر إما ليلا أو نهارا، وكذا العلانية وبالعكس
فتأمل.
ويفهم من قوله تعالى " فلهم أجرهم عند ربهم " أن ذلك بالاستحقاق وفي
القرآن العزيز والأثر الشريف أمثالها كثيرة فقول المجبرة بأن العبد لا يستحق
شيئا بعمله باطل، وتفخيم الأجر، وأنه أجر عظيم (1) وأن ذلك أجر الأنفاق
وأنه لا خوف عليهم من أهوال يوم القيامة، ولا هم يحزنون فيه، مع عظم هول ذلك
اليوم وحزن الناس فيه كما هو المعلوم والآيات والأخبار مشحونة به وبالجملة
عذاب هذا اليوم وشدته معلوم من الدين ضرورة، بحيث لا يحتاج إلى الإشارة، و
مع ذلك المنفق المذكور آمن من ذلك كله بالانفاق المذكور، فكان الانفاق أمرا
عظيما عند الله، وأن لله اهتماما بحال الفقراء، وفي الأخبار أيضا ما يدل عليه.
الثالثة: يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين و
الأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به
عليم (2).
السؤال طلب الجواب، وأما كونه بصيغة مخصوصة كما قيد به في مجمع
البيان فغير واضح، والنفقة، الظاهر أنها صرف المال، وقال فيه: إنها اخراج الشئ
عن ملكه ببيع وهبة وصلة وغير ذلك، وقد غلب في العرف على اخراج ما كان من

(1) بأنه أمر عظيم. سن.
(2) البقرة: 215.
196

المال من عين أو رزق ولعل المراد بالوالدين أعم ممن كان بواسطة أو بلا واسطة
حقيقة أو تغليبا، والأقربين: أقارب المنفق غيرهما، واليتيم: طفل لا أب له، و
المسكين من ليس له نفقة السنة، وابن السبيل المسافر المنقطع به " ماذا ينفقون "
" ما " مبتدأ و " ذا " خبره، وهما بمنزلة لظ واحد مفعول " ينفقون "، و " ما "
موصولة متضمنة لمعنى الشرط، وأنفقتم صلتها و " من " بيان " ما " وحال عن العائد
المحذوف " فللوالدين " خبر مبتدأ محذوف والمجموع خبر " ما " وصح دخول
الفاء لتضمنها معنى الشرط.
قال في مجمع البيان: إنها نزلت في عمرو بن الجموح وكان شيخا كبيرا وكان
ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله بماذا أتصدق؟ وعلى من أتصدق؟ فأنزل الله
هذه الآية (1) والمعنى يسألونك يا محمد أي شئ ينفقون؟ وكأن المراد ما
ينفقون على وجه كامل، فيدخل المنفق عليه أيضا والقرينة أنه كان في سؤال عمرو
وأنه المقصود الحقيقي وأنه مذكور في الجواب فبين في الجواب كلا مما سئل
من المنفق والمنفق عليه، لأنه بين أن كل ما أنفق فهو حسن إذ بين أن المنفق
لا بد أن يكون خيرا أي مالا فهو مقدر في طرف القلة بما يسمى خيرا وأما في طرف
الكثرة فلا حد له فلا يحتاج إلى أن يقال: إنه ترك المنفق وبين المصرف مع أن
السؤال عن المنفق للإشارة إلى أن الأهم هو بيان المنفق عليه فينبغي السؤال عنه
لا عن المنفق، فإنه أي شئ كان فهو حسن.
هم إنه قال في الكشاف عن السدي: هي منسوخة بفرض الزكاة واعترض
عليه القاضي أنه لا ينافي الزكاة حتى ينسخ بها، والظاهر أن المراد أنها كانت
نازلة في الزكاة ثم نسخت ببيان مصرفها بآية الزكاة، ولهذا ليست في فرض الزكاة
فقط بل في بيان المصرف ويؤيده ما قاله في مجمع البيان وقال السدي: الآية واردة
في الزكاة ثم نسخت ببيان مصارف الزكاة، فالمنافاة حاصلة باعتبار الأنفاق على
الوالدين مع عدم جواز إعطائها لهما اتفاقا على ما قالوه، وكذا بعض الأقارب

(1) مجمع البيان ج 2 ص 309.
197

وهم الأولاد، فما يمكن حملها على الزكاة الواجبة المتعارفة الآن، فيمكن حملها على
الأنفاق الواجب أعم من الزكاة والنفقة الواجبة للوالدين، أو يكون المراد مطلق
الراجح أعم من المندوب والواجب، والمندوب يكون أعم، والواجب يكون
مخصوصا بغيرهم، أو يكون المراد الأنفاق المندوب لا غير، الله يعلم بما أراده.
الرابعة: يسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات
لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة (1).
السائل هنا أيضا عمرو بن الجموح سأل النبي صلى الله عليه وآله عن النفقة في الجهاد أو
الصدقات، ويحتمل الأعم: أي أي شئ ينفق " قل العفو " أي أنفقوا العفو فهو منصوب
على أنه مفعول فعل محذوف، وقرئ بالرفع أي المنفق العفو، وهو ما فضل عن
الأهل والعيال، أو الفضل عن الغنى، أو الوسط من غير إسراف ولا تقتير، وهو
المروي عن أبي عبد الله عليه السلام أو الفاضل عن قوت السنة عن الباقر عليه السلام قال ونسخ
بآية الزكاة، وبه قال السدي، أو أطيب المال وأفضله كذا في مجمع البيان (2)
ولا شك في بعد النسخ لأنه خلاف الأصل، والمنافاة كذا في غير ظاهرة إلا بالتأويل.
قال في الكشاف: العفو نقيض الجهد، وهو أن ينفق مالا يبلغ إنفاقه منه
الجهد واستفراغ الوسع يقال للأرض السهلة العفو، عن النبي صلى الله عليه وآله أن رجلا
أتاه ببيضه من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال خذها مني صدقة فأعرض عنه رسول
الله فأتاه من الجانب الأيمن فقال مثله فأعرض عنه ثم أتاه من الجانب الأيسر
فأعرض عنه، فقال هاتها مغضبا فأخذها، فحذفه بها حذفا لو أصابه لشجته أو عقرته
ثم قال: يجيئ أحدكم بماله كله يتصدق به، ويجلس ويتكفف الناس، إنما
الصدقة عن ظهر غنى (3) ولا يخفى بعد هذا الخبر فإنه بعيد عن خلقه من غير ذنب

(1) البقرة: 219.
(2) مجمع البيان ج 2 ص 316، وهكذا تفسير العياشي ج 1 ص 106.
(3) أخرجه في المستدرك ج 1 ص 544 عن غوالي اللئالي، وتراه في سنن أبي داود
ج 1 ص 389.
198

وبعيد من الفاعل أيضا ذلك وأيضا في الأخبار ما يدل على مدح الصدقة عن جهد
واحتياج، والأخبار التي تدل على مواساة الاخوان أو التسوية قد تنافي ذلك، و
يكفي في ذلك فعل أمير المؤمنين وأهل بيته عليهم السلام حتى نزلت هل أتى، وقوله تعالى
" ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (1) " أي حاجة ولكن يوافق الأول
" ولا تبسطها كل البسط " (2) ومثله " خير الصدقة ما أبقت غنى " (3) ولعل وجه الجمع
باعتبار الأشخاص فكل من يقدر على الصبر، ولا تجره الصدقة إلى السؤال، و
ارتكاب المحذورات، تكون تصدقه بجهده أفضل، ومن لم يكن كذلك فلا، أو
بالنسبة إلى العيال والأهل وعدمهم، الله يعلم.
" كذلك يبين الله لكم الآيات " والحجج في أمر النفقة والخمر والميسر
المذكورين في صدر الآية (4) أو مطلق أحكام الشرع بيانا مثل هذا البيان أو يبين
لكم الآيات والدلائل في أمور الدين والدنيا، فكذلك، صفة لمفعول مطلق
محذوف. لكي تتفكروا في أمور دينكم ودنياكم، وتفهمونها وتختارون ما هو الأصلح
وأنفع لكم مثل العفو على الجهد أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما
نفعا ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله " إثمهما أكبر من نفعهما " أي لتتفكروا في عقاب
الإثم في الآخرة، والنفع في الدنيا حتى لا تختاروا النفع القليل العاجل على
العقاب العظيم.
الخامسة: يا أيها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي
يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون (5).
أي أنفقوا أيها الذين آمنتم بمحمد صلى الله عليه وآله وبما جاء به، فكأن تخصيصهم
لأنهم المنتفعون، فإن الكفار أيضا مكلفون بالفروع على المذهب الصحيح، فكأنه

(1) الحشر: 9.
(2) أسرى: 29.
(3) الكافي ج 4: 46.
(4) صدرها: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما
أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون الآية.
(5) البقرة: 254.
199

أمر وإيجاب باخراج النفقة: مثل الزكاة ونفقة العيال الواجبة أو صرف المال في
الحج وفي سد جوعة المسلم، وبالجملة جميع الواجبات المالية، فدلت على وجوب
الأنفاق في الجملة، وخص وبين بالإجماع في المواضع المعينة " من قبل أن يأتي "
يوم القيامة الذي لا يكون فيه بيع أصلا حتى تستدركوا ما فاتكم بالانفاق في الدنيا
من الثواب العظيم، وإسقاط العقاب الأليم، ولا خلة أي ولا محبة حتى يعينكم
أخلاؤكم وأحباؤكم ويساعدوكم على ذلك إذ لا خلة يومئذ إلا بين المتقين كما
قال الله تعالى " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (1) " ولا شفاعة هناك
إلا لمن ارتضى أو لمن أذن له الرحمن ليشفعوا لكم لحط ما في ذمتكم إذ قد لا يأذن
الرحمن لكم بالشفاعة ولم تكونوا من أهلها، أو لم يشفع لكم أحد.
وتاركوا الانفاق هم الظالمون، فعبر عن تارك الزكاة بالكافر للمبالغة، كما
عبر عن تارك الحج به في قوله تعالى " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (2) " و
أيضا حصر الظالمين فيهم للمبالغة والإشارة إلى كمال الاهتمام بحال الأنفاق، و
يحتمل أن يكون هذه جملة مستقلة ويكون الغرض الأخبار بأن الكفر ظلم عظيم
كما قال الله تعالى " إن الشرك لظلم عظيم (3) " لأنه ظلم على نفس الكافر بالحرمان
عن السعادة والوقوع في الشقاوة الأبديتين بالكلية وأن يوم القيامة هم الذين ظلموا
أنفسهم لا أن الله ظلمهم، ويحتمل أن يفهم أن ترك الأنفاق ظلم لكن الكفر ظلم عظيم
وهذا بالنسبة إليه ليس بظلم وحينئذ يحتمل أن يكون الأنفاق شاملا للواجب والمندوب
كما قيل، وليس بذلك البعد، والله يعلم.
السادسة: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت
سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم (4).
أي مثل صدقة الذين ينفقون كمثل حبة أو مثل الذين ينفقون كمثل زارع

(1) الزخرف: 67.
(2) آل عمران: 97.
(3) لقمان: 13.
(4) البقرة: 261.
200

حبة أخرجت سنابل في كل سنبلة مائة حبة يعني أن النفقة في سبيل الله أي
الجهاد أو مطلق القرب بسبع مائة ضعف " والله يضاعف لمن يشاء " أي يفعل هذه
الزيادة لمن يشاء أو أنه يزيد على هذه لمن يشاء " والله واسع عليم " أي يوسع ولا يضيع
عليه ما يتفضل من الزيادة عليهم بسبب إخلاص المنفق وقدر إنفاقه وتعبه في تحصيله
فيثيبه على ما يعلم من حاله، ويمكن أن يكون هذه باعتبار التفضل والمشيئة، و
باعتبار التفاوت في حال المنفق [مثل] حال الاخلاص والاحتياج، وحال المنفق
عليه مثل اضطراره وصلاحه، وقرابته وشرافته، وطريق الأنفاق من كونه سرا
حتى لا يعرف صاحبه فلا ينافيه " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها (1) ".
واعلم أن هذه وما قبلها وما بعدها من الآيات الكثيرة تدل على الترغيب و
التحريص في الأنفاق، وأنه لا بد من كونه خالصا لله، وخاليا من الرياء والمن و
الأذى وأنها تبطله.
السابعة: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا منا
ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (2).
المن أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه، مثل أن يقول أحسنت إليك أو إلى
فلان، والأذى أن يتطاول عليه ويترفع بسبب ما أنعم عليه، وبالجملة هما معلومان
وما ذكرناه بعض أفرادهما وهي تدل على عدم الأجر مع المن والأذى، كما هو
صريح في أخرى سيجيئ وفيه تأمل سيجيئ، ولا يبعد أنهما كما يبطلان الأنفاق يبطلان
غيره أيضا من الاحسان بأي طريق كان، مثل قضاء حاجة شخص وتعليمه وتخليصه من
محنة وتعظيمه ورد الغيبة عنه، وتعريفه واستعمال الخلق الحسن معه بأن يسامحه فيما
فعل بالنسبة إليه ولم يكاف مع قدرته عليه، وبالجملة جميع ما يمكن أن يعد إحسانا و
موجبا للأجر.
والحاصل أن مضيعات الأمور الحسنة الموجبة للتقرب الإلهي كثيرة حتى أن

(1) الأنعام: 160.
(2) البقرة: 262.
201

السرور بذكر غير إحسانه ومدحه مضيع ومهلك على ما فهم من بعض الروايات
بل يمكن فهمه من عموم بعض الآيات مثل قوله تعالى " ولا تحسبن الذين يفرحون
بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم
عذاب أليم (1) " والعاقل كل العاقل، والحاذق كل الحاذق ينبغي أن لا يفعل ما يضيع
سعيه وماله، ولا يصرفهما بحيث لا أجر له، بل يكون وبالا عليه، ويصير سفيها
فإنه ادعى في التذكرة الاجماع على أن صرف المال في الحرام موجب للسفه المانع
من سائر تصرفاته المالية، وهو يحسب أنه يحسن صنعا، والخلوص من هذه الأمور
سيما الرياء والسمعة التي هي الشرك في غاية الصعوبة كا هو المبين في محله، والله
الموفق.
ومثلها قوله تعالى " قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله
غني حليم " (2) أي رد جميل بكلام حسن لا قبح فيه والتجاوز عن إلحاح السائل ونيل
مغفرة له من الله، والعفو عن السائل بأن يعذره ويغفر مساويه، خير من الصدقة التي
يتبعها أذى، والظاهر أن الخير بمعنى أصل الفعل إذ لا خير في الصدقة التي يتبعها
أذى كما علم مما سبق، وسيأتي أن المن والأذى يبطلانها، بل بهما يحصل العقاب
أيضا إلا أن يقال: إن في ذلك مسامحة وأن الصدقة تحصل بها أجر، ولكن بالأذى
يحصل العقاب " والله غني " عن انفاقكم وليس نفعه إلا لكم " حليم " عن معاجلة من
يمن ويؤذي بالعقوبة فيؤخر العقاب لحلمه، ونعوذ بالله من غضب الحليم، ويحتمل
أن يكون المراد الوصية بالحلم فإن الله مع غناه يحلم عن عقوبة العصاة، فكيف
المحتاج لا يحلم عن الذي لا يعصي، وهو في غاية الاحتياج إلى تحصيل الثواب وسقوط
العقاب فافهم، وأشار إلى إبطالهما ب‍.
الثامنة: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي
ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه

(1) آل عمران: 188.
(2) البقرة: 263.
202

تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدي
القوم الكافرين (1).
أي لا تحبطوا أجر الصدقة بكل واحد من المن والأذى كابطال المرائي إنفاقه
الذي لا يريد به رضى الله ولا ثواب الآخرة، فالكاف في محل النصب بالمصدر، أي
لا تبطلوا إبطالا مثل إبطال الذي، ويحتمل الحال فيكون المعنى لا تكونوا مبطليها
بهما حال كونكم مثل الذي يبطل بالرياء، والرياء منصوب بأنه مفعول له أو على
الحال بمعنى مرائيا، أو المصدر أي إنفاقا رئاء، يعني صفة المصدر أو المضاف إليه له
وحذف ووضع مقامه " ولا يؤمن " عطف على " ينفق ماله رئاء الناس " أي وكالذي
لا يؤمن بمعنى كابطاله أعماله أو صدقته فقط إذ الكلام فيها أو يكون المعنى كما مر
بأن يكون من تتمة التشبيه الأول وتفسيرا للمرائي يعني لا يؤمن المرائي بالله ولا
باليوم الآخر فلا يؤمن بحصول الثواب بالانفاق أو الأعم أي لا يريد رضى الله وثواب
الله يوم الآخرة ولا يصدق حصولهما بالانفاق والعمل الصالح، ويحتمل عطفه على
رئاء بجعله حالا بتأويل المفرد.
" فمثله " مثل المرائي أو مثل المبطل إنفاقه بالمن والأذى والرياء في إنفاقه
وعدم الايمان مثل حجر أملس يكون عليه تراب خالص فوقع عليه مطر عظيم القطر
فجعل ذلك المطر ذلك الحجر الأملس نقيا من التراب فليس لهم أجر ولا هم ينتفعون
بشئ مما كسبوا بطريق الرياء بل وجدوا نقيضه لحرمة الرياء بل كونه شركا كما
يشعر به " والله لا يهدي القوم الكافرين " فإنه تعريض وإشارة بأن ذلك كفر فكأنه
عبر عنهم بالكافرين كما في ترك الزكاة والحج، ففيها تحريم المن والأذى والرئاء
ووجوب الاخلاص في الأنفاق بل سائر الأعمال.
التاسعة: ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من
أنفسهم (2).

(1) البقرة: 264.
(2) البقرة: 265، وما بعدها ذيلها.
203

أي تثبيتا بعض أنفسهم على الايمان، فإن المال شقيق الروح فمن بذل ماله
لوجه الله ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه ثبتها كلها، أو تصديقا للإسلام
وتحقيقا للجزاء مبتدئا من أصل أنفسهم، وفيه تنبيه على أن حكمة الأنفاق للمنفق
بتزكية نفسه عن البخل والمن وحب المال " كمثل جنة بربوة " أي ومثل نفقة
هؤلاء في الزكاة كمثل بستان في موضع مرتفع فإن الشجرة حينئذ يكون أحسن
منظرا وأزكى ثمرة، والربوة مثلث الراء " أصابها وابل " أي مطر عظيم القطر كما
مر " فآتت أكلها " أي جاءت بثمرتها " ضعفين " أي مثلي ما كانت تثمر بسبب المطر
العظيم، فالمراد بالضعف المثل كما أريد بالزوج الواحد في قوله تعالى " من كل
زوجين اثنين " وقيل أربعة أمثاله ونصبه على الحال أي مضاعفا " فإن لم يصبها وابل
فطل " أي فيصيبها طل أو فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها لحسن منبتها وبرودة
هوائها وارتفاع مكانها، والطل هو المطر الصغير القطر، والمعنى أن نفقات هؤلاء
زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضم إليها من الأحوال
ويجوز أن يكون التمثيل لحالهم عند الله تعالى بالجنة على الربوة، ونفقاتهم الكثيرة
والقليلة الزائدتين في قرباتهم بالوابل والطل " والله بما تعملون بصير " تحذير عن
الرياء والمن والأذى وترغيب في الاخلاص.
" أيود أحدكم " الهمزة فيه للإنكار " أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري
من تحتها الأنهار وله فيها من كل الثمرات " جعل الجنة من النخيل والأعناب
مع أن فيها من سائر الأشجار أيضا تغليبا لهما لشرفهما وكثرة منافعهما، ثم ذكر
أن فيها من كل الثمرات ليدل على احتوائها على سائر أنواع الأشجار، ويجوز
أن يكون المراد بالثمرات المنافع " وأصابه الكبر " أي كبر السن فإن الفاقة و
الفقر في الشيخوخة أصعب والواو للحال " وله ذرية ضعفاء " صغار لا قدرة لهم على
الكسب " فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت " عطف على أصابها، والاعصار ريح عاصفة
منعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كعمود، والمعنى تمثيل حال من يفعل
الأفعال الحسنة، ويضم إليها ما يحبطها كرياء وإيذاء ومن، في الحسرة والندامة
204

والأسف إذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها، ووجدها محبطة، بحال من هذا
شأنه وأشبه بهم من جال بسيره في عالم الملكوت وترقى بفكره إلى جناب الجبروت
ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور، والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء
منثورا " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون " أي تتفكرون فيها
فتعتبرون بها.
ولنتبع الكتاب بآية " ولا تحسبن الذين يبخلون (1) " فاعل " تحسن "
النبي صلى الله عليه وآله، أو كل من يصلح للتخاطب و " الذين " مفعوله الأول بحذف المضاف
ليربط به المفعول الثاني، وهو خيرا، و " هو " فصل أي لا نظنن بخل الذين يبخلون
خيرا لهم، وعلى قراءة " يحسبن " بالغيبة يحتمل كون الفاعل محسب وعاقل ونحو
ذلك، وهو ظاهر من السوق أو " الذين " ومفعوله الأول حينئذ محذوف أي لا
يظنن الذين يبخلون بخلهم خيرا لهم، هكذا قالوا، وهذا خلاف ما في الكافية من
عدم جواز حذف أحد مفعولي باب حسبت، فكأنه محمول على الغالب. أو على الحذف
الذي يكون نسيا منسيا.
قيل في معنى " سيطوقون " يجعل ما يبخل به من المال طوقا في عنقه، والآية
نزلت في مانع الزكاة، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وروي عن النبي صلى الله عليه وآله
أنه قال: ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل في عنقه شجاع يوم القيامة ثم
تلا عليه السلام هذه الآية، وقيل: ومعناه ويجعل في عنقه طوق من نار، وغير ذلك، و
قيل: يؤتى بما بخل من المال فيجعل ذلك طوقا ويعذب به مثل " يوم يحمى (2) "
وقيل: معناه: يعود وباله إلى عنقه، وقد يعبر عن الانسان بالرقة كقوله:
" فك رقبة (3) ".
قال في مجمع البيان: قد تضمنت الآية الحث على الأنفاق، والمنع عن

(1) تمام الآية: بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا
به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير، الآية 180 من آل عمران.
(2) براءة: 35.
(3) البلد: 13.
205

الامساك، من جهة أن الأموال إذا كانت تعرض للزوال إما بالموت أو بغيره من
الآفات، فأجدر بالعاقل أن لا يبخل بانفاقه، ولا يحرص على إمساكه، فيكون
عليه وزره، ولغيره نفعه، ومعنى " ولله ميراث السماوات " الآية أنه يموت من في السماوات و
الأرض، ويبقى هو جل جلاله لم يزل ولا يزال، فيبطل ملك كل مالك إلا ملكه.
وقوله: " والله بما تعملون خبير " تأكيد للوعد والوعيد في الأنفاق والبخل وغيرهما
ولا يبعد جعلها دليلا على وجوب بذل نحو العلم إلى كل من يستحقه ويطلبه و
يحتاج إليه، مع عدم المانع من تقية ونحوها، لعمومها وعدم منافاة ما روي في
تفسيرها، وكذا ورودها في زكاة المال لو سلم، لعدم كون خصوص السبب مخصصا
لأن المدار على ظاهر اللفظ ومقتضاه على حسب القوانين، كما ثبت في الأصول
ولا ينافيه سيطوقون خصوصا بالمعنى الأخير، ويؤيده ما ورد في الأخبار من عدم
المنع [والكتمان وعدم القبول] عن تعليم العلوم مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه آله من
كتم علما عن أهله الجم بلجام من نار، وما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام ما أخذ
الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا (1) ولا يخفى
ما فيها من التأكيد.
" ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا
تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم " (2) الخطاب والغيبة كما تقدم في نظيره و
" فلا تحسبنهم " تأكيد للأولى، قال في مجمع البيان: ويجوز أن يجعل بدلا والفاء
زائدة (3) ومفعولا الأولى محذوفان لدلالة مفعولي الثانية عليهما، أي هم، و
بمفازة: أي لا تظنن الذين يفرحون بما فعلوا ويريدون أن يحمدوا على ذلك، و
كذا بما لم يفعلوا وهو أشد، أنهم بمنجاة من النار ومن تعذيبها، بل هم قريبون
بل واقعون فيها، ولهم عذاب مؤلم.
قال أيضا في مجمع البيان: ثم بين سبحانه خصلة أخرى ذميمة من خصال اليهود

(1) الكافي ج 1 ص 41.
(2) آل عمران: 188.
(3) مجمع البيان ج 2 ص 553.
206

نزلت فيهم حيث كانوا يفرحون باجلال الناس ونسبتهم لهم إلى العلم، عن ابن عباس
وقيل: نزلت في أهل النفاق لأنهم كانوا يجتمعون على التخلف عن الجهاد مع
رسول الله صلى الله عليه وآله فإذا رجعوا اعتذروا وأحبوا أن يقبل منهم العذر، ويحمدوا بما
ليسوا عليه من الايمان، عن أبي سعيد الخدري وزيد بن ثابت، وقال أبو القاسم
البلخي: إن اليهود قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وليسوا كذلك وهو المروي عن
أبي جعفر عليه السلام، ثم قال: والأقوى أن يكون المعني بالآية من أخبر الله عنهم
أنه أخذ ميثاقهم أن يبينوا أمر محمد ولا يكتمونه وعليه أكثر أهل التأويل، وهو مؤيد
لما قلناه وكذا في باقي التفاسير.
ولا يبعد الاستدلال بها على تحريم إرادة المحمدة من الغير بما فعل وبما لم
يفعل، بل الفرح بهما أيضا، ولكن بمعنى الاعجاب بما فعل لعموم الآية، وعدم
التخصيص بالسبب، وخروج غيره بدليله، ويؤيده النهي الموجود في الأخبار عن
الفرح المعجب مثل احثوا على وجه المداحين التراب، قال في العدة العجب من
المهلكات قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء
بنفسه، وهو محبط للعمل، والعجب إنما هو الابتهاج بالعمل الصالح واستعظامه
وأن يرى نفسه خارجا عن حد التقصير، وهذا مهلك، وأما السرور بفعل الحسن
مع التواضع لأجل جلاله والشكر على التوفيق لذلك وطلب الاستزادة، فحسن
محمود، قال أمير المؤمنين عليه السلام من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن الخ قال
في إحياء العلوم: نقل خبر لو صح لهلكنا، روي أنه ذكر أحد في حضرة النبي
بمدح فقال: لو رضي بما قلتم فيه لدخل النار، قلت: يكفي هذه الآية فافهم.
207

* (كتاب الخمس) *
وفيه آيات:
الأولى: واعلموا إنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا
على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير (1).
قال في مجمع البيان: اللغة: الغنيمة ما أخذ من أموال أهل الحرب من الكفار
[بقتال (2)] وقال القاضي (3): الذي أخذتموها من الكفار قهرا (4) وفيهما قصور و
المقصود أن المراد بها هنا غنائم دار الحرب التي هي أحد الأمور السبعة التي يجب
فيها الخمس عند أكثر أصحابنا وهي غنيمة دار الحرب وأرباح التجارات و
الزراعات والصناعات بعد مؤنة السنة لأهله على الوجه المتعارف اللائق من غير
إسراف وتقتير، والمعادن والكنوز وما يخرج بالغوص والحلال المختلط بالحرام
مع جهل القدر والمالك، وأرض الذمي إذا اشتراها من مسلم. وضم الحلبي (5)
إليها الميراث والهبة والهدية والصدقة، وأضاف الشيخ العسل الجبلي والمن
وأضاف الفاضلان (6) الصمغ وشبهه.

(1) الأنفال: 41.
(2) مجمع البيان ج 4 ص 543.
(3) في النسخ: أي الذي أخذتموها، واستظهرنا أن الصحيح: " وى: الذي أخذتموها "
أي وقال ى الذي أخذتموها كما أثبتناه.
(4) تفسير البيضاوي: 164.
(5) هو أبو الصلاح الشيخ تقي بن النجم الحلبي، الشيخ الأقدم من كبار علمائنا الإمامية
كان معاصرا للشيخ أبي جعفر الطوسي، وقرأ عليه وعلى السيد المرتضى.
(6) هما آية الله العلامة الحلي، مع المحقق الحلي.
208

ومستحقه على المشهور أيضا المذكورون فيقسم ستة أقسام: سهم الله، وسهم
رسوله صلى الله عليه وآله وكذا سهم ذي القربى يضعه حيث يشاء من المصالح، وحال عدمه عليه السلام
للإمام القائم مقامه، والنصف الآخر للمذكورين من بني هاشم وذلك للروايات
عن أهل البيت عليهم السلام وذكر في الكشاف وتفسير البيضاوي أيضا عن أمير المؤمنين
عليه السلام قال: المراد أيتامنا ومساكيننا وأبناء سبيلنا، وتفسيرهم مضى في الزكاة
وللخمس أحكام يعلم من الكتب الفرعية والذي ينبغي أن يذكر هنا مضمون الآية
فهي تدل على وجوبه في غنائم دار الحرب مما يصدق عليه شئ، وأي شئ كان
منقولا وغير منقول، قال في الكشاف: حتى الخيط والمخيط، فإن المتبادر من
الغنيمة هنا هي ذلك ويؤيده تفسير المفسرين به، وهو كون ما قبل الآية وما بعدها
في الحرب مثل " يوم الفرقان " أي يوم حصل الفرق بين الحق والباطل فيه، بأن
غلب الحق عليه، و " يوم التقى الجمعان " المسلمون والكفار، والدلالة على
الوجوب يفهم من وجوده التأكيد المذكورة فيها: التصدير بالعلم، وليس المراد العلم
فقط بل العلم المقارن للعمل، فإن مجرد العلم لا ينفع بل يصير وبالا عليه، و
معلوم أن ليس المطلوب في مثل هذه الأمور العلم بها، وهو ظاهر. وتقييده بالايمان
أي إن كنتم آمنتم بالله واليوم الآخر، وبما أنزل من الفتح والنصرة يوم الفرقان
فاعلموا إنما غنمتم، فجزاؤه محذوف من جنس ما قبله بقرينته، ولكن لا مجرد العلم
بل المقارن للعمل كما مر فتأمل.
وذكر الجملة الخبرية وتكرار أن المؤكدة، وحذف الخبر لإفادة العموم
ذكره في الكشاف حيث قال: فإن لله خمسه مبتدأ خبره محذوف تقديره فحق أو
فواجب أن لله خمسه، وروى الجعفي عن أبي عمرو: فإن لله بالكسر إلى قوله:
والمشهورة أي قراءة فتح أن آكد، من حيث إنه إذا حذف الخبر واحتمل غير
واحد من المقدرات كقولك ثابت، واجب، حق، لازم، وما أشبه ذلك كان أقوى
لايجابه من النص على واحد، وفيه تأمل فإنه لا يفيد التأكيد أكثر من واجب و
هو ظاهر فتأمل.
209

ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره فالحكم أن لله الخ على ما
قيل، بل هذا أولى، والمجموع خير أن الأولى! وصح دخول الفاء في الخبر
لكون الاسم موصولا، وأيضا ما عرفت وجه احتياج تقدير الخبر، لم لا يجوز كون
" فأن " من غير تقدير خبر أن الأولى، ويكون حاصله اعلموا أن الذي غنمتم
فواجب فيه الخمس، وقال في مجمع البيان: قيل في فتح أن قولان: أحدهما أن
التقدير: فعلى أن لله خمسه، ثم حذف حرف الجر، والآخر أنه عطف على
أن الأولى وحذف خبر الأولى لدلالة الكلام عليه، وتقديره اعلموا إنما غنمتم
من شئ فاعلموا أن لله خمسه، والاحتياج إلى هذا أيضا غير ظاهر مع عدم ظهور
معنى فاء العطف على التقدير الثاني.
ثم إنه يفهم من ظاهر الآية وجوب الخمس في كل الغنيمة، وهي في اللغة
بل العرف أيضا الفائدة، ويشعر به بعض الأخبار مثل ما روي في التهذيب بإسناده عن
أبي عبد الله عليه السلام قال قلت له: " واعلموا إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه و
للرسول " قال هي والله الفائدة يوما فيوما إلى أن أبي جعل شيعتنا من ذلك في حل
ليزكو (1).
إلى أن الظاهر أن لا قائل به، فإن بعض العلماء يجعلونه مخصوصا بغنائم دار
الحرب كما عرفت، وبعضهم ضموا إليه المعادن والكنوز وأكثر أصحابنا يحصره
في السبعة المذكورة، وقليل منهم أضاف إليها بعض الأمور الأخر كما أشرنا إليه
وأيضا الاجمال في القرآن العزيز كثير ألا ترى كيف ذكر الزكاة بقوله " والذين
يكنزون الذهب " الخ والمراد بعض الكنوز مع النصاب وسائر الشرائط التي ذكرها
الفقهاء وكذا آيات الصلاة والصوم والحج.
وأنه تكليف شاق، وإلزام شخص باخراج خمس جميع ما يملكه بمثله مشكل، و
الأصل والشريعة السهلة السمحة ينفيانه، والرواية غير صحيحة وفي صراحتها أيضا

(1) التهذيب ج 1 ص 388، وتراه في الكافي ج 1 ض 544.
210

تأمل إذ قد يكون المراد الفائدة يوم فيوما في مثل الصناعات التي هي محل الخمس
فالقول بأنها تدل على وجوب الخمس في كل فائدة ويخرج ما لا يجب فيه بالإجماع
ويبقى الباقي، فيكون الخمس واجبا في كل فائدة إلا ما علم من الدليل عدمه فيه
فتخصص الآية به، لا يخلو عن بعد، وإن كان صحيحا على قوانين الاستدلال، لعدم
ظهور الآية ووجود الاجمال والعموم، وإرادة الخاص في القرآن كثير كما عرفت
ولعدم تفسير أحد إياها بها، وعدم ظهور القائل، والأصل الدال على العدم، مع
ظواهر بعض الآيات والأخبار، وعدم مثل هذا التكليف الشاق وكأنه لذلك ما
ذهب إليه هذا الحمل والاستدلال أحد على الظاهر، نعم قال في مجمع البيان بعد ما
نقلنا عنه في الغنيمة موافقا لجمهور المفسرين أن معناه في اللغة ذلك: قال
أصحابنا: إن الخمس واجب في كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح
التجارات، وفي الكنوز والمعادن والغوص، وغير ذلك مما هو مذكور في الكتب
ويمكن أن يستدل على ذلك بهذه الآية فإن في عرف اللغة يطلق على جميع ذلك
اسم الغنم والغنيمة، والظاهر أن مراده ما ذهب إليه أكثر الأصحاب من الأمور
السبعة، فإنه نسبه إلى أصحابنا، والظاهر منه الجميع أو الأكثر، وليس وجوبه
في كل فائدة قولا لأحد منهم على الظاهر، وأيضا قال: مذكور في الكتب، وليس
ذلك مذكورا في الكتب فكأنه أشار إلى إمكان الاستدلال لمذهب الأصحاب بالآية
الشريفة، إلزاما للعامة فإنهم يخصونه بغنائم دار الحرب، وذلك غير جيد، الله يعلم.
الثانية: يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم (1).
وقد أشرنا إليه في الزكاة وكذا قوله تعالى " وآت ذا القربى " الآية (2).
الثالثة: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول (3).

(1) البقرة: 267.
(2) أسرى: 26: الروم: 38.
(3) الأنفال: 1.
211

قيل: المراد بالأنفال الغنائم، فالسؤال عن أحكام الغنيمة وكيفية قسمتها و
إنها نزلت حين اختلف الناس في قسمتها وأن القاسم يكون [من] الأنصار أو المهاجر
أي قل إن أمره إلى الله والرسول بأمر الله فيفعل ما يريد مما أمره الله تعالى به، و
هو الأحكام المذكورة مفصلا في قسمة الغنائم في كتب الفروع، ويحتمل أن تكون
ما هو المتعارف عند الفقهاء، وهو الأمر الزائد الذي هو خاصة النبي صلى الله عليه وآله والإمام
بعده كما ورد به الرواية عن الباقر والصادق عليهما السلام (1) أو الذي يعينه عليه السلام للناس
يقول: من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا، ثم أمر الله تعالى بالتقوى بقوله
" فاتقوا الله " أي اتقوا الله في الاختلاف والتشاجر والمنازعة في قسمة الغنيمة بل
مطلقا في جميع أوامر الله ونواهيه " وأصلحوا ذات بينكم " أي أصلحوا الحال التي
بينكم بالمواساة، ومساعدة بعضكم بعضا فيما رزقكم، وبترك الخصومة والمنازعة
بالصلح والمحبة والسداد وتسليم أمركم إلى الله والرسول " وأطيعوا الله ورسوله
إن كنتم مؤمنين " ولا تخرجوا عما أمرتم به فإن الايمان يقتضي ذلك.
وفيه مبالغة حيث يشعر بأن الخارج عن طاعة الله ورسوله ليس بمؤمن، بل
تارك التقوى وإصلاح ذات البين أيضا كذلك ولا شك في ذلك مع الانكار والاستحلال
بعد ثبوته، فدلت على قسمة الغنيمة التي منها الخمس على الأول، وتخصيص الأنفال
به صلى الله عليه وآله على الثاني كما يقول به الأصحاب، وتعيين الأجر إليه صلى الله عليه وآله لمن يساعده
في الحرب على الثالث، وعلى وجوب التقوى وإصلاح ذات البين مطلقا، وهذا قد
يكون واجبا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان في خلافه ترك
واجب، بأن ارتكب أحد الخصمين ذلك، وقد يكون مستحبا وهو مع عدم ذلك و
خوف حصوله، ففيه ترغيب عظيم وحث بليغ في إصلاح الخلق، والمواساة والمساعدة
كما دل عليه غير هذه الآية، والأخبار مشحونة بذلك بحيث لا يمكن الخروج
عن عهدة ذلك إلا لمن وفقه الله تعالى من أوليائه وأحبائه.
ثم بالغ في التضرع والخشوع والخوف حتى أنه يفهم منه أن الايمان لم

(1) راجع الكافي ج 1 ص 541.
212

يتحقق بدون الوجل عند ذكر الله بقوله تعالى " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله
وجلت قلوبهم " أي فزعت قلوبهم لذكر الله ويحتمل أن يكون المعنى الخوف والطمع
عند ذكر أمر الله وثوابه، ونهيه وعقابه، والائتمار والانتهاء والانزجار، فيحتمل أن
يكون ذلك شرطا لكمال الايمان، فيكون المراد إنما المؤمنون الكاملون في الايمان
قال في الكشاف والدليل عليه " أولئك هم المؤمنون حقا " وفي الدليل تأمل فإن
حقا يجوز أن يكون مفعولا مطلقا لمحذوف تأكيدا لمضمون الجملة كما ذكره
أيضا فتأمل.
ويحتمل كونه شرطا لمطلق الايمان فإن شرطه قبول الأمر والنهي، بمعنى
عدم الانكار، والطمع في الثواب، والخوف من العقاب، وتحقق ذلك عنده.
" وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا " يعني إذا قرئت عندهم آية من آيات
الله الدالة على الله وصفاته زادتهم الايمان وفي هذا دليل على قبول الايمان الزيادة
والنقصان، ويدل على أنه لا بد من التوكل في الايمان قوله تعالى " وعلى ربهم
يتوكلون " عطف على " إذا ذكر الله " كما قبله، وعلى ربهم متعلق بيتوكلون أي
لا يفوضون أمرهم إلا إلى الله تعالى، ولا يخشون ولا يرجون إلا الله.
ولنختم هذا البحث بآية " وما أفاء الله على رسوله منهم " (1) أي المال الذي
أفاء الله أعاده وأرجعه وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله من الكفار، وجعله فيئا له خاصة
" فما أوجفتم عليه " أي فما أجريتم على تحصيله ومغنمه، وهو من الوجيف هو سرعة
السير " من خيل ولا ركاب " ولا تعبتم في القتال عليه، وإنما مشيتم على أرجلكم و
المعنى أن ما خول الله ورسوله من أموال بني النضير شئ لم تحصلوه بالقتال والغلبة
" ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير " ولكن سلط الله
رسوله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائه، فالأمر فيه مفوض إليه
يضعه حيث يشاء، يعني أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها، وأخذت عنوة و
قهرا، وذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت كذا في الكشاف ولكن فيه تأمل إذ سيجئ

(1) الحشر: 6 و 7.
213

قسمته فليس الأمر مفوضا إليه مع أن القصة واحدة كما سيجئ إلا أن يكون
ذلك تفضلا منه صلى الله عليه وآله أو يكون المراد نفي قسمة ما أخذت عنوة فتأمل.
" ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " في الكشاف لم يدخل العاطف على
هذه الجملة لأنها بيان للأولى فهي منها غير أجنبية بين لرسول الله صلى الله عليه وآله ما يصنع
بما أفاء الله عليه، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام
الخمسة، جعل الخمس خمسة أقسام بجعله لله للتبرك، وجعله البعض ستة: سهم
الله، وسهم رسوله، وذي القربى، لرسول الله، ثم للإمام القائم مقامه، وبعض
يجعل سهم الله في المساجد وعمارة الكعبة، وبالجملة المشهور بين الفقهاء أن الفئ
له صلى الله عليه وآله وبعده للقائم مقامه، يفعل به ما يشاء كما هو ظاهر الآية الأولى والآية
الثانية تدل على أنه يقسم كالخمس، فإما أن يجعل هذا غير مطلق الفئ بل فيئا
خاصا كان حكمه هكذا، أو منسوخا أو يكون تفضلا منه صلى الله عليه وآله وكلام المفسرين
أيضا هنا لا يخلو عن شئ كما فهمت عبارة الكشاف فإنها متناقضة " فلله وللرسول
ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " هذه الأقسام الخمسة أو الستة
" كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم " لكيلا يكون الفئ الذي حقه أن يعطي
الفقراء [ليكون لهم] بلغة يعيشون بها، ما يتداوله الأغنياء ويدور بينهم، كما كان
في الجاهلية، ومعنى الدولة الجاهلية أن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة
لأنهم أهل الرياسة والدولة والغلبة والمعنى لئلا يكون أخذه غلبة وأثرة
جاهلية.
" للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من
الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله " للفقراء بدل من قوله: لذي القربى والمعطوف
عليه، والذي منع الابدال من: لله وللرسول والمعطوف عليهما، وإن كان المعنى لرسول
الله أن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله " وينصرون الله ولرسوله " و
أنه يترفع برسوله عن التسمية بالفقير، وأن الابدال على ظاهر اللفظ من خلاف
الواجب في تعظيم الله عز وجل " أولئك هم الصادقون " في ايمانهم وجهادهم
214

" والذين تبوؤا الدار والايمان " عطف على المهاجرين، والمراد بهؤلاء الأنصار الذين
تبوؤا دار الهجرة ودار الايمان بحذف المضاف إليه من الأول والمضاف من الثاني
أو المراد أخلصوا الايمان كقوله " علفته تبنا وماء باردا (1) " أو سمى المدينة ايمانا
لأنه مستقره. إلى قوله " ومن يوق شح نفسه " أي ومن غلب ما أمرته به نفسه
وخالف هواه عن استعمال البخل بمعونة الله وتوفيقه " فأولئك هم المفلحون "
الظافرون بما أرادوا.

(1) كذا في النسخ، وهكذا تفسير البيضاوي ص 427 والصحيح من البيت هكذا:
علفتها تبنا وماءا باردا * حتى شتت همالة عيناها
215

* (كتاب الحج) *
* (والبحث فيه على أنواع) *
* (الأول) *
* (في وجوبه) *
وفيه آيتان:
الأولى: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين
فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (1).
الواو في " ومن دخله " للعطف و " من " مبتدأ و " كان " خبره وحج البيت
مبتدأ " ولله " خبره، والواو كأنه للاستيناف، و " من " عطف بيان للناس أو خبر
مبتدأ محذوف أي هو من، وكأن المراد بالحج الطواف مع باقي الأفعال، أو
قصد البيت للأفعال المخصوصة عنده كما هو اصطلاح بعض الفقهاء، أو الأفعال
المخصوصة عنده كما هو عند البعض، والاستطاعة عند أكثر الأصحاب مفسرة
بالقدرة على الزاد والراحلة ذاهبا وآئبا، زائدا على نفقة عياله الواجب نفقتهم
عليه حتى يرجع، مع عدم المانع في نفسه من مرض وعدم القدرة على السفر و
تخلية السرب من الموانع، وكل ذلك مأخوذ من الأدلة العقلية والنقلية.
وأما الرجوع إلى كفاية على ما هو مذهب البعض لرواية أبي الربيع الشامي (2)

(1) آل عمران: 96.
(2) الوسائل ب 9 من أبواب وجوب الحج الحديث 1.
216

فالأصل وظاهر الآية ينفيانه فإن الأصل عدم اشتراط الزيادة، وأن معنى الآية
على الظاهر: لله على من وجد طريقا إلى حج البيت حجه، ومجهولية أبي الربيع
ترد العمل بروايته مع الاختلاف في المتن، بحيث لا دلالة فيها على ما في بعض
النسخ، مع معارضتها ظاهر الآية والأخبار الكثيرة المعتبرة مثل صحيحة محمد بن
مسلم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام قوله تعالى " ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا " قال يكون له ما يحج به قلت: فإن عرض عليه الحج فاستحيى، قال:
هو ممن يستطيع، ولم يستحيي؟ ولو على حمار أجذع أبتر، ومثله في حسنة
الحلبي، وما في الصحيح عن محمد بن يحيى الخثعمي - إلا أنه قال في رجال
ابن داود ورجال الشيخ مهمل، وقال في الاستبصار في باب من يفوته المشعر أنه
عامي - عن أبي عبد الله عليه السلام: فقال له حفص الكناسي: وإذا كان صحيحا في بدنه مخلا
سربه، له زاد وراحلة، فهو ممن يستطيع الحج؟ قال: نعم (1).
وهذه الأخبار كظاهر الآية دالة على وجوبه ببذل الزاد والراحلة مطلقا
سواء كان الباذل نذره أم لا، وسواء كان عدلا أم لا، وسواء كان المبذول له مديونا
أم لا، نعم يمكن اخراج من لم يكن لعياله الواجبة نفقتهم عليه قوت، ولم يبذل
ذلك، بدليل آخر من عقل أو نقل، وسواء كان المبذول نفس الزاد والراحلة، أو
ثمنهما، أو ما يمكن تحصيلهما به، فالتخصيصات التي ذكرها بعض الأصحاب غير
واضح، نعم لا بد أن يكون ممن يوثق به (2) لو لم يعطه ذلك بالفعل، بل يقبله و
يشاركه معه في الزاد ونحوه، ويؤيد الوجوب عموم بعض الأخبار الأخر التي
تدل على أن وجوبه معلقة بالامكان كما هو مذهب بعض العامة، والمبالغة المستفادة
منها ومن تتمة الآية حتى عبر عن الترك بالكفر، والاعراض عن التارك بالغناء
عن عبادته وعبادة غيره المشعر باحتياج غيره إليه يوم الحاجة بقوله " ومن كفر

(1) الوسائل الباب 10 من أبواب وجوب الحج الحديث 1.
(2) أي يظن أنه يفي به ولا يرجع، بمعنى أن لا يكون هناك ما يفهم منه عدم الاعتماد
وعدم الوفاء: منه رحمه الله.
217

فإن الله غني عن العالمين " وهي محمولة على المبالغة كالأخبار، مثل ما روي في
المجمع عن أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: من لم تحبسه حاجة ظاهرة من مرض
حابس أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ونحوه
نقل عن ابن عباس والحسن، وفيه: (1) معناه من جحد فرض الحج ولم يره واجبا.
وأما سائر أفعال الحج وأحكامه فلتطلب من محالها، ويمكن كون قوله
تعالى " ومن دخله " إشارة إلى وجوب عدم التعرض لمن جنى في غير الحرم فالتجأ
إليه كما قيل إنه كان في الجاهلية كذلك وذكره الأصحاب أيضا مع إيجاب عدم
معاملته ومؤاكلته، حتى يضطر إلى الخروج فيفعل به ما اقتضى جنايته من الحد
وغيره، للأخبار مثل حسنة الحلبي لإبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن
قول الله عز وجل " ومن دخله كان آمنا " قال إذا أحدث العبد في غير الحرم جناية
ثم فر إلى الحرم لم يسغ لأحد أن يأخذه في الحرم، ولكن يمنع من السوق ولا
يبايع ولا يطعم ولا يسقى ولا يكلم فإنه إذا فعل ذلك يوشك أن يخرج فيؤخذ، وإذا جنى
في الحرم جناية أقيم عليه الحد في الحرم لأنه لم يرع للحرم حرمة ورواية علي
ابن أبي حمزة عن أبي عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل " ومن دخله كان آمنا "
قال إن سرق سارق بغير مكة أو جنى جناية على نفسه، ففر إلى مكة، لم يؤخذ
ما دام بالحرم، حتى يخرج عنه، ولكن يمنع من السوق فلا يبايع ولا يجالس
حتى يخرج منه فيؤخذ، وإن أحدث في الحرم ذلك الحدث أخذ فيه (2).
والظاهر من الحرم هو الحرم المقرر الذي هو اثنا عشر ميلا في مثله ولكن
ظاهر الآية هو كون المأمن البيت أو بكة، لرجوع الضمير إلى أحدهما مع تأويل
في الثاني بالبلد، للتذكير إذ لا مرجع غيرهما في قوله " إن أول بيت وضع للناس
للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله " وكذا

(1) أي قال في مجمع البيان ج 2 ص 479 في قوله " ومن كفر " معناه: ومن جحد
فرض الحج ولم يره واجبا، عن ابن عباس والحسن، فتأمل.
(2) راجع الكافي ج 4 ص 226 و 227.
218

يحتاج إلى التأويل في ضمير " فيه " إذ الظاهر إرجاعه إلى بكة لأن المقام ليس في
البيت، والظاهر أنه بيان للآيات الواقعة في بكة كما قيل، فالظاهر رجوعهما
إليهما وإرادة معناهما وإرادة الحرم منهما بعيدة لا يفهم، والمعدة هي الأخبار في
هذه المسألة مع فتوى الأصحاب، وإلا فالآية ليست بصريحة بل ولا ظاهرة فإن
ظاهرها أنها خبر بكونه مأمنا، وجعله بمعنى الأمر يعني وليكن مأمونا من دخله
أي لا تتعرضوا له بعيد، مع أنه قيل معناها أن من دخله عارفا بجميع ما أوجبه
الله تعالى عليه كان آمنا يوم القيامة من العقاب الدائم، ويؤيده ما روي في الكافي
في الحسن لإبراهيم عن عبد الله بن سنان [عن أبي عبد الله عليه السلام] قال سألته عن قول
الله عز وجل " ومن دخله كان آمنا " البيت عنى أو الحرم؟ قال: من دخل الحرم من
الناس مستجيرا فهو آمن من سخط الله تعالى، ومن دخله من الوحش والطير كان
آمنا من أن يهاج أو يؤذى، حتى يخرج من الحرم (1) وهذه تشعر بكون الحكم
في الحرم، وفيها إيماء إلى عدم رجوعه إليه، بل إلى البيت حيثما صرح بالمعنى
في الآية بل ذكر الحكم، فتأمل.
وقيل أيضا إنه إشارة إلى استجابة دعاء إبراهيم عليه السلام " رب اجعل هذا بلدا
آمنا " (2) ويحتمل أن يكون المراد أمنه من التخريب وغيره من الآفات، ونقل في
مجمع البيان أنه روي عن ابن عباس أن الحرم كله مقام إبراهيم ومن دخل مقام
إبراهيم يعني الحرم كان آمنا، فالضمير حينئذ راجع إلى مقام إبراهيم، وذلك
قريب، ولكن إرادة الحرم هنا من مقام إبراهيم بعيد. أو راجع إلى بكة، وأريد
منه الحرم. والإرادة لا يخلو عن بعد بأن يراد من بكة الحرم بإطلاق اسم الجزء
على الكل، أو لوجود معنى البك في الحرم أيضا في الجملة فتأمل.
واعلم أن في هذا الحكم ودليله دلالة ما على وجوب الاجتناب عن الفاسق
فافهم وأن الظاهر عدم تعديته إلى من استدان خارج الحرم مع الوجدان والقدرة

(1) المصدر ج 4 ص 226.
(2) البقرة: 126.
219

على الأداء فالتجأ إلى الحرم وكذا من غصب أموال الناس، لأدلة وجوب الرد
ولكون حقوق الناس أشد والمساهلة في حدود الله، ولهذا تسقط بأي شبهة كانت
وعدم شمول هذه الأدلة له للاحتمال في الآية بأن لا يكون في هذا الحكم أصلا، و
الأخبار غير صحيحة ولا صريحة في الكل، بل ظاهرة في الجناية الموجبة للحد
والتعزير، إذ لا يقال للاستدانة ونحوها أنها جناية، نعم السرقة موجودة في الأخيرة
الضعيفة، ومع ذلك يمكن حملها على عدم القطع لا أخذ المال فتأمل، وأن الظاهر
أنه ينبغي للحاكم إعلام الناس بحاله حتى لا يعطوه شيئا ليخرج، وأن الحكم
بعدم الاعطاء بالكلية، فالتضييق الذي لا يفهم منه عدمه بالكلية، وتصريح البعض
بأنه يعطى ولكن ما لا يموت ولا يصبر على مثله بعيد، وإن أمكن حمل التضييق
على ما مر فتأمل.
الثانية: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام. (1)
في مجمع البيان: يصدون بمعنى صدوا، ويؤيده قوله " والذين كفروا و
صدوا " ويجوز أن يكون المعنى: إن الذين كفروا ويصدون الآن وفي الكشاف
بمعنى الاستمرار والثبوت، ونقل عليه شعرا، أي منعوا الناس عن طاعة الله مطلقا وعن
هذه الطاعة الخاصة وهي دخول المسجد الحرام مطلقا أو للطواف والعبادة فيه، و
خبر إن محذوف لدلالة ما سيأتي عليه، أي نذيقهم من عذاب أليم.
" الذي جعلناه للناس سواء العاكف " المقيم الملازم للمكان " فيه " أي في المسجد
الحرام " والباد " الطاري الوارد على المكان دون المقيم فيه و " الذي " اسم موصول
وما بعده صلته، وهو صفة المسجد الحرام، وفي الكشاف: " سواء " بالنصب مفعول ثان
لجعلنا، أي جعلناه مستويا العاكف فيه والبادي، وبالرفع الجملة مفعول ثان له
وفيه إجمال إذ ما بين للناس ولا إعراب العاكف على الأول، وأيضا يلزم كون
المبتدأ نكرة صرفة، والخبر معرفة على الثاني، إن كان سواء مبتدأ وكأنه جعل

(1) الحج: 25.
220

للناس متعلقا بجعلناه صلة له لا مفعولا، ويحتمل أن يكون مفعولا ثانيا متعلقا بمقدر، أي
جعلناه مستقرا (1) أو معبدا للناس، وسواء بالنصب يكون حالا بمعنى مستويا العاكف فيه
والبادي، وهما فأعلاه وفي سورة الرفع الجملة حال بالضمير، وضعفه غير مسلم كما بين
في محله، ويكون العاكف مبتدأ مؤخرا للاهتمام بتقديم السواء والاستواء فإن
المطلوب هنا هو التساوي والمساواة، وهو ظاهر فافهم.
ويحتمل أن يكون الجملة بدلا أو عطف بيان عن جملة " جعلناه للناس " و
معناه - بناء على كون المراد بالمسجد الحرام الحرم تسمية للشئ باسم أشرف أجزائه
ولهذا قيل في " أسرى بعبده [ليلا] من المسجد الحرام " أنه أسري من مكة من
شعب أبي طالب لا المسجد الحرام: جعلنا الحرم مستقرا (2) ومعبدا ومنسكا لهم أو خلقناه
لهم كلهم نخص بعضا به دون بعض، فيكون المقيم فيه والطارئ مستويين في
سكناه بل سائر التصرفات ولا يتملكه أحد، ولم يكن أولى به من آخر، غير أنه لا
يخرج عن منزله الذي سكن وسبق كما في المساجد والأوقاف العامة، مثل الخانات
والأراضي التي للمسلمين كافة، وفتحت عنوة، وهذا يكون سبب التسوية التي
أشار إليها بقوله " سواء العاكف فيه والباد " فإنه لا شك في أن مكة وحواليها
فتحت عنوة، والمفتوحة عنوة مستو فيها الناس: العاكف والبادي، بمعنى أنه لا
يتملك ولا يصح بيعها نعم المتصرف فيها أولى بها ما دام قائما بعمارتها، ونازلا فيها
وله التصرف فيما يخصه من العمارة والخشب والعمل على أي وجه أراد، وما نقل
عن بعض الصحابة من أن كراء دور مكة حرام، فلما قلناه، لا لأن الله قال: " سواء "
ولا لأن مكة كلها أو الحرم مسجد، كما نقل عن بعض الأصحاب، فإنه بعيد بل لا يفهم
له معنى للزوم تجويز الجنابة والنجاسة المتعدية في المسجد وغير ذلك من المفاسد، وبهذا
يجمع بين ما تقدم وبين فعل المسلمين الآن من البيع والإجارة ونحوهما، إذ يحمل على
أنه باعتبار ما يخصه مثل العمل وحينئذ لا خصوصية للحكم بمكة ولا بالحرم.
ويحتمل أن يكون المعنى جعلناه قبلة لصلاتهم وغيرها، مثل دفن الأموات
والذبح ومنسكا لحجهم والطواف فيه، وصلاتهم فيه، فالعاكف والبادي فيه

(1) مشعرا خ ل.
(2) مشعرا خ ل.
221

سواء وهو ظاهر، ويؤيده ما نقل أن المشركين كانوا يمنعون المسلمين عن الصلاة
في المسجد الحرام، والطواف بالبيت، ويدعون أنهم أربابه وولاته، فنزلت ففي
الآية دلالة على التسوية، وكون المسجد الحرام معبدا، وعلى تحريم المنع عن
العبادات وعن المسجد الحرام كما في قوله " ومن أظلم ممن منع مساجد الله " (1).
" ومن يرد فيه " أي في المسجد الحرام وكأن المراد الحرم " بالحاد بظلم "
في الكشاف الالحاد العدول عن القصد، هما حالان مترادفان أي كل منهما حال
عن فاعل يرد، ومفعوله متروك ليتناول كل متناول، كأنه قال ومن يرد فيه
مرادا ما عادلا فيه عن القصد ظالما، يعني أن الواجب على من كان فيه أن يضبط
نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهم به ويقصده، وقيل الالحاد
في الحرم منع الناس عن عمارته، وقيل: الاحتكار وقيل قول الرجل في
المبايعة لا والله وبلى والله. وفيه إجمال حيث ما ظهر كون الباء فيهما بأي
معنى؟ والاحتياج إلى ضم الظلم إلى الالحاد، فإنه على ما فهم من قوله يعني
الخ أن المقصود من قوله " ومن يرد فيه بالحاد بظلم " فعل الذنب مطلقا
فيكون مطلق الذنب فيه كبيرة وموعودا به العقاب، والباء يحتمل أن تكون
للملابسة أي حال كونه ملابسا بالحاد، وملابسا بظلم أيضا فإن العدول عن القصد
يحتمل أن يكون بوجه معقول مشروع غير عدوان في بادي الرأي، وبحسب أصل
المعنى، فقيد بالظلم، ونص به لزيادة قبحه وظهوره ليترتب عليه " نذقه " فتأمل.
وقال في مجمع البيان: الباء في بالحاد زائدة تقديره: ومن يرد فيه إلحادا
والباء في بظلم للتعدية، ونقل أبياتا لكون الباء زائدة (2) وهو محل التأمل إذ بعد
صحة كون الباء زائدة لم يظهر كونها للتعدية في بظلم، بل جعلها للملابسة والحال
كما قلناه أولى، أي من يرد عدولا عن القصد حال كونه متلبسا بالظلم، ثم قال
فيه: الالحاد العدول عن القصد لغة واختلف في معناه ههنا، فقيل: هو الشرك وعبادة
غير الله تعالى عن قتادة، فكأنه قال: ومن يرد فيه ميلا عن الحق بأن يبعد غير

(1) البقرة: 114.
(2) راجع مجمع البيان ج 7 ص 79.
222

الله ظلما وعدوانا، وهذا يشعر بكونها للملابسة والحالية، وقيل: هو الاستحلال
للحرم والركوب للآثام، عن ابن عباس والضحاك ومجاهد وابن زيد.
كأن المراد باستحلال الحرم اعتقاد جواز تخريبه وعدم كونه حرما ذا حرمة
يجب تعظيمه وترتب أحكامه الحرمية عليه من تحريم الصيد وغيره، وقيل هو كل
شئ نهي عنه حتى شتم الخادم فيه، لأن الذنوب هناك أعظم، وقيل هو دخول مكة
بغير إحرام عن عطاء.
" نذقه من عذاب أليم " جواب " من " الشرطية وخبرها، أي متى فعل
ذلك نعذبه عذابا وجيعا، والتفاسير مضطربة والمحصل معلوم إنشاء الله تعالى
وكذا استفادة بعض الأحكام مثل كون كل ذنب فيه موجبا للعذاب الأليم، فيكون
كبيرة بل إرادة ذلك، فهي تدل على أن إرادة القبيح والحرام فيه قبيح وحرام
بل كبيرة ويشعر أيضا بكون محل الالحاد مكة أو المسجد الحرم، إذ غير ظاهر كون
كل الحرم بهذه المثابة مع احتمال كونه كذلك لما علم مما سبق قال في الكشاف (1)
وخبر أن محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره إن الذين كفروا ويصدون
عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم، وكل من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك
وينبغي أن يقول عن سبيل الله وعن المسجد الخ.
وقيل في قوله " وطهر " أي يا إبراهيم " بيتي " أي البيت الذي هو القبلة على الظاهر
" للطائفين والقائمين والركع السجود " دلالة على وجوب إزالة النجاسة عن المسجد
وتحريم إدخالها مطلقا وفيه تأمل من وجوه، ويؤيده ما قال في مجمع البيان وطهر بيتي من
الشرك وعبادة الأوثان عن قتادة (2) والمراد بالقائمين المقيمين، وقيل القائمين في
الصلاة عن عطا.
" وأذن في الناس " أي ناد يا إبراهيم بينهم بالحج بأن تقول حجوا أيها
الناس أو عليكم بالحج، وروي أنه صعد أبا قبيس فقال أيها الناس حجوا بيت

(1) في المطبوعة ن: رمز مجمع البيان، وهو مذكور فيه راجع ج 7 ص 79، ولكن
النص مذكور في الكشاف.
(2) مجمع البيان ج 7 ص 80.
223

ربكم، وعن الحسن أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع
يعني أعلمهم بوجوب الحج فحينئذ دلالتها على الأحكام واضحة وعلى الأول لا بد
عن انضمام أن ليس هذا منسوخا وأنه من اجتماع الشريعتين مع أنه صلى الله عليه وآله على
ملة أبيه إبراهيم عليه السلام " يأتوك " أي يجيؤن إليك " رجالا " أي مشاة جمع راجل
كقائم وقيام " وعلى كل ضامر " وركبانا على كل إبل، مهزول حال معطوفة
على الحال السابقة كأنه قيل رجالا وركبانا، والضامر الإبل الضعيف، عن
ابن عباس أنه ما يدخل مكة إبل ولا غيره إلا هزال " يأتين " صفة لكل ضامر
لأنه بمعنى الجمع ويحتمل أن يكون صفة له ولرجالا أيضا " من كل فج عميق " أي
طريق بعيد " ليشهدوا منافع لهم " أي ليحضروا ما ندبهم إليه مما فيه نفعهم، في الكشاف
نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها
من العبادات وفي مجمع البيان المنافع التجارات وقيل التجارة في الدنيا والأجر
والثواب في الآخرة، وقيل: هي [هنا] منافع الآخرة، وهي العفو والمغفرة عن سعيد
ابن المسيب، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام.
ثم اعلم أن فيها دلالة على وجوب الحج مطلقا بل تشعر بعدم شرط استطاعة
الركوب ولكن يقيد بقوله تعالى " من استطاع إليه سبيلا " وقد فسرت بالزاد
والراحلة لاجماع الأصحاب على ما نقل، وللأخبار، فيحمل رجالا على الحج
ماشيا مع استطاعة الركوب أو يحمل الحج على الحج المطلق الواجب أو المندوب
ولعل في تقديم رجالا إشعارا بأفضلية المشي على الركوب، والروايات مختلفة
مذكورة في محلها مع التوفيق بينها قال في مجمع البيان: وروى سعيد بن جبير عن
ابن عباس أنه قال لبنيه يا بني حجوا من مكة مشاة حتى ترجعوا إليها مشاة فإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول للحاج الراكب بكل خطوة يخطوها راحلته سبعون
حسنة، وللحاج الماشي بكل خطوة يخطوها سبع مائة حسنة من حسنات الحرم
قيل ما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة بمائة ألف (1) وفيها دلالة على تفضيل حسنات

(1) المصدر ج 7 ص 81.
224

الحرم على غيرها كما مر أن الذنوب فيه يضاعف.
" ويذكروا اسم الله في أيام معلومات " في الكشاف: كنى عن النحر والذبح
بذكر اسم الله لأن أهل الاسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا فذكر
اسمه تعالى لازمهما شرعا، هذا على مذهب الموجب أوضح دون غيره كأبي حنيفة
فإنه لا يقول باللزوم والوجوب، ثم قال: وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي
فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه، وقد حسن الكلام تحسينا بينا أن جمع بين
قوله: " ليذكروا اسم الله " وقوله " على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " ولو قيل لينحروا
في أيام معلومات بهيمة الأنعام، لم تر شيئا من ذلك الحسن والروعة، والأيام
المعلومات أيام العشر عند أبي حنيفة، وهو قول الحسن وقتادة وعند صاحبيه هي
أيام النحر العيد وثلاثة بعده، والذبح والنحر مختصة بهذه الأيام الأربعة، فلا
معنى لقوله أبي حنيفة لأن المراد ذكر اسم الله على الذبيحة والمنحورة كما فسره
في الكشاف، ولقوله " على ما رزقهم " وورد في بعض رواياتنا، وقول بعض العلماء
أن المراد به الذكر المشهور يوم العيد، وأيام التشريق.
وفي مجمع البيان: اختلف في هذه الأيام وفي الذكر فيها، فقيل هي أيام
العشر، وقيل لها معلومات للحرص على علمها من أجل وقت الحج في آخرها و
المعدودات أيام التشريق عن الحسن ومجاهد، وقيل هي أيام التشريق يوم النحر
وثلاثة بعده، والمعدودات أيام العشر عن ابن عباس، وهو المروي عن أبي جعفر
عليه السلام، واختاره الزجاج، قال: لأن الذكر ههنا يدل على التسمية على
ما ينحر لقوله " على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " أي على ذبح ونحر ما رزقهم من
الإبل والبقر والغنم، وهذه الأيام تختص بذلك، ولا شك أن الأخير هو الحق
للرواية ولقوله تعالى " على ما رزقهم " ولكن ينبغي أن يقول يوم النحر وأيام
التشريق لا أيام التشريق ثم يفسرها به وبثلاثة بعده، فإن العيد ليس بداخل في
225

أيام التشريق على المشهور، ولكن وقع في الرواية كذلك ولعله تغليب أو اصطلاح
آخر غير المشهور.
ثم قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام التعقيب (1) بمنى عقيب خمس عشر صلاة
أولها صلاة الظهر من يوم النحر، يقول: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر
ولله الحمد الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا والله أكبر على ما رزقنا
من بهيمة الأنعام.
قال في الكشاف. البهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت
بالأنعام وهو الإبل والبقر والضأن والمعز ثم أمر بالأكل منها والاطعام على وجه
أعم نيا ومطبوخا مرقا وغيره لقوله " فكلوا منها " أي من الأنعام " وأطعموا "
أي أعطوا وتصدقوا بشئ منها، ويحتمل ما بقي من الأكل بل هو الظاهر، حيث
حذف المفعول وتبادر الذهن إلى ما تقدم وهو النعم المذبوح المأكول منها " البائس "
أي الذي أصابه بؤس أي شدة من الجوع والعري، وقيل هو الذي يسأل بكفه
" الفقير " هو الذي أضعفه الاعسار وعدم المعونة كأنه انكسر فقر ظهره من عدم
ما يعيش به من الجوع والعري.
ففي الآية دلالة على وجوب الذبح والنحر في مطلق الحج فخصت بالتمتع
والقران الواجب الذبح فيه كأنه للإجماع والخبر، والظاهر ذلك لمن لم يكن
أهله حاضري المسجد الحرام فتأمل، وعلى وجوب التسمية على الذبح لقوله " و
يذكروا اسم الله " إذ التقدير وليذكروا، والأمر للوجوب، فقول أبي حنيفة
وغيره بالاستحباب بعيد، وعلى كون ذلك في أيام معلومات، مفسرات بالعيد
وثلاثة بعده موسعا، وعلى وجوب الأكل، ووجوب التصدق على الفقراء من
الأنعام المذبوحة للأمر الظاهر في الوجوب كما ثبت، ولوجوب ما تقدم و
ما تأخر بقوله " ثم ليقضوا تفثهم " فيمكن إتمام الاستدلال على المشهور من
وجوب تقسيم هدي التمتع أثلاثا: الأكل من الثلث، والتصدق بالثلث على

(1) في المصدر: التكبير بمنى، راجع ج 7 ص 81.
226

الفقير المؤمن، والاهداء بالآخر إلى المؤمن، وينبغي أن يكون فقيرا، لأنه علم
وجوب الأكل والتصدق، وكأن كل من قال بهما قال بالتقسيم المذكور، وما
نعرف وجها لقول العلامة بالاستحباب سوى الأصل.
وقال في مجمع البيان: وهذا أي الأكل إباحة وندب، وليس بواجب
وكلامه يشعر بوجوب التصدق حيث قال بعد الحكم بأن الأكل ندب، وأطعموا
البائس الفقير فتأمل، وكلام الكشاف قريب منه: الأمر بالأكل منها أمر إباحة
لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم، ويجوز أن يكون ندبا لما فيه
من مواساة الفقراء ومساواتهم، ومن استعمال التواضع، ومن ثم استحب الفقهاء
أن يأكل الموسع من أضحيته مقدار الثلث، وقد عرفت دفعه مما سبق، ومعلوم عدم
دلالة ما ذكره على تعيين كونه للإباحة أو الندب وهو ظاهر نعم يتوجه إمكان ذلك
بالاحتمال، ويندفع بما يقتضي الوجوب فتأمل، على أن في قوله مناقشات الأولى
الحكم بأن الأمر للإباحة ثم تجويز الندب وتعليله بقول الفقهاء بالندبية المذكورة
لجواز كون الأمر للندب، مع أن كونه للندب أقرب من كونه للإباحة غير جيد
الثانية عدم الاستحباب عند الكل وهو ظاهر في ذلك (1) الثالثة استحباب أكل مقدار
الثلث فإنه ظاهر في كله والمراد الأكل منه وهو ظاهر ومبين.
وبالجملة الحكم بالاستحباب كما فعله العلامة وغيره مشكل لأن ظاهر
الآية وجوب الأكل، والاعطاء إلى الفقراء، وكذا قوله تعالى " فإذا وجبت
جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " (2) وهذه أيضا ما تدل على التقسيم
المشهور إلا أن يكون المراد بإطعام القانع التصدق على الفقير، وباطعام المعتر
الاهداء إلى المؤمن، ولكن فهم ذلك مشكل، ولو كان قائل بوجوب الأكل منه و
إعطاء الباقي إلى الفقير البائس والقانع والمعتر لكان القول به جيدا، والحاصل
أن هذا هو مقتضى الآية وما أحفظ الآن الأخبار، والظاهر أن لا دلالة فيها أيضا
على المشهور.

(1) أي في أن الاستحباب عند الكل للجمع المحلي باللام.
(2) الحج: 36.
227

" ثم ليقضوا تفثهم " في الكشاف قضاء التفث قص الشارب والأظفار ونتف
الإبط وفي مجمع البيان: ليزيلوا قشف الاحرام (1) من تقليم ظفر وأخذ شعر و
غسل واستعمال طيب وقيل معناه ليقضوا مناسك الحج كلها عن ابن عباس وابن
عمر، قال الزجاج قضاء التفث كناية عن الخروج من الاحرام إلى الاحلال والمراد
به قص الشعر ونتف الإبط وغيره من إزالة الشعر بأي وجه كان " وليوفوا نذورهم
وليطوفوا بالبيت العتيق " ويجب أن يفعلوا ما وجب عليهم في الحج بالنذر وأخويه
كأنه كان متعارفا أن ينذروا أعمال البر في حجهم ولا خصوصية له بالحج فإنه
يجب إيفاء النذر مطلقا ويمكن أن يكون لكونه مكانا شريفا وزمانا كذلك يضاعف
فيه الأعمال الحسنة فأمروا بالوفاء هناك في تلك الأزمنة لذلك فتدل على سعة وقت
النذر وأفضلية المكان والزمان، قال في مجمع البيان: قال ابن عباس هو نحر
ما نذروا من البدن وقيل: ما نذروا من أعمال البر في أيام الحج وما نذروا إن
رزقهم الله الحج أن يتصدقوا، وإن كان على الرجل نذور مطلقة فالأفضل أن يفي
بها هناك.
ويجب طواف البيت الذي في المسجد الحرام وهو القبلة سمي بالعتيق لأنه
أول بيت وضع للناس، وقيل غير ذلك أيضا، وقيل المراد طواف الزيارة وقيل
طواف النساء ويحتملها معا وقيل طواف الوداع ويحتمل الكل مجازا والظاهر
الأول حيث كان الكلام في الحج، وأنه ذكره بعد التحليل والذبح، ويمكن فهم
وجوب الترتيب في الجملة بين مناسك منى فافهم " ذلك " خبر مبتدأ محذوف أي الأمر
والشأن ذلك، وفي مجمع البيان: أي هكذا أمر الحج والمناسك " ومن يعظم
حرمات الله فهو " أي التعظيم " خير له عند ربه " في الآخرة، والحرمة ما لا يحل
هتكه، وجميع ما كلفه الله عز وجل بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، فيحتمل

(1) القشف محركة قذر الجلد ورثاثة الهيئة، وفي المصدر المطبوع ج 7 ص 81:
شعث الاحرام.
228

أن يكون عاما في جميع التكاليف، ويحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج، و
عن زيد بن أسلم: الحرمات خمس الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام
والشهر الحرام، والمحرم حتى يحل، فينبغي تعظيم المحرم أيضا بل جميع من هو
مشتغل بالعبادة، ومعنى التعظيم العلم بأنها واجبة المراعاة والحفظ، والقيام
بمراعاتها.
" وأحلت لكم الأنعام " يعني جميع الأنعام حلال " إلا ما يتلى عليكم " آية
تحريمه مثل قوله تعالى في سورة المائدة " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير
وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع
إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب (1) الآية ونحوها، وحاصله أن الله قد أحل
لكم الأنعام كلها إلا ما استثناه في كتابه، ويحتمل أن يجعل أعم أي إلا ما يعلمكم
أنه حرام بأي وجه كان بالهام وقرآن وكلام آخر، ونحو ذلك، فحافظوا على
حدوده وإياكم أن تحرموا مما أحل الله شيئا كتحريم عبدة الأوثان البحيرة و
السائبة (2) وغير ذلك وأن تحلوا مما حرم الله شيئا كاحلالهم أكل الموقوذة و
الميتة وغير ذلك، هكذا في الكشاف فدلت على الحكم المذكور فيها " واجتنبوا
الرجس من الأوثان " في مجمع البيان: أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان
فمن بيانية، وروى أصحابنا أن اللعب بالشطرنج والنرد وسائر أنواع القمار من
ذلك، وهو غير واضح، وكأن للوثن معنى آخر يصدق عليها حقيقة أو مجازا، و
قيل إنهم كانوا يلطخون الأوثان بدماء قرابينهم فسمي ذلك رجسا " واجتنبوا قول
الزور " وهو الكذب وروى أصحابنا أنه يدخل فيه الغنا (3) وسائر الأقوال
الملهية وروى أيمن بن حزيم عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قام خطيبا فقال: يا أيها

(1) المائدة: 3.
(2) في معناهما اختلاف بين اللغويين والمفسرين وسيجئ شرح ذلك في كتاب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ص... فراجع.
(3) وذلك من معانيه اللغوية كما في القاموس.
229

الناس عدلت شهادة الزور الشرك بالله - وزاد في الكشاف مرتين - ثم قرأ: " واجتنبوا
الرجس " الآية يريد أنه قد جمع في النهي بين عبادة الوثن وشهادة الزور، فقول الزور
شهادة الزور، وقيل هو الكذب والبهتان، وقيل: قولهم هذا حلال وهذا حرام
وغير ذلك من افترائهم وفي الكشاف لما حث على تعظيم حرماته، وأحمد من يعظمها
أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور، لأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه و
صدق القول أعظم الحرمات وأسبقها خطرا، وجمع الشرك وقول الزور في قرآن
واحد، وذلك أن الشرك من باب الزور، لأن المشرك زاعم أن الوثن يحق له
العبادة فكأنه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور، واجتنبوا قول
الزور كله لا تقربوا شيئا منه لتماديه في القبح والسماجة، وما ظنك بشئ من
قبيل عبادة الأوثان، وسمى الأوثان رجسا وكذلك الخمر والميسر والأزلام
على طريق التشبيه، يعني إنكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه فعليكم
أن تنفروا عن هذه الأشياء، مثل تلك النفرة، ونبه على هذا المعنى بقوله " رجس
من عمل الشيطان فاجتنبوه " جعل العلة في اجتنابه أنه رجس والرجس مجتنب، و
فهم هذا كله لا يخلو عن بعد فافهم، ومعلوم دلالتها على ما فيها من الأحكام على كل
الأقوال، فلا يحتاج إلى التصريح بها.
" ولكل أمة جعلنا (1) " أي شرع الله لكل أمة " منسكا " هديا ينسكونه
لوجه الله وعلى وجه القربة، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه بقوله " ليذكروا
اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " ففيها أيضا دلالة على ذبح الهدي، وذكر
الاسم عليه وكذا في غيرها أيضا.
" والبدن (2) " جمع بدنة وهي الإبل " جعلناها لكم من شعائر الله " من أعلام
الشريعة التي شرعها الله، وإضافتها إلى اسم الله تعظيم لها " لكم فيها خير " أي منافع
الدنيا والآخرة لأن من احتاج إلى لبنها شربها، وإلى ظهرها ركبها " فاذكروا

(1) الحج: 34.
(2) الحج: 36.
230

اسم الله عليها " وذكر اسم الله عبارة ذكر التسمية عند النحر كما مر غير مرة
" صواف " قائمات ولهذا قالوا يستحب نحرها قائمة قد صففن أيديهن وأرجلهن
" فإذا وجبت جنوبها " أي إذا وقعت جنوبها على الأرض أي ماتت بالنحر " فكلوا
منها وأطعموا " منها " القانع " الذي يقنع بما يعطى " والمعتر " الذي يعتريك
ويسألك أن تعطيه، وقد مر البحث فيه.
* (الثاني) *
* (في أنواعه وأفعاله وشئ من أحكامه) *
وفي آيات:
الأولى: وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي
ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من
رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج
فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم
تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله
واعلموا أن الله شديد العقاب (1).
المراد بالحج والعمرة معناهما الشرعي المتعارف عند الفقهاء، ولهما أفعال
مخصوصة معلومة من كتب الفروع، وأتموهما يعني أتوا بهما تامين مستجمعين
للشرائط مع جميع المناسك وتأدية كل ما فيهما، كذا في الكشاف وتفسير القاضي
ومجمع البيان، أي المراد الاتيان بهما لا الاتمام بعد الشروع فيهما، ويؤيده
قراءة أقيموا الحج والعمرة، قال القاضي: وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من

(1) البقرة 196.
231

دويرة أهلك أو تفرد لكل منهما سفرا، أو أن تجرده لهما، ولا تشوبه بغرض
دنيوي أو أن يكون النفقة حلالا، وفي الخبر الصحيح أن الاحرام من الميقات
من تمام الحج وفي حسنة عمر بن أذينة قال كتبت إلى أبي عبد الله عليه السلام بمسائل
بعضها مع ابن بكير وبعضها مع أبي العباس وجاء الجواب باملائه عليه السلام
سألت عن قول الله عز وجل " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا "
يعني به الحج والعمرة جميعا لأنهما مفروضان وسألت عن قول الله عز وجل:
" وأتموا الحج والعمرة لله " قال يعني بتمامهما أداءهما واتقاء ما يتقي المحرم
فيهما، وسألت عن قوله تعالى " الحج الأكبر " ما يعني بالحج الأكبر فقال: الحج
الأكبر الوقوف بعرفة ورمي الجمار والحج الأصغر العمرة (1) وقال في مجمع
البيان: وقيل معناه أقيموهما إلى آخر ما فيهما، وهو المروي عن أمير المؤمنين
وعلي بن الحسين وعن سعيد بن جبير ومسروق والسدي " لله " أي لوجه الله يعني
اقصدوا الحج والعمرة لله، وافعلوهما له خاصة، أي لامتثال أمره ولموافقة إرادته
وثوابه كما قيل في النية.
فعلى هذه التفاسير كلها تدل الآية على وجوب الحج والعمرة ابتداءا وإن
لم يكن شرع فيهما، والظاهر أنه لا خلاف عندنا فيه، ويدل عليه الأخبار أيضا
وعلى وجوب القربة في فعلهما، فيفهم وجوب النية فيهما وفي سائر العبادات لعدم
القائل بالفصل كما هو مذهبنا، فاندفع بها قول الحنفي بعدم وجوب النية، و
عدم وجوب العمرة، وأما دلالتها حينئذ على إتمام الحج المندوب، وإتمام الحج
الواجب الفاسد والعمرة كذلك كما قيل فليست بواضحة إلا بتكلف، نعم لا يبعد
وجوب إتمامهما في الفاسد بدليل وجوب أصلهما، وأصل عدم سقوط الباقي بالإفساد
والأصل بقاؤه.
ولكن ظاهر الآية مع قطع النظر عن التفاسير التي تقدمت وجوب إتمامهما
بعد الشروع، فتفيد وجوب إتمام كل منهما بعد الشروع فيهما ندبا أو مع الافساد

(1) الكافي ج 4 ص 264.
232

وحينئذ لا تدل على وجوبهما أصالة وقبل الشروع.
والعجب من صاحب الكشاف (1) أنه فسر أتموا الحج والعمرة لله بأتوا بهما تأمين
كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه الله من غير توان ولا نقصان، وسلم أن الأمر
باتمامهما أمر بأدائهما بدليل قراءة من قرأ " وأقيموا " مع أنها غير ظاهرة في ذلك
والقراءة غير ثابتة، وسلم أيضا أن الأمر للوجوب، وقال أيضا في آية الوضوء
تفسير لفظ واحد بمعنى الوجوب والندب مثل فاغسلوا إلغاز وتعمية، فلا يجوز
وقال: فإن قلت: فهل فيه دليل على وجوب العمرة؟ قلت: ما هو إلا أمر باتمامهما
ولا دليل في ذلك على كونهما واجبين أو تطوعين فقد يؤمر باتمام الواجب والتطوع
جميعا إلا أن نقول الأمر باتمامهما أمر بأدائهما، بدليل قراءة من قرأ " وأقيموا الحج
والعمرة " والأمر للوجوب في أصله إلا أن يدل دليل على خلاف الوجوب كما دل في قوله
تعالى " فاصطادوا " " فانتشروا " ونحو ذلك فيقال لك: فقد دل الدليل على نفي
الوجوب وهو ما روي أنه قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله العمرة واجبة مثل الحج؟ قال:
لا، ولكن أن تعتمر خير لك، وعنه صلى الله عليه وآله الحج جهاد والعمرة تطوع وقال والدليل
الذي ذكرنا أخرج العمرة من صفة الوجوب فبقي الحج وحده فيها، فهما بمنزلة
قولك: صم شهر رمضان وستة من شوال فإنك تأمره بفرض وتطوع.
وأجاب عن معارضتهما بقول ابن عباس إن العمرة لقرينة الحج بأن معناه
إن القارن يقرن بينهما، أو أنهما تقترنان في الذكر فيقال حج فلان واعتمر، وعن
المعارضة بقول عمر لرجل قال: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي أهللت
بهما جميعا: " هديت لسنة نبيك " بأن الرجل فسر كونهما مكتوبين بقوله أهللت
لأنه ارتكب تفسير الآية أولا بغير الظاهر، مع كونه خلاف الخبر الذي نقله.
ومنع حمل اللفظ على الوجوب والندب، معا، وقال إنه إلغاز وتعمية، و
ارتكبه هنا مع إمكان حملها على ما لا ينافي بل هو الظاهر كما مر، فإن ظاهرها
الأمر بالاتمام بعد الشروع وأشار إليه بقوله: " ما هو إلا أمر باتمامهما " ولا شك

(1) راجع ج 1 ص 261.
233

أنه مناف للمعنى الذي ذكره أولا وهو ظاهر، على أنه يبعد بل لا يجوز اخراج
الآية التي هي قطعية عن معناها بعد القول بذلك المعنى إلى معنى آخر، وحملها
على المجاز بمثل هذين الخبرين اللذين هما غير معلومي الصحة، ولا ظاهري
الدلالة، بحيث يقتضي ترك القاطع بسببهما، إذ نفي وجوب مثل وجوب الحج لا يدل
على نفي مطلق الوجوب دلالة يقتضي ذلك وكذا كون الاتيان بالعمرة خيرا لا ينفي
وجوبها مطلقا وكذا كون الحج جهادا، والعمرة تطوعا لاحتمال التطوع وجوبا
لا يكون مثل وجوب الجهاد، مع أنه لا عموم لهما، لاحتمال أن يكون المراد عمرة
بعد فعل الحج مع عمرته مفردا أو قارنا أو متمتعا، يعني لا تجب عمرة أخرى غير
التي لا بد منها مع الحج مقدمة أو مؤخرة، مع أنه سلم معارضتهما بقول ابن
عباس وعمر.
وبالجملة ترك القرآن القاطع لا يمكن إلا بقاطع إما من حيث المتن أو
الدلالة وأما الجواب عن المعارضة بقول ابن عباس وعمر مع أنها غير موجهة
إذ قد يكون ذلك رأيه، والهداية لسنة النبي صلى الله عليه وآله لا يستلزم الوجوب وكذا تسليم
عمر مكتوبيته مع أنها مبينة بالسنة ويجوز كونها باعتقاده وفهمه سنة، ولأنه
ليس مما يصلح للمعارضة بخبر النبي صلى الله عليه وآله وهو ظاهر لأنه يطرح قول عمر عند
قوله، ولأنه ليس معنى خبر ابن عباس أنهما مقارنان في الذكر أو القارن يقرن
بينهما بل أنهما مقارنان في أحكام الشرع، وهو ظاهر، وأيضا ليس أهللت تفسيرا
للمكتوب وهو أيضا ظاهر، فإنه مرتب عليه، ولهذا نقل في بعض النسخ فأهللت.
والعجب من القاضي أيضا أنه سلم المعارضة حيث قال بوجوب العمرة للآية وأجاب
عن الخبر بأنه معارض حيث قال وما روى جابر عنه صلى الله عليه وآله قيل: يا رسول الله إلى
آخر ما نقلناه معارض بما روي أن رجلا إلى آخر خبر عمر، وأجاب عن كون
أهللت تفسيرا بما قلناه من أنه رتب الاهلال على الوجدان، وهو ظاهر.
الحصر والاحصار هو المنع كالصد والاصداد، قال في الصحاح (1) حصر

(1) الصحاح ج 2: 632 وفيه: الحصر بالضم اعتقال البطن تقول منه: حصر
الرجل الخ.
234

الرجل وأحصر على ما لم يسم فاعله، قال ابن السكيت أحصره المرض إذا منعه
من السفر أو من حاجة يريدها، قال الله تعالى " فإن أحصرتم " ثم قال: وقد حصره
العدو يحصرونه إذا ضيقوا عليه وأحاطوا به، وحاصروه محاصرة، وحصرت الرجل
فهو محصور أي حبسته قال وأحصرني بولي وأحصرني مرضي: أي جعلني أحصر نفسي
قال أبو عمرو الشيباني حصرني الشئ وأحصرني أي حبسني فقد علم أنه في الأصل
المنع عن الشئ مطلقا سواء كان المانع المرض أو العدو، ولكن الظاهر مما قيل في
سبب نزوله من أنه نزل في الصد في الحديبية وقوله تعالى " فإذا أمنتم " أن المراد
به هنا هو الصمد بالعدو، وقوله " حتى يبلغ الهدي محله " يدل على أنه بالمرض
إذ البعث إنما هو في المرض عند أصحابنا وأما حكم الصد بالعدو، عند أصحابنا
والشافعي فهو الذبح موضع الصد، كما بين في الفقه، ونقل من فعله صلى الله عليه وآله
ذلك في الحديبية، وهي من الحل على ما قالوا، وحمل الآية على بلوغ الهدي
موضعا يحل ويبيح ذبحه فيه، حلا كان أو حرما، كما هو مذهب مالك والشافعي
بعيد جدا لأنه تصير لفظة حتى والبلوغ لغوا وكذا المحل لحصول الاجمال مع
الزيادة، إذ المناسب حينئذ الاختصار على " فما استيسر من الهدي " أو يضم إليه
" فيه " يعني فعليكم ذبح هدي ميسر في ذلك المكان حينئذ وأما عند أبي حنيفة فلا
فرق بينهما، ومحل الهدي هو الحرم وزمانه متى شاء فالبعث متحقق عنده فيهما
في بعض الأوقات، بأن يكونا في الحل لا في الحرم، فيرد عليه أيضا الاشكال الذي
ورد على الشافعي في الجملة على أنه ينافيه فعله صلى الله عليه وآله في الحديبية بناء على أنه
من الحل على ما قالوه.
وأما أصحابنا فكأنهم يجعلونه مخصوصا بالمرض، وما يسلمون سبب النزول و
يجعلون " أمنتم " بمعنى أمنتم من المرض فقط أو العدو أيضا وإن لم يكن منع العدو
مذكورا بخصوصه ويجعلون مكان الهدي في العدو موضعه وزمانه زمان إرادة التحليل
قبل أن يفوت الحج ويخصون ذلك باسم الصد سواء كان في الحج أو العمرة، وفي
المرض: منى، يوم النحر إن كان حاجا ومكة، الساعة التي وعدهم فيها إن كان
235

معتمرا، فلا بد فيه من البعث لأنه ممنوع عن الوصول إلى محل الذبح المذكور
فرضا، فعندهم فرق بينهما بذلك وبغيره أيضا مثل حصول التحلل في المصدود، من
كل ما حرمه الاحرام حتى النساء كما حصل للنبي صلى الله عليه وآله ولأصحابه في الحديبية
بخلاف المحصور فإنه لا يحل له النساء حتى يطوف طوافهن بنفسه إلا أن لا يحصل
له المضي إلى مكة فيستنيب.
ودليلهم على ذلك وباقي الأحكام من المشتركة والمختصة - مثل وجوب نية
التحلل بالذبح، وأوجب بعضهم الحلق أو التقصير أيضا معه للتحلل كالشيخ زين
الدين في شرح الشرايع استدلالا بالآية المذكورة، ولا دلالة فيها بل على عدمه
كما سيظهر - أخبار عن أهل البيت عليهم السلام مثل صحيحة معاوية بن عمار وحسنته عن
أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول المحصور غير المصدود، المحصور المريض، والمصدود
الذي يصده المشركون كما ردوا رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه ليس من مرض، و
المصدود يحل له النساء، والمحصور لا يحل له النساء.
قال: وسألته عن رجل أحصر فبعث بالهدي قال: يواعد أصحابه ميعادا، إن
كان في الحج فمحل الهدي منى يوم النحر، فإذا كان يوم النحر فليقصر من رأسه
ولا يجب عليه الحلق حتى يقضي المناسك، وإن كان في عمرة فلينظر مقدار دخول
أصحابه مكة، والساعة التي يعدهم فيها، فإذا كان تلك الساعة، قصر وأحل و
إن كان مرض في الطريق بعد ما أحرم فأراد الرجوع إلى أهله رجع ونحر بدنة
أو أقام مكانه حتى يبرء إذا كان في عمرة، وإذا برئ فعليه العمرة واجبة، وإن
كان عليه الحج رجع أو أقام ففاته الحج فإن عليه الحج من قابل، فإن الحسين
ابن علي خرج معتمرا فمرض في الطريق فبلغ عليا عليه السلام ذلك وهو في المدينة فخرج
في طلبه فأدركه بالسقيا (1) وهو مريض بها فقال يا بني ما تشتكي؟ فقال أشتكي
رأسي فدعا علي عليه السلام ببدنة فنحرها وحلق رأسه ورده إلى المدينة فلما برأ من

(1) السقيا بالضم موضع بين المدينة ووادي الصفراء.
236

وجعه اعتمر قلت أرأيت حين برأ من وجعه قبل أن يخرج إلى العمرة حل له النساء؟
قال لا يحل له النساء حتى يطوف بالبيت وبالصفا والمروة. قلت فما بال رسول
الله صلى الله عليه وآله حين رجع من الحديبية حلت له النساء، ولم يطف بالبيت؟ قال ليسا سواء
كان النبي صلى الله عليه وآله مصدودا والحسين محصورا (1).
ومثله صحيحته أيضا قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول المحصور غير المصدود
وقال: المحصور هو المريض، والمصدود هو الذي يرده المشركون كما ردوا رسول
الله صلى الله عليه وآله ليس من مرض، والمصدود تحل له النساء، والمحصور لا يحل له النساء (2)
وغير ذلك من الأخبار.
ولا شك في دلالة الأخبار على المطلوب كما ترى، ولكن في الرواية الأولى
دلالة على جواز النحر بل وجوبه موضع الحصر، ولا يجب البعث وهو خلاف ما
ذهب إليه الأصحاب وأيضا في متنها أشياء حتى أنه فعل يتوهم المنافاة بين أولها وآخرها
مما نقل عن فعله عليه السلام بالحسين عليه السلام وأيضا فيها تغيرات ففي التهذيب غير الذي
في الكافي وفي الفقيه غيرهما (3) فإن فيه أنه فعل الحسين ذلك بنفسه لا أمير المؤمنين
عليه السلام وفي التهذيب فيها زيادة بعد قوله " فإن عليه الحج من قابل ": " فإن ردوا
الدراهم عليه، ولم يجدوا هديا ينحرونه وقد أحل، لم يكن عليه شئ ولكن يبعث
من قابل ويمسك أيضا ". والأصحاب حملوها على أنه محل ولا يبطل إحلاله، ولكن
يبعث الهدي في قابل ويمسك عما يمسك عنه المحرم من حين البعث، ومثلها ما في
رواية غير صحيحة في الكافي قلت له - أي لأبي جعفر عليه السلام أرأيت إن ردوا عليه دراهمه ولم
يذبحوا عنه، وقد أحل فأتى النساء؟ قال: فليعد أي ثمن الهدي وليمسك الآن
عن النساء إذا بعث (4).

(1) الكافي ج 4 ص 369.
(2) الفقيه ج 2 ص 304 وهو صدر الحديث الأول.
(3) راجع الفقيه ج 2 ص 305، التهذيب ج 1 ص 567.
(4) الكافي ج 4 ص 371.
237

فقال بعض لا يعقل وجوب الامساك بعد تحقق التحلل فحمل على الاستحباب
وقال بعض إنه لا استبعاد بعد وقوعه في النص وأنت تعلم أن قوله عليه السلام فإن ردوا
الدراهم عليه لا يدل على أنه محل حتى يرد الاستبعاد، ويحتاج إلى التكلف في
دفعه، بل الظاهر أن معناه ما عليه إثم ولا كفارة، ولكن يبعث ويكون محرما
ممسكا عما يمسك عنه المحرم، كما كان قبل البعث، إذ قد يراد بقوله " وقد أحل "
أنه فعل أفعال المحل واعتقد أنه محل ويؤيده " فأتى النساء " في الثانية. على
أن هذه الزيادة ليست بموجودة في غير التهذيب، والثانية ضعيفة، فلو لم يكن لهم
دليل على ذلك من إجماع ونحوه لم يبعد القول بما ذكرناه فيندفع الاشكال.
وأيضا يمكن القول بالتخيير في المحصور بالمرض وحمل فعله عليه السلام بالحسين
على الجواز وكذا البعث بمعنى أحد الفردين الواجبين على التخيير حتى يندفع
التنافي بين الروايات، بل بين أول هذه الرواية وآخرها كما وقع في التهذيب و
الكافي فإن فيها فعل أمير المؤمنين عليه السلام هو الذبح مكان الحصر مع التصريح قبله
بالبعث.
فالمعنى على ما يفهم من رأي الأصحاب فإن منعتم بالمرض من الحج أو العمرة
بعد كونكم محرمين بأحدهما، وأردتم الاحلال أو مطلقا كما هو الظاهر من اللفظ
فعلى الثاني يكون الاحلال بالهدي واجبا أراد التحلل أم لا، وعلى الأول على
تقدير الإرادة، والثاني هو المفهوم من ظاهر الآية والأول هو المفهوم من كلام
الأصحاب فعليكم أو فالواجب عليكم أو فاذبحوا أو اهدوا أو ابعثوا للتحلل ما استيسر
من أي نوع كان من الهدي إبلا أو بقرة أو شاة أي فتحللوا إذا ظننتم ذبح الهدي
فما إما خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، أو مفعول فعل محذوف والجملة
جزاء " إن أحصرتم ".
ويحتمل كون الحصر بمعنى المنع المطلق كما في اللغة لا بالمعنى المصطلح
عندهم، فيكون التقدير " ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله " إن بعثتم كما
في المريض وحتى يذبح في محله إن كان المنع بالعدو كما وقع في الحديبية فتركه
238

في الآية لوقوعه في الحديبية وظهوره وبيانه بالأخبار كما في سائر الآيات، أو
يجعل بلوغ الهدي محله كناية عن حصول ذبحه في محله في العدو، محل الصد، وفي
المرض ما مر ويكون ذلك البيان مستفادا من الأخبار، ومع أنه غير بعيد من الفهم
لدلالة العقل على عدم البعث حين الصد بالعدو غالبا، ولعل معنى " ولا تحلقوا
رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله " لا تحلوا مما أحرمتم ولا تخرجوا من الاحرام حتى
يبلغ هديكم الواجب عليكم للتحليل في المحل الذي يحل ويجوز ويباح ذبحه
أو نحره فيه، بمعنى عدم التحريم فلا ينافي الوجوب في ذلك المحل وهو مكة إن
كان محرما بالعمرة، ومنى يوم النحر إن كان محرما بالحج، فالحلق الذي هو
أقوى ما يحصل به الاحلال أطلق وأريد منه ذلك أو يكون بمعناه يعني لا تحلقوا
إلى ذلك الوقت، ويفهم غيره أيضا بالمقايسة أو يقدر: ولا تفعلوا شيئا من محرمات
الاحرام، ولعل الأول أولى.
ثم اعلم أن هنا أبحاثا:
الأول: هل الهدي واجب على الممنوع مطلقا أو مقيدا بإرادة التحلل الظاهر
من الآية الأول فيجب الذبح والتحلل أيضا وتقييد القاضي وغيره الآية بقوله:
إن أردتم التحلل كما أشرنا إليه غير ظاهر الوجه.
الثاني: هل هو مخصوص بصورة عدم الشرط وقت الاحرام بقوله حلني حيث
حبستني أو مطلق، الظاهر هو الثاني لعدم القيد في الآية، وعدم ثبوت المخصص ومجرد
الاشتراط لا يدل عليه إذ قد يكون فائدته مجرد حصول الثواب أو غيره، والأول
مذهب السيد المرتضى وهو بعيد عنه، لعدم خروجه عن الآية إلا بيقين ولا يقين
وهو يفهم من الفقيه أيضا وفي صحيحة حمزة بن حمران الذي ما وثق بل قيل له كتاب
في باب الحصر من الفقيه سئل أبو عبد الله عليه السلام عن الذي يقول حلني حيث حبستني
فقال: هو حل حيث حبسه الله عز وجل، قال أو لم يقل، ولا يسقط الاشتراط عنه
الحج من قابل (1) وكذا في حسنة زرارة في التهذيب في باب الاحرام هو حل إذا

(1) الفقيه ج 2 ص 306.
239

حبسه اشترط أو لم يشترط (1) دلالة ما على سقوط الهدي مع الشرط وبدونه، ولكن
يقيدان بالآية، ويؤيده عدم السقوط بدون الشرط بالإجماع على الظاهر، ولصحيحة
محمد بن مسلم ورفاعة عن أبي عبد الله عليه السلام أنهما قالا: القارن يحصر، وقد قال و
اشترط " فحلني حيث حبستني " قال يبعث بهديه، قلنا هل يتمتع من قابل؟ قال:
لا، ولكن يدخل في مثل ما خرج منه (2) فإن فيهما دلالة على عدم السقوط وفيهما
دلالة أيضا على عدم إجزاء التمتع عن القران، فلا يصح العدول مطلقا أيضا، و
ذلك مذهب البعض وليس بجيد.
الثالث: هل يتحقق الاحلال بمجرد حضور وقت المواعدة لنائبه في الذبح
أو لا بد من تقصير أو حلق مع نية التحلل بهما؟ أكثر الروايات خالية عنه والأصل
أيضا مؤيد، ولكن الاستصحاب يقتضي البقاء على الاحرام حتى يتحقق المحلل (3)
وصحيحة معاوية المتقدمة حيث قال فيها فليقصر صريحة في وجوب التقصير وكذا قوله
فيها قصر وأحل يدل على وجوب التقصير فتأمل وكأنه لا قائل بتعينه فيكون واجبا
مخيرا بينه وبين الحلق، ويمكن استفادته من الآية حيث قال فيها " ولا تحلقوا " أي
لا تحلوا بمعنى لا تفعلوا شيئا يحللكم حتى يبلغ، فيفهم من الغاية حينئذ وجوب
فعل المحلل وليس إلا الحلق أو التقصير أو أنه نفى وجوب الحلق إلى حين بلوغ
الهدي، فيكون التقدير فاحلقوا بعد البلوغ فتأمل أو يقال يكفي انتهاء التحريم
فيفهم جواز الحلق بعده، ويحتمل أن يكون المراد كما هو الظاهر لا تفعلوا من
محرمات الاحرام حتى يبلغ ثم يحل ذلك لكم بمعنى رفع الحظر والمنع والتحريم
فيفهم جواز الحلق بعد البلوغ، فلا يكون التقصير متعينا وقد علم كونه واجبا
فيكون الحلق مثله فتأمل.
الرابع: هل النية واجبة لهذا الحلق أو التقصير وشرط بحيث إذا انتفت

(1) التهذيب ج 1 ص 469.
(2) راجع التهذيب ج 1 ص 568 الفقيه ج 2 ص 305، الكافي ج 4 ص 371.
(3) وتحققه بمجرد حصول الوقت غير ظاهر، منه رحمه الله.
240

انتفى التحلل. الظاهر من كلام الأصحاب ذلك، ولعل دليلهم الاجماع أو الاحتياط
أو كونه عبادة فلا بد لها من نية، وبالجملة استفادة التحليل على الوجه الذي يفهم
من فتوى الأصحاب لا يخلو من مناقشة وإن كان الاحتياط يقتضيه.
الخامس: هل يحل له كل ما حرمه الاحرام أم لا؟ ظاهر الآية هو العموم
حيث قيد بقاء التحريم إلى بلوغ الهدي، فيرتفع المنع المتقدم وهو الظاهر وإن
لم يكن نصا إلا أنه في بعض الروايات الصحيحة مثل صحيحة معاوية ما يدل على
بقاء تحريم النساء حتى يطوف بالبيت ويسعى بنفسه، وإن تعذر فبنائبه، وإن
أمكن مع إمكانه أيضا إذا لم يتفق وصوله إلى مكة وهو ظاهر من كلام الدروس
والأصل خلافه، حتى يثبت بالدليل، فإن ظاهر الرواية الدالة على وجوب
الطواف للتحليل هو طوافه بنفسه، وغيره لا يجزئ إلا بالدليل، وأيضا الظاهر
أنه طواف الزيارة، ولهذا قال حتى يطوف بالبيت وبالصفا والمروة أي يسعى
فالحمل على طواف النساء وتجويز النيابة مع القدرة كما فعله فيه محل التأمل.
السادس: أن هذا الطواف هل هو شرط إذا كان الحصر في العمرة المتمتع
بها أم لا؟ قال: في الدروس بالثاني للأصل، وعدم وجوبه فيها، فإنه يحصل تحلل
النساء بمجرد التقصير، وهو محل التأمل إذ ظاهر الروايات عامة وما علم أن المراد
طواف النساء لما مر، على أن عدمه فيها إذا حصل جميع أفعالها لا يدل على عدمه
فيها، إذا لم يحصل ذلك، ولهذا ما كان التحلل محتاجا إلى الهدي هناك، وهنا
يحتاج إليه، وأيضا ما كان الحلق هناك جائزا وهنا يجب، ويصير محللا، وبالجملة
بعد ثبوت الدليل لا يبقى للاجتهاد والاستبعاد محل.
السابع: الظاهر جواز الذبح للمحصور أيضا في مكانه، وليس بعيدا من
الآية ويدل عليه فعل أمير المؤمنين والحسين عليهما السلام كما مر فيكون مخيرا بين
البعث والذبح مكانه كما هو مذهب ابن الجنيد المنقول في الدروس وإن احتمل
الجمع بالقارن وغيره بأن يكون البعث واجبا في الأول والذبح في الثاني، ولكن
الظاهر أنه بعيد، لأن الآية تصير مختصة بحكم بعض الحاج والمعتمر، أي القارن
241

منهما، وأيضا يدفعه فعل الحسين عليه السلام كما نقله في الفقيه في باب الحصر (1) أنه
عليه السلام كان ساق الهدي بدنة ونحرها في مكانه، وكذا الحمل على التطوع
والواجب.
الثامن: هل يكفي هدي القارن عن هذا أم لا؟ ظاهر الآية ذلك وكذا
بعض الأخبار كما مر في صحيحتي محمد ورفاعة وغيرهما وبعض الأصحاب أوجب
الاثنين وورد به رواية مثل صحيحة معاوية في الفقيه فتحمل على الندب أو على وجوب
السوق بنذر وشبهه وإلا فالظاهر أن الواحد يكفي كما مر.
التاسع: هل يجب تقسيم هذا الهدي مثل هدي التمتع أو صرف كله على
الفقراء، أم لا يجب شئ؟ الظاهر العدم، بل يكون ملكا له للأصل، وإنما وجب
الذبح وهو لا يدل على صرفه إلا أن يدعى أن الغرض من ذبحه حصول النفع
للفقراء لا مجرد الذبح، ولا كونه بدل هدي المتمتع بالحج، ولهذا يجب في
غيره، ولعل الاحتياط في صرفه، لكن مع نية الاهداء في ثلثه، ونية التصدق
أيضا والتصدق بالباقي.
العاشر: لو ظهر خلاف المواعدة بأن لم يكن نائبه ذبح الهدي أصلا، أو ذبحه
بعد تحلله، فالظاهر عدم شئ إذ الظاهر أنه مأمور بالاحلال بحصول ظن البلوغ
فما يضر ظهور عدمه بعده، وهو ظاهر الآية والأخبار مثل صحيحة زرعة (2) في
باب الزيادات من التهذيب وأخبار الحصر حيث قال فيها: وإن اختلفوا في الميعاد لم يضره
إنشاء الله لكنها مضمرة وزرعة واقفي وإن كان ثقة إلا أنه بعينه موجود في صحيحة
معاوية بن عمار في الفقيه في باب الحصر (3) ويمكن أن يحمل على عدم حصول ضرر
بتحلله، بل يبقى محلا، ولكن يجب عليه بعث هدي آخر إن لم يكن ذبح أصلا
ويمسك حينئذ عن محرمات الاحرام إما وجوبا تعبدا أو مندوبا ويحتمل الوجوب

(1) فقيه من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 305.
(2) التهذيب ج 1 ص 568.
(3) المصدر ج 2 ص 305.
242

من حين البعث والامساك حينئذ عن النساء فقط كما هو ظاهر الأصحاب ويؤيده
وجود الامساك بعد البعث فقط (1) في الرواية الصحيحة (2) ولفظه " الآن إذا بعث " في
غير الصحيحة (3) أو يحمل على عدم وجوب كفارة بمعنى أنه ما صار محلا بل محرما
لا شئ عليه لجهله، مع العمل بالمأمور به، ولكن لا يفعل بعده شيئا ينافي الاحرام
حتى يبلغ مثل ما كان [في الكافي]، وليس ببعيد من الآية والأخبار إذ يمكن
كون معنى الآية حتى يبلغ الهدي محله في نفس الأمر، ولكن يكتفي بالظن ما لم
يعلم خلافه فتأمل.
الحادي عشر: هل لهذا الهدي بدل أم لا فيبقى محرما حتى يوجد؟ نقل
في الدروس عن شيخ ذلك، وعن ابن الجنيد خلافه وظاهر الآية مع الشيخ، و
لكن لزوم الحرج والضيق المنفي والشريعة السهلة تدل على مذهب ابن الجنيد
وكذا حسنة معاوية بن عمار، بل لا يبعد أن يقال: صحيحته لأن وجه الحسن
هو إبراهيم بن هاشم أبو علي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في المحصور
ولم يسق الهدي قال ينسك ويرجع، فإن لم يجد ثمن هدي صام (4) أي يذبح الهدي
فيرجع وإن لم يجد هديا ولا ثمنا صام بدله وتحلل، فحينئذ يكون الصوم بدله
ويدل أيضا عليه صحيحة معاوية بن عمار في الفقيه قيل: فإن لم يجد هديا قال أي
أبو عبد الله عليه السلام: يصوم، (5) لكن كانت في القارن لعل لا قائل بالفرق.
وأما مقدار الصوم فيحتمل عشرة لأنه بدل الهدي، ويكون الصوم إشارة
إليه أو ثلاثة أو ما يصدق، وهو الظاهر للصدق، وأصل عدم الزيادة، والأول أحوط
وأحوط منه البقاء حتى يتحقق أو يأتي بأفعال ما أحرم له ويحتمل الانتقال إلى العمرة

(1) ههنا وقع سقط في النسخة المطبوعة نحو سطر.
(2) هي رواية معاوية ابن عمار كما مر عن الفقيه والتهذيب والكافي.
(3) هي خبر زرارة كما في الكافي ج 4 ص 371، وقد مر أيضا.
(4) الكافي: ج 4 ص 370، تحت الرقم 5 من باب المحصور والمصدور.
(5) الفقيه الباب 210 تحت الرقم 3.
243

المفردة كما يقوله الأصحاب فيمن فاته الحج، وهذه الحسنة تدل على جواز
الذبح في مكان للمحصور، وإجزاء هدي السياق عن هدي التحلل.
الثاني عشر: هل هذا الحكم مخصوص بالمريض أو جار في كل من يعجز
بغير العدو مثل مكسور الرجل، وفائت النفقة، والضال عن الطريق؟ الظاهر
ذلك لعموم الآية وبعض الأخبار، وإن كان في البعض تصريح بأن المحصور هو
المريض، ولكن في صحيحة البزنطي المذكورة في زيادات الحج من التهذيب بعد
أخبار الحصر بأوراق وهي مذكورة في الكافي أيضا في باب الحصر عن أبي الحسن
عليه السلام عن محرم انكسرت ساقه أي شئ حل له، وأي شئ [حرم] عليه؟
قال: هو حلال من كل شئ فقلت من النساء والثياب والطيب؟ فقال نعم من جميع
ما يحرم على المحرم، وقال: أما بلغك قول أبي عبد الله عليه السلام " وحلني حيث حسبتني
لقدرك الذي قدرت علي "؟ قلت أصلحك الله ما تقول في الحج؟ قال: لا بد أن
يحج من قابل، قال: قلت: فأخبرني عن المحصور والمصدود، هما سواء؟ قال:
لا، قلت: فأخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وآله حين رده المشركون قضى عمرته؟ فقال: لا
ولكنه اعتمر بعد ذلك (1).
فيمكن تقييدها ببعد ذبح الهدي أو البعث للجمع، ومع ذلك يبقى الحكم
بحل النساء من غير طوافهن مخالفا لحكم المحصور إلا أن يحمل ما يدل عليه على
الاستحباب وهو غير بعيد، سيما للآية، لكن الظاهر أنه ما ذهب إليه أحد من
الأصحاب في المحصور، أو يحمل تلك على غير المشترط وهذه عليه، كما هي ظاهرة
فيه، ولا يبعد اخراج منكسر الساق بخصوصه عن حكم المحصور للخبر، وجعل
الباقي تحت المحصور كما هو الظاهر من اللغة، وحصر المحصور في المريض كما
في بعض الروايات وظاهر عبارات الأصحاب إما للتغليب، أو إرادة غير المنع
بالعدو، حيث قوبل بذلك، وبالجملة هو أحسن لأن الاحرام ثابت والخروج
عنه [بغير محل] مشكل وبقاؤه كذلك موجب للعسر والضيق المنفي عقلا وشرعا

(1) الكافي ج 4 ص 369. التهذيب ج 1 ص 580.
244

مع شمول الحصر له لغة بل عرفا فتأمل.
ولا يخفى أنه يفهم من هذا الخبر أيضا الفرق بين المحصور والمصدود وأنه
لا قضاء للعمرة، إذ لا وقت له، وكذا في الحج، وأن الاشتراط موجب للتحلل في
الجملة من غير محلل، وأن الاشتراط مما لا ينبغي تركه فتأمل.
الثالث عشر: قال بعض الأصحاب إن التحلل المذكور في الحج مقيد بعدم
فواته فإذا صبر حتى فات الحج فعليه العمرة للتحلل بأن ينتقل بنيته من الحج
إلى العمرة، أو أنه ينتقل من غير نية واختيار، على الخلاف عندهم، وإذا حصر
عنها أيضا فيتحلل عن العمرة بالهدي وظاهر الآية وأخبار الحصر عام غير مقيد
بذلك، والروايات الدالة على وجوب العمرة على من فاته الحج على تقدير صحتها
وتسليم دلالتها غير دالة على محل النزاع بحيث تخصص الآية والأخبار الصحيحة
كما فهمت من شرط (1) تخصيص الكتاب فتذكر.
الرابع عشر: أنه لو لم يحل والتحق فأدرك الحج بالوقوف المجزئ يجب
الحج وإن ذبح هديه، إن كان الحصر عنه وإن كان عن العمرة فكذلك وأما إذا فات
الحج في الأول ينبغي جواز التحلل بالهدي بناء على ما قلنا من العمل بعموم الآية
والأخبار، وعلى ما يفهم من قول الأصحاب يجب التحلل بالعمرة المفردة كما قاله
في الدروس لما رواه معاوية بن عمار في الصحيح في الفقيه في باب من فاته الحج عن
أبي عبد الله عليه السلام قال من أدرك جمعا فقد أدرك الحج، وقال: وأيما قارن أو مفرد
أو متمتع قدم وقد فاته الحج فليحلل بعمرة، وعليه الحج من قابل (2) ويمكن
تخصيص هذه الرواية بغير المحصور للآية وأخبار الحصر، ويمكن العكس أيضا
وفيه الاحتياط مع كثرت الأصحاب، لكم في الاحتياط تأمل. على أن فيه أيضا عن
داود الرقي صحيحا قال كنت مع أبي عبد الله عليه السلام بمنى إذ جاء رجل فقال إن قوما

(1) يعني ترك القرآن القاطع لا يمكن إلا بقاطع أما من حيث المتن أو الدلالة.
(2) الفقيه: ج 2 ص 284، وتراه في الكافي ج 4 ص 475 و 476، التهذيب: ج 1
ص 431.
245

قدموا وقد فاتهم الحج؟ فقال نسأل الله العافية أرى أن يهريق كل واحد منهم دم شاة
ويحلق وعليهم الحج من قابل إن انصرفوا إلى بلادهم، وإن أقاموا حتى يمضي
أيام التشريق بمكة ثم خرجوا إلى وقت أهل مكة فأحرموا منه واعتمروا، فليس
عليهم الحج من قابل (1) فهذه تدل على عدم عموم وجوب العمرة على التعين فيمكن
حملها على المحصور وفيها أمور أخر فتأمل.
الخامس عشر: أنه لو لم يتحلل ولحق، وفاته الحج وقد ذبح هديه، قال
في الدروس ففي الاجتزاء به أو بالعمرة وجهان قلت الظاهر هو الأول ولكن ينبغي
مع التقصير ونية التحلل به، على ما تقرر للآية، وبعض الروايات المتقدمة
وصحيحة زرارة في باب زيادات الحج من التهذيب في أخبار الحصر، عن أبي جعفر
عليه السلام إن قدم مكة وقد نحر هديه فإن عليه الحج من قابل أو العمرة (2) أي
إن قدمها بعد الذبح وفوت محل الحج فليس عليه إلا الحج مع عمرته في القابل
على الظاهر.
السادس عشر: بما يتحقق الحصر؟ معلوم تحققه بالمنع عن الموقفين معا
في الحج والظاهر عدم التحقق بالمنع عن أحدهما فقط، مثل أن حصر عن عرفة
فحصل له وقوف المشعر، أو وقف بها ثم حصر عنه، ويدل عليه ما ورد في الصد
في صحيحة فضل بن يونس الثقة في النجاشي المذكورة في باب زيادات الحج من
التهذيب بعد أخبار الحصر بأوراق، وهي مذكورة في الكافي أيضا في باب الحصر
قال: سألت أبا الحسن الأول عليه السلام عن رجل عرض له سلطان فأخذه ظالما له يوم
عرفة قبل أن يعرف، فبعث به إلى مكة فحبسه فلما كان يوم النحر خلى سبيله كيف
يصنع؟ قال يلحق فيقف بجمع، ثم ينصرف إلى منى، فيرمي ويحلق ويذبح، ولا
شئ عليه، قلت: فإن خلى عنه يوم الثاني (3) كيف يصنع؟ قال هذا مصدود

(1) المصادر الثلاثة المذكورة.
(2) التهذيب: ج 1 ص 567، وتراه في الكافي: ج 4 ص 370.
(3) في الكافي يوم النفر، راجع ج 4 ص 371.
246

عن الحج فإن كان دخل مكة متمتعا بالعمرة إلى الحج فليطف بالبيت أسبوعا و
يسعى أسبوعا ويحلق رأسه ويذبح شاة، وإن كان دخل مكة مفردا فليس عليه ذبح
ولا حلق، وفي الكافي ولا شئ عليه.
وهذه وإن كانت في الصد ولكن الظاهر عدم الفرق بينهما في ذلك وصدق
" فإن أحصرتم " لأن المراد الحصر عن الحج والعمرة، فما لم يكن المنع عما
يحصل به الحج والعمرة لم يتحقق الحصر عنهما.
وفي هذا الخبر فوائد:
الأولى عدم تحقق الصد إذا كان محبوسا بالحق وذلك يفهم من قوله ظالما
له بالمفهوم، وذكره الأصحاب أيضا ويدل عليه العقل والنقل أيضا وهو ظاهر. الثانية
إدراك الحج بإدراك المشعر اضطراريا كان أو اختياريا، لظاهر يوم النحر فإنه
يصدق على قبل طلوع الشمس وبعده، مع أنه سكت عن التفصيل، بل الظاهر
الاضطراري لأن الغالب أن المطلق من الحبس يوم النحر ما يصل إلى المشعر
قبل طلوعها، الثالثة عدم تحقق الصد بالمنع عن عرفة فقط، مع تيسر المشعر الرابعة
تحققه إذا أخرج من الحبس بعد فوت المشعر، الخامسة أنه لو كان بعد التعريف
أيضا لم يكن مصدودا لقوله: قبل أن يعرف. بل يكون حجه مجزيا بإدراك عرفة
وحدها أيضا مطلقا السادسة وجوب الذبح والحلق مع العمرة. السابعة: عدم وجوب
كفارة بفوت منسك بغير الاختيار، الثامنة: أن الواجب على المصدود بعد العمرة
المتمتع بها عن حج التمتع على الظاهر هو العمرة المفردة، لكن وجوب الذبح
أيضا وتعين الحلق، وذلك غير ظاهر من كلام الأصحاب ويمكن حمل الذبح على
الاستحباب، وعلى كونه هدي التمتع الواجب، وحمل الحلق على الاستحباب أو
على كون الحاج ضرورة لوجود ما ينافيه من جواز التقصير أيضا على ما ذكره
الأصحاب، التاسعة يمكن استفادة وجوب التحلل بالعمرة إذا لم يتحلل بالهدي
وفات الحج في المحصور أيضا كما يقوله الأصحاب قياسا على المصدود، العاشرة
أن الواجب هو العمرة فقط من دون الذبح والحلق إذا كان مصدودا عن الحج
247

المفرد أو عدم وجوب شئ أصلا إذا كان مفردا كما يدل عليه ظاهر الكافي بل قوله
في التهذيب " ولا حلق " إذ لو كان عليه عمرة لكان عليه الحلق، ولو تخييرا بينه و
بين التقصير إلا أن يقال: المراد نفي التعيين، فيفهم حينئذ القول بالتعيين في الاحلال
عن حج التمتع ولا يقول به أحد على الظاهر فتأمل الحادية عشر انتقال إحرام
الحج إلى إحرام العمرة من غير قصد واحتياج إلى النقل، كما هو مذهب البعض
الثانية عشر أنه يفهم عدم وجوب طواف النساء في هذه العمرة فتأمل.
ثم الظاهر أن الحصر لا يتحقق في ما لو ترك عمدا لم يضر في الحج مثل
مناسك منى، وطواف النساء، وأما في طواف الزيارة والسعي فلا يبعد التحقق
لصدق الحصر، لأن الظاهر من الآية الحصر عن تحقق الحج بالتمام، بمعنى أنه
إذا منع منه لم يأتي بالحج ناما، فينبغي حصول الحصر عنهما فيثبت أحكامه إلا أن
الظاهر من قوله " حتى يبلغ " أنه من البعيد كما يفهم من التفاسير وبعض الروايات
أيضا فلا يتحقق الحصر عنهما، ويدل عليه قول الأصحاب إنه إذا مرض بعد الموقفين
طيف به إن أمكن وإلا استناب، وأيضا إبطال هذا الحج مع تحقق الموقفين اللذين
هما العمدة، وبهما يتحقق الحج، وبفواتهما معا يبطل، وإيجاب هدي آخر
والحج في القابل، والطواف لإباحة النساء خلاف الأصل، وبعيد عن الشريعة
السمحة على ما يظهر، فلا يبعد حمل الآية على المنع عن شئ من الحج والعمرة
الذي به يتحقق وبفواته يبطل عمدا وسهوا لا عمدا فقط، وليس ذلك ببعيد، بل
هو الظاهر المتبادر.
فلا يتحقق الحصر في الحج إلا عن الموقفين أو عن أحدهما مع فوات الآخر
به، وعن العمرة لا يتحقق إلا عن الطواف، وأما الصد فلا شك في تحققه أيضا
عما يتحقق عنه الحصر، وكذا في عدم التحقق عن مناسك منى فقط، بل عن
الطواف أيضا سواء كان قبل التحلل أو بعده، لما مر في الحصر، والأصل، وعدم
العلم بتحقق موجبه، وعدم الفرق بحسب الظاهر فتأمل فإن الظاهر عدم الفرق في
هذه الأحكام بينهما.
248

وأما حكم المصدود فإن قلنا باندراجه في الآية كما أشرنا إليه - وقاله في
مجمع البيان حيث قال وقوله " فإن أحصرتم " فيه قولان أحدهما معناه إن منعكم
خوف أو عدو أو مرض فامتنعتم لذلك، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطا، و
هو المروي عن أئمتنا (1) وفيه بحث تقدم (2) وما رأيت رواية أصلا (3) لعله فقد
الأصل - فلا بحث في وجوب ذبح الهدي على الظاهر، وإن لم نقل باندراجه فيها
فكذلك أيضا لثبوت الاحرام وعدم العلم بالتحلل إلا بالذبح فيبقي بدونه على المنع
ومعه يتحقق كما هو الظاهر من مذهب الأصحاب، وللتأسي به صلى الله عليه وآله فيما فعل
في الحديبية كما دل عليه صحيحة معاوية بن عمار.
وأيضا قال بعد صحيحة معاوية بن عمار في الفقيه: وقال الصادق عليه السلام المحصور
والمصدود ينحران بدنتيهما في المكان الذي يضطران فيه (4) وهذا كما يدل على
وجوب الهدي على المصدود يدل على جواز النحر في المحصور أيضا مكانه كما
أشرنا إليه، ولا يبعد إدخاله في الآية حينئذ، وأيضا يدل على وجوب ذبح الهدي
على المصدود في مكانه رواية زرارة في الكافي في باب الحصر عن أبي جعفر عليه السلام قال:
المصدود يذبح حيث صد ويرجع صاحبه فيأتي النساء، والمحصور يبعث الخبر (5)
وكذا رواية حمران فيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله حين صد
بالحديبية قصر وأحل ونحر (6) لكنهما غير صحيحتين إلا أنه عمل بهما أكثر
الأصحاب ومؤيدان بغيرهما، وإن كان في دلالة الأخيرة تأمل.
وأيضا فيها دلالة على عدم الترتيب بين النحر والتقصير، والترتيب أولى

(1) مجمع البيان: ج 2: ص 290.
(2) من أن قوله تعالى: " حتى يبلغ الهدي محله " لا يناسب المصدود.
(3) يعني رواية دالة على كون الحصر بمعنى مطلق المنع الشامل للمرض والعدو.
(4) ينظران فيه خ، فقيه من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 305.
(5) الكافي ج 4 ص 371.
(6) المصدر: ص 368.
249

لغيرها، وللاحتياط، وأما وجوب الحلق أو التقصير كما اختاره بعض الأصحاب
مثل الشهيد في الدروس فدليله غير ظاهر والقياس باطل سيما مع الفارق وظاهر
الآية - مع عدم ورود ما يدل على وجوبهما حتى يؤول إليه الآية التي تدل على العدم -
مع الأصل، ولا استصحاب هنا، وأيضا ظاهر بعض الروايات حيث ما ذكر فيه الحلق أو
التقصير مع ذكر ذبح الهدي يدل عليه وأيضا يدل عليه ما ورد في صحيحة معاوية بن عمار
في بيان فعله صلى الله عليه وآله يوم الحديبية " نحر وأحل " إذ ظاهره وجوب الاحلال بالنحر فقط
نعم في رواية حمران المتقدمة ما يدل على فعله صلى الله عليه وآله ذلك، لكنها غير صحيحة، ولا
صريحة في أنه فعل على سبيل الوجوب حتى يثبت بدليل التأسي، نعم الاحتياط
يقتضيه، والاستحباب غير بعيد، وهكذا في وجوب ذبح الهدي في المكان الذي
صد فيه تأمل، وإن كان ظاهر صحيحة معاوية بن عمار ورواية زرارة وجوبه فيه
ولكن خلو غيرهما عنه وجواز الذبح بعد رجوعه إلى منزله في المحصور كما فهم
من صحيحة معاوية، مع عدم تعقل ظهور وجه الوجوب، قرينة عدم الوجوب فيه، و
إن قلنا إن الاحلال بالهدي واجب لا يجوز تركه، إلا أنه ما ثبت فوريته، فلا
يبعد جواز فعله في منزله أيضا بعد أن يرجع إليه كما اختاره في الدروس، ويفهم
من كلام الشيخ زين الدين في شرح الشرايع وجوبه في المكان الذي صد.
ثم الظاهر اتفاقهما في أكثر الفروعات التي أشرنا إليها في المحصور مثل
عدم الفرق بين الشرط وعدمه وعدم وجوب تعدد الهدي لو ساق مطلقا، ولو كان
واجبا بنذر وشبهه، وإن اختار البعض عدم التداخل مطلقا والبعض مع الوجوب
المذكور مثل الشيخ زين الدين لعدم الدليل إذ لا تعدد للموجب إذ الموجب أنه
يذبح هديا وهو عام، بل الظاهر ذبح الهدي الموجود كما مر، ووجوب الحج في
القابل مع الاستقرار، وعدمه مع عدمه، وكذا العمرة وغير ذلك من الأحكام
التي يظهر بالتأمل.
وأما الحكم فيما لو اجتمعا فعلى الاجمال أنه لو حصل أحدهما بعد حصول التحلل
بالأول فلا بحث، وإن احتمل ضعيفا وجوب الحلق أو التقصير على تقدير عدمهما
250

لو كان الأول الصد، وأما لو حصلا معا فعلى ما ذكرناه من النحر في مكان المنع
فيهما لا يبعد وجوب اختيار حكم الحصر إن لم يوجب الحلق أو التقصير على المصدود
لوجوده في الآية محققا على ما مر، ودخول أفعال الصد فيه، والاحتياط.
ويحتمل وجوب أحكامهما معا للموجب لكنه بعيد، إذ الظاهر أن الغرض
التحلل، ولهذا قال المفسرون: المراد إن أردتم التحلل فما استيسر، وليس بذلك
البعد، لو كان البعث متعيبا في الاحصار والذبح في المكان، والتصدق به في الصد
ولا شك أنه أحوط والتخيير أيضا بعيد، لوجوب موجب القصر أو الحلق، والبعث
على الاحتمال، وعدم تحلل النساء حتى يطوف، ويحتمل كون الأمر كذلك لو
شرع في بعض أفعال أحدهما فحصل الآخر قبل إتمامه أو لم يشرع أصلا، والظاهر
أنه يجب العمل بالأول لوجود أولا واستقراره، وعدم تحقق الآخر لأنه
ممنوع بالأول، فلا يتحقق المنع من الثاني، وهو ظاهر إذ المريض الذي لا يقدر
على الذهاب إلى الحج مثلا إذا حصل له عدو فيمنعه على تقدير برئه لا يقال له:
إنه منعه العدو.
وقد تحققت من هنا ما في قول الدروس: لو اجتمع الاحصار والصد
فالأشبه تغليب الصد لزيادة التحلل به (1) ويمكن التخيير وتظهر الفائدة في الخصوصيات
والأشبه جواز الأخذ بالأخف من أحكامها، لا فرق بين عروضهما معا أو متعاقبين
نعم لو عرض الصد بعد بعث المحصور أو الاحصار بعد ذبح المصدود ولما يقصرا، فترجيح
جانب السابق قوي. فتأمل فيما ذكرته وفيما ذكره يظهر لك ما فيهما.
ثم إن الأحكام المشتركة بينهما كثيرة مذكورة في الكتب الفقهية وكذا

(1) أي النساء فإنهن يحللن بذبح الهدي في الصد دون الحصر وقد مر، وفي كونه
سببا للترجيح تأمل بل يمكن جعله سببا للمرجوحية كما ذكرناه للاحتياط ووجود المنع منه والموجب
فتأمل وأيضا في قوله والأشبه جواز الأخذ بالأخف تأمل فإنه إن كان الصد فهو تكرار لا يحتاج
إليه وإن احتمل غيره فهو غير مناسب بعد اختيار الصد على أن الظاهر أن لفظ جواز لغو بل مضر
مناف لقوله يمكن التخيير إن اعتبر مفهومه فتأمل.
251

المختصة، والفرق بينهما، فلا يهم ذكرها فإنه يطول،
ولكن نذكر هنا مسألة
مهمة مما يعم به البلوى، متداولة بين طلبة العلم، منقولة عن شيخهم الشهيد الثاني
رحمه الله، وهي أنه إذا فعل الحاج ما يبطل حجه مثل ترك الطواف عمدا أو فعله
لا على الوجه المجزئ، ومثل ترك الوقوف عمدا أو جهلا أو وقف بعرفة من غير
ثبوت الهلال، وغيرها مما يفوت الحج ويبقى به على الاحرام، ورجع إلى حيث
يمنعه قطاع الطريق عن الذهاب إلى مكة أو عدم حصول الرفقة، والدليل ونحو
ذلك، فهو مصدود فيحل بذبح الهدي، ويتصدق به، لأنه يصدق عليه بعد رجوعه
إلى حيث يمنع: أنه ما يقدر على الذهاب إلى الحج للمنع عن الطريق، ولي في
هذا تأمل، فإن الاحلال بذبح الهدي حكم المصدود بالعدو بعد الاحرام، من غير
صد ومنع في موضعه عن مكة فقط أو الموقفين، قبل دخول مكة وترك شئ من
المناسك وخروجه منها مع لزوم عمرة عليه، وهذا ليس كذلك وهو ظاهر مع أن
قطاع الطريق لا يمنعه عن المنسك ومكة، بل يأخذ ماله، وكذا غيره من الموانع
وأيضا إنه ترك الحج والعمرة بعد أن كان متيسرا له إما عمدا أو جهلا حتى آل
أمره إلى هذا، وأيضا ما نجد له عزما وصدا بمنع العدو، بل قد لا يكون
له الميل إليه أصلا إما لعدم قدرته أو عدم تقيده وأيضا هو جالس في بيته والمفروض
أنه هو في الطريق وصد، وبالجملة الجرءة بمجرد هذا في مثل هذه المسألة مشكل
ولعل له دليلا. ثم ينبغي إيجاب التقصير أو الحلق مع النية بعد الذبح أيضا على
مذهبه وأيضا إيجاب تصدقه غير ظاهر، إلا أن يقول بذلك في الأصل.
والظاهر أنه أخذه من كلام الدروس حيث قال: " ولو ظن انكشاف العدو
تربص ندبا فإن استمر تحلل بالهدي إن لم يتحقق الفوات وإلا فبالعمرة ولو عدل
إلى العمرة مع الفوات فصد عن إتمامها تحلل أيضا، وكذا لو قلنا ينقلب إحرامه
إليها بالفوات، وعلى هذا لو صار إلى بلده ولما يتحلل وتعذر العود في عامه لخوف
الطريق، فهو مصدود، فله التحلل بالذبح، والتقصير في بلده " وأنت تعلم أن
252

كلام الدروس لا يدل عليه، لأن كلامه فيمن صد، ثم عرض له وجوب العمرة
بالفوات، نقل أو انتقل إليها، وأراد إتمامها فصد عنه، ولم يتحلل ورجع إلى
بلده، فدخل تحت المصدود من العمرة وأنه على تقدير الحاقه بالمصدود إنما يلحق
بالمصدود عن العمرة، لو قلنا بأن حكم كل من فاته الحج مطلقا مصدودا كان أو
غيره أن يعتمر، بأن ينتقل بنيته إليها أو ينتقل من غير اختياره ويتم أفعالها للتحليل
فإذا حصل له صد أو حصر عن باقي أفعالها يأتي بأحكامهما، لكن بشرط أن يقصد
ذلك بحيث لولا المانع لذهب، بل لا يبعد إيجاب السفر إلى جانب مكة، وعدم
التحلل حتى يتحقق المنع إلا أن يكون محققا علما لا ظنا فتأمل وأنه لو ارتفع
العدو بالمال لا يبعد وجوب بذله هنا، وإن قلنا بعدم وجوبه في أصل إيجاب الحج
والعمرة. ودفع الصد لفعله العمد هنا، وتقصيره ولو جهلا، لعدم العلم بأنه معذور
فتأمل سيما في الجاهل وقليل المال، فإنه قد يعذر.
وأما دليل الالحاق فعموم وجوب العمرة على من فاته الحج مثل صحيحة
معاوية بن عمار المتقدمة المنقولة عن الفقيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال من أدرك جمعا
فقد أدرك الحج وأيما قارن أو مفرد أو متمتع قدم وقد فاته الحج فليحل بعمرة
الحديث، وفيها دلالة على إدراك الحج بالمشعر، ولو كان اضطرارا كما مر، وعليه
خبر آخر صحيح على الظاهر ويدل على الانتقال من غير احتياج إلى النقل فتأمل
وينضم إليه عموم أدلة الصد على العمرة، فإنه يصدق عليه حينئذ فتأمل فيه، فإن
الظاهر من الأخبار أنه على الذي قدم مكة بعد مضي زمان الحج العمرة، وهو
غير شامل لما نحن فيه فتأمل وأن صدق الصد عليه غير ظاهر لما مر، وإن كان ممكنا
ومناسبا للشريعة السهلة وعدم الحرج والضيق، وإجراؤه فيمن أفسد الحج و
رجع إلى أهله من غير أن يفعل عمرة التحلل، وإتمام الحج الفاسد أبعد، هذا
منتهى نظري، وقد يكون له أدلة وشواهد وما أعلمها، بل هو الظاهر لأني
القاصر والمقصر.
وأما تفسير " فمن كان " الخ فهو ما يعلم من سبب نزوله على ما هو الموجود
253

في خبر صحيح في التهذيب والفقيه وفي الكافي أيضا لكنه غير صحيح، رواه حريز
عن أبي عبد الله عليه السلام قال مر رسول الله صلى الله عليه وآله على كعب بن عجرة الأنصاري والقمل
يتناثر من رأسه فقال أيؤذيك هوامك؟ فقال: نعم، فأنزل الله هذه الآية " فمن كان
منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " فأمره رسول الله
صلى الله عليه وآله بحلق رأسه، وجعل عليه صيام ثلاثة أيام، والصدقة على ستة
مساكين لكل مسكين مدان، والنسك شاة، وقال أبو عبد الله عليه السلام وكل شئ في
القرآن " أو " فصاحبه بالخيار يختار ما يشاء وكل شئ في القرآن " فمن لم يجد "
فعليه كذا، فالأولى بالخيار (1).
فدلت على أنه على تقدير حصول مرض يضر أو أذى في الرأس من هوامه و
إن لم يكن مرضا يجوز له الحلق، وفعل ما لا يجوز للمحرم فعله، إذا كان بسبب
الاحرام، وسببيته للمرض إما حصولا أو زيادة كيفا أو كما وبالجملة أن يكون
بحيث يفهم منه أن مثل هذا الضرر إنما هو منه، ولا يتحمل مثله عادة فالتقدير
فلكم أن تفعلوا ما به يندفع عنكم الضرر والأذى في الاحرام من الأمور التي يحرم
عليكم فعلها فيه، لو لم تكونوا مرضى ولم يكن بكم أذى من رأسكم، وإن فعلتم
فعليكم فدية، فلا تدل حينئذ على وجوب الفعل بل على جوازه أو يكون التقدير
فالواجب عليكم فدية، من غير تقدير شئ آخر، فيستفاد وجوب ذلك الفعل المنهي
حال الصحة إذ إيجابها من غير تقييده بشرط الفعل مستلزم لايجاب الفعل، وهو
ظاهر، وقد مر مثله في " فعدة من أيام أخر " فالمراد بالفداء البدل أي فعليه
بدل يقوم مقامه، فهي مبتدأ خبره محذوف، ويحتمل العكس، والتقدير فالواجب
فدية، وهذا أولى ليكون المبتدأ معرفة والجملة جزاء الشرط، أي فمن كان
و " من صيام " مع ما عطف عليه بيان ذلك البدل والفدية.

(1) التهذيب ج 1 ص 542، الكافي ج 4 ص 358، الفقيه ج 2 ص 228. وقد رواه
أصحاب الصحاح والتفاسير كما في صحيح البخاري ج 1 ص 310، الدر المنثور ج 1 ص 213
مجمع البيان ج 2 ص 291.
254

ودل الخبر على أن النسك شاة، وأن الصدقة إطعام ستة مساكين
لكل مسكين مدان، وهو مذهب الحسن وابن الجنيد على ما ذكره في الدروس
وأن الصوم صوم ثلاثة أيام، وهذا التفصيل مذكور في تفسير القاضي والكشاف
وفي مجمع البيان أيضا مع الإشارة فيه إلى أنه أشهر وأولى، حيث قال المروي عن
أئمتنا عليهم السلام أن الصدقة على ستة مساكين، وروي عشرة مساكين، هذا والمشهور
عند الأصحاب هو إطعام عشرة مساكين لكل واحد مد وقال في الدروس التخيير
قوي وكذا قال الشيخ زين الدين في شرح الشرائع للشهرة والخبر الصحيح
كأنه أشار إلى ما ذكرناه، والذي يدل على عشرة مساكين ما رواه عمر بن يزيد
عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال الله في كتابه " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من
رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " فمن عرض له أذى أو وجع فتعاطى ما لا ينبغي
للمحرم إذا كان صحيحا فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة على عشرة مساكين يشبعهم
من الطعام، والنسك شاة يذبحها فيأكل ويطعم، وإنما عليه واحد من ذلك (1)
وقال الشيخ وليس بين هذه الرواية والتي تقدمها تضاد في كمية الاطعام إلى قوله
هو مخير بأي الخبرين أخذ جاز له ذلك، إشارة إلى التخيير كما ذكره الشهيدان
وفي خبر آخر عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال إذا أحصر الرجل فبعث بهديه
فأذاه رأسه قبل أن ينحر هديه، فإنه يذبح شاة مكانه الذي أحصر فيه، أو يصوم أو
يتصدق على ستة مساكين، والصوم ثلاثة أيام، والصدقة نصف صاع لكل مسكين (2)
وهذا أيضا يدل على الأول إلا أنه في المحصور، وكذا خبر آخر وهو الظاهر
من الآية أيضا إلا أنها حملت على الأعم كما مر لعموم اللفظ، وسبب النزول، و
الظاهر عدم القائل بالفرق.
ثم إن الظاهر هو الأول لكثرة الأخبار وصحة الخبر مع شهرته رواية
فإنها منقولة في الكتب الأربعة، مع عدم شهرة رواية الثاني لأني ما رأيته

(1) التهذيب ج 1 ص 542
(2) الكافي ج 4 ص 370 و 371.
255

إلا في التهذيب (1) فساوى الشهرتان على تقدير كونها شيئا يعتد به في الجملة، و
بقي الصحة مع الكثرة سالمة، على أنها (2) مشتملة على جواز الأكل من
الكفارة للمكفر، وهو خلاف الظاهر والمقرر، وعلى لفظة " ينبغي " وهو لا
ينبغي، وأيضا ليس فيها لكل واحد مد كما هو المطلوب وأيضا في الأول زيادة
فائدة، وهو التخيير إذا كان " أو " والترتيب إذا كان " فمن لم يجد " وأن
الأولى هو المختار والأولى حينئذ، فيفهم منه بطلان مذهب من يذهب إلى خلاف
ذلك، كما قيل في كفارة شهر رمضان، وخصال كفارة بدل صيد النعامة، وهي
بدنة، ومع العجز يقوم البدنة، ويفض ثمنها على البر ويتصدق به لكل مسكين
مدان، فلو عجز صام عن كل مدين يوما، وإن عجز صام ثمانية عشر يوما، فإن
البعض يقول بالترتيب والبعض بالتخيير، وكذا في غيرهما من المسائل. وأيضا يمكن
الجمع بين الخبرين مع القول بالأول بأن يقال: قدر شبع عشرة قد يكون اثني
عشر مدا فيكون التخيير بين عدد المنفقين لا عدد الأمداد، كما ذكروه وأيضا
الأصل والاحتياط مع الأول.
بقي هنا شئ وهو أن ظاهر الآية ثبوت هذا الحكم في كل مرض يرتفع
بفعل ما نهي عنه المحرم حال صحته، بناء على ما تقدم من معنى الآية، وخصه
في مجمع البيان والكشاف وتفسير القاضي بمرض محوج إلى الحلق، وقوله تعالى
" فإذا أمنتم " أي فإذا أمنتم الموانع من العدو والمرض وكل مانع كذا في مجمع البيان
وفي تفسير القاضي والكشاف أمنتم الاحصار وكنتم في حال أمن وسعة، وقد فسر في
الكشاف الاحصار بالحبس والمنع المطلق من المرض والعدو والخوف، كما هو
مذهب الحنفي وفي القاضي بالمنع من العدو كما هو مذهب مالك والشافعي على
ما مر وظاهر أن الأول أولى إلا أن ظاهر البلوغ وأمنتم يأبى عنه، في الجملة
كما أشرنا فيما سبق، وغير بعيد حملها على وجه يوافق إما البلوغ فقد مر، وإما

(1) بل وكذا في الاستبصار ج 2 ص 196.
(2) على أن رواية الثاني خ ل.
256

الأمن فكما فهم من الكشاف ومجمع البيان، فإن الخلو من المرض أمن، وكذا
عدم الخوف وأيضا المرض ضيق وحرج والصحة أمن وسعة، كما أشار إليه القاضي
بقوله في حال أمن وسعة، والعجب منه أنه مع تخصيصه الاحصار بالعدو، وجعله
" أمنتم " مؤيدا لذلك، قال ذلك، وكأنه فهم من الكشاف وأخذه تقليدا من غير
تدبر، إلا أن يريد غير المعنى الذي ذكره في الكشاف فتدبر.
والحاصل أنه إذا لم تحصروا وتمنعوا، وكنتم في حال أمن قادرين على
الحج " فمن تمتع " أي استمتع وانتفع " بالعمرة " منتهيا " إلى الحج " واستمتاعه
بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى الله، قبل الانتفاع بتقربه إليه
بالحج وقيل (1) إذا حل من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرما عليه، إلى أن
يحرم بالحج. فوجب عليه ما تيسر وتهيأ من أصناف الهدي، وهي هدي المتعة
ودم التمتع الذي هو الواجب على المتمتع يذبحها أو ينحرها بمنى يوم النحر بعد
الرمي قبل الحلق أو التقصير، وفي تقسيمه أثلاثا: ثلث يتصدق به على المؤمن الفقير
وآخر يهدي إلى المؤمن ويؤكل من الآخر إما واجبا أو ندبا خلاف، وقد مر و
سيجئ تحقيقه إن شاء الله تعالى.
" ومن لم يجد " هديا فالواجب عليه صيام عشرة أيام ثلاثة (2) في الحج
وسبعة مطلقا بعد الرجوع. فمن شرط فعليه جزاؤه ولا بد في العجز عن الهدي
عدم وجدانه أصلا أو فقدان ثمنه، بمعنى عدم وجدان شئ زائد على ضرورياته عادة
حتى ثياب تجمله على ما ذكروه، ولكن لو تكلف فاشترى بثمن ثيابه أجزأ
قاله في الدروس، وفيه تأمل فإنه لو صدق عليه الوجدان لوجب وإلا تعين الصوم
ولعل نظر الدروس إلى أن الصوم حينئذ رخصة لا عزيمة، أو يجب الهدي بعد
بيع ثياب التجمل فتأمل، والظاهر المصير إلى العرف فما لم يضر بيعه بحاله، ولو

(1) أي وقيل تمتعه إلى وقت الحج هو أنه إذا حل الخ
(2) أعني متواليات للإجماع ظاهرا والخبر، ويؤيده القراءة وإن كانت شاذة منه رحمه الله
في هامش بعض النسخ وقد جعله في نص في المتن.
257

كان ثياب تجمله أو غيره لا يبعد وجوب بيعه وشرائه لظاهر " ما تيسر " فتأمل.
فإن لم يجد الهدي ولكن وجد الثمن، يخلفه عند ثقة يشتري به هديا يذبحه
أو ينحره طول ذي الحجة إن أمكن، وإلا في القابل، ذكره أكثر الأصحاب، و
إن كان ظاهر الآية يقتضي العمل بالصوم، على تقدير العجز بالفعل عن الهدي
وشرائه بنفسه كما هو مذهب الحسن (1) ظاهرا، حيث نقل عنه الاطلاق في وجوب
الصوم بعد العجز عن الهدي، ومذهب ابن إدريس أيضا، وهو الظاهر من الآية
فلو لم يكن دليل يصلح لخلافه لا يخرج عنه، ولا يقال بالتخيير أيضا كما هو مذهب
البعض والدليل حسنة حريز (2) ولا ينبغي الخروج عنه بمجردها وأيضا ظاهرها
إجزاء ما صدق عليه الهدي فاشتراط كونها ثنيا من البقر، وهو ما دخل في الثانية
ومن الإبل ما دخل في السادسة ومن الضان ما كمل له سبعة أشهر، وقيل ستة
وكذا اشتراط كونه تاما فلا يجزي الأعور ولا المريض والأعرج البين عرجه
ولا الأجرب، ولا مكسور القرن الداخل، ولا مقطوع الأذن ولو قليلا، ولا
الخصي ولا المجبوب وكذا اشتراط كونه سمينا بمعنى وجود الشحم على كليتيه (3)
ولو كان بالظن مع ظهور خلافه فلا يضر الخطأ المعلوم بعد الذبح بالأخبار ولعل
الاجماع في البعض أيضا فتأمل، لأن ظاهر الآية خلاف ذلك كله، فما لم يوجد ما
يصلح للاخراج والتخصيص على ما علمت لا يفعل (4) فإنه لا يجوز الخروج عن
الآية، وتخصيصها إلا بماله صلاحية لذلك، وكذا إجزاء هدي واحد عن أكثر من
واحد مثل سبعة أو سبعين سواء كانوا من أهل بيت واحد أو لا، في حال الاختيار أو
الاضطرار، كما اختاره البعض، خلاف ظاهر الآية، فإن وجد ما يصلح لاخراجه
عن الآية يرتكب وإلا فلا.
ولا يبعد جواز الاستنابة في الذبح للأصل ولأن الظاهر أن المقصود هو

(1) يعني ابن أبي عقيل.
(2) راجع الكافي ج 4 ص 508.
(3) الفقيه ج 2 ص 292 - 297، الكافي ج 4 ص 489 - 492.
(4) لا تغفل خ.
258

الذبح من أي فاعل كان، وللايماء في بعض الأخبار مثل إجزاء ذبح الضالة عن
صاحبه مع قصده، ووجوب النية لأنه نسك وعبادة، كما ذكره الأصحاب ولكن
حينئذ ينبغي وجود الدليل على الاستنابة إذ لا نيابة في العبادة إلا أنه لا صراحة في
الآية على فعل الذبح بنفسه، بل على الذبح أيضا، فلا يبعد الاستنابة سيما مع تصريح
الأصحاب ووجود الدليل في الجملة، وكذا تعيين زمانه ومكانه، ومراعاة شروط
الذبيحة والنحيرة.
وأما زمان الانتقال إلى الصوم، فهو زمان فوت محل الذبح على ما يخطر
بالبال قبل التأمل، ولكن جوزوا في سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه، وذلك
أيضا غير بعيد من الفهم، بشرط اعتقاد عدم الوجدان في محله، والظاهر عدم خلاف
فيه، ودلت عليه الأخبار أيضا وأما قبله فبعيد، والمجوز قليل، والبناء على وجوب
الهدي بإحرام العمرة غير ظاهر على ما نقله في الدروس وهو ينافي ما نقله أيضا فيه
عن الخلاف أنه لا يجب الهدي قبل إحرام الحج بلا خلاف، ويجوز الصوم قبل
إحرام الحج وهو بعيد إذ الظاهر وجوبه على المتمتع بالعمرة إلى الحج وهو
صادق بالشروع إلا أنه ينتظر زمانه.
وأيضا الظاهر أن وجوب الصوم إنما يتحقق بعد تحقق العجز عن الهدي
فكيف يجوز الصوم قبل وجود موجبه، فالظاهر عدم الصوم حتى يأتي زمان الهدي
أو قريب منه كما فهم من كلامهم من جوازه يوم السابع بشرط اعتقاد العدم في المحل
وأيضا قول الأصحاب بسقوط الصوم وتعيين الهدي بفوات ذي الحجة ولما يصم
بعيد، إذ هو خلاف ظاهر الآية على ما يفهم، إذ المفهوم صوم الثلاثة في الحج يعني
في مكة، وكأنهم حملوا على أيام الحج وهو طول ذي الحجة، وذلك غير بعيد
وفي الأخبار ما يدل عليه، وسقوطه غير بعيد، ولكن الانتقال إلى الهدي يحتاج
إلى دليل فلعله إجماع أو أخبار ما نعلمها.
وأما السبعة فلا بد أن يكون بعد الرجوع إلا أنهم قالوا إن أقام في مكة
فلينتظر إما وصول أصحابه أو مضي الشهر، ثم يصوم للأخبار، ولا بد من كونها
259

واقعة في الحضر، على ما هو شأن الصوم، سيما الواجب، ولو وجد الهدي بعد
الصوم فالظاهر الاجزاء للآية والخبر، وخلافه يحمل على الندب.
قوله " تلك عشرة كاملة " قيل معنى كمالها أن الصوم قام في البدلية بحيث
لا ينقص ثوابه عن ثواب مبدله وهو الهدي، وهو مروي عن أبي جعفر عليه السلام في
التهذيب (1) وقيل ذكر العشرة للتأكيد كما يحفظ الحساب، وقيل: لدفع توهم
كون الواو بمعنى " أو " في قوله " وسبعة " كما جاء في غير هذا المحل فتأمل، و
قيل: ليحصل علمان إجمالي وتفصيلي وذلك إشارة إلى التمتع عندنا وعند أبي حنيفة
وأصحابه لأن الكلام في التمتع، وهو المبحوث عنه لا الهدي أو الصوم إذا عجز
عنه، كما هو رأي الشافعي، فكان عنده يجوز التمتع لأهل مكة أيضا ولكن
لا يلزمهم الهدي ويكون التمتع بلا هدي وإلا يلزم عدم الفرق بين إرجاعه إلى
التمتع أو الهدي أو الصوم، وهو مناف لظاهر أول الآية " فما استيسر " وتخصيصه
بغير أهل مكة بعيد من سوق كلام الله تعالى.
ثم إنه في تفسير القاضي والكشاف إرجاع ذلك إلى التمتع عند أبي حنيفة
لأنه لا متعة ولا قران عنده لأهل مكة وهو غير واضح إذ ظاهر الآية عدم التمتع
فقط لا القران، وأيضا التعليل غير مناسب إذ المناسب اخراج الحكم عن الآية
لا العكس، وأيضا فهما وجوب هدي على من تمتع أو قرن من أهل مكة للجناية
عند أبي حنيفة، وما جوز الأكل منها بخلاف المتمتع من الآفاق وذلك كله
خلاف ظاهر الآية، وغير واضح الدليل والصحة، والأصل عدم وجوب جبر إلى
أن يثبت بدليل فتأمل.
فالتمتع فرض من نأى عن المسجد الحرام، أي غير حاضريه وهو من بعد
عن مكة مقدار ثمانية وأربعين ميلا عند أكثر الأصحاب وعند الشافعي أيضا ودليلهم
أخبار منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام قول الله

(1) التهذيب ج 1 ص 457، الكافي ج 4 ص 510 ولفظه: قال كمالها كمال الأضحية
وترى مثله مرسلا في الفقيه ج 2 ص 302 ولفظه " تلك عشرة كاملة لجزاء الهدي ".
260

عز وجل في كتابه " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " قال يعني أهل
مكة ليس عليهم متعة كل من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلا ذات عرق وعسفان
كما يدور حول مكة، فهو ممن يدخل في هذه الآية وكل من كان أهله وراء ذلك
فعليه المتعة (1) وهي كما تدل على بيان الحاضر يدل على أن ذلك إشارة إلى
التمتع، وعند بعض الأصحاب اثنا عشر ميلا (2) واختاره في مجمع البيان ودليله
غير واضح، فإنا ما وجدنا عليه خبرا ضعيفا أيضا، وذكر في المختلف له وجها
بعيد جدا.
" واتقوا الله " في المحافظة على حدود الله تعالى وأوامره، ونواهيه سيما في
الحج حج التمتع " واعلموا أن الله شديد العقاب " لمن خالف أوامره ونواهيه
ولم يتقه، وإنما أمر بالعلم لأن العالم بذلك يتقيه ولا يخالفه لأن علمه
يمنعه ويصده عن ذلك، فإن ذلك شأن العلم الحقيقي إذ العاقل إذا تحقق ذلك
لم يتعد ولم يخالف علمه.
الثانية: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا
فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير
الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب (3).

(1) التهذيب ج 1 ص 455، الاستبصار ج 2 ص 157، تفسير العياشي ج 1 ص 93.
(2) استدلوا بلفظ الآية الشريفة ونصها حيث قال: " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري
المسجد الحرام " وإنما يصدق على أهله أنهم حاضرون المسجد الحرام إذا كان مسكنه وموطنه
ما دون أربعة فراسخ وهو اثنا عشر ميلا، ولهم أن يجيبوا عن الروايات الواردة في أن المراد
من كان منزله دون ثمانية وأربعين ميلا، أي من أربعة جوانب فيكون كل جانب اثنا عشر ميلا
ولكن يبعده تمثيل ذلك في الأحاديث بما دون عسفان وذات عرق وهما على مرحلتين: ثماني
وأربعين ميلا من مكة.
(3) البقرة: 197.
261

أي وقت الحج وزمانه الذي يصح فعله بالإحرام له والإتيان بمناسكه
فيه في الجملة ثلاثة أشهر شوال وذو القعدة وذو الحجة فإنه يصح الاحرام في
الأولين وفي أوائل الأخير، وفيما بعد العشر في الجملة يصح بعض أفعاله مثل
الرمي والذبح والطوافين، وهما يصحان مع الاضطرار والاختيار على الظاهر و
إن قلنا بتحريم التأخير، والدليل على كون الأشهر ثلاثة ظاهر الجمع، وصحة
الأفعال في الكل في الجملة، وعدم صحة وقوع جميعها في العشر الأول والرواية
الصحيحة والحسنة المذكورة في الكافي عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام في
قول الله عز وجل: " الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج ": الفرض
بالتلبية والاشعار والتقليد، فأي ذلك فعل فقد فرض الحج ولا يفرض الحج
إلا في هذه الشهور التي قال الله عز وجل: " أشهر معلومات "، وهي شوال و
ذو القعدة وذو الحجة (1) ومثلها في إفادة كون زمان الحج شوالا وذا القعدة
وذا الحجة رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (2) وقيل إنه وتسع من ذي الحجة
مع ليلة العاشر إلى طلوع الفجر، وقيل إلى طلوع الشمس، وقيل وعشر، قيل
وهذا الخلاف لا ثمرة له في باب الحج فإن بعض الأفعال يقع بعد العشر بالاتفاق
وإذا وقع الاحرام في زمان لم يدرك عرفة والمشعر لم يصح الحج إجماعا، نعم
يظهر ثمرته في نحو النذر وفيه تأمل إذ الذي يقول إن ذا الحجة كله زمان الحج
قد يقول بجواز تأخير مثل طواف الزيارة وطواف النساء والذبح طول ذي الحجة
دون غيره إلا أن يقال إنه قد علم عدمه منه وذلك غير ظاهر.
وقال في الكشاف وتفسير القاضي: إن ما ذكرناه مذهب مالك، ومذهب
الشافعي: وتسع من ذي الحجة مع ليلة النحر، ومذهب الحنفي: وعشر ذي
الحجة، فإطلاق الأشهر إما باعتبار إطلاق الجمع على ما فوق الواحد، أو باعتبار
تنزيل البعض منزلة الكل، فجعل بعض شهر ذي الحجة شهره ثم قال في الكشاف
وهو كما يقال رأيتك سنة كذا وإنما رآه في ساعة منها، ومثله في مجمع البيان

(1) الكافي ج 4 ص 281.
(2) الكافي ج 4 ص 281.
262

ومثل بقولك صليت يوم الجمعة ويوم العيد وإنما صليت في جزء منهما، وفيه تأمل
واضح إذ الفرق بينهما ظاهر لأنه جعل في المثال السنة ظرفا للرؤية، ويوم الجمعة
للصلاة، وظرفية الزمان لفعل لا يستلزم وقوعه في كل ذلك الزمان عرفا كما في
المكان مثل قولك جلست في بلد كذا، وفي محلة كذا، وسوق كذا، مما لا يتناهى
وفيما نحن فيه جعل شهر ذي الحجة خبرا عن وقت الحج كأنه قال: زمان
الحج شهر ذي الحجة وهو في هذا المقام ظاهر في غير ذلك المعنى، ففي الأول
لا مسامحة بخلاف الثاني، نعم لو مثل بقوله يقال: وقت رؤيتي سنة كذا لكان مثله في
المسامحة، على أنه قد يتسامح فيه لظهور المراد دونه، فإن المتبادر منه لا أقل صحة
بعض أفعال الحج في أي زمان كان.
وقال القاضي: وهي شوال وذو القعدة وتسع ذي الحجة بليلة النحر عندنا
والعشر عند أبي حنيفة وذو الحجة كله عند مالك، وبناء الخلاف أن المراد
بوقته وقت إحرامه أو وقت أعماله ومناسكه، أو ما لا يحسن فيه غيره من المناسك
فإن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة وأبو حنيفة وأن صحح الاحرام به قبل
شوال، فقد استكرهه، وفيه تأمل إذ الظاهر أنه لا يصح تأخير الاحرام إلى
وقت يتيقن فوت عرفة، فإن الوقوف بها ركن إلا أن لا يكون عندهم كذلك
وأيضا يصح بعض المناسك بعد يوم النحر، وأيضا يلزم كراهة العمرة بل جميع
المناسك سوى الحج في هذه الشهور كلها بناء على قول مالك وأيضا كراهة الاحرام
بالعمرة عند مالك لا يستلزم القول بأن طول ذي الحجة كله شهر الحج بمعنى
أن لا يحسن غيره فيه.
ولا يكون وجها لقول مالك كما قاله في الكشاف: قالوا وجهه أن العمرة
غير مستحبة فيها عند عمر وابن عمر فكأنها مخلصة للحج لا مجال فيها للعمرة، وعن
عمر أنه كان يخفق الناس بالدرة وينهاهم عن الاعتمار فيها، فإن الظاهر من شهر
الحج وقوعه فيه لا كراهة وقوع غيره فيه، نعم لو كان حراما عنده لكان مناسبا في
الجملة مع أن قول عمر ليس بحجة فإن قول الصحابي ليس بحجة وأيضا لا وجه
263

لقوله، وأيضا ضرب الناس لفعل مكروه لا يجوز فلعل كان عنده حراما لكنه
لا يصير وجها لقول مالك فكأن في قول صاحب الكشاف " قالوا وجهه " إشارة إلى
هذه الأمور حيث ما أسند إليه وأيضا قد وجه كلام مالك بما أشار إليه فيه بقوله وقالوا
لعل من مذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر، وهذا مؤيد
لما قلناه من جواز ثمرة الخلاف كما هو الظاهر، وإن لم يظهر كونه وجها له، إلا
بقوله يقول عروة، وأيضا تجويز أبي حنيفة الاحرام بالحج قبل شوال مخالف
للآية وقوله بالكراهة لا ينفعه ولا يخرجه عن المخالفة إذ ظاهرها عدم جواز إنشاء
الحج في غيرها، فالبناء الذي ذكره البيضاوي وبعض ما ذكره في الكشاف ليس
له أساس.
" فمن فرض " أي أوجب على نفسه الحج مطلقا حج التمتع وغيره، بحيث
صار واجبا فعله وشغله وإتمامه بالفعل، وحرم عليه محرمات الاحرام بالتلبية
مطلقا أو بالاشعار أو بالتقليد أيضا إذا كان سائقا كما دلت عليه صحيحة وحسنة
معاوية المتقدمة فدلت على ركنية التلبية في الجملة وأن الاحرام لا ينعقد إلا بها
فخلاف البعض في انعقاده بدونها وأنها ليس بركن كما نقلناه عن الدروس وقاله في
مجمع البيان لا يعتد به، ودلت أيضا على إجزاء التلبية مطلقا وإجزاء أحدهما
للقارن، وضعف خلاف بعض الأصحاب من تعيين أحدهما للقارن وتعيين التلبية للغير
وهو ظاهر ودلت أيضا على وجوب إتمام الحج بعد انعقاده بالإحرام كما هو مذهب
الأصحاب والشافعي أيضا على ما ذكره القاضي في تفسيره ولا يبعد دلالتها على
وجوب إتمام الحج التمتع بالشروع في عمرته لأنه قد ذكر الله تعالى في الآية
حج التمتع ثم قال " فمن فرض " أي من فرضه مطلقا بالإحرام فوجب عليه
الاتمام، ولا يبعد صدق فرضه بفرض عمرته لأنهما بمنزلة شئ واحد كما يفهم من
الخبر المشهور " دخلت العمرة في الحج هكذا وشبك أصابعه صلى الله عليه وآله (1) " لأنه
لا بد من وقوع إحرامه في هذه الشهور، ومن وقوعها في عام واحد، بخلاف غيره

(1) الكافي ج 4 ص 246، ومثله في سنن أبي داود ج 1 ص 439 و 443.
264

ووجوب العمرة في غيره لا بد له من دليل آخر، ودلت أيضا على عدم صحة إحرام
الحج إلا في هذه الشهور بل عمرة التمتع أيضا.
" فلا رفث " أي لا جماع " ولا فسوق " أي لا كذب " ولا جدال " أي قول لا
والله بلى والله مجتمعا ومنفردا على الظاهر كاذبا وصادقا، هذا هو المشهور بين
الأصحاب وعليه الروايات " في الحج " أي في زمان انعقاد الحج وفرضه، على
الوجه المذكور، ويحتمل أن يكون المراد فلا فحش أيضا من الكلام كما هو معنى
الرفث في اللغة كما قال القاضي فلا جماع أو فلا فحش من الكلام وصاحب الكشاف
أيضا ولكنه بعيد لدخوله تحت قوله " ولا فسوق " بالمعنى الذي ذكراه، ولا يبعد
حمله على الجماع وما يتبعه مما يحرم من النساء في الاحرام، مثل التقبيل وغيره
حتى العقد والشهادة عليه كما هو المذكور في الكتب بمعاونة الأخبار وقال القاضي
أيضا ولا خروج عن حدود الشرع بالسباب وارتكاب المحظورات في تفسير " ولا
فسوق " والأولى ترك السباب لدخوله في ارتكاب المحظورات بل في فلا رفث أيضا
بالمعنى الأخير، بل وارتكاب المحظورات أيضا لئلا يلزم التخصيص بفعل المحرمات
ويدخل ترك الواجبات أيضا وقال في الكشاف في تفسير " ولا فسوق " ولا خروج
عن حدود الشريعة وقيل هو السباب والتنابز بالألقاب، وكأنه أشار إلى أن
التخصيص ليس بسديد، والتعميم أولى، وهو كذلك وأنه موافق للغة فإنه في
اللغة الخروج عن الطاعة كما قاله في مجمع البيان، وكأن القاضي جمع بين قوله
ونقله وترك التنابز أيضا فليس بجيد.
وعلى كل التقادير تحريم ما كان منها حراما مطلقا في حال الحج للتأكيد
والمبالغة في تحريمه كما قاله في الكشاف وتفسير القاضي وما كانت مستقبحة في أنفسها
ففي الحج أقبح، كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب بقراءة القرآن والتطريب
مد الصوت وتحسينه، لعل المراد الغناء المحرم إلا أن يكون ذلك مطلقا حراما
عند القاضي وصاحب الكشاف، وقال القاضي في تفسير " ولا جدال " لأمراء مع
الخدم والرفقة، كأن المراد لا خصومة ولا سباب ولا إغضاب على جهة اللجاج كما
265

ذكره في مجمع البيان ونسبه إلى ابن عباس وابن مسعود والحسن وقيل أيضا في
تفسير " ولا جدال ": أو أنه لا خلاف ولا شك في الحج وذلك أن قريشا كانت
تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة، وكانوا ينسؤون
الشهور فيقدمون الحج سنة ويؤخرونه أخرى ولكن هذا المعنى يناسب قراءة
الأولين بالنصب بمعنى النهي والثالث بالرفع بمعنى الخبر كما فعله في الكشاف
وقال القاضي أيضا نفي الثلاث على قصد النهي للمبالغة والدلالة على أنها حقيقة
بأن لا يكون، يعني أراد النهي عن هذه الأشياء في أيام الحج وذكرها بطريق
النفي الدال على نفي الجنس والحقيقة المفيد للعموم والمبالغة للتأكيد والاهتمام
بعدم وقوعها، فلا لنفي الجنس، ومدخوله مبني على الفتح و " في الحج " متعلق
بمقدر مثل موجود أو جائز خبرا، والجملة جزاء الشرط أي " فمن " الخ والعائد
محذوف مثل " له " أو برفث يعني لا يرفث وهو جزاء أيضا، والباقي عطف عليه مع
تكرير لا للتأكيد.
وقرئ الكل بالرفع والمعنى واحد والتركيب أيضا إلا أن لا حينئذ بمعنى
ليس، وليس لنفي الجنس لعدم جواز الرفع حينئذ لكونه نكرة مفردة والعموم
أيضا بحاله لأن النكرة في سياق النفي يفيد العموم لأنه من أداة العموم كما هو
المبين في محله، فقول صاحب مجمع البيان بأن دلالة الرفع على العموم لأنه يعلم
من الفحوى أنه ليس لنفي رفث واحد ولكنه لجميع ضروبه غير واضح، إلا أن
يريد أنه ليس لنفي بمثابة النصب فإنه أصرح وآكد " وما تفعلوا من خير يعلمه الله " أي
وما تفعلوا من أي نوع من الخير سواء كان الحج وغيره، وسواء كان فعل حسن
أو ترك قبيح - ولا يبعد إطلاق الفعل عليه باعتبار الكف وغيره، ويدل عليه ذكره
بعد النهي عن الرفث وغيره، وتنكير " خير " - يجازيكم به الله (1) المتصف بجميع
صفات الكمال من العلم والقدرة والعدل ففي وضع علمه بالعمل المستحق للجزاء
مكان الجزاء مبالغة زائدة في عدم فوته وتوفيره، وحث على فعل الخير بعد النهي

(1) خبر " ما " في قوله قدس سره، أي وما تفعلوا من أي نوع الخ.
266

كما أن في تنكير " خير " وذكر " ما " الموضوعة للعموم والابهام ثم البيان، و
ذكر لفظ الله المستجمع لجميع الصفات دلالة على ذلك.
وقال في الكشاف: حث الله على الخير عقيب النهي عن الشر وأن يستعملوا
مكان القبيح من الكلام الحسن منه، ومكان الفسوق البر والتقوى، ومكان
الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة، أو جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم
حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه وينصره قوله " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى "
أي اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن خير الزاد اتقاؤها، و
التعميم أولى، أي تزودوا لمعادكم التقوى، وهو كما مر فعل الطاعات و
ترك المعاصي، فإنه خير الزاد، أي خير من كل زاد، ولا يبعد جعل الخطاب
لعموم المكلفين وكأنه ذكر هنا لأن الحاج لا بد أن يأخذ زادا لسفر قصير، فأخذ
الراد للأمر البعيد أحق وأولى، وبين وجوب أخذه بأنه التقى أو أنه بما يأخذ
الزاد فيتكل عليه، فأمره بأخذ خير الزاد، فإنه لو أخذ ذلك الزاد ولم يأخذ التقوى
يهلك بالجوع إما ظاهرا في الدنيا بأن يفوت منه في الطريق سريعا فيبقى بلا زاد أو
حقيقة في الآخرة فإنه إذا فعل المعاصي يهلك جوعا يوم القيامة بمعنى عدم انتفاعه
بزاد الحج في الآخرة.
فلا يبعد أن يكون إشارة إلى صرف الزاد إلى المحاويج، من المأكل والمشرب
والمركب مما يحتاج إليه المحاويج، بحيث لا يصير إهلاكا لنفسه والقاءها إلى
التهلكة، والاعتماد على زاد الله التي هي الزاد الحقيقي دون غيرها من المطعم الفاني
الذي في معرض التلف مع وجوده، لاحتماله العدم بالمرة في الحال، وقيل: نزلت
في أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن متوكلون فيكونون
كلا وعيالا وثقلا على الناس فأمروا أن يتزودوا ويتقوا السؤال، والتثقيل
عليهم (1).

(1) ذكره أصحاب التفاسير، راجع البيضاوي: 52، مجمع البيان ج 2: 294، الدر
المنثور ج 1 ص 221 وتراه في صحيح البخاري ج 1 ص 265.
267

" واتقون " أي اتقوني وخافوني - بحذف الياء والاكتفاء بالكسرة، و
هو كثير - من أن أعاقبكم واتقوا معاصي التي هي سبب العقاب أو اتقوني فيما أمرتكم
به ونهيتكم عنه، والمرجع واحد " يا أولي الألباب " أي يا ذوي العقول، سمي
العقل باللب لأن لب كل شئ خالصه ولب الانسان عقله، وبه يفوز بالسعادات
كلها، وخصهم بالخطاب لأنهم الأهل لذلك فإن قضية العقل خشية الله وتقواه
فكأن من لم يتق الله لا عقل له، وهو مبرهن بالعقل والنقل، وفيه تأكيد آخر
وتحريص وحث على التقوى، وأنه لا بد أن يكون المقصود منه هو الله حيث قال
" واتقون " فإن التقوى إذا لم تكن لله لم تكن تقوى بل عين الفسق وأفحشه
وجعله مقصودا والتبري عن كل شئ سواه، هو مقتضى العقل المجرد السليم
عن شوائب الهوى فلذلك خص الخطاب بذويه.
الثالثة: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من
عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هديكم وإن كنتم
من قبله لمن الظالين (1).
أي ليس عليكم ذنب وحرج وإثم في أن تطلبوا، فحذف حرف الجر عن
" أن " قياسا فهو مع ما بعده منصوب بنزع الخافض و " فضلا " مفعول " تبتغوا "
أي عطاء ورزقا بالتجارة، قيل كان المسلمون يتأثمون التجارة في الحج في أول
الاسلام لزعمهم أن التجارة تنافي الحج، وهي فعل الجاهلية، فرفع الله سبحانه
بهذه الآية الإثم عنهم بالتجارة، وقيل: كانوا يتأثمون الأجرة في الحج فرفع
ذلك، وعلى التقديرين الآية صريحة في عدم المنافات بين الحج والتجارة وأخذ
الأجرة معه، فلا يتخيل أنه مناف للاخلاص، ولا منافاة، فإنه يقصد بفعل الحج
القربة وبما هو خارج عنه تحصيل المال، فإن العمل الذي يستحق به الأجرة مثل

(1) البقرة: 198.
268

الخدمة ليس بداخل في الحج، وليس بعبادة بل قد يحصل الثواب والأجرة أيضا كما
يقصد تحصيل المعاش الواجب أو الندب أو يؤجر نفسه للحج وغيره بمال فيحصل
المال والثواب ويدل عليه الروايات فكأن الثواب فاعتقاده وفعله على أنه مشروع
وأنه لو لم يشرع لم يفعل.
ولكن حصول القربة المعتبرة في النية مشكل هنا فتأمل فإنه لا محذور بعد
ثبوته بالنص، فمعنى القربة يكون غير الذي اعتبره بعض الأصحاب في غير هذه
الصورة، مع أنها غير بعيدة الحصول، فإن فعلها بعد الإجارة قد يكون للتقرب
فقط إذ لا يحصل شئ حيث وجب فعلها بعد عقد الإجارة فتأمل، فعلى هذا
الحكم المستفاد من الآية هو جواز التجارة والأجرة والكرى مع الحج، وقيل
معناه لا جناح عليكم في طلب المغفرة، وقال في مجمع البيان: الأول مروي عن
أئمتنا عليهم السلام والثاني عن أبي جعفر عليه السلام فلا يبعد الحمل على الأعم.
" فإذا أفضتم من عرفات " أي دفعتم عنها بعد الاجتماع فيها من أفضت الماء
إذا صببته بكثرة وأصله أفضتم أنفسكم فحذف المفعول كما حذف في دفعت من البصرة
أي دفعت نفسي منها " وعرفات " جمع عرفة وسمي بها الأرض المخصوصة كمفردها
وإنما نون مع منعها الصرف للعلمية والتأنيث، لأن تنوينها تنوين المقابلة، و
العوض عن نون الجمع في مسلمون (1) أي بإزائه فكما لا يحذف ذلك لا يحذف
هذا التنوين وهذا التنوين غير ممنوع من غير المنصرف، بل الممنوع عنه هو تنوين
التمكن، وإنما لم يمنع من الكسرة لأن منعها تابع لمنع التنوين، ولما لم يمنع
المتبوع لم يمنع التابع أيضا بالطريق الأولى، هكذا في مجمع البيان بتغير ما وفي
تفسير القاضي (2).
وقال في الكشاف والقاضي أيضا: إن تائها ليست للتأنيث بل هي مع
الألف علامة الجمع وليست هنا تاء مقدرة لأن المذكورة تمنع من ذلك

(1) يعني إذا سمى به امرأة.
(2) مجمع البيان ج 2: 295، أنوار التنزيل: 52.
269

كما في البنت وغيرها، والظاهر أن حكم التأنيث جار عليها ولهذا يرجع إليها
الضمير المؤنث ويوصف به، ولو باعتبار معناها وهي الأرض المخصوصة، أو أنها تاء
مفردها وزيد عليه الألف فقط فتأمل.
وأما تسمية ذلك الموضع بعرفة أو عرفات فقيل لأنه وصف لإبراهيم عليه السلام
ولما رآه قال: عرفت، وقيل: كان جبرئيل يعلمه المناسك وفي هذا الموضع قال:
عرفت، وقيل: لأن آدم وحوا تعارفا هنا بعد أن تفرقا، وقيل لأن الناس
يتعارفون هنا وقيل: لأنه رأى إبراهيم عليه السلام في المنام ذبح ولده وتفكر أنه أمر من الله
أم لا ورآه ثانية فسمي اليوم الأول بيوم التروية والثاني بعرفة، وهذا يفيد وجه
تسمية اليوم، ويفهم وجه المكان أيضا فافهم.
وأما وجه تسمية الموضع الآخر بالمشعر فظاهر لأنه علامة للنسك والعبادة
ومعلم للحج والدعاء والصلاة والمبيت عنده، وتسميته بجمع لأنه يجمع فيه بين المغرب
والعشاء [بأذان واحد وإقامتين] أو لجمع الناس فيه، والمزدلفة، لأن جبرئيل
قال له عليه السلام ازدلف إلى المشعر أي ذهب إليه وأقرب منه، قيل: المشعر الحرام
جبل في ذلك الموضع سمي قزح، وقيل: هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة
إلى وادي محسر، وليس المأزمان ووادي محسر منه، وإنما وصف بالحرام
لحرمته، وبالجملة المراد هنا الوقوف والذكر في موضع خاص يقف فيه الناس
وهو موضع محدود مثل عرفة ومنى، وإنما سمي ذلك الموضع بمنى لأن إبراهيم
عليه السلام تمنى هناك أن يعطيه الله فداء يذبحه مكان ابنه.
" فاذكروا الله " جزاء " فإذا أفضتم " أي اذكروا الله بالتهليل والتكبير
والثناء عليه والدعوات، أو بصلاة المغرب والعشاء " واذكروه كما هديكم " أي
اذكروا الله بالثناء والشكر حسب هدايته إياكم، فالشكر يكون في مقابلة نعمة
الهداية أو " اذكروه " ذكرا حسنا " كما هديكم " هداية حسنة أو اذكروه كما
علمكم المناسك وغيره، فما مصدرية أو كافة " وإن كنتم من قبله " أي قبل الهداية
أو قبل بعث محمد صلى الله عليه وآله وهو بعيد لفظا ومعنى " لمن الضالين " أي الجاهلين بالايمان
270

والطاعة والمناسك، و " إن " هي مخففة من المثقلة، واللام هي التأكيدية
الفارقة بين النافية والمخففة أو بينها وبين الشرطية.
فدلت بظاهرها على وقوف عرفة أي الكون بها في الجملة حيث كانت الإفاضة
منها والإفاضة منها فرع الكون فيها فتأمل، وهو الوقوف وهو مبين في الأخبار
ومحدود زمانه ومكانه في الكتب، وعلى وقوف المشعر ليلا أيضا إذ المراد
الإفاضة من عرفة إلى مشعر الحرام، وذكر الله فيه، ولا يمكن ذلك بدون الكون
فيه، وهو المراد بالوقوف هنا، وهو أيضا مذكور في الأخبار ومعلوم الزمان
والمكان، ودلت أيضا على وجوب الذكر فيه، ولكن أكثر الأصحاب على
استحباب الذكر، وعدم وجوب شئ غير الكون مع النية، فيحتمل أن يكون
كناية عنه فإن فعل عبادة مع النية ذكر الله، أو صلاة المغرب والعشاء فلا يدل
على وجوب أمر زائد، وأيضا قد يحمل قوله " فاذكروا " على استحباب
الذكر بالأدعية المأثورة في ذلك المحل، والاحتياط يقتضي ذكر الله تعالى فيه
بالتهليل والتكبير والثناء الجميل بالمأثور، على ما هو المذكور في محل ذكر هذا
النسك في كتاب العبادات.
ويلزم من كون المراد بالذكر المغرب والعشاء وجوب فعلهما فيه، وليس
بجيد إذ يدل على عدمه ما في صحيحة محمد بن مسلم: فنزل أي الباقر عليه السلام فصلى
المغرب في الطريق قبل المزدلفة، وصلى العشاء بالمزدلفة وكذا صحيحة هشام بن
الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام لا بأس أن يصلي الرجل المغرب إذا أمسى بعرفة و
كذا خبر سماعه (1) إلا أن يراد العشاء فقط فكأن الأخبار الدالة على وجوب
الجمع بأذان واحد وإقامتين فيه، وجواز تأخير النافلة عنهما (2) محمولة على الندب
ويمكن القول بوجوب الذكر والثناء والشكر كما هو الظاهر من كثير من
الأخبار أيضا ومذهب ابن البراج وظاهر كلام أبي الصلاح في المشعر وعرفة
أيضا وظاهر كلام السيد حيث أجاب عن الاعتراض على الاستدلال بالآية المذكورة

(1) التهذيب ج 1 ص 500.
(2) الكافي ج 4 ص 468 و 469.
271

على وجوب وقوف المشعر بأن الأمر (1) بالذكر أيضا يدل على وجوب الكون
فيه، فإن الذكر بدونه غير ممكن " بأن الآية (2) تدل على وجوب الذكر
وأنتم لا تقولون به " " بأنه (3) لا يمتنع أن نقول بوجوب الذكر بظاهر الآية
وأجيب بجواب آخر وهو أن الأمر بالذكر يقتضي وجوب الكون في المكان
المخصوص والذكر جميعا، فإذا دل الدليل على أن الذكر مستحب غير واجب
أخرجناه من الظاهر وبقي الباقي، وفيه تأمل واضح، إذ وجوب الكون إنما
كان مفهوما من وجوب الذكر وأمره، وإذا حمل على الاستحباب لدليل لم يبق
لوجوب الكون أمر دال على الوجوب، وهو ظاهر، نعم يمكن ذلك لو قدر
شئ، ويكون وجوب الكون مفهوما من ذلك الشئ أو جعل الذكر: الكون مع
النية أو العشاء الآخرة.
ثم الاستدلال على وجوب الكون في المشعر بوجوب الشكر المفهوم من قوله
تعالى " واذكروه كما هديكم " مثل الذكر على أن كونه شكرا غير واضح، و
كذا وجوبه في المشعر الحرام حتى يلزم منه وجوب الكون بها، وبالجملة القول
بوجوب وقوف المشعر مما لا ينبغي إنكاره لما ذكرناه بل للإجماع على الظاهر، و
ينبغي أيضا القول بوجوب الذكر لظاهر الآية والأخبار، مع عدم دليل صالح للمنع
مثل الأصل الذي استدل به - على عدم وجوب الذكر مطلقا والصلاة على النبي وآله
عليهم السلام في الموقفين كما هو مذهب ابن البراج - في المختلف فإنه يضمحل
بالآية والأخبار، والخبران (4) اللذان استدل بهما في المختلف عليه غير صحيحين
بل لا دلالة فيهما على عدم الوجوب، بل ظاهرهما الوجوب في عرفات حيث يفهم
من أحدهما أنه إذا صلى فيها وقنت يكفي وهو الذكر والدعاء مع أنه دهشته الناس
ومن الآخر أنه اشتغل بالحزن لموت أقاربه عن الدعاء قال عليه السلام لا أرى عليه شيئا
مع أنه قال وقد أساء فليستغفر الله على أن إجزاء الوقوف بغير الدعاء لا يدل على

(1) وجه الاستدلال.
(2) وجه الاعتراض.
(3) وجه الجواب من كلام السيد.
(4) التهذيب ج 1 ص 499.
272

عدم وجوب الذكر، وكذا عدم شئ عليه لا يستلزم عدمه، والخبر الأول رواه
عامر بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام رجل وقف بالموقف
فأصابته دهشة الناس فبقي ينظر إلى الناس ولا يدعو حتى أفاض الناس قال يجزيه
وقوفه، ثم قال أليس قد صلى بعرفات الظهر والعصر وقنت ودعا؟ قلت بلى، قال
فعرفات كلها موقف وما قرب من الجبل فهو أفضل، والآخرة رواه زكريا الموصلي
قال سألت العبد الصالح عليه السلام عن رجل وقف بالموقف فأتاه نعي أبيه أو نعي بعض ولده
أي خبر موته، قبل أن يذكر الله عز وجل بشئ أو يدعو فاشتغل بالجزع والبكاء
عن الدعاء ثم أفاض الناس، فقال لا أرى عليه شيئا، وقد أساء فليستغفر الله أما لو صبر
واحتسب لأفاض من الموقف بحسنات أهل الموقف جميعا، من غير أن ينقص من
حسناتهم شئ، وفيه دلالة على عدم حسن الجزع وحسن الاستغفار والثواب العظيم
للصبر أما الأخبار الدالة على الوجوب فصحيحة وصريحة.
الرابعة: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور
رحيم (1).
قيل: ارجعوا من عرفات إلى المزدلفة فهو أمر لقريش بوقوف عرفة ثم بالمزدلفة
كما هو الواجب على سائرهم، فإنهم ما كانوا يقفون بعرفات مع الناس ترفعا عليهم
ويقولون نحن أهل حرم الله ولا نخرج منه مثل الناس بل نقف بالمشعر فقط فأمروا
بترك ذلك وفعل ما يفعله الناس وقال في مجمع البيان وهو المروي عن أهل البيت
عليهم السلام ويكون " ثم " حينئذ للتفاوت بين المرتبتين، يعني إذا أفضتم من عرفات
ثم ليكن افاضتكم يا قريش أيضا من عرفات كسائر الناس لا من المزدلفة فقط
فإن تلك حرام وهذه واجبة، فبينهما بعد كثير، كما يقولون: أحسن إلى الناس
ثم لا تحسن إلى غير كريم، للإشارة إلى تفاوت ما بين الاحسان إلى الكريم و
الاحسان إلى غيره.

(1) البقرة: 199.
273

هكذا قيل في الكشاف وغيره، ولا يخفى أن الأمر بالإفاضة من عرفات
بثم بعد ذكرها أولا، مما لا يناسب، فإن المعطوف ليس بحرام بل ما يفعلون
فليس التفاوت بين المعطوف والمعطوف عليه بل بين فعلهم وما أمروا به، وليس ذلك
مفاد ثم، وإنه ليس مثل أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، وهو ظاهر.
وقيل أي ثم أفيضوا من المزدلفة إلى منى ويكون الأمر لكل الناس، ويكون
المراد بالناس آدم وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم من الأنبياء السابقة، والأمم المتقدمة
يعني أن وقوف المشعر والإفاضة منه إلى منى شرع قديم لا تغيروه، وهذا هو
المناسب لمعنى " ثم " وسوق الآية، حيث قال: فإذا أفضتم من عرفات إلى المشعر
فكونوا بالمشعر ثم أفيضوا منه إلى منى، ففهم الوقوفان ونزول منى، ونقله في
مجمع البيان عن أبي عبد الله عليه السلام (2).
" واستغفروا الله " واطلبوا المغفرة وستر الذنوب التي فعلتم من تغيير الشرع
وفعل المحرمات، وترك الواجبات، بالندم على ما سلف، والعزم على العدم من
بعد إن الله كثير المغفرة والرحمة، ويغفر ذنب المستغفر، وينعم عليه، ويدل
على الأول صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال إذا غربت الشمس في
عرفة فأفض مع الناس، وعليك السكينة والوقار وأفض بالاستغفار فإن الله تعالى
يقول " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله (2) " والظاهر أن الاستغفار
يكون بالمشعر أو في طريقه على الأول ويحتمل في عرفة كما يشعر به الرواية المتقدمة
وعلى الثاني بمنى وطريقها وكونه بالمشعر حينئذ بعيد، وهو ظاهر إلا أن الظاهر

(1) هكذا ذكره المقداد في كنز العرفان، آخذا من كلام صاحب المجمع من دون أن
ينسب ذلك إليه، لكن ما ذكره في المجمع لا يناسب ما نقلاه عنه، فإنه نسب القول الثاني إلى
الجبائي، ثم قال في المراد بالناس: وقيل: إن الناس إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ومن
بعدهم من الأنبياء عن أبي عبد الله عليه السلام راجع مجمع البيان ج 2 ص 296 مع أنا تفحصنا
ولم نجد حديثا يذكر فيه أبا عبد الله أو غيره عليهم السلام صرح بأن المراد من الآية إفاضة المشعر
وإن كان هو الحق الظاهر من الآية الشريفة.
(2) التهذيب ج 1 ص 500، الكافي ج 4 ص 467.
274

أنه ما ذهب أحد إلى وجوب الاستغفار والذكر بمنى، فيحمل على الاستحباب أو
على الدعاء والذكر الواجب المفهوم من قوله " واذكروا الله عند المشعر الحرام "
أو على وجوب التوبة مطلقا كما أشرنا إليه من قبل، ويفهم وجوب قبولها على الله.
الخامسة: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد
ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق (1).
وآية أخرى: ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقنا عذاب النار (2).
وأخرى: أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (3).
أي إذا فرغتم من عباداتكم الحجية، ويحتمل الأعم، والمناسك جمع
منسك وهو يطلق على العبادة إطلاق المصدر على المفعول أو يكون بمعناه المصدري
أي إذا فعلتم أفعالكم التي كانت عبادة، أو يكون اسم مكان أطلق عليها، أو يكون
المضاف محذوفا أي عبادات مناسككم " فاذكروا الله كذكركم آباءكم " أي ذكرا
مثل ذكركم آباءكم، فذكركم في محل النصب صفة لمفعول مطلق محذوف سواء
كانت الكاف بمعنى مثل اسما مضافا أو حرفا متعلقا بمقدر، وآباءكم مفعول الذكر
وأشد منصوب عطف على " كذكركم " أي يكون ذكركم الله إما مساويا لذكر آبائكم
أو أشد وأكثر وأعلى ذكرا من ذكر الآباء، فذكرا تميز أي أشديته يكون من
حيث كونه ذكرا لا من جهة أخرى، فهو لرفع التوهم والاحتمال، وإن كان
بعيدا كما في قولهم طاب زيد نفسا فافهم، ويحتمل جعل الذكر بمعنى الذاكر حينئذ
كما سيأتي.
فكونه مجرورا معطوفا على الذكر على تقدير جعل الذكر بمعنى الذاكر
مجازا للمبالغة أو على ما أضيف إليه بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا، أو

(1) البقرة: 200 - 202.
(2) البقرة: 200 - 202.
(3) البقرة: 200 - 202.
275

منصوبا عطفا على آبائكم أو على أنه مفعول فعل محذوف مثل واذكروا أو كونوا
كما ذكره البيضاوي والكشاف ومجمع البيان ضعيف، فإن الكل تكلف غير
محتاج إليه بل بعضه غير جيد مثل عطفه على آبائكم.
والمراد بالذكر هو التكبير في منى وأكد بما بعده أو يكون الإشارة إلى
استحباب الدعاء مطلقا في تلك الأماكن الشريفة، وسبب النزول على ما ذكره في
مجمع البيان ما روي عن أبي جعفر عليه السلام أنهم أي القريش كانوا إذا فرغوا من
الحج يجتمعون هناك ويعدون مفاخر آبائهم [ومآثرهم] ويذكرون أيامهم القديمة
وأياديهم الجسيمة، فأمرهم الله سبحانه أن يذكروه في مكان ذكرهم في هذا الموضع
" أو أشد ذكرا " ويزيدوا على ذلك بأن يذكروا نعم الله ويعدوا آلاءه ويشكروا
نعماءه وآلاءه، لا آباءهم وإن كانت لهم عليهم أياد ونعم لأن الله سبحانه أعظم
وأياديه عندهم أفخم لأن الله سبحانه هو المنعم بتلك المآثر والمفاخر عليهم وعلى
آبائهم (3) وقيل: معناه فاستعينوا بالله وافزعوا إليه كما ينزع الصبي إلى أبيه
في جميع أموره، ويشتغل بذكره فيقول يا أبه.
" فمن الناس من يقول " قال في تفسير القاضي (1) والكشاف: هذا تفصيل
للذاكرين، فإن الناس من بين مقل لا يطلب بذكر الله إلا متاع الدنيا، ومكثر يطلب
به خير الدارين، والمراد به الحث على الاكثار والإرشاد إليه [ربنا آتنا في الدنيا (2)]
أي اجعل اعطاءنا في الدنيا وما لهؤلاء في الآخرة من نصيب، لأن هممهم مقصور
على الدنيا، أو ما لهم من طلب خلاق، والأول أولى. ولما ذكر سبحانه دعاء من
سأله من أمور الدنيا. فقط في تلك المواقف الشريفة مما لا يرتضيه، عقبه بما يسأله
المؤمنون فيها من الدعاء الذي رغب فيها فقال " ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا
حسنة " يعني أعطنا الصحة والكفاف وتوفيق الخير في الدنيا " وفي الآخرة "
الثواب والرحمة، وقيل: نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، وعن أبي عبد الله عليه السلام أنها

(1) مجمع البيان ج 2: 297.
(2) أنوار التنزيل: 63.
(3) زيادة من المصدر تحتاج إليها السياق.
276

السعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا ورضوان الله والجنة، وقيل
المال في الدنيا، وفي الآخرة الجنة، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال من أوتي
قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه وآخرته، فقد أوتي
في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار (1). " وقنا عذاب النار "
بالعفو والمغفرة. وعن أمير المؤمنين عليه السلام الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة
وفي الآخرة الحوراء، وعذاب النار امرأة السوء، وعن الحسن: في الدنيا العلم
والعبادة وفي الآخرة الجنة، وقنا عذاب النار: معناه: احفظنا من الشهوات
" أولئك " إشارة إلى الفريق الثاني وقيل إليهما " لهم نصيب " أي حظ من
جنس ما كسبوا وهو جزاؤه أو من أجله أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه
فسمى الدعاء كسبا لأنه من الأعمال " والله سريع الحساب " يحاسب العباد
على كثرتهم وكثرة أعمالهم، في مقدار لمحة، أو معناه يوشك أن يقيم القيامة و
يحاسب الناس، فبادروا إلى الطاعة واكتساب الحسنات والله سريع المجازات
للعباد على أعمالهم وإن وقت الحساب والجزاء قريب.
ففيها تحريص وترغيب على ذكر الله وطلب الحوائج من الله للدنيا والدين
في المواطن المشرفة، والمنع عن ذكر التفاخر والتعاظم بالآباء وقصر السؤال
على الدنيا بمعنى جعل همه مقصورا عليها وقطع نظره عن الآخرة، وترغيب أيضا
في العبادات، وترهيب عن فعل المعاصي بأن الله يحاسب العباد على أعمالهم حسنة
وقبيحة في لمحة واحدة، ويجازي الكل بما كسب. ففيها دلالة أيضا صريحة على
استحقاق الثواب والعقاب بالأعمال وقال في مجمع البيان: فيها دلالة صريحة على
أن الله ليس بجسم فإنه يحاسب كل الخلق في لمحة ولا يحتاج إلى زمان للحساب
ولا يشغله شخص حساب عن حساب آخر، ولو كان كذلك لما جاز أن يخاطب في
وقت واحد مخاطبين مختلفين وهو ظاهر.

(1) مجمع البيان ج 2: 298.
277

السادسة: واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا
إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه
تحشرون (1).
أمر للمكلفين بذكر الله في أيام قلائل، لأن القليل يعد، والذكر
المأمور به هو التكبير عقيب خمس عشر صلوات في منى، وعقيب عشر صلوات في
غيره، وأوله عقيب الظهر يوم النحر مطلقا، فآخر الأول فجر يوم الثالث، و
آخر الثاني [صلاة] فجر يوم الثاني بعد العيد، كذا في التفاسير، ودلت عليه
الروايات مثل حسنة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل
" واذكروا الله في أيام معدودات " قال التكبير في أيام التشريق: صلاة الظهر من
يوم النحر إلى صلاة الفجر من يوم الثالث وفي الأمصار عشر صلوات (2) وكذا في
صحيحة زرارة وغيرهما، ولا يخفى أن في هذه الروايات إطلاق أيام التشريق
على يوم النحر وثلاثة بعده، وكذا في غيرها أيضا وهو خلاف المشهور ولعله تغليب.
وذلك التكبير مبين في كثير من الأخبار مثل صحيحتي زرارة ومنصور بن
حازم وصحيحة معاوية بن عمار حيث قال عليه السلام: التكبير أن يقول: الله أكبر الله أكبر
لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، الله
أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام (3) وزاد في الصحيحة الأخيرة والحمد لله على
ما أبلانا، وفيها أيضا إن أنت خرجت من منى فليس عليك تكبير، فكأنه محمول على
عدم خمسة عشر أو الزيادة على الأمصار، وفي خبر آخر أن التكبير واجب في
دبر كل صلاة فريضة ونافلة أيام التشريق، وفي صحيحة داود بن فرقد قال: قال

(1) البقرة: 203.
(2) التهذيب ج 1 ص 292، الكافي ج 4 ص 516.
(3) الكافي ج 4 ص 516 باب التكبير أيام التشريق تحت الرقم: 2 و 3 و 4.
278

أبو عبد الله عليه السلام التكبير في كل فريضة، وليس في النافلة تكبير أيام التشريق (1)
وحمل الشيخ الأول على الجواز وهو بعيد فإن حمل الواجب على الجواز سيما
إذا حمل على السنة المؤكدة بالنسبة إلى الفريضة كما فعله في التهذيب غير مفهوم وكذا
حمله على مطلق التكبير معللا بأنه غير ممنوع منه، فكيف بعد النافلة، كما أشار
إليه فيه أيضا، والخبر غير صحيح وما عمل بمضمونه، فليس ببعيد حذفه وحمله على
غير هذا التكبير المشهور، مع حمله على الاستحباب لصحيح ابن فرقد المتقدم
الدال على عدمه في النافلة أيام التشريق بعيد، وحمل الشيخ وغيره أيضا هذه
الآية والأخبار على الندب لخبر عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته
عن الرجل ينسى أن يكبر في أيام التشريق قال: إن نسي حتى قام عن موضعه
فليس عليه شئ (2) وذلك لا يدل على عدم الوجوب، بل يدل عليه حيث قيد عدم
الشئ بالنسيان إذ عدم وجوب الشئ إذا نسي لا يستلزم عدم الوجوب وهو ظاهر
وسنده أيضا ضعيف فالقول بالوجوب، غير بعيد، وإن كان القائل به قليلا مثل
السيد السند وابن الجنيد.
ولكن روي في زيادات الحج من التهذيب في الصحيح عن علي بن جعفر
عن أخيه عليهما السلام قال سألته عن التكبير أيام التشريق أواجب هو أم لا، قال: يستحب
وإن نسي فلا شئ عليه (3) فهي دليل القول بالاستحباب كما هو المشهور، وحمل
الأخبار الأول على الاستحباب فتأمل.
ثم الظاهر من الروايات المتقدمة تعيين التكبير المذكور فيها وما ذكر
ذلك أكثر الأصحاب بل ذكروا غير ذلك كما في القواعد والدروس والشرايع
والإرشاد وغيرها ودليله غير واضح نعم في صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام
قال وسألته عن التكبير بعدكم صلاة؟ فقال: كم شئت، إنه ليس شئ مؤقت يعني

(1) التهذيب ج 1 ص 524.
(2) التهذيب ج 1 ص 523.
(3) الوسائل ب 23 من أبواب صلاة العيدين الحديث: 1.
279

في الكلام (1) والظاهر أن قوله يعني في الكلام من محمد بن يعقوب الكليني فالعبارة
مجملة، يحتمل عقيب كم صلاة شئت أو كم مرة شئت كرر التكبير المعلوم أو لفظ الله
أكبر، وغير ذلك فلا يمكن بها التأويل فيما هو المحقق فتأمل، وأيضا ورد في بعض
الروايات في تكبير عيد الفطر مثل رواية سعيد النقاش (2) عنه عليه السلام مثل ما تقدم
إلا بحذف " الله أكبر على ما رزقنا " الخ وحسنة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله
عليه السلام: يكبر ليلة الفطر وصبيحة الفطر كما يكبر في العشر (3) فلا يبعد أن
يكون المراد بهذا الخبر الإشارة إلى قول تكبير عيد الأضحى على ما نقلناه في الفطر
ويكون ليلة الفطر وصبيحته إشارة إلى بعد المغرب والعشاء ليلة العيد وعقيب
الصبح وصلاة العيد، كما هو المشهور، ويكون المراد بالعشر يوم العاشر وما
بعده فتأمل.
" فمن تعجل " الخ معناه الرخصة في جواز النفر الأول في اليوم الثاني
من أيام التشريق وهو الثاني عشر، والأفضل أن يقيم إلى النفر الأخير في اليوم
الثالث عشر، وهو آخر أيام التشريق، وإذا نفر في الأول لا بد أن ينفر بعد زوال
الشمس وقبل الغروب، وبعد رمي جمار ذلك اليوم، فلا يجوز النفر قبل الزوال
وإن جاز الرمي قبل الزوال للأخبار الدالة على أن زمان الرمي من طلوع
الشمس إلى غروبها، كما هو في رواية منصور بن حازم ورواية زرارة (4) وما في
صحيحة جميل بن دراج (5) عنه كأنه الصادق عليه السلام لتقدم ذكره في الفقيه (6)
قال " وكان أبي عليه السلام يقول من شاء رمى الجمار ارتفاع النهار ثم ينفر، قال: فقلت له
إلى متى يكون رمي الجمار؟ فقال من ارتفاع النهار إلى غروب الشمس " وغيرها
وإن قال بعض الأصحاب بوجوب التأخير عن الزوال لظاهر بعض الروايات

(1) الكافي ج 4 ص 517.
(2) الكافي ج 4 ص 166.
(3) الكافي ج 4 ص 167.
(4) الكافي ج 4 ص 481.
(5) الكافي ج 4 ص 521، عن أبي عبد الله عليه السلام.
(6) الفقيه ج 2 ص 289.
280

المحمولة على الاستحباب للجمع بين الأخبار، فيستحب التأخير عن الزوال
للاحتياط ولظاهر بعض الأخبار، والأولى تأخير النفر إلى الثاني.
وأما الدليل على ما قلناه من عدم جواز النفر الأول إلا بعد الزوال وقبل
الغروب فإن أقام إلى الغروب لا يجوز الخروج فهو أيضا أخبار صحيحة صريحة في
ذلك مثل صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال إذا نفرت في النفر الأول
فإن شئت أن تقيم بمكة وتبيت بها فلا بأس بذلك، قال: وقال إذا جاء الليل بعد
النفر الأول فبت بمنى وليس لك أن تخرج منها حتى تصبح (1) وأيضا صحيحة
معاوية وحسنته عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أردت أن تنفر في يومين فليس لك أن
تنفر حتى تزول الشمس وإن تأخرت إلى آخر أيام التشريق وهو يوم النفر
الأخير فلا عليك أي ساعة نفرت، ورميت قبل الزوال أو بعده (2) الخ وغير ذلك
من الأخبار، مثل ما في خبر أبي أيوب عن أبي عبد الله عليه السلام: فقال لي: أما اليوم
الثاني فلا تنفر حتى تزول الشمس الخ (3) ومثل حسنة الحلبي عن أبي عبد الله
عليه السلام قال من تعجل في يومين فلا ينفر حتى تزول الشمس فإن أدركه
المساء بات ولم ينفر (4).
وأما ما في بعض الأخبار مما يدل على جواز النفر قبل الزوال في النفر الأول
أيضا مثل رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا بأس أن ينفر الرجل في النفر
الأول قبل الزوال، ورواية أبي بصير قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل ينفر في
النفر الأول قال له أن ينفر ما بينه وبين أن تصفر الشمس (5) فليس يصلح للمعارضة
لما مر للصحة وعدمهما، وقد حملهما الشيخ على المضطر للجمع.
وأما كون الأفضل التأخير فلما ذكره الأصحاب مع حصول عبادة كاملة في

(1) الكافي: ج 4 ص 521.
(2) الفقيه ج 2 ص 288 التهذيب ج 1 ص 524.
(3) الكافي ج 4 ص 518.
(4) الكافي ج 4 ص 224.
(5) التهذيب ج 1 ص 524، الفقيه ج 1 ص 288.
281

منى تمام الأيام، ولأن الظاهر أن النفر الأول رخصة، وقال المفسرون إنه
مخير بينه وبين الأفضل كما يقال: إن أعلنت الصدقة فحسن، وإن أسررت فحسن
وإن كان الاسرار أحسن وأفضل، والظاهر من الآية هو جواز النفر في الأول
أي وقت أراد، وقد عرفت التخصيص والبيان في الأخبار الصحيحة بل في إجماع
الأصحاب أيضا على الظاهر والظاهر أن مذهب الشافعي أيضا جواز النفر بعد الزوال إذ
لا يجوز الرمي إلا بعد الزوال، ومعلوم عدم جواز النفر في الأول أيضا إلا بعد الرمي
ونقل القاضي جواز النفر في الأول قبل طلوع الفجر عن أبي حنيفة، ونقل عنه
أيضا جواز الرمي قبل الزوال وبعده مثل مذهب الأصحاب، وظاهر الآية أن الخروج
قبل إكمال اليومين بعد الشروع فيهما لا قبله، فقول أبي حنيفة بعيد ويلزمه أيضا
ترك الرمي في اليوم الثاني إلا أن يجوز حينئذ الرمي في الليل، وبالجملة الآية
مجملة قابلة للكل بشرط ما يصلح أن يكون دليلا كالروايات الصحيحة عن الذين
قولهم حجة.
" لمن اتقى " أي الذين ذكر من التخيير أو الأحكام لمن اتقى معاصي الله لأنه
الحاج على الحقيقة المنتفع به، يعني أن الحج يقع مبرورا مكفرا للسيئات إذا
اتقى ما نهي عنه، هذا أحد المعنيين في التفاسير الثلاث وفيها حينئذ إشعار بعدم قبول
العبادات مع العصيان مثل قوله تعالى " إنما يتقبل الله من المتقين (1) " فتأمل. والآخر
إن التخيير لمن اتقى الصيد والنساء بمعنى أن الذي لا إثم عليه في التعجيل هو الذي
اتقى الصيد والنساء يعني وطيهن لا سائر ما يحرم منهن في الاحرام للأصل، و
الظاهر من دليله الذي سيأتي من قوله عليه السلام " أتى النساء "، فإنه ظاهر في المواقعة
والظاهر أن المراد الاتقاء منهما مطلقا عمدا وسهوا وجهلا لظاهر عدم الاتقاء
حينئذ، والظاهر أن وقت الاتقاء هو وقت تحريمهما عليه من زمان إحرام الحج
من غير إشكال، وزمان إحرام عمرة التمتع أيضا على الخلاف بناء على أن عمرة
التمتع هي عمرة الحج لدخولها فيه فتأمل فيه، فإن الأصل عدم التقييد والشرط
في الآية، فكلما نقص فهو أولى، ونسب هذا في مجمع البيان إلى أصحابنا وابن

(1) المائدة: 27.
282

عباس (1) وهو المشهور بين الأصحاب بل ما رأينا فيه خلافا في كتب الفروع وظاهر
الآية خلاف ذلك لعموم " من " واحتمال " لمن اتقى " غير المعنى المخصص لذلك
المعنى المحقق عمومه، مع أن الأصل عدم التخصيص وعدم وجوب الوقوف إلى
النفر الثاني، ولذلك نقل هذا المعنى في بعض الروايات (2) ونسب إلى العامة.
ونقل أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى " فمن تعجل " أي من مات
في هذين اليومين فقد كفر عنه كل ذنب " ومن تأخر " أي من أنسئ أجله
" فلا إثم عليه " بعدها إذا اتقى الكبائر (3) ويحتمل غير ذلك أيضا.
وبالجملة الآية عامة، وتخصيص الأصحاب غير ظاهر الوجه، والذي رأيناه
يصلح لذلك رواية محمد بن المستنير عن أبي عبد الله عليه السلام قال من أتى النساء في إحرامه
لم يكن له أن ينفر في النفر الأول، وفي الكافي وفي رواية أخرى الصيد أيضا (4) و
رواية حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل " فمن تعجل في
يومين فلا إثم عليه لمن اتقى " الصيد يعني في إحرامه فإن أصابه لم يكن له أن ينفر
في النفر الأول كذا في التهذيب (5) وفي الفقيه أيضا بعض الأخبار، ولكنها لا
تصلح لتخصيص القرآن العزيز القطعي لعدم صحة سندها فإن محمد بن المستنير غير
معلوم الحال، وفي الرواية الثانية محمد بن الحسين المشترك مع عدم العلم بطريق الشيخ
إليه ويحيى بن المبارك المجهول وعبد الله بن جبلة الواقفي ووجود محمد بن يحيى
الصيرفي قال في الاستبصار إنه كان عاميا مع قصور في الدلالة أيضا، إذ لا دلالة في كل
واحدة عليهما معا، ولكن بعد ثبوتها ذلك هين.
والحاصل أنه لو لم يكن المسألة على قررناها إجماعية وليس عليها دليلا سوى
هاتين ينبغي أن لا يقال بها بل يقال بظاهر الآية من ثبوت التخيير مطلقا، والعجب

(1) راجع مجمع البيان ج 2 ص 299.
(2) راجع الكافي ج 4 ص 521.
(3) رواه في مجمع البيان مرسلا.
(4) الكافي ج 4 ص 522.
(5) التهذيب ج 1 ص 524.
283

من ابن إدريس أنه قال بالتخيير لمن اتقى النساء مطلقا والصيد كذلك أي جميع
محرماته مع أنه ما يعمل إلا بالمتواتر، وما يخرج القرآن المتواتر من عمومه إلا
بدليل مثله، وكذا عن صاحب مجمع البيان حيث قال فلا إثم عليه لمن اتقى الصيد
إلى انقضاء النفر الأخير وما بقي من إحرامه، ومن لم يتقه فلا يجوز له النفر
الأول (1) فإن الظاهر أن الشرط إنما هو الاتقاء المتقدم على النفر الأول إلى
حصوله لا بعده، وهو ظاهر ولا يدل عليه ما في صحيحة معاوية بن عمار (2) قال: ينبغي
لمن تعجل في يومين أن يمسك عن الصيد حتى ينقضي اليوم الثالث، ويمكن حملها
على الاستحباب ويكون ذلك هو مراد مجمع البيان الله يعلم.
و " اتقوا الله " أي اجتنبوا معاصي الله " واعلموا أنكم إليه تحشرون " أي
تحققوا أنكم بعد موتكم تجمعون إلى الموضع الذي يحكم الله بينكم، ويجازيكم
على أعمالكم، ففيه تحريص وترغيب وترهيب وتخويف.
السابعة: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم
مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين
والركع السجود (3).
البيت في اللغة هو المأوى والمنزل، والمراد هنا البيت الحرام أعني الكعبة
والمثابة هنا الموضع الذي يثاب إليه من ثاب يثوب مثابة ومثابا إذا رجع أو موضع
الثواب أي يثابون لحجه واعتماره كذا قال القاضي وهو صريح في نفي ما ذكره
أولا من عدم الاستحقاق للثواب بالعبادة، وما يدل عليه من الآيات كثيرة، فإن
القرآن العزيز مملو به مثل " جزاء بما كنتم تعملون " وقلما توجد صفحة في المصحف
لم يكن فيها ما يدل عليه، وكذا الأخبار النبوية والإمامية المتواترة، بل العقل
أيضا يدل عليه فتأمل.

(1) راجع ج 2 ص 287 - 289.
(2) الفقيه: ج 2 ص 289.
(3) البقرة: 125.
284

والطائف: الدائر حول الشئ، والعاكف المقيم على الشئ اللازم له، و
الركع جمع راكع، والسجود جمع ساجد والبيت ومثابة مفعولا " جعلنا " " وأمنا "
عطف على " مثابة " وللناس متعلق بمثابة أو بمقدر صفة لها " واتخذوا " بتقدير
وقلنا اتخذوا. عطف على جعلنا ومصلى مفعول اتخذوا و " من " يحتمل التبعيض
متعلقا به، بمعنى اجعلوا بعض المكان القريب من المقام أو نفسه مصلى أو للابتداء
أو للتبيين، وكونها زائدة أحسن لو جاز، والعهد هنا الأمر كما صرح به قال
القاضي: أمرناهما.
ولعل المقصود كون البيت معبدا، فيمكن فهم وجوب عبادة عنده، و
لعلها تكون الطواف وصلاته وباقي المناسك أيضا إذ لا قائل بغيرها، وكونه موضع
أمن، فيمكن فهم وجوب جعله كذلك فلا يتعرض لمن التجأ إليه من الجناة خارجا
عنه، كما قال الأصحاب وأبو حنيفة على ما نقل عنه القاضي، ولكن فيهما تأمل
إذ يمكن كون " المثابة " بمعنى المرجع و " أمنا " بمعنى ذا أمن من العذاب في
الآخرة، فإن الحج يجب ما قبله على ما نقل، وبمعنى أن لا يتعرض له بالخراب
ولا لأهله بالأذى فحمله بحيث يفهم ذلك يحتاج إلى شئ آخر، فإن اسقاط حق
مطالبة المال والدم بمثل هذا بعيد مع أنهم يقولون بذلك إذا التجأ إلى الحرم ولا
يفهم من الآية إلا الملتجي إلى البيت إلا أن يقال الملتجي إلى الحرم ملتج إلى
البيت أو يقال: إن المراد بالبيت هو الحرم، لأنه المنزل والمثابة والمرجع
لكنه بعيد إلا أن للأصحاب ما يدل عليه من الأخبار بحيث يدل على أنه المقصود
من الآية، وكأنه لا خلاف عندهم فيه ويدل عليه أيضا " ومن دخله كان آمنا " (1)
كما سيجئ (2) وكذا قوله تعالى: " رب اجعل هذا بلدا آمنا (3) " ولكن في الدلالة
تأمل فتأمل. إلا أن لهم روايات مبينة، وكون الصلاة المخصوصة في المقام المخصوص

(1) آل عمران: 97.
(2) بل قد مر ص 216.
(3) إبراهيم: 35.
285

كأن المراد به ما هو المتعارف والمعد للصلاة الآن، إذ الحقيقي لا يصلى فيه، و
يدل عليه بعض الأخبار أيضا، أو جملة الحرم، فيكون " من " للتبعيض ويكون
المراد البعض المخصوص، وهو المقام الآن، فيفهم وجوب صلاة وكونها في المقام
وهي ركعتا الطواف فيه، إذ لا وجوب لغيرهما، ويدل عليه الاجماع والأخبار أيضا.
وإيجاب تطهير البيت على إبراهيم وإسماعيل للطائفين حوله، أو المترددين
وللعاكفين المقيمين أو المعتكفين بالمعنى المتعارف للاعتكاف، وللمصلين، من الأصنام
والأنجاس كما قالوا، وفهم بعض الأصحاب منه وجوب إزالة النجاسة عن المساجد
كلها متعدية وغيرها، وكذا من قوله تعالى: " إنما المشركون (1) " الآية ومن
وجوب تعظيم شعائر الله، ومن قوله عليه السلام: " جنبوا مساجدكم النجاسة (2) "
وفهمه مشكل، لأن وجوب الإزالة عليهما من البيت على تقدير تسليم شمول التطهير
للنجاسة فإن احتمال تطهيره من الأصنام بكسرها وإلقائها احتمال راجح ومذكور
في التفاسير، لا يستلزم الوجوب على غيرهما من المساجد كلها، والأصل يؤيده
وقد مر البحث في " إنما المشركون " ووجوب تعظيم شعائر الله بحيث يشمل وجوب
الإزالة مطلقا غير مفهوم، وصحة الخبر بل سنده غير معلوم، وكأن وجوب تطهيرها
من النجاسة المتعدية لا خلاف فيه ولا دليل على غيرها.
الثامنة: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر
فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (3).
هما كانا جبلين بمكة قريبين من المسجد الحرام وهما الآن دكتان معروفتان
هناك، والحج هو القصد لغة، وشرعا قصد البيت على الوجه المخصوص المبين

(1) براءة: 28.
(2) الوسائل الباب 24، من أحكام المساجد الحديث المرقم 2، مرسلا من كتب
أصحابنا الفقهية.
(3) البقرة: 158.
286

في الفقه، والعمرة لغة الزيارة، وشرعا زيارته كذلك أيضا، والشعائر جمع شعيرة
وهي العلامة، أي هما من أعلام مناسك الله ومتعبداته، والجناح هو الميل من
الحق [إلى الباطل] والطواف هو الدوران حول الشئ، وليس هو المقصود هنا
بل السعي بينهما، وقيل: التطوع هو التبرع بالنافلة من الطوع بمعنى الانقياد
والمراد بالشاكر هنا الذي يجزي بالشكر فسمي من يجازيه شاكرا (1) مجازا
كالتواب لقابلها، فإن ثناء الله وإثابته عبده على الطاعة يشبه الشكر، ويعمل
معاملة الشاكر، فكأنه شاكر. وأصل يطوف يتطوف، قلبت التاء طاء وأدغمت
ونصب خيرا إما لأنه صفة مصدر محذوف أي تطوعا خيرا أو لأنه قائم مقام المصدر
المضاف إليه أي تطوع خير فحذف المضاف وأقيم هو مقامه وأعرب باعرابه أو
مفعول تطوع، فإنه يتضمن معنى الفعل، وإعراب الباقي ظاهر.
والمعنى أنهما من معالم عباداتكم فالذي يحج أو يعتمر فلا حرج ولا ميل
من الحق إلى الباطل لو سعى بينهما على الطريقة المنقولة من الشارع، ومن أتى
بخير زائد على ما وجب عليه من الحج والعمرة أو الأعم فإن الله يجازيه ولا يضيع
سعيه، فإنه مجاز محسن، وعليم بالنيات ويفعل الخيرات، فيجازي بهما، وأنه
لا يليق بحاله عدم إثابة من فعل خيرا طمعا لذلك لأنه كريم.
فيمكن الاستدلال بها على جواز الزيادة في الطواف والسعي على الواجب
والموظف، بل جميع الخيرات والعبادات حتى تكرار الصلاة والصيام والحج
كما هو العادة في الحياة وبعد الممات فتأمل، وعلى كون السعي بينهما عبادة
لأنه قال: " من شعائر الله " أي محل العبادة، والذي يظهر من السوق أن تلك
العبادة هي الطواف والسعي بينهما، ونفي الحرج والإثم لا ينافي الوجوب، إلا
أنه لا يثبته أيضا ولكنه ثابت بغيره.
واختيار هذا اللفظ المشعر بالإباحة لعد المسلمين ذلك كذلك، على ما روي
أنه كان عليهما أصنام في الجاهلية، وأهلها كانوا يطوفون بهما، ويمسحون تلك

(1) الذي يجزى فسمى جازيه شاكرا خ.
287

الأصنام، وكان ذلك إثما وميلا من الحق إلى الباطل، والمسلمون كانوا يعدونه
كذلك، ولما انكسرت الأصنام زال ذلك، ولكن ما كان للمسلمين علم بذلك فيتحرجون
منه كما كانوا. فنزلت ليدفع عنهم ذلك وأشار بقوله: " شاكر وعليم " إلى أنه
يعلم أن نيتكم الخير، وأنتم الشاكرون المتعبدون، فيعاملكم معاملة الشاكرين
بخلاف أهل الجاهلية، فيمكن معنى كون من تطوع: من فعل السعي الذي هو
الطاعة، يعني إن فعلتم ذلك فعلتم خيرا وإحسانا، والله لا يضيع أجركم، لعلمه
وقدرته على ذلك، فيكون حينئذ التطوع بمعنى الطاعة مطلقا واجبة أو مندوبة
لا النافلة خاصة فإنه في الأصل من الطوع، وهو الانقياد كما مر، وهو متحقق
في النفل والواجب.
وأما وجوبه وركنيته وكيفيته كما يقول به أصحابنا في الحج والعمرة
مطلقا فبانضمام البيان بالسنة الشريفة من النبي والأئمة عليهم السلام ولعله بإجماع
الطايفة أيضا، واحتج مالك والشافعية على الركنية بقوله صلى الله عليه وآله اسعوا! فإن الله كتب
عليكم السعي. أي فرض عليكم السعي بينهما كذا في تفسير القاضي والكشاف وأنت
تعلم أنه لم يدل على سوى الوجوب، وأما كونه ركنا بحيث لو ترك عمدا يبطل
الحج والعمرة، فلا دلالة فيه عليه، نعم يدل على أنه واجب لا بدل له، فقول
أبي حنيفة أنه واجب له بدل باطل، لأنه يقال علم الوجوب من الخبر والأصل
بقاؤه، وعدم إجزاء غيره، عنه فيدل عليه الخبر والآية أيضا للخبر.
ثم إن الظاهر من الخبر أنه فرض بالقرآن فيكون المراد بأنهما من شعائر
الله أنهما من علامات العبادة الواجبة وهي السعي بينهما، وبأنه لا جناح: أنه صدقة
واجب عليكم قبولها كما روي في آية القصر أن القصر صدقة عليكم فاقبلوها، و
هل يحب أحدكم أن يرد عليه صدقته؟ أي لا يحب بل يغتاظ فيحرم عدم القبول
فيجب بالآية، وإن لم نقل بوجوبه بالآية فلا يضر، لما أشرنا إليه من أدله الوجوب
وهي كثيرة ومن جهة عدم الخلاف عندنا لم ننقلها.
ونقل في مجمع البيان عن ابن عباس وأنس وأبي حنيفة أنه تطوع و
288

الطاعة بمعنى السنة، لكن يفهم من الكشاف وتفسير القاضي أنه واجب عند
أبي حنيفة أيضا وسنة عندهما، حيث نقل فيهما عن أحمد أنه سنة وكذا عن أنس
وابن عباس محتجا بقوله " فلا جناح " فإنه يفهم منه التخيير، هذا كلامهما وأنت
تعلم عدم دلالة التخيير على السنة ولعل وجهه أن الظاهر من نفي الحرج هو التخيير
عرفا، بمعنى جواز الفعل والترك، وعلم الرجحان من كونه شعائر الله، وغير
ذلك، فيكون سنة أو أنه علم عدم التحريم من نفي الحرج والأصل عدم الوجوب
والكراهة، وقد علم كونه عبادة، فيثبت الاستحباب، وهو المراد بالسنة المستدل
عليها، أو أراد من أنه سنة: أنه ليس بواجب، وأنه ما يرد على الاحتجاج ما
أورده القاضي بقوله وهو ضعيف لأن نفي الجناح يدل على الجواز الداخل في معنى
الوجوب فلا يدفعه وهو ظاهر وقد فهم مما ذكرناه أيضا فافهم.
التاسعة: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام
إن شاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين [لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل
من دون ذلك فتحا قريبا (1)].
مضمونها تصديق النبي صلى الله عليه وآله في رؤياه التي حكاها لأصحابه دفعا لتوهم من
توهم خلافه حيث تأخرت بالحق أي الثابت الكائن لا محالة، وهو نقيض الباطل
" لقد صدق الله " جواب قسم محذوف والحق متعلق الرؤيا أي رؤيا متلبسا بالحق
أو صفة لمصدر صدق أي صدقا متلبسا بالحق.
ويحتمل أن يكون قسما إما اسم الله تعالى أو نقيض الباطل " لتدخلن " جواب
قسم محذوف على الأولين وعلى الأخير جواب بالحق " إنشاء الله " معترض تعليما
للعباد، وليعلقوا مواعيدهم بالمشية، حتى لا يحصل الخلاف، والخطاب له صلوات
الله عليه وآله ولأصحابه " آمنين " حال عنهم أي غير خائفين " محلقين " حال أخرى
" رؤسكم " مفعوله " ومقصرين " عطف عليه، وظاهرها تدخلون بعضكم محلق و

(1) الفتح: 27.
289

بعضكم مقصر فتأمل، وهي تدل على جواز الحلق والتقصير في الجملة، حين دخول
المسجد الحرام، لعل المراد الاحلال بأحدهما في منى في الحج مطلقا ثم دخوله
للطواف، ولا يفهم الاحلال عن العمرة مطلقا بهما، ولا وجوب أحدهما على سبيل
التخيير مطلقا كما هو المشهور، ومذهب الأكثر، لعموم الروايات والأصل ولا
التفصيل كما هو مذهب البعض، وهو تعيين الحلق للملبد والضرورة والتخيير
لغيرهما احتجاجا ببعض الروايات وحمل غيرهما من العمومات على التفصيل، وحمل
الأكثر ما يدل على التعيين على الاستحباب وتحقيقه في الفقه فارجع إلى كتب
الاستدلال فيه.
* (النوع الثالث) *
* (في أشياء من أحكام الحج وتوابعه) *
وفيه آيات:
الأولى: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله
منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ
الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا
الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام (1).
" حرم " جمع محرم فنهى المؤمن المحرم، إذ ليس غير المؤمن بمحرم لعدم
انعقاد إحرامه، والمراد بالصيد هنا كل حيوان بري ممتنع بالأصل، فيخرج
منه البحري لما سيجئ وغير الممتنع فإنه لا يقال صيد عرفا بل لغة أيضا وما
يجوز قتله من البري الممتنع بدليل مثل " خمسة يقتلن في الحل والحرم، كان

(1) المائدة: 95.
290

المقصود جواز قتلها مطلقا للمحل والمحرم: الحداة والغراب، والفارة، و
العقرب، والكلب العقور (1) وفي رواية الحية بدل العقرب، وقيل بري محلل
ممتنع لأنه الأكثر والمتبادر إلى الذهن وفيه تأمل لتحريم بعض غير المحلل مثل
الأسد والثعلب والأرنب والضب واليربوع والقنفذ بالأخبار (2) بل الاجماع
ويشعر به قيد الخمسة في الرواية السابقة وتمام تحقيقه في الفقه، ثم إنه يحتمل
أن يراد بالقتل ما هو المزيل للروح أو الأعم منه ومن الضرب، وقد ثبت تحريم
الصيد مطلقا قتلا واصطيادا، وإغلاقا وإشارة ودلالة بالإجماع والأخبار ويمكن
إدخالها في الآية بتكلف بعيد.
" ومن قتله منكم متعمدا " ذاكرا أنه محرم ويحرم عليه قتل الصيد
" فجزاء مثل ما قتل من النعم " أي فعليه أو فالواجب عليه أو فوجب عليه جزاء.
فجزاء مرفوع بالابتدائية أو الخبرية أو الفاعلية مضاف إلى مثل، ومثل إلى " ما "
وقتل صلته، والعائد مفعوله المحذوف وفاعله ضمير من، و " من النعم " بيان مثل
أي كفارة قتله ما يماثل ما قتله من الصيد من النعم، وقرئ مثل بالرفع وجزاء
بالتنوين، فهو صفة جزاء لابهامه ولم يكتسب التعريف بالإضافة إلى ما كغير و
" يحكم به " صفة مثل، وظاهر أن المراد بالمثلية في الهيئة والجثة في الجملة، لبيان
المثل بالنعم لا في القيمة، كما هو مذهب أبي حنيفة ولا يدل " يحكم به ذوا عدل
منكم " على كون المراد القيمة لأن المماثلة الخلقية ظاهرة للحس فلا يحتاج إلى
حكم العدول، لأن الأنواع قد يشتبه ويماثل بعضها بعضا، فيحتاج التميز إلى حكم
العدول وأيضا قد يراد " يحكم ذوا عدل " على تقدير الاشتباه مثل أن قتل صيدا
وما علم مثله لعدم العلم به، فيعلم بحكم العدول، وبالجملة دلالة المثلية والبيان
بالنعم وتتمة الآية على كون المراد المثلية في الخلقة والهيئة أقوى من دلالة

(1) الخصال ج 1 ص 142، الجامع الصغير على ما في السراج المنير ج 2 ص 256
صحيح البخاري ج 1 ص 314.
(2) الكافي ج 4 ص 385.
291

" يحكم به " على كونه في المقدار والقيمة، ولأنه يلزم التخيير بين الأمرين
الأخيرين فقط على تقدير عدم بلوغ قيمة ما قتل قيمة هدي كما هو مذهبه، فيلزم
اسقاط قوله " فجزاء " حينئذ وهو ظاهر.
ولهذا ذهب إليه أكثر الفقهاء، ويؤيده " هديا " إذ غالب إطلاقه على الحيوان
و " أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما " فإنه كالصريح في أن اعتبار
الأول هو نفس الجزاء والمثل في الخلقة، لأنهما قيمة، ولأنها صريحة في التخيير
مطلقا، وليس على مذهبه كذلك إذ قد لا يوجد نعم يكون قيمته قيمة الصيد المقتول
بل الوجود نادر، وفيه تنبيه على اعتبار العدالة في الشهود والراوي وأنه لا بد
من أن يكونا من المسلمين، ولا يكفي العدل في مذهبه، فافهم، ولفظ الحكم يدل
على أن المراد الحاكم، ولكن اعتبار التعدد يأباه، والظاهر أنه يكفي الشهود
بدون الحاكم، وإطلاق الحكم على الشهادة غير بعيد، ففيه تنبيه على عدم اعتبار
حكم الحاكم مع الشهادة، بل يكفي مجرد الشهادة، فاعتباره في مواضع مع الشهود
يحتاج إلى دليل، كاعتبار اليمين معها في مثل الدعوى على الميت فافهم " هديا "
حال من جزاء أو ضمير به " وبالغ الكعبة " صفة هديا لأن إضافته لفظية، ومعنى
بلوغه ذبحه بمكة بالحزورة بفناء الكعبة للرواية إن كان في كفارة العمرة، و
يشعر به آية العمرة، وبمنى إن كان في كفارة الحج للرواية بل للإجماع والظاهر
أن مجرد الذبح لا يكفي بل لا بد من التصدق به لأنه عوض ما قتل، فلا يحصل
العوض بمجرد القتل والذبح، ولأن المتبادر ذلك، ولوجوب الاطعام، وللخبر
وكأنه لا خلاف عندنا وعند الأكثر، وعند أبي حنيفة يكفي مجرد الذبح أخذا
بظاهر الآية المتيقن مع البراءة الأصلية.
" أو كفارة طعام مساكين " عطف على " جزاء " على تقدير الإضافة البيانية و
عدمها، وكون طعام بدلها أو خبر مبتدأ محذوف، وبين ذلك بأن يقوم الجزاء
الذي هو المثل، ويفض ثمنها على الأوسط مما يطعمون وهو البر مثلا، ويعطى
لكل مسكين مد، ولو نقص من ستين لا يكمل، ولو زاد لا يعطي، هكذا قاله
292

الأصحاب والأول ظاهر، والثاني كأنه للإجماع والأخبار.
" أو عدل ذلك صياما " مصدر أي ما ساوى طعام مساكين من صيام يوم لكل
مد بعد التقويم والفض على البر، فيصوم عن إطعام كل مسكين يوما " ليذوق
وبال أمره " كأنه متعلق بمحذوف أي ذلك الحكم من الجزاء أو الطعام أو الصوم
ليذوق من فعل ذلك ثقل فعله وسوء عاقبة هتكه حرمة الاحرام " عفا الله عما سلف "
من قتل الصيد محرما عالما عامدا مع الكفارة أو مع التوبة فقط مع العجز في المرة
الأولى وقيل أي عما سلف في الجاهلية أو قبل التحريم، فيه أنه لا يحتاج إلى العفو
لعدم المنع.
" ومن عاد فينتقم الله منه " أي من عاد إلى قتل الصيد عمدا بعد أن قتل كذلك
ينتقم الله منه يعني ليس شئ معفوا عنه بكفارة وغيرها بل لا بد له من الانتقام فهو
مقابل لقوله " عفا الله عما سلف " فالظاهر عدم سقوط الكفارة حينئذ لعموم قوله
" ومن قتله منكم متعمدا " إذ لا شك في دخوله تحته، وليس ما يصلح أن يخرجه
عنه إلا قوله " فينتقم الله منه " وهو لا ينافيه، إذ يمكن الجمع بين الانتقام ووجوب
الكفارة لعظم الذنب.
وبالجملة ظاهرها العموم حتى يعلم المخصص وليس " فينتقم الله منه " لعدم
المنافاة، ولكن قد يتبادر من الآية كون الانتقام مقابلا للكفارة، وأيضا صحيحة
الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاؤه، ويتصدق
بالصيد على مسكين، فإن عاد فقتل صيدا آخر، لم يكن عليه جزاؤه، وينتقم الله
منه، والنقمة في الآخرة ويحمل على العمد بقرينة الآية.
والرواية رواية ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام قال
إذا أصاب المحرم الصيد خطأ فعليه كفارة، فإن أصابه ثانية خطأ فعليه الكفارة
أبدا إذا كان خطأ فإن أصابه متعمدا كان عليه الكفارة، فإن أصابه ثانية متعمدا
فهو ممن ينتقم الله منه، ولم يكن عليه الكفارة (1) تدلان على السقوط حينئذ وكذا

(1) الكافي ج 4 ص 394.
293

رواية حفص الأعور عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أصاب المحرم الصيد فقولوا له هل
أصبت صيدا قبل هذا وأنت محرم؟ فإن قال نعم، فقولوا له إن الله منتقم منك فاحذر
النقمة، فإن قال لا، فاحكموا عليه بجزاء ذلك الصيد (1) ولا يضر الجهل بحال
حفص، فتأمل.
وقد أشار إلى تخصيص الصيد بصيد البر بقوله " أحل لكم صيد البحر (2) "
أي أحل ما صيد من البحر أو الاصطياد منه لكم، وأنتم حرم أو الأعم وصيد البحر
هو الذي لا يعيش إلا فيه، وهو حلال كله إلا ما خرج بدليل، مثل ما ليس له فلس
من السمك بالإجماع والنص في الحل والحرم للمحل والمحرم " وطعامه " أي طعام البحر
يحتمل أن يكون المراد بالصيد الاصطياد وهنا أكل ما صيد بالاصطياد والانتفاع
به، أو بالأول الجديد، وبالثاني اليابس القديد ويؤيده " متاعا لكم " تمتعا
لحاضريكم فنصبه لأنه مفعول له " وللسيارة " عطف على " لكم " أي ولمسافريكم
يتزودون قد يده كما يأكلون جديده " وحرم عليكم صيد البر " أي ما صيد أو
الاصطياد، قال القاضي فعلى الأول يحرم على المحرم أيضا ما صاده الحلال وإن
لم يكن فيه مدخل، والجمهور على حله لقوله عليه السلام لحم الصيد حلال لكم ما لم
تصطادوه أو يصد لكم، وأصحابنا على التحريم مطلقا لإجماعهم وأخبارهم، وكذا
ما قتله المحرم حرام على الكل لأنه بمنزلة الميت عند الأكثر فتأمل " ما دمتم
حرما " أي محرمين وقد علم أن الصيد هو صيد البر لا مطلقا فكانت الأولى مجملة
بينت بقوله " وأحل لكم صيد البحر " وبمفهوم قوله " صيد البر " للتقييد.
وللصيد أحكام وتفاصيل في غير هذا المحل.
ثم أشار إلى التقوى والخوف من الله الذي إليه المرجع والحشر، وإلى
تعظيم البيت بأنه البيت الحرام، وأنه قيام للناس انتعاشا لهم، وسببا لمعاشهم و
معادهم، يلوذ به الخائف، ويأمن فيه الضعيف، ويرجح فيه التجار، ويتوجه

(1) الوسائل الباب 48 الحديث 3 من أبواب كفارات الصيد.
(2) المائدة: 96.
294

إليه الحاج، وكذا الشهر الحرام والهدي والقلائد بقوله تعالى " واتقوا الله
الذي إليه تحشرون * جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام و
الهدي والقلائد [ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله
بكل شئ عليم] وتفسيرها سيأتي.
الثانية: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا
الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا
وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم عن المسجد
الحرام أن تعتدوا (1).
أي لا تجعلوا محرمات الله حلالا ومباحا ولا العكس يعني لا تتعدوا حدود
الله، فعلى هذا يحمل الشعائر على المعالم، أي حدود الله وأوامره ونواهيه وقيل هي
فرايضه وقيل هي جمع شعيرة، وهي أعلام الحج ومواقفه، يعني لا تجعلوا ترك
مناسك الله حلالا فتتركوها وقيل المراد دين الله لقوله " ومن يعظم شعائر الله "
أي دينه " ولا الشهر الحرام " أي لا تحلوا الشهر الحرام بالقتل فيه أو بالسبي كأنه
يريد جميع الأشهر الحرام " ولا الهدي " أي لا تحلوا ما أهدي إلى الكعبة أو مطلقا
جمع هدية كجدي في جمع جدية السرج " ولا القلائد " أي لا تحلوا ذوات القلائد
من الهدي جمع قلادة، وهي ما يعلق على عنق الهدي علامة لكونه هديا من النعل
وغيره، وذكر الهدي ذي القلائد بعد ذكر الهدي لأنها أشرف الهدي فنهى عن
القلائد أولا في ضمن الشعائر ثم في ضمن الهدي ثم صرح بالنهي عنها بخصوصها
تأكيدا، ويحتمل أن يكون المراد نفس القلائد وجعلها غير حلال، بمعنى عدم اعتقاد
مشروعيتها واستحبابها، أو عدم أخذها والتصرف فيها إن كان مما يتملك وله قيمة

(1) المائدة: 2.
295

أو يكون النهي عنها للمبالغة عن النهي عن ذي القلائد من الهدي، ونظيره " ولا
يبدين زينتهن (1) ".
" ولا آمين البيت الحرام " ولا يحل التعرض لقاصدي البيت والحال أنهم
" يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " يطلبون من الله الثواب والفضل ورضاه عنهم في
الآخرة، ويحتمل أن يكون المراد بالفضل الرزق بالتجارة في الدنيا، وبالرضوان
رضاه في الآخرة، أو كلاهما في الدنيا، وعلى الأولين فائدة الحال الإشارة إلى
علة المنع، والمبالغة فيه، فمع عدمها يحتمل جواز التعرض لهم فتأمل فيه، وعلى
الثالث كونها تلك غير ظاهر.
ويحتمل أن يكون للإشارة إلى أنه وإن كان قصدهم مجرد الدنيا لا
الآخرة لا يحل التعرض لهم حرمة للبيت، فكيف إذا كان مقصودهم الآخرة
فهو أبلغ. ويؤيده أنه قيل: نزلت في المشركين وحجاج اليمامة الذين يحجون
مع المسلمين لما هم المسلمون أن يتعرضوا لهم بسبب أنه كان فيهم الحطم شريح
ابن ضبيعة وكان قد استاق سرح المدينة، وكان قصدهم مجرد الدنيا.
هكذا فهم من تفسير القاضي والكشاف، ولكن قالا: " فالآية منسوخة
بقوله واقتلوهم " أي " المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم (2) " أي
احبسوهم وحيلوا بينهم وبين المسجد الحرام، مما يدل على منع الكفار عن دخول
المسجد الحرام، مثل " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله (3) " و " إنما
المشركون نجس فلا يقربوا المسجد (4) " الآية.
وفيه أنه يحتمل أن يكون المراد عدم التعرض من جهة أن قصدهم بيت الله
الحرام إلى أن يصلوا البيت، والحرم: الموضع الذي لا يجوز دخول الكفار فيه
فيكون نحو " اقتلوا " مخصصة لا ناسخة، أو يكون المراد المسلمين فتكون هذه
الآية مخصوصة لا منسوخة، ويؤيده ما هو المشهور بين العامة والخاصة من

(1) النور: 31.
(2) براءة: 5.
(3) براءة: 17.
(4) براءة: 28.
296

المفسرين أن المائدة آخر ما نزلت، فليس شئ منها منسوخا فتأمل.
وبالجملة الظاهر تحريم التعرض لقاصدي البيت الحرام مطلقا إلا ما خرج
بالدليل، مثل ما تقدم، فالحال المذكورة إما لكون الواقع ذلك أو أنه كذلك
في الأكثر، لا أنه يجوز التعرض إذا لم يكن ذلك، وكذلك إذا كانت جملة
" يبتغون " صفة فتأمل.
نعم إذا وصل الكفار إلى موضع لا يجوز لهم الدخول، يتعرض لهم بمنعهم
عن الدخول فقط فيكون المنع حينئذ خارجا لدليله، فتخصص هذه الآية.
" وإذا حللتم فاصطادوا " إذن وإباحة للاصطياد بعد زوال الاحرام المانع
منه، الدال على التحريم بقوله: " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " وهذا لا يدل
على كون الأمر بعد الحظر مطلقا للإباحة والجواز، لا الوجوب، لأن هذه
قد يكون لخصوص المادة أو للإجماع ونحوه فتأمل " ولا يجرمنكم شنآن قوم " أي
لا يحملنكم أو لا يكسبنكم شدة بغض قوم وعداوته، شنآن بفتح النون وسكونها
مصدر أضيف إلى المفعول أو الفاعل، والأخير أوضح لقوله: " أن صدوكم عن
المسجد الحرام " أي لأن صدوكم عام الحديبية، وحذف حرف الجر قياسا، وهو
علة للشنآن وبيان له، وقرئ بكسر الهمزة على أنه شرط وأغني عن جوابه
قوله: " ولا يجرمنكم ". وليس المراد الماضي في الجواب أي إن فعلوا بكم في
الزمان الماضي كذا، فأنتم لا تفعلوا في المستقبل بهم كذا: " أن تعتدوا " للانتقام منهم
لما فعلوا بكم، فهو ثاني مفعول يجر منكم فإنه يتعدى إلى واحد، وإلى اثنين
ككسب.
" وتعاونوا على البر والتقوى " أي اعملوا بالعفو ومتابعة الأمر بالإحسان
ومخالفة الهوى، فليعاون بعضكم بعضا على الاحسان، واجتناب المعاصي وامتثال
الأوامر، ويحتمل أن يكون أمرا بالتعاون مطلقا من غير أن يكون تتمة ليجرمنكم
" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " للتشفي والانتقام، والظاهر أن المراد
الإعانة على المعاصي مع القصد أو على الوجه الذي يقال عرفا أنه كذلك مثل أن
297

يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم، فيعطيه إياها، أو يطلب منه القلم
لكتابة ظلم فيعطيه إياه، ونحو ذلك مما يعد ذلك معاونة عرفا، فلا يصدق على
التاجر الذي يتجر لتحصيل غرضه أنه معاون للظالم العاشر في أخذ العشور ولا
على الحاج الذي يؤخذ منه بعض المال في طريقه ظلما وغير ذلك مما لا يحصى، فلا
يعلم صدقها على شراء من لم يحرم عليه شراء السلعة من الذي يحرم عليه البيع
ولا على بيع العنب ممن يعمل خمرا، والخشب ممن يعمل صنما، ولهذا ورد في
الروايات الكثيرة الصحيحة جوازه وعليه الأكثر ونحو ذلك مما لا يحصى فتأمل.
والآية دلت على أن المعاون على الشئ كالفاعل في الخير والشر كما هو
المشهور في الخبر أن الدال على الخير كفاعله، وفيه أيضا أن التصدق لو تعاقبت
عليه كثرة الأيدي ثم وقع بيد المتصدق يكتب للكل ثواب التصدق من غير نقصان
شئ عن صاحبه فتأمل.
" واتقوا الله إن الله شديد العقاب " فيجب الخوف عنه باجتناب جميع مناهيه
من المعاونة على الإثم وغيره، وبترك الانتقام بغير ما استحق.
الثالثة: وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من
الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم
اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (1).
فيها دلالة على جواز الدعاء بل كونه مرغوبا فيه ومندوبا إليه، إذ الظاهر
أن إبراهيم عليه السلام لا يفعل الدعاء بكون البلد آمنا وبالرزق للمؤمن بالله واليوم
الآخر - حيث جعل من آمن بدل أهله مطلقا فاسقا كان أو غيره - إلا إذا كان
كذلك، بل لا يبعد الفهم كافرا أيضا مطلقا كما يشعر به قوله بعده " ومن كفر
فأمتعه قليلا " أي زمانا قليلا، وهو مدة بقائهم في الدنيا أو متاعا قليلا، وهو
متاع الدنيا، وكل ذلك قليل بالنسبة إلى متاع الآخرة فكيف ما وصل منها إلى

(1) البقرة: 126،
298

الكفار، ويفهم منه سقوط اعتبارها عند الله، وفيه إشعار بعدم حسن التخصيص فيجوز
طلبه مطلقا فيمكن إعطاؤهم سوى ما ثبت منعه من الزكاة الواجبة، ويدل عليه
الأخبار وما ذكر في باب الوقف والوصايا، وليس هنا محل ذكره، فإن أردت
فارجع إليه، وتأمل، فمنع ابن الجنيد إعطاء غير أهل الحق المستفاد من الدروس
بعيد.
واعلم أيضا أن في الآية التي بعدها أعني " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من
البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " أي يقولان ربنا وقد
قرئ به جملة حالية أي قائلين وإنما قدرنا الفعل لا الصفة تبعا لما قرئ به أي
ربنا أثبنا على هذا البناء إنك أنت السميع لدعائنا العليم بمصالحنا، ونياتنا أن
هذا البناء ما كان إلا لك، دلالة على كونه مندوبا ومرعوبا عند الفراغ من العبادة
كما قاله في مجمع البيان، فيمكن فهم استحباب التعقيب وغيره من الأدعية عند
الفراغ من جميع العبادات.
وأيضا في الآية التي بعدها أي " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة
مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم " تنبيه ودلالة على
جواز التوبة وطلب قبولها من غير ذنب، لأنهما معصومان، وقد طلبا الاستجابة
ودلالة على جواز الدعاء للمسلم بأن يجعله مسلما أو باعتبار الزيادة كما قاله في
الكشاف والمعنى زدنا إخلاصا وإذعانا لك أو باعتبار الاستمرار والاستقبال أي قالا
ربنا واجعلنا مسلمين مستقبل عمرنا كما جعلتنا فيما مضى بأن توفقنا وتفعل بنا
الألطاف التي تدعونا إلى الثبات على الاسلام كما قال في مجمع البيان.
ثم قال فيه أيضا (1) هو أي الاسلام الانقياد لأمر الله تعالى بالخضوع والإقرار
بجميع ما أوجب الله، وهو أي الاسلام والايمان واحد عندنا، وعند المعتزلة.
واستدل بقوله " إن الدين عند الله الاسلام " (2) " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن

(1) مجمع البيان ج 1 ص 207.
(2) آل عمران: 19.
299

يقبل منه (1) وفيه تأمل إذ يلزم دخول العبادات في الاسلام والايمان عند أصحابنا أيضا
مع أنه ليس كذلك كما ذكر صاحب مجمع البيان في تفسير " يؤمنون بالغيب " لأن
عند المعتزلة الأعمال داخلة في الايمان، وقد قال هما واحد عندهم وعند أصحابنا
وقد ذكر ذلك أيضا في تفسير " يؤمنون بالغيب " فتأمل. وكذا على جواز الدعاء
للذرية.
وقال القاضي (2) ووخصا بعضهم أي بعض الذرية على تقدير جعل من في قوله
" ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " للتبعيض لما أعلما أن في ذريتهما ظلمة، وعلما أن
الحكمة الإلهية لا يقتضي الاتفاق على الاخلاص، والاقبال الكلي على الله، فإنه
مما يشوش أمر المعاش، ولذلك قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا انتهى وفيه تأمل
إذ يفهم من قوله ظلمة أنه أخذ الاسلام خلاف الظلم، وهو الكفر أو الفسق فيقابلهما
الايمان أو العدالة، ومن قوله وعلما أن الحكمة الخ أنه الاخلاص وغايته الاقبال
الكلي، بحيث لا يمكن مع الاتفاق عليه المعيشة، فليست بمطلوبة لله تعالى من
الكل مع بعد هذا المعنى من الفهم، ويمكن أن يكون مطلوبا من الكل في كل
أحد شئ. مثلا ممن يزرع، التوجه الكلي على وجه يجتمع مع شغله، وقصد
التقرب بذلك الشغل بأن يقصد معيشته ومعيشة عياله وبقاء النوع، وكذا من
الحمامي وغيره فيقصدون بقاء النوع ومعاونة بعضهم بعضا ليفرغ بعضهم لعبادة غير
هذه الأعمال مثل طلب العلم وغيره، فيكون الاخلاص والاقبال الكلي من الكل
مطلوبا على سبيل التخيير والتبعيض، إذ يبعد عدم طلب الاقبال الكلي عن الكل
بل لا وجه له، وأيضا الظاهر أن يقول يقتضي عدم الاتفاق ولعل النزاع معه لفظي
وليس في هذه الآيات من الأحكام ما يعتد به وإنما ذكرت تبعا.

(1) آل عمران: 85.
(2) أنوار التنزيل: ص 41.
300

* (كتاب الجهاد) *
والآيات المتعلقة بها على أنواع:
* (الأول في وجوبه) *
وفيه آيات:
الأولى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا و
هو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا
تعلمون (1).
أي فرض الله تعالى وأوجب عليكم الجهاد مع الكفار والحال أن ذلك شاق
عليكم، فأطلق المصدر على المفعول للمبالغة، بمعنى أنه مخالف لطباعكم وصعب عليكم
من جهة أن البشر خلق على أن يحب السهولة والحياة والمستلذات، والجهاد
ينافي ذلك كله. أو يكون بمعنى أنه كان كرها لكم قبل التكليف والأمر به، أو
يكون بمعنى الاكراه مجازا كأنهم أكرهوا عليه لشدة مشقته مثل " حملته أمه
كرها ووضعته كرها (2) ".
" وعسى أن تكرهوا " معناه تكرهوا " شيئا " في الحال بالنظر إلى الطبع
" وهو خير لكم " في المآل كما تكرهون الجهاد لما فيه من المخاطرة بالروح، وهو
خير لكم لأن لكم في الجهاد إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة مع ثواب المجاهدين
وإما الشهادة والجنة في الحال، من غير انتظار للقيامة، كما هو المشهور في الشهداء
" وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم " مثل أن تحبوا ترك الجهاد لمحبة الحياة

(1) البقرة: 216.
(2) الأحقاف: 16.
301

والمستلذات المتوهمة، وهو في الحقيقة شر لكم لأنه يمنعكم من السعادات
الدنيوية والأخروية، وكذا جميع التكاليف والعبادات المقربة والمناهي المبعدة
المهلكة، والله يعلم مصالحكم ومنافعكم، وما يضركم وما ينفعكم، فيمنعكم عن
المضرات، ويرغبكم في المنافع والفوائد، وهي مخيفة عليكم بظاهر نظركم، و
ما تعلمونها لقلة تدبركم، وكثرة الشهوات التي تسترها، والكسل الذي يزين
عدمها، ولوازم البشرية التي تعكسها، فهي صريحة في وجوب الجهاد على الاجمال
والتفصيل مبين في الكتب الفقهية.
الثانية: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد
عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله
والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن
استطاعوا ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر، فأولئك حبطت أعمالهم
في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (3).
أي يسألونك يا محمد عن القتال في الشهر الحرام، هل هو جايز أم لا؟ -
والسائلون أهل الشرك على جهة التعيير على المسلمين باستحلالهم القتال في شهر رجب
بناء على زعمهم لا حقيقة، كما يفهم من سبب النزول، وقيل السائلون المسلمون
ليعلموا الحكم، فقتال بدل عن الشهر بدل الاشتمال إذ الزمان مشتمل على ما فيه -
قل: إن القتال في شهر الحرام ذنب كبير وإثم عظيم لكن الصد عن سبيل الله أي
المنع من الحج وغيره من العبادات كما تفعلون، والكفر بالله وصد المسجد الحرام
وإخراج أهل المسجد وهو المسلمون من المسجد الحرام كاخراجكم المسلمين من
مكة حتى هاجروا إلى المدينة أكبر وأعظم ذنبا ووزرا عند الله، فصد نكرة موصوفة

(1) البقرة: 217.
302

مبتدأ وكفر كذلك عطف عليه والمسجد الحرام كذلك بتقدير صد، ويحتمل
عطفه على سبيل الله، وفيها قصور لأن حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه مجرورا
مع كون المقدر، المعطوف عليه، قليل، بل غير معلوم الوقوع، والفصل بين
المجرور وما يتعلق به بالمعطوف عليه بعيد، وقيل عطف على المجرور في " به " أي
وكفر بالمسجد الحرام فعطف على المجرور من غير إعادة الجار وهو جائز بل
واقع في القرآن العزيز مثل قوله تعالى " تساءلون به والأرحام (1) " بجر الأرحام
وقول الكشاف والقاضي إنه ضعيف، باطل، فإنه من السبعة المتواترة وفي أشعار
الفصحاء أيضا واقع فينبغي القول به إذ لا دليل على نفيه لا عقلا ولا نقلا، وما ذكراه
من أنه يلزم عطف على ما هو كبعض الكلمة، لا يصلح دليلا عليه، بحيث يلزم
تأويل الآيات والأشعار.
والكفر بالمسجد عدم اعتقاد كونه معبدا " والفتنة " أي الكفر فإنه فتنة
في الدين " أكبر من القتل " الذي وقع في الشهر الحرام من المسلمين " ولا يزالون
يقاتلونكم " يعني أن الكفار يقاتلونكم أيها المسلمون دائما حتى يرجعوكم عن
دينكم إن قدروا على ذلك " ومن يرتدد " من المسلمين " عن دينه " ولم يتب حتى مات
على الارتداد فأولئك صارت أعمالهم باطلة كأن لم يكن، ولم ينتفعوا بها في الدنيا
والآخرة.
وسمى الهلاك حبطا لأنه في الأصل كلا إذا أكله الماشية يلحقها الفساد
في بطنها، ويقال: حبطت الإبل يحبط حبطا إذا أصابها ذلك، قاله في مجمع
البيان (2) وقال فيه أيضا معناه أنها صارت بمنزلة ما لم تكن لايقاعهم إياها على
خلاف الوجه المأمور به، لأن إحباط العمل وإبطاله عبارة عن وقوعه على خلاف
الوجه الذي يستحق به الثواب، وليس المراد أنهم استحقوا على أعمالهم الثواب
ثم حبطت لأنه قد دل الدليل على أن الاحباط على هذا الوجه لا يجوز.
أقول: المشهور بين الأصحاب أن مذهب الاحباط والتكفير باطل، وقد ادعي

(1) النساء: 1.
(2) مجمع البيان: ج 2 ص 311.
303

عليه الاجماع وقد استدل عليه في التجريد سلطان المحققين بدليل عقلي ونقلي أما العقلي
فهو أنه لا معنى لكون ذنب قليل محبطا لعبادة عظيمة، وبالعكس، حتى لو فعل
الانسان دائما جميع العبادات إلى قرب موته ثم إذا فعل أدنى صغيرة تبطل تلك
بالكلية، ويستحق به العقاب الدائم، وبالعكس، وهو ظاهر البطلان، ومذهب
بعض المعتزلة وأما اسقاط المساوي بالمساوي وإبقاء الزيادة كما هو مذهب البعض
الآخر منهم فلا يدل دليله العقلي عليه.
وأما النقلي فهو مثل " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال
ذرة شرا يره ".
وفي دلالته أيضا تأمل إذ من فعل خيرا وأسقط له به عقاب يصدق أنه رآه
وبالعكس، وبالجملة الأخبار والآيات متظافرة متكاثرة في وقوع الاحباط فانكاره
لا يمكن، فلا بد من التأويل لو صح عدم جوازه، والتأويل الذي في مجمع البيان
غير واضح، إذ لا معنى لوقوع الفعل على وجه يستحق فاعله الثواب والمدح إلا
الاتيان على الوجه المأمور به شرعا، يعني الاتيان به من جميع الشرائط المعتبرة في
صحته حين الفعل، وقد فرض الاتيان على هذا الوجه ثم ارتد، ومنع هذا الاتيان
في جميع الصور التي أطلق عليه الاحباط بعيد، ومعلوم أن عدم الارتداد فيما بعد
ليس من شرائط صحة الفعل حين إيقاعه كما ذكره القاضي بل مطلقا عند الأصحاب
إلا ما نقل عن الشيخ الطوسي رحمه الله أنه يبطل الحج بالردة وضعفه الأصحاب
وتدل الآية أيضا على ضعفه وعلى تقديره أيضا لا ينبغي توقفه على التوبة كما
يظهر من مجمع البيان.
والظاهر أن هذا التأويل إنما يصح على أن المسلم ما يرتد ولكن ذلك
غير واضح وأيضا إنه ما يجري فيما إذا كان إحباط بعض الأعمال البدنية بالبعض، مثل
أن شرب الخمر يحبط كذا وكذا، والزنا كذا وكذا، وأن الصلاة تكفر
ذنب كذا وكذا، والحج كذا وكذا، وغير ذلك مما لا يحصى، فلا يبعد حمل قول
الأصحاب ببطلان الاحباط والتكفير على اللذين ذكرناهما في الأول وادعينا
304

ظهور بطلانهما، وإن أرادوا غير ذلك فغير واضح الدليل كما عرفت.
نعم يمكن أن يقال لا استبعاد فيما نحن فيه أن يستحق الانسان ثوابا ويكون
وصوله إليه موقوفا على عدم صدور منافيه منه من الردة أو يكون البقاء على الايمان
شرطا لاستمراره وانتفاعه به، ويكون الاحباط عبارة عن عدم ذلك.
فدلت الآية على تحريم القتال والجهاد في الشهر الحرام، وتحريم الصد
عن سبيل الله، وما عطف عليه، وعلى التحريض والترغيب على القتال وعدم
جواز الارتداد، وعلى أن الاحباط بالردة موقوف على الموت عليها كما هو مذهب
الشافعي فمذهب الحنفي وهو أنه الاحباط بالردة مطلقا وإن رجع ذكره في
الكشاف خلاف ظاهر الآية سيما مع القول بالمفهوم كما هو مذهبه.
وعلى قبول توبة المرتد، حيث قيد الخلود في النار بالموت على الارتداد
والكفر، وهو أعم من الفطري وغيره، فلا يبعد القول بقبول توبة الفطري
أيضا بمعنى صحة عباداته واستحقاقه الجنة، دون خلود النار، كما هو مقتضى
العقل، لأنه مكلف بالعبادات والايمان، وهو بدونها محال على الله تعالى، ولا
ينافيه عدم سقوط بعض الأحكام مثل القتل بدليل الشرعي وأما النجاسة فبعيدة إلا
أن يقال بالنسبة إلى غيره، وأما بالنسبة إلى نفسه فيكون طاهرا إذ لا معنى لنجاسته
مع صحة عباداته المشروطة بها، كما رجحناه، إلا أن يقال أن الآية نزلت في
أوائل الاسلام وما كان هناك مسلم فطري.
وقيل في سبب نزولها أنه بعث رسول الله صلى الله عليه وآله سرية من المسلمين وأمر عليهم
عبد الله بن جحش الأسدي وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وآله، وذلك قبل قتال بدر
بشهرين، ليرصد عير قريش، فوجدوها وفيهم عمرو بن الحضرمي وثلاثة معه
فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير، وكان فيها تجارة الطايف، وكان ذلك في غرة
شهر رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقالت قريش: استحل محمد الشهر الحرام
فشق ذلك على أصحاب السرية، وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا، فنزلت، ورد
رسول الله صلى الله عليه وآله العير والأسارى
305

وعن ابن عباس لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله الغنيمة وهي أول غنيمة في
الاسلام، والسائلون هم المشركون كتبوا إليه تعييرا وتشنيعا وقيل: إن تحريم
القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام منسوخ بقوله تعالى " فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم (1) " و " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة (2) " وفي صلاحية الأخيرة
للناسخية تأمل، إذ ليست صريحة في كل مكان، ولا في كل زمان، وفي الأولى
بالنسبة إلى الثاني كذلك، وبعد التسليم، التخصيص خير من النسخ وأيضا بعض
أحكامها باقية، فلا يكون منسوخة قال في مجمع البيان وعندنا أنه على التحريم
فيمن يرى لهذه حرمة ولا يبتدؤننا فيها بالقتال فيكون التحريم مخصوصا بهذين
بدليل من إجماع أو خبر، وتركنا تفصيل أحكام القتال لوضوحها في الكتب الفقهية
مع عدم الاحتياج إليه، ولهذا تركنا أكثر الآيات المشتملة على بعض أحكام
الجهاد ولكن ذكرنا البعض تبعا للأصحاب ولبعض الفوائد.
الثالثة: وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم
في الدين من حرج (3).
تدل على وجوب الجهاد، وعلى نفي الضرر والحرج كما يدل عليه الخبر
والعقل أيضا ولكن فيه إجمال.
الرابعة: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله
لا يحب المعتدين (4).
أي قاتلوا الكفار في دين الله وطريقه الذي بينه لكم ليعبدوا الله عليه، أي
قاتلوهم لاعلاء كلمته وإعزاز دينه حتى يسلكوه ويرجعوا إليه، قيل: أمروا
بقتال الرجال الذين يقدرون على القتال عادة دون النساء والصبيان والشيوخ

(1) براءة: 5.
(2) البقرة: 190.
(3) الحج: 77.
(4) البقرة: 187.
306

وقيل المراد قتال أهل مكة الذين حاربوا المسلمين من قبل وذلك موافق لما قيل
من سبب نزول الآية، حيث قيل: إنها نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله
صلى الله عليه وآله لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة، و
كانوا ألفا وأربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية، فصدهم المشركون عن البيت
الحرام فنحروا الهدي بالحديبية، ثم صالحهم المشركون على أن يرجع في العام
المقبل ويخلو له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء، فرجع إلى المدينة
فلما كان العام المقبل تجهز النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن
لا يفي لهم المشركون وأن يصدوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله
صلى الله عليه وآله قتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم، فأنزل الله الآية أي قاتلوا
الذين يقاتلونكم دون الذين لم يقاتلوكم، وقيل معناه الكفرة كلهم وإن لم
يقاتلوا المسلمين، فإنهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده، ولا تعتدوا بابتداء
القتال، أو بقتال المعاهد أو المفاجأة، من غير دعوة إلى الاسلام، أو القتل الذي
لا يجوز مثل المثلة أو قتل النساء والصبيان وغيرها، وبالجملة لا تفعلوا ما لا يجوز
" إن الله لا يحب المعتدين " ولا يريد لهم الخير بل يريد إيصال الشر إليهم فتدل
الآية على وجوب القتال مع في الجملة، وعدم جواز التعدي والظلم، ولا يبعد تعميمها
بحيث يشمل وجوب القتال مع المحارب الذي يقاتل الانسان على ماله ونفسه، و
تحريم التعدي في أخذ المال والنفس، وعدم جواز مقاتلة من لا يريد ذلك وترك
وهرب، وسائر ما ذكر في الكتب الفقهية.
الخامسة: واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم
والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه
فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (1).

(1) البقرة: 188.
307

قيل: نزلت في رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام
فعيروا المؤمنين بذلك، فبين سبحانه أن الفتنة وهو الشرك أشد وأعظم من قتل
المشركين في الشهر الحرام وإن كان غير جائز، ثم أمر الله وأوجب قتال الكفار حيث
وجدوا وأدركوا في الحل والحرم والشهر الحرام وغيره إلا ما يخرج بالتخصيص
وأصل الثقف الحذق في أدراك الشئ علما أو عملا وهو متضمن لمعنى الغلبة وإخراجهم
من مكة في مقابلة إخراجهم المسلمين عنها.
وأخبر أن الفتنة أي المحنة التي يفتتن بها الانسان، من الاخراج عن
الأهل والوطن أشد من القتل أو أن شركهم في الحرم أشد كما دل عليه سبب
النزول، أو أن صدهم المسلمين في الحرم أشد من قتلكم إياهم، ولا تبتدؤهم
بالقتل في الحرم حتى لا يلزمكم هتك حرمة الحرم، فإن ابتدؤكم بالقتال فجازوهم
به، فإن الوبال عليهم، حيث ابتدؤا به، وأنتم تجازون وتعدلون، فليس عليكم
به بأس، ولا يلزمكم هتك الحرم، ومثل هذا الجزاء هو جزاء الكفار بالقتل في
الحرم وإخراجهم عن الوطن والأهل والمال.
فدلت على وجوب قتال الكفار، وعلى وجوب إخراجهم عن مكة، كما
قاله الفقهاء أيضا، بل أعم من ذلك حيث قالوا لا يجوز إسكانهم في جزيرة العرب
لقوله عليه السلام لا يجتمع في جزيرة العرب دينان، وكأن لهم غيره من الأخبار
وتفصيل المسألة في الفقه.
" فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم " (1) أي إن امتنعوا عن الكفر والقتل والإخراج
وتابوا فإن الله يغفر لهم ما أسلفوا ويرحمهم، فدلت على قبول التوبة من قتل العمد
أيضا لأن الشرك الذي هو أعظم منه تقبل التوبة عنه، فالقتل بالطريق الأولى
كذا في مجمع البيان، وفيه تأمل فإنه على بعض التفاسير والاحتمال، ومع ذلك
يشكل بأن قتل العمد حق الناس وأنه ورد فيه الخلود في النار، وهو يشمل التائب
أيضا فلا يلزم من سقوطه سقوطه، لأن الله قد يسقط حقه بالتوبة، ولا يسقط حق

(1) البقرة: 189.
308

غير، إلا أن يكون المراد بعد الخروج عن الحق الذي للمقتول، وتقبل توبته من
جهة فعله الحرام العظيم، وخص ما يدل على خلوده النار بغير التائب.
ثم بين الوجوب في آية أخرى بعدها " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون
الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (1) " فبين الله تعالى غاية
وجوب القتال بأنها عدم الفتنة أي الشرك وكون الطاعة والانقياد لله تعالى فقط، فإن
امتنعوا عن الكفر وأذعنوا بالإسلام وقبلوه " فلا عدوان " أي لا عقوبة " إلا على
الظالمين " أي ليس عقوبة القتل والإخراج في الدنيا وعقوبة الآخرة بالنار وغيرها
على الدوام إلا على الظالمين أي الكافرين المقيمين على الظلم والكفر، وفيها أيضا
دلالة على عدم جواز القتل بل السبي وغيره بعد الاسلام، فلا يجوز استرقاقهم
أيضا بعد الاسلام، ولا أخذ مالهم بل شئ من العقوبات من الاسترقاق وأخذ المال
وغيرهما.
السادسة: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع
المتقين (2).
الشهر الحرام هو الذي فيه تحرم القتال ونحوه والحرمات جمع حرمة، و
هي ما يجب حفظه، ولعل المراد به هنا ذو القعدة، وهو شهر الصد عام الحديبية
والأشهر الحرم أربعة: ثلاثة سرد وواحد فرد، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم
ورجب، قيل التقدير قتال شهر الحرام بقتاله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
وقيل لا تقدير بل معناه هذا الشهر الحرام بالشهر الحرام الذي منعتم رسول الله عن الطاعة
والطواف أي حصل ما أردتم في ذلك فيه (3) وقريب منه مضمون " الحرمات قصاص "

(1) البقرة: 190.
(2) البقرة: 191.
(3) أي ما أردتم من القتال في ذلك الشهر العام الماضي، حصل في ذاك الشهر بعينه
في هذا العام.
309

يعني لما صدوا رسول الله ومنعوا المسلمين عن عباداتهم في مكة حصل لهم مكافاته
في ذلك الشهر بعينه، في العام المقبل، وكأن قوله " والحرمات قصاص " احتجاج
عليه أي كل ذي حرمة يجري فيه القصاص والمكافأة، فمن هتك حرمة شهركم
بالصد فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليهم عنوة، واقتلوهم إن قاتلوكم أو أن معناه
أن القتل في الشهر الحرام حرام، والحرام للمسلمين لا يجوز إلا قصاصا.
" فمن اعتدى عليكم " أي ظلمكم فاعتدوا عليه بمثله أي جازوه بظلمه، و
افعلوا به مثل ما فعل، والثاني ليس باعتداء وظلم، بل عدل إلا أنه سمي به للمشاكلة
لوقوعه في صحبته مثل " اطبخوا لي جبة وقميصا " (1) في جواب من قال أي شئ نطبخ
لك " واتقوا الله " باجتناب المعاصي، فلا تظلموا ولا تمنعوا عن المجازات ولا تتعدوا
في المجازات عن المثل والعدل وحقكم.
ففيها دلالة على تسليم النفس، وعدم المنع عن المجازاة والقصاص، وعلى
وجوب الرد على الغاصب المثل أو القيمة، وتحريم المنع والامتناع عن ذلك، و
جواز الأخذ بل وجوبه، إذا كان تركه إسرافا [فلا يترك] إلا أن يكون حسنا
وتحريم التعدي والتجاوز عن حقه بالزيادة صفة أو عينا، بل في الأخذ بطريق يكون
تعديا، ولا يبعد أيضا جواز الأخذ خفية أو جهرة من غير رضاه على تقدير امتناعه
من الاعطاء كما قاله الفقهاء من طريق المقاصة، ولا يبعد عدم اشتراط تعذر إثباته
عند الحاكم، بل على تقدير الامكان أيضا، ولا إذنه بل يستقل وكذا في غير المال
من الأذى، فيجوز الأذى بمثله من غير إذن الحاكم، وإثباته عنده، وكذا القصاص إلا
أن يكون جرحا لا يجزي فيه القصاص، أو ضربا لا يمكن حفظ المثل، أو فحشا لا
يجوز القول والتلفظ به مما يقولون بعدم جوازه مطلقا مثل الرمي بالزنا وغيره
وحيث إن الجهاد لم يقع إلا مع الإمام وحينئذ لا يحتاج إلى معرفة أحكامه فتركنا
باقي الآيات المتعلقة به، مثل " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من

(1) كما قال الشاعر:
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه * قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
310

الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها
واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا " (1) وكذلك قوله " يا أيها
الذين آمنوا خذوا حذركم " الآية (2) وقوله تعالى " فليقاتل في سبيل الله - إلى قوله
أجرا عظيما (3) " وقوله " ما كان لأهل المدينة " الآية (4) وقوله " ليس على الضعفاء
ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون " الآية (5) و " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا
الذين " الآية (6) و " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا (7) " الآية و " يا أيها الذين آمنوا
إذا لقيتم الذين كفروا (8) " الآية وكذلك " يا أيها النبي حرض المؤمنين على
القتال (9) " والآية " يا أيها النبي جاهد الكفار (10) ".
ولكن نتمه بآيات لها فوائد كثيرة، ومناسبة ما به.
الأولى: يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا (11).
أي سافرتم للغزو والجهاد فميزوا بين الكافر والمؤمن، والمراد لا تعجلوا
في القتل لمن أظهر لكم إسلامه ظنا منكم بأنه لا حقيقة لذلك " ولا تقولوا لمن ألقى
إليكم السلام " أي حياكم بتحية الاسلام، وقرئ السلم أي استسلم لكم وانقاد
فلم يقاتلكم مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم " لست مؤمنا " أي ليس لايمانكم حقيقة
وإنما أسلمت خوفا من القتل " تبتغون عرض الحياة الدنيا " أي المال والمتاع
الذي لا بقاء له، لأن جميع متاع الدنيا عرض زائل ويقال لأن الدنيا عرض حاضر
ومنه العرض المقابل للجوهر " فعند الله مغانم كثيرة " أي في مقدور الله تعالى نعم
ورزق إن أطعتموه فيما أمركم، وقيل معناه: ثواب كثير لمن ترك قتل المؤمن

(1) النساء: 75.
(2) النساء: 70.
(3) النساء: 73.
(4) براءة: 121.
(5) براءة: 92.
(6) براءة: 124.
(7) براءة: 30.
(8) الأنفال: 16.
(9) الأنفال: 65.
(10) براءة: 73، التحريم: 9.
(11) النساء: 94.
311

" كذلك كنتم من قبل " أي كفارا فهداكم الله، وقلتم لا إله إلا الله محمد رسول الله
فخليتم " فمن الله عليكم " باظهار دينه فأظهرتموه بعد الكتمان من أهل الشرك " فتاب
عليكم " قبل توبتكم " فتبينوا " أعادها للتأكيد بعد ذكره أولا كالنتيجة بعد ذكرها
" إن الله كان " لم يزل " بما تعملون خبيرا " عليما قبل أن تعلموا، ولا يخفى عليه
أن قصدكم ليس إلا ابتغاء عرض الحياة الدنيا.
والمشهور أنها نزلت في أسامة بن زيد وأصحابه بعثهم رسول الله صلى الله عليه وآله سرية
فلقوا رجلا قد ألجأ بغنم له إلى جبل، وكان قد أسلم، فقال لهم السلام عليكم لا إله
إلا الله محمد رسول الله فبرز إليه أسامة فقتله واستاقوا غنمه، وفيها دلالة على قبول
الايمان ممن قال بلفظه من غير تعرض له أنه مكره أو قاصد لذلك، وهل هو الحقيقة
أم لا؟ وعدم التجسس بل سائر الأمور بالطريق الأولى، ويدل عليه تحريم
التجسس بالكتاب والسنة والاجماع، وعلى عدم الجرءة في الأمور مما يحصل عنده
والسرعة في الحكم والعلم والعمل، بل لا بد من التثبت والتوقف حتى يظهر
حقيقة الأمر، وعدم العمل بالظن في الحال، كما في خبر الفاسق الذي دل عليه
الكتاب والسنة والاجماع.
وأيضا تدل على عدم اعتبار الدليل في الايمان وعلى عدم اعتبار العمل فيه، وعلى
أنه يكفي لصدقه مجرد الشهادتين، بل القول له بأنه ليس بمؤمن منهي فافهم
ولعلها تدل على عدم المؤاخذة في الدنيا بمثل هذا القتل، ولكن القواعد الفقهية
تقتضي الدية والكفارة، على ما تقدم في الآية المتقدمة أن الخطأ يقتضي ذلك
ولا شك أن ذلك خطأ فكأنه عفي عنه في أول الاسلام، لعدم جرءة الكفار، و
عدم امتناع المسلمين عن القتل والقتال، أو أن الدية سقطت لعدم وارث مسلم، أو
كان عاجزا عن الكفارة، أو أداها، أو ما كانت واجبة بعد.
قال القاضي: وقيل نزلت في المقداد مر برجل في غنمه وأراد قتله فقال لا
إله إلا الله فقتله فقال ود لو فر بأهله وماله، وفيها دلالة على صحة ايمان المكره
وأن المجتهد قد يخطئ وأن خطاءه مغتفر انتهى وليس بواضح فإنه لم يظهر كونه
312

مجتهدا، ومعلوم أن كل من فعل شيئا خصوصا مثل هذه الأمور ليس بمجتهد
ولم يعلم صحة الايمان عند الله إلا أن يريد بها كونه مانعا وحاقنا لدمه وأيضا لم يعلم
كونه مكرها إلا أن سوق الكلام يدل على أنه يعلم على أنه لو لم يؤمن لقتل وهو
ظاهر فإن الكفار يقاتلون ويخوفون بالقتل والضرب والنهب، ليسلموا، وإنهم
لو أسلموا لقبل ظاهرا، بل في نفس الأمر أيضا، إذا صار اعتقادا وعلما ويقينا و
هو ظاهر.
الثانية: إن الذين توفيهم الملائكة (1).
يحتمل الماضي والمضارع فيكون تتوفاهم بحذف إحدى التاءين، ويؤيد
الأول قراءة " توفتهم الملائكة " " ظالمي أنفسهم " حال عن المفعول، أي أن الذين
أماتتهم الملائكة حال كونهم ظالمين على أنفسهم بالعصيان بترك الهجرة الواجبة، و
موافقة الكفار باظهار عدم الايمان، فإنها نزلت في جماعة من أهل مكة أسلموا ولم
يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة " قالوا " الضمير للملائكة حال عنهم بتقدير قد
وخبر " إن الذين " " أولئك " ويكون دخول الفاء لتضمنه معنى الشرط، و
يحتمل كونه خبرا بتقدير " لهم " و " فأولئك " عطف عليه، أي قالت الملائكة لهم
حين توفتهم " فيم كنتم " أي في أي شئ كنتم من أمر دينكم توبيخا وتبكيتا
بأنهم لم يكونوا في شئ من الدين، حيث تركوا الهجرة الواجبة مع القدرة، و
تركوا إظهار الاسلام لعدم مبالاتهم بالشريعة " قالوا " مجيبين معتذرين " كنا مستضعفين
في الأرض " أي غير قادرين على الهجرة، لعدم المؤنة على السفر أو غير قادرين على
إظهار الايمان لضعفهم " قالوا " أي الملائكة تكذيبا لهم على الأول " ألم تكن أرض
الله واسعة فتهاجروا فيها " يعني كنتم قادرين على الهجرة، وعلى الثاني بأنكم كنتم
قادرين على الاظهار فلم لم تهاجروا عن مكة " فأولئك " أي الذين توفتهم الملائكة
وقالوا كنا الخ " مأواهم " ومسكنهم " جهنم " لتركهم الهجرة وإظهار إعلام الدين

(1) النساء: 97.
313

ومساعدة الكفار " وساءت مصيرا " أي بئس المصير مصيرهم ومأويهم.
" إلا المستضعفين " الذين لا يقدرون على المهاجرة وإظهار الدين من الرجال "
العاجزين " والنساء " كذلك " والولدان " الأرقاء منهما لأنهم عاجزون عنها
أو الصغار فإنهم عاجزون عن السفر لصغر سنهم، أو غير البلغ من الذكور، فيكونون
غير مكلفين، ويكون إظهار ذلك إشارة إلى أن أولادهم غير مكلفين بالمهاجرة
مع عجزهم، والاستثناء منقطع، لعدم دخول المستضعفين بالمعنى المتقدم في " الذين
توفيهم الملائكة ظالمين " ولا " في أولئك " لعدم كونهم مكلفين بالمهاجرة، لكونهم
معذورين وعدم قدرتهم كما بين بقوله عز وجل " لا يستطيعون حيلة " صفة للمستضعفين
لعدم كونهم معينين، وإن كانت في صورة التعريف.
قال في الكشاف: لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف، فليس شئ
بعينه كقوله " ولقد أمر على اللئيم يسبني (1) " أو حال عنهم، واستطاعة الحيلة
وجدان أسباب الهجرة، مثل الغنى والقدرة على السفر، وما يتوقف عليه " ولا
يهتدون سبيلا " عطف على ما قبله، واستهداء السبيل معرفة الطريق والمسلك بنفسه
أو بدليل " فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم " فهم معذورون ولكن جاء بلفظ عسى
كلمة الأطماع، ولفظ العفو الدال على أن لهم أيضا ذنبا وأكده بقوله " وكان
الله عفوا غفورا " للمبالغة في عدم جواز ترك المهاجرة، وترك إظهار شعائر الايمان
والموافقة مع الكفار، حتى أن ذلك موجب للعقاب لمن فعل ذلك عجزا أو خوفا
وعدم القدرة على المهاجرة، وعدم التكليف، ولكن لهم طمع وتوقع عفو قطعا
لأطماع غيرهم.
فالآية دلت على أن ترك المهاجرة مع القدرة، كبيرة وأي كبيرة، حين
فرض المهاجرة، واستثنى العاجزين، ويمكن أن تكون منسوخة بمثل قوله صلى الله عليه وآله
لا هجرة بعد الفتح، إن كان متواترا، والأولى جعله مخصصا لها ومقيدا ولو قيدت
بفرض الهجرة لا يحتاج إلى شئ، ولكن تكون مجملة غير مبينة إلا بمنفصل.

(1) بعده: فمضيت ثمة قلت لا يعنيني.
314

وقال القاضي: في الآية دليل على وجوب المهاجرة من موضع لا يتمكن
الرجل فيه من إقامة أمر دينه، وفي الكشاف: هذا دليل على أن الرجل إذا كان
في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب، أو علم أنه في
غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة حقت عليه المهاجرة وعن النبي صلى الله عليه وآله
من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة و
كان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلوات الله عليهما، وفي الدلالة خفاء فإنها مقيدة
بكون الهجرة فريضة كما تقدم، قال في الكشاف: " الذين " هم ناس من أهل مكة
أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة.
وقوله تعالى " ظالمي أنفسهم " يعني يموتون حين كونهم ظالمين أنفسهم فالوعيد
متعلق بمن يموت وهو ظالم بترك الهجرة الواجبة، بحيث صار سببا لموافقة الكفار
ومساعدتهم، وترك إظهار الاسلام بل إظهار الكفر كما يفهم من سوقها ومن الكشاف
والقاضي ويمكن أن يكون مع عدم اعتقاد جوازها وحليتها، حيث صار الحكم
، مأواهم جهنم وساءت مصيرا " وذلك ليس إلا فيما يكون كفرا.
وبالجملة غاية ما يفهم منها وجوب المهاجرة في مادة خاصة بسبب خاص، و
لم يعلم منه أن كل هجرة واجبة وكل تارك لها ظالم، إلا أن يقاس باستخراج العلة
وإثباتها في الفرع وأنى له ذلك، ولهذا إن ترك هذه الهجرة كبيرة، وفيه ما تقدم
من المبالغات التي كادت أن لا توجد في غيرها فكيف يكون غيرها كذلك مع أنه نقل
أن لا هجرة بعد الفتح، فما بقي ذلك الحكم حينئذ وعلى تقدير الدلالة على الأول في
الجملة كيف يدعي دلالتها على الثاني أي قوله " أو علم الخ وكأنه لذلك قال " وحقت "
وما صرح بالوجوب والفرض، لأن لفظة حقت بمعنى الأولى والأحسن هو الشايع
والكثير، وهو حقيقة فيه.
ولكن البيضاوي صرح بالوجوب، وكأنه نظر إلى القياس، فالدلالة على
تقدير إمكان استخراج القياس وصحته لا يتم عند أصحابنا، حيث لا يقولون به، و
كأنه لذلك ما ذكره في مجمع البيان ويؤيده جواز التقية بل وجوبها فيعمل بها
315

ويقيم في بلادها من غير إظهار شعائر الاسلام، ويظهر خلافها على وجهها، ولهذا ما شرط
البعض عدم المندوحة فيما ورد فيه النص بخصوصه للتقية، كالكتف وغسل الرجلين
نعم لو آل الأمر إلى عدم إظهار الاسلام، ولزوم إظهار الكفر، والموافقة معهم في
ذم الشرع، ومساعدتهم، يجب الفرار منهم، وإن لم يفهم من الآية للعقل والنقل
ويمكن فهمه منها أيضا بالقياس.
والحاصل أنه إذا علم أن الكون في بلد حرام لعدم إمكان فعل وقول ما يجب
عليه مطلقا، وليس بمعذور فيه، وليس مما فيه التقية، وليس له بدل بحيث لا يعاقب
بالكون، فيجب الفرار والهجرة إلى محل يتمكن من ذلك، ولكن إثبات ذلك مشكل
لأن كل واجب مشروط بالامكان، وعدم المانع والضرر، فمع عدم الامكان و
وجودهما لا يجب ذلك الأمر، بل يكون حراما، فلا يعلم عدم جواز الكون حينئذ
ولهذا يجوز السفر إلى محل التيمم وإلى محل يأخذون الأموال بغير اختيار إلا أنه
معلوم في بعض الأمور مثل الكون في محل لا يتمكن فيه من فعل الصلاة مع إمكانها
في غير ذلك المحل مع القدرة إليه.
وقد يعلم من كلام بعض الأصحاب في تحريم السفر يوم الجمعة بعد الزوال
مع وجوبها، أن كل ما يوجب لسقوط الواجب فهو حرام، ويفهم من بعض
الأخبار أيضا مثل الرواية المشتملة على أنه وقع شخص في أرض لم يوجد فيها إلا
الثلج قال عليه السلام: يتيمم به ولا يعود إلى مثل هذه الأرض التي توبق أهلها ولكن ما قالوه
ممنوع بل منقوض والرواية محل التأمل إذ يجوز التيمم والذهاب إلى موضع
لا يكون فيه الماء للوضوء إلا أن يقال التيمم بما يباح أولا وبالذات مثل التراب
يجوز، وكذا الذهاب إلى تلك الأرض وإيجاد أسبابه عمدا، دون ما لا يجوز التيمم
به إلا اضطرارا مثل الثلج أو تحمل على الاستحباب ولا شك أن الفرار إن لم يكن
له مانع (1) وسبب، راجح من البلد الذي لم يتمكن من إظهار جميع أحكام الايمان
والإسلام فيه، إلى بلد يمكنه ذلك، بل لو علم أنه فيه أولى كما قاله في الكشاف

(1) مال خ.
316

أولى وكأنه إلى ذلك أشار ما نقل عن الشهيد قدس الله سره أنه يجب الفرار من
بلد التقية إن صح بحمل الوجوب على الاستحباب أو على الوجوه المتقدمة لسبب
الوجوب فتذكر وتأمل.
ثم أشار إلى ثواب المهاجرة في سبيل الله بقوله: " ومن يخرج من بيته مهاجرا
إلى الله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله (1) " ومثل قوله " والذين هاجروا
في الله من بعد ما ظلموا لنبوأنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون " (2)
وكذلك " والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن
الله لهو خير الرازقين (3) " والظاهر أن كل من سافر في طلب أمر لمرضات الله فهو
مهاجر في سبيله، كما يدل عليه بعض الأخبار، وظاهر الإضافة فليس بمخصوص بالجهاد
وبالمهاجرين من بلاد الشرك، فالسفر لطلب العلم داخل بل أفضل، وكذا زيارة
الأئمة عليهم السلام بل الذهاب إلى صلة الرحم وزيارة الأخوان في الله هو سبيل الله، و
نحو ذلك وهو ظاهر.
قال في الكشاف: وقالوا كل هجرة لغرض ديني من طلب علم أو حج أو
جهاد أو فرار إلى بلد يراد فيه طاعة أو قناعة أو زهد في الدنيا أو ابتغاء رزق طيب
فهي هجرة إلى الله ورسوله، وإن أدركه الموت في طريقه فأجره على الله.
والظاهر أن هذا حق وليس بمخصوص بالهجرة في آية " ومن يخرج "
بل في جميع الآيات الواقعة في ثواب الهجرة كما أشرنا إليه.
الثالثة: يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون (4).
في الكشاف معنى الآية أن المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ولم
يتمش له أمر دينه كما يجب، فليهاجر عنه إلى بلد يقدر أنه فيه أسلم قلبا وأصح
دينا وأكثر عبادة وأحسن خشوعا، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله من فر بدينه من أرض إلى
أرض وإن كان شبرا من الأرض، استوجبت له الجنة، وكان رفيق إبراهيم عليه السلام

(1) النساء: 100.
(2) النحل: 41.
(3) الحج: 51.
(4) العنكبوت: 56.
317

ومحمد صلى الله عليه وآله، وقيل هي في المستضعفين بمكة الذين نزل فيهم " ألم تكن أرض الله
واسعة فتهاجروا فيها " وإنما كان ذلك لأن أمر دينهم ما كان يستتب بين ظهراني
الكفرة، في مجمع البيان: بين تعالى أنه لا عذر في ترك طاعته فقال: يا عبادي
- الآية - فاهربوا من أرض يمنعكم أهلها من الايمان والاخلاص في عبادتي، وقال
أبو عبد الله عليه السلام معناه إذا عصي الله في أرض أنت فيها، فاخرج منها إلى غيرها، فيمكن
أن يستدل بها على الهجرة من دار الكفر التي لا يقدر على إظهار شعائر الاسلام، و
كذا على الهجرة من الدار التي تكون كذلك فتأمل.
الرابعة: " والذين هاجروا في الله (1) " أي تركوا منازلهم ومواضعهم في
حق الله ولوجهه " من بعد ما ظلموا " أي من بعد ما ظلمهم أعداؤهم مثل المشركين
وغيرهم " لنبوأنهم في الدنيا حسنة " أي لنسكننهم في الدنيا بلدة حسنة أحسن
مما أخرجوا وهاجروا عنه " ولأجر الآخرة أكبر " أعظم وأحسن مما أعطيتم في
الدنيا " لو كانوا يعلمون " أي الكفار أن الله يجمع للمهاجرين أجر الدنيا
والآخرة، لرغبوا في دين الاسلام، وتركوا أذى المؤمنين وإخراجهم، إذ لو علم
المؤمنون ذلك الجمع وما أعد لهم في الجنة، لازدادوا سرورا وحرصا على التمسك
بالدين " الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون " هم الذين صبروا على المهاجرة
والمجاهدة، وبذل النفس في سبيل الله، وأذى المخالفين، وهم الذين يتوكلون
على ربهم لا على الغير.
فهي دالة على استحباب المهاجرة ووجوبها عن دار الكفر والخلاف لو ظلموا
أو أذوا ولم يتمكنوا من إقامة لوازم الدين، وعلى كثرة الأجر في ذلك، وعلى
الصبر والتوكل، وهو ظاهر وإن كانت نازلة في حق جماعة متخلفين بعد مهاجرة
رسول الله صلى الله عليه وآله من مكة إلى المدينة، مثل بلال وصهيب
وروي أن صهيبا قال للمشركين أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن

(1) النحل: 41.
318

كنت عليكم لم أضركم فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله وهاجر إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله.
وأن المراد بحسنة هي المدينة، والمهاجر عنها هي مكة، حرم الله الذي
هو محبوب كل القلوب، فكيف بقلوب من كان مسقط رأسه لعموم اللفظ، وعدم
التخصيص بالسبب كما بين في الأصول، فقول الكشاف وغيره " والذين هاجروا "
هم رسول الله وأصحابه ظلمهم أهل مكة ففروا بدينهم إلى الله، إلى قوله: وقيل هم
الذين كانوا محبوسين معذبين بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وكلما خرجوا تبعوهم
فردوهم، منهم بلال وصهيب وخباب وعمار يحتمل أن يكون بيانا لسبب النزول
لا حصر المراد فيهم.
الخامسة: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا (1) " الجمع والتذكير باعتبار
المعنى " فأصلحوا بينهما " بالنصح والطلب إلى حكم الله " فإن بغت " " تعدت " إحداهما
على الأخرى " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله " حتى ترجع إلى حكم الله
" فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا " اعدلوا في كل الأمور " إن الله يحب
المقسطين " العادلين، تدل على وجوب الاصلاح بين المؤمنين وأنه إذا لم يصطلحوا
يجب قتال الظالمة منهما حتى يرجع عن الظلم إلى أمر الله العدل، ويدل عليه أيضا
قوله: " إنما المؤمنون إخوة " من حيث إنهم انتسبوا إلى أصل واحد هو الايمان
الموجب للحياة الأبدية، وهو تعليل وتقرير للآمر بالاصلاح، ولذلك كرره
فقال: " فأصلحوا بين أخويكم " وضع الظاهر موضع المضمر مضافا إلى المأمورين
للمبالغة في التقرير، والتخصيص، وخص الاثنين لأنهما أقل من يقع بينهما
ما يوجب الصلح من الشقاق " واتقوا الله " في مخالفة أمره وحكمه " لعلكم ترحمون "
على تقواكم.
السادسة: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات (2) الآية.

(1) الحجرات: 9.
(2) الممتحنة: 10.
319

فيها أحكام منها إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين وادعت الاسلام
يجب أن تختبر، فإن علم أنها مسلمة لا يجوز إرجاعها إلى الكفار، ومنها أن
الكافرة التي أسلمت ليس بحلال للكفار وبالعكس، ومنها أنه تحصل الفرقة
بمجرد الهجرة ولا يحتاج إلى الطلاق، ومنها وجوب رد المهر الذي أعطيها، و
منها أنه يجوز نكاحهن للمسلمين مع إيتاء المهر، وليس ذلك شرطا بل ولا ذكره
وإنما ذكر إشارة إلى أنه لا يكفي المهر الذي رد على زوجها من بيت المال، و
أن مجرد الهجرة كافية، ولا يمنع التزويج السبق ولا الكفر، ومنها عدم الجواز
نكاح الكافرة للمسلم مطلقا منقطعا ودائما حربية وكتابية، وفيه تفصيل مذكور
في الفقه، ومنها طلب المهر الذي أعطيتم إن ذهبت منكم امرأة إلى الكفار كما
كانوا يطلبون منكم إذا جاءتكم امرأة منهم.
320

* (كتاب) *
* (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) *
وفيه آيات:
منها: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف و
ينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (1).
أي ولتكن جماعة هي بعضكم، فمن تبعيضية كما هو الظاهر " يدعون " ذكر
باعتبار حمل أمة على جماعة من الذكور، وإن دخلت النساء فيه تغليبا " إلى الخير "
أي الدين أن مطلق الأمور الحسنة شرعا وعقلا، من المعروف وترك المنكر
فيكون مجملا تفصيله " ويأمرون بالمعروف " أي بالطاعة والأمر يكون للرجحان
مطلقا أعم من الندب والوجوب " وينهون عن المنكر " أي خلاف الطاعة من كونه
مكروها وحراما، ويكون الوجوب الذي يستفاد من الأمر أي " ولتكن " ومن
حصر الفلاح في " الآمرون والناهون " المفهوم من قوله: " وأولئك هم المفلحون "
باعتبار المجموع وبعض الأفراد، ويحتمل تخصيص الأمر بالواجبات والنهي
بالمحرمات فيكون صريحا في الوجوب.
وأما تفصيل الوجوب وشرائطه المعتبرة فموجودة في الكتب الفقهية ولا
ثمرة كثيرة في البحث عن الوجوب عينيا أو كفائيا والأولى منه في ذلك كون البحث
عن كونه عقليا أو نقليا والظاهر أنه كفائي كما هو ظاهر هذه الآية، وكون الغرض
هو الرد عن القبيح والبعث على الطاعة ليرتفع القبيح، ويقع المأمور به والحسن، ولا
دليل في العقل يدل على الوجوب مطلقا.
نعم يمكن كونه واجبا عقليا في الجملة، وعلى من ظهر عنده قبحه بمعنى ترتب

(1) آل عمران: 104.
321

الذنب على الترك وهو أيضا ظاهر فيمكن القول بأنه عقلي والآيات دالة على ذلك
كثيرة، مثل قوله تعالى في هذه السورة " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون
بالمعروف وتنهون عن المنكر (1) " الآية أي وجدتم خير جماعة مخلوقة أو أخرجتم
من العدم إلى الوجود لتأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، فمشعرة بأن الخيرية
باعتبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والايمان بالله. فتأمل.
ومنها " إن الله يأمر بالعدل (2) " وهو الانصاف والتوسط في جميع الاعتقادات
والأفعال والأقوال، وعدم التفريط والافراط والميل إلى أحد الجانبين فلا يكون
اعتقاده في حق الله ناقصا ولا فوق ما لا يجوز، بأن يعتقد الشركة والافراط والاتصاف
بالصفات الناقصة واتصاف النبي بالألوهية، وكذا في الإمامة، وكذا في العبادات
لا يجعلها ناقصة عن الوظيفة ولا يخترع فيها فوق ما عينه الشارع، وبالجملة لا يخرج
عن الشرع الشريف " والاحسان " إلى الغير وهو التفضل ولفظ إحسان جامع لكل
خير، والأغلب استعماله في التبرع ويحتمل في العبادات كما قيل إنه إحسان في الطاعات
وهو إما بحسب الكمية فبفعل النوافل، والكيفية كما قال صلى الله عليه وآله الاحسان أن تعبد
الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (3).
" وإيتاء ذي القربى " أي أن الله يأمر بإيتاء الأقارب ما يحتاجون إليه وصلة
الرحم وهو تخصيص بعد تعميم، للاهتمام، بل الاحسان أيضا كذلك قال في مجمع
البيان: وهذا عام وقيل إن المراد بذي القربى قرابة الرسول صلى الله عليه وآله المشار إليهم في
قوله " إلا المودة في القربى " و " لذي القربى " (4) في قسمة الخمس والمروي عن أبي جعفر
عليه السلام أنه قال نحن هم كأنه إشارة إلى ذلك " وينهى عن الفحشاء " الافراط في
متابعة القوة الشهوانية كالزنا فإنه قبيح بل أقبح أحوال الانسان وأشنعها " والمنكر "
ما ينكر على فاعله من جميع المعاصي تعميم بعض تخصيص " والبغي " الاستعلاء والاستيلاء
على الناس، والتجبر والتكبر المحرم بل بمنزلة الكفر، قيل الفحش ما يفعله الانسان

(1) آل عمران: 110.
(2) النحل: 90.
(3) الدر المنثور ج 1 ص 93.
(4) الشورى: 23، الأنفال: 41.
322

في نفسه من القبيح مما لا يظهره لغيره، والمنكر ما يظهره للناس مما يجب إنكاره عليهم
والبغي ما يتطاول من الظلم لغيره، وقيل العدل استواء السريرة والعلانية، والاحسان
كون السريرة أحسن من العلانية، والمنكر أن يكون العلانية أحسن من السريرة
" يعظكم لعلكم تذكرون " معناه يعظكم الله بما في هذه الآية الشريفة من مكارم الأخلاق
أو من الأمر والنهي المميزين بين الخير والشر، لكي تتعظوا وتتذكروا وتتفكروا
وترجعوا إلى الحق وتعملوا به وعن ابن مسعود: هذه الآية أجمع آية في كتاب الله.
قال في الكشاف: العدل هو الواجب والاحسان وهو الندب والفاحشة ما جاوز
حدود الله، والمنكر ما ينكره العقول، والبغي طلب التطاول بالظلم، وحين أسقطت
من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين عليه السلام أقيمت هذه الآية مقامها ولعمري
إنها كانت فاحشة ومنكرا وبغيا، ضاعف الله لمن سنها غضبا ونكالا وخزيا إجابة
لدعوة نبيه " وعاد من عاداه ". قال المحشي يريد بلعنة الملاعين من لعن عليا عليه السلام
من بني أمية وبني مروان والذي أسقط اللعنة عمر بن عبد العزيز والذي سن ذلك
معاوية انتهى وأشار بدعوة النبي صلى الله عليه وآله إلى ما وقع في يوم الغدير من دعائه له بذلك
وهو مشهور وفي الكتب مسطور غني عن البيان وهذا الكلام صريح في لعن معاوية وفي
مواضع من الكشاف يظهر بغض المصنف له، وأنه ما كان على الحق، وما كان جهاده
مع علي عليه السلام باجتهاد ولا معذورا فيه، بل متعمدا وظالما، وحاكم جور عالما منها (1)
ما ذكره في آخر سورة يونس " واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين (2) " روي
أن أبا قتادة رضي الله عنه تخلف عن تلقي معاوية حين قدم المدينة وقد تلقته الأنصار
ثم دخل عليه فقال له: مالك لم تتلقنا؟ قال لم يكن عندنا دواب، قال فأين النواضح؟
قال قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله يا معشر الأنصار
إنكم ستلقون بعدي أثره قال معاوية فماذا؟ قال: قال: فاصبروا حتى تلقوني، قال:
فاصبر! قال: إذا نصبر، فقال عبد الرحمن بن حسان:

(1) أي من المواضع التي يظهر بغض صاحب الكشاف لمعاوية.
(2) يونس 109.
323

ألا أبلغ معاوية بن حرب * أمير الظالمين نثا كلامي
بأنا صابرون فمنظروكم * إلى يوم التغابن والخصام
ومنها (1) " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " (2) أي إلى العبادات التي هي موجبة
لمغفرة عظيمة من ربكم، وموجبة لدخول دار المتقين والمنفقين والمحسنين أخلاقهم
" وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء
والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " يفهم أفضلية الصلاة وسائر
العبادات في أول أوقاتها والمسارعة إليها من غير تهاون وكسل، إلا ما استثني لدليل
مثل تأخير العشائين إلى المزدلفة كما هو المسطور في محاله.
ويستفاد منها أن الغرض الأصلي من بناء الجنة دخول المتقين أي المطيعين
لله ولرسوله بترك المعاصي وفعل الطاعات، كما أن الغرض من خلق النار دخول
الكفار فيها، كما قال تعالى قبلها " واتقوا النار التي أعدت للكافرين " فلا ينافي
دخول غيرهم في النار تبعا، مثل الفساق، ودخول الأطفال والمجانين والفساق
الجنة كذلك فتدل على عظم الاعتداد بشأن التقوى، والموصوف به، بخلاف الضد
فلا اعتبار للفاسق عند الله، وإن دخل الجنة، وأيضا إن لوصف الأنفاق في العسر
واليسر والغنى والفقر دخلا عظيما في ذلك.
ولهذا ورد في الأخبار الكثيرة مدح السخا وذم البخل قال في مجمع البيان
أول ما عدد الله سبحانه من أخلاق أهل الجنة السخا ومما يؤيد ذلك من الأخبار ما
رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: السخا شجرة في الجنة، أغصانها في
الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنة والبخل شجرة في النار، أغصانها في
الدنيا، فمن تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى النار، وقال علي عليه السلام: الجنة دار
الأسخياء، وقال: السخي قريب من الله وقريب من الجنة وقريب من الناس بعيد من

(1) أي من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف، عطف على قوله فيما سبق و
منها إن الله يأمر بالعدل الخ.
(2) آل عمران: 133.
324

النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار (1) ومثلها
في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام (2).
وورد أخبار كثيرة في ذلك في الكافي مثل أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: السخي محبب
في السماوات محبب في الأرض خلق من طينة عذبة، وخلق ماء عينيه من ماء الكوثر
والبخيل مبغض في السماوات مبغض في الأرض خلق من طينة سبخة وخلق ماء عينيه
من ماء العوسج (3).
وعن أبي الحسن موسى عليه السلام السخي الحسن الخلق في كنف الله لا يتخلى منه
حتى يدخله الجنة، وما بعث الله عز وجل نبيا ولا وصيا إلا سخيا، وما كان أحد
من الصالحين إلا سخيا، وما زال أبي يوصيني بالسخاء حتى مضى، وقال عليه السلام:
من أخرج من ماله الزكاة تامة، فوضعها في موضعه، لم يسأل من أين اكتسبت مالك.
وفيما روي عن أبي عبد الله عليه السلام في ضيافة إبراهيم عليه السلام قال له جبرئيل أرسلني
ربك إلى عبد من عبيده يتخذه خليلا قال إبراهيم: فأعلمني من هو أخدمه حتى أموت
قال فأنت هو، قال: ومم ذلك قال: إنك لم تسأل أحدا شيئا قط ولم تسأل شيئا قط
فقلت لا.
وعنه عليه السلام قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله أي الناس
أفضلهم ايمانا فقال أبسطهم كفا. وعنه عليه السلام قال لبعض جلسائه ألا أخبرك بشئ يقرب
من الله ويقرب من الجنة ويباعد من النار؟ فقال: بلى، فقال: عليك بالسخاء فإن الله
خلق خلقا برحمته لرحمته فجعلهم للمعروف أهلا، وللخير موضعا وللناس وجها يسعى
إليهم، لكي يحيوهم كما يحيي المطر الأرض المجدبة أولئك هم المؤمنين الآمنون
يوم القيمة.
وعن علي بن إبراهيم رفعه قال أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام لا تقتل السامري
فإنه سخي.

(1) مجمع البيان ج 2: ص 505.
(2) الكافي ج 4 ص 40.
(3) الكافي ج 4 ص 39، والسبخة الأرض المالحة، والعوسج شجر له شوك.
325

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال شاب سخي مرهق في الذنوب أحب إلى الله من
شيخ عابد بخيل.
وعن جميل ابن دراج عنه عليه السلام خياركم سمحاؤكم وشراركم بخلاؤكم، و
من خالص الايمان البر بالأخوان والسعي في حوائجهم، وإن البار بالأخوان ليحبه
الرحمن، وفي ذلك مرغمة للشيطان، وتزحزح عن النيران ودخول الجنان، يا جميل
أخبر بهذا غرر أصحابك قلت جعلت فداك من غرر أصحابي؟ قال: البارون بالأخوان
في العسر واليسر، ثم قال: يا جميل أما إن صاحب كثير يهون عليه ذلك، وقد مدح
الله عز وجل في ذلك صاحب القليل، فقال في كتابه " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان
بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ". وهذه الأخبار كلها
مسندة (1) وحذفت السند اقتصارا وكذا تركت الأخبار في الأنفاق وذم البخل و
ما ورد في غير هذا الكتاب مثل الفقيه (2) وغيره.
إن كظم الغيظ بمنزلة التقوى والانفاق في ذلك المذكور، لأن الظاهر
أنه عطف على " المتقين الذين " الخ وإن جاز عطفه على " الذين " ولعل الأول
أولى، وإلا كان المناسب ويكظمون الغيظ عطفا على ينفقون قال في مجمع البيان: أصل
الكظم شد رأس القربة عن ملئها تقول كظمت القربة أي ملأتها ماء ثم شددت رأسها
وفلان كظيم مكظوم إذا كان ممتليا حزنا وكذا إذا كان ممتليا غضبا لم ينتقم والكظامة
القناة التي تجري تحت الأرض سميت بذلك لامتلائها تحت الأرض وفي غريب
الحديث لأبي عبيدة عن أوس أنه رأى النبي أتى كظامة القوم فتوضأ ومسح على قدميه
والفرق بين الغيظ والغضب أن الغضب ضد الرضا، وهو إرادة العقاب المستحق
بالمعاصي ولعنه وليس كذلك الغيظ لأنه هيجان الطبع بتكره ما يكون من المعاصي
ولهذا يقال: غضب الله على الكفار، ولا يقال: اغتاظ منهم (3) وكأن في التعبير عن عدم

(1) راجع الكافي كتاب الزكاة باب معرفة الجود والسخاء ج 4 من طبعة دار الكتب.
(2) " الفقيه " " فضل السخاء والجود، ج 2 ص 33.
(3) مجمع البيان ج 2 ص 503.
326

إنفاذ الغيظ وترك العمل بمقتضاه بالكظم بالمعنى المذكور إشارة إلى عدم خروج شئ
منه أصلا ولو قليلا فإن المطلوب شد رأس القربة بحيث لا يترشح منه شئ أصلا
وإلا لم يحصل الغرض، بل ينزل الماء ويبل ما تحته ويخرب فتأمل.
وكذا العفو عن الناس، وهو عدم عقابهم مما يستحقونه بفعلهم، ولكن ينبغي
أن يكون بالنسبة إلى نفسه وبحيث لا يؤل إلى إبطال الحدود والتعزيرات الشرعية
والتهاون فيها قال في مجمع البيان: روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال هؤلاء في أمتي
قليل إلا من عصمه الله وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت، وفيه دليل واضح على
أن العفو عن العاصي مرغب فيه، مندوب إليه، وإن لم يكن واجبا وقال النبي
صلى الله عليه وآله: ما عفا رجل عن مظلمة قط إلا زاده الله بها عزا " والله يحب
المحسنين " والمحسن هو المنعم على غيره، على وجه عار عن وجوه القبح، ويكون
المحسن أيضا هو الفاعل للأفعال الحسنة من وجوه الطاعات والقربات (1) ولا يبعد
كونه إشارة إلى الموصوفين المذكورين كأنه قال: والله يحبهم فعبر عنهم به، ليدل
على كون ذلك حسنا أيضا وعدم الاختصاص بذلك الأوصاف فدل على محبة الله لهم
وهو فوق إعداد الجنة لهم.
فدلت الآية على كون التقوى والانفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس و
الاحسان الذي يجده العقل وبينه الشرع عبادات وقربات، وكذا المسارعة إليها
بمنزلة عظيمة عند الله، وهو ظاهر، ويدل عليه الأخبار ويجده العقل أيضا فيرجى
من الله كظم غيظه عن غير الكفار، والعفو عن الناس سواهم، والاحسان إليهم بل
الأنفاق عليهم، لأنه إنفاق وكظم وعفو خال عن وجه قبح، فلا يترك مع أمر الناس
الضعفاء به وكونها محبوبة عنده.
ثم قال في مجمع البيان مما جاء فيه من الأخبار ما رواه أبو أمامة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله: من كظم غيظه وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا، وفي
خبر آخر ملأ الله قلبه يوم القيامة أمنا وايمانا، ثم قال: روي أن جارية لعلي

(1) راجع مجمع البيان ج 2: 505.
327

ابن الحسين عليه السلام جعلت: تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من
يدها فشجعه فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية إن الله عز وجل يقول: " والكاظمين
الغيظ " فقال لها قد كظمت غيظي، قالت " والعافين عن الناس " قال قد عفا الله
الله عنك " قال: " والله يحب المحسنين " قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله (1).
وفي هذه الرواية دلالة على عدم البأس بالاستعانة للوضوء، فقد روي مثلها
عن الحسين بن علي عليهما السلام أنه جاء عبده وبيده طبيخ للضيف، وهو معهم عليهم السلام
فوقع الظرف من يده على رأسه عليه السلام فنظر إليه فقال العبد الخ الله أعلم حيث يجعل
رسالته.
قيل في معنى " عرضها السماوات والأرض ": كعرضهما وكني بالعرض عن
مطلق المقدار وهو متعارف، ونقل على ذلك الأشعار في مجمع البيان أو أنه لما
علم عرضه الذي هو أقل من الطول عرفا في غير المساوي علم أن طوله أيضا
يكون إما أكثر أو مثله، أما كونها مع ذلك في السماء فالظاهر أن المراد يكون
بعضها فيه بأن يكون البعض الآخر فوقه أو يكون أبوابها فيها أو فوق الكل وما
ذكره الحكماء غير مسموع شرعا وهو ظاهر، كما قيل إن النار تحت الأرض
فتكون الآية دليل على بطلان ما قالوه، وظاهر الآية أنها مخلوقة وكذا النار
كما يدل عليه بعض الأخبار وقال به الأصحاب وصرح به الشيخ المفيد في بعض
مسائله، وقال: إن الجنة مخلوقة ومسكونة سكنتها الملائكة.
فتدل الآية على رجحان المسارعة إلى الطاعات والانفاق في السراء والضراء
وحسن الخلق بكظم الغيظ، والعفو عن الناس والاحسان مطلقا كما وردت بها
روايات كثيرة مثل: اصنع المعروف إلى كل أحد فإن كان أهله وإلا فأنت أهله.
" والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن
يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة
من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين (2).

(1) مجمع البيان ج 2 ص 505.
(2) آل عمران: 135 و 136.
328

" والذين " إما عطف على المتقين كما قالوه (1) أو على ما عطف عليه مثل
الكاظمين فمعناه أن الجنة أعدت للمتقين وللذين الخ فتكون معدة للمتقين و
التائبين وهم يكونون الغرض الأصلي من خلق الجنة، فلا ينافي كونها لغيرهما أيضا
بالتبع كما أن النار معدة للكفار ويدخلها الفساق أيضا.
فقول الكشاف " وفي هذه الآية بيان قاطع أن الذين آمنوا على ثلاث طبقات
متقون وتائبون ومصرون، وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين
فمن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه " باطل، لما قلناه، ولغيره مما يدل
على دخول غيرهما فيها من الآيات، مثل ما يدل على العفو والتفضل والاحسان و
المغفرة لمن يشاء، ومن عمل صالحا يجز به وسائر ما يدل على وجوب اتصال ثواب
العمل إلى صاحبه، وأن الايمان موجب لدخول الجنة، وللأخبار العامة والخاصة
ولأنه يلزم خلود النار من فعل ذنبا واحدا آخر عمره، ولم يتب، وهو بعيد جدا
وأن ما ذكره مبني على أن كل ذنب كفر ومحبط لما قبله، وهما باطلان ولأن
ظاهر قوله تعالى " أولئك جزاؤهم " كالصريح في أن ذلك جزاء عملهم.
فدلت على أن الجزاء وأجر العمل الموجب لدخولها مخصوصة بهما، فلا تدل
على عدم دخول غيرهما تفضلا وإحسانا وعفوا وكظما للغيظ التي هي محبوبة لله
تعالى ويحرض عليها عباده، فيبعد أن يمنع نفسه هذه الصفات الكاملة مع ترغيبه
العبد الضعيف الذي الانتقام كالخلق والطبع له، على أن ليس الدلالة إلا بمفهوم
ضعيف كما بين في الأصول، ولهذا قال سبحانه تعالى في سورة الحديد " سابقوا
إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا
بالله ورسله (2) ".
فعلم أن ذكر المتقي للاهتمام أو غير لا للحصر، وأنه يبقى قسم آخر، و

(1) يعني الطبرسي في مجمع البيان، القاضي في أنوار التنزيل، الزمخشري في الكشاف.
(2) الحديد: 21.
329

هو الذي لم يتب ولم يصر، إما عالما أو جاهلا، إلا أن يسمى تارك التوبة مطلقا
مصرا، والظاهر خلافه ويحتمل كونه عطفا على " الذين " أي أعدت للمتقين الذين
كذا وكذا وللمتقين الذين كذا وكذا، ولا ينافي صدور الذنب مع التوبة، و
عدم الاصرار الوصف بالتقوى قبله، وبعده أيضا، وإما مبتدأ وخبره " أولئك " بأن
يكون مبتدءا ثانيا " وجزاؤهم " ثالثا " ومغفرة " خبره، والجملة خبر الثاني
والمجموع خبر الأول ويحتمل كون ترك الفاء وثم في قوله " ذكروا الله " إشارة
إلى أن مطلق ما يصدق عليه ذكر الله والتوبة كاف سواء كان بعده بلا فصل أو مع
فصل كثير.
قالوا: المراد بالفاحشة الزنا، وبالظلم مقدماته وغيرها، أو الفاحشة الكبيرة
والظلم الصغيرة أو الفاحشة الفعلي والظلم القولي ويحتمل كون الفاحشة الظلم
على الغير بتضييع حقوقه، وبالظلم الظلم على نفسه بتضييع حقوق الله، ومعنى
" ذكروا الله " ذكروا عقاب الله ووعيده " فاستغفروا الله " أي ندموا وعزموا على عدم العود
فيكون كناية عن التوبة " ولم يصروا " زيادة تأكيد وبيان له، أو يكون الاستغفار
طلب المغفرة من الله بالقلب واللسان، مثل اللهم اغفر لنا، وعدم الاصرار يكون
كناية عن التوبة.
" ومن يغفر الذنوب " أي لا يغفر الذنوب " إلا الله " لأن الاستفهام إنكاري
فاصل بين المعطوف والمعطوف عليه، اللذين هما بحكم شئ واحد، للاشعار بأن الله
يغفر وأن لا غافر غيره، وإذا كان لا ملجأ إلا هو لا يغفر الذنب إلا هو، إذ الذنب
الذي هو عصيانه لا يمكن أن يغفره غيره، وكرمه واستغناؤه اقتضى أن يغفر له، ولا
يعاقبه بسوء ما فعله، تفضلا وإحسانا وإيفاء للوعد الذي في الآيات والأخبار
على ذلك، فقبول التوبة اسقاط العقاب بها عقبها محض التفضل، ووجوبه سمعي
لأنه وعده تفضلا وكرما، فلا ينافي كونه تفضلا كما قاله في مجمع البيان هنا
إنه تفضل أو أجر وجزاء، ونقل الاجماع قبله على أنه واجب لا أنه واجب عقلا
لأن قبول العذر واجب عقلا كما قاله المعتزلة، ومنهم صاحب الكشاف إذ العقل
330

لا يقبح الانتقام والانتصاف بل هو محض العدل كما أشار إليه سلطان المحققين في
التجريد، فقول الكشاف: لأن عدله يوجب المغفرة للتائب لأن العبد إذا جاء في
الاعتذار، وجب العفو والتجاوز باطل.
فقد عرفت مما قررناه عدم التدافع بين نقل إجماع مجمع البيان على
وجوب قبول التوبة ونفي التجريد فافهم قال في مجمع البيان، الاصرار أصله الشد
من الصر، وهو شده البرد، وقال أيضا: لم يقيموا على المعصية ولم يواظبوا عليها
ولم يلزموها، وفي الكشاف وتفسير القاضي: ولم يقيموا على قبيح فعلهم غير
مستغفرين، فالذي فهم منها أن الاصرار هو المداومة والمواظبة والإقامة على
الفعل، فلو فعل مرة أو مرارا في أوقات لم يكن مصرا، وإن كان في عزمه العود
إلى ذلك وهو بعيد، فإن الظاهر أن ذلك فسق ومناف للعدالة، وبعيد عن المعنى
اللغوي أيضا فإنه أعم من ذلك، ويمكن الفهم منهما أيضا أنه ترك التوبة حيث
قالا: غير مستغفرين. فأرادا بالاستغفار التوبة تفسيرا للاصرار، فما لم يتب يكون
مصرا وهو أيضا بعيد إذ يلزم عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة في أنه لا يغفر إلا مع
التوبة، ويكون بدونها فاسقا غير عدل، والحال أن المشهور بين الفقهاء أن الصغيرة
لا تضر، وبعيد من المعنى اللغوي أيضا لأنه أخص، ولا يبعد أن يكون المراد
هو المواظبة على القبيح، أو العزم عليه ثانيا مع التذكر، فهو مناسب للمعنى اللغوي
وقواعد الفقهاء، والمعنى المتعارف.
" وهم يعلمون " قال في مجمع البيان: معناه وهم يعلمون الخطيئة ذاكرين لها
غير ساهين، أو أنهم يعلمون الحجة في أنها خطيئة، وهي جملة حالية وقيد للمنفي
لا النفي، وهو ظاهر.
فالآية دلت على تحريم الفاحشة والظلم، ولو على نفسه، بأن يجرح بدنه
ويضربه، بل يشتم نفسه، وتحريم الاصرار، وتحريم طلب مغفرة الذنوب إلا من
الله، والترغيب على طلبه منه، بل على وجوبه ووجوب التوبة، ووجوب قبولها
على الله بالمعنى المتقدم، وكون الجاهل معذورا بل الساهي أيضا، وأن التائب
331

من الذنب كمن لا ذنب له كما ورد به الأخبار فيكون عدلا بمجرد التوبة، فتقبل
شهادته بعدها بلا فصل، لأنه قرين المتقين وعطف عليه، بل يحتمل كونه نفسه
كما قلناه، ولأنه يبعد رد شهادة من شهد له تعالى بالمغفرة وما بعدها فتأمل ولا
يحتاج إلى ضم العمل الصالح، الذي هو مذكور في بعض الآيات بعد التوبة، و
مذكور في بعض الكتب أيضا مع عدم ظهور معناه، فقول الشيخ قدس سره " تب
أقبل شهادتك " غير بعيد، إلا أن تعريف العدالة بالملكة لا يساعده فإن تحقق
ذلك بمجرد التوبة مشكل، بعد العلم بعدمها، فيحتمل كون العمل الصالح إشارة
إلى تحققها فتأمل، ويحتمل الدوام على التوبة، وعدم الاصرار على الذنب وإرادة
عمل مطلق أي عمل كان، مثل تصدق فلس أو صلاة على النبي صلى الله عليه وآله.
واعلم أن الظاهر أنه لو فعل أحد صغيرة ثم انتهى عنها لم يخرج عن العدالة
ولا يحتاج معاشرته والخروج عن نهي المنكر إلى العلم بتوبته ولا يكلف بذلك على
ما ذكرناه من معنى الاصرار والمعنى الأول الذي نقلناه عنهم، بخلاف الثاني فإن العزم
والعود مرة أخرى شرط في وجوب التوبة وصيرورتها كبيرة، والأصل عدمه بخلاف
عدم التوبة فإن الأصل تحققه ويؤيده أنه لم ينقل تكليف فاعل المعصية بها بعد نهيه أو
انتهائه عنها، لا فعلا ولا قولا من العلماء والفقهاء، بل ظاهر كلامهم أنه لا يجوز
نهيه، بل ذكر أنه فعل ذنبا بعد الانتهاء وهو كذلك لأنه ذكر فاحشة وتشنيعها
غيبة له نعم يمكن المنع، وإظهار عدم العود على مثله لو علم منه العزم على ذلك
إما لجهله بأنه معصية، أو علمه مع عدم المبالاة بفعل أمثاله، وأن الترك ليس لكونه
منتهيا عنه، بل عدم الباعث ونحوه.
والظاهر أنه يحتاج إلى التوبة فعل الكبيرة فمجرد نهيه وانتهائه عن القبيح
لا يكفي حتى يعلم التوبة والندامة، ولو لم يعلم لم يسقط وجوب الأمر والنهي
بدونها، ولكن ينبغي الملاحظة التامة في نهيه، بحيث لا يحصل له الأذى من غير
استحقاق، وقصد التقرب والاخلاص، لا تشهي النفس والعمل بهواها كما هو معتبر
في سائر العبادات والأعمال.
332

" فبما رحمة من الله لنت لهم (1) " قالوا الباء متعلقة بلنت وما زائدة فيفيد
الحصر، أي ما كان لينه لهم إلا برحمة من الله أي ربط الله على قلبه وتوفيقه للرفق
حتى كان يغتم صلى الله عليه وآله لهم بعد أن خالفوه لأنه سبب لعقابهم، وتكرار الحجج و
البراهين وتقريرها عليهم على وجه الشفقة واللطف مرة بعد أخرى، وتواضعه
لهم وتجاوزه عنهم وعدم مؤاخذته لهم إنما هو برحمة الله سبحانه، حيث جعله لينا
حسن الخلق، فهي تدل على أن حسن الخلق إنما هو من عطاء الله وفضله ولا
يحصل إلا بتوفيقه، وليس العبد مستقلا، وليس مقتضى مزاجه كسائر الأمور
المرغوبة وهو ظاهر.
" ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " قيل: أي لو كنت جافي
اللسان سيئ الكلام، قاسي القلب، صعبا غير لين تفرقوا عنك، وخلوك وحدك
فما آمنوا بك، ولا يجادلوا معك عدوا فلا يتم لك الأمر، ففيه إشارة عظيمة إلى
فائدة حسن الخلق ظاهرا وباطنا " فاعف عنهم واستغفر لهم " ويحتمل أن يكون
المراد منه ومن ذلك اللين أن تعفو عنهم ما بينك وبينهم من حقوقك، فلا تؤاخذهم
به وأن تستغفر لهم الله فيما بينهم وبين الله، ليغفر لهم باستغفارك، ولا تعرض عنهم
بمجرد ذنب وإصرار، بل أصلح حالهم بحسن الخلق " وشاورهم في الأمر " قيل أمر
الدنيا والحرب ولقاء العدو، وفي مثل ذلك يجوز أن تستعين برأيهم كما تستعين
بيدهم وقتالهم مع العدو، ويحتمل أن يكون بمجرد إظهار اللين والتلطف لا
العمل بقولهم ورأيهم، بل إن رأى صلى الله عليه وآله صوابا عمل به لأنه رأيه وأنه صواب، و
إلا بين خطأه وأظهر رأيا صوابا عندهم أيضا، فالمشاورة لا يستلزم العمل برأيهم و
الاستعانة بذلك، ولهذا ورد في مشاورة النساء: شاوروهن وخالفوهن بل فيها فوائد
الأمن من اعتراضهم إذا وقع أمر يسوءهم وتطييب لقلوبهم واستمالة لهم باظهار اعتبارهم
وحسن المداراة والخلق معهم كما مر، وترغيب للناس في المشاورة كما في
الأخبار أيضا.

(1) آل عمران: 159.
333

" فإذا عزمت فتوكل على الله " قالوا إذا وطنت نفسك على شئ، بعد التأمل
والشورى، فتوكل عليه في إمضاء أمرك على ما هو الأصلح والأليق بحالك فإن
ما هو صلاح لك لا يعلمه إلا الله، لا أنت ولا مشاورك، يعني لا تعتمد على رأيك ولا
رأيهم وفعلك وفعلهم، وإن أصبت الحق بذلك، بل إن فعلت ذلك اعتقد أن الذي
هو صلاح لك وتفعله ويحصل لك إنما هو بتسهيله تعالى إياه لك، وإلهامك عليه
وإعلامه بأنه الأصلح، حيث لقيت ما هو الرشاد، سواء كان الذي اقتضاه رأيك أم
غيره، فإن الأصلح لا يعلمه إلا هو، وإنما أنت آلة ومكلف بظاهر الأمر الذي
تجده نافعا، وأما ما في نفس الأمر لا يعلمه إلا الله فالذي يجب من التوكل عليه صلى الله عليه وآله
وعلى غيره - كما يدل عليه ما بعدها وغيرها حتى أن في بعض الآيات إشارة إلى
أن من لا توكل له لا ايمان له كقوله " فعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين (1) " -
هو التوكل بهذا المعنى يعني تفويض الأمر إلى الله، واعتقاد أن الذي تفعله قولا
وفعلا وتجده صوابا لست بمستقل فيه، بل إنما هو بعناية الله وتوفيقه له إياك
وإنما أنت تفعل ما يظهر كونه مشروعا ونافعا لك مع اعتقاد أن إصابة الحق و
الصواب إنما هو توفيقه تعالى وتسهيله، فليس للمكلف فيه دخل إلا بطريق الآلية
والمحلية والفاعلية.
وكأن هذا معنى التوكل الواجب الذي فسر في مجمع البيان بأنه إظهار العجز
والاعتماد على الغير والتوكل على الله هو تفويض الأمر إليه والثقة بحسن تدبيره وأصله
الاتكال في فعل ما يحتاج إليه بمن يستند إليه، ومنه الوكالة لأنها عقد على الكفاية
بالنيابة، والوكيل هو المتوكل عليه بتفويض الأمر إليه، يعني جعل نفسه كالمعزول
والمعدوم فيما يفعله، مثلا إن من أتجر للرزق أو زرع فوض الأمر إلى الله بمعنى
أنه يعتقد أنه يرزقه الرزق والمال والزرع، فهما ليسا بفعله، بل يفعله الله، فهو
الفاعل، والمتكل عليه، والحافظ للكل، إذ العبد والمال تحت قدرته، فلو لم
يوفق له لم يحصل له شئ من الزرع والتجارة إلا التعب، وبالجملة النفع بالحقيقة

(1) المائدة: 23.
334

منه تعالى والأثر المترتب على فعل العبد والأصلح من الله، فيتكل على الله لا
على فعله، ويعتقد ذلك.
فليس معناه الواجب أن لا يفعل شيئا أصلا ويتكل عليه بأن يريد الزرع و
الربح من غير عمل ويقول أنا متكل على الله لأنه واجب أو يريد الرزق بغير طلب
كذلك أو يريد هلاك العدو والغلبة عليه بغير قتال والتدبير، أو يريد الخفاء عن
العدو ولا يختفي عنه بما يقدر مع علمه بطلبه له، أو يقدر على الهزيمة ولا يفعل
بل يقول: الله يحفظ وأنا متوكل عليه لأن الفعل والسعي أيضا مطلوب ومرغوب
بل واجب في بعض الأوقات كالتوكل، وإلقاء النفس في التهلكة حرام وإن الله
تعالى لا يفعل أمثال ذلك غالبا إلا بالأسباب التي تكلف العباد بها.
نعم قد يفعل ذلك بلا سبب بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء إن أراد، فإذا
علموا ذلك فلهم أن يفوضوا إليه بالكلية كما ورد في الأخبار بالنسبة إلى بعض
الأئمة عليهم السلام من عدم هربهم عن الأسد، وقولهم إنه لو لم يعص الله الشخص لقدر
على حمل الأسد مثل الدابة، فلا يقاس فعلهم بفعل غيرهم، ولا يجعل قولهم كليا.
فما ورد أن التوكل على الله هو أن لا يخاف أحدا غير الله، ويعلم أن غيره لا يضر
ولا ينفع، ولا يسأل أحدا شيئا ويقطع الطمع عمن سواه تعالى، كأنه مؤول بما
قلناه من أنه النافع، والقادر على دفع الضرر، وإن أراد النفع ينفع من غير مانع
وكذا الضرر، وكذا قادر على دفع العدو وضرره، أو أنه لا يخاف غيره خوفا
يوقعه في المحرمات وترك الواجبات، وكذا يعتقد أن غيره يضر وينفع، فيقع
فيهما لذلك وكذا السؤال، كما قيل مثل ذلك في التأسف والحزن على ما فات والفرح
بما هو آت اللذين هما منهيان بالآية الشريفة (1) والسنة الكريمة وغيرها من الآيات
والأخبار التي هي مؤولة مثل ما ورد في صفة المؤمن.
ومما يؤيد ذلك أن الانسان مخلوق ضعيفا وبالطبع يخاف مما يؤذيه ويضره
ويريد ويميل إلى ما ينفعه ويشتهيه، ولهذا كلف وأثيب بالطاعات وترك المعصيات

(1) يعني قوله: لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، الحديد: 23.
335

ولهذا كان بعض الأنبياء يخافون من الأعداء وهاجر نبينا صلى الله عليه وآله من مكة المعظمة
إلى المدينة المشرفة، وخاف موسى على نبينا وعليه السلام من عصاه حتى قيل له " لا
تخف (1) " ونقل أنه بعد ذلك أخذه بكمه وغير ذلك، ولهذا وجبت التقية.
وبالجملة عدم وجوب التوكل بهذا المعنى الذي فسر بحسب الظاهر واضح
بل معلوم كونه حراما إذا كان جهلا وايقاعا في المهلكة، فلا بد من التأويل إما
بما مر ونحوه، أو تخصيصه بالبعض على بعض الوجوه والأحوال والأزمان، كما
أشرنا إليه.
" إن الله يحب المتوكلين " في مجمع البيان: يعني الواثقين والمعتمدين عليه
والمنقطعين إليه، والواكلين أمورهم إلى لطفه وتدبيره، ثم قال فيه: في هذه الآية
دلالة على اختصاص نبينا صلى الله عليه وآله بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، ومن عجيب أمره
صلوات الله عليه وآله أنه كان صلى الله عليه وآله أجمع الناس لدواعي الترفع ثم كان أدناهم
إلى التواضع وذلك أنه عليه السلام كان [أوسط الناس نسبا وأوفرهم حسبا وأسخاهم و
أشجعهم وأزكاهم وأفصحهم وهذه كلها من دواعي الترفع، ثم كان] يرقع الثوب
ويخصف النعل، ويركب الحمار، ويعلف الناضح، ويجيب دعوة المملوك، ويجلس
على الأرض، ويأكل على الأرض (1) ثم في الآية أحكام نقلناها لأجلها.
قال في مجمع البيان: وفي الآية ترغيب للمؤمنين في العفو عن المسئ و
حثهم على الاستغفار لمن يذنب منهم، وعلى مشاورة بعضهم بعضا فيما يعرض لهم
من الأمور ونهيهم عن الفظاظة في القول، والغلظة والجفاء في الفعل، ودعاهم
إلى التوكل عليه، وتفويض الأمور إليه وفيها أيضا دلالة على القول باللطف لأنه
سبحانه نبه على أنه لولا رحمته لم يقع اللين والتواضع، ولو لم يكن كذلك لما
أجابوه فبين أن الأمور المنفرة منفية عنه، وعن سائر الأنبياء ومن يجري مجراهم
في أنه حجة على الخلق وهذا يوجب تنزيههم أيضا عن الكباير لأن التنفير في ذلك
أكثر انتهى كلامه رحمه الله، وهو كلام حسن وكأنه يريد بالترغيب الاستحباب

(1) مجمع البيان ج 1 ص 207.
336

للمؤمنين لعدم القول بالوجوب على الظاهر لأنه ما كان واجبا عليه أيضا ويحتمل
الوجوب، وكذا البحث عن الاستغفار والمشاورة، ولهذا عفى يعقوب ويوسف على
نبينا وآله وعليهما السلام عن إخوته واستغفروا لهم، وكأنه يريد بنهيهم عن الفظاظة
التحريم، فإنه على من لا يستحقه حرام لحصول الأذى المحرم، وعدم حصول
الغرض المطلوب إذا كان معلما أو آمرا أو ناهيا، وبدعائهم إلى التوكل: الوجوب
بالمعنى المتقدم أو الاستحباب بالنسبة إلى بعض الأفراد فتأمل، فإن من تأمل هذه
الآية مع ما تقدم من آية كظم الغيظ، يفهم أن حسن الخلق والمداراة مع خلق الله
خصوصا عن الرؤساء والعمداء، الذين يريدون إرشاد الناس في مرتبة عظيمة، لا يصل
إليها إلا من وفقه الله.
وأشار في مجمع البيان إلى المعنى الأول في تفسير الآية التي بعد هذه وهي
" إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى
الله فليتوكل المؤمنون " لما أمر الله سبحانه نبيه عليه وآله السلام بالتوكل، بين
معنى وجوب التوكل عليه فقال " إن ينصركم الله " على من ناواكم فلا يقدر على
غلبتكم، وإن كثر من ناواكم، وقل عددكم " وإن يخذلكم " أي يمنعكم معونته
ويخلي بينكم وبين أعدائكم لمعصيتكم إياه فلا يقدر أحد على نصركم، والهاء
عائدة إلى اسم الله على الظاهر والمعنى على حذف المضاف أي من بعد خذلان الله
والظاهر أنه لا يحتاج إلى حذفه، كما قال في الكشاف " من بعده " أي من بعد
خذلانه أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان، تريد إذا جاوزته
ويحتمل أن يكون المراد بالتوكل على الله الاتكال عليه، وتفويض الأمر إليه
بمعنى ترك العمل والاستعانة بغيره في الأمور، ولكن لا كله بل بعد فعل ما ورد
الشرع به مثل الهرب من العدو مهما أمكن إذا ظن أو علم هلاكه أو ضرره، ثم
الاتكال عليه في الباقي بمعنى عدم استعمال شئ فإذا خاف عدوا لا ينقطع إلى غير الله
ولا يسأل أحدا شيئا من الرزق إذا لم يجب، ولا يتضرع للأغنياء والسلاطين طمعا
من دفع الضرر الموهوم، والنفع الغير الواجب، ولكن وجوبه شرعا بهذا المعنى
337

ما لم ينته تركه إلى فعل محرم أو ترك واجب غير ظاهر فيمكن حمل الآيات والأخبار
على الرجحان المطلق فتأمل.
قال في مجمع البيان: قد تضمنت هذه الآية التنبيه على أن كل من دهمه
أمر فينبغي أن يفزع إلى هذه الكلمة " حسبنا الله ونعم الوكيل (1) " وقد صحت
الرواية عن الصادق عليه السلام أنه قال عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله سبحانه
" حسبنا الله ونعم الوكيل " فإني سمعت الله سبحانه يقول بعقبها " فانقلبوا بنعمة من
الله " الآية وروي عن ابن عباس أنه قال كان آخر كلام إبراهيم عليه السلام حين القي
في النار حسبنا الله ونعم الوكيل، وقال نبيكم مثلها وتلا هذه (2) يريد بالآية قوله
تعالى " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا
وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم
سوء (3) الآية.
والتنبيه غير بعيد، حيث رتب الانقلاب بنعمة وفضل، وعدم المس بقول
حسبنا الله، والرواية صريحة في بيانه فعلم عدم اختصاصه بالجماعة السابقة، وعدم
مدخلية الزيادة، والرواية موجودة في الأصول (4) ولكن ما عرفت صحتها وهو
أعرف، ولا دلالة في نحو قوله سبحانه " ولا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " (5)
على عدم الخوف من غير الله والخوف عنه فقط مطلقا لأن المراد على ما في التفاسير
عدم الخوف في الجهاد من الكفار بعد وعد الله بالنصر والغلبة عليهم، والخوف
من الله بترك الجهاد وغيره، فتأمل.
ومنها " وقد نزل عليكم في الكتاب " (6) أي القرآن " أن إذا سمعتم آيات الله
يكفر بها " أي ينكرونها " ويستهزئ بها " إن هي المخففة، وإذا للشرط، ويكفر
ويستهزئ حالان عن المفعول والجملة شرطية وقوله " فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا
في حديث غيره " جزاؤها، و " غيره " صفة حديث، وليس بمعرفة لتوغله في الابهام

(1) آل عمران: 137.
(2) آل عمران: 137.
(3) مجمع البيان ج 2 ص 541.
(4) الفقيه باب النوادر والحديث صحيح.
(5) آل عمران: 175.
(6) النساء: 140.
338

والجملة قائمة مقام فاعل نزل ومضمونه نهي المؤمنين عن مجالسة المعاندين والمستهزئين
وقت إظهار العناد والكفر والاستهزاء بالآيات من الكفار، فضمير " لا تقعدوا "
للمسلمين، و " معهم " و " يخوضوا " للكفار والمستهزئين " إنكم إذا مثلهم " أي
إن تقعدوا حينئذ معهم فأنتم مثل الكفار والمستهزئين بآيات الله، في الإثم، إن
قدرتم على المفارقة وعدم المجالسة معهم أو في الكفر والاستهزاء إن رضيتم بفعلهم
فإن الجالس معهم الراضي بذلك الفعل، مثل الفاعل، فيقيد بقوله إن كنتم
راضين بذلك.
فهي صريحة في تحريم المجالسة معهم حين الكفر والاستهزاء ولا يبعد فهم تحريم
تلك المجالسة مع كل فاسق حين فسقه، مع القدرة على عدمها، وعدم الضرر، قال في
مجمع البيان: ومتى كانوا راضين بالكفر كانوا كفارا لأن الرضا بالكفر كفر ففيها دلالة
على وجوب إنكار المنكر مع القدرة على ذلك وزوال العذر وأن من ترك مع القدرة عليه
فهو مخطئ آثم وفيها أيضا دلالة على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أي
جنس كانوا، قال جماعة من المفسرين ومن ذلك إذا تكلم الرجل بكذب فيضحك منه
جلساؤه فيسخط الله عليهم، وروى العياشي بإسناده عن علي بن موسى الرضا عليه السلام
في تفسير هذه الآية أنه قال: إذا سمعت الرجل يجحد الحق ويكذب به ويقع في
أهله، فقم عنه ولا تقاعده (1).
واعلم أن ظاهر الآية جواز مجالستهم بعد ذلك وعدم اتصافهم به وإن كانوا
كفارا ومستهزئين لقوله " حتى يخوضوا " أي حتى يشرعوا في حديث غير الاستهزاء
لأنه غاية للتحريم قال في الكشاف فلا بأس أن تجالسهم حينئذ، فلا يحرم مجالسة
الفساق في غير وقت الفسق بالطريق الأولى وهو خلاف المشهور بين الفقهاء فإنهم
يقولون بتحريم الاختلاط مع الفساق، ووجوب الاعراض عنهم، لتحريم الميل
إليهم ومودتهم ومحبتهم، ولأن ينتهوا عنه، ولكن يمكن أن يقال: " حتى
يخوضوا " علة للنهي، يعني لا تقعدوا معهم، حتى يتركوا ذلك، فإن الجلوس

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 281.
339

عندهم قد يكون سببا لذلك فإنهم قد يريدون أن يغيظوا المسلمين، فإذا لم يكونوا
معهم لم يفعلوا، وقد يكون الجلوس عندهم موجبا لذكر آلهتهم فيريدون انتقام ذلك
فيكفرون ويستهزؤن بآيات الله، وإليه أشير في قوله تعالى: " ولا تسبوا الذين
كفروا " أي آلهتهم " فيسبوا الله عدوا بغير العلم " (1) وهذه صريحة في عدم جواز فعل
مباح بل واجب لو كان موجبا لسب الإله ونحوه، فلا يفعل شئ يلزم منه ذلك من
سب آلهتهم وغيره مثل سبهم وسب أصحابهم، إذا كان موجبا لسب النبي صلى الله عليه وآله
والأئمة عليهم السلام والمؤمنين وهو ظاهر عقلا أيضا.
والمراد بما نزل ما هو المذكور في الأنعام بقوله: " وإذا رأيت الذين يخوضون
في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد
بعد الذكرى مع القوم الظالمين (2) " أي وإن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم
فلا تقعد معهم بعد أن ذكرته، قيل: الانساء، فعل الله أضيف إلى الشيطان لجري
عادته تعالى بفعل النسيان عند الاعراض عن الفكر، ووسوسة الشيطان ظاهره أن
الخطاب له صلى الله عليه وآله ويحتمل أن يكون من قبيل " فاسمعي يا جارة " وسمي عدم
الاحضار وتوجهه إليه بالفعل انساء، فلا يدل على انساء الشيطان الأنبياء.
قال في مجمع البيان قال الجبائي: وفي هذه الآية دلالة على بطلان القول الإمامية
في جواز التقية على الأنبياء والأئمة وأن النسيان لا يجوز على الأنبياء، وأنت
تعلم أن الآية لا تدل على عدم جواز التقية فإنها مطلقة يجوز تقييدها بعدم الخوف
والضرر، وعدم المفسدة مع أنهم لا يجوزون التقية على الأنبياء وقد عرفت حكاية
النسيان مع أنه قد جوزه بعضهم في غير الأحكام وقد فصل ذلك الصدوق وذكره
مفصلا أيضا في مجمع البيان حيث قال في جواب الجبائي وهذا القول غير صحيح
ولا يستقيم، لأن الإمامية إنما يجوزون التقية على الإمام - إلى قوله: وأما السهو

(1) لفظ الآية هكذا: " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم "
الأنعام: 208.
(2) الأنعام: 68.
340

والنسيان فلا يجوزونهما عليهم فيما يؤدونه عن الله تعالى وأما ما سواه فقد جوزوا
عليهم أن ينسوه ويسهو عنه، ما لم يؤد ذلك إلى اخلال بالعقل، وكيف لا يكون
كذلك وقد جوزوا عليهم النوم والإغماء، وهما من قبيل السهو، وهذا يدل على
عدم الخلاف في ذلك عند الإمامية فتأمل فيه و " حتى " ههنا أيضا يحتمل ما قلناه فتأمل.
فالمراد بالخوض في الآيات الكفر بها والاستهزاء بها كما بين، فهاتان
الآيتان تدلان على اجتناب الكفار حال كفرهم بل الفساق حال فسقهم، لأنهم
ما صرحوا بأن [المراد من] " الذين " هم الكفار بل الذين يخوضون في الآيات
بما لا يجوز، فهو قد يكون فسقا فقط، وإن كان ظاهر الآية الأولى يدل على أنه
الكفر فتأمل.
" إن تبدوا " (1) أي تظهروا " خيرا " أي حسنا جميلا من القول والفعل
بالنسبة إلى من أحسن إليكم بل أعم " أو تخفوه " أي تفعلوا ذلك سرا وخفية " أو
تعفوا عن سوء " أي تصفحوا عمن أساء إليكم مع القدرة على الانتقام، ولا تجهروا
له بالقول بالسوء، ولا بأدنى من ذلك وأقوى " فإن الله كان عفوا قديرا " صفوحا
مع القدرة على المكافاة، فإنه يعفو مع ذلك ذنوبا كثيرة، فأنتم محتاجون إلى العفو
فينبغي أن تفعلوا ذلك بالطريق الأولى لأنكم إن عفوتم عفيتم وإن رحمتم رحمتم
وهو ظاهر عقلا وشرعا، وحذف جزاء " إن تبدوا " وأقيم مقامه ما يفهم منه ذلك
مع وضوحه والتعليل، ففيها حث للمظلوم على العفو بعد ما رخص له في الانتقام
حملا على مكارم الأخلاق كما أشرنا إليه.
" يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم وإن تسألوا عنها
حين ينزل القرآن تبد لكم (2) " الشرطيتان صفتان لأشياء، قيل: أي لا تكثروا
مسألة رسول الله صلى الله عليه وآله عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتاكم بها يغمكم كما سيجئ
في حكاية سراقة، وإن تسألوا عنها في زمان الوحي وما دام الرسول بين أظهركم
تبد لكم تلك التكاليف الشاقة، فتؤمرون بها فتعرضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط

(1) النساء: 149.
(2) المائدة: 101.
341

فيها " عفى الله عنها " يمكن كونها صفة أخرى لأشياء أي لا تسألوا عن الأشياء التي
عفا الله عنها، ولا تعاقبون عليها، ولم تكلفوا بها.
روي أنه لما نزل " ولله على الناس حج البيت " (1) قال سراقة بن مالك أكل
عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أعاد ثلاثا فقال صلى الله عليه وآله: لا، ولو قلت نعم
لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتم، فنزلت
فالالحاح في السؤال غير ممدوح، بل ينبغي البناء على الظاهر، وترك التدقيق المضر
وقد يفهم ذلك من حكاية البقرة كما هي مذكورة في محلها ويحتمل أن يكون ضمير " عنها "
للمسألة المفهومة من السؤال أي لا تسألوا وقد عفى عما فعلتم منها، ولكن لا تعودوا
فظاهرها أن السؤال المتقدم بل السؤال مطلقا عن الأشياء التي يظن إن ظهر أن
ظهورها يسوء للعموم حرام، لأنه ظاهر النهي، ويحتمل أن يكون للكراهة
كما يفهم من الشرطيتين، ولا شك أن الاجتناب أحوط " والله غفور حليم "
لا يعاجلكم بعقوبة ما تفرطون، ويعفو عن كثير " قد سألها قوم من قبلكم (2) "
الضمير للمسألة المفهومة قيل: " من قبلكم " متعلق بسألها، وليس بصفة لقوم، ولا
حال عنه، لأن ظرف الزمان لا يكون صفة جثة ولا حالا عنها ولا خبرا عنها، وفيه
تأمل إذ ليس المعنى إلا على كونها وصفا للقوم، فلا يتعلق بالسؤال، فعلى تقدير
تسليم ما ذكره، يمكن تأويل القوم بحيث يوجد فيهم معنى، ولا يكون جثة محضة
مثل الموجودين في ذلك الزمان " ثم أصبحوا بها كافرين " بسببها حيث لم يأتمروا
بما سألوا جحودا ومنكرا " بها " متعلق بكافرين.
وفي هذه الآية وأمثالها إشارة إلى أن الجاهل معذور، وأن عقاب العالم
أعظم فافهم.
" ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام (3) " رد وإنكار لما ابتدعه
أهل الجاهلية وهو أنهم كانوا إذا أنتجت الناقة عندهم خمسة أبطن آخرها ذكر

(1) آل عمران: 97.
(2) المائدة: 102.
(3) المائدة: 103.
342

بحروا أذنها أي شقوها فخلوا سبيلها، فلا تركب ولا تحلب، وكان الرجل منهم
يقول: إن شفيت فناقتي سائبة، ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وإذا ولدت
شاة أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم وإن ولدتهما وصلت الأنثى أخاها
فلا يذبح لآلهتهم الذكر، وإذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره
ولا يمنعوها من ماء ولا مرعى، وقالوا قد حمي ظهره، ومعنى " ما جعل " ما شرع
ووضع، ولهذا تعدى إلى مفعول واحد وهو البحيرة وما عطف عليه، و " من " زائدة.
" ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون " أي
الكفار يفترون على الله الكذب بجعل الحلال حراما وبالعكس، ويقولون الله
جعله كذلك ولا يعرفون الحلال من الحرام، والمبيح من المحرم، والأمر من
غيره، ولكن يقلدون آباءهم ولا يسمعون المعقول كما يفهم من قوله: " إذا قيل لهم
تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان
آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون " الواو للحال والهمزة دخلت عليها إنكارا للفعل
على هذه الحالة، أي أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين، والمعنى:
الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه مهتد عالم، وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي
غيرها من التقليد.
واعلم أن في هذه الآيات دلالة على أن تحريم شئ وتحليله بغير دليل شرعي
حرام فالبدعة حرام فإن كل ما يجعل الانسان على نفسه من اخراج مال عن الانتفاع
بقوله وفعله لا يخرج بذلك عما كان وإن جعل في مقابلة نعمة مثل شفاء عن مرض
ما لم يكن عليه دليل شرعي بنذر ونحوه، وأن جعل ذلك من عند النفس بغير دليل
افتراء على الله بالكذب، وأن التقليد غير جائز في مقابلة الدعوة إلى الله وإلى
الرسول، بل مطلقا ما لم يكن المقلد مهتديا فيدل على جوازه مع العلم بأنه مهتد.
ففيه جواز التقليد في الجملة، وذلك غير بعيد، ولكن ليس بتقليد حقيقة لأنه
لم يعلم أنه مهتد وأن من اتبعه كذلك إلا مع دليل يدل على أن المتبوع والمقلد
هاد ومهتد، وفي اتباعه هداية ورشد، وحينئذ هو خارج عن التقليد المذموم، بل
343

عن التقليد، فإنه حقيقة تابع للدليل، إذ لا فرق في اتباع الدليل بين أن يكون
المتبع شخصا أو غيره ولهذا قالوا التقليد هو قبول قول الغير بغير دليل على القبول
وأن تقليد الأنبياء بل تقليد المجتهدين ليس بتقليد، بل استدلال كما في المجتهد
لتحقيق مسألة بدليل وإنما يقال له التقليد بمعنى آخر غير المعنى الذي هو مذموم
وغير مجوز.
فتقليد المجتهد حسن وجائز، بل واجب بعد وجود دليل على ذلك كاجتهاد
المجتهد، وهو ظاهر ومبين في الأصول، وهو المراد بالتقليد المفهوم " من أو لو
كان " الآية وأمثاله والذي لا يجوز ومذموم كما يدل عليه قوله تعالى " ولا تقف
ما ليس لك به علم (1) " وأمثاله أي لا تقل ولا تفعل إلا ما تعلم جوازه، فالمراد به التقليد
بغير دليل معلوم، فإنه التقليد، وبه يجمع بين جواز التقليد وعدم جوازه، وجواز
العمل بالظن وعدم جواز العمل والتكليف بالعلم، أي العمل بالظن بمحض الاشتهاء
والتقليد، ويراد بالتكليف بالعلم أعم من الظن الحاصل من دليل كما للمجتهد، لا
بحمل ما يفيد الظن، وجواز التقليد على الفروع، والتكليف بالعلم وعدم جواز
الظن والتقليد على الأصول الكلامي كما هو المشهور إذ لا دليل عليه، ولعدم
الفرق، نعم لو ثبت أنه لا بد في الأصول من العلم اليقيني في جميع مسائله وفي
الفروع يكفي مطلق الظن، لتم ذلك، وهو مشكل، وتخصيص بعض الظنون دون
بعض يحتاج إلى تأويل وتصرف مؤول إلى ما قلناه، على أنا قد ادعينا حصول
العلم بالتقليد للمقلد في الفروع وغيره، إذا كان عن دليل كتقليد المعصوم كما
قالوه للمجتهد بأنه يقول: هذا ما أفتى به المفتي، وكل ما أفتى به المفتي حق و
واجب العمل، والمقدمة الأولى مفروضة، والثانية ثابتة بالدليل، وبالفرض
أيضا فالنتيجة علمية فتأمل.
وقوله " إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون " (2) يدل على عدم جواز

(1) أسرى: 36.
(2) الأنعام: 116.
344

العمل بالظن في الأصول، لا الفروع الذي مبناه على الظن، لأن معناه على ما
في الكشاف إن يتبعون إلا ظنهم أنهم شركاء لله، وإن هم إلا يخرصون ويقدرون
أن يكونوا شركاء تقديرا باطلا. لأن صدر الآية دل على نفي صلاحية شئ للربوبية
فإن قوله " ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون
من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإنهم إلا يخرصون " صريح في ذلك.
ويدل على عدم جواز تقليد الجاهل والمفضول ومتبوعيتهما وثبوتها للمهتدي
قوله " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى (1) " يعني
أم الذي يهدي إلى الحق حقيق بالاتباع والمتبوعية، فأحق بمعنى أصل الفعل أم
الذي لا يهتدي بنفسه أولا يهدي غيره إلا أن يهديه غيره، فالأول على قراءة " يهدي "
بتشديد الدال وفتح الهاء أو كسرها، كان أصلها يهتدي قلبت التاء دالا وأدغمت
فيها، وحركت الهاء بالفتحة بنقل فتحة التاء إليها للخفة أو بالكسر، لالتقاء
الساكنين. وعلى قراءة التخفيف أيضا فإن " يهدي " بمعنى يهتدي كثير والثاني على
قراءة التخفيف فقط، فإنه من يهدي المتعدي بنفسه وهو كثير كتعديته باللام، و
الاستفهام على سبيل الانكار يعني معلوم أن الهادي بنفسه حقيق لا غير " فما لكم
كيف تحكمون " يعني ما تحكمون أنتم إلا بالحق، لو أنصفتم، أي معلوم أن
الهادي بنفسه أحق.
فيمكن أن يستدل بها على وجوب اتباع الله تعالى الخالق دون مخلوقه، و
كذا على وجوب اتباع العالم دون الجاهل، وكذا على اتباع الأفضل فيما هو
أفضل به، دون المفضول، خصوصا إذا كان تعلمه من هذا الأعلم والأفضل، و
إن كان المفضول والجاهل متمكنان من العلم بما علمه العالم والأفضل بالتعلم
فيستخرج منه عدم جواز تقليد الجهال والمفضول، مع تقدير وجود الأفضل
وإن كان أورع، ولهذا قال به بعض العلماء وكذا تقديم الأفضل في الصلاة وكذا
الرواية، ويمكن الشهادة وإن سلم أن الآية في منع الكفار عن اتباع

(1) يونس: 35.
345

الأوثان دون الله كما قال في الكشاف وتفسير القاضي فإن سبب الورود ليس
بمخصص بل المدار والاعتماد على ظاهر اللفظ كما هو الحق المثبت في الأصول
ولا شك في عموم اللفظ وأن العالم والأفضل يهدي بنفسه، بل ظاهر " أن يهدى "
أنها في غير الأوثان لعدم قابليتها للهداية، وهو ظاهر، فيمكن أن يستخرج عدم
جواز الاجتهاد للنبي والإمام، حيث يقدران على تحصيل العلم من الله، وكذا عدم
الاجتهاد لمن يقدر على الأخذ بالعلم منهما، بل عدم جواز الأخذ بالظن مطلقا
مع القدرة على العلم.
ويدل عليه " وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق
شيئا " (1) قال في الكشاف: المراد بالأكثر جميع الكفار المذكورين سابقا قاله
في تفسير القاضي أيضا وقال فيه أيضا: أو المراد من ينتمي منهم إلى تميز ونظر
ولم يكتف بالتقليد الصرف، وفيهما تأمل إذ إطلاق الأكثر على الجميع بعيد، و
لا بد للكل ظن بل الذي يقنع بمحض التقليد يجزم بذلك فكان المراد غير القليل
الذي هو نادر جدا ولا اعتداد به أصلا، ووجوده وعدمه سواء، أو أن للبعض
جزما إلا أن ذلك أقبح إذ الجزم بمعلوم البطلان ومن غير دليل باطل، إلا أنه
يمكن أن يراد أن الأكثر يظهرون العلم والاعتقاد مع أن ليس لهم إلا الظن، أو
أن المراد بطريق الاجتهاد والأقيسة الباطلة، فإن الكل وإن كان لهم ظن لكنه
ليس من اجتهاد وقياس، وتأمل ونظر، بل مجرد تقليد الآباء، وكأنه مراد
القاضي.
وقد يتوهم من ظاهر الآية أنها تدل على المنع من العمل بالظن واتباعه
مطلقا لظاهر قوله " إن الظن لا يغني " فإن المتبادر منه عمومه وإن كان مفردا
محلى باللام، وليس للعموم على الظاهر، وإن كان الكلام مع الكفار بالنسبة إلى
المعتقدات، بل أصول الدين، ودفع الظن في مثل ذلك، فلا يجوز العمل والتعويل
عليه إلا مع دليل أقوى أو مساو دلالة على الجواز من دلالتها على المنع، كما ثبت

(1) يونس: 36.
346

ذلك في المسائل الفروعية اجتهادا وتقليدا بالعقل من لزوم الحرج والضرر المنفيين
بالعقل والنقل، والتكليف بما لا يطاق وببعض الآيات والأخبار، بل الاجماع، إذ
قد انقرض القائل بمنع التقليد وإيجاب الاجتهاد عينا إلا أن يقال الاجتهاد علمي
فإن دليل العمل به قطعي، ولكن في القول بمثله في التقليد أيضا تأمل فتأمل فيهما.
ويمكن أن يقال: المراد بالظن ظنهم المتقدم، فيكون الألف واللام عوضا
عن المضاف إليه فتدبر، أو يقال: إن الظن لا يغني من العلم شيئا يعني إذا كان
المطلوب علما لا يقوم الظن مقامه، وهو ظاهر فتأمل.
وقوله تعالى " إنه لا يحب المستكبرين (1) " كأن المعنى يبغضهم، يدل
على تحريم الاستكبار والتكبر وما يدل عليه كثير مثل " بئس مثوى المتكبرين (2) "
أي بئس مأوى ومنزل من تكبر في الدنيا على الناس يوم القيامة.
" ادع إلى سبيل ربك " (3) أي ادع يا محمد الناس إلى الاسلام " بالحكمة " بالمقالة
المحكمة الصحيحة وهي البرهان الموضح للحق، والمزيل للشبهة، وقال في مجمع البيان:
إلى دين الله ومرضاته. أو بالقرآن، وقيل بالمعرفة بمراتب الأفعال والأحوال
" والموعظة الحسنة " هو الصرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه والترهيب
في فعله، وفي ذلك تليين القلب بما يوجب الخشوع " وجادلهم بالتي هي أحسن "
أي ناظرهم بالقرآن وبأحسن ما عندك من الحجج، وتقديره بالكلمة التي هي
أحسن والموعظة الحسنة أي أدعهم إليه بالمقدمة الظنية التي تفيد وتعرب أنها
تنفعهم.
وفي الكشاف: يجوز أن يراد بها القرآن أي أدعهم بالكتاب الذي هو حكمة
وموعظة حسنة، ويحتمل إرادة مطلق الدليل الاقناعي كما مر وأن يراد منها
خرق العادات والمعجزات، فيكون الأول مقدمات عقلية والثاني محسوسة " و
جادلهم بالتي هي أحسن " أي أدعهم بالقياس الجدلي الذي هو إيراد مقدمات مسلمة للخصم

(1) النحل: 23.
(2) النحل: 29، الزمر: 27، غافر: 76.
(3) النحل: 125.
347

وإن لم يكن حقه أي أحسن طرق المجادلة والمباحثة والمماراة بحيث لا يكون فيها
مكابرة ولا صياح بحيث لا يفهم المخاطبة ولا اعراض ولا شتيمة ولا يقول لا نفهم كما
هو العادة بين الجهلة المتسمين بالعلماء والطلبة، ورد ما هو غير حق من مقدمات
بطريق حق حتى يزول شبهتهم لا بالسكوت والمكابرة والرد بالصياح وأنه ظاهر
لا يحتاج إلى الجواب وغير ذلك، وبالجملة يكون في غاية الرفق واللين من غير
فظاظة ولا تعنيف " إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين " أي
الله يعلم الخير السالك للطريق الحق المطيع له، والقابل للحق، والمنكر له
الضال الذي لا يؤثر فيه شئ فيجازي كلا بعلمه، وليس عليك إلا ما تقدم، و
ليس عليك الهداية إليه. في الكشاف: ربك أعلم بهم، فمن كان فيه خير كفاه الوعظ
القليل، والنصيحة اليسيرة ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، فكأنك تضرب
منه في حديد بارد.
وفي هذه الآية إشارة إلى جواز المماراة الحسنة، والبحث، وبيان الحق
بطريق الحجة والبيان، وإشارة إلى قانون الميزان الثلاثة الأقسام المقبولة من
البرهان والخطاب والقياس الجدلي، ولما كان القياس الشعري غير مقبول ومنهيا
عنه ما ذكره ها هنا، بل نهى عنه في قوله " وما علمناه الشعر وما ينبغي له (1) "
على ما قيل، وكذا السفسطي، والاحتياج في البحث عن المعرف هنا والقول
الشارح ظاهر، فإنه مما يتوقف عليه القياسات، فصارت الميزان مقبولا بالكتاب
كذا قيل، ففيها دلالة على جواز المماراة الحسنة، دون الباطلة، وكذا في سورة
الكهف " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا (2) " كما دل عليه الأخبار الكثيرة مثل لا
تمار فإن المؤمن لا يماري، أعاذنا الله وإياكم عن أمثالها.
وقالوا في قوله تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (3) " دلالة على
عدم كون الحسن والقبح عقليين ولا دلالة فيه بينته في الأصول من عشرة أوجه، و
قلت بل فيها دلالة على كونها عقليين إذ سوقها لبيان أن ليس لله العقاب والذم

(1) يس: 69.
(2) الكهف: 22.
(3) أسرى: 15.
348

لأحد على فعل قبل بعثة الرسول، وبيان قبح ذلك القبيح له، وأن ذلك العقاب
غير جائز عند العقلاء، بل ذلك مذموم وقبيح، إذ للمعاقب اعتراض معقول لا دفع
له، بأن يقول لولا أرسلت إلينا رسولا، وهو عين الحسن والقبح العقليين، وأن
ليس لله ما يفعل، وإن كان قبيحا، وأن لا قبيح إلا ما قبحه بل لا يقبح إلا قوله لا
تفعل ولا يحسن إلا قوله افعل، وهو ظاهر وإلا فلا معنى حينئذ لقوله لولا أرسلت
وكان عقابهم معقولا، بل لا معنى للحساب والميزان فتأمل.
" قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " (1) قال في الكشاف: وفيه دليل على جواز
الاجتهاد والقول بالظن الغالب، وأنه لا يكون كذبا وإن جاز أن يكون خطأ و
فيه تأمل فتأمل.
" إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا " في
الكشاف أو يدخلوكم في ملتهم بالاكراه العنيف، ويصيروكم إليها، والعود في معنى
الصيرورة أكثر شئ في كلامهم، يقولون ما عدت أفعل كذا يريدون ابتداء الفعل
" ولن تفلحوا إذا أبدا " إن دخلتم في دينهم في مجمع البيان: قيل من أكره على
الكفر فأظهره فإنه مفلح، فكيف يصح الآية، والجواب يجوز أن يكون أراد
يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الاكراه، ويجوز أن يكون في ذلك الوقت كان
لا يجوز التقية في إظهار الكفر بمعنى لو أظهر باللسان وإن لم يكن من القلب يكون
مأثوما وكافرا لا ينفعه الايمان بعده، وفيه بعد عقلا ونقلا فالأول متعين وظاهر
الآية كما قال في الكشاف إن صرتم إلى ملتهم لن تفلحوا أبدا يعني باختياركم بعد
تكليف هؤلاء لكم، ففيه دليل على عدم قبول توبة المرتد فتأمل، ويحتمل التقييد
بما دام كنتم في دينهم غير راجع إلى دين الحق وهو ظاهر فتأمل.
" فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا " أي فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب
الكهف إلا جدالا ظاهرا غير متعمق فيه، وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك
فحسب، ولا تزيد، من غير تجهيل لهم، ولا تعنيف بهم في الرد عليهم، كما قال:

(1) الكهف: 19.
349

" وجادلهم بالتي هي أحسن " هذه تدل على جواز البحث والجدل في العلم بطريق
ظاهر حسن، وتحريمه وعدم جوازه لا على ذلك الوجه المرضي الحسن، فهي
مخصصة لما دل على النهي عن ذلك وتحريمه، مثل لا تمار فإن المؤمن لا يماري، و
هو ظاهر.
" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن
أمر ربه (1) " في الكشاف كان من الجن كلام مستأنف جار مجرى التعليل بعد
استثناء إبليس من الساجدين، كأن قائلا قال: ما له لم يسجد؟ فقال كان من الجن
ففسق عن أمر ربه، والفاء للتسبيب أيضا: جعل كونه من الجن سببا في فسقه يعني أنه
لو كان ملكا كسائر من سجد لآدم، لم يفسق عن أمر الله [كسائر الملائكة] لأن
الملائكة معصومون البتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس، كما قال:
" لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (2) " ومعنى فسق عن أمر ربه خرج عما أمره به من
السجود وقال أو صار كافرا بسبب أمر ربه الذي هو قوله سبحانه " اسجدوا لآدم " هذا
مبني على مذهب المعتزلة أن كل ذنب كفر فالظاهر أن معنى الآية ففسق بسبب
ترك أمر ربه فترك أمر ربه ففسق وهو ذنب وخروج عن الطاعة، موجب للعقاب.
ففيها دلالة على كون الأمر للوجوب كما في قوله تعالى في الأعراف: " ثم قلنا
للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا
تسجد إذ أمرتك (3) " الآية، حيث وبخ على ترك السجود والمأمور به بمجرد ترك
الأمر، وهو أحسن مما استدلوا به وهو ظاهر.
بقي هنا سؤال هو أن ظاهر الآية كون إبليس غير ملك، وقد صرح في تفسيره
به، ولم يكن داخلا في المأمورين بالسجود فلا يحسن الاستثناء ولا معنى للذنب و
التوبيخ فيمكن أن يقال إنه ما كان داخلا فيهم، وإنما عبر بالملائكة تغليبا أو
كان ملكا ولكن لما كان شأن الملك أن لا يعصي ربه وقد عصى ربه فكأنه ليس بملك

(1) الكهف: 50.
(2) الأنبياء: 27.
(3) الأعراف: 11 و 12.
350

بل جن، ولم يثبت كون كل ملك معصوما الله يعلم.
" فقولا له قولا لينا " (1) خطاب لموسى وهارون بأن يكلما فرعون ويكلفاه
بالايمان بالله، ولكن بقول لين ملائم أي أرفقا به في الدعاء والقول، ولا تغلظا له
في ذلك، وقيل معناه كنياه وكنيته أبو الوليد وقيل أبو العباس وقيل أبو المرة، قال
في مجمع البيان وفي هذا القول دلالة على وجوب الرفق في الدعاء إلى الله، وفي
الأمر بالمعروف، ليكون أسرع إلى القبول، وأبعد من النفور، فلا بعد في دخول
التعليم والمباحث العلمية وغيرهما من تعليم الخير فيه، وهو ظاهر وفقنا الله وإياكم
لذلك، قال في الكشاف والقول اللين نحو قوله تعالى " هل لك إلى أن تزكى
وأهديك إلى ربك فتخشى " لأن ظاهره الاستفهام والمشورة وعرض ما فيه الفوز
العظيم، وقيل معناه: عداه شبابا لا هرم من بعده، وملكا لا ينزع منه إلا بالموت، و
أن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته، وزاد في مجمع البيان:
وإذا مات دخل الجنة فأعجبه ذلك، وكان لا يقطع أمرا دون هامان وكان غائبا فلما
قدم هامان أخبره بالذي دعاه إليه وأنه يريد أن يقبل منه، فقال هامان قد كنت
أرى أن لك عقلا وأن لك رأيا! بينا أنت رب وتريد أن تكون مربوبا؟ وبينا
أنت تعبد وتريد أن تعبد؟ فقلبه عن رأيه، وفي الواقع صدق هامان لو كان له عقل
ما شاوره في هذا الأمر فإن هامان أيضا ليس له عقل.
وقال أيضا في الكشاف وقيل لا تجبهاه بما يكره وألطفا له في القول، لما له
من حق تربية موسى، ولما ثبت له من مثل حق الأبوة. والأول أحسن فإن
لطفه وكرمه وتأديبه عباده يقتضي الأمر بالتلطف، ولين الكلام، ولأنه أقرب
إلى التأثير لا حق له يقضى فتأمل، ثم قال في " لعله " الترجي لهما، أي اذهبا على
رجائكما وطمعكما، وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله، ولا
يخيب سعيه، فهو يجتهد بطوقه، ويحتشد بأقصى وسعه.
يعلم من هذا الأسلوب من التأديب في دعوته إلى الايمان نهاية شفقته تعالى
بعباده وكمال اهتمامه بايمانهم باختيارهم، وخلاصهم من عقابه، وتعبدهم له

(1) طه: 44،
351

لينتفعوا به من الأمر بالقول اللين، مع التصريح بالرجاء حتى لا يقصرا في الدعوة
كما بين، ثم علله بقوله " يتذكر ": ويتأمل فيبذل النصفة من نفسه، والإذعان
للحق " أو يخشى " أن يكون الأمر كما تصفان فينجر إنكاره إلى التهلكة، ولهذا
قال في مجمع البيان وكان يحيى بن معاذ يقول هذا رفقك بمن يدعي الربوبية فكيف
رفقك بمن يدعي العبودية وقال في الكشاف وجدوى إرسالهما مع العلم بأنه لن
يؤمن إلزام الحجة، وقطع المعذرة " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا
ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فتبع آياتك (1) " ففيه المبالغة كما ظهرت وإظهار
الشفقة واللطف وإبطال دعوى أنه لا يريد من الكافر إلا الكفر، وأن ليس الحسن
والقبح إلا شرعا بل قول افعل ولا تفعل، وهو ظاهر [البطلان] فافهم.
واعلم أيضا أن في قبول موسى معارضة فرعون بسحر السحرة معجزة دلالة
واضحة على كون الحسن والقبح عقليين، وبطلان إفحام الأنبياء عليهم السلام، وعدم
صحة الجواب بأنه نحن نقول يجب عليك النظر سواء تنظر أو لا تنظر، وأن شرط
التكليف هو العقل، وإمكان المعرفة، لا حصول العلم بمكلف به، لكل مكلف
مكلف، وإلا دار وهو ظاهر، وهو في آيات شتى مثل " ولقد رأيناه آياتنا كلها
فكذب وأبى قال أجئتنا " الآية (2).
" وذا النون إذ ذهب مغاضبا (3) أي أذكر يا محمد يونس بن متى وقت ذهابه عن
قومه، حين ضاق خلقه من وعظهم ودعوتهم، وعدم اتعاظهم وقبولهم، حال كونه
مغضبا أي أغضبهم بمفارقته لهم، ولخوفهم نزول العقاب عليهم عند مفارقته لهم، و
قرئ " مغضبا " ويحتمل أن يكون المعنى باغضا لهم أيضا مع أنه ظن أن ذلك
يجوز له، حيث ما فعل إلا لله فهو بغض لله، ولعل كان الأولى له الصبر، وانتظار
الأذن والفرج من الله، فما صبر " فظن أن لن نقدر " أي ظن أن الله تعالى ما قدر
عليه وما فرض له المعاتبة والتعنيف عليه أو ظن أنه لم يفعل الله معه فعل القادر

(1) طه: 134: (2) طه: 56.
(3) الأنبياء: 87.
352

ولم يستعمل قدرته في عتابه لحسن ظنه بالله أو مثل عدم فعله تعالى - بسبب أنه كان
جائرا له - بمن لا يقدر عليه، فهو تمثيل واستعارة قاله في الكشاف.
وقال في مجمع البيان ظن أن لن يضيق عليه، فتأمل، وهذا مروي عن
الأئمة عليهم السلام قال الجبائي ضيق الله عليه الطريق حتى ألجأه إلى ركوب البحر ثم
قذف فيه فابتلعته السمكة وقيل استفهام وتقديره أفطن أن لن نقدر عليه؟
" فنادى " أي ذو النون " في الظلمات " ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة
البحر، أو أن الحوت الذي بلعه بلعه حوت آخر فصارت ظلمات بطنين وظلمة الليل
أو شدة الظلمة فكأنهما ظلمات كثيرة " أن لا " أي بأن لا " إله إلا أنت " أو أي لا إله
فأن بمعنى أي وفي الأول با مقدرة " سبحانك إني كنت من الظالمين " أي من
الذين وجد منهم الظلم، قاله على سبيل الخشوع والخضوع، لأن جنس البشر لا
يمتنع منه وقوع الظلم، ولم يكن في بطن الحوت على جهة العقوبة لأنها عداوة
والنبي ليس بعدو لله، بل على جهة التأديب فإنه يجوز للمكلف وغيره كالصبي
ولغير العدو كذا في مجمع البيان.
" فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين " أي ليست النجاة
بمخصوصة به بل ننجي كل مؤمن مبتلى دعا به، عن النبي صلى الله عليه وآله ما من مكروب
يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له، وهو صريح في قوله تعالى " وكذلك ننجي المؤمنين "
وفي الكشاف: عن الحسن ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم.
ففي هذه الآية الشريفة دلالة على الترغيب والتحريص على الصبر والتحمل
وعدم ترك الذكر والوعظ وعدم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و
المبالغة في ذلك جدا وكثيرا، لعدم الأثر، وعدم ترك ما أمر الله به إلا بإذنه، لا
بظن عدم التأثير، فينبغي عدم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمجرد ظن
عدم التأثير كما هو المشهور فإنه يحتمل إصابة عذاب وعقاب عظيم بذلك، كما
فعل بذي النون عليه السلام.
فتدل على أنه لا بد أن يكون الانسان على خوف عظيم، إذ فعل به عليه
353

السلام ما فعل، مع كون فعله ترك الأولى، مع ظن أن فعله كان لله، فكيف
الظن بنا. إلا أن يكون من جهة عدم الاعتداد والاعتبار بنا، فيخلينا وأنفسنا فنعوذ
بالله من ذلك أيضا، وعلى الترغيب على الاقرار بالذنوب والظلم، وأن له دخلا في
استجابة الدعاء، وعلى تكرار هذه الآية الشريفة عند الكرب، ودفع الهموم و
الغموم، كما ورد به الروايات عن أهل البيت عليهم السلام.
فايدة
نقول أن حيا (1) من الأنبياء لهم اسمان ذو النون ويونس، وإسرائيل ويعقوب
وعيسى ومسيح، ومحمد وأحمد، وذو الكفل وإلياس، وقيل ذو الكفل هو زكريا، و
قيل يوشع بن نون وكأنه سمي بذلك لأنه ذو الحظ من الله والمجدود على الحقيقة
وقيل كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم.
وأيضا يدل على استجابة الدعاء والترحم لو قال الانسان في دعائه ما نقل عن
أيوب عليه السلام " وأيوب " (2) أي أذكره " إذ نادى " أي وقت ندائه " ربه أني " بأني
" مسني الضر " بالفتح الضرر في كل شئ، وبالضم الضرر في النفس، من مرض وهزال
" وأنت أرحم الراحمين " ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وربه بغاية
الرحمة ولم يصرح بالمطلوب فاستجاب له بقوله: " فاستجبنا له وكشفنا ما به من ضر و
آتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين " فرجع أيوب إلى الصحة
وأعطاه الأموال والأولاد كما كانت بل أكثر، وهو مسطور في التفاسير، ويدل
على تحريم الافتراء على الله بأن له شريكا مثلا أو ولدا أو زوجة ونحو ذلك، وكذا
على تحريم إنكار الحق بعد العلم به، وظهوره عنده، فتدل على تحريم المجادلة في
البحث، وإنكار الحق إذا كان في يد الخصم، وتزييفه والجدال والمراء حتى
يحصل بيده ما يمكن أن يوجه كلامه، ويزيف كلام خصمه كما هو المتعارف في
زماننا هذا.
قوله تعالى: " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه

(1) خمسا خ ل.
(2) الأنبياء: 83.
354

أليس في جهنم مثوى للكافرين (1) " استفهام إنكار فكأنه جعل المجادل الذي يرى الحق
في يد خصمه وينكر ولا يصدقه والمفتري على الله كافرا فتأمل. في مجمع البيان أي لا ظالم
أظلم ممن أضاف إلى الله ما لم يقله من عبادة الأصنام وغيرها، " أو كذب بالحق " أي
بالقرآن، وقيل بمحمد صلى الله عليه وآله ويحتمل العموم فيهما كما هو الظاهر " والذين
جاهدوا فينا " أي جاهدوا الكفار ابتغاء مرضاتنا وطاعتنا، أو جاهدوا أنفسهم في
هواها خوفا، وقيل معناه: اجتهدوا في عبادتنا رغبة في ثوابنا ورهبة من عقابنا
" لنهدينهم سبلنا " الموصلة إلى ثوابنا عن ابن عباس، وقيل: لنوفقنهم لازدياد
الطاعة ليزداد ثوابهم، وقيل معناه: والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم
سبل الجنة، وقيل معناه والذين يعملون بما يعلمون لنهدينهم إلى ما لا يعلمون " و
إن الله لمع المحسنين " بالنصر والمعاونة في دنياهم، والثواب والمغفرة في عقابهم
وبالله التوفيق للعمل والعلم.
ومن وصية لقمان لابنه أنه " لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (2) "
و " أقم الصلاة " في أوقاتها بشرائطها " وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما
أصابك " (3) فيهما أو في الدنيا مطلقا، ومعلوم راجحية هذه الأمور، بل وجوبها.
والصبر أيضا بمعنى تحريم عدم الرضا، وإظهار ما يوجب لسخط الله، ووصى الله
تعالى بين وصايا لقمان، ولعله تركها (4) لكونه أبا إشارة إلى أنه لا بد من ذلك أيضا
وأن وصيته مثل وصية الله في وجوب الاتباع وقد بالغ في ذلك حيث عم الوصية
بهما، وما خصه بشئ دون آخر.
ويحتمل أن يكون المراد " حسنا " كما في موضع آخر، وحيث فسر الوصية
بهما بالشكر لله بالحمد، والطاعة بامتثال الأوامر وترك المناهي، وشكرهما بالبر
والصلة بل الطاعة، فكأنهما شقيق الله في وجوب الطاعة والشكر، وأداء الحقوق

(1) العنكبوت: 68 و 69.
(2) لقمان: 13.
(3) لقمان 17.
(4) يعني ترك متن الوصية حيث قال تعالى " ووصينا الانسان بوالديه " ولم يقل حسنا
كما في العنكبوت: 7. فتأمل.
355

فالتقدير: ووصينا الانسان بنا وبالوالدين ثم فسره بقوله " أن اشكر لي ولوالديك "
فأن مفسرة فإن المعنى وأمرنا الانسان بي وبوالديه أي قلنا له: اشكر لي ولوالديك
ففيه مبالغة زائدة وبالوالدين لا يمكن فوق ذلك بأن جعل الوصية إليهما وصية إليه
وشكر شكرهما، وغير ذلك، وأكد ذلك خصوصا جانب الأم لكثرة حقوقها و
مشقتها، بقوله " حملته أمه وهنا على وهن " وهي جملة حالية مقدرة، وعطف عليه
" وفصاله في عامين " أي ضعفا على ضعف أو ثقلا على ثقل، فإن الحمل كلما يزداد
زيادة يزداد ثقل وضعفا، وكذا رضاعه طول الحولين فإنه موجب لمشقة زائدة
مع حضانته في تلك المدة.
ومعنى " فصاله في عامين " أي فطامه في انقضاء الحولين وبعد مضيهما، فيدل
على أن الحولين غاية الرضاع ولا يكون رضاع فوقهما، فلا يكون محرما أيضا، و
لكن جوز الأصحاب رضاع شهر أو شهرين بعدهما للأخبار أو الاجماع والاحتياط
في الأول، ويمكن حمل ذلك الضرورة، نعم يحتمل الأقل لقوله " والوالدات
يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " (1) ثم أكد المبالغة في ذلك
بالوعيد بقوله " وإلي المصير " أي مرجع المطيع والشاكر لي ولهما، والعاصي
وكافر النعمة والعاق لهما، إلي، فأجازي كلا بعمله، وبما يستحقه.
ثم بالغ مرة أخرى بما هو بمنزلة الاستثناء أي تطعهما إلا في الكفر حيث
قال " فإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما " أي إن بذلا
جهدك في أن تعبد غيري وتشارك معي معبودا غيري فلا تطعهما في ذلك، فإن
ذلك طاعة فيما ليس لك به علم، فإن العلم به محال، فإنه محال، فأشار إلى نفيه
بنفي العلم، وفيه إشارة إلى وجوب متابعة العلم، وعدم متابعة غيره، يعني لو كان
له علم في ثبوت الشريك لكان جائزا ويجب عليكم تبعية الوالدين في ذلك، فكيف
غيره، ولكن ذلك محال، وأكده مرة أخرى بعده بقوله " وصاحبهما في الدنيا
معروفا " يعني مع كونهما كافرين وجاهدا في كفرك، لا تترك الاحسان معهما، بل

(1): 233.
356

استعمل معهما معروفا حسنا جميلا بخلق جميل واحتمال ما يصل إليك منهما وبر وصلة
وما هو مقتضى العرف، والحسن الجميل في الدنيا مع قطع النظر عن آخرتهما أو
افعل بهما ما يقتضيه الكرم والمروة والاحسان " واتبع " في ذلك وغيره " سبيل
من أناب " يعلم أن له رجوعا ومصيرا " إلي " ويعتقد أن العاقبة إلى وهو سبيل المؤمنين
لا سبيل الكفار، وزاد ذلك بقوله " فأنبئكم بما كنتم تعملون " وبالجملة فيها
المبالغة أكثر من أن يبين كما مر في تفسير قوله تعالى " ولا تقل لهما أف " فتذكر (1).
ثم في الآية من الفروع وجوب الرضاع في عامين لا أكثر إلا أن يثبت بدليل
وعدم كون ما زاد رضاعا محرما لعدم كونه شرعا، والمحرم إنما هو الشرعي
فتأمل، فقول أبي حنيفة إن مدة الرضاع ثلاثون شهرا باطل، فإنه مخالف لظاهر
الآيتين فافهم، ولهذا رجع من قوله صاحباه وقالا بقول الشافعي والأصحاب أنه حولان
وكون أقل مدة الحمل ستة أشهر بضم قوله تعالى " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " (2)
فإنك إذا أخرجت الحولين الكاملين من ثلاثين شهرا للرضاع، يبقى ستة أشهر
للحمل فتأمل، ووجوب شكر نعمة المنعم، منه طاعة الوالدين، وبرهما، وتحريم
العقوق، وثبوت ذلك بالنسبة إلى الكافرين، وعدم متابعته في أي شئ كان فافهم.
ومن وصيته " ولا تصعر خدك للناس " (3) أي ولا تمل وجهك من الناس تكبرا
ولا تعرض عمن يكلمك استخفافا، في الكشاف أي أقبل على الناس بوجهك تواضعا
ولا تولهم شق وجهك وصفحته كما يفعل المتكبرون، في مجمع البيان قيل: هو
أن يكون بينك وبين الانسان شيئا، فإذا لقيته أعرضت عنه " ولا تمش في الأرض
مرحا " بطرا وخيلاء أي لا تمرح مرحا أو يكون مرحا حالا، فالمصدر بمعنى الفاعل
ويجوز أن يكون مفعولا له أي لأجل المرح والأشر، كما يمشي كثير من الناس
كذلك لا الكفاية مهم ديني أو دنيوي، ونحو قوله تعالى " ولا تكونوا كالذين
خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس " (4) " إن الله لا يحب كل مختال فخور " أي

(1) بل سيجيئ في كتاب المكاسب.
(2) الأحقاف: 15.
(3) لقمان 18.
(4) الأنفال: 47.
357

متكبر فخور على الناس، والمختال مقابل للماشي مرحا وكذلك الفخور والمصعر
خده كبرا كذا في الكشاف.
ومن وصيته " واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات
لصوت الحمير " (1) في الكشاف أي اعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين لا تدب دبيبا
المتماوتين أي الميتين الذين لا حركة لهم أو الضعيفين لكثرة العبادة، ولا تثب
وثب الشطار، قال رسول الله صلى الله عليه وآله سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن " واغضض من
صوتك " وانقص منه وأقصر، فإن أنكر الأصوات أي أوحشها وما استوحشت
النفوس منه أكثر من غيره من الأصوات هو صوت الحمار، وقيل أقبح الأصوات
صوت الحمار.
وهذه الأمور وإن كانت من وصية لقمان إلا أن الله أعطاه الحكمة، ونقل
وصيته بحيث يدل على استحسانه والرضا به، فكل ما يدل على التحريم منها يكون
حراما، وكذا غيره إلا أن يخرج بدليل ككلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله
وهو ظاهر، في مجمع البيان: أمر لقمان ابنه بالاقتصاد في المشي والنطق، وروي
عن زيد بن علي عليه السلام أنه قال أراد صوت الحمير من الناس، وهو الجهال، شبههم
بالحمير كما شبههم بالأنعام في قوله " أولئك كالأنعام " وروي عن أبي عبد الله
عليه السلام هي العطسة المرتفعة القبيحة، والرجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا
إلا أن يكون داعيا أو يقرأ القرآن، فيدل على عدم قبح رفع الصوت بالدعاء، و
القرآن مطلقا مع قوله " ادعوا ربكم تضرعا وخفية " (2) وقوله " واذكر ربك في
نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال " (3) فتأمل.
وتدل على أن التقوى وهو الاتيان بالمأمور به، والانتهاء عن المعاصي، و
القول السديد أي قولا حقا عدلا موجب لاصلاح الأعمال وغفران الذنوب:
قوله تعالى " واتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم

(1) لقمان: 19.
(2) الأعراف: 55.
(3) الأعراف: 205.
358

ذنوبكم " (1) والمراد حفظ اللسان في كل باب لأن حفظه وسداد القول رأس الخير
كله، والمعنى واتقوا الله وراقبوه في حفظ ألسنتكم وتسديد قولكم، فإنكم إن
فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم، والإثابة عليها، و
من مغفرة سيئاتكم وتكفيرها. وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيئ بها صالحة
مرضية.
وفي قوله " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن
تقولوا ما لا تفعلون " (2) مقتا تمييز للدلالة على أن هذا القول مقت عظيم كأنه حقير
دونه كله عظيم، وهو أشد البغض مبالغة، وتوبيخ كثير على القول بشئ دون العمل
به، فتدل على [لزوم] كون الواعظ متعظا، والظاهر خلافه كما هو المشهور، فيمكن
أن لا يكون المنع من القول، بل من عدم العمل بعد تحريض الناس عليه وترك
نفسه (3) وهو قبيح عقلا أيضا كما يظهر من هذه الآية، وعن بعض السلف أنه قيل
له حدثنا فسكت ثم قيل له: حدثنا فقال تأمرونني أن أقول ما لا أفعل؟ فأستعجل
مقت الله؟ وأن يكون المراد النهي عن قول لعمل لا يعمله يعني بعد بشئ وفي نفسه عدمه
فيدل على تحريم خلف الوعد حينئذ لا مطلقا، مع احتمال الاطلاق فتأمل، أعاذنا
الله وإياكم عنه، ووفقنا للعلم والقول والعمل.

(1) الأحزاب 70 و 71.
(2) الصف: 3.
(3) لكنه خلاف نص الآية الشريفة: فإن " مقتا " هو تميز " كبر " وفاعله " أن
تقولوا " بتقدير المصدر، فمعنى الآية الشريفة أن قولكم بما لا تعملونه ممقوت عند الله تعالى
من كبائر المقت، وهذا المعنى مؤيد بالعقل والنقل: أما النقل فروايات في ذلك، وأما العقل
فنكير العقلاء على من كان واعظا غير متعظ.
359

* (كتاب المكاسب) *
والبحث فيه على قسمين:
* (الأول) *
* (في البحث عن الاكتساب بقول مطلق) *
وفيه آيات:
الأولى: والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ
موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين * وإن من شئ
إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (1) ".
أي دحيناها وبسطناها ووضعنا فيها ما يرسيها ويسكنها من الجبال، لئلا
تميد وتتحرك بكم، وتستقروا عليها وتسكنوا فيها " وجعلنا لكم فيها " في الأرض
ما تعيشون به من الزرع والنبات والثمار والمطاعم والمشارب والملابس بل سائر
ما يوجد في العالم مما تقوم به معيشتكم حتى الطيور والوحوش وما في الهواء و
الماء وما يدب على الأرض، وقيل التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة فعلى
الأول الظاهر أنها جمع معيشة يعني ما يعاش به، وعلى الثاني بمعنى المصدر وهو
بعيد، لعدم الجمع فيه، ولبعد هذا الوزن " ومن لستم له برازقين " قيل معطوف
على محل " لكم " وهو النصب على أنه مفعول به لجعلنا أي جعلنا معايش في الأرض
لكم ولمن لستم له برازقين من الأهل والأولاد، والعبيد والإماء، بل والدواب
أيضا الذين تحسبون أنكم ترزقونهم وتخطؤون في ذلك، فإن الرازق هو الله فإنه
يرزق هؤلاء مثل ما يرزقكم، فظنكم أنكم ترزقونهم باطل وفاسد.

(1) الحجر، 19 - 21.
361

وجرى ذلك بناء على ظاهر حال بعض الجهال أنهم يظنون أنهم الرازقون
بل يظهرون ذلك ويمنون على هؤلاء ويقولون لو لم نكن لما قدرتم على المعيشة
ففيه تقريع لهم، ودليل على بطلان ذلك وعدم المنة في ذلك كله إلا لله، وإشارة
إلى أنه لا معنى للمنة ولا لتوقع المكافاة والاحسان في مقابل ذلك فإن كل ذلك
رزق الله، وإليه أشار في بعض الأخبار عن بعضهم عليهم السلام قال لبعض أصحابه
لما ذكر أنه يدخل عليه الضيفان والأخوان ويطعمهم: أن المنة لهم عليك قال كيف
ذلك؟ وأنا أطعمهم من مالي، ولهم المنة علي؟ قال عليه السلام: نعم لأنهم
يأكلون رزق الله الذي رزقهم، ويحصلون لك الثواب والأجر (1) ويحتمل أن يكون
ردا على المرزوقين أيضا فإنهم قد يظنون أنهم يرزقونهم.
ثم اعلم أن في جعل " لكم " مفعولا به لجعلنا تأملا وأيضا " من لستم "
داخل في " لكم " إلا أن يخصص بغير من يظن أنه يرزقه أحد، أو يظن أحد أنه
يرزقه، أو يعمم فيكون الذكر بالخصوص للإشارة إلى رد الوهم المتقدم ولادخال
الدواب فتأمل، فيحتمل أن يكون معطوفا على معايش، وفيه أيضا التأمل الثاني
من غير جريان النكتة، إلا أن يكون بالنسبة إلى بعض من فيهم مثل الأولاد، ولا
ينظر إلى حيثية الاستعانة بهم في المعيشة فتأمل، وفيه تغليب ذوي العقول على غيرهم
على تقدير اختصاص " من " بهم كما هو المشهور، فقول الزجاج: أجود الأقوال
العطف على معايش، محل التأمل.
ويحتمل العطف على الضمير المجرور في " لكم " ولم يثبت امتناع العطف
على من غير إعادة الجار وقد جوزه الفراء وأنشد شعرا في ذلك نقله في مجمع البيان
وجوزه الكوفيون في حال السعة للأشعار المنقولة في الكشاف والرضي وقيل
بذلك في قوله تعالى " وكفر به والمسجد الحرام " (2) " وتساءلون به والأرحام " (3)
بالجر في قراءة حمزة، ولا دليل على عدمه عقلا ولا نقلا حتى يضعف قراءة حمزة

(1) راجع الكافي كتاب الايمان والكفر باب إطعام المؤمن ج 2 ص 200.
(2) البقرة: 217.
(3) النساء: 2.
362

بالجر، مع كونها متواترة كما فعله في الكشاف والقاضي ويرتكب التمحلات
البعيدة، مثل ضرورة الشعر، وتقدير حرف الجر إذ لا تعمل مقدرة كما صرح
به الرضي على أنه يصير النزاع لفظيا، وهو ظاهر، والتقدير لغوا بحسب المعنى
ولم يثبت المنع اللفظي وقول صلى الله عليه وآله مشهور مستفيض بحيث لا يمكن إنكاره
في الأخبار وكلام الأصحاب.
وفي الآية دلالة على إباحة السكنى في الأرض مطلقا بل التصرف فيها مطلقا
حتى يمنع بدليل وعلى أن خلق الأمور والأشياء الموزونة أي المقدرة بقدر
تقتضيه المصلحة للإنسان، وإباحة كل ما خلق لهم كما دل عليه العقل أيضا، نعم
قد يحرم بعضه لدليل عقلي بأن يكون ضارا مثل السموم المخلوق لغرض آخر
للإنسان أو نقلي آية أو خبر أو إجماع دال على تحريم بعض الأشياء كالميتة والدم
ولحم الخنزير، وعلى إباحة أكل ما نبت، وشرب وركوب ما يصلح لهما وسائر
الانتفاعات إلا أن يخرج بدليل فتأمل.
" وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " (1) قيل:
المعنى وما من شئ ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه، و
الانعام به، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم نعلم أنه مصلحة، فضرب الخزائن مثلا
لاقتداره على كل مقدور، ففيها دلالة على أن المخلوقات مباحة للإنسان، فالأشياء
مباحة في الأصل عقلا ونقلا وهو ظاهر.
الثانية: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات
الشيطان إنه لكم عدو مبين (2).
قال في مجمع البيان: الأكل هو البلع عن مضغ، وبلغ الذهب والفضة
واللؤلؤ وما أشبهه ليس بأكل، والحلال هو الجائز من أفعال العباد " وطيبا " يعني
طاهرا من كل شبهة، وفي الكشاف تستطيبه الشهوة المستقيمة، وفي القاضي: هو

(1) الحجر: 21.
(2) البقرة: 168.
363

المستلذ وفي مجمع البيان أن الخطوة بعد ما بين قدمي الماشي، وخطوات الشيطان
آثاره، والعدو هو المباعد عن الخير إلى الشر و " حلالا " إما صفة مصدر محذوف
أي أكلا حلالا وإما مفعول " كلوا " وإما حال عن " ما " في " مما " و " طيبا "
صفة حلالا ومثله في الاعراب و " من " إما تبعيضية إذ لا يؤكل جميع ما في الأرض
كما قيل في الكشاف والقاضي أو بيانية للحلال أو ابتدائية متعلقة بكلوا، ولا يلزم
أكل الجميع، إذ المراد الأكل مبتدءا من جميع ما يمكن أكله وهو ظاهر.
ومعناها على الظاهر هو الترغيب والتحريص على الأكل أو إباحته بمعنى
عدم التحريم الأعم الشامل للأقسام الأربعة من جميع ما تخرجه الأرض من الأرزاق
التي يمكن أكلها حال كونه خلق لهم مباحا وطاهرا، أو لذيذا أو بعيدا عن الشبهة
أو لأنه حلال طيب بالمعنى المذكور فلأي شئ يمنعون أنفسهم عنه كما قال في
مجمع البيان عن ابن عباس في سبب نزولها أنها نزلت في ثقيف وبني عامر بن
صعصعة وبني مدلج فإنهم حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة و
السائبة والوصيلة فنهاهم الله عن ذلك، فحينئذ يكون " كلوا " للوجوب بمعنى أنه
لا بد من الأكل أو رفع اعتقاد حسن الاجتناب، وتحريم اتباع الشيطان في أقواله
وأفعاله لأنه مبعد للإنسان عن الخير، ومقرب له إلى الشر، وكونه كذلك
ظاهر بين عند ذوي البصائر منهم، لأنه بين عداوته له بدعوته إلى المعاصي وترك
الطاعات وهو ظاهر فأي عداوة يكون أظهر وأشد منها.
وقال في مجمع البيان في بيان خطوات الشيطان بعد نقل الأقوال: وروي
عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أن من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق، والنذر
في المعاصي، وكل يمين بغير الله، وهذا يدل على تحريم الأمور المذكورة حتى
لا يكون الحلف بالنبي وغيره جايزا، إلا أن يقال هو مما أخرجه الدليل، ولكن
ليس بظاهر، نعم صحة الخبر غير ظاهرة، فلا يثبت التحريم، لكن الأحوط
الاجتناب.
هذا فيمكن الاستدلال بها على إباحة أكل كل ما في الأرض لكل أحد حتى
364

الكفار والعصاة إلا ما أخرجه الدليل من العقل والنقل، فتدل على كون الأشياء
الغير المضرة على الإباحة، وجواز إعطاء المذكور (1) لغير معتقدي الحق حتى الكفار
لعدم القول بالواسطة، فضعف منع البعض كما مر، لكن هذا على بعض التراكيب
وهو جعل حلالا مفعولا له أو حالا بيانا وكشفا وجعل " من " ابتدائية أو بيانية
أو جعلها متعلقة بمقدر حالا عن حلالا، لا على تقدير جعلها حالا مقيدة، ومن
تبعيضية كما قاله في الكشاف والقاضي.
ويمكن الاستدلال أيضا بها على تحريم الأشياء المذكورة في الرواية لو
صحت وأما دلالتها على تحريم متابعة الشيطان فصريحة، وكذا متابعة كل عدو
في الله والدين، كما يظهر من العلة وهي قوله " إنه لكم عدو " وذلك معلوم
واضح إذا كان المتبع معلوم التحريم، ولا يحتاج إلى الذكر، ولعل الآية أعم
بل مخصوصة بغير المعلوم، لعدم الفائدة في المعلوم، فلا يبعد الاستدلال حينئذ بها على
عدم جواز متابعة أعداء الدين، فيما لو يعلم جوازه، فلا تجوز الصلاة خلفهم، و
سماع حكمهم، ونقل الرواية عنهم، وغير ذلك فتأمل.
الثالثة: كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي
ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى (2).
الرابعة وأنزلنا من السماء ماء مباركا الآية (3) وغيرهما من الآيات التي تدل
على إباحة الأشياء، وبالحقيقة لا دخل لها في الكسب فتركناها، وإنما ذكرنا
البعض للتبعية، وبعض الفوائد وإن لم يكن كسبا.

(1) المأكول، خ.
(2) طه: 81.
(3) ق: 11.
365

* (الثاني) *
* (البحث عن أشياء يحرم التكسب بها) *
وفيه آيات:
قيل (1) الأولى: قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (2).
دلالتها على ما يحرم التكسب به غير ظاهرة.
الثانية: سماعون للكذب أكالون للسحت (3).
في ذم جماعة، السحت هو الرشوة وعن علي عليه السلام هو الرشوة في الحكم ومهر
البغي وكسب الحجام وعسيب الفحل، وثمن الكلب، وثمن الخمر، وثمن الميتة
وحلوان الكاهن، والاستعمال في المعصية (4) والخبر غير ظاهر الصحة والسند، و
بعض ما فيه معدود من المكروهات.
الثالثة: ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض
الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد اكراههن غفور رحيم (5).

(1) القائل الفاضل المقداد في كنز العرفان قال: استدل الفقهاء بهذه الآية على جواز
الولاية من قبل الظالم، إذا عرف المتولي من حال نفسه وحال المنوب عنه أنه يتمكن من العدل
ولا يخالفه المنوب عنه كحال يوسف على نبينا وآله وعليه السلام مع ملك مصر، والذي يظهر
لي أن نبي الله أجل قدرا من أن ينسب إليه طلب الولاية من الظالم، وإنما قصد إيصال الحق
إلى مستحقه، لأنه وظيفته راجع ج 2 ص 11 من طبعة هذه المكتبة.
(2) يوسف: 55.
(3) المائدة: 45.
(4) مجمع البيان ج 3 ص 196. الكافي ج 5 ص 126.
(5) النور: 33.
366

" ولا تكرهوا فتياتكم " أي إمائكم على الزنا " إن أردن تحصنا " تعففا وتزويجا
" لتبتغوا " أي لا تكرهوا لطلب متاع الدنيا، أي ما يحصل من كسبهن وهو أجرة
الزنا وثمن بيع أولادهن " ومن يكرههن " ومن يجبرهن على الزنا " فإن الله
من بعد إكراههن غفور " للمكرهات " رحيم " بهن، ويحتمل للمكرهين بعد التوبة
فإن المكرهات لا ذنب لهن إذ لا ذنب مع الاكراه عقلا ونقلا، فلا يحتاج إلى كون
الله تعالى غفورا رحيما لهن فتأمل أو مطلقا.
ثم إن فيها دلالة على تحريم الاكراه على الزنا بل على تحريمه وتحريم أجره
فهو حرام مطلقا، وإن كان " إن أردن تحصنا " قيدا للنهي كما هو الظاهر لا قيدا
للإكراه كما قاله البيضاوي ولا اعتبار بمفهوم إرادة التحصن ولا بمفهوم طلب عرض
الدنيا، فلا تدل على إباحة الاكراه بدون إرادة التحصن ولا عليها مع عدم طلب
عرض الحياة الدنيا، لأن المفهوم على تقدير اعتباره إنما يعتبر إذا لم يكن للتقييد
وجه آخر سوى عدم الحكم في المسكوت، وهو ظاهر ومبين في محله، وقد مر
أيضا، وهنا سبب النزول والواقع سبب التقييد، بل نقول بالمفهوم هنا فإن تحريم
الاكراه منتف على تقدير عدم إرادة التحصن لأن الاكراه منتف مع عدم إرادة
التحصن، ولا يلزم جوازه، فإنه على تقدير إمكان الاكراه إنما يعتبر المفهوم
مع عدم المعارض الأقوى، ولا شك أن الاجماع ومنطوق الكتاب والسنة يدل على
تحريمه مطلقا فهو مردود بها.
وفي الكشاف كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن وكان لعبد الله
ابن أبي رأس النفاق ست جوار، وسماهن، يكرههن على البغاء، وضرب عليهن
ضرائب فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فنزلت. ويكنى بالفتى والفتاة عن
العبد والأمة وفي الحديث ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي، فإن
قلت لم أقحم إن أردن تحصنا؟ قلت لأن الاكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن
وآمر الطيعة المؤاتية للبغاء لا يسمى مكرها ولا أمره إكراها.
367

كان ينبغي أن يقول آمر غير المكرهة لا يسمى مكرها ولا أمره إكراها
ليعم فتأمل.
ثم قال " غفور رحيم " لهم أو لهن، أو لهم ولهن " إن تابوا وأصلحوا "
والأولى لهن، أو لهن ولهم، أو لهم إن تابوا، قال لعل الاكراه كان دون ما اعتبر
به الشريعة من إكراه بقتل أو بما يخاف منه التلف، أو ذهاب العضو من ضرب
عنيف، أو غيره حتى يسلم من الإثم وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه. فتكون
آثمة، وهذا جواب عن إشكال عدم الذنب مع الاكراه فلا معنى لكون " غفور رحيم "
بالنسبة إلى المكرهات، ولا بأس به، وإن كان خلاف الظاهر، فإن المتبادر نفي
الاكراه مطلقا والغفران عنه على تقدير.
قال القاضي: " غفور رحيم " لهن أو له إن تاب، والأول أوفق للظاهر، و
لقراءة ابن مسعود " من بعد إكراههن لهن غفور رحيم " ولا يرد أن المكرهة غير
آثمة، فلا حاجة إلى المغفرة لأن الاكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات، ولهذا حرم
على المكره القتل وأوجب عليه القصاص.
فيه أنه يكفي أن المكرهة غير آثمة لعدم حسن إرجاع المغفرة إليها، فإنه
لا معنى للمغفرة مع عدم الذنب، ولا شك أنها ليست آثمة بالنص والاجماع، بل
العقل وقد سلمه أيضا ولا يندفع بعدم المنافاة له بالذات لوجود الذنب في القاتل، و
يمكن أن يقال غفور لهن باعتبار أن حصل لهن ميل في الأثناء بعد الاكراه
فإنهن لما كن كارهات يغفر الله الذنب الناشي بعده، ويشعر به " من بعد إكراههن "
أو " غفور لهن " من سائر الذنوب بسبب إكراههن الزنا، أو يكون للانقطاع كما
يقول المعصوم اللهم اغفر لي فتأمل، وأنه غفور رحيم حيث تجاوز عن عقاب المكره
وجوز له المكره عليه كالمضطر في قوله تعالى: " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله
غفور رحيم " (1).

(1) النحل: 115.
368

الرابعة: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب الآية (1).
وقد مرت (2) فتذكر.
الخامسة: ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على
المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم - إلى قوله - لعلكم
تعقلون (3).
أي ليس على هؤلاء حرج وضيق في الأمور فإنهم معذورون، ولا عليكم
أيها المؤمنون حرج وضيق وإثم ومنع من الشارع من الأكل من بيوتكم: بيوت
عيالكم وزوجاتكم وبيت المرأة كبيت الزوج، وبيوت أولادكم لأن بيت الأولاد
كبيت الآباء وأموالهم كأموالهم، ويدل عليه ما روي من قوله صلى الله عليه وآله أنت ومالك
لأبيك عند خصومة ولد مع والده، وقوله صلى الله عليه وآله أيضا إن أطيب ما يأكله المرء من
كسبه وإن ولده من كسبه (4) وكأنه لذلك ما ذكر بيوت الأولاد، وذكر بيوت
الأقارب، ويحتمل أن يكون الترك للفهم بالطريق الأولى من ذكر بيوت غيرهم
بقوله: " أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم
أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم
مفاتحه ".
قيل معناه: أو بيوت مماليككم، والمفاتح جمع مفتح، وهو ما يفتح به لأن
مال العبد للسيد فهو مالك له، فيكون ما ملكتم بمعنى بيت المماليك فكأنه لذلك
حذف البيت فيمكن جواز الأكل من بيت المملوك ولو قيل بأنه يملك فتأمل، و
قيل أموال الرجل إذا كان له عليها قيم ووكيل يحفظها، له أن يأكل من ثمر حائطه
ويشرب من لبن ماشيته، فملك المفتاح كونها في يده وحفظه، فالمراد بما ملكتم

(1) المائدة: 94.
(2) راجع كتاب الطهارة ص 40.
(3) النور: 61 - 62.
(4) راجع سنن أبي داود ج 2 ص 259 وسيأتي.
369

كالحائط أو الماشية اللتين هما تحت يد الوكيل والحافظ والراعي، ولهذا حذف
البيت فيجوز الأكل لهم، وقيل إذا ملك الانسان المفتاح فهو خازن فلا بأس أن يطعم
الشئ اليسير.
" أو صديقكم " أي أصدقائكم والصديق يكون واحدا وجمعا [وكذلك الخليط
والعدو] والصديق هو الذي صدق في مودته، وقيل هو الذي يوافق باطنه باطنك
كما وافق ظاهر ظاهرك، وقال أبو عبد الله عليه السلام: هو والله الرجل في بيت صديقه
فيأكل طعامه بغير إذنه، وروي أن صديقا للربيع بن خثيم دخل منزله وأكل من
طعامه فلما عاد الربيع إلى المنزل أخبرته جاريته بذلك فقال إن كنت صادقة فأنت
حرة وفي الكشاف عن الحسن وجدنا كبراء الصحابة ومن لقيتهم من البدريين، و
كان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء
فإذا حضر مولاه فأخبرته أعتقها سرورا بذلك، وعن جعفر بن محمد كرم الله وجههما:
من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة
بمنزلة النفس والأب والأخ والابن ولعل ذكر الابن إشارة إلى دخوله في الآية
إما في " بيوتكم " أو بمفهوم الموافقة. ثم قال: وقالوا إذا دل ظاهر الحال على رضا
المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح، وربما سمج (1) الاستيذان وثقل، كمن قدم
إليه طعام فأستأذن صاحبه في الأكل منه.
فيه إشارة إلى سبب جواز الأكل مع عدم جواز التصرف في مال الغير بغير إذنه
عقلا ونقلا، وهو حصول الرضا بقرينة الأبوة وغيرها، وهذا المقدار قد يفيد علما
بالرضا وذلك كاف، مع أنه قد يقال يكفي الظن بل لا يحتاج إليه، فإن الله قد جوزه
وهو السبب فتأمل وقال في مجمع البيان: هذه الرخصة في أكل مال القرابات، وهم
لا يعلمون ذلك كالرخصة لمن دخل حائطا وهو جايع، أن يصيب من ثمره، أو مر في
سفره بغنم وهو عطشان أن يشرب من لبنه توسعة منه على عباده، ولطفا لهم ورغبة
لهم عن دناءة الاخلاص وضيق العطش وقال الجبائي: إن الآية منسوخة بقوله تعالى

(1) قبح خ ل، وهما بمعنى واحد
370

" لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه " (1) وبقوله صلى الله عليه وآله
لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (2).
والمروي عن أئمة الهدى عليهم السلام أنهم قالوا: لا بأس بالأكل لهؤلاء من
بيوت من ذكره الله تعالى بغير إذنهم قدر حاجتهم من غير إسراف، وأنت تعلم أن
حصول الرخصة لمن دخل حائطا أيضا محل التأمل، وما جوزه بعض الأصحاب و
من جوزه ما قيده بالجائع ولا بالحائط بل قال للمار على الغلة وغيرها أن يأكل
منها، وإني ما رأيت جواز شرب اللبن، وأنه لا منافاة بين الآيتين حتى يكون
ما هنا منسوخة وهو ظاهر، وعدم صلاحية الخبر للناسخية أظهر، وأن المروي
عنهم عليهم السلام متبع وإن كان قدر الحاجة الذي في ما روي عنهم غير ظاهر من الآية
بل ظاهرها دال على عدمه، نعم لا بد من عدم الاسراف والتضييع كما في غيرها و
يمكن حمل قدر الحاجة عليه أو تخصيص الآية إن صح الخبر به، وأيضا ظاهرها
عدم اشتراط الإذن، بل عدم البيت في الأخيرين.
ثم اعلم أنه يمكن فهم جواز ما يكون أدنى من الأكل بالموافقة كالصلاة في
بيوتهم ودخولها بغير إذنهم إذا لم يكن فيه أحد، بل جعله سكنى، والصلاة على
فرشهم وفي لباسهم والغسل والوضوء بمائهم وفي بيوتهم وهو ظاهر فافهم، والظاهر
من الآية أنه يكفي عدم العلم بعدم الرضا، بل ظاهرها شامل لجواز الأكل مع
ظهوره أيضا إلا أنه لا يبعد التقييد بذلك لقبح ذلك عقلا ونقلا، وأن المراد من
الاطلاق ذلك، حيث إن ما ذكر مظنة الرضا والإذن والله يعلم. فقول القاضي هذا
كله إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة، ولذلك خصص هؤلاء
فإنه يعتاد التبسط بينهم، أو كان في أول الاسلام فنسخ فلا احتجاج للحنفية به
على أن لا قطع بسرقة مال المحرم، باطل. فإنه إذا علم رضا صاحب المال يجوز الأكل
من بيوت من تضمنه الآية وغيرها، فالتقييد بعيد، والنسخ أبعد من ذلك، بل لا
معنى له، لعدم الموجب.

(1) الأحزاب: 53.
(2) راجع مجمع البيان ج 7 ص 156.
371

على أن القرينة لا تقابل بالإذن وغالبا لا تفيد العلم، ولا استعباد في الشرع من
إذن الشارع مع عدم العلم برضا الصاحب، لاحتمال كون القرابة والصداقة موجبة
لذلك، وأبعد من ذلك احتجاج الحنفية فإنه لا دلالة في هذه الآية على ذلك أصلا
ولو كانت فيها دلالة فتكون فيمن تضمنته الآية لا في المحرم فتأمل.
" جميعا أو أشتاتا " أي لا بأس في الأكل مجتمعين ومتفرقين، قيل: نزلت في
بني ليث بن عمرو بن كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده، فربما قعد
منتظرا نهاره إلى الليل، فإن لم يجد من يؤاكله أكل ضرورة، وقيل في قوم من
الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم، وقيل تحرجوا عن الاجتماع
على الطعام، لاختلاف الناس في الأكل، وزيادة بعضهم على بعض، وفي مجمع البيان:
معناه لا بأس بأن يأكل الغني من الفقير في بيته، فإن الغني كان يدخل على الفقير من
ذوي قرابته أو صداقته فيدعوه إلى طعامه فيتحرج.
ويعلم من هذه الوجوه أن ليس المقصود الأكل من بيوت المذكورين جميعا أو
أشتاتا كما هو ظاهر الآية فدلت على جواز الأكل وحده، بل عدم شئ فيه، فما
نقل في الأخبار أن من الملعونين من يأكل زاده وحده، يمكن أن يكون معناه لا
يعطي منه المحتاجين ما يسد رمقهم أو يكون عدم الاعطاء من جميع الزاد مكروها
أو الأكل وحده مكروها، وذكر اللعن للمبالغة كالنائم وحده، والآية يكون
للجواز فقط.
ثم اعلم أنه قد قال في مجمع البيان: اختلفوا في تأويل " ليس على الأعمى
حرج " على معان أحدها أن المعنى ليس عليكم في مؤاكلتهم حرج، لأنهم كانوا
يتحرجون من ذلك، ويقولون الأعمى لا يبصر فيأكل جيد الطعام، والأعرج
لا يتمكن من الجلوس وأكل ما يريد، وكذا المريض الضعيف وثانيها أن المسلمين
إذا غزو أخلفوا هؤلاء في بيوتهم ويعطوهم المفاتيح ويحلون لهم الأكل وهم يتحرجون
منه، وثالثها أن المؤمنين كانوا يذهبون بهؤلاء إلى بيوت أزواجهم وأقاربهم المذكورين
فيطعمونهم، وكانوا يتحرجون عن ذلك، وقد يتخيل المؤمنون أيضا الحرج في
372

ذلك فنفي ذلك عنهم، وعلى هذه الوجوه يكون " أن يأكلوا " مقدرا قبل قوله " ولا
على أنفسكم " و " حرج " بعده، ورابعها أن المعنى ليس على هؤلاء حرج في ترك
الجهاد والتخلف عنه، لأنهم معذورون، وحينئذ يكون المحذوف أن يتركوا
الجهاد ويكون الحال قرينة على المحذوف فيكون أول الكلام قرينة في ترك الجهاد و
الثاني في الأكل.
وفي الكشاف: لا قصور فيه لاشتراكهما في نفي الحرج، ومثال ذلك أن
يستفتيك مسافر عن الافطار في رمضان، وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر
فقلت: ليس على المسافر حرج أن يفطر، ولا على الحاج أن يقدم الحلق على النحر
ولو كان " على ترك الجهاد " مذكورا لكان مثله فكأنه للظهور بمنزلة الذكر، ويحتمل
أن يكون المعنى ليس على هؤلاء حرج مطلقا فيما عجزوا عنه، مثل قوله ذلك في
إنا فتحنا.
" فإذا دخلتم بيوتا " في الكشاف: من هذه البيوت للأكل فابدؤا بالسلام
على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة، وظاهرها أعم أي بيت كان من أي شخص
كان، وهو الأولى كما يدل عليه تنكيرها، فالخروج عنه بلا سبب غير معقول
" فسلموا على أنفسكم " أي ليسلم بعضكم على بعض كقوله " اقتلوا أنفسكم " وقيل
معناه فسلموا على أهليكم، في مجمع البيان: وعيالكم، وقال إبراهيم: إذا دخلت
بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقال أبو عبد الله عليه السلام
هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل، ثم يردون عليه فهو سلامكم على
أنفسكم " تحية من عند الله " أي هذه تحية حياكم الله بها عن ابن عباس، وقيل:
معناه علمها الله وشرعها لكم، فإنهم كانوا يقولون عم صباحا، ثم وصف التحية
فقال " مباركة طيبة " أي إذا لزمتموها كثر خيركم، وطاب أجركم، وقيل:
مؤيدة حسنة جميلة عن ابن عباس وقيل: إنما قال " مباركة " لأن معنى " السلام
عليكم ": حفظكم الله وسلمكم الله من الآفات، فهو دعاء بالسلامة من آفات
الدنيا والآخرة، وقال " طيبة " لما فيها من طيب العيش بالتواصل، وقيل: لما
373

فيها من الأجر الجزيل والثواب [لجميل] العظيم.
" كذلك " كما بين لكم هذه الأحكام والآداب " يبين الله لكم الآيات "
الدالة على جميع ما يتعبدكم به " لعلكم تعقلون " أي تعقلون معالم دينكم.
في الكشاف " تحية من عند الله " أي ثابتة بأمره مشروعة من لديه أو لأن
التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه، والمحيى من عند الله، ووصفها
بالبركة والطيب لأنهما دعوة مؤمن لمؤمن، يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب
الرزق إلى قوله: وقالوا إن لم يكن في البيت أحد فليقل السلام علينا من ربنا
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام على أهل البيت ورحمة الله، وعن ابن
عباس: إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين تحية من عند الله
وانتصب تحية بسلموا لأنها في معنى تسليما كقولك قعدت جلوسا، والظاهر أن
مراده إذا لم يكن في المسجد أحد هكذا يسلم، وإلا فكالمتعارف، ويحتمل العموم
كما هو الظاهر، ففيها وجوب السلام حين دخول بيت ما حملت على الاستحباب
للإجماع على عدمه.
ولنردف الكتاب بآيات لها مناسبة به " ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة " (1)
خطاب له صلى الله عليه وآله أي يا محمد " إن ربك " الذي خلقك " للذين عملوا " المعصية والسيئات
" بجهالة " في موضع الحال أي عملوها جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه أو غير
متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم، وفي مجمع البيان: بداعي الجهل، فإنه يدعو
إلى القبيح كما أن داعي العلم يدعو إلى الحسن، وقيل: بجهالة هو أن يعجل
بالاقدام عليها، ويعد نفسه للتوبة منها أو جعل العالم منزله الجاهل حيث لم يعمل
بعلمه فإن العالم بالسيئات والقبايح مع فعلها هو والجاهل سواء بل أسوء " ثم
تابوا " من تلك المعصية " من بعد ذلك وأصلحوا " نياتهم وأفعالهم " إن ربك
من بعدها " أي بعد التوبة، هذه تأكيد لما قبلها، وفي ذكر " من بعدها " مع الضمير
الراجع إلى التوبة إشارة إلى أن الاصلاح عبارة عن إتمام التوبة بالإخلاص وعدم

(1) النحل: 119.
374

العود بوجه، أو إظهارها بالعمل الصالح ليعلم، لا أنه يحتاج بعد التوبة للغفران
وغيره إلى إصلاح العمل كما هو الظاهر منها ومن غيرها، فقيل الاصلاح له هو الدوام
وعدم الرجوع ويحتمل غير ذلك فتأمل " لغفور " خبر " إن ربك " و " للذين "
عملوا السوء بجهالة " متعلق به، و " أصلحوا " عطف على " تابوا " بمنزلة البيان
والتتمة " إن ربك " تأكيد " من بعدها " متعلق بغفور، والضمير إشارة إلى
التوبة وقيل راجع إلى الجهالة أو المعصية، ففيها قبول التوبة، وكون الجاهل
معذورا، فيحتمل في الفروع وغيره أيضا إلا المعلوم فيقبل شهادة التائب بعدها
فتأمل فيها.
" وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " (1) قد مر تفسيره في كتاب الطهارة في بيان
الاخلاص والنية (2) و " قضى " وأمر أيضا وقال: أحسنوا " بالوالدين إحسانا " أو
بأن تحسنوا بهما إحسانا و " بالوالدين " متعلق بالفعل المقدر أحسنوا أو تحسنوا
لا بالمصدر، فإن عامله لا يتقدم عليه، وقال في مجمع البيان: وهو متعلق بقضى
والتقدير وقضى بالوالدين إحسانا، ويجوز أن يكون على تقدير وأوصى بالوالدين
إحسانا، وحذف لدلالة الكلام عليه، و " إما " أصله " إن ما " فهي شرطية وما زائدة
للتأكيد كزيادة النون في " يبلغن " قيل: ولو لم يكن ما جاز دخول النون، فلا
يقال إن تكرمن زيدا يكرمك، بل يقال إما تكرمنه يكرمنك " أحدهما " فاعل
يبلغن " الكبر " مفعوله، ومعنى بلوغ الكبر عندك أن يكبرا ويعجزا وكانا كلا
على ولدهما، لا كافل لهما غيره، فهما عنده وفي بيته وفي كنفه، وذلك أشق عليه
وأشد احتمالا وصبرا، وربما تولى منهما ما يتوليان عنه في حال الطفولية فأمر
الولد حينئذ بالصبر واحتمال ما شق عليه، وبأن يستعمل معهما وطأة الخلق، و
لين الجانب، بحيث إذا أضجره وأتعبه وضيق خلقه ذلك الاحتمال والمشقة و
ما يستقذره طبعه منهما من سوء الخلق وغسل جوانبهما وبولهما وغائطهما وغير ذلك
لا يقول لهما أف فضلا عما يزيده عليه.

(1) أسرى: 23.
(2) ص 29 فراجع.
375

ولقد بالغ الله سبحانه وتعالى في التوصية لهما، حيث افتتحها بأن وشفع
الاحسان إليهما بتوحيده ونظمهما في سلك القضاء بهما معا، ثم ضيق الأمر في
مراعاتهما، حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجرة
ومقتضياته ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الانسان معها في الاستطاعة، ثم زاد و
نهى عن منافيهما أيضا مرة أخرى وقال: " ولا تنهرهما " أي لا تزجر عما يتعاطيانه
مما لا يعجبك ثم قال: " وقل لهما " بدل النهر والتأفيف " قولا كريما " جميلا يقتضيه حسن
الأدب والنزول على المروة، وقيل هو أن يقول يا أبتاه ويا أماه كما قال إبراهيم
على نبينا وآله وعليه السلام لأبيه " يا أبت " مع كفره ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من
الجفاء وسوء الأدب وعادة الدعاء كله من الكشاف.
ثم أمر بالخضوع والتذلل بقوله " واخفض لهما جناح الذل " وهو كناية
عن غاية الملاءمة وانحطاط النفس، فأضيف الجناح إلى الذل كما أضيف حاتم
إلى الجود على معنى: واخفض لهما جناحك الذليل، أو الذلول، ويحتمل أن
يجعل لذله جناحا خفيضا كما جعل للشمال يدا وللقرة زماما، مبالغة في التذلل
والتواضع لهما، قال في مجمع البيان: وإذا وصف العرب إنسانا بالسهولة وترك
الآباء قالوا هو خافض الجناح، وقال أبو عبد الله عليه السلام: معناه لا تمل عينيك من
النظر إليهما إلا برحمة ورأفة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما
ولا تقدم قدامهما " من الرحمة " من فرط رحمتك لهما، وعطفك عليهما لكبرهما و
افتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس ثم قال: ولا يكتف بالخضوع
والرحمة لهما إذ لا بقاء لهما، وليس لها زيادة نفع، بل ادع لهما واطلب من الله
رحمته لهما، بأن يرحمهما برحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك
وتربيتهما لك.
" ربكم أعلم بما في نفوسكم " في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين و
اعتقاد ما يجب لهما من التوقير " إن تكونوا صالحين " قاصدين الصلاح والبر، ثم "
فرطت منكم في حال الغضب وضيق الصدر وغير ذلك مما لا يخلو منه البشر خصلة
376

قبيحة، تؤدي إلى أذى الوالدين ثم تبتم إلى الله واستغفرتم منها " فإنه كان للأوابين
غفورا " فإن الله غفور للتوابين، فيه تهديد على أن يضمر الولد لهما كراهة واستثقالا
عند ضيق الصدر من خدمتهما، وفيه تشديد عظيم، وبالجملة فيه مبالغة كثيرة و
سيجئ في سورة لقمان زيادة تأكيد ومبالغة في الاحسان بهما، وفي الأخبار أيضا
موجودة.
منها ما روي عنه صلى الله عليه وآله في الكشاف: رضى الله في رضى الوالدين، وسخطه في
سخطهما، وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وآله مخاطبا لابن شيخ: أنت ومالك لأبيك، ومثله
موجود في الأخبار الصحيحة عن أهل البيت عليهم السلام (1) وفيه عنه صلى الله عليه وآله: إياكم وعقوق
الوالدين فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام، ولا يجد ريحها عاق ولا
قاطع رحم، ولا شيخ زان، ولا جار إزاره خيلاء إن الكبرياء لله رب العالمين. و
روي أيضا فيه وفي مجمع البيان يفعل البار ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار و
يفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة، والرواية في ذلك فيهما وفي غيرهما
كثيرة (2).
قال في الكشاف: قال الفقهاء لا يذهب بأبيه إلى البيعة وإذا بعث إليه منها
ليحمله فعل، ولا يناوله الخمر ويأخذ منه الإناء إذا شربها، وعن أبي يوسف إذا
أمره أن يوقد تحت قدره وفيها لحم الخنزير أوقد، وسئل الفضيل بن عياض عن
بر الوالدين فقال أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل، وسئل بعضهم فقال: أن لا
ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر شزرا إليهما، ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن
وأن ترحم عليهما، وتدعو لهما إذا ماتا، وأن تقوم بخدمة أودائهما من بعدهما
فعن النبي صلى الله عليه وآله إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه.
ومنها رواية الحسن بن محبوب عن أبي ولاد الحناط قال: سألت أبا عبد الله
جعفر بن محمد عليه السلام عن قول الله عز وجل " وبالوالدين إحسانا " ما هذا الاحسان؟

(1) الفقيه ج 3 ص 109، الكافي ج 5 ص 135.
(2) مجمع البيان ج 6 ص 409.
377

فقال: الاحسان أن تحسن صحبتهما، وأن لا تكلفهما أن يسألاك مما يحتاجان إليه
وإن كانا مستغنيين إن الله عز وجل يقول " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون "
ثم قال عليه السلام " إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف " إن
أضجراك " ولا تنهرهما " إن ضرباك " وقل لهما قولا كريما " والقول الكريم
أن تقول لهما: غفر الله لكما، فذاك منك قول كريم " واخفض لهما جناح الذل من
الرحمة " وهو أن لا تملأ عينيك من النظر إليهما وتنظر إليهما برحمة ورأفة، وأن
لا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما، ولا تتقدم قدامهما، وهذه
صحيحة في الفقيه في نوادر الكتاب (1) وذكر في الفقيه أيضا فيها: من أحزن والديه
فقد عقهما وذكر في الكافي أخبارا كثيرة مثل صحيحة أبي ولاد المتقدمة ورواية
محمد بن مروان: قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال:
يا رسول الله أوصني فقال: لا تشرك بالله شيئا، وإن حرقت بالنار وعذبت، إلا
وقلبك مطمئن، ووالديك فأطعهما وبرهما حيين كانا أو ميتين وإن أمراك أن
تخرج من أهلك ومالك فافعل، إن ذلك من الايمان (2).
وعن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت: أي الأعمال أفضل؟
قال: الصلاة لوقتها، وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله، وعن درست بن أبي منصور
عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله ما حق الوالد على
ولده؟ قال: أن لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله ولا يستسب
له، وصحيحة معمر بن خلاد قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: ادعوا لوالدي
إذا كانا لا يعرفان الحق؟ قال: ادع لهما وتصدق عنهما، وإن كانا حيين لا يعرفان
الحق فدارهما، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن الله بعثني بالرحمة لا بالعقوق، و
رواية جابر عن أبي عبد الله عليه السلام قال أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله
أني راغب في الجهاد نشيط، قال: فقال له النبي صلى الله عليه وآله: فجاهد في سبيل الله فإنك

(1) الفقيه ج 4 ص 292.
(2) الكافي ج 2 ص 157 و 158.
378

إن تقتل تكن حيا عند الله ترزق، وإن تمت فقد وقع أجرك على الله، وإن رجعت
رجعت من الذنوب كما ولدت قال: يا رسول الله إن لي والدين كبيرين يزعمان أنهما
يأنسان بي ويكرهان خروجي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فقر مع والديك، فوالذي
نفسي بيده لأنسهما بك يوما وليلة خير من جهاد سنة.
ورواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال إن العبد ليكون بارا بوالديه
ثم يموتان فلا يقضي عنهما ديونهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عاقا، وإنه
ليكون عاقا لهما غير بار بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما، فيكتبه الله
عز وجل بارا (1).
والأخبار في ذلك كثيرة جدا ثم لا شك في أن العقوق كبيرة عدت منها في
الأخبار التي تعد فيها الكبائر من طرق العامة والخاصة، ذكر في الكافي له بابا في
ذكر العقوق على حدة بعد أن عده في الكبائر في أخبار كثيرة منها رواية حديد بن
حكيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أدنى العقوق أف، ولو علم الله عز وجل شيئا
أهون منه لنهى عنه وحسنة عبد الله ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه السلام قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: كن بارا واقتصر على الجنة، وإن كنت عاقا فاقتصر على النار
ورواية يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة كشف الله غطاء
من أغطية الجنة، فوجد ريحها من كانت له روح من مسيرة خمسمائة عام، إلا صنف
واحد، قال: قلت: من هم؟ قال: العاق لوالديه، ورواية سيف بن عميرة عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: من نظر إلى أبويه نظر ماقت وهما ظالمان له، لم يقبل الله له
صلاة، وفي رواية عن أبي عبد الله عليه السلام: ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه
فيحد النظر إليهما، وفي رواية عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال:
إن أبي نظر إلى رجل معه ابنه يمشي، والابن متك على ذراع الأب، قال: فما

(1) راجع في ذلك ج 74 من كتاب بحار الأنوار (كتاب العشرة الباب الثاني)
ص 22 - 86، ترى هذه الأحاديث مع غيرها مشروحا مستوفى وإن شئت راجع الكافي ج 2
ص 157 - 163 باب بر الوالدين.
379

كلمه أبي مقتا له حتى فارق الدنيا (1).
ويدل على تحريم العقوق ما يدل على تحريم قطع الرحم، وهو ظاهر، بل
يدل العقل أيضا عليه، وبالجملة العقل والنقل يدلان على تحريم العقوق، ويفهم
وجوب متابعة الوالدين وطاعتهما من الآيات والأخبار المتقدمة وصرح به بعض
العلماء أيضا، قال في مجمع البيان " وبالوالدين إحسانا " أي قضى بالوالدين إحسانا
أو أوصى بالوالدين إحسانا، ومعناهما واحد، وخص الحال الكبر، وإن كان
الواجب طاعة الوالدين على كل حال، لأن الحاجة أكثر في تلك الحال.
وقال الفقهاء في كتبهم: وللأبوين منع الولد عن الغزو والجهاد، ما لم يتعين
عليه بتعيين الإمام، أو لهجوم الكفار على المسلمين مع ضعفهم، وبعضهم ألحقوا الجدين
بهما، قال في شرح الشرايع: وكما يعتبر إذنهما في الجهاد يعتبر في سائر الأسفار
المباحة والمندوبة والواجبة الكفائية، مع قيام من فيه الكفاية، فالسفر لطلب
العلم إن كان لمعرفة العلم العيني كاثبات الواجب تعالى وما يجب له ويمتنع، و
النبوة والإمامة. والمعاد، لم يفتقر إلى إذنهما، وإن كان لتحصيل الزائد منه على
الفرض العيني كدفع الشبهات، وإقامة البراهين المروجة للدين، زيادة على الواجب
كان فرضا كفاية فحكمه وحكم السفر إلى أمثاله من العلوم الكفائية كطلب التفقه
أنه إن كان هناك قائم بفرض الكفاية، أشترط إذنهما، وهذا في زماننا فرض بعيد
فإن فرض الكفاية في التفقه لا يكاد يسقط مع وجود مائة فقيه مجتهد في العالم، و
إن كان السفر إلى غيره من العلوم المادية مع عدم وجوبها توقف على إذنهما، و
إن كان هذا كله إذا لم يجد في بلده من يعلمه ما يحتاج إليه بحيث لا يجد في السفر
زيادة يعتد بها لفراغ باله أو جودة أستاد بحيث يسبق إلى بلوغ الدرجة التي يجب
تحصيلها سبقا معتدا به، وإلا أعتبر إذنهما أيضا. ومنه يعلم وجوب متابعتهما حتى
يجب عليه ترك الواجب الكفائي، ولكن هذا مخصوص بالسفر، فيحتمل أن يكون
غيره كذلك، إذا اشتمل على مشقة.

(1) الكافي ج 2 ص 348 باب العقوق.
380

والحاصل أن الذي يظهر أن احزانهما على وجه لم يعلم جواز ذلك شرعا -
مثل الشهادة عليهما، مع أنه قد منع قبول ذلك أيضا بعض مع صراحة الآية في
وجوب الشهادة عليهما، مع أن فائدته القبول لأن قبول شهادته عليهما تكذيب
لهما - عقوق وحرام كما مر في الخبر ويظهر من الآية، وطاعتهما تجب ولا يجوز
مخالفتهما في أمر يكون أنفع له، ويضر بحاله دينا أو دنيا، أو يخرج عن زي
أمثاله، وما يتعارف منه، ولا يليق بحاله، بحيث يذمه العقلاء، ويعترفون أن
الحق أن لا يكون كذلك، ولا حاجة له في ذلك، ولا ضرر عليه بتركه ويحتمل العموم
للعموم إلا ما أخرجه الدليل بحيث يعلم الجواز شرعا لاجماع ونحوه، مثل ترك
الواجبات العينية والمندوبات غير المستثنى.
وليس وجوب طاعتهما مقصورا على فعل الواجبات وترك المعصيات للفرق
بين الولد وغيره، فإن ذلك واجب والظاهر عموم ذلك في الولد والوالدين.
قال الشهيد قدس سره في قواعده: قاعدة تتعلق بحقوق الوالدين: لا ريب
أن كل ما يحرم أو يجب للأجانب يحرم أو يجب للأبوين، وينفردان بأمور:
الأول: تحريم السفر المباح بغير إذنهما، وكذا السفر المندوب، وقيل بجواز
سفر التجارة وطلب العلم إذا لم يمكن استيفاء التجارة والعلم في بلدهما، كما
ذكرناه، فيما مر.
الثاني: قال بعضهم: يجب عليه طاعتهما في كل فعل، وإن كان شبهة، فلو
أمراه بالأكل معهما من مال يعتقده شبهة أكل، لأن طاعتهما واجبة، وترك
الشبهة مستحب.
الثالث: لو دعواه إلى فعل وقد حضرت الصلاة فليؤخر الصلاة وليطعهما
لما قلناه.
الرابع: هل لهما منعه من الصلاة جماعة؟ الأقرب أنه ليس لهما منعه من
الصلاة مطلقا بل في بعض الأحيان، لما يشق عليهما مخالفته: كالسعي في ظلمة الليل
إلى العشاء والصبح.
381

الخامس: لهما منعه من الجهاد مع عدم التعيين لما صح أن رجلا قال يا
رسول الله أبايعك على الهجرة والجهاد، فقال: هل من والديك أحد؟ قال نعم
كلاهما، قال: أتبغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن
صحبتهما.
السادس: الأقرب أن لهما منعه من فروض الكفاية، إذا علم قيام الغير أو
ظن لأنه حينئذ يكون كالجهاد الممنوع منه.
السابع: قال بعض العلماء: لو دعواه في صلاة النافلة قطعها، لما صح عن رسول
الله صلى الله عليه وآله أن امرأة نادت ابنها وهو في صلاته قالت يا جريح قال اللهم أمي وصلوتي
قالت: يا جريح فقال: اللهم أمي وصلاتي. فقال لا يموت حتى ينظر في وجوه
المومسات الحديث وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وآله قال لو كان جريح فقيها لعلم أن
إجابة أمه أفضل من صلاته، وهذا الحديث يدل على جواز قطع النافلة لأجلها، و
يدل بطريق أولى على تحريم السفر، لأن غيبة الوجه فيه أكثر وأعظم، وهي كانت
تريد منه النظر إليها والاقبال عليها.
الثامن: كف الأذى عنهما، وإن كان قليلا، بحيث لا يوصله الولد إليهما
ويمنع غيره من إيصاله بحسب طاقته.
التاسع: ترك الصوم ندبا إلا بإذن الأب ولم أقف على نص في الأم.
العاشر: ترك اليمين والعهد إلا بإذنه أيضا ما لم يكن في فعل واجب أو ترك
محرم ولم نقف في النذر على نص خاص إلا أن يقال: هو يمين يدخل في النهي
عن اليمين إلا بإذنه.
تنبيه
بر الوالدين لا يتوقف على الاسلام لقوله تعالى " ووصينا الانسان بوالديه
حسنا " " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما
في الدنيا معروفا " (1) وهو نص وفيه دلالة على مخالفتهما في الأمر بالمعصية وهو كقوله

(1) العنكبوت: 8، لقمان: 14.
382

عليه السلام: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن قلت: ما تصنع بقوله تعالى
" ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " (1) وهو يشمل الأب، وهذا منع من النكاح
فلا تكون طاعته واجبة فيه، أو منع من المستحب فلا تجب طاعته في ترك المستحب
قلت الآية في الأزواج، ولو سلم الشمول أو التمسك في ذلك بتحريم العضل فالوجه
فيه أن للمرأة حقا في الاعفاف والتصون، ودفع ضرر مدافعة الشهوة، والخوف
من الوقوع في الحرام، وقطع وسيلة الشيطان عنهم بالنكاح، وأداء الحقوق واجب
على الآباء للأبناء كما وجب العكس، وفي الجملة النكاح مستحب وفي تركه تعرض
لضرر ديني أو دنيوي، ومثل هذا لا تجب طاعة الأبوين فيه.
ويمكن اختصاص الدعاء بالرحمة بغير الكافرين، إلا أن يراد من الدعاء
بالرحمة في حياتهما، بأن يوفق لهما الله ما يوجب ذلك من الايمان فتأمل، والظاهر أن
ليس الأذى الحاصل لهما بحق شرعي من العقوق مثل الشهادة عليهما لقوله
تعالى " أو الوالدين " فتقبل شهادته عليهما، وفي القول بوجوبها عليهما مع عدم
القبول لأن في القبول تكذيب لهما بعد واضح، وإن قال به بعض. وأما السفر
المباح بل المستحب فلا يجوز بدون إذنهما لصدق العقوق، ولهذا قاله الفقهاء
وأما فعل المندوب فالظاهر عدم الاشتراط إلا في الصوم والنذر، على ما ذكروه
وتحقيقه في الفقه.
" وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين
كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا " سيجئ تفسيره " وإما تعرضن
عنهم " (2) أي تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك بأداء حقوقهم عند مساءلتهم إياك لأنك
لا تجد شيئا تعطيهم حياء من ردهم بغير شئ " ابتغاء رحمة من ربك ترجوها " لطلب
الفضل والسعة التي يقدر معها الاعطاء، ويحتمل أن يكون متعلقا بجواب الشرط
أي وإن تعرض عنهم " فقل لهم قولا ميسورا " لابتغاء رحمة من ربك أي لطلب وجه
الله ترجوها برحمتك عليهم أو متعلق بالشرط أي وإن تعرض عنهم لفقد رزق من

(1) البقرة: 232.
(2) أسرى: 28.
383

ربك ترجوا أن يفتح لك، فسمي الرزق الرحمة، فردهم ردا جميلا، وعدم عدة
حسنة، وقل لهم قولا سهلا لينا، وفيها مبالغة في ملاحظة رد السؤال حيث ينبغي
أن لا يكون إلا لعدم الوجدان مع طلبه، ثم مع ذلك لا بد من القول الجميل.
قيل: لما نزلت هذه كان صلى الله عليه وآله إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي قال: يرزقنا
الله وإياكم من فضله " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، أي ولا تكن ممن لا يعطي
شيئا أصلا ولا يهب، فتكون بمنزلة من تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على
الاعطاء والبذل، وهذا مبالغة في النهي عن الشح في الامساك " ولا تبسطها كل
البسط " أي ولا تعط أيضا جميع ما عندك، فتكون بمنزلة من بسط يده حتى لا يستقر
فيها شئ، وهذا كناية عن الاسراف " فتقعد ملوما " تلوم نفسك ويلومك غيرك
أيضا " محسورا " منقطعا بك ليس عندك شئ، وقيل: عاجزا نادما، وقيل محسورا
من الثياب أي عريانا وقيل معناه إن أمسكت قعدت ملوما مذموما، وإن أسرفت
بقيت متحيرا مغموما، وقال الكلبي لا تعط ما عندك جميعا فيجئ الآخرون ويسألونك
فلا تجد ما تعطيهم فيلومونك.
وروي أن امرأة بعثت ابنها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وقالت: قل له إن أمي
تستكسيك درعا، فإن قال: حتى يأتينا شئ فقل له: إنها تستكسيك قميصك
فأتاه فقال ما قالت له فنزع قميصه فدفعه إليه فنزلت ويقال إنه عليه السلام بقي في البيت
إذ لم يجد شيئا يلبسه، ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفار، فقالوا إن
محمدا اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة.
وما أجد حسن هذه النقول الله أعلم بل أجد أن الاحسان والبذل حسن وكذا
الايثار على نفسه بل عياله أيضا مع رضاهم كما دلت عليه سورة هل أتى، وقوله:
" ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " (1) وكفى بذلك دليلا وفي العقل ما
يؤيده نعم إن علم الحاجة بحيث يفوت معه الواجب أو الأولى لا ينبغي الاعطاء
والظاهر أن مثله لا يقع عن أدنى عاقل فكيف عنه صلى الله عليه وآله فالآية كما قيل دليل المنع

(1) الحشر: 10.
384

عن الشح وتحريمه، وتحريم الاسراف والتبذير لا غير فافهم.
قال في الكشاف: هذا تمثيل لمنع الشحيح، وإعطاء المسرف، وأمر بالاقتصاد
الذي بين الاسراف والتقتير، ونعم ما قال، ويؤيده ما قبلها وما بعدها " إن ربك
يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " يوسع لمن يشاء ويرى
المصلحة له في ذلك، فإن الله هو العالم الحكيم لا يفعل إلا لغرض ومصلحة عائدة
إلى عبيده، فالبسط والضيق إنما يكون في محله ومصلحته وتدبيره لهم ذلك لا غير، و
هو ظاهر بناء على أصولنا.
" ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " (1) في الكشاف أي لا تقولن
لأجل شئ تعزم عليه إني فاعل ذلك الشئ فيما يستقبل من الزمان، ولم يرد
الغد خاصة " إلا أن يشاء الله " متعلق بالنهي على وجهين أحدهما ولا تقولن ذلك القول
إلا أن يشاء الله أن تقوله، بأن يأذن لك فيه، والثاني ولا تقولنه إلا بمشيئة الله، و
هو في موضع الحال يعني إلا متلبسا بمشيئة الله تعالى قائلا إنشاء الله، وفيه وجه ثالث
وهو أن يكون إنشاء الله في معنى كلمة تأبيد كأنه قيل: ولا تقولنه أبدا، ونحوه
قوله " وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله " لأن عودهم في ملتهم مما لن يشاء الله
وقد ذكرنا مثله في قوله " هم فيها خالدون إلا ما شاء ربك ".
ثم قال: وهذا نهي تأديب من الله لنبيه، حين قالت اليهود لقريش: سلوه
عن الروح وعن أصحاب الكهف وذوي القرنين، فسألوه فقال: ائتوني غدا أخبركم
ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه وكذبته قريش، فظاهر هذه تحريم
الأخبار بفعله في المستقبل إلا أن يقارنه بقوله إن شاء الله على أحد الوجوه والقائل
به غير معلوم، فيحتمل أن يكون من خصائصه عليه وعلى آله السلام أو منسوخا أو
يكون النهي للكراهة والتأديب كما قال في الكشاف وهذا نهي تأديب فتأمل.
" أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان ورائهم

(1) الكهف: 23 و 24.
385

ملك يأخذ كل سفينة غصبا " (1) جواب عن قوله " أخرقتها لتغرق أهلها " حاصله أنه
قال الخضر على نبينا وعليه السلام إنما خرقت السفينة بأن أخذت لوحين من تحتها
لأن بين يديهم كان ملكا يأخذ كل سفينة غصبا فلو رآها الملك منخرقة تركها
ويصلحها أهلها بقطعة خشب فانتفعوا بها، قالوا " وراء " هنا بمعنى القدام، وهو
لغة جاءت في الأشعار والأمثال، إذ لو كان بمعنى الخلف فكانت السفينة تقدمت الملك
فما كان يأخذها، وقيل يحتمل كون الملك في طريقهم عند الرجعة، وعلم الخضر
ولم يعلم غيره وهو بعيد، ويحتمل أن يكون الملك يجيئ من خلفهم في البحر أيضا
فيأخذ.
واعلم أنه يستفاد من هذا ومن إقامة الجدار وجوابه جواز التصرف في مال
الغير، إذا علم أنه أولى من عدمه، ومنه إجارة دار الغائب إذا كانت أولى، وكذا
إجارة بعض مماليكه، وبيع بعض أسبابه المشرف على التلف، ونحو ذلك وينبغي
أن يباشره الحاكم، ومع تعذره لا يبعد لآحاد المؤمنين الموثقين ذلك، لهذه لآية
ولأنه إحسان مأمور به، والفاعل محسن: و " ما على المحسنين من سبيل " وكذا
مال الأطفال والمجانين والسفهاء وفي الأطفال أخبار صحيحة بخصوصها، ويدل
عليه أيضا " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " وقد مر فتأمل، وتذكر.
واعلم أن ذلك ليس بمخصوص بشرع موسى وخضر عليهما السلام وإن كان شرع
من قبلنا ليس بحجة لنا، لأن سوق الآية يدل على كون الحكم معقولا، وأن
العقل يقتضي موافقا للشرع، فلا خصوصية له بمذهب دون مذهب فتأمل.
ثم إن في حكايتهما عن آخره دلالة على أمور أخر من الأصول والفروع
مثل جواز قتل شخص لدفع مفسدة ومصلحة آخر وقال في مجمع البيان وهو يدل
على وجوب اللطف كما هو مذهبنا، وفيه تأمل. ثم قال إنه يجوز لكل أحد ولكن
هذا مع العلم، والعلم إنما يحصل للأنبياء، فلا يجوز لغيرهم، وإن كان مخيرا بين
إماتته بغير ألم القتل وبين أمره بالقتل، ولكن مع عوض ألمه فلا جور، وأنه يحتمل

(1) الكهف: 79.
386

أن يكون المصلحة ودفع المفسدة في القتل لا بالموت بوجه آخر، وغير ذلك مثل
نسبة النسيان إلى النبي وجواز إسناد شئ غير حسن بحسب الظاهر إلى الغير مثل
خرق السفينة لغرق الناس، وقتل النفس الزكية القبيح، وخلف الوعد، والكل
مجاب ليس هذا محل ذكره فتأمل، وأيضا قال: فيها بيان طرق استعمال الأدب من
المعلم والمتعلم، وقد بين وجوها حسنة في آداب التعليم فليرجع إليه المربد.
" قال سلام عليك سأستغفر لك ربي " الآية (1) أي قال إبراهيم ذلك ودعا لأبيه
وسلم عليه، فيدل على جواز السلام على الأب والدعاء والاستغفار له، وإن لم
يكن مسلما، وإن طرد الولد، وقيل: ما كان معلوم القبح عقلا وما منع شرعا
فجاز أن يكون الدعاء بتوفيق الاسلام فيغفر له بعد ذلك، ويدل على الأول " و
ما كان دعاء إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين " الآية (2) فكأنه
يقول وعده أباه وقال " سأستغفر لك " ولم يتبين له أنه من أصحاب النار فلما تبين
ترك، لكن قاعدة الأصحاب تقتضي عدم كون آزر أباه فقيل: كان عمه، وقد يسمى
العم به، ويؤيده ما ذكره في القاموس آزر اسم عم إبراهيم وأما أبوه فكان اسمه
تارح وقال فيه في باب الحاء وفصل التاء تارح كآدم أبو إبراهيم الخليل عليه السلام.
" إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا
والآخرة " (3) في القاموس الفاحشة الزنا وما يشتد قبحه من الذنوب وكلما نهى الله
عز وجل عنه وفي الكشاف: الفحشاء والفاحشة ما أفرط قبحه يعني الذين يريدون
شيوع الفاحشة وظهورها، ويقصدون إشاعتها ونسبتها إلى المؤمنين تفضيحا لهم، و
في مجمع البيان يفشون ويظهرون الزنا والقبائح " في الذين آمنوا " بأن ينسبوها إليهم
ويقذفوهم بها " لهم عذاب أليم في الدنيا " بإقامة الحد عليهم كما ينبغي أو التعزير
إلا أن يراد بالحد أعم، وفي الآخرة " هو عذاب النار.

(1) مريم: 49.
(2) براءة: 116.
(3) النور: 20.
387

فيها دلالة على تحريم القصد إلى المحرم إلا أن يراد المبالغة كما في نحو
" ولا تقربوا " أو أراد إشاعة الفاحشة [المحبوبة] ونسبة القبايح والمحرمات إلى المؤمنين
وإشاعة الذنوب فتأمل " والله يعلم " ما في الضمائر " وأنتم لا تعلمون " قال القاضي: فعاقبوا
في الدنيا على ما دل عليه الظاهر، والله سبحانه يعاقب على ما في القلوب من حب
الإشاعة.
" ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة " (1) أي لا يخلف ذو مال وغنى وسعة و
قدرة منكم أيها المؤمنون " أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل
الله " أي على أن لا يعطي هؤلاء المذكورين، بل يعطيهم وإن حلف، فيكون التقدير
أن لا يؤتوا، وحذف " لا " وهو قليل، أو لا يأتل يعني لا يقصر في الاحسان إليهم
وإن كان بينهم شحناء لجناية اقترفوها، فليعودوا عليهم بالعفو والصفح، وليفعلوا
بهم مثل ما يرجون أن يفعل الله بهم، مع كثرة خطاياهم وذنوبهم وهو معنى قوله
" وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " إشارة إلى ما
صدر عنه في إفك عائشة أي الافتراء عليها بالفاحشة مع جماعة من المنافقين.
وقد ذكروا في تفسير " إن الذين جاؤوا بالإفك ". الآية قيل: هذه الآية
نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبي بكر وكان فقيرا من فقراء المهاجرين، و
كان أبو بكر ينفق عليه فلما فرط منه ما فرط آلى أبو بكر أن لا ينفق عليه، ولما
نزلت فقال أبو بكر: بلى أحب أن يغفر الله لي، عاد أبو بكر إلى ما كان فأنفق على
مسطح ما كان ينفقه عليه وقال والله ما أنزعها أبدا وفي مجمع البيان قيل نزلت في
أبي بكر ونقل ما في الكشاف على ما تقدم، وقيل: نزلت في يتيم كان في حجر أبي
وحلف لا ينفق عليه، وقيل: نزلت في جماعة من الصحابة أقسموا أن لا يتصدقوا
على رجل تكلم بشئ من الإفك.
وفي الآية دلالة على عدم جواز الحلف على ترك الاعطاء، ولو كان المعطى

(1) النور: 22.
388

عليه فاسقا فاجرا بل منافقا موعودا في القرآن الكريم بجزاء ما اكتسب، كما يفهم
من آية الإفك، وعدم انعقاده على تقدير وقوعه، واعتقاد الحالف أنه حسن وعبادة
فالنظر إلى ما في نفس الأمر لا إلى اعتقاد الحالف، وعلى عدم ترك الاحسان إلى
المسئ وأن ذلك موجب لاحسان الله إليه وتركه موجب لتركه ولا يبعد استفادة
عدم الحلف وأخويه، وعدم انعقاده في كل ما ثبت أنه حسن وإحسان، وعلى
حسن جميع الاحسان، وفيه ترغيب جميل على حسن الخلق، وعدم ترك الاحسان
للإساءة وهو ظاهر.
قال في الكشاف ونعم ما قال: وكفى به داعيا إلى المجاملة، وترك الاشتغال
بالمكافأة للمسئ.
وعلى جواز الأنفاق على الفاسق بل الكافر، وأنه لا خصوصية بالقريب
ولا بالمسكين، ولا بالمهاجرين في سبيل الله، بل كل واحدة كافية للاحسان كما يظهر
من الآية قال في مجمع البيان: مسطح بن أثاثة كان من المهاجرين ومن جملة البدريين
ثم قال: في قصة مسطح دلالة على أنه يجوز أن تقع المعاصي ممن شهد بدرا وصرح
به الفخر الرازي أيضا في تفسيره، فدلت على عدم كون الصحابة كلهم عدولا، و
كذا دلت على عدم مقبولية كل المهاجرين، فإن مسطحا كان منهم، مع أنه حد
ولعن وله عذاب عظيم في الدنيا والآخرة وغير ذلك مما ورد في هذه الآيات الشريفة
لقذفه على ما بين، فما ورد في مدحهم مخصوص أو مشروط بسلامة العاقبة، أو قبول
التوبة، وهو ظاهر، وعدم قبول كل المهاجرين والأنصار.
وعلى أن الرمي بالزنا كبيرة، وفيها مبالغة زائدة في حسن العفو والصفح
وعدم ترك الاحسان والانفاق ولو على المسئ، حيث منع الله أبا بكر من عدم إنفاق
ماله على مسطح الذي قذف ابنته زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وقذفها مما وعد الله عليه
النار، وأن القاذف ملعون في الدنيا والآخرة وله عذاب عظيم.
قال في الكشاف والقاضي: ولو فتشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ مما
نزل في إفك عائشة، وبين في الكشاف المبالغة من وجوه كثيرة، وأنه ما وقع في
389

حق عبدة الأوثان مثله، وفيهما أن ذلك لعظم شأن رسول الله صلى الله عليه وآله، وفيها رجاء
عظيم بمغفرة الله وعفوه وصفحه فافهم.
ثم إنه لا يخفى أن مضمون الآية نهي من اتصف بفضل ما وسعة عن الحلف
واليمين على ترك الاحسان إلى ذوي قرابته والمساكين والمهاجرين في سبيل الله
بسبب ذنب وقع منهم وإساءة بالنسبة إليه، ولا تدل على أفضلية أبي بكر من أربعة
عشر وجها على ما توهمه الفخر الرازي في تفسيره الكبير، وقد بينا ذلك في
رسالة على حدة ونشير هنا إلى نبذ منه، ومن بعض كلامه:
أجمع المفسرون على أن المراد بأولي الفضل أبو بكر، علم ذلك بالتواتر
وأنها تدل على أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله لأن الفضل المذكور
في هذه الآية إما في الدنيا، وإما في الآخرة، لأنه تعالى ذكره في معرض المدح
من الله تعالى والمدح من الله تعالى في الدنيا غير جايز لأنه لو كان كذلك لكان
قوله والسعة تكريرا فيتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين، فلو كان غيره
مساويا له في الدرجات لم يكن هو صاحب الفضل لأن المساوي لا يكون فاضلا
فلما أثبت الله تعالى له الفضل مطلقا غير مقيد بشخص دون شخص، وجب أن يكون
أفضل الخلق، ترك العمل في حق الرسول صلى الله عليه وآله فيبقى معمولا في حق الغير.
وهذا غلط فاحش، فإن مضمون الآية ما ذكرناه وهو غير مخفي على من
له معرفة بأساليب الكلام، وليس فيها دلالة على ما ذكره، وما ذكره في ذلك ظاهر
البطلان، فإنه ليس في مقام المدح، وعلى تقديره لا بعد في ذلك في هذا المقام، و
على تقدير كون الفضل مخصوصا بالدين لا يلزم كونه أفضل، ويجوز للمساوي أن
يكون فاضلا، وعدم تقييد الفضل بالنسبة إلى شخص لا يلزم أفضليته على كل خلق
وهو ظاهر، وأنه لو تم لدل على أفضليته من نبينا صلى الله عليه وآله وسائر الأنبياء وهو باطل
ومناف لأول كلامه وأيضا يلزم إذا قيل " زيدا ولو الفضل " أن يكون كفرا بحسب
منطوقه فتأمل وأنه غير مجمع عليه كون المراد به أبا بكر فإنه نقل في مجمع البيان
أنه نزل في جماعة من الصحابة حلفوا أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشئ من
390

الإفك عن ابن عباس وغيره، وأن لا تواتر وأن ذلك ليس دليلا للإجماع وإثبات
الاجماع والتواتر دونه خرط القتاد، وعلى تقدير التسليم أين الدلالة على الأفضلية
في الجملة، فضلا عن جميع الخلق، فكيف ولا شك في عدم اختصاصها بأبي بكر
لقرائن لفظية ومعنوية.
وإن سلم نزولها في حق أبي بكر ومسطح فإن المدار على [عدم] عموم اللفظ
فحينئذ يلزم كل من له فضل وسعة [أن] يكون أفضل من جميع الخلق، فيكون أكثر
الخلايق أفضل من الكل ويكون الأكثر مفضولا وفاضلا، وفساده أوضح من
أن يبين نعم غاية ما يمكن أن يقال يدل على أن له فضيلة ما إن حمل الفضل على
أمر الدين والسعة في الدنيا، كما قاله البيضاوي مع أن الظاهر والمتبادر في هذا
المقام هو الفضل في المال والسعة عطف بيان له، وذلك في القرآن العزيز غير عزيز
فالتكرار ليس بسبب لذلك الحمل كما قاله، كيف يخصص به مثل هذه الآية
الشريفة التي أراد الله تعالى حث المؤمنين على الاحسان بالنسبة إلى المسئ ودفع
السيئة بالحسنة، وترك المكافاة والانتقام طمعا في المغفرة والعفو عنهم، كما أشار
إليه بقوله " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " مع جمع أولي الفضل
وجمع أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليس ذلك إلا تفويت
غرض الحكيم تعالى.
بل يمكن أن يستفاد منها مذمة أبي بكر حيث حلف، ونهي عن ذلك و
عوتب وأمر بالعفو والصفح ثم عوتب أن من يفعل ذلك لا يحب أن يغفر له، ومن
العجب أيضا أنه ذكر أن أبا بكر أفضل من علي لأن إطعامه لم يكن لوجه الله
بل طمعا للثواب وخوفا من العقاب، بخلاف إنفاق أبي بكر، فإنه من أين يقول
هذا فإن إنفاق أبي بكر لو صح ما يعلم وجهه، والظاهر كونه لقرابته وأنه لو سلم
آية " وما لأحد عنده من نعمة تجزى " لا يدل عليه أيضا، نعم يدل عليه أنه ما كان
عليه من أحد نعمة تجزى إلا أنه فعل لله ولوجهه بخلاف ما فعله علي عليه السلام فإن الله
أخبر بذلك بقوله تعالى " إنما نطعمكم لوجه الله " ولعمري ليس مثل هذا الكلام
391

إلا التعصب، والنزول عن الحق، وما نجد له باعثا الله يعلم.
فإن أردت تفصيل ما ذكره وما ذكرناه فارجع إلى تفسيره، وإلى ما ذكرناه
في الرسالة، الله الموفق للحق والصواب وإليه المصير والمآب.
" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا
والعاقبة للمتقين " (1) في الكشاف: تلك تعظيم لها - أي دار الآخرة والجنة - وتفخيم
لشأنها يعني تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها، ولم يعلق الموعد بترك العلو
والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما، كما قال " ولا تركنوا
إلى الذين ظلموا " فعلق الوعيد بالركون، وعن علي رضي الله عنه أن الرجل
ليعجبه أن يكون شراك فعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها، وعن
الفضيل أنه قرأها ثم قال ذهبت الأماني ههنا، وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان
يرددها حتى قبض.
في مجمع البيان " علوا " أي تجبرا على عباد الله، واستكبارا عن عبادته " ولا
فسادا " أي عملا بالمعاصي، قيل هو الدعاء إلى عبادة غير الله، وقال عكرمة هو أخذ
المال بغير حق، ويفهم منه عرفا غير ذلك فافهم، والأول بعيد ولا بعد في عمومه
كما يفهم من كلامه صلوات الله عليه وعلى آله، لأنه لو لم يكن في نفسه خساسة
وحسد وتسلط على المسلم ما كان يريد أن يكون شراك نعله أحسن من شراك نعل
صاحبه، فهو خسة في حقه [تعالى] وماله وحسد وبغض وغير ذلك لا أنه يريد لنفسه
شيئا حسنا فقط لأنه لو كان كذلك كان لا يريد الأخس لغيره، والأحسن لنفسه
وهو ظاهر فافهم.
" ووصينا الانسان بوالديه حسنا " (2) أي أمرنا الانسان أن يفعل بوالديه فعلا
ذا حسن فيحسن إليهما ولو كانا كافرين أيضا، لعمومه ومثله قوله " وصاحبهما في
الدنيا معروفا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما " ونبه به
على عدم إطاعتهما في المعاصي لو أرادا، لأن كل حق وإن عظم ساقط إذا جاء

(1) القصص: 84.
(2) العنكبوت: 8.
392

حق الله، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ثم قال " إلي مرجعكم جميعا "
من آمن ومن كفر، ومن أطاع ومن عصى ومن عمل بالوصية ومن لم يعمل، و
من أطاعهما في الشرك وغيره، فأجازي كلا باستحقاقه.
في الكشاف: فيه شيئان أحدهما أن الجزاء إلي، فلا تحدث نفسك بجفوة
والديك وعقوقهما لشركهما، ولا تحرمهما برك ومعروفك في الدنيا، كما أني
لا أمنعهما رزقي والثاني التحذير من متابعتهما على الشرك والحث على الثبات
والاستقامة في الدين، بذكر المرجع والوعيد.
وفي قوله " أن المسلمين والمسلمات " إلى قوله " أعد الله لهم مغفرة وأجرا
عظيما " (1) دلالة واضحة على حسن الاسلام والايمان والقنوت والصدق والصبر والخشوع
والتصدق والصوم وحفظ الفرج من الحرام وذكر الله كثيرا، وأنها موجبة
للمغفرة والأجر العظيم، وفي قوله " زوجناكها " الآية دلالة على أن فعله صلى الله عليه وآله
يدل على الجواز، وأن نفي الحرج عنه يستلزم نفي الحرج عن الأمة والتأسي
فتأمل، وبحث التأسي طويل مذكور في محله يرجع إليه، ويدل على تحريم
إيذاء المؤمنين أي المسلمين بغير استحقاق وجناية يقتضي ذلك ويبيح قوله تعالى:
" والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا " أي بغير جناية واستحقاق
يبيح ذلك " فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا " (2).
" قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا " (3) قيل أن مفسرة
يعني أن المحرمات ما يفهم من قوله " لا تشركوا " وما عطف عليه، ويصح عطف
الأوامر المفهومة من مثل قوله " وبالوالدين إحسانا " أي أحسنوا بهما على النواهي
لأن [من] المحرمات ما يفهم منها، وهو ضد المأمورات، مثل الإساءة في أحسنوا، و
يحتمل كونها مصدرية أي عليكم أن لا تشركوا، فيكون ألا تشركوا مفعول عليكم
أو مرفوعا بالابتدائية أو يكون خبرا عن نحو هو أو المتلو.

(1) الأحزاب: 36.
(2) الأحزاب: 58.
(3) الأنعام: 153.
393

وضع الأمر بالإحسان موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة والدلالة على
أن ترك الإساءة هنا لا يكفي، بل لا بد من الاحسان، فيفهم أن ترك الاحسان
بمنزلة الشرك في النهي والقبح.
" ولا تقتلوا أولادكم من إملاق " أي من جهة الفقر وخشيته كقوله " خشية
إملاق نحن نرزقهم وإياكم " (1) منع لموجب القتل، وإبطال لحجتهم في القتل.
" ولا تقربوا الفواحش " (2) قيل كبائر الذنوب أو الزنا مطلقا " ما ظهر منها
وما بطن " أي الظاهر والخفي، قيل هو مثل " ظاهر الإثم وباطنه " (3).
" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " (4) مثل القصاص والحد والرجم
والارتداد وقتل الأولاد داخل فيه، إلا أنه خص بالذكر للاهتمام به، ولأنهم
كانوا يفعلون ذلك، فذكر للمنع بخصوصه ورد حجتهم والاحتجاج عليه " ذلكم "
أي الأمور المذكورة في الأمر والنهي ما " وصيكم به " أي بحفظه " لعلكم تعقلون "
ترشدون بسبب العمل به، والتعبير عن الرشد بالعقل لأن الرشد كمال العقل.
" ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " (5) أي لا تقربوا من مال اليتيم بأن
تتصرفوا وتفعلوا فيه فعلا، فلا تدنوا إليه بفعلة أصلا إلا بالفعلة التي هي أحسن
ما يفعل بماله، بحسب ما يقتضيه عقل العقلاء كحفظه، وتعمير ما هو خراب منه
وتنميته وتثميره أو أحسن من تركه وبالجملة هو الذي يجده العقل السليم حسنا
وأولى من تركه، وهو مقتضى أكثر عقول العقلاء. فالآية تدل على تحريم الأمور
المذكورة، خصوصا التصرف في مال اليتيم، حيث عبر عن النهي عنه بعدم القرب
منه، ولهذا عد بخصوصه من الكبائر، واليتيم غير البالغ الذي لا أب له ويمكن
إدخال غير الرشيد فيه إلى أن يرشد لاحتمال أن يكون معنى " حتى يبلغ أشده "

(1) أسرى: 34.
(2) الأنعام: 153.
(3) الأنعام: 120.
(4) الأنعام: 153: أسرى: 36.
(5) أسرى: 37، الأنعام: 154.
394

يبلغ رشده أي يبلغ ويرشد، وقيل حتى يبلغ ويصير بالغا، وهو جمع شدة كنعمة
وأنعم، والأول أولى، لأن الظاهر أنه غاية النهي للتصرف، ولو كان بإذنه، إلا
أن يكون بإذن الولي ومعلوم أنه بعد مجرد البلوغ لم ينته المنع عن التصرف و
إن كان بإذنه أيضا لعدم الرشد فالتصرف في ماله مطلقا بإذنه وبدونه حرام إلى أن
يرشد ويبلغ.
وتدل أيضا على جواز التصرف في ماله إن كان أحسن، فلو كان عند الانسان
ما يتلف من ماله يجوز حفظه بأي نوع كان، وإذا خيف تلفه يجوز بيعه وإقراضه من
ملي أمين مع الشهود والرهن إن لم يوجد أحسن منه، وأن يؤجر عقاره، وأن
يعمر ويحفظ عن الخراب ونحو ذلك، ويدل عليه الأخبار أيضا، ولهذا قال الفقهاء
بذلك، وجوزوا كون بعض العدول بمنزلة الوصي على تقدير عدمه، بأن يجعله
الحاكم وصيا له في ذلك، وإذا لم يكن الحاكم، له أن يفعل ذلك، وبالجملة
الولي مقدم، فإن لم يكن فالوصي فالحاكم فالعدل، فيمكن جواز الشراء منه
وتسليم الثمن إليه ونحو ذلك، وجعله بمنزلة الوصي فتأمل.
وأما من كان في يده ماله فبالنسبة إليه يمكن كفاية كونه أمينا موثوقا بنفسه
بل مطلقا في حفظه وما هو يقينا أحسن من عدمه لعموم الآية، ويؤيده تكرار هذه
الآية في القرآن العزيز، وموافقته للعقل، ووجد أنه حسنه والاحتياط لا يترك.
ويدل عليه أيضا الآيات التي في بيان حكاية الخضر وموسى عليهما السلام حيث
دلت على التصرف بغير الإذن، مثل خرق السفينة، وإقامة الجدار، ونحو ذلك
وسوق الجواب يدل على عدم اختصاص ذلك بدين دون آخر وهو ظاهر، ويؤيده
العقل وحينئذ لا يبعد جواز التصرف في ماله غير اليتيم أيضا إذا كان أحسن بأن
كان مجنونا أو غائبا ويتلف ماله ويخرب عقاره إن لم تؤجر، فيؤجرها بعض
العدول، وكذا دوابه وبعض آلاته التي تتلف يقينا أو ينقص، بحيث يجزم كل
عاقل أن بيعه أو إجارته أحسن ويرضى به مالكه العاقل، كما أن الله تعالى يوصل
ضررا بالعبد لمرض ونحوه مع تعيين عوض يرضى به كل عاقل، ويؤيده كونه
395

متداولا بين المسلمين وينقلون جواز ذلك عن المشايخ رحمهم الله، ولكن يجب فيه
الاحتياط التام بل اشتراط خيار للمالك إن أمكن، وتسليم ما له إلى يد أمين ملي
وجعله في ذمته مع رهن. وبالجملة لا بد من مراعاة الأحسن.
ويؤيده أيضا بعض الآيات مثل " ما على المحسنين من سبيل " " ولا على
أنفسكم أن تأكلوا " الآية، إذا كان المتصرف ممن تضمنت الآية جواز الأكل له
من بيوتهم، فإنه إذا جاز له الأكل جاز له مثل هذه التصرفات بالطريق الأولى
ويؤيده أيضا ما في الأخبار أن المؤمن أخ المؤمن، وأن يجعل نفسه كنفسه، و
ماله وعرضه كماله وعرضه، في حفظه، فتأمل.
" وأوفوا الكيل والميزان بالقسط " (1) صحة عطفه مثل ما تقدم، أي يجب إيفاء
الكيل والوزن بالعدل والسوية، ولما كان مشكلا أردفه بقوله " لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها " أي إلا ما يسعها ويقدر عليه من غير حرج وضيق فعليكم الجهد في
تحصيل الحق، وما وراء ذلك معفو عنكم، وأما صاحب المال فيستحب له أن
يعطي زايدا ويأخذ ناقصا، ومع التشاح يمكن ترجيح من بيده الكيل والوزن
ومع عدمه أو مطلقا القرعة، وترجيح جانب صاحب المكيل والموزون لأن الزيادة
من طرفه أسهل، حيث ما يعطي الثمن غالبا وأنه العادة في الأكثر.
" وإذا قلتم " في حكومة وشهادة بل مطلقا " فاعدلوا " فيه أي استعملوا العدل
والحق في ذلك القول " ولو كان " المقول فيه " ذا قربى " أي قرابة القائل، بل لو كان
نفسه فيقر بما يضره في الدنيا فإن ذلك نفع له بحسب الحقيقة، وإن كان بحسب
الظاهر يرى أنه مضر، ففيه دلالة على وجوب الشهادة على الأقارب مطلقا حتى
الآباء والأمهات وقبولها " وبعهد الله " متعلق بما بعده أي " أوفوا " للتأكيد و
المبالغة للحصر المستفاد أي يجب إيفاء ما عهد الله إلى المكلف لا غير أي لا تصر إلى غيره
وتجعله معارضا له وتتركه به، ففيها دلالة على وجوب الإيفاء بالشروط والعهود والنذور

(1) أسرى: 154.
396

والعقود، والإتيان بجميع ما أمر به من العمل بالعدالة في القول والفعل، وإيفاء
الكيل والوزن وغير ذلك وتحريم ضدها، وبسببه عطف على المناهي كما مر
" ذلكم " أي جميع ما تقدم أو حصر الإيفاء بعهد الله، فإنه مشتمل على ما تقدم و
زيادة " وصاكم " الله " به " بحفظه والعمل بمقتضاه " لعلكم تذكرون " رجاء تذكركم
الله وعقابه وثوابه فتتعظون به، وفيه تأكيد بالغ.
" وأن هذا صراطي مستقيما " (1) يحتمل ما تقدم، وقيل إشارة إلى ما ذكره في
هذه السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة ويؤيده " فاتبعوه
ولا تتبعوا السبل " الأديان المختلفة التابعة للهوى فإن مقتضى الحجة واحد، و
مقتضى الأهواء مختلف لاختلاف الطبايع " فتفرق بكم " فتفرقكم " عن سبيله " الذي
هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان " ذلكم " أي الاتباع أو الصراط المستقيم " وصاكم
به لعلكم تتقون " الصلال والتفرق عن الحق.
" ولا تركنوا إلى الذين ظلموا " (2) أي لا تميلوا إلى من وجد منه الظلم وقتا
ما أدنى ميل، فإن الركون هو الميل القليل كالتزي بزيهم، وتعظيم ذكرهم
واستدامته، فإن فعلتم " فتمسكم النار " بركونكم إليهم، فإذا كان الميل اليسير إلى
من صدر منه وقتا ما ما يسمى ظلما موجبا لمس النار، فما ظنكم بالميل الكثير
إليهم، وبالظالم نفسه، وبالظلم.
قال القاضي: ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه
وخطاب الرسول، ومن معه من المؤمنين بها، للتثبت على الاستقامة التي هي العدل
فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط، فإنه ظلم على نفسه أو
غيره بل ظلم في نفسه، وهذا الكلام مشعر بأنه فسر الظلم بمطلق الذنب كما في
قوله " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " (2) ولكن يمكن تقييده بالكبيرة فتأمل
قال في الكشاف: النهي متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم
ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم

(1) أسرى: 155.
(2) هود: 115.
397

ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله " ولا تركنوا " فإن
الركون هو الميل اليسير وقوله " إلى الذين ظلموا " أي الذين وجد منهم الظلم، ولم
يقل إلى الظالمين.
ثم نقل غشيان الموفق في الصلاة لما قرأ الإمام هذه الآية فيها، وسئل
عن سبب الغشيان فقال: إذا كان هذا حال المايل إلى الظالم فكيف به، ونقل
أيضا كتابة صديق للزهري إليه لما خالطه السلطان، وبالغ في ذلك من ذمه اختلاط
الظالم وذكر أمورا كثيرة منها: عافانا الله وإياك من الفتن، فقد أصبحت بحال
ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك، ومنها وليس كذلك أخذ الله الميثاق
على العلماء، ومنها واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة
الظالم، وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يرد حقا ولم يترك باطلا، ومنها فما
أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، ومنها فداو دينك دخله السقم، و
هيئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وآخرها " وما يخفى على الله من شئ في الأرض
ولا في السماء ".
ثم نقل الأخبار في ذم الاختلاف إلى أبواب الظلمة، قال سفيان: في جهنم
واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك، وعن الأوزاعي: ما من شئ أبغض إلى
الله في أرضه من عالم يزور ظالما، وعن محمد بن سلمة: الذباب على العذرة أحسن من
قارئ على باب هؤلاء، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن
يعصى الله في أرضه، ويؤكد ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وآله بطريق العامة والخاصة: كفارة
اختلاف أبواب السلطان قضاء حوائج الأخوان.
وكلام الكشاف ظاهر في أن المراد بالظالم هو حاكم الجور، وذلك غير
بعيد لأنه المتبادر، ولأن ظلمه أقبح، فلا يبعد كون قباحته واصلا إلى هذه
المرتبة، ولما روي من أخبارنا مثل ما ذكر في الفقيه في باب جمل من مناهي النبي
صلى الله عليه وآله أنه قال: من مدح سلطانا جايرا أو تخفف وتضعضع له
طمعا فيه، كان قرينه في النار، وقال صلى الله عليه وآله قال الله عز وجل " ولا تركنوا إلى
398

الذين ظلموا فتمسكم النار " وقال عليه السلام من ولى جائرا على جور كان قرين
هامان في جهنم، ويحتمل الظلم على الغير مطلقا ومطلق الظلم الموجب لسخطه كما
مر، وقال في مجمع البيان أي لا تميلوا إلى المشركين في شئ من دينكم عن ابن
عباس، وقيل: لا تداهنوا الظلمة عن السدي، وابن زيد، وقيل إن الركون
إلى الظالمين المنهي عنه، هو الدخول معهم في ظلمهم أو إظهار موالاتهم، وأما الدخول
عليهم ومخالطتهم ومعاشرتهم دفعا لشرهم فجايز عن القاضي، وقريب منه ما روي
عنهم عليهم السلام أن الركون هو المودة والنصيحة والطاعة لهم، والأول بعيد، والثاني
قريب مما قلنا إن المراد هو حكام الجور، ومعلوم أن مخالطتهم لدفع شرهم جائز
عقلا ونقلا.
ويحتمل أن يكون المراد الميل إلى مطلق الظالم من حيث الظلم كما مر
إليه الإشارة، ولهذا قالوا: يجوز مدح من يستحق الذم من وجه آخر بوجه لا يستلزم
مدحه على القبيح ويدل عليه العقل، وبالجملة المراد المبالغة في المنع عن الميل
إلى الظالم والظلم خصوصا على ما ذكره في الكشاف والقاضي وإلا يلزم كون الميل
إلى بعض أكابر الصحابة موجبا لمس النار لأنه قد وجد منهم الظالم والكفر قبل
الاسلام، والاستدلال بهذه الآية على اشتراط العدالة في الوصي ومستحق الزكاة
والخمس وعدم جواز إعطاء شئ إلى غير العدل ليس بصحيح وهو ظاهر، نعم
يمكن الاستدلال بها على تحريم اختلاط الظلمة ومعاشرتهم، ووجوب التنفر عنهم
واجتنابهم مطلقا، وخصوصا حكام الجور، وسيما من حيث الظلم والذنب وهو
ظاهر عقلا من غير حاجة إلى هذه الآية الشريفة، وفقنا الله وإياكم للاستقامة
وعدم الخروج عن الطاعة.
" أرسله معنا غدا نرتع ونلعب وإنا له لحافظون " (1) استجازوا أباهم في اللعب وقد
أجاز لهم، فيدل على عدم تحريم اللعب مطلقا إلا ما ثبت تحريمه بخصوصه إلا أن يقال
إنه مخصوص بشريعتهم إذ لم يثبت حجية شرع من قبلنا أو يقال إن المراد اللعب الخاص

(1) يوسف: 13 على قراءة.
399

وهو الاستباق والانتضال حتى يتعودوا أنفسهم لقتال العدو بدليل " إنا ذهبنا نستبق " كما
قال في الكشاف ولكن لا يحتاج إليه لما تقدم من احتمال اختصاص الإباحة بدينه
ولا إلى قوله حتى يتعودوا على أن في إباحة الاستباق تأملا إلا أن يريد الاستباق
بالفرس ونحوه ولكن الظاهر أن المراد هو الاستباق بالأقدام، فيحتاج إلى جعله
من خصائص دين يعقوب عليه السلام قال في مجمع البيان: أراد به اللعب المباح مثل الرمي
والاستباق بالأقدام، وقد روي أن كل لعب حرام إلا ثلاثة: لعب الرجل بقوسه
وفرسه وأهله، والسند غير ظاهر، وفي المستثنى والمستثنى منه تأمل.
وفي قص الرؤيا، ومنع يعقوب اقتصاصه على إخوته معللا بأنهم يكيدوا
له كيدا دلالة على جواز قص الرؤيا، وأنها قد تكون صادقة، وجواز النصيحة
ولو كانت مشتملة على ما يشعر بذم شخص فتأمل. قيل في قوله تعالى " اجعلني على
خزائن الأرض " (1) أي ولني خزائن أرضك أي اجعلني وكيلا وحاكما على ملكك
" إني حفيظ عليم " أمين أحفظ ما تستحفظني، عالم بوجوه التصرف، دلالة على
جواز مدح النفس وتزكيتها ليتوصل به إلى غرض صحيح، مثل التولية لامضاء
الأحكام الشرعية، وإقامة الحدود وبسط العدل، ودفع الظلم، وبالجملة للآمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى جواز طلب التولية والقضاء من حكام الجور
إذا علم أنه قادر على إجراء الأحكام والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على
ما هي عليه كما ذكره الفقهاء رحمهم الله، بل قد يجب حيث علم عدم حصول ذلك إلا
بطلبها لنفسه والعقل يدل عليه ولا يحتاج إلى هذه الآية مع أنه فرع حجية شرع
من قبلنا، وقياس غير النبي عليه، وعلمه بعلمه مع أنه كان مستقلا، لا عاملا ولا نايبا
وفرض العلم في غيره بحيث يكون عالما بخلو توليته عن جميع المفاسد في نفسه
وغيره لا يخلو عن بعد، إذ نجد أن مخالطة الحكام والتسلط على الناس يخرب
الدين، وبالجملة كل ذلك إذا كان معلوما عنده أنه يفعله ابتغاء وجه الله كما فعله
يوسف عليه السلام بأمر الله ولا شك في جوازه بل وجوبه، وفي جعل السقاية في رحل

(1) مر في أول الكتاب.
400

أخيه ليأخذه، ثم الندا بالسرقة، وتفتيش وعائهم ونحو ذلك، دلالة واضحة على
جواز أمثال مع استعمال التورية إذ ذكر في التفسير أنه عليه السلام ورى، ولكن
يشكل لما تقدم، ولعدم الضرورة، ولأن ذلك كان بحكم الله تعالى كما قال
" كذلك كدنا ليوسف " (1) فتجويز ذلك لغيره قياس مع الفارق فلا يجوز مع أنه
يحتمل أن يكون المنادي غيره عليه السلام ثم في عدم منع يوسف ويعقوب أبناءه وترك
استتابهم ومخالطتهم حتى خاف عليهم الدخول من باب واحد فقال " ادخلوا من أبواب
متفرقة " (2) دلالة واضحة على جواز ذلك، فتأمل، وفي عفوهما عنهم، ودعائهما
لهم دلالة واضحة على أن العفو حسن، وصاحبه ممدوح وهو ظاهر عقلا ونقلا
كتابا وسنة متظافرة، ثم في ترك يوسف إعلام أبيه وسائر أهله إلى ذلك الزمان
مع قدرته عليه، دلالة واضحة على ترك صلة الرحم بمثل ذلك، وكان ذلك بأمره
تعالى لمصلحة يعلمها الله فلا يقاس، ولهذا نقل في الكشاف أنه لما أدخل أباه خزانة
القراطيس، قال يا بني ما أعقك؟ عندك هذه القراطيس، وما كتبت إلي على
ثماني مراحل؟ قال: أمرني جبرئيل قال أو ما تسأله قال أنت أبسط إليه مني، فسأله
قال جبرئيل: الله أمرني بذلك لقولك: وأخاف أن يأكله الذئب، قال: فهلا خفتني
فيه، دلالة على التوكل، وعدم الخوف إلا من الله خصوصا الأنبياء والأولياء ونقل
في الكشاف أيضا أن سبب محنته أنه ذبح شاة فقام ببابه مسكين ما أطعموه، أو أنه
اشترى جارية فباع ولدها فبكت حتى عميت.
وفي بكاء يعقوب ويوسف عليهما السلام دلالة واضحة على جواز البكاء على مفارقة
الأحباب، ولهذا بكى نبينا صلى الله عليه وآله على ولده إبراهيم وقال: القلب يجزع والعين
تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وقال إنما نهيت من الصياح والنياحة ولطم الوجه
والصدر وتمزيق الثياب كما يفعله الجهال،، ونهى عن الصوت عند الفرح وعند
الحزن لا البكاء، ففي كون البكاء على الميت من أمور الدنيا بحيث يبطل الصلاة
به كما قاله الفقهاء تأمل ثم في سجود أبويه دلالة على جواز السجدة لغير الله لكن

(1) يوسف 77.
(2) يوسف: 67.
401

للتعظيم لا للعبادة، فيه ما تقدم على أنه قد يكون لله شكرا لا له، كما قاله في الكشاف
أيضا فتأمل " إنما يتذكر أولوا الألباب " أي إنما يتعظ ويعرف ما تقدم الذين
عملوا على قضيات عقولهم، فنظروا واستبصروا، والمبرؤن عن مشابهة الألف و
معارضة الوهم.
" الذين يوفون بعهد الله " (1) قيل عهد الله ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته
" وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " (2) ويحتمل العموم " ولا ينقضون
الميثاق " كل ما وثقوه على أنفسهم من المواثيق بينهم وبين الله، من العهود والنذور
والأيمان وغير ذلك، وبين خلقه من الأقارير والعقود والشروط وسائر ما قرر
معهم، فهذا تعميم بعد تخصيص، ويحتمل أن يكون معناهما واحدا ويكون الثاني
تأكيدا للأول، قال في مجمع البيان إنما كرر الميثاق، وإن دخل جميع الأوامر
والنواهي في لفظ العهد لئلا يظن أن ذلك خاص فيما بين العبد وربه، وأخبر
أن ما بينه وبين العباد من المواثيق كذلك في الوجوب واللزوم، فيمكن جعل
هذه دليل وجوب الوفاء بالنذور والعهود والشرائط والوعد.
" والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل " من الأرحام والقرابات روي في
التهذيب عن سلمى مولاة (3) أبي عبد الله عليه السلام قال: كنت عند أبي عبد الله حين حضره
الوفاة قال أعطوا الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين وهو الأفطس (4) سبعين دينارا
قلت له: أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة؟ فقال: ويحك أما تقرأ القرآن؟ قلت:

(1) الرعد: 20.
(2) الأعراف: 171.
(3) روى القصة الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة ص 128، أيضا، وفيه سالمة مولاة
أبي عبد الله عليه السلام وهكذا في الكافي ج 7 ص 55 كتاب الوصايا وكتاب أبي الغنائم الحسني
النسابة على ما في عمدة الطالب ص 340 وقد كان سالمة هذه أم ولد كما في مجمع البيان ج 7
ص 289.
(4) كذا في النسخ، وهكذا في المجمع والصحيح كما في نسخة الكافي وغيبة الشيخ
وهكذا معاجم التراجم والأنساب: الحسن بن علي الأصغر بن الإمام زين العابدين علي بن
الحسين بن علي أبي طالب، كان صاحب راية محمد بن عبد الله بن الحسن النفس الزكية.
402

بلى قال: سمعت قول الله تعالى " الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون
ربهم ويخافون سوء الحساب " فيها دلالة على صحة نسب الأفطس، وجواز إعطاء
الفاسق والاحسان إلى من أساء، والظاهر أنه يدخل فيه وصل قرابة رسول الله
صلى الله عليه وآله وقرابة المؤمنين الثابتة بالقرآن مثل قوله تعالى " إلا المودة
في القربى " و " إنما المؤمنون إخوة " وبالأخبار المتظافرة والاجماع بالإحسان
إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم
وطرح التفرقة بينهم وبين أنفسهم، وإفشاء السلام عليهم وعيادة مرضاهم، وشهود
جنائزهم، ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر، و
كل ما تعلق بالإنسان بسبب ما حتى الهرة والدجاجة، وعن الفضيل بن عياض
أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال من أين أنتم؟ قالوا: من أهل خراسان، قال اتقوا
الله وكونوا من حيث شئتم! واعلموا أن العبد لو أحسن الاحسان كله، وكانت له
دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين، كله من الكشاف وفيه مبالغة وهذه دليل
على ملاحظة صلة الرحم والأخوان والجيران وفي الأخبار الحث على ذلك مع
مبالغة زائدة جدا كثيرا " ويخشون ربهم " أي وعيده وما يترتب على عصيانه من
العقاب " ويخافون " وعيدا بالخصوص " سوء الحساب " فيجب على المؤمن أن يحاسب
نفسه قبل أن يحاسب كما في الأخبار، مثل ما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: وحاسبوا
قبل أن تحاسبوا، والأخبار في الوعيد والترغيب غير منحصرة، مثل قول الصادق
عليه السلام قال له الراوي: أوصني فقال أعد جهازك، وقدم زادك، وكن وصي
نفسك ولا تقل لغيرك يبعث إليك بما يصلحك (1) روي في الكافي عن حماد بن عثمان عن
أبي عبد الله عليه السلام لما استقصى رجل عن رجل حقه وحسابه شكى إلى أبي عبد الله عليه السلام
فقال له: ما لك ولأخيك؟ قال: جعلت فداك لي عليه شئ فاستقصيت منه حقي
قال أبو عبد الله عليه السلام أخبرني عن قول الله عز وجل: " ويخافون سوء الحساب "
ألربهم أن يجور عليهم أو يظلمهم؟ لا والله، ولكن خافوا الاستقصاء والمداقة (2).

(1) الكافي ج 7 ص 65.
(2) الكافي ج 5 ص 100.
403

" والذين صبروا " على الطاعات واجتناب المعاصي مما تكرهه النفس ويخالفه
الهواء " ابتغاء وجه ربهم " قيل طلبا لثواب الله وطلبا لمرضاته، وامتثالا لأمره
مخلصا لذلك لا لغرض آخر، مثل رياء وسمعة أن يقال ما أصبر فلانا على البلاء وما
أحمله، ولئلا يشمت به الأعداء كقول معاوية لحسن بن علي عليه السلام لما عاده في مرضه
وقام إليه:
بتجلدي للشامتين أريهم * أني لغيض الدهر لا أتضعضع (1)
وأنشد الحسن بن علي عليه السلام بيتا آخر من هذه القصيدة:
وإذا المنية أنشبت أظفارها * رائيت كل تميمة لا تنفع (2)
وأشار إليه في المطول. والعجب أن معاوية ما عرف أن الشماتة فيما فعل
أكثر لأنه أطهر أنه ضعيف، وإنما تجلد لعدم الشماتة، وفيه عين الشماتة، مع
عدم حياء، وأذى حصل له من البيت الثاني. قال في الكشاف: صبروا مطلق فيما يصبر
عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكاليف، ابتغاء وجه ربهم لا ليقال
ما أصبره وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل، ولا لئلا يعاب بالجزع، ولئلا
يشمت به الأعداء كقوله بتجلدي للشامتين أريهم، ولا لأنه لا طائل تحت الهلع
أي الجزع ولا مرد فيه للفائت، ونقل شعرا:
ثم قال: وكل عمل له وجوه يعمل عليها فعلى المؤمن أن ينوي منها ما به كان
حسنا عند الله وإلا لم يستحق به الثواب وكان فعله كلا فعله انتهى. بل قد يكون
معاقبا بالفعل بل قد يكون شركا كما قيل في الريا، فالفعل ليس كلا فعله، ففيها دلالة
على الترغيب بجميع العبادات والصبر على جميع المصائب، في الأفعال والتروك
والأقوال وغيرها، وعلى وجوب النية والاخلاص رزقنا الله وإياكم.
" وأقاموا الصلاة " فعلوها على الوجه المأمور به، وقيل داوموا على فعلها
" وأنفقوا في سبيل الله " وجوبا أو ندبا " مما رزقناهم " أي من الحلال الذي يجوز
الأرزاق والانفاق منه إذ الحرام ليس كذلك، بل ليس برزق منسوب إلى الله تعالى

(1) لريب الدهر.
(2) ألفيت كل تميمة لا تنفع.
404

" ومن " تبعيضية إشارة إلى عدم السرف، فيدخل فيه الأنفاق الواجب على النفس
والزوجة والأبوين والأولاد، والزكوات، والنذورات، والأخماس، و
المندوبات من صلة الأقارب والأخوان، ومطلق صرف المال لله " سرا وعلانية "
أي لا يلاحظ أن هذا عند الناس، وينبغي أن يكون في الخلوة والسر بل يفعله لله
سرا وعلانية، واجبة كانت أو مندوبة، ولا يؤخر لأن في التأخير آفة إذ قد عرفت
أن المدار على النية والاخلاص، وهو أمر قلبي لا يخص بجهر واخفاء، وقد تقع
الرياء في الاخفاء أكثر من الجهر.
ويحتمل أن يكون المراد التعميم لإدراك الفضيلة كما في قوله تعالى " والذين
ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية " مع قول أمير المؤمنين عليه السلام حين سأله
صلى الله عليه وآله عن وجه التقسيم في الليل والنهار والسر والعلانية، ويحتمل
التقسيم للواجب والندب، كما في الكشاف أو يكون للواجب فقط، والتقسيم
بالنسبة إلى من يعرف بأن له مالا، وإلى من لم يعرف به، كما قال القاضي وليسا
بجيدين.
" ويدرؤن بالحسنة السيئة " أي يدفعون بفعل الطاعة المعصية، عن ابن عباس
يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم، وعن الحسن إذا حرموا
أعطوا وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا، وإلى مثل هذا أشار في الأخبار
عنهم عليهم السلام: صل من قطعك ونحو ذلك، وقيل إذا أذنبوا تابوا، وقيل: إذا رأوا
منكرا أمروا بتغييره ويحتمل أن يكون إشارة إلى التكفير أو اللطف مثل قوله
تعالى " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " (1) وأن يكون عامة لدفع جميع القبائح
على الوجه الحسن، ومقابلته ودفعه بالحسن الجميل " أولئك لهم عقبى الدار "
عاقبة دار الدنيا، وما ينبغي أن تكون عاقبة لأهلها، فإن الآخرة هي عقبى الدار
ومنتهاها وهي الجنة التي وعد المتقون، والجملة خبر الموصولات، إن رفعت
بالابتداء وإن جعلت صفات لأولي الألباب فاستيناف لما استوجبوا بتلك الصفات.

(1) العنكبوت: 45.
405

" جنات عدن " بدل من عقبى الدار أو مبتدأ خبره " يدخلونها " والعدن
الإقامة أي جنات لن يموتوا فيها، وقيل هو طبقات الجنة " ومن صلح من آبائهم
وأزواجهم وذرياتهم " من صلح للدخول منهم عطف على المرفوع في يدخلون، و
يحتمل كونه مفعولا معه، والمعنى أنه يلحق بهؤلاء، كأن المراد به المؤمن ليخرج
به الكافر، والتقييد إشارة إلى أن مجرد الأنساب لا ينفع بل لا بد من صلاح في
الجملة، وهو الايمان، وليس المراد الصلاح الكلي وإلا فلا يحتاج للدخول إلى
لحوق الأول بل هو أيضا يدخلون مثلهم، وظاهر الآية أن سبب دخولهم اتصاف
هؤلاء الأول بهذه الصفات، ففيها دلالة على أن الطاعة تنفع المطيع وهؤلاء الآباء
الخ بغير أن يشفع لهم، فكيف مع الشفاعة، والظاهر هو الأول لعدم القيد، و
لأن بالشفاعة يدخل غير هؤلاء أيضا " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب " أي
من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوح والتحف قائلين " سلام عليكم " مبشرين
بالدوام " بما صبرتم فنعم عقبى الدار " " بما " يتعلق بعليكم أو بالسلام أو بمحذوف
أي هذا بما صبرتم، وما مصدرية أو موصول لصبرتم.
" ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم " (1) أي لا ترفعن عينيك إلى
ما متعنا الكفار وأنعمنا عليهم به أمثالا في النعم من الأولاد والأموال وغير ذلك
من زهرات الدنيا، فإنها في معرض الزوال والفناء، مع ما يتبعها من الحساب و
الجزاء، وعلى هذا يكون أزواجا منصوبا على الحال، والمراد به الأشباه والأمثال
وقيل أن معناه لا تنظرن إلى ما في أيديهم من النعم التي هي أشياء يشبه بعضها بعضا
فإن ما أنعمنا عليك وعلى من اتبعك من أنواع النعم وهي النبوة والقرآن و
الاسلام والفتوح وغير ذلك أكثر وأوفر مما آتيناهم وقيل: معناه لا يعظمن في
عينيك ولا تمدهما إلى ما متعنا به أصنافا من المشركين والأزواج والأصناف و
يكون أزواجا على هذا مفعولا به.
نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن الرغبة في الدنيا، فحرم عليه أن يمد عينيه إليها و

(1) الحجر: 88، طه: 131.
406

كان رسول الله صلى الله عليه وآله لا ينظر إلى ما يستحسن من الدنيا هكذا في مجمع البيان و
على هذا على تقدير وجوب التأسي يحرم على أمته أيضا ذلك، إلا أن يكون من
خصائصه صلى الله عليه وآله وليس بمعلوم ولا منقول في خصائصه، والمراد بالنظر المنهي النظر
الراغب الطامع فيه كما صرح به في الكشاف، ويحتمل أن يكون على وجه الحسد
والسلب عن غيره، أو حصوله له من غير وجه شرعي فيحرم عليه وعلى أمته بغير
نزاع فتأمل " ولا تحزن عليهم " أي على كفار قريش بأنهم ما آمنوا، أو نزل بهم
العذاب، أو لا تحزن عليهم بما يصيرون إليه من عذاب جهنم ودلالة هذه أيضا على
تحريم ذلك على أمته مثل ما تقدم وقريب منها قوله " ولا تأخذكهم بهما رأفة في دين
الله " وقوله " واخفض جناحك للمؤمنين " (1) أي ألن لهم جانبك وأرفق بهم، يدل
على وجوب ذلك على الكل كما تقدم.
وأما قوله " فاصدع بما تؤمر " (2) أي أظهره ولا تخفه خوفا وتقية لأن الله يعصمك
عن الناس، فالظاهر أنه من خصائصه إذ يجب على غيره التقية في محلها، أو يحمل
على غير محلها، وأما الترغيب بالتسبيح بقول سبحان الله والحمد لله [ومؤيده
واستعينوا بالصبر والصلاة] (3) عند ضيق القلب وهجوم الغم، والكون من الذين
يسجدون لله وحده ويتوجهون إلى الله بالسجود له، والكون على العبادة إلى أن
يأتي الموت على ما يدل عليه قوله تعالى بعد ذلك " ولقد نعلم أنه يضيق صدرك بما
يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين "
أي الموت، فالظاهر أنه ليس بمخصوص به صلى الله عليه وآله.
" وعباد الرحمن " (4) مبتدأ خبره ما يجئ في آخر السورة " أولئك يجزون
الغرفة " الخ " الذين يمشون على الأرض هونا " صفة لعباد الرحمن، أو خبره و
" أولئك " مبتدأ إشارة إلى عباد الرحمن، ويجزون الخ خبره، في مجمع البيان وغيره
هذه الإضافة للتخصيص والتشريف يريد أفاضل عباد الله كما يقال ابني الذي يطيعني

(1) النور: 2، الحجر: 88.
(2) الحجر: 94.
(3) البقرة: 45 و 153.
(4) الفرقان: 63.
407

وأنا راض عنه فلان، ويكون توبيخا بأن غيرهم ليسوا كذلك، فعباد الله الذين
هم عباده وهو عنهم راض هم المذكورون والموصوفون بالصفات المذكورة، منها
المشي على الأرض هونا: هينين، فيكون حالا أو مشيا هينا، فصفة مفعول مطلق
محذوف وهو السكينة والوقار والتواضع، قال أبو عبد الله عليه السلام هو الرجل يمشي
بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر، وقيل معناه علماء حلماء لا يجهلون
وإن جهل عليهم عن الحسن وقيل أعفاء أتقياء عن الضحاك، والهون الرفق و
اللين، ومنه الحديث أحبب حبيبك هونا ما وقوله صلى الله عليه وآله المؤمنون هينون لينون، و
المثل إذا عز أخوك فهم ومعناه إذا عاسر فيأسره، والمعنى أنهم يمشون بسكينة
ووقار وتواضع ولا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا، ولذلك
كره بعض العلماء الركوب في الأسواق ولقوله " ويمشون في الأسواق " (1) كذا
في الكشاف، فيدل على مرجوحية التبختر وغيره مما ينافي الهون بالمفهوم، بل
هو حرام على بعض الوجوه لما تقدم " ولا تمش في الأرض مرحا " (2).
ومنها " وإذا خاطبهم الجاهلون " بما يكرهونه أو يثقل عليهم " قالوا " في
جوابهم " سلاما " سدادا من القول لا يقابلونهم بمثل قولهم من الفحش، وقيل: قولا
يسلمون فيه عن الإثم والإيذاء أو تسلما منكم ومتاركة لكم لا خير بيننا ولا شر ولا
نجاهلكم ونتسلم منكم تسلما فأقيم ذلك السلام مقام التسليم ولا ينافيه آية القتال لتنسخه
فإن المراد هو الاغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام، والمراد بالجهل هنا
السفه وقلة الأدب، وسوء الرعة، فيدل على مرجوحية مقابلة الجاهل بالجهل.
ومنها " والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما " في الكشاف البيتوتة خلاف
الظلول، وهو أن يدركك الليل نمت أو لم تنم، وقالوا من قرأ شيئا من القرآن
في صلاته وإن قل فقد بات ساجدا وقائما، وفيه إبهام وبعد، والقائلون غير
ظاهرين ثم قال: وقيل هما الركعتان بعد المغرب، والركعتان بعد العشاء، و
الظاهر أنه وصف لهم باحياء الليل كله أو أكثره، يقال فلان يظل صائما ويبيت

(1) الفرقان: 20.
(2) أسرى: 37.
408

قائما، والظاهر هو الظاهر ولا يبعد تحققه بالأكثر في الليالي والليلة إذ الكل
بعيد، والخروج عن العهدة مشكل وللعيون والزوجات مثلا حق كما يدل عليه
بعض الأخبار، ويدل عليه قوله " يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص
منه قليلا أو زد عليه ".
وفي الذكرى أن الاحياء يحصل بمضي أكثر الليل، وأيضا في العرف إذا
فعل في أكثره ذلك يقال له فعل ذلك، والمراد أنهم يصلون في الليل ويسجدون
فيه، في وقت ينبغي أن يسجد ويقام فيه يقومون ويسجدون فيه، وهما جمع ساجد
وقائم، ويحتمل المصدر للمبالغة، قيل: وتأخير القيام للروي وتخصيص البيتوتة
لأن العبادة بالليل أحمز، وأبعد من الريا، فيدل على رجحان هذا الوصف
ومرجوحية خلافه.
في مجمع البيان: قال الزجاج كل من أدركه الليل فقد بات، نام أو لم
ينم والمعنى يبيتون لربهم بالليل في الصلاة ساجدين وقائمين، طالبين لثواب ربهم
فيكونون سجدا في مواضع السجود وقياما في مواضع القيام.
ومنها " والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما "
أي يدعون بهذا القول " إنها ساءت مستقرا ومقاما " أي إن جهنم بئس
موضع قرار وإقامة هي، في الكشاف " غراما " هلاكا وخسرانا ملحا لازما ومنه
الغريم لالحاحه ولزامه، وصفهم باحياء الليل ساجدين وقائمين، ثم عقبه بذكر
دعوتهم هذه إيذانا بأنهم مع اجتهادهم في العبادة خائفون متبتلون إلى الله في
صرف العقاب عنهم كقوله " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ". " ساءت " في
حكم بئست وفيها ضمير مبهم يفسره مستقرا، والمخصوص بالذم محذوف، معناه
ساءت مستقرا ومقاما هي، فتدل على أن قول هذا والدعاء به حسن، وتركه
ليس من دأب المؤمنين.
ومنها " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " قيل: الاسراف هو النفقة
في المعاصي والاقتار الامساك عن حق الله عن ابن عباس، وقتادة، وقيل السرف
409

مجاوزة الحد في النفقة، والاقتار التقصير عما لا بد منه عن إبراهيم النخعي، و
روي عن معاذ أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله فقال من أعطى في غير حق فقد
أسرف، ومن منع من غير حق فقد قتر، وروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه
قال: ليس في المأكول والمشروب سرف وإن كثر، " وكان بين ذلك قواما " أي
وكان انفاقهم بين الاسراف والاقتار لا إسرافا فيدخلون في المبذر، ولا تضييقا فيصيرون
به في المانع لما يجب، وهذا هو المحدود، والقوام من العيش ما أقامك وأغناك
وقيل القوام بالفتح العدل، وبالكسر ما يقوم به الأمر ويستقر عن ثعلب، وقال
أبو عبد الله عليه السلام: القوام هو الوسط، وقال عليه السلام: أربعة لا يستجاب لهم دعوة إلى
قوله " ورجل كان له مال فأفسده فيقول يا رب ارزقني، فيقول ألم آمرك بالاقتصاد؟ (1)
في الكشاف القتر والاقتار التضييق الذي هو نقيض الاسراف، والإسراف مجاوزة
الحد في النفقة، وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقتير، وبمثله أمر رسوله
صلى الله عليه وآله " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " (2)
وقيل: الاسراف إنما هو الأنفاق في المعاصي، فأما في القرب فلا إسراف، وسمع
رجل رجلا يقول: لا خير في الاسراف فقال لا إسراف في الخير ويؤيده ما في الصحيح
عنه صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: وأما الصدقة فجهدك حتى تقول قد أسرفت ولم تسرف.
ثم قال القوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما، ونظير القوام
من الاستقامة السواء من الاستواء وقرئ قواما بالكسر وهو ما يقام به الشئ، يقال
أنت قوامنا يعني ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص، والمنصوبان أعني " بين
ذلك قواما " جايز أن يكونا خبرين معا، وأن يجعل " بين ذلك " ظرفا لغوا و " قواما "
مستقرا وأن يكون الظرف خبرا وقواما حالا مؤكدة.
" والذين لا يدعون " الآيات، أي أولئك كما هم موصوفون بتلك الصفات
الوجودية مبرؤون عن هذه الصفات المقبحة التي اتصف أعداؤهم أي المشركون بها

(1) راجع الكافي ج 6 ص 279، ج 2 ص 510.
(2) أسرى: 29.
410

من الشرك وقتل النفس بغير حق والزنا " ومن يفعل ذلك يلق أثاما " [يضاعف إثمه]
أي يأثم بالشرك وغيره، وهم مخلدون في النار إلا التائب المؤمن الذي يعمل عملا فإنه
يبدل الله سيئاته حسنات أي يمحوا سيئاته بالتوبة ويثبت مكانها الحسنات والطاعة
والتقوى، وكذا " لا يشهدون الزور " لا يجلسون ولا يحضرون مجالس الخطائين
ولا يقربونها تنزها وصيانة لدينهم، لأن مشاهدة الباطل على وجه الرضا به شرك
فيه، ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة: هم شركاء فاعلية في
الإثم، لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به، وسبب وجوده، لأن الذي سلطه
على فعله هو استحسان النظارة في النظر، ورغبتهم إليه، ويحتمل أن يكون
لا يشهدون شهادة الزور أي لا يكذبون في الشهادة، فحذف المضاف وأقيم المضاف
إليه مقامه.
" وإذا مروا باللغو مروا كراما " اللغو كل ما ينبغي أن يلغي ويطرح، و
المعنى وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به، مروا معرضين عنه مكرمين أنفسهم
عن التوقف عليهم والخوض معهم كقوله " وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه " (1) وإذا
ذكروا بآيات الله، أي إذا سمعوا بها أكبوا عليها حرصا على استماعها وأقبلوا
سامعين والعاملين بها والمتعظين، لا كالأصم والأعمى، ويدعون ويقولون
في دعائهم " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " أي ارزقنا من الأزواج
والأولاد أزواجا وأعقابا يكونون قرة عين لنا نسر بهم، فيكون عملهم الطاعة و
التقوى وما كان الله راض به " واجعلنا للمتقين إماما " وأن يكونوا للمتقين
التابعين لله مخالطا وإماما لهم يقتدون بهم في دينهم للعلم والعمل، وذلك موجب
للجزاء العظيم المذكور بقوله " أولئك يجزون " الآية، وبالجملة الآيات الشريفة
دالة على راجحية وحسن هذه الأوصاف الوجودية، وأن لها دخلا في كمال
الايمان مثل المرور باللغو كراما ومرجوحية الصفات القبيحة مثل الشرك والريا (2)
فلا بد من الاتصاف بالأول وترك الثواني، الله الموفق.

(1) القصص: 55.
(2) الزنا خ.
411

وفي قوله " والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون
ما لا يفعلون " (1) دلالة على كون الشعر صفة ذم وكذا متابعة الشعراء ويدل عليه الأخبار
أيضا حتى ورد إعادة الوضوء بقراءة ما زاد على ثلاثة أبيات إلا أن يراد ما هو الباطل
منه. في الكشاف: " الشعراء " مبتدأ " ويتبعهم الغاوون " خبره، ومعناه أنه لا
يتبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم وما هم عليه من الهجاء والتمزيق بالأعراض
والقدح في الأنساب، ومدح من لا يستحق المدح، ولا يستحسن ذلك منهم إلا
الغاوون والسفهاء ويؤيد التخصيص وجود الأشعار عن العلماء والصلحاء، بل عن
الأئمة عليهم السلام والظاهر أنه إذا كان مشتملا على النصيحة والحكمة والمباحات و
الحق والمراثي والمدح لأهل البيت عليهم السلام لا يذم، ويدل عليه قوله تعالى " إلا
الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا ". في الكشاف استثنى الشعراء
المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن، وكان ذلك أغلب عليهم
من الشعر، أو إذا قالوا شعرا قالوه في توحيد الله والثناء عليه والحكمة والموعظة
والزهد والآداب الحسنة، ومدح رسول الله صلى الله عليه وآله والصحابة وصلحاء الأمة، و
ما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب، ولا يتلبسون بشائبة، ولا
منقصة الخ، وتدل أيضا على مذمة الخوض في الأمور من غير علم، وكذا القول
بما لم يفعل، وهو مذموم جدا ودلت عليه الآيات والأخبار.
ويدل على مرجوحية الفرح في الدنيا قوله " لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين "
وكذا " فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا " (2) في الكشاف وذلك أنه لا يفرح بالدنيا
إلا من رضي بها واطمأن إليها فأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيها
عن قريب لم تحدثه نفسه بالفرح، ويدل على تحريم التكبر والعلو والفساد بل
إرادتها أيضا فيدل على تحريم قصد المحرم بمجرده من غير فعله فافهم.
" ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها

(1) الشعراء: 224.
(2) القصص: 28، براءة 72.
412

هزوا أولئك لهم عذاب مهين " (1) في الكشاف إضافة اللهو إلى الحديث معناها التبيين
وهي الإضافة بمعنى من - إلى قوله: ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من التبعيضية
كأنه قيل ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه، واللهو كل
باطل ألهى عن الخير وعما يعني، ولهو الحديث هو السمر بالأساطير والأحاديث
التي لا أصل لها، والتحدث بالخرافات والمضاحيك، وفضول الكلام وما لا ينبغي
من كان وكان، ونحو الغنا وتعلم الموسيقار وما أشبه ذلك وفي حديث النبي صلى الله عليه وآله
لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا التجارة فيهن ولا أثمانهن وعنه عليه الصلاة
والسلام ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا
المنكب، والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو
الذي يسكت وقيل الغنا منفذة للمال مسخطة للرب مفسدة للقلب (2).
الغناء مشهور فكل ما يسمى في العرف بها فهو محرم إذ لا معنى له شرعا قيل
هو ترجيح الصوت المطرب وما اعتبر المطرب بعض، والأصل أن تحريمه ثابت
فكل ما يقال إنه غناء فهو حرام إلا ما استثني مثل الحداء فإن ثبت اعتبار الترجيع
والطرب في الغنا فهو المحرم فقط، وما نعرفه، وإلا فيحرم الكل، والاحتياط
في ترك الكل.
في الكشاف: والمراد بالحديث هنا الحديث المنكر كما جاء في الحديث
الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش. في مجمع البيان:
وأكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغنا، وهو قول ابن عباس وابن
مسعود وغيرهما، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام وأبي الحسن
الرضا عليه السلام قال منه الغنا وروي أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال هو الطعن في
الحق والاستهزاء به إلى قوله: فعلى هذا فإنه يدخل فيه كل شئ يلهي عن سبيل
الله وعن طاعته من الأباطيل والمزامير والملاهي والمعازف، ويدخل فيه السخرية

(1) لقمان: 6.
(2) راجع تفسير الكشاف ذيل الآية الشريفة.
413

بالقرآن واللغو فيه وكل لهو ولعب والأحاديث الكاذبة والأساطير الملهية عن
القرآن، والظاهر حينئذ أنه يدخل فيه القصص والحكايات السالفة التي لا فايدة تحتها، بل جميع الأشياء التي ليس بعبادة فتأمل، ولكن قد يخص بالمعاصي فتأمل.
" ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك
وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقيها إلا الذين صبروا وما يلقيها إلا ذو حظ
عظيم " (1) في الكشاف يعني أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ بالحسنة
التي هي أحسن من أختها، إذا اعترضتك حسنتان، فادفع بها السيئة التي ترد
عليك من بعض أعدائك، ومثال ذلك رجل أساء إليك إساءة فالحسنة أن تعفو عنه
والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل أن يذمك فتمدحه، ويقتل
ولدك فتفدي ولده من يد عدوه، فإنك إذا فعلت ذلك، انقلب عدوك المشاق مثل
الولي الحميم، مصافة لك. ثم قال: وما يلقى هذه الخليقة والسجية التي هي
مقابلة الإساءة بالإحسان إلا أهل الصبر وإلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير
ويحتمل كون لا رائدة والمعنى ليستا بمتساويين وعدم الفاء يؤيده والأحسن
يؤيد الأول.
" وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله " أي منه " إنه هو السميع
العليم " فأكد العمل بتلك السجية بأنه إن منعك وصرفك الشيطان عن هذا العمل
الحسن الموجب للأجر العظيم، فإنه عدو يمنع عنه، فاستعذ منه فإنه يندفع عنك
ومثلها " جزاء سيئة مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على الله " (2) والمعنى أنه
تجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة، فإذا قال له أخزاك الله يقول
أخزاك الله، وعن النبي صلى الله عليه وآله إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان له على الله
أجر فليقم، قال فيقوم خلق، فيقال لهم: ما أجركم على الله؟ يقولون: نحن الذين
عفونا عمن ظلمنا، فيقال له ادخلوا الجنة بإذن الله.
يجب السجود عند قراءة هذه الآية " ومن آياته الليل والنهار والشمس

(1) فصلت: 35 - 37.
(2) الشورى: 40.
414

والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون *
فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون " (1) بالنص
والاجماع، قيل موضعه " تعبدون " لقربه من الأمر بالسجود وفيه تأمل، فإن هذا
الأمر لا يدل على وجوبه عند قراءتها، وهو ظاهر، وقيل لا يسأمون وهو مذهب
الأكثر لتمام المعنى ولأن الأصل عدم الوجوب وقد تحقق حينئذ بالإجماع ولعل
الفعل حينئذ أحوط، إذ وجوبها فوريا بحيث يضر هذا المقدار من التأخير للاحتياط
غير ظاهر ويمكن كون الأحوط السجدة مرتين " وجعل لكم من الفلك والأنعام
ما تركبون " (2) أي تركبونها وتركبونه حذف الضمير الأول لدلالة الثاني عليه
" لتستووا على ظهوره " وظاهره مختص بالأنعام، ويحتمل العموم قال في الكشاف
على ظهور ما تركبون، وهو الفلك والأنعام " ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم
عليه " تكرار للمبالغة " وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا
إلى ربنا لمنقلبون " وروي في أخبار أهل البيت عليهم السلام قراءة هذه الآية وبعدها
" الحمد لله رب العالمين " عند الركوب (3) وكذا آية " بسم الله مجريها " في السفينة.
في الكشاف: ومعنى ذكر نعمة الله عليهم أن يذكروها في قلوبهم معترفين بها
مستعظمين لها، ثم يحمدوا عليها بألسنتهم، وهو ما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه كان
إذا وضع رجله في الركاب قال " بسم الله " فإذا استوى على الدابة قال الحمد لله
على كل حال سبحان الذي إلى قوله لمنقلبون، وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا. وقالوا
إذا ركب السفينة قال " بسم الله مجريها ومرسيها، إن ربي لغفور رحيم ".
وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما أنه رأى رجلا ركب دابة فقال سبحان
الذي سخر لنا هذا فقال أبهذا أمرتم فقال وبم أمرنا؟ قال أن تذكروا نعمة ربكم
كان قد أغفل التحميد، فنبهه عليه، وهذا من حسن مراعاتهم لآداب الله، ومحافظتهم
على دقيقها وجليلها، جعلنا الله من المقتدين بهم، وسايرين بسيرتهم. مقرنين مطيعين

(1) فصلت: 38 و 39. وقد مر البحث عنها في آيات العزائم.
(2) الزخرف: 12.
(3) الفقيه ج 2 ص 178.
415

" لمنقلبون " أي راجعون إلى الله تعالى، ولما كان ركوبهما قد يؤل إلى الهلاك
فقد أمروا أن يذكروا، ويجعلوا أنفسهم كالهالكة الراجعة إلى الله، والغرض عدم
الغفلة عن الله في كل حال والسلام.
فيها دلالة على جواز ركوب البحر بالفلك، وركوب الأنعام، وأنهما نعمة
من الله على عباده، واستحباب ذكر نعم الله بعد الوصول إليها والشكر عليها، و
استحباب قول " سبحان الذي " إلى آخره بعد الركوب وإضافة الحمد.
ويدل على استحباب وسم موضع السجود، بأن يظهر أثره فيه لكثرته قوله
" سيماهم " علامتهم " في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم " الخ (1).
وفي قوله " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " (2) في القاضي:
مستعار مما بين الجبهتين المتسامتتين، والمعنى لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكم الله
ورسوله فيه، فلا تحكموا بأمر من أمور الدين، قبل علمكم بأنه بينه الله ورسوله
فلا تقولوا ولا تفعلوا شيئا على أنه أمر من أمور الدين إلا أن تعلموا أنه مما قاله الله
تعالى ورسوله دلالة على تحريم الفعل والقول من غير علم، لعله يريد بالعلم أعم
من الظن المعمول به في الفقه، أو يؤل ذلك إلى العلم كما مر مرارا.
ويدل على عدم جواز التسخر والاستهزاء بالمؤمنين وتحريمه قوله " يا أيها
الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن
يكن خيرا منهن " (3).
أي لا يسخر بعض المسلمين والمسلمات بعضهم، وإنما اقتصر في الأول على المسلمين
وفي الثانية على المسلمات للوقوع والكثرة إذ قد يكون المسخور منه خيرا عند الله
من الساخر، وظاهره أن القوم مخصوص بالرجال كالنساء بالمرأة، ويحتمل العموم
وخص هنا للمقابلة " ولا تلمزوا أنفسكم " أي ولا يعيب بعضكم بعضا فإن المؤمنين
كنفس واحدة، واللمز الطعن باللسان " ولا تنابزوا بالألقاب " أي ولا يدعوا بعضكم

(1) الفتح: 29.
(2) الحجرات: 1.
(3) الحجرات: 11.
416

بعضا باللقب السوء الذي لا يرضى به صاحبه، النبز مختص باللقب السوء عرفا
" بئس الاسم الفسوق بعد الايمان " أي بئس الجمع بين الايمان والفسق، فلا يطلق
الفاسق على المؤمن، وفيه إشعار بعدم الاجتماع بينهما فتأمل " ومن لم يتب " عما
نهي عنه " فأولئك هم الظالمون " بوضع العصيان موضع الطاعة، وتعريض النفس
للعذاب.
" يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن " (1): أي كونوا على جانب منه
وإنما ذكر الكثير ليحتاط في كل ظن، ويتأمل حتى يعلم أنه من أي قبيل
من الظن، فإن منه ما يجب اتباعه كالظن، حيث لا قاطع فيه من العمليات، و
حسن الظن بالله، وما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات والإمامات وحيث يخالفه
قاطع، وظن السوء بالله وبالمؤمنين، ومباح كالظن في أمور المعاش " إن بعض
الظن إثم " تعليل للأمر، والإثم الذنب الذي يستحق به العقاب " ولا تجسسوا ":
ولا تبحثوا عن عورات المسلمين، والنهي عن تتبع عورات المسلمين في الأخبار كثير
مثل لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه
ولو في جوف بيته (2).
" ولا يغتب بعضكم بعضا " أي لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء قولا أو فعلا إشارة
وكناية، وصريحا، وبالجملة هي ما يفهم من قوله صلى الله عليه وآله حين سئل عن الغيبة ذكرك
أخاك بما يكره، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته، لعل المراد
بالذكر إظهار ما يكره باللسان وغيره، كما ذكره العلماء وصرح به في الروايات
" أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا " تمثيلا لما يناله المغتاب من عرض المغتاب
على أفحش وجه، مع مبالغات: الاستفهام المقرر، والاسناد إلى أحد، فإنه للتعميم
وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الانسان، و
جعل المأكول لحم الأخ الميت، وتعقيب ذلك بقوله " فكرهتموه " تقريرا وتحقيقا
لذلك، والمعنى إن صح ذلك أو عرض عليكم فقد كرهتموه، ولا يمكنكم إنكار

(1) الحجرات: 12.
(2) الكافي ج 2 ص 354.
417

كراهته، وانتصاب " ميتا " على الحال من اللحم، أو الأخ.
" واتقوا الله إن الله تواب رحيم " لمن اتقى ما نهي عنه، وتاب عما فرط
منه، وكان في قوله " ولا يغتب بعضكم بعضا " إشارة إلى جواز غيبة الكافر، والمعنى
خصوا أيها المؤمنون أنفسكم بالانتهاء عن غيبتها والطعن فيها، ولا عليكم أن تعيبوا
غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله
اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس، فيه تأمل إلا أن يقصد حذر الناس عنه
فيذكر ما فيه لذلك مع الحاجة فتأمل.
" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا
إن أكرمكم عند الله أتقيكم " (1) في الكشاف المعنى أن الحكمة التي من أجلها رتبكم
على شعوب وقبائل، هي أن يعرف بعضكم نسب بعض، فلا يعتزي إلى غير آبائه لا
أن تتفاخروا بالآباء والأجداد، وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب، ثم بين
الخصلة التي بها يفضل الانسان غيره، ويكتسب الشرف والكرم عند الله، فقال:
" إن أكرمكم عند الله أتقيكم " لا أنسبكم، عن النبي صلى الله عليه وآله يا أيها الناس إنما
الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، ثم قرأ الآية
وعنه صلى الله عليه وآله أنه لما مات غلام أسود يحضر الجماعة فتولى عنه غسله ودفنه، فدخل على
المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت " إن أكرمكم " الآية.
" أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى " (2) أي تمم وأكمل ما
أمر به " ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " أي سعيه " إن "
هي المخففة من المثقلة وهي مع ما بعده في محل الجر بيان لما في صحف موسى و
إبراهيم، أو في محل الرفع خبر مبتدأ محذوف، أي " هو ألا " كأنه قيل: ما كان
في صحف موسى وإبراهيم فأجاب به " وأن ليس " عطف عليه، والمعنى لا يؤاخذ
أحد بذنب آخر ولا يثاب بفعل غيره، ولا ينافي الأولى " ومن قتل نفسا بغير نفس
أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " (3) وقوله عليه السلام من سن سنة سيئة فله

(1) الحجرات: 13.
(2) النجم: 36.
(3) المائدة: 32.
418

وزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وهو ظاهر.
نعم ينافيه مؤاخذة العاقلة في الخطأ فخرج بالنص والاجماع، وقيل لا ينافي
الأخيرة ما هو المقرر في الشرع من انتفاع الناس بعمل ولده وأخيه من الصدقة
والحج، بل الصلاة والصوم وغيرهما مما يفعل له بعده، لأن سعي غيره كأنه
سعي نفسه، وهو أن يكون مؤمنا صالحا لذلك فهو مبني على سعيه ونتيجته، و
لهذا لو لم يكن مؤمنا لم ينفعه سعي غيره أصلا، ولأن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله
لنفسه، ولكن إذا نواه له، فهو بحكم الشرع، كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه
فيهما تأمل، إذ لا شك أن الثواب الواصل إليه مثلا من الصدقة هو ثواب الصدقة
وهي ليست فعله، وفعل النائب أيضا على تقدير التسليم ليس فعل المنوب، فليس
الثواب مترتبا على فعله، وهو ظاهر.
ويمكن أن يقال إنه من دين موسى وإبراهيم عليهما السلام وأن يقال: لما ثبت
بالنص والاجماع وصول ثواب إلى شخص بفعل غيره مثل ما تقدم، لا بد من تخصيص
هذه الآية بهما وليس ذلك بعزيز، وأن يقال معناه أن ليس له ابتداء إلا جزاء
سعيه، وهذا ليس له ابتداء بل لغيره ثم أعطاه إياه، كالتفضل الذي يتفضل الله
تعالى به، وأن يقال ليس له حق واجب يستحق طلبه إلا جزاء عمله وسعيه فتأمل
أو يقال معناه ليس للإنسان مطلقا جزاء إلا جزاء عمل انسان، وليس فيه تصريح
بأن ليس لأحد إلا جزاء عمله فتأمل.
" ولا تمنن تستكثر " (1) قيل: مرفوع لفظا منصوب محلا على الحالية عن فاعل
" تمنن " أي ولا تعط مستكثرا ورائيا عادا لما تعطيه كثيرا عظيما معتبرا في نظرك
بل عده حقيرا كاللا شئ، ويحتمل كون المن بمعنى مطلق الاحسان، قال في
القاموس من عليه منا أنعم واصطنع عنده صنيعة ومنه امتن. كما ورد في الروايات
أن المحسن ينبغي أن يعد إحسانه إلى الغير حقيرا بل كالعدم وينساه، بخلاف
الاحسان إليه فإنه ينبغي أن يعده عظيما ولا ينساه، وإن كان قليلا وحقيرا

(1) المدثر: 6.
419

فالاستكثار قد يكون حراما إذا لم يكن على الوجه المأمور به، خصوصا إذا استلزم
أذى المعطى، فيضيع ماله ويحصل العقاب به من جهة الأذى والإسراف والتبذير
وإليه أشير في قوله تعالى " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " و " ثم لا يتبعون
ما أنفقوا منا ولا أذى " (1) فيكون النهي للتحريم وراجعا إلى القيد.
قال في الكشاف: أو طلبا لعوض كثير من الموهوب له، فيكون نهيا عن
الاستعزار، وهو أن يهب شيئا وهو يطمع أن يتعوض من الموهوب له أكثر من
الموهوب، والظاهر أن هذا جايز في نفسه، إلا أن يضم إليه ما يحرمه، فيكون
النهي للتنزيه والكراهة، أو يكون حراما ومخصوصا به صلى الله عليه وآله كسائر خصائصه
قاله في الكشاف والقاضي ولكنه غير معلوم الكراهة، إذا كان برضى فإن الهبة
على طريق المعاوضة برضا الطرفين لم يظهر وجه كراهتها، وما قالها الفقهاء أيضا
وما عد من خصايصه أيضا إلا أن يكون عندهم كذلك لهذه الآية.
وقال فيهما أيضا إنه قرئ منصوبا بتقدير " أن " وقد قرئ بها، ويحتمل
حذفها على تقدير الرفع أيضا مع إبطال عملها كما روي القرائتان في أحضر في قول
الشاعر: ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى، أي من أن أحضر الحرب والمعركة
وقرئ أيضا بالجزم بدلا عن تمنن فيجزم بلا مثله ويكون حينئذ من مقولة قوله
تعالى " ثم لا يتبعون " الآية وعلى الأول من العطية كما يظهر من الكشاف وفيه
تأمل، إذ قد عرفت أن الأولى في الأول كونه بمعنى مطلق الاحسان واصطناع
المعروف وفي غيره أيضا يصح العطية وأن قراءة النصب من الشواذ مع إظهار أن
وعدمه، وإن حذف " أن " خصوصا مع العمل إذا لم تكن ظاهرة، ويكون الأمر
ملتبسا غير مستحسن، سيما في كلام الله تعالى وظاهر حذفه في الشعر فإنه من دون
تقديره لا معنى له، وأن البدل إذا كان جملة عن جملة أخرى لا يعمل في لفظ البدل
ما يعمل في لفظ مبدله، فإن البدل الذي يعرب باعراب مبدله من التوابع المعربة

(1) البقرة: 264 و 266.
420

باعراب مبدلها وهي في المفرد بل الاسم كما هو مذكور في كتب العربية المشهورة.
والظاهر أن حكم التوابع غير مخصوص بالاسم وإن خصه في الكافية به
لأنه يجري في الفعل أيضا وهو كثير في القرآن وغيره في العطف، نعم لا يكون ذلك
في الجمل إلا مع وقوعها في محل الاعراب وهو ظاهر فيحتمل أن يكون الجزم آخرا
لحكم الوقف في الوصل أيضا قاله في الكشاف والقاضي أيضا أو لمناسبة " ولا تمنن "
وهو بعيد.
" ولربك فاصبر " أي لوجه الله والتقرب به، وامتثال إرادته لا غير، اصبر
على جميع المشاق من التكاليف بفعل الطاعات وترك المعاصي خصوصا على ما يحصل
لك من الأذى في التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث لا يظهر منك
شكاية، وشئ يوجب الحرمان من الثواب، فإن أجر الصبر كثير " إنما يوفى
الصابرون أجرهم بغير حساب " (1) فيدل على وجوب الصبر على المحن على أمته
كذلك، فيمكن عدم سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لحصول أذى قليل
فتأمل.
ثم ذكر الله في آخر هذه السورة ما يدل على وجوب الصلاة، ووجوب إطعام
المسكين، وتحريم الخوض في الباطل على الكفار أيضا وأن خلافها موجب لدخول
النار بقوله تعالى " في جنات يتسائلون " (2) أي يسأل أهل الجنة الذين هم أصحاب
اليمين الذين تعطى كتبهم بأيمانهم يوم القيامة، روي في مجمع البيان أنه قال الباقر عليه السلام:
نحن وشيعتنا أصحاب اليمين " عن المجرمين " عن ذنوبهم التي استحقوا بها السلوك
والوقوع في النار بقولهم لهم: " ما سلككم في سقر؟ قالوا لم نك من المصلين " تركناها
" ولم نك نطعم المسكين " تركنا إطعامهم " وكنا نخوض مع الخائضين " قالوا
المراد ترك الصلاة الواجبة وترك الزكاة والخوض والشروع في الباطل، مع من
يفعل ذلك، ويحتمل التعميم إلا أن العقاب إنما يترتب على ترك الواجب وفعل
المحرم، ويمكن في الاطعام كونه شاملا للكفارات والاطعام حال الضرورة.

(1) الزمر: 1.
(2) المدثر: 40 - 45.
421

وبالجملة ينبغي العمل بالعمومات غير ما استثني ويؤيده التأكيد في
حال الاطعام في قوله تعالى: " ولا يحض على طعام المسكين " (1) فإن ترك الترغيب
والتحريص والحض على إطعامهم جعل قرين عدم الايمان بالله، والموجب لدخول
الجحيم، والكون في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا، وعدم صديق وحميم له، وعدم
طعام إلا من غسلين، الذي لا يأكله إلا الخاطئون المذنبون، فكيف تارك فعله فلا
ينبغي ترك إطعام مسكين إن قدر خصوصا إذا سأل والله الموفق.
ومن أعظم المرغبات في الاطعام ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام ونزل بذلك سورة
هل أتى قال في الكشاف وروي عن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا فعادهما
رسول الله صلى الله عليه وآله في ناس معه فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر علي و
فاطمة وفضة جارية لهما إن برءا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهم شئ
فاستقرض علي عليه السلام من شمعون اليهودي الخيبري ثلاثة أصوع من شعير فطحنت
فاطمة صاعا وأخبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا
فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين
أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فأثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا
صياما، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فأثروه، ووقف
عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين
رضي الله عنهما فأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من
شدة الجوع قال ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة
في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبرئيل عليه السلام
وقال: خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة:
وهذه صريحة مع الشهرة العظيمة بين الخاصة والعامة في كونها مدنية، و
مع ذلك كتب مكية في بعض المواضع، حتى عنوان السورة في الكشاف والقاضي
ونقل الشيخ أبو علي الطبرسي قدس الله روحه الشريفة الروايات عن ابن عباس

(1) الحاقة: 34،
422

باسناده في الطريقين وعن الحسن تفصيل كون السور بالترتيب مكية ومدنية و
ذكر هل أتى في المدنية، ونقل عن ابن عباس عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال أخبرني
رسول الله ثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء وذكر أيضا تفصيل السور
بترتيب النزول في مكة والمدينة وذكر السورة في المدنية وتفصيل عددها وآيها
وحروفها، وقال: جميع سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وجميع آيات
القرآن ستة آلاف آية ومائتا آية وست وثلاثون آية، وجميع حروف القرآن
ثلاثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائتان وخمسون حرفا الحديث. فيجب
أن يغير مكية بمدنية، وترك العناد والعصبية والبغض لأهل بيت النبوة عليهم
من الله أفضل الصلاة والتحية، وعلى من يبغضهم ألف ألف لعنة.
ثم اعلم أن فيها دلالة على كون النذر موجبا لرفع المحن خصوصا المرض
فيستحب النذر لدفع البلية والمشقة خصوصا المرض، ويجب الوفاء، بها وبغيرها
من الآيات والأخبار والاجماع، وأنها صريحة في كونهم أهل البيت الذين أذهب
الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأن لهم عند الله شأنا عظيما ومقاما كريما
وأن مجرد حصول أذى لهم ولو بجوع في سبيل الله يسوء رسول الله أشد سوء ويؤذيه
وذلك يدل على حصول كمال الأذى له بأذاهم بأخذ حقوقهم، ومنعهم عنها، و
تكذيبهم وخذلانهم، فكيف ببغضهم وقتلهم، فلا شك أن ذلك موجب لغضب الله و
الكفر به، كما ذكره صاحب الكشاف في تفسير " لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة
في القربى " (1).
ثم اعلم أنها أيضا تدل على حسن الاطعام واستحبابه والإيثار، ولو كان
ما يطعم به قرضا، وإن بقي بلا طعام مع أهله وأولاده ومملوكه مع كونهم صائمين
بل مع عدم احتياج المطعم إلى أكل جميع ما أطعم به مثل احتياجهم، إذ قد يندفع
جوعه ويحصل حاجته ببعض الأقراص فلا سرف ولا تبذير في القربات كما هو مشهور
ويدل عليه الآيات والأخبار مثل صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام

(1) الشورى: 23.
423

في وصية رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين عليه السلام يا علي أوصيك بوصية فاحفظها، وقال
اللهم أعنه، ومنها وأما الصدقة فجهدك حتى تقول قد أسرفت ولم تسرف، فلعل
قوله تعالى " ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا " محمول على ما ذكرناه
فتأمل.
والظاهر أنه غير مختص بهم عليهم السلام، بل كل من فعل ذلك لله فقط لا غير
له مثل ذلك الأجر للتأسي، قال في مجمع البيان: وهي جارية في كل مؤمن فعل
ذلك لله عز وجل، فما قال في التذكرة من أن التاجر لو صرف جميع ماله في
القربات فهو تبذير بالنسبة إليه للآية محل التأمل، وهو أعرف قدس سره وأيضا
يدل على حسن الصبر بل على وجوب الإيفاء بالنذر، حيث يفهم من سوق الآية أن
تركه موجب للعقاب.
" إن الأبرار " جمع بر أو بار، قيل هم الذين لا يؤذون الذر، وقد ظهر
مما سبق أنهم أهل البيت عليهم السلام " يشربون من كأس " الزجاجة إذا كانت فيها خمر
وتسمى الخمر أيضا به " كان مزاجها كافورا " يمزج به ماء كافور، وهو اسم عين
في الجنة ماؤها مثل الكافور في البياض والريح والبرد " عينا " بدل من " كافورا "
" يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا " يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم [وقد ظهر
أنهم أهل البيت عليهم السلام] " يوفون بالنذر " قال في الكشاف والقاضي: جواب من عسى
يقول: ما لهم يرزقون ذلك؟ والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء
الواجبات، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه
أوفى " ويخافون يوما كان شره مستطيرا " منتشرا " ويطعمون الطعام على حبه "
قال فيهما: الضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونحوه " وآتى المال على
حبه " " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " (1) ويحتمل الاطعام والله: أي على
حب الله أي خالصا، ويدل على المبالغة " إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء
ولا شكورا " قال في الكشاف: على إرادة القول أي حال كونهم قائلين، ويجوز

(1) البقرة: 172، آل عمران: 87.
424

أن يكون قولا باللسان منعا لهم على المجازات بمثله أو بالشكر، وقال القاضي:
على إرادة القول بلسان الحال والمقال، إزاحة لتوهم المن وتوقع المكافاة
المنقصة للأجر.
قيل: لما علم الله كونه خالصا لوجهه لا يشوبه شئ من الأغراض، وما ينقص
الثواب، قال " إنما نطعمكم " بيانا لحالهم، وهو المراد بإرادة القول ولسان الحال
للإشارة إلى أنه هكذا ينبغي أن يفعل الطاعات بأن لا يفعل إلا لله، كما روي عن
أمير المؤمنين عليه السلام " ما عبدت طمعا للجنة ولا خوفا من النار، بل وجدتك أهلا
لها فعبدتك.
" إنا نخاف من ربنا " أي نخاف بقصد غير ربنا من العذاب " يوما عبوسا "
أي يعبس فيه وجوه من يريد بطاعة الله غير الله، وغيرهم من الظالمين، ويحتمل أن
سبب الاطعام هو الخوف ورجاء الخلاص منه " فوقاهم الله " فحفظهم الله بسبب خوفهم
عن ذلك اليوم ويحفظهم عنه بالطاعات وترك المعاصي عن " شر ذلك اليوم "
والعقاب فيه " ولقاهم نضرة وسرورا " أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة
أي بشاشة وبياضا وحمرة في الوجوه، وسرورا في القلوب " وجزاهم بما صبروا
جنة وحريرا " قال في الكشاف: جزاهم بصبرهم على الايثار وما يؤدي إليه من
الجوع والعرى " جنة " بستانا فيه مآكل هني " وحريرا " فيه ملبس بهي، وقال
القاضي: بصبرهم على أداء الواجبات واجتناب المحرمات، وإيثار الأموال " جنة "
بستانا يأكلون منه " وحريرا " يلبسونه، ثم نقل إيثارهم عليهم السلام باختصار ما في الكشاف
[في الجملة] وباقي الآيات إلى قوله " شكورا " وصف لجزاء عملهم عليهم السلام، والظاهر
أن ذلك مخصوص بهم عليهم السلام، وما وقع إلى الآن من غيرهم، بل لم يقع إلا عن
مثلهم كما في التصدق بالخاتم في الصلاة والتصدق للنجوى، وغيرها، فإن ذلك
لا يستحقه إلا هم.
ثم أشار في آخر السورة إلى وجوب الصبر للنبي صلى الله عليه وآله في أذى المشركين له

(1) آل عمران 87.
425

أو لمطلق الناس في ترك المعاصي وفعل الطاعات وفي البليات بقوله " فاصبر لحكم ربك " ونهى عن متابعة الكفار والفجار بقوله " ولا تطع منهم آثما أو كفورا "
ثم أمر بذكر اسم الله تعالى بقوله: " واذكر اسم ربك بكرة " أي أول النهار
" وأصيلا " أي العشي ويحتمل وقت العصر، ويحتمل كونها إشارة إلى صلاة
الصبح والعصر قاله في الكشاف أو العشاء مع المغرب أو مطلق الذكر كما هو الظاهر
في هذين الوقتين لشرفهما ثم إلى السجود في مطلق الليل بقوله " ومن الليل " أي
في بعضه " فاسجد له وسبحه ليلا طويلا " لعل المراد بالطويل في الجملة، أي ليس
زمان قليل إشارة إلى أنه لا ينبغي صرف هذا كله في النوم والفراغ، ويحتمل
أن يكون مطلق السجود والتسبيح في الليل، لأنه محل راحة النفس، وجمع الخاطر
والتسبيح فيه والسجود آكد، وإلى القبول أقرب، وأن يكون المراد صلاة المغرب
والعشاء قاله في الكشاف، والصلاة النافلة في الليل، قال في مجمع البيان: يريد
التطوع بعد المكتوبة، وروي عن الرضا عليه السلام أنه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية
وقال: ما ذلك التسبيح؟ قال: صلاة الليل (1) فتدل على ترغيب الصلاة في الليل و
شرعيتها مطلقا من غير اختصاص بوقت وصلاة خاصة، ويحتمل التهجد المخصوص
قاله في الكشاف فتأمل.

(1) مجمع البيان ج 10 ص 413.
426

* (كتاب البيع) *
وفيه آيات:
الأولى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن
تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (1).
أي لا يتصرف بعضكم في أموال البعض بغير وجه شرعي مثل الربا والغصب
والقمار، ولكن تصرفوا فيها بطريق شرعي، وهو التجارة عن تراض من الطرفين
ونحو ذلك، أي التصرف بالباطل منهي عنه، ولكن التصرف بالتجارة عن تراض
غير منهي عنه، فالاستثناء منقطع لعدم الدخول، وأيضا لو كان الاستثناء متصلا
لزم التأويل لعدم حصر التصرف المباح في التجارة عن تراض، وهي إما منصوبة
على أنه خبر تكون واسمه ضمير التجارة أو الأكل والتصرف وشبهه، وإما مرفوعة
على أن تكون تامة والظاهر أن المراد بالتجارة هي المعاملة على وجه التعويض مطلقا
أو البيع والشراء من غير قصد الربا وبالتراضي الذي هو صفة التجارة صدور التجارة
والمعاملة عند العقد عن تراض وإذن ورضا من صاحبي المال لا إكراها ومن غير
رضاهما، قال في الكشاف: والتراضي رضا المتعاقدين بما تعاقدا عليه في حال البيع
وقت الايجاب والقبول، وهو مذهب أبي حنيفة، لعل مراده صاحبا المال أو
وكيلاهما، وقال في مجمع البيان: ثم وصف التجارة وقال " عن تراض منكم " أي
يرضى كل واحد منكما بذلك الخ، فالآية تدل على عدم جواز التصرف في مال
الغير بغير إذن صاحبه ما لم يرد من الشرع إذن، ففي الآية إجمال، وعلى تقدير إرادة
القمار والربا والنجش والظلم من الباطل فالآية واضحة وأيضا تدل على إباحة التجارة
وأكل المال الحاصل بها، وأنه لا بد في التجارة من إذن صاحب المال حين العقد

(1) النساء: 34.
427

فالبيع الفضولي لا يكفي على تقدير كون الأذن سببا لا كاشفا بل كاشفا أيضا وهو ظاهر
على أنه لا معنى للكشف وهو ظاهر، وقد بينته في تعليقات القواعد والإرشاد، و
أيضا تدل على حصول الملك وجواز التصرف بمحض العقد قبل التفرق ومضي
زمان الخيار، إذ الظاهر من التراضي ما ذكرناه، وقال في مجمع البيان: قيل:
للتراضي معنيان أحدهما أنه إمضاء البيع بالتفرق أو التخاير إلى قوله ومذهب
الشافعية والإمامية بعد العقد، والثاني أنه البيع بالعقد فقط، والعبارة لا تخلو
عن مسامحة، ولعل مراده بالأول بقاء الرضا إلى أن يلزم البيع من خيار المجلس
بالفرقة، ومع غيره باختيار العقد والتزامه، وبالثاني العقد بالرضا حال العقد
فقط كما قلناه ونقلناه عن الكشاف ومجمع البيان أيضا وهو الظاهر المتبادر من الآية
ولا ينافيه عدم اللزوم بدليل في زمان الخيار، فلا يقتضي مذهب الشافعية والإمامية
المعنى الأول.
" ولا تقتلوا أنفسكم " يدل على تحريم قتل الانسان نفسه، وقيل المراد إيقاعها
في التهلكة أو في العذاب بأكل مال الناس ظلما، أو قتل البعض بعضا، ويحتمل إرادة
الجرح والضرب، فإن القتل بمعنى الجرح والضرب غير بعيد، وقالوا بتحريم
جرح الانسان نفسه " ومن يفعل ذلك " أي قتل النفس أو ما سبق من المحرمات
" عدوانا وظلما " أي إفراطا في التجاوز عن الحق واتيانا بما لا يستحق، وقيل أراد
بالعدوان التعدي على الغير، وبالظلم على نفسه. " فسوف نصليه نارا وكان ذلك على
الله يسيرا " فتدل على كون القتل كبيرة، ولو كان راجعا إلى أكل المال بالباطل
أيضا يكون هو أيضا كذلك.
الثانية: الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع
وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله
ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي
428

الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم (1).
" الذين " مع صلته مبتدأ خبره " لا يقومون "، و " إلا " للاستثناء، وما بعده
مستثنى، والمستثنى منه محذوف والتقدير لا يقومون قياما إلا قياما كائنا نحو قيام
المصروع، فالجار والمجرور متعلق بمقدر صفة للمستثنى المحذوف، وأقيم مقامه
و " ما " مصدرية و " من المس " متعلق إما بلا يقومون، أو يقوم أو يتخبطه، و
" ذلك " مبتدأ و " بأنهم قالوا " خبره و " إنما البيع مثل الربا " جملة من مبتدأ و
خبر مقول قالوا " وأحل " الخ جملة مستأنفة لإنكار قولهم، وفاء " فمن " للتعقيب
و " من " مع صلته مبتدأ وهي " جاء " مع مفعوله وفاعله، وهو " موعظة " وتذكيره
للفصل وكون تأنيثها غير حقيقي وكونها بمعنى الوعظ، ولهذا قال في موضع
آخر: " جاءته موعظة " و " من ربه " متعلق بمقدر صفة الموعظة أي كائنة من ربه
و " فانتهى " عطف على جاءه " فله " خبر " ما سلف " والجملة خبر " من " ولتضمنها
معنى الشرط صح دخول دخول الفاء في خبره و " أمره إلى الله " عطف على " له ما سلف "
و " فيها خالدون " جملة حالية، و " فيها " يتعلق بخالدون.
ومعناها: الذين يأخذون الربا ويتصرفون فيه - فعبر بالأكل مجازا لأنه
الغرض غالبا من الأخذ، كما يقال في العرف للظلمة كالسلطان الجائر وآخذ العشور
والقضاة بالباطل آكلوا الحرام أو اكتفى به لأنه العمدة ويمكن لكون عقابه أكثر
ويكون تحريم غيره بالعلة المشار إليها، وبالإجماع وبالأخبار وبقوله " وحرم الله
الربا " -.
لا يقومون إذا بعثوا من القبور يوم القيامة إلا قياما مثل قيام الشخص
الذي يتخبطه الشيطان أي جعله مصروعا من الجنون، وهذا بناء على زعم العرب
أن الشيطان يخبط الانسان فيصرع، والخبط ذهاب في الأرض على غير اتساق
مثل العشوى لا تبصر ليلا، والمس: الجنون وهذا أيضا بناء على زعمهم أن الجن

(1) البقرة: 275.
429

إذا مس الانسان يختلط عقله فيصرع، والحاصل أنهم لا يقومون من قبورهم إلى
المحشر بسبب الربا ووزره وثقله عليهم قياما مثل قيام صحيح العقل، بل مثل قيام
المجانين فيسقطون تارة ويمشون على غير الاستقامة أخرى ولا يقدرون على القيام
أخرى، فكان ما أكلوا من الربا أربى في بطونهم، وصار شيئا ثقيلا على ظهورهم
فلا يقدرون على ما كانوا قادرين عليه من القيام والمشي على الاستقامة.
وقيل: يكون ذلك علامة لهم يوم القيامة يعرفون بها، كما أن لبعض المعاصي
علامة يعرف صاحبه بها، وكذا الطاعات، وذلك بسبب أنهم جعلوا الربا حلالا
مثل البيع، وقالوا إنه مثل الربا، يعني كما أن في البيع الذي لا ربا فيه يحصل
الربح وهو حلال وليس له سبب للتحليل إلا ذلك، كذلك في البيع الذي فيه الربا
يحصل ذلك أيضا، قيل كان ينبغي العكس ولكنهم اختاروا هذا للمبالغة، فكأنهم
جعلوا الربا أصلا في الحل وقاسوا عليه البيع، ورد الله قياسهم وأنكره بقوله
" وأحل الله البيع وحرم الربا " أي وإن كانا متماثلين، ولكن أحدهما حلال
والآخر حرام، لحكمة يعلمها الله، لجواز اختلاف الحكم مع التساوي في بعض
الأمور، إذا لم يثبت كونه علة له، ففيها دلالة على عدم صحة مطلق القياس، وأن
القائل به مذموم عند الله حيث ذمهم.
فمن بلغه وعظ من الله بأمر أو نهي وقبض وتصرف فاتعظ وقبل النهي أو
ارتكب المأمور به " فله ما سلف " أي فملك ما أخذه سالفا وقبض وتصرف، وجاز
له التصرف فيما فعل من المنهي الآن، وكذا فيما يترتب على ترك ما هو المأمور
به الآن، ولا مؤاخذة على ما سبق الأمر والنهي " وأمره " بعدهما " إلى الله "
فيجازيه بعمله، فإن اتعظ لله، وقيل الأمر والنهي، لأنهما من الله فيثيبه، وإلا
فيعاقبه بقدر العمل، أو أن الله يحكم في شأنه وليس عليكم الاعتراض، وقيل:
معناه بعد الموعظة والتحريم فأمره إلى الله تعالى فإن شاء عصمه عن أكله، وإن
شاء خذله، وقيل أمره في حكم الآخرة، إن لم يتب إلى الله فإن شاء عذب وإن
شاء غفر له.
430

والحاصل: ليس جواز ما سبق له مشروطا بالانتهاء ولا برجوع أمره إلى الله
بل عدم العقاب فيما يأتي مشروط به، فكأنه قال: الذي اتعظ فما عليه فيما سبق
شئ، وأمره فيما سيأتي إلى الله، فإن اتعظ فما عليه شئ، وإلا فعليه وزر الترك
ولعله لدفع توهم من يتوهم أنه إذا حرم الربا لا يكون للعامل أخذه، سيما إذا
كان العين باقية بل يرده إلى أهله، وتوهم أن المتعظ ليس أمره بعد الاتعاظ
إليه، أو يكون المراد: فله ما سلف من غير عقاب، فيكون للتقييد، إذ لو لم ينته
ليس له ما سلف سالما، بل هو مع العقاب، فكأنه ليس له ذلك لأنه لا خير مع كون
الانسان معاقبا، وبالجملة إن ثبت عدم هذا المفهوم بالإجماع ونحوه ونحوه، فليس بمعتبر
لأنه إنما يعتبر مع عدم ما هو أقوى منه، وإلا فنقول به.
" ومن عاد " أي إلى أكل الربا إذ الكلام فيه، والظاهر أنه ليس في مقابل
قوله " فانتهى " إذ حاصله حينئذ أن الذي جاءه النهي فانتهى أي قبل النهي واعتقد
تحريمه، فله كذا وإن لم يقبل فكذا، ولا يناسب لفظ العود حينئذ بل هو جملة
عطفت على الجملة فمن جاءه الخ، فكأنه قال: الذين يأكلون الربا ويقولون إنه
حلال ثم يعودون الخ ويمكن أن يكون المراد بالعود الرجوع إلى أكل الربا، و
عدم قبول تحريمه، وحينئذ لا مسامحة في الحصر الإضافي وخلودهم، لأن الذي
يعتقد تحليل ما حرم الله بعد علمه بأنه [حرام] من الله كافر ومخلد، فلا دلالة فيه
على أن الفساق مخلدون كما ذهب إليه المعتزلة، وقال صاحب الكشاف: هذا
دليل بين عليه، نعم إن كان المراد العود إلى فعل الربا بعد الترك، فحينئذ تكون
ظاهرة فيما قاله الكشاف في الجملة، ويمكن التأويل بالحمل على المبالغة والمكث
الطويل كما قالوا في " من قتل مؤمنا متعمدا " وغيره، لما ثبت من عدم خلود المؤمن
في النار بالعقل والنقل.
ثم اعلم أنها تدل على تحريم فعل الربا، وتحريم أكل ما أخذ به
بل مطلق التصرف فيه، وكون العود إلى الربا كبيرة أو إلى الربا مع قوله
بالتحليل، كما كان قبل، فإنه كان يقول " إنما البيع مثل الربا " وعلى تحليل
431

جميع البيوع إذ المتبادر منه العموم عرفا كما قالوا. والبيع ظاهر معروف في الكتب
الفقهية وغيرها وأما الربا فنقل أنه في اللغة بمعنى الزيادة، ومعلوم أنه ليس
بمراد هنا، فقيل المراد به الزيادة في البيع، بل البيع المشتمل عليها، ولهذا قيل
في التفاسير أن معنى قوله " إنما البيع مثل الربا " أن البيع الحالي من الربا مثل
المشتمل عليه، فعلى هذا يكون تحريم الربا مخصوصا بالبيع، ولا يكون في سائر
المعاملات، مثل الصلح على تقدير كونه عقدا برأسه كما هو مذهب بعض الأصحاب
ويدل عليه أيضا الأصل وعموم الإيفاء بالعقود، مع عدم ثبوت دليل عليه في سائر المعاملات
ووجود الاجماع في البيع دون غيره.
وقيل هي الزيادة في مطلق المعاملات، وهو مذهب الأكثر، فالظاهر عدم
جواز الزيادة حينئذ في الهبة المعوضة أيضا فتأمل، ودليله أنه الزيادة مطلقا، و
خرج منها ما يجوز إجماعا وبقي غيره تحتها، والظاهر أنه لا شك أنه ليس في الآية
بالمعنى اللغوي، والشرعي غير ثابت، ولكن الاحتياط واحتمال الآية كون المراد
به الزيادة في المعاملة مطلقا بل المعاملة المشتملة عليها، يقتضي مذهب الأكثر، و
تخصيصها بالبيع خلاف مذهب الأكثر وأيضا علة تحريم المومى إليها في الأخبار
وهي عدم تفويت اصطناع المعروف بالقرض الحسن ورفد المؤمنين يشمل جميع المعاملات
فلا يؤخذ الربا لتحريمه في كلها، بخلاف ما إذا خصص بالبيع، ويؤخذ بوجه
آخر، مثل الصلح، وإن كان باب الحيلة على ذلك التقدير أيضا مفتوحا، على ما
ذكروه، ولكنه حيلة لا تخلو عن شبهة.
ثم عمموا الزيادة من العيني والحكمي مثل الزيادة في الأجل وعمل صنعة
وغيرها، وأيضا حصروه في أشياء مخصوصة بإجماع ونحوه حتى قالوا: إن الذي
يجري فيه الربا إجماعا هو ستة أشياء: الحنطة، والشعير، والتمر، والملح، و
الذهب، والفضة، والأصحاب قالوا يشترط أن يكونا متجانسين مما يكال أو يوزن
وفي المعدود خلاف، وكذا في غير المكيل والموزون إذا بيع نسيئة خلاف، وكذا
في غير المتجانسين نسيئة.
432

وبالجملة المسألة وتحقيقها وشرائطها وتفصيلها يحتاج إلى تطويل كثير
وهو يخل بمقصودنا هنا، مع وجودها في غير هذا المحل إلا أنه ينبغي أن يعلم أن
ظاهر الآية خالية من الشرائط فبعد ثبوت معنى الربا فكل دليل يصلح لتقييدها
يقيد به، وما لا فلا، على ما مر مرارا، وتحريم القياس وأنه ليس بحجة شرعية
إذ لو كان كذلك لما ساغ الذم عليه، وإن أخطأ المستعمل كما هو الثابت في
الأصول، إلا أن تحمل الآية على أنهم قالوا ذلك مع ثبوت تحريمه، وهو خلاف
الظاهر، وخلاف ما قيل في سبب النزول، وهو أنهم كانوا يفعلون الربا ولا
يمتنعون منه، ويقولون بالقياس المذكور، فنزلت وخطاهم الله تعالى في ذلك وقال
" أحل الله " كما في التفاسير، وخلاف الظاهر من قوله " فمن جاءه " الخ فحينئذ
يبطل قول الكشاف والقاضي أن قوله " وأحل الله " رد لقولهم، وإنكار لقياسهم
وأن قياسهم باطل لمعارضة النص وأن القياس يهدمه النص لأن الله جعل الدليل
على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه، إلا أن يقال: يريدان ما قلناه، وهو بعيد
لما مر.
وتدل على تحليل الربا في بعض الأوقات في الجملة، وأنه كان يملك ذلك
بعد الأخذ والقبض، بل الظاهر بعد العقد إلا أنه سيجيئ في الثالثة ما يدل على نفيه حينئذ
ويفهم منها ومما سبق أيضا أن الربا لا يملك مع كون فعله حراما، وأما كون
البيع المشتمل عليه باطلا كما يقوله الأصحاب والشافعية وغيرهم - إلا ما نقل عن
أبي حنيفة من صحة البيع في أصله، وبطلانه في الزيادة، ووجوب ردها إلى
صاحبها - فلعل دليل الأصحاب إجماعهم وأخبارهم، وأن الذي وقع عليه التراضي
ما انعقد، إجماعا منا ومن أبي حنيفة، وما وقع التراضي على غيره وهو شرط في
التجارة، وأيضا إن الذي علم جوازه وكونه مملكا وصحيحا هو البيع الخالي من
الربا، وغيره غير ظاهر، والأصل عدم حصول الملك إلا بدليل، إذ الظاهر أنه ما
أراد الله من الأمر بالعقود والايفاء بها إلا ما أجازها ورضي بها منها لا غير، ومنه
علم ما تخيله دليلا.
433

فاعلم أن في الآية التي بعدها تأكيدا لأمر تحريم الربا بأنه يمحقه الله أي
ينقصه ويذهب بركته في العاجل، ويعاقب عليه في الآجل، وأنه يكثر الصدقة و
يعطيها البركة وينميها ويزيدها، بأن يثمر المال في العاجل، روي أنه ما نقصت
الزكاة عن مال قط أي ما نقص شئ من مال أخرجت عنه قط إلا أعطاء الله البركة
فيه ويثيب فاعلها في الآجل حتى أنه عبر عن فاعل الربا بالكفار الأثيم أي المصر
على تحريم ما حرمه الله والمهمك في ارتكابه، وفي التي بعدها دلالة على كون الصلاة
والزكاة وسائر الأعمال الصالحة موجبة للأجر العظيم وعدم الخوف والحزن على
فاعلهما.
وبالجملة تحريم الربا معلوم من الدين ضرورة، وقد يعلم من بعض الآيات
الأخر.
الثالثة: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم
مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤس
أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (1).
أي اتركوا البقايا التي شرطتم على الناس وهي الربا - فمن بيانية أو متعلق
ببقي، فتكون ابتدائية أو تبعيضية، والأول أولى - إن صدقتم تحريمه فإن العلم
يمنع من العمل المحرم إذا كان يقينا كما هو مقتضى العقل فإن من يفعل المحرم
فكأنه جاهل غير مصدق، إذ العلم الذي لا يعمل بمقتضاه هو والجهل سواء وهذه
مبالغة مشهورة في إفادة منع العالم عن خلاف ما يقتضي علمه، فتقييد الترك
بالايمان يكون لذلك، أو يكون على ظاهره، أي يجب عليكم ترك ما بقي من
الربا بعد علمكم بالتحريم فالذي فعلتم وأخذتم قبل العلم لا يجب رده إلى صاحبه
كما فهم من قوله " وله ما سلف ".
قيل: روي أنه كان لثقيف مال على بعض قريش فطالبوه عند المحل بالمال

(1) البقرة: 278 و 279.
434

والربا، فنزلت " فإن لم تفعلوا " أي إن لم تتركوا ذلك " فأذنوا " أي فاعلموا
" بحرب من الله ورسوله " من أذن بالشئ إذا علم به وقرئ " فآذنوا " أي فأعلموا بها
غيركم من الإذن وهو الاستماع فإنه من طرق العلم، قيل التنوين للتعظيم، كأنه
أبلغ من حرب الله ورسوله لأن المعنى بنوع عظيم من الحرب من عند الله ورسوله
ويحتمل أن يكون حربهما واحدا، وهو قتال المسلمين معهم حتى يرجعوا، وكون
حرب الله في الآخرة بادخالهم في النار وحرب الرسول في الدنيا بالسيف والأول
أظهر.
فدلت على جواز قتال المسلم على ترك الربا حتى يرجع مثل قتال مانع
الزكاة وغيره، وعلى تحريم أخذ ما بقي من الربا الذي شرطه قبل التحريم، ولا يدل
على كفر الآخذ، روي أنه لما نزلت قال ثقيف لا يدي لنا بحرب الله ورسوله، أي
لا طاقة لنا.
" وإن تبتم " أي رجعتم عن اعتقاد حل الربا كما يفهم من البيضاوي، أو عمل
الربا كما هو ظاهر الكشاف وظاهر الآية أيضا " فلكم رؤس أموالكم " فقط لا
الزيادة، التي شرطتم " لا تظلمون " معامليكم بأخذ الزيادة والربا " ولا تظلمون "
أنتم بأخذ الناقص عن رأس مالكم، ولا يخفى أن مفهوم الشرط المعتبر عند أكثر
الأصوليين يفيد عدم جواز أخذ رأس مالهم، مع عدم الرجوع، وهو محل التأمل
وقال القاضي، وهو سديد على ما قلناه، إذ المصر على التحليل مرتد وماله فئ، وقال
في الكشاف: قالوا يكون مالهم فيئا للمسلمين.
قال في كنز العرفان: قال الزمخشري والقاضي، وإن لم يتب يكون مصرا
على التحليل، فيكون مرتدا وماله فئ، وليس بشئ لأنا نمنع أنه إذا لم يتب
يكون مرتدا، لجواز أن يفعله ويعتقد تحريمه (1) وفيه تأمل لأن الزمخشري ما
قاله بل نقله عن قوم، وقد يكون ذلك قائل يقول ذلك بناء على أن معنى قوله
" إن تبتم " رجعتم عن تحليل الربا، كما يقوله القاضي، فلا يرد عليه ما أورده، مع

(1) كنز العرفان ج 2 ص 39.
435

أنه ما صرح بارتداده، بل قد يكون له وجه في ذلك، وأما القاضي فإنه صرح
بأن معنى " تبتم " رجعتم عن تحليل الربا فيكون تاركه مرتدا من غير شك، فلا
معنى لأن يقال عليه، إنه يفعل مع اعتقاده التحريم.
نعم يمكن أن يقال: ما قالوه ليس بشئ، لأن دليل أن مال المرتد فئ
للمسلمين غير واضح لأنه إن كان مليا فماله باق على ملكه إلا أنه محجور عليه
وإن كان فطريا فماله ينتقل إلى وارثه، فإنه بمنزلة الموت كذا قاله الأصحاب، و
لعل أدلتهم إجماعهم، والروايات، فإن كان مذهبهم أيضا كذلك، يرد عليهم ذلك
وإلا يقال الأصل عدم خروج ملك شخص عنه، ويستبعد خروج ملك شخص عن
ملكه، ولا يتملكه وارثه بمجرد الردة خصوصا مع احتمال الرجعة، وقبول
التوبة إلا بدليل ظاهر، وهو غير ظاهر، وأيضا المفهوم معتبر مع عدم ظهوره وجه
التخصيص، وما هو أقوى منه، فإذا عارضه أقوى منه أوله وجه تخصيص فلا يعتبر
وهنا قد يكون كذلك فتأمل أو يقال إن المنطوق حصول رأس المال فقط ومفهومه
عدمه، وهو كذلك لحصول العقاب معه، وهو ظاهر.
ويمكن أن يقال أيضا أن منطوق الآية أن التائبين عن فعل الربا أو تحليله لهم
تمام رأس مالهم حال كونهم غير ظالمين لأنفسهم بترك التوبة وارتكاب المحرم ولا
لغيرهم بطلب ما لا يستحقونه عليه، ولا مظلومين بنقص مالهم، ولا بحصول عقاب
من عند أنفسهم، فجملة " لا تظلمون " حال ومفهومها أن غير التائبين ليسوا بهذه
الحالة، للزوم عدم المشروط عند عدم الشرط، وهو كذلك لأنه ليس لهم رأس مالهم
مع الحال المذكورة، بل مع نقيضها، فإنه لو كان لهم رأس مالهم يكون حال
كونهم ظالمين لأنفسهم بل لغيرهم أيضا ومظلومين أيضا لظلمهم أنفسهم، وهذا المقدار
يكفي لاعتبار المفهوم، ولا يلزم رفع جميع ما ذكر للمذكور، وهو ظاهر بين، فعلم
أن ما قالاه ليس بشئ لوجوه قلناها لا لما قيل فافهم.
الرابعة: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة (1).

(1) آل عمران: 130.
436

قد مر مضمونها وهو تحريم الربا ولعل التكرار للتأكيد، والمبالغة في
التحريم، وأيضا لتصريح النهي فإن الذي مضى كان بحسب الظاهر خبرا أو لعظم
ذنب هذا الفرد، وهو الأكل أضعافا مضاعفة وكان الواقع كان كذلك، ولكثرة
ضرره على الناس، وكأن الأكل كناية عن أخذ الربا وهو متعارف يقال فلان يأكل
الربا يعنون به أنه يستعمله ويأخذه ولا يجتنبه، لا أنه يأكله حقيقة فيحتاج إلى
قياس غيره عليه، ومعنى " أضعافا مضاعفة " قيل أن يضاعف بتأخير أجل بعد أجل كلما
حل أجل أجل إلى غيره، وزيد زيادة على المال، أو تضاعفوا أموالكم فيدخل
فيه كل زيادة محرمة في المعاملة، ويمكن أن يكون المراد يضاعف الزيادة أضعاف
الأصل أو أضعاف ما يتعارف في ربح مثله.
وقال في المجمع: في تحريم الربا مصالح منها أنه يدعو إلى مكارم الأخلاق
بالاقراض، وإنظار المعسر من غير زيادة، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام في الكافي
في الحسن عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال إنما حرم الله عز وجل الربا
لكيلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف، وعن سماعة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام
إني رأيت الله قد ذكر الربا في غير آية وكرره فقال أو تدري لم ذلك قلت لا، قال
لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف (3) وأنت تعلم أنها تنعدم بفتح باب الحيلة، كما
هو المتعارف، فإنهم يأخذون بها ما يؤخذ بالربا.
الخامسة: ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا
كالوهم أو وزنوهم يخسرون (2).
الويل قيل: اسم واد في جهنم أو كناية عن عذاب وسخط من الله، على من
يطففون الميزان والكيل، ويباشرونهما، الذين إذا اكتالوا من الناس حقهم أو
اتزنوه منهم يأخذونه وافيا تاما كاملا، حذف واكتفي بالأول وفي الكشاف للاشعار

(1) الكافي ج 5 ص 146.
(2) المطففين: 1 - 3.
437

بأنهم ما يأخذون لأنفسهم من الناس إلا بالكيل لأنه أكمل وأمكن وأتم للاستيفاء
والسرقة فتأمل، وإذا كالوا أو وزنوا هم من أنفسهم للناس يخسرون ينقضون ذلك ولا
يستوفون فتدل على أن إعطاء الناقص حرام، ويدل عليه العقل والنقل، وغيرها
أيضا من عدم جواز أخذ أموال الناس إلا برضاهم.
ويدل أيضا على المنع من نقص الكيل والوزن بخصوصه بعض الآيات و
الأخبار أيضا مثل " أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان " (1)
وتحريم ذلك ظاهر لا يحتاج إلى الدليل " ويل " مبتدأ و " للمطففين " خبره و
" إذا " ظرف يتضمن معنى الشرط وما بعده شرطه، و " يستوفون " جراؤه والجملة
صلة الذين وهو صفة للمطففين، وذكر الاستيفاء هنا لزيادة قبح النقص حينئذ
يعني يأخذ لنفسه تاما ويعطي الغير ناقصا لا أنه أيضا حرام، وإن كان مرجوحا
فإن عدم الاستقصاء والاستيفاء وإعطاء الزايد وأخذ الناقص مطلوب شرعا لأنه إحسان
عقلا ونقلا ومرغوب ومستحب ذكر ذلك مع دليله في محله، ويحتمل أن يكون
المراد الاستيفاء مع أخذ الزائد كما يشعر به كلمة " على " الدالة على الضرر، فيكون
هو أيضا حراما بخصوصه.
" وإذا كالوا " الخ عطف على " اكتالوا " عطف جملة على جملة، قيل اكتالوا
وكالوا بمعنى واحد، وكان زيادة الحرف في الأول تدل على زيادة الحرص والسعي
فيه، و " هم " في الموضعين منصوب إما لأنه يقال كالهم، كما يقال كال لهم، كما
يفهم ذلك من مجمع البيان أو على الحذف والايصال، أو على حذف مضاف أي
مكيلهم، وقال في الكشاف: لا يحسن كونه تأكيدا لضمير كالوا لفوات المقابلة لما قبله
ولا كونه فصلا لأنه إنما يكون بين المبتدأ والخبر ونحوه، مثل مفعولي فعل.
قال في مجمع البيان: قيل ذلك والصحيح أنه منصوب كأنه إشارة إلى ما ذكر من
ضعف التأكيد والفصل، ووجه صحة النصب وهو ظاهر لا يحتاج إلى البيان.

(1) الرحمن: 8 و 9.
438

السادسة: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (1).
قال في الكشاف: العفو ضد الجهد كأنه هو المشقة، فالعفو هو السهولة أي
خذ يا محمد ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم، وتسهل من غير كلفة
ولا تداقهم، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم، حتى لا ينفروا كقوله عليه السلام
يسروا ولا تعسروا، والعرف المعروف والجميل من الأفعال وأعرض عن الجاهلين.
ولا تكافئ السفهاء مثل سفههم، ولا تمارهم واحلم عنهم، واغض عما يسوؤك منهم، و
قيل لما نزلت الآية سأل جبرئيل عليه السلام فقال: لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال:
يا محمد إن ربك أمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك.
وعن جعفر الصادق رضي الله عنه: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية
أجمع لمكارم الأخلاق منها.
فهذه دالة على رجحان حسن الخلق من العفو مما يستحقه الانسان في ذمة
الغير من الحقوق وغيره، واستعمال اللين والملاءمة في المعاملات، والأمر بالمعروف
والاعراض عن الجهال، وعدم مؤاخذتهم بما فعلوا بالنسبة إلى الانسان ويؤيده
" وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " (2) وعلى عدم المماكسة وإعطاء الزائد وأخذ
الناقص، وعدم الربح على الموعود بالإحسان بل مطلق المؤمن ونحو ذلك من الاحسان.
السابعة: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (3).
قال في مجمع البيان قيل: فيه أقوال: المراد لن يجعل الله لليهود على المؤمنين
نصرا ولا ظهورا، قيل: بالحجة، وإن جاز أن يغلبهم بالقوة، ولو حملناه على الغلبة
لكان صحيحا لأن غلبة الكفار على المؤمنين ليس من الله تعالى، وقال القاضي:
حينئذ أي في الآخرة أو في الدنيا والمراد بالسبيل الحجة، واحتج به أصحابنا
على فساد شراء الكافر المسلم والحنفية على حصول البينونة (4) بنفس الارتداد، وهو

(1) الأعراف: 198.
(2) الفرقان: 63.
(3) النساء: 140.
(4) أي بين الزوج والزوجة، منه.
439

ضعيف لأنه لا ينفي أن يكون إذا عاد إلى الايمان قبل مضى العدة. وفي الاستدلال
على عدم جواز الشراء بعد قوله والمراد بالسبيل الحجة تأمل، نعم إن حملت على
العموم كما هو الظاهر، فالاستدلال صحيح.
وقد استدل بعض أصحابنا أيضا بها على عدم التملك، وقال البعض بجواز
التملك مثل أن أسلم عنده ولكن لا يتمكن من التصرف للآية بل يباع عليه، ويمكن
الاستدلال بها على عدم تسلط الكافر على المسلم بوجه تملك وإجارة ورهن وغيرها
لأنه نكرة في سياق النفي يفيد العموم فلا شئ من السبيل له على المسلم، ويصح
استدلال الحنفية أيضا لأن الزوجية تسلط وسبيل واضح، والفرض كونه منفيا
بالآية، والعجب من القاضي أنه ضعفه بعد القول باستدلال أصحابه به، بأنه لا
ينفي أن يكون إذا عاد لأنه إذا انتفى السبيل فما بقي نكاح فكيف تعود الزوجية
بغير عقد، ولأنه قد سلم زواله لأنه سبيل المنفي فعوده يحتاج إلى دليل، ومجرد
رفع المزيل والمانع لم يكف بل يحتاج إلى المقتضي.
نعم يرد عليه أن ليس للزوجة سلطنة على الزوج عرفا بل شرعا أيضا، فلا تدل
على بطلان العقد بارتدادها وإلا يلزم انفكاك الرق وخروج الملك عن ملك المولى
بردته لو قيل إن مثل وجوب النفقة سلطنة، وأيضا قد يقال يكفي في رفع السلطنة
عدم ثبوت أحكام النكاح من الدخول وغيره حتى يرجع إلى الاسلام فيكون الردة
مانعة، فيرجع بعد زوالها كما يقوله أصحابنا على التفصيل الذي ذكروه فتأمل.
440

* (كتاب) *
* (الدين وتوابعه) *
وفيه آيات:
الأولى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه
وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب
إلى قوله - والله بكل شئ عليم (1).
خاطب الله المؤمنين بالشفقة لهم والاهتمام بحالهم، وعدم انتفاع غيرهم، بأنه
" إذا تداينتم " أي إذا داين بعضكم بعضا كذا في التفسيرين بدين " أي دين كان
وبأي معاملة وقعت بينكم، فشرط كونه مقيدا بوقت معلوم مضبوط بالتسمية لا
بمثل قدوم الحاج وبحيث يكون العوضان أو أحدهما دينا أي مالا في الذمة مؤجلا
بمدة، لكن الدليل دل على بطلان الأول عندهم وبقي الثاني، وهذا بيان
للمقصود وتفصيل لتداينتم، لا بيان معناه اللغوي حتى يرد عليه أنه فرق بين
التفاعل والمفاعلة، فإن الأول لازم والثاني متعد فلا يصح تفسير أحدهما بالآخر
كما أورده في كنز العرفان على صاحب الكشاف، على أنه قد يمنع حصر الأول
في اللازم والثاني في المتعدي، ولعل فهم هذا التفصيل صريح أوجب ذكر " دين "
مع أنه معلوم من قوله " تداينتم ".
وفيهما ذكر: ليكون مرجعا لضمير فاكتبوه، ولعل مقصودهم أن ذكر
الدين غير مستحسن، وإرجاع الضمير إلى المصدر تكلف إنما يرتكب للضرورة
مع أن المقصود قد يكون التصريح بكتابة الدين الذي تقع عليه المعاملة، وذلك
يفوت بتركه، فلا يرد عليه ما أورده أيضا بقوله فيه نظر، لأنا نمنع وجوب ذكر

(1) البقرة: 282.
441

الدين لاحتمال عوده إلى المصدر، وقيل ليرتفع احتمال التداين بمعنى المجازاة
كقولهم كما تدين تدان، فيزول الاشتباه، ولعل مراده من أول الأمر وإلا يزول
بملاحظة تتمة الآية، وقيل: لمجرد التأكيد كما في " طائر يطير بجناحيه " (1)
" فاكتبوه " أي اكتبوا الدين لأنه أوثق بالنسبة إلى صاحب الحق والمديون، و
الشاهد أيضا، وفيه مصلحة الدين والدنيا لهم، فدلت على أحكام:
الأول إباحة المعاملة بدين مؤجل أخذا وإعطاء بأي نوع كانت المعاملة
نسيئة وسلفا صلحا وإجارة وقرضا وغير ذلك، والثاني اشتراط التعيين في الأجل
بأن يسمي أجلا أي أياما وشهورا وسنوات بأن يسمي أجلا لا يقبل الزيادة و
النقصان، لا ما يقبل مثل حضور الحصاد وقدوم الحاج فيشترط اللفظ، ولا يكفي
كون ذلك مقصودا لهم فتأمل، والثالث عدم جواز التجاوز عن ذلك بأن يطالب
قبله أو يؤخر بعده، وعدم لزوم الأخذ قبله إذ الظاهر أن فائدة الأجل وتعيينه
ذلك إلا ما أخرجه دليل [شرعي]، مثل وجوب الأخذ قبله وعدم لزومه في القرض
على ما قالوه.
والرابع استحباب الكتابة أو كونه للإرشاد لإجماعهم على عدم الوجوب، و
لأن الظاهر أن الغرض حفظ مالهم وصلاح حالهم، فإذا رضوا بتركه يجوز لأنه
يجوز لهم أن لا يأخذوا أصلا فتأمل، ويحتمل وجود ما يدل عليه أيضا في الروايات
قال في مجمع البيان: واختلف في هذا الأمر فقيل هو مندوب إليه وهو الأصح و
يدل على قوله تعالى " فإن أمن بعضكم بعضا " الخ فيه تأمل إذ يدل على عدم الوجوب
على تقدير الائتمان لا مطلقا، بل يدل على تقدير عدم وجود الكاتب والشهود أنه
يجوز ترك الرهن والاكتفاء بالايتمان وهو ظاهر.
ويمكن جعل اشتراط ذكر الأجل لفظا خامسا فيمكن جعل اشتراط الصيغة
في المعاملات سادسا، إذ يفهم من اشتراط ذكر الأجل لفظا اشتراط الصيغة في المعاملة
فتأمل، وأما إباحة الدين الغير المؤجل كما يفهم من الكنز فمشكل، إذ الظاهر

(1) الأنعام: 38.
442

عدم دلالة هذه الآية عليه ظاهرا، نعم هو مفهوم من غيرها، وقد يقال يفهم ذلك بالطريق
الأولى من إباحة المؤجل فتأمل وقد يقال أيضا: يستفاد من مفهومها عدم استحباب
الكتابة لغير المؤجل فيكون سابعا فافهم.
" وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب " أي
يكتب بالسوية لا يزيد ولا ينقص، فبالعدل متعلق بمقدر صفة لكاتب أو حال عنه
أو متعلق به أو متعلق بوليكتب، ولا يمتنع أحد من الكتاب من الكتابة مثل ما
علمه الله من كتبة الوثايق، فيكون " كما " متعلقا بمقدر صفة لمصدر أي كتابا
مثل كتاب علمه الله إياه، أو لا يأب أن ينفع الناس بكتابته نفعا مثل النفع الذي
نفعه الله بتعليمها كقوله " أحسن كما أحسن الله إليك " (1) فليكتب الكاتب هذه الكتابة
المعلمة ويحتمل أن يكون كما علمه الله تتمة ما بعده، أي فليكتب الكاتب والأول أولى.
فدلت على أحكام: وجوب الكتابة بالعدل، يعني على تقدير كتابته، وإن لم
تكن عليه واجبة، يجب أن يكتب بالعدل ولا يغير، وتحريم الامتناع عن الكتابة
مطلقا على الثاني، فتكون الكتابة واجبة على من يقدر عليها، والظاهر أنه كفائي
إذ الوجوب أعم وأن الفرض هو الكتابة من أي شخص تتأنى كالشهادة، وعلى
الأول على تحريم الامتناع عن الكتابة المقيدة فيكون معناه لازما لمعنى وليكتب
ويكون تأكيدا مثل فليكتب، ويحتمل أن يكون وليكتب أمرا للمعاملين بالدين
باختيار كاتب بالعدل، فعلى تقدير استحباب الكتابة واختيارها يكون اختيار الكاتب
بالعدل واجبا كما في صورة وجوب الكتابة، واشتراط تدين الكاتب في الكتابة و
اشتراط فقهه بها على الوجه المأمور بها الموافق للشرع.
" وليملل الذي عليه الحق " أي وليكن المملل من عليه الدين والحق لأنه
المقر والمشهود عليه، والاملال قيل هو الاملاء فيقر بلسانه بما عليه ليكتبه الكاتب
" وليتق الله ربه " أي المملل قيل أو الكاتب وهو بعيد " ولا يبخس " أي لا ينقص

(1) القصص: 77.
443

" منه شيئا " أي من الحق أو مما أملل أي يملل على وجه لا نقص فيه بل بالعدل
كما قيل في الكاتب " فإن كان الذي عليه الحق سفيها " أي ناقصا مبذرا يصرف ماله
في غير الأغراض الصحيحة " أو ضعيفا " أي صبيا أو مجنونا أو شيخا مختلا، أو
لا يستطيع أن يمل هو " أي الذي لا ضعف في حاله وعقله ولا في تصرفه لكنه لا
يقدر على الاملال كما هو، بحيث يفهمه الكاتب، بأن يكون أخرس أو جاهلا باللغة
" فليملل وليه بالعدل " والولي هو الذي يلي أمره مثل الأب والجد منه والأوصياء
في الصبي والمجنون والمبذر إن كان لهم الولاية عليهم، وإلا فالحاكم وأمينه، و
ولي الشيخ المختل المترجم والذي يقدر على الاملال ولي جاهل اللغة والأخرس
بشرط علمهما بالدين عليهما سواء كانا حاضرين على المعاملة أو فهما ممن عليه الحق.
ولكن يشكل اكتفاء الكاتب حينئذ على مترجم واحد وقادر واحد، فإنهما
في الحقيقة شاهدان على ما في ذمته أو على إقراره فحينئذ لا بد من كون كل واحد
اثنين عدلين على ما اعتبروه في غير هذا المحل إلا أن يكونا ممن يتعاطى المعاملة أو
يكون الكاتب عالما بالحال، وهو مشكل أيضا إذ حينئذ لا يحتاج إلى المملل وعلى
تقدير تعاطيهما أيضا ما يقدر الكاتب أن يكتب كونه في ذمة المديون بقولهما وهذا
الاشكال وارد في الكل، إذ بمجرد إقرار الولي كيف يكتفي بثبوت المال في ذمة
المولى عليه، بل مع شهود أيضا، لأنهم يعتبرون لاثبات المال في الذمة بالشهود
انضمام حكم الحاكم إليه.
وقيل: الضمير في " فليملل وليه بالعدل " راجع إلى الحق أي صاحب الدين
وهو بعيد، والاشكال فيه أقوى إلا أن يكتب الكاتب تذكرة له من لسانه، لا أنه
ينفعه ويكون حجة له، وحينئذ يجوز كتابة مثله من لسان هؤلاء الذين مضوا أيضا
ولا إشكال فتأمل.
فدلت هذه على وجوب إقرار من عليه الحق، لأن يكتب ويشهد عليه، و
وجوب كونه على ما هو عليه، وكذا على الأولياء، وعلى أن هؤلاء المذكورين
من السفيه والضعيف ومن لم يقدر لا يمضي إقرارهم، ولا يعتبر قولهم، فلا يجوز
444

معاملتهم وأن لغيرهم عليهم ولاية جبرا عليهم، ومقبول قولهم فيهم وتصرفهم في
أموالهم، فتجوز المعاملة معهم وهم المذكورون، فإنه علم أن لهم أولياء وليسوا غير
هؤلاء المذكورين إجماعا فلا يكونون إلا هم.
ثم اعلم أن هذه التأكيدات في أمر الكتابة تدل ظاهرا على أنها معتبرة و
حجة شرعية مع أنهم يقولون بعدم اعتبارها، فكأنه للإجماع والأخبار، فتكون
للتذكرة وهو بعيد، ويمكن أن تكون حجة مع ثبوت أنه إملاء من عليه الدين
وأنه مكتوب بالعدل وما دخل عليه التغيير والتزوير بإقراره أو بالشهود، ولهذا
شرط الاملاء منه، فدلت على اعتبار الكتابة في الجملة ومثلها معتبرة عندهم فيخصص
عدم اعتبار الكتابة ودليله إن كان بغير ذلك، فإذا قال شخص هذه وصيتي وأعلم
بجميع ما فيها مشيرا إلى صكه، ينبغي قبوله والشهادة عليه، والعمل به، والذي
يظهر من القواعد خلافه، وهكذا ينبغي قبول قول أمثاله فافهم.
" واستشهدوا شهيدين " أي اطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان متصفان بأن
يكونا " من رجالكم " المؤمنين " فإن لم يكونا " أي إن لم يكن الشاهدان رجلين من
رجالكم " فرجل وامرأتان " أي فليشهدوا، فالشهود رجل وامرأتان، فرجل فاعل فعل
محذوف، أو خبر مبتدأ محذوف، وامرأتان عطف عليه " ممن ترضون من الشهداء "
بشهادتهم بأن ترضوا دينهم وأمانتهم كما يفهم من الرواية أيضا أي يكون الشاهد
مطلقا سواء كان الرجلين أو رجلا وامرأتين، من الذين تعرفون عدالتهم، ويظهر
ذلك عندكم، لا أن يكونوا في نفس الأمر عدولا.
فيدل على اعتبار العدالة ظاهرا وأن كل من يكون كذلك عند المستشهد
فهو ممن يصح استشهاده، لأن الظاهر أنه المخاطب، لكن الظاهر أنه ما يكفي
للحكم والإلزام، بل للخروج عن عهدة أمر الاستشهاد وأما للحكم فلا بد أن يكون
كونه كذلك عند الحاكم أو عند المديون فتأمل.
فدلت على عدم كفاية الايمان والإسلام في الشاهد، بل اعتبار العدالة فيه
في الجملة، وعلى وجوب الاشهاد على الدين على الظاهر، ويحتمل الأعم أي في
445

كل ما يحتاج إلى الشهود من المعاملات وغيرها، ولكن ظاهر الأصحاب عدمه
فهو للإرشاد أو الاستحباب، وعلى وجوب كون الشاهد من رجال المسلمين، وهو
مذهب الأصحاب وأكثر الفقهاء خلافا لأبي حنيفة، فإنه قال: يجوز سماع شهادة
بعض الكفار على بعض كذا في القاضي وعلى جواز شهادة رجل وامرأتين في الديون
وقيل يجوز في مطلق الأموال فقط، وهو مذهب الأصحاب والشافعي، ويمكن حمل
الآية عليه ومذهب الحنفية أنها تجوز في كل شئ إلا الحدود والقصاص، وظاهر
الآية الأول فكأن الغير ثبت بالإجماع أو الأخبار أو القياس أو حمل الآية على الأعم.
وعلى وجوب سماع شهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين كذلك، والحكم بها
لأن الظاهر أن الغرض من الاشهاد هو سماع الشهادة والحكم بها، لأنهما نفعه
وعلى حصر الشاهد فيهما ظاهرا وكأن غيرهما ثابت بدليل آخر فيخرج هذه عن
ظاهرها به فافهم.
" أن تضل إحديهما فتذكر إحديهما الأخرى " قيل إنه علة لاعتبار تعدد
المرأة في الشهادة أي التعدد لأجل أن إحداهما إن ضلت بأن نسيتها ذكرتها الأخرى
والعلة في الحقيقة هي التذكير ولكن لما كان الضلال سببا له نزل منزلته كقولهم
أعددت السلاح أن يجيئ عدو فأدفعه، فكأنه قيل إرادة أن يذكر إحداهما الأخرى
إن ضلت، وفيه إشعار بنقص ضبطهن.
" ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا " وهو خبر بمعنى النهي للمبالغة، فظاهره
تحريم امتناع الشاهد عن أداء الشهادة إذا طلبت منه، ويحتمل تحريم رد التحمل
أيضا إذا نودي، وتسميتهم بالشهداء لمجاز المشارفة " ولا تسأموا أن تكتبوه " أي لا
تملوا من كثرة مداينتكم أو غيرها أن تكتبوا الدين أو الحق أو الكتاب، قيل:
كني بالسأمة عن الكسل، لأنه صفة المنافق، ولذلك روي عنه صلى الله عليه وآله: لا يقول المؤمن
كسلت. " صغيرا " كان الدين " أو كبيرا " أو الكتاب مختصرا كان أو مطولا " إلى
أجله " أي إلى وقت حلوله الذي سمي في الدين أو أقر به المديون.
" ذلكم " أي الكتابة المفهومة من أن تكتبوا " أقسط " أي أكبر قسطا وعدلا
446

عند الله وأقوم للشهادة " أثبت وأعون على إقامتها، قال القاضي: وهما مبنيان
من أقسط وأقام على غير قياس، أو من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم، فيدل على
حجيتها في الجملة على ما مر فتأمل. إنما قال بمعنى " ذي قسط " أي صار ذا عدالة
مثل تأمر ولابن، بمعنى ذا تمر وذا لبن لأن قاسطا قد يكون بمعنى جائر " وأما
القاسطون فكانوا لجهنم حطبا " (1) ولهذا جعله أولا من أقسط، فكأنه بمعنى أعدل
ولعل الهمزة للإزالة كشكى وأشكى، وعلى هذا القياس أقوم، وكونه من أقام
لا من قام، ويحتمل كونه من قويم بمعنى ثابت، فيكون بمعنى أثبت فتأمل في عبارته
ولعل وجه كونه على غير قياس عدم مجئ أفعل من المزيد فيه، فيقال أشد أقساطا
وإقامة.
وفيه أن ذلك ليس بمتفق عليه، فإن سيبويه يجوز ذلك من باب الأفعال
خاصة، صرح به المحقق الرضي في شرح الكافية، حيث قال: وعند سيبويه
هو قياس عن أفعل، مع كونه ذا زيادة، ويؤيده كثرة السماع كقولهم هو أعطاهم
للدينار، وأولاهم بالمعروف، وأنت أكرم لي من فلان، وقلة التغير لأنك تحذف
منه الهمزة وترده إلى الثلاثي ثم تبني منه أفعل الخ وأشار إليه في الكشاف
أيضا حيث قال: فإن قلت مم بني فعلا التفضيل أعني أقسط وأقوم؟ قلت: يجوز
على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام، وأن يكون أقسط من قاسط
على طريقة النسب بمعنى ذي قسط وأقوم من قويم. فإن صح عدم صحة مجيئها
من قسط وقام ويحتاج إلى التكلف الذي ذكراه بقولهما بمعنى الخ تكون الآية
دليلا على مذهب سيبويه، وهو ظاهر، وأيضا وجود غير القياس في القرآن العزيز
غير معقول.
" وأدنى أن لا ترتابوا " أو وأقرب في أن لا تشكوا أنتم والشهود في جنس
الدين وقدره، وحلول أجله، وهذه كلها تأكيدا للكتابة، وبيان فائدتها " إلا
أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها " والتجارة

(1) الجن: 15.
447

الحاضرة تعم المبايعة بعين أو دين لكن غير مؤجل بل كل معاملة بعين أو دين
بيعا وغيره، فالحاضرة أي الحالة وإدارتها بينهم تعاطيها إياها وتداولها وتعارفها
بينهم، ونصب تجارة على أنها خبر تكون والاسم مضمر فيه أي تكون المعاملة أو
التجارة المفهومة من سوق الكلام، وحاضرة صفة لها، وتديرونها كذلك أو حال.
ورفعها على أن تكون تامة أو هي اسمه والخبر وتديرونها والاستثناء من التداين
والتعامل أو الدين، وفي القاضي أنه استثناء عن الأمر بالكتابة وليس بجيد
وهو ظاهر.
فدلت على عدم كون الكتابة في التجارة الحاضرة مأمورا بها بالمثابة التي
كانت في الدين المؤجل، وعلى إباحة المعاملة بالدين الحال والعين " وأشهدوا
إذا تبايعتم " هذا هو التبايع المذكور سابقا أي التجارة الحاضرة، أو مطلق التبايع
وهو الأظهر بل مطلق المعاملة،، فدلت على وجوب الاشهاد عليها أو على التبايع
مطلقا أو المعاملة مطلقا، بأن يطلق البيع ويراد مطلق المعاملة، ولكن الأكثر
على الاستحباب كما هو ظاهر الأصحاب، قال القاضي: والأوامر التي في هذه الآية
للاستحباب عند أكثر الأئمة وقيل أنها للوجوب، ثم اختلف في إحكامها ونسخها
وفيه تأمل إذ الظاهر وجوب أداء الشهادة بل تحملها أيضا كفاية عندهم أيضا وكذا
الكتابة بالعدل والاملال من صاحب الحق والولي وكذا بعض آخر فتأمل.
" ولا يضار كاتب ولا شهيد " أي الشاهد ويحتمل " لا يضار " البناء للفاعل والمفعول
كما في آية الرضاع، وهو نهيهما عن إضرار المتداينين بترك الإجابة والتحريف
والتغيير في الكتابة والشهادة أو نهى عن الضرر بهما مثل استعجالهم عن مهم ضروري
وعن تحصيل المعاش وتكليف السفر إلى بلد القاضي والمدعى عليه وتكليف
الكاتب قلما أو مدادا أو قرطاسا وعدم الجعل له على القول به، كما هو الظاهر
من عدم الضرر والاضرار، فيكون من بيت المال على تقديره وإلا فمن مال صاحب
الدين كما قيل، " فإن تفعلوا " الضرار وما نهيتم عنه " فإنه فسوق بكم " خروج
عن الطاعة لاحق بكم ضرره " واتقوا الله " في مخالفه أمره ونهيه " ويعلمكم الله "
448

أحكامه المتضمنة للحكم والمصالح " والله بكل شئ عليم " كرر لفظة الله في
الجمل الثلاثة لاستقلالها، فإن الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بأنعامه
والثالثة لتعظيم شأنه، ولأنه أدخل في التعظيم من الضمير، فدلت على تحريم مطلق
الاضرار بالمعنى الذي مر وأكده بأن فعله فسق وليس ببعيد فهم كون صاحبه
فاسقا فلا يكون عادلا وعلى وجوب التقوى والوعد والوعيد.
الثانية: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة (1).
أي إن وقع وثبت غريم ذو عسرة فكان تامة، وحاصله إن كان غريم من
غرمائكم أي الذي عليه حق ومال ذا عسرة أي فقر وعديم المال، والجملة شرطية
والجزاء " فنظرة إلى ميسرة " أي فالواجب أو فعليكم أو فلتكن نظرة، والنظرة
التأخير وهو اسم قائم مقام المصدر أي الأنظار، ومثله كثير، والميسرة والميسور
بمعنى اليسار، والغنى والسعة، كذا في مجمع البيان، واختلف في حد الاعسار
فروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل عن قوته وقوت
عياله على الاقتصاد، والظاهر أنه يريد قوت يومه والعيال الذي يجب عليه نفقته من
الزوجة والمملوك والآباء والأولاد على ما ذكره الأصحاب وأيضا استثني له
ثياب تجمله ومهنته وخادمه إن كان من أهله، وداره وما عرفته ولعله بالاعتبارات
والروايات كما في ثوب المهنة والدار، وبالإجماع عندهم فبعدم ذلك تتحقق
الميسرة واليسار.
واختلف أيضا في الدين الذي يجب إنظار صاحبه إذا كان معسرا فقيل مطلق
الدين كذلك، وهو ظاهر كلام الأصحاب بل ظاهر الآية، والمروي عن أبي جعفر
وأبي عبد الله عليهما السلام وقيل: الحكم مخصوص بدين الربا كما هو ظاهر الآية، وقيل
الأمر مخصوص به والباقي كذلك بالقياس كذا في مجمع البيان " وأن تصدقوا "
أي تصدقكم بما لكم على الغريم بالابراء أو بصيغة التصدق، والأول ألصق معنى

(1) البقرة: 280.
449

والثاني لفظا إذ يقال التصدق في عرف الفقهاء لما في الذمة بل الابراء " خير لكم "
أي أكثر ثوابا من إنظاره أو مما تأخذونه بمضاعفة ثوابه ودوامه، فأن مصدرية
وما بعده مبتدأ بتأويل المصدر، وخير خبره " إن كنتم تعلمون " حقيقة الخير و
الشر، أو حقيقة التصدق وثوابه، وما فيه من الأجر الجزيل والذكر الجميل
والانظار وما فيه، أو إن كنتم من أهل العلم والتمييز، تعلمون أن التصدق
خير لكم.
فبالحقيقة علمهم بأن التصدق خير متعلق على علمهم بالمعاني المذكورة
لا خيرية التصدق في نفس الأمر، كما هو الظاهر وهو ظاهر، ففي الآية دلالة على
أن التصدق يطلق على الابراء فيصح الابراء بالتصدق مطلقا إلا أن يظهر دليل
غير قولهم وأنه خير من الأنظار، ولا استبعاد في أفضلية المندوب على الواجب
والظاهر أن أمثاله كثيرة، ولا يمكن أن يقال إن التصدق مشتمل على الأنظار
أيضا ففي الحقيقة الجمع بين الواجب والندب خير من الواجب كما قيل، إذ لا معنى
للجمع بينهما، إذ لا إنظار مع الابراء، وهو ظاهر، ولعل المراد أن ترك المطالبة
والتضييق على الغريم الذي هو الغرض من وجوب الأنظار يتحقق مع إبرائه فهو
موجب لكثرة الثواب، يعني أنه ما ترك واجبا وأتى بما هو الغرض منه، ومع
ذلك فعل فعلا مستحبا فثوابه أكثر، ولا قصور فيه بوجه، وعلى أنه إذا علم
إعسار صاحبه لا يجوز الطلب والحبس بل يجب الأنظار، وعلى أن الابراء حسن
وخير وأن الأنظار واجب، وإن كان بالنسبة إلى فاسق بل كافر وغاصب مع
غنائه وإعساره أيضا.
وبالجملة يدل على أن الاحسان حسن، وإن لم يكن المحسن إليه من
أهله، ويدل عليه ما روي عنه صلى الله عليه وآله: اصنع المعروف إلى كل أحد فإن لم يكن
أهلا له، فأنت أهل لذلك (1) وعموم قوله عليه السلام أيضا من أنظر معسرا ووضع عنه
أظله الله في عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وعنه أيضا عليه السلام من أنظر معسرا كان له بكل

(1) صحيفة الرضا عليه السلام ص 10.
450

يوم صدقة (1) ومن هذا الحديث ذهب بعضهم إلى أن المراد بالصدقة في الآية هو
الأنظار وهو بعيد، ولا استبعاد أيضا في أفضلية الابراء من الأنظار مع بقاء المال في
الذمة وحصول كل يوم بل كل ساعة صدقة فيه، مع أن القرض أيضا أفضل من الصدقة
لاحتمال خيرية هذه الصدقة بخصوصها بالنص من الآية الشريفة والأخبار.
ثم أكد سبحانه الترغيب إلى الطاعات سيما الصدقة والانظار والترهيب عن
فعل المعاصي بقوله " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " أي يوم القيامة أو يوم الموت
فتأهبوا لمصيركم إليه " ثم توفى كل نفس ما كسبت " أي تستوفي فيه أجرة
كسبه خيرا أو شرا " وهم لا يظلمون " بنقص ثواب الأعمال وزيادة عقاب المعاصي
وعن ابن عباس أنها آخر آية نزل بها جبرئيل عليه السلام وقال: ضعها في رأس المائتين
والثمانين من البقرة، وعاش رسول الله صلى الله عليه وآله بعدها أحدا وعشرين يوما، وقيل
أحدا وثمانين وقيل سبعة أيام وقيل ثلاثة ساعات كذا في القاضي والكشاف و
الظاهر أن المراد هذه الآية أي " واتقوا " إلى قوله " لا تظلمون ".
وفي مجمع البيان: وروي عن ابن عباس وابن عمر أن آخر ما نزل من
القرآن آي الربوا، والظاهر أن الأول لبعد عدم هذا التحريم فيه إلى محل
الفوت، وأيضا هي المناسب لأن تكون آخر ما نزل، ولهذا يفهم من كلامه أيضا
في جامع الجوامع ذلك، لأن كلامه مثل كلام الكشاف فتأمل.
الثالثة: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة
والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون (2).
" من " استفهامية مرفوعة بالابتداء، و " ذا " خبره " و " الذي " صفة " ذا "
أو بدله، " وقرضا " مفعول مطلق بمعنى إقراضا " وحسنا " صفته، أو بمعنى مقرضا
محسنا فيكون حالا عن فاعل يقرض، وكأن المعنى تحريص وترغيب على إقراض
الله ولعل المراد باقراضه الأعمال لوجه الله، سواء كانت ببذل النفس كما في الجهاد

(1) مجمع البيان ج 2 ص 393.
(2) البقرة: 245.
451

أو السعي في تحصيل العلوم والواجبات، أو السعي في قضاء الحاجات، وسائر مرضات
الله أو صرف المال في مثل الزكاة ونفقة العيال وصرفه الله على أي وجه كان قرضا كان
أو غيره، وكأنه شبه تقديم العمل الذي يتعقبه العوض والجزاء والثواب بالقرض
الذي هو قطع المال ودفعه ليعوض به، أو يكون المراد قرض المحتاجين لله قرضا
حقيقيا ولعل المراد بحسن القرض فعله مخلصا خاليا عن غير وجه الله مفهوما من قوله
" يقرض الله " وبطيب النفس من غير كدورة وكسل، وبغير من ولا أذى، فيضاعفه
بتجارته ضعفا كثيرا أي أمثالا كثيرة لا يقدره إلا الله قيل الواحد بسبعمائة، وأضعافا
جمع ضعف، ونصبه على الحال من الضمير المنصوب أو المفعول الثاني لتضمن المضاعفة
معنى التصيير، أو على المصدر على أن الضعف اسم المصدر وجمع للتنويع ويقيمون
اسم المصدر مقامه، ويجعلونه بحكمه، وكأن تأنيث الكثيرة لكونها صفة للجمع
وقرئ يضاعف بالنصب لكونه جواب الاستفهام لأن " من ذا " بمنزلة أيقرض الله
أحد؟ فالتقدير فأن يضاعفه، والله يقتر على بعض ويوسع على بعض على حسب ما
اقتضاه مصلحتهما، فلا تبخلوا عليه تعالى بما وسع عليكم، ولا تهينوا من قتر عليه
فلا ينبغي لمن قتر عليه أن يخرج عن الرضا، ولا لمن وسع عليه أن يتكبر، أو أنه
يقبض القرض ويوسع في العوض أو أنه يقبض على البعض بأن يميته ويبسط على
الوارث " وإليه ترجعون " فالمرجع هو الله، فيجازيكم على حسب أعمالكم، وتجدون
ما فعلتم له ولغيره.
ونحوها: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم (1)
وأن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم
أجر كريم (2) وقوله تعالى إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم (3).

(1) الحديد: 11.
(2) الحديد: 18.
(3) التغابن: 17.
452

أي إن تصرفوا المال حسبما أمر الله به صرفا حسنا مقرونا بالإخلاص، وطيب
النفس، من غير أن يتبعه منة وأذى يضاعفه لكم بالأجر العظيم والثواب الجزيل
حتى روي بالواحد عشرا إلى سبعمائة، والاختلاف بسبب النية واستحقاق المنفق
عليه وصلاحه وعلمه وقرابته وغير ذلك، فيحتمل كون المراد قرضا عرفيا فيكون
دليل استحبابه بخصوصه والعموم فيكون دليلا عليه، وعلى جميع الاحسان مثل
كشف الكرب عن المسلم، وقضاء حاجته، وإدخال السرور عليه، وما يدل عليه
في الكتاب والسنة كثير جدا ويدل عليه العقل أيضا.
453

وأما توابع الدين فهي أنواع:
* (الأول الرهن) *
وفيه آية واحدة وهي:
وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم
بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن
يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم (1).
يعني إن كنتم أيها المتعاملون بالدين المؤجل - بقرينة ولم تجدوا كاتبا فإن
الكتابة إنما كانت فيه ويحتمل في مطلق المتعاملين بالدين، وقال في مجمع البيان
أيها المتداينون المتبايعون والتخصيص غير سديد ويكون " ولم تجدوا " الخ إشارة
إلى شرط جريان الرهن في جميع أنواع الدين فإنه لو وجد لم يحتج في المؤجل إليه
أو يكون إشارة إلى جريان الكتابة في مطلق الدين.
" على سفر " أي ثابتين في السفر فهو خبر " كنتم " أي إن كنتم مسافرين ولم
يكن معكم من يكتب لكم ولا يشهد أيضا، ذكره في مجمع البيان كأنه يريد أن
الله أشار بقوله " ولم تجدوا كاتبا " إلى فقد ما يوثق به الذي مر فيما سبق، وهو
الكتابة والشهادة، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر، وهذا تكلف ما يحتاج إليه
مع أنه يزيد شرط آخر للرهن مع أنه ليس كذلك بالاتفاق على الظاهر " فرهان
مقبوضة " أي فالوثاق بينكم برهان مقبوضة، أو فالذي يوثق به رهان، أو فليؤخذ
رهان، أو فعليكم رهان أو فرهان مقبوضة يقوم مقامه، ويصح كونه مبتدأ لكونه
موصوفا، والرهان جمع رهن بمعنى المرهون وكذا الرهن بالضم وهو ما يوثق به

(1) البقرة: 283.
454

والظاهر أن اشتراط السفر وعدم وجدان كاتب لمشروعية الرهن خارج
مخرج الغالب، وذكر لما هو الأحوج إليه، إذ الظاهر عدم الخلاف في مشروعيته
بدونهما، وما ذكره القاضي بقوله ليس هذا التعليق لاشتراط السفر في الارتهان إلى
قوله بل لإقامة التوثيق بالارتهان مقام التوثيق بالكتب في السفر الذي هو مظنة
اعوازها مقتصرا للكشاف غير ظاهر، ولعل عدم الكاتب شرط عندهما، وهو بعيد
على أن كلامه يدل على مدخلية السفر فتأمل، ويحتمل أن يكون مستحبا
حينئذ فقط وإن كان جايزا بالإجماع والخبر.
ثم إن ظاهرها الوجوب، ولكن الظاهر أنه ما ذهب إليه أحد فيحمل على
الاستحباب أو الارشاد مثل الكتابة والاشهاد ولا يبعد كون المخاطب بفعله والمرغب
فيه المريد من الذي له الحق والذي عليه كما في الكتابة والشهادة إذ نفعه يعمهما
ومعنى الرهن والقبض معلوم من كتب الفقه، وكذا سائر الشروط.
فدلت على إباحة الرهن بل كونه مرغوبا أخذا وإعطاء، قيل: وعلى كون
القبض شرطا لصحة عقد الرهن وترتب فائدته عليه، قال القاضي: والجمهور على
الاشتراط غير مالك، وهو مذهب أكثر الأصحاب، وقال في مجمع البيان: إن لم
يقبض لم ينعقد بالإجماع، وكأنه يريد الأكثر أو لم يعتبر المخالف وهو بعيد، إذ
الشيخ في الخلاف وموضع من المبسوط والعلامة وابن إدريس وذهبوا إلى عدم
الاشتراط، وقال في كنز العرفان: المحققون من الأصحاب عليه (1) وهو أيضا
غير واضح.
واعلم أن دلالة الآية بمفهوم الوصف على مذهب الأكثر كما قيل غير ظاهر
بل يمكن أن يكون دليل مذهب الأقل إلا أن يكون الوصف للبيان كما يدل عليه
رواية محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال لا يرهن إلا مقبوضا (2) وإن كان فيه محمد بن
قيس المشترك بين العدل وغيره ولكن الظاهر من فتوى الأكثر به مع عدم جواز
الفتوى بخبر غير العدل أنه هو العدل فتأمل فيه.

(1) كنز العرفان ج 2 ص 60.
(2) التهذيب ج 2 ص 166.
455

نعم يدل عليه أنه روى عنه عاصم بن حميد وهو تلميذ الثقة فليس سبب الضعف
اشتراكه كما قيل، بل وجود حسن بن محمد بن سماعة، وعدم صحة الطريق
إليه، والعمدة أن الوثيقة الشرعية المترتب عليها الأحكام الشرعية الخاصة
مثل سقوط سلطنة المالك عن ملكه ودخوله تحت سلطنة غيره، الأصل عدمهما لا
يمكن استفادتها إلا من الشرع لأنه أمر شرعي يحتاج إلى دليل شرعي وإلى
تلق منه ولا يكفي فيه الأصل والعقل والذي علم أنه كذلك بالإجماع والآية و
الخبر هو الرهن المقبوض، وغيره بقي تحت العدم، ولا يكفي أيضا فيه عموم مثل
" وأوفوا بالعقود " إذ كون الرهن بدون القبض عقدا شرعيا متلقى منه داخلا تحته
غير معلوم ولا مظنون، مع ما ذكرناه من الوجه.
وأيضا إن كان المراد بالعقود الصحيحة فلا نسلم صحة العقد الواقع بدون
القبض إذ لا نسلم أن كل ما صدق عليه العقد في الجملة أنه عقد صحيح أو الأصل
فيه أنه صحيح إذ لا شك في اعتبار الشرائط الزائدة عليه، وليس حصولها معلوما
ولا مظنونا وبالجملة إثبات الصغرى مشكل في هذه الصورة بمثل هذه وإن كان الأعم
أو الفاسد، فمعلوم عدم دلالته على عدم اشتراط القبض في العقد الصحيح، على أنه
قد قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بها الأعم كما هو الظاهر، فيجب الإيفاء
بمقتضى مطلق العقد صحيحا كان أو فاسدا، فالصحيح بمقتضى الصحة، والفاسد
بمقتضى الفساد، إذ للفاسد أيضا أحكام شرعا فتأمل.
" فإن أمن بعضكم بعضا " أي إن وثق واعتمد صاحب الحق صاحبه الذي عليه
الحق بأن لا يجحده ولا ينقص ولا يماطل لم يستوثق برهن هذا هو الظاهر إذ الكلام
على تقدير عدم وجدان الكاتب لأن الأمر بالرهن كان على التقدير، وهذا
مرتب عليه، قال الكشاف والقاضي: واستغنى لأمانته عن الارتهان، وزاد في
مجمع البيان نفي الكتابة ولا يبعد زيادة نفي الشهادة أيضا أي استغني لأمانته عن
أخذ الرهن والكتابة والشهود " فليؤد الذي اؤتمن " أي الذي عليه الحق " أمانته "
أي دينه الذي ائتمنه عليه سماه أمانة لذلك، والظاهر أنه غير مشروط بالعدالة
456

عقلا ونقلا، وأداؤه إعطاؤه وإيصاله إلى صاحبه، بغير جحود يحتاج إلى الاثبات
ولا ينقص منه شيئا، ويعطيه في محله من غير مطل وتسويف، وأراد بالأمانة ما اؤتمن
عليه فهو مصدر بمعنى المفعول " وليتق الله ربه " في الخيانة وخلاف أداء الأمانة
أو مطلقا في مخالفة الله وفيه مبالغة زائدة.
" ولا تكتموا الشهادة " أيها الشهود عند الأداء وهو إذا ما دعوا، فالمراد هم
أو مع من عليه الحق فتكون شهادته على نفسه، ففيه مسامحة ما، أو هو فقط فمسامحته
أقل وألصق بما سبق " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " فإن مع اسمه أي الضمير و
خبره أي " آثم " و " قلبه " فاعله أو أن قلبه مبتدأ وآثم خبره مقدم والجملة خبر
إن خبر فإنه موصول مع صلته مبتدأ ولتضمنه معنى الشرط صح دخول الفاء
في خبره، وهو للمبالغة في النهي عن ترك الشهادة، فإنه ما اكتفى بالنهي بل أعاده
مرة أخرى بأن من يفعل ذلك يأثم قلبه، وإسناد الإثم إلى القلب لأن الكتمان
فعله لأن العزم على الكتمان إنما يقع بالقلب، لأن إضافة الإثم إلى القلب أبلغ
في الذم كما أن إضافة الايمان إلى القلب أبلغ في المدح كذا في مجمع البيان
" والله بما تعملون " من السر والكتمان وإظهار الحق " عليم " فيجازي الكل
بحسب علم يعلمه، ففيه ترغيب وترهيب.
فدلت على وجوب أداء الدين بغير نقص على ما مر، على الذي اؤتمن وترك
أخذ الوثيقة منه، ولعل الغرض من ذكره بخصوصه، وشرط الأمانة في ذلك
زيادة المبالغة والأولوية وإلا فهو واجب على كل من عليه حق الغير عند الطلب و
القدرة إجماعا، ومعلوم هنا أيضا أنه مقيد بهما لذلك ولأنه كان محل الجحود
والإنكار، فأراد نفيه بخصوصه تأكيد ومبالغة، ويمكن استفادة أن مجازات المحسن
بالإحسان حسن، ويمكن كونه سبب التخصيص فافهم، ويمكن كونه إشارة إلى
وجوب أداء كل أمانة إلى صاحبها لا خصوصية له بدين ولا رهن، ولا بالراهن و
المرتهن، فيشمل الرهن في الراهن والمرتهن وغيرهما والدين مطلقا، ويحتمل
أن يكون المراد إن كان الرهن بيد الراهن اعتمادا من المرتهن عليه وعلى أمانته
أو بالعكس، وعلى وجوب التقوى وعلى تحريم كتمان الشهادة.
457

* (الثاني الضمان) *
ونقل فيه آيتان:
الأولى: ولمن جاء به حمل بعير وأنابه زعيم (1).
الثانية: سلهم أيهم بذلك زعيم (2).
وأنت تعلم عدم دلالتهما على الضمان المشروع عند الفقهاء سيما الأخيرة
فدليلهم الاجماع والأخبار، نعم في الأولى إشارة ما إلى مشروعية الجعل وضمانه
قبل الشروع في العمل في شرع من قبلنا، قال البيضاوي: فيه دليل على جواز الجعالة
وضمان الجعل قبل تمام العمل وفيه تأمل.
* (الثالث الصلح) *
ونقل فيه ست آيات:
الأولى: " لا خير في كثير من نجويهم (3) " أي اسرارهم وهو لا يتم إلا بين اثنين
كالدعوى " إلا من أمر بصدقة " فإن في نجواه خيرا " أو معروف " يعني به أبواب البر
لاعتراف العقول بها، ولأن أهل الخير يعرفونها " أو إصلاح بين الناس " أي تأليف
بينهم بالمودة ورفع النزاع، بل إيصال النفع إلى الناس مطلقا إصلاح بينهم في الجملة
وظاهره إصلاح ذات البين، ويحتمل العموم ولعل يؤيده ما ذكره في مجمع البيان
وقال علي بن إبراهيم في تفسيره: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: إن الله فرض التمحل، قال: فقلت: وما التمحل جعلت فداك
قال: أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتمحل له وهو قوله " لا خير في كثير

(1) يوسف: 72.
(2) القلم: 40.
(3) النساء: 113.
458

من نجويهم " الآية قال: وحدثني أبي رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: إن
الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم (1).
الثانية: " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " (2) وقد مر تفسيرها في باب
الخمس.
الثالثة: قوله تعالى " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " (3) أي إن يريد الحكمان
إصلاحا أو صلاحا بين الزوج والزوجة يوفق الله بينهما للصلاح والسداد، ورفع
الشقاق والنفاق، أو يوفق الله بين الحكمين ليتفق كلامهما، ولا يقع بينهما خلف
حتى يجتمعا على صلاحهما، فيحصل ذلك بين الزوجين أو إن يريد الزوج والزوجة
إصلاحا يوفق الله بينهما أو بين حكميهما ليتفقا على صلاح وسداد، ولعل يوفق
الله بينهما خيرا.
فتدل على أنه ينبغي الصلح بل أن مريد شئ مطلقا ينبغي أن لا يريد إلا
خيرا وأنه إذا كان كذلك ويوافق ظاهره باطنه يحصل مطلوبه، ولهذا قيل: وفيه
تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه " إن الله كان عليما خبيرا "
بظواهر الأمور وبواطنها فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق على وجه الحكمة
والمصلحة فلا بد من خلوص النية فإنه لا يمكن إخفاء شئ عليه، فلا ينفع إظهار
الصلاح وإرادة النفاق، وفيه وعظ للحكمين، بأن لا يريدا في الظاهر والباطن إلا
الاصلاح، بل لكل أحد بموافقة علانيته سره.
الرابعة: " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما " (4)
أي فلا حرج ولا إثم على كل واحد من الزوج والزوجة " أن يصلحا بينهما صلحا "
بأن تترك المرأة له يومها أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة أو كسوة أو غير ذلك
مستعطفة له بذلك فتستديم المقام في حباله، هكذا فسر، وفيه تأمل لأنه يلزم إباحة
أخذ شئ للاتيان بما يجب عليه، وترك ما يحرم عليه، وإلجاء صاحب الحق بأن

(1) مجمع البيان ج 3 ص 109 تفسير القمي 141.
(2) الأنفال: 1.
(3) النساء: 34.
(4) النساء: 127.
459

يعطي شيئا حتى يستوفي الحق، وعدم الإثم وعدم الحرج حينئذ محل التأمل.
ولا شك في تحريم الاعراض والنشوز إذا كان عما يجب عليه، فيمكن أن
يحمل على ترك بعض الأمور المتعارفة المتداولة بين الزوج والزوجة من التلطف
وحسن المعاشرة زائدة على الواجبات، بأن يتركه وعمل بمحض الشرع المر إعراضا
عنها وتوجها إلى غيرها مما يجد فيها من المنفرات فلا جناح حينئذ أن يستعطف
المرأة فتبذل له ما يريد حتى يتوجه إليها بالمتعارف وحسن المعاشرة والمحبة
والمودة الزائدة على الواجب وترك المحرم، أو أن المراد بأن يصلحا صلحا:
لا يستلزم قبيحا.
ثم قال: " والصلح خير " معناه والصلح بترك [بعض] الحق خير من طلب الفرقة
بعد الألفة أو من النشوز والاعراض وسوء العشرة، أو هو خير من الخصومة في
كل شئ، والصلح خير من الخيور كما أن الخصومة شر من الشرور، فليس أفعل
التفضيل بمعناه بل استعمله في معنى أصل الفعل، وهو كثير، هذا إذا كان بطيب
من نفسها، فإن لم يكن كذلك، فلا يجوز له إلا ما يسوغ في الشرع من القيام
بالكسوة والنفقة والقسمة وإلا طلاقها.
فدلت على الترغيب في حسن المعاشرة، بحيث لا يتوقع منهما النشوز والاعراض
وعلى تقدير الوقوع ينبغي رفعهما، وطلب إدامة النكاح دون الطلاق والمفارقة
وأنه ينبغي تركه، وأنه يجوز أخذ عوض ترك النشوز مع طيب النفس وأن الحق
للزوجة مثلا، وليس بحق من الله فباسقاطها مثل القسمة والنفقة يسقط، ويفهم
من ظاهر التفاسير أنه يسقط بإسقاطها قبل وقته أيضا فدلت على جواز اسقاط ما لم يجب
فإذا أسقطت ليلتها أو وهبتها لغيرها قبل وقتها يسقط كما نقل فعل سؤدة بنت زمعة
بالنسبة إلى عائشة فتأمل.
الخامسة: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم (1).
السادسة: فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل (2) مضمونهما الترغيب في المواساة

(1) الحجرات: 10.
(2) الحجرات: 9.
460

والصلح كغيرهما.
واعلم أن في دلالة الكل على الصلح الشرعي الذي ذكره الفقهاء في كتاب
الصلح تأملا واضحا.
* (الرابع الوكالة) *
واستدل على مشروعيتها بثلاث آيات.
الأولى: " إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " (1) فإنه شامل للوصي
والوكيل وسيأتي في الطلاق.
الثانية: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها " الآية. (2)
الثالثة: " فلما جازوا قال لفتاه آتنا غدائنا " (3) ظاهر الثانية لا يخلو عن دلالة
ما وفي الأولى والأخيرة لا دلالة على ما نفهم فافهم.

(1) البقرة: 237.
(2) الكهف: 19.
(3) الكهف: 63.
461

* (كتاب) *
* (قيل وفيه جملة من العقود) *
وفيه مقدمة وأبحاث أما المقدمة ففيها آية واحدة مشتملة على أحكام كلية.
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود (1).
الوفاء والايفاء القيام بمقتضى العقد والعهد، والعقد العهد الموثق المشدد
بين اثنين، فكل عقد عهد دون العكس، لعدم لزوم الشدة والاثنينية، وفي الكشاف
العقد العهد الموثق، وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من
واجب التكليف الخ، ويحتمل كون المراد العقود الشرعية الفقهية ولعل المراد
أعم من التكاليف والعقود التي بين الناس وغيرها كالأيمان، والايفاء بالكل واجب
فالآية دليل على وجوب الكل فمنها يفهم أن الأصل في العقود اللزوم.
" أحلت لكم بهيمة الأنعام " يحتمل أن تكون إشارة إلى بعض تفصيل
العقود، قاله في الكشاف، فالإيفاء بمثل الواجب هو اعتقاد حل أكلها، ووجوبه
مع الحاجة، ويحتمل أن يكون المراد إباحة أكل لحمها أو مطلق الانتفاع بها
قيل البهيمة كل حي لا تميز له، وقيل كل ذات أربع، وإضافتها إلى الأنعام
للبيان: أي البهيمة من الأنعام، وهي الأزواج الثمانية، والحق بها الظبا وبقر
الوحش وحماره، وقيل هي المراد بالبهيمة وهذا تخصيص غير واضح، فإن الظاهر
شمولها لجميع ذوات الأربع أو كل حي لا تميز له، ولا يبعد إرادة ذلك من الأنعام
أيضا ويكون ذكرها للتأكيد كما يفهم من مجمع البيان.
فتدل على إباحة كل ذلك، مثل الحمار والفرس والبغل وغيرها، ويخرج
ما علم تحريمه بدليله، مثل " حرمت عليكم الميتة " ويؤيده العموم قوله " إلا ما
يتلى عليكم " أي إلا الذي يتلى عليكم آية تحريمه أو محرم ما يتلى عليكم، كقوله

(1) المائدة: 1.
462

" حرمت عليكم الميتة " الآية.
" غير محلي الصيد " قيل: حال من كم في لكم، وقيل من ضمير أوفوا وفي تقييد
الإيفاء وحل البهيمة به تأمل وقيل استثناء وكأنه عن بهيمة الأنعام وفيه تعسف لفظا
لعدم إمكان استثناء " محلي " عن بهيمة " وأنتم حرم " حال عن ضمير " محلي " و
الحرم جمع حرام أي المحرم " إن الله يحكم ما يريد " من تحليل وتحريم إشارة
إلى عدم السؤال عن اللم والعلة لايجاب الوفاء، وإباحة ما أباح، واستثناء ما يحرم
لعدم النفع الحاصل بذلك، ففيه إشارة إلى بطلان القياس باستخراج العلة.
فهذه تدل اجمالا على الإيفاء بجميع العقود، فلنذكر ما يدل نصا أو ظاهرا
على ذلك وهو أنواع.
* (الأول الإجارة) *
وفيها آيتان:
قوله: يا أبت استأجره، قوله: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين
على أن تأجرني ثماني حجج (1).
فيهما دلالة على مشروعية الإجارة في الجملة في شرع من قبلنا، وحجيتهما
عندنا موقوفة على كونه حجة عندنا، وليس بثابت، وتحقيقه في الأصول ولا يكفي
" الأصل عدم النسخ " في دلالتهما عليها عندنا وكون ذلك العقد مما يتوقف عليه
حفظ النوع إن تم فليس بدليل على دلالتهما عليها بل هو دليل عليها، وفي الأخيرة
دلالة على جواز جعل المهر عمل الزوج بل جعل نفسه أجيرا وعدم تعيين الزوجة و
انعقاده بقوله " أريد أن أنكحك " الآية وفيه تأمل في شرعنا، دلالة الثانية أخفى.

(1) القصص: 26 و 27.
463

* (الثاني الشركة) *
وفيها ثلاث آيات:
الأولى " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " (1) فإنها تدل على اشتراك الغانمين
في الغنيمة.
والثانية: " فهم شركاء في الثلث " (2) وكذا غيرها في المواريث لاقتضائها الشركة
التزاما.
والثالثة: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " (3) على القول بالبسط.
في دلالة الأولى مناقشة، والأخيرة لا دلالة لها، بل لا قائل بها في الزكاة
عندنا، لانتفاء لوازم الشركة مثل اختيار المالك في تعيين المخرج، وجواز تصرفه
بغير إذن الفقراء، وعدم حصول النماء لهم وغير ذلك، ولا يدل على القول بوجوب
البسط أيضا على الشركة، وهو ظاهر، وليس ذلك مبنيا عليها أيضا، بل لا معنى
للقول بأنها تدل عليها على القول بوجوب البسط، نعم الثانية ظاهرة في ذلك ولا
يحتاج حصولها إلى دليل بل أحكامها فتأمل.
* (الثالث المضاربة) *
وفيها أيضا ثلاث آيات: الأولى: " فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل
الله " والثانية: " وإذا ضربتم " الآية. والثالثة: " وآخرون يضربون في الأرض
يبتغون " (4) الآية.
لا دلالة فيها إلا بعموم بعيد، وآية البيع والتجارة أقرب منها والمضاربة
في اصطلاحهم دفع أحد النقدين إلى شخص ليعمل به فتكون له حصة من الربح.

(1) الأنفال: 69.
(2) النساء: 11.
(3) براءة: 61.
(4) الجمعة: 10: النساء: 100: المزمل: 20.
464

* (الرابع الابضاع) *
وفي مشروعيته أيضا ثلاث آيات: الأولى: " وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم
في رحالهم " الآية، والثانية: " وجئنا ببضاعة مزجاة " والثالثة: " ولما فتحوا
متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم " (1) عدم دلالتها على المطلوب واضح، فإنه دفع
مال إلى أحد ليتجر له مجانا، ومعلوم أن المراد في الآيات مال إخوة يوسف
الذي اشتروا به طعاما وأن هذا لا يحتاج إلى الآيات، وأظن أن آيات التجارة
والوكالة أدل.
* (الخامس الايداع) *
وفيه أيضا ثلاث آيات: الأولى: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها "، الثانية " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته "، الثالثة:
" ومن أهل الكتاب من إن تأمنه " الآية (2).
فمضمون قوله: " أن تؤدوا الأمانات " و " من أهل الكتاب " مما يدل عليه
العقل أيضا فإن وجوب أداء الأمانات كلها إلى أهلها ضروري والظاهر أنه فوري
مع الطلب بغير خلاف، ويمكن تعميمه لأداء جميع الواجبات كما نقل في مجمع البيان
وقد مر تفسير " فليؤد الذي اؤتمن، وأنه في الرهن لا في الايداع.
* (السادس العارية) *
وذكر لمشروعيتها آيتان:
الأولى: " وتعاونوا على البر والتقوى " (3) أي فليعاون بعضكم بعضا على
الاحسان، واجتناب المعاصي وامتثال الأوامر، والثانية: " ويمنعون الماعون " (4)

(1) يوسف: 62، 88، 65.
(2) النساء: 57، البقرة: 283، آل عمران: 75.
(3) آل عمران: 3.
(4) الماعون: 7.
465

في الأولى دلالة ما لعمومها، وفي الثانية: تأكيد عظيم في منع الماعون عن الطالب
بحيث لا يمكن حملها على ظاهرها، فإنه يفهم أنه شقيق الريا وصاحب الويل، قيل:
المراد بالماعون ما ينتفع به.
* (السابع السبق والرماية) *
وفيه آيات: الأولى: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " قيل هي الرمي
الثانية: " قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا "، والثالثة:
" فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب " (1) وفي دلالتها على معناهما الشرعيين تأمل
ظاهر، سيما الأخيرة.
* (الثامن الشفعة) *
يمكن أن يستدل بها عليها آيات لأنه قد يحصل بالشركة ضرر، فيستدل
بما يدل على رفعه كقوله تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " وقوله:
" ولو شاء الله لأعنتكم " وقوله: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " (2) وقد مر
معناها، وليست في الآيات دلالة عليها على ما يفهم فتأمل.
* (التاسع اللقطة) *
ولم يرد ما يدل بخصوصه عليها بل عموم " وتعاونوا على البر والتقوى "
" واستبقوا الخيرات " (3) يدل عليه، لكن حكي عن القرون الماضية كقوله تعالى:
" فالتقطه آل فرعون " وقوله: " يلتقطه بعض السيارة " (4) دلالتها على اللقطة بعيدة

(1) الأنفال: 61، يوسف: 17، الحشر: 60.
(2) الحج: 78: البقرة، 220، 185.
(3) آل عمران: 3، البقرة: 148، والمائدة: 51.
(4) القصص: 8، يوسف: 10.
466

جدا فإنهم ذكروا أنها في محل جوازها مكروهة، فكيف تدخل في الأمر بالتعاون
على البر ونحوه.
* (العاشر الغصب) *
ويدل عليه عموم قوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " (1)
وقوله " وإن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل " (2)
ويدل عليه بخصوصه وعلى جواز المقاصة قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (3) وقوله: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " وقوله
تعالى: " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " (4) المطلوب من فعل
الغصب وما يدل عليه غير ظاهر، فتأمل.
* (الحادي عشر الاقرار) *
وفيه آيات: الأولى: " فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير " الثانية:
" وآخرون اعترفوا بذنوبهم "، والثالثة: " أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري "
والرابعة: " قالوا أقررنا "، الخامسة: قوله " كونوا قوامين بالقسط شهداء ولو
على أنفسكم " (5) دلالة غير الأخيرة على الاقرار المطلوب غير ظاهرة، نعم الأخيرة
ظاهرة فيه، وما كان ينبغي نقل هذه العقود بهذه الأدلة، ولكن نقلتها اتباعا، و
لاظهار عدم فهم الدلالة على ما فهمت.

(1) البقرة: 188، والنساء: 28.
(2) براءة: 35.
(3) البقرة: 194، (4) الشورى: 40 و 41.
(5) الملك: 11، براءة: 105، آل عمران: 81، النساء: 134.
467

* (الثاني عشر الوصية) *
وفيها ثلاث آيات:
الأولى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية
للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين (1).
الحضور وجود الشئ بحيث يمكن أن يدرك، والخير هو المال لغة، واختلف
في تقديره هنا فنقل في مجمع البيان عن بعض أنه المال قليلا كان أو كثيرا ثم نقل
عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه دخل على مولى له وله سبعمائة درهم أو ستمائة، فقال:
ألا أوصي؟ فقال: لا، إنما قال الله سبحانه، إن ترك خيرا " وليس لك كثير مال
وهذا هو المأخوذ به عندنا، لأن قوله حجة، وأنت تعلم أنه إذا قيل المراد بالآية
وجوب الوصية كما قيل إنها كانت واجبة ونسخت أو المراد الاستحباب الخاص
فالأخذ به جيد إن ثبت وأما إذا لم يكن كذلك فالعمل به مشكل فإن الوصية ليست
مقيدة بمقدار من المال، ولهذا ما نجد تقييدها به في الفقه.
نعم بحثوا عن استحبابها، هل هو بالثلث أو الخمس أو السدس، وقالوا:
الربع أولى من الثلث والخمس أولى منه، وتدل عليه روايات ليس هذا محلها
والتفصيل بوجود الدين وعدمه، وبوجود الوارث المحتاج وعدمه غير بعيد، فيثبت
في البعض، ويبقى في الآخرة على ما يقتضيه العقل والدليل الشرعي، والمعروف
هو العدل الذي لا يجوز أن ينكر، ولا حيف فيه ولا جور، والمعنى على الظاهر
فرض عليكم يا أيها الذين آمنوا أو كل من يصلح للخطاب، إذا ظهر عندكم
أسباب الموت وأمارته بالمرض والهوام والوباء وغير ذلك مما يظن الموت عنده، إن
كان لكم مال أن توصوا للوالدين وسائر الأقارب بشئ منه حق ذلك حقا بوجه

(1) البقرة: 180.
468

لا تخرجون عن الشرع كالوصية لهم قبل اخراج جميع الواجبات، وحرمان الصغار
فإذا ظرف " حضر " و " الوصية " مرفوعة بكتب، والتذكير لأنه بتأويل أن توصوا
أو الايصاء أو أنه مصدر. ولهذا ذكر الضمير في قوله " فمن بد له " و " يبدلونه "
أو لكون التأنيث غير حقيقي وأما ما قاله القاضي من أن سبب تذكير الفعل يعني
" كتب " وقوع الفصل بينه وبين الوصية، فقد علمت أنه مما لا يحتاج إليه، على
أنه يوهم أنه لو لم يكن الفصل لم يصح التذكير مع أنه يصح لما مر.
وقيل: معناه فرض عليكم الوصية في حال الصحة أن تقولوا إذا حضرنا
الموت فافعلوا كذا وكذا وهو بعيد، و " حقا " مفعول مطلق للمفهوم من مضمون
الجملة للتأكيد يعني ثبت ذلك ووجب وحق حقا وواجبا وثابتا على الذين يتقون
من عذاب الله، ويتقون معاصيه، فكأنهم خصوا بعد فهم التعميم من " عليكم "
لشرفهم وكثرة انتفاعهم وصلاحيتهم لمخاطبة الله تعالى، وبالمعروف إما متعلق بالوصية
أو بمقدر حال عنها.
ثم اعلم أنه قال في الكشاف: إن الوصية كانت في بدو الاسلام واجبة، فنسخت
بآية المواريث، وبقوله عليه السلام إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث
وتلقاه الأمة بالقبول، حتى لحق بالمتواتر، وإن كان من الآحاد، وفيه نظر إذ
لا منافاة بي الإرث والوصية كما أنه لا منافاة بينه وبين الدين فيخرج أولا الدين
ثم الوصية، ثم يعطى الإرث، وأيضا قد يكون من الأقارب غير وارث، فكيف
ينسخ بالخبر، وأيضا قد ينسخ الوجوب ويبقى الجواز الأصلي أو الشرعي على ما
قيل، فلا يحرم الوصية لهم كما يقولون، وأيضا كون الخبر صحيحا أو متواترا
غير ظاهر، ويفهم من كلامه أيضا وتلقى جميع الأمة له بالقبول غير ظاهر، بل
الأكثر بل الظاهر عدمه أيضا مع أنه ليس بحجة ينسخ بها القرآن القطعي فيمكن
حينئذ حمله على تقدير ثبوته على الوصية الغير الجائزة كما إذا زاد على الثلث
كما قيل، فحملها على الاستحباب غير بعيد، فيكون الحكم باقيا وسبب التخصيص
بالآباء والأقارب، تأكيد الحكم فيهم، و " كتب " بمعنى ندب، بدليل الاجماع
469

على عدم الوجوب، وأصل عدم النسخ والروايات، فيفهم حينئذ منها الاستحباب
المؤكد للمذكورين.
فيفهم من الآية التي بعدها وهي " فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على
الذين يبدلونه إن الله سميع عليم " تحريم تبديل تلك الوصية كما هو الظاهر لا
تحريم جميع الوصايا ويحتمل التعميم للعلة الظاهرة وعدم القائل بالفصل ولكن الأول
قد يمنع، وإذا كان الاجماع ثابتا فلا يحتاج إلى ضم هذه الآية بل يستدل به أولا
فاستدلال الأصحاب بهما سيما المحقق الثاني على تحريم التبديل الوصايا مطلقا والحبس
والوقف وغير ذلك محل التأمل، بعد بقاء حكمها وعدم نسخها أيضا.
ثم الفاء للتعقيب و " من " مبتدأ موصولة متضمنة لمعنى الشرط، و " بعد "
ظرف التبديل مضافة إلى ما المصدرية ويحتمل الموصولة، وتكون عبارة عن الوصية
المسموعة، وهو تغيير الحق عن موضعه والفاء جزائية و " ما " كافة مانعة عن العمل
كما في حيثما ومهما، و " على الذين " متعلقة بمقدر خبر " إثمه " وهو مبتدأ، و
الضمائر البارزة كلها للوصية إلا ضمير إثمه فإنه راجع إلى " من " لأن الجملة خبر
له، ولا بد فيه من عائد، وليس غيره، أو راجع إلى تبديله أي إلى تبديل من فبهذا
الاعتبار يصح، أو أنه راجع أيضا إلى الوصية أي الايصاء المغير، ويكون " على
الذين " عائدا لأنه ذكر في الرضي أن العائد قد يكون وضع المظهر موضع المضمر
وهنا الذين هي بعينها " من " فكأنه قال فإنما إثمه عليهم أي المغيرين، ولعله
أتى بالذين للتصريح ووصف التغيير والتبديل وجمعه لأن المبدل كثير إذ قد يكون
وارثا ووصيا وشاهدا وغيرهم " إن الله سميع عليم " وعدو وعيد للعامل بالوصية
بل سائر العبادات وتاركها، فإنه يعلم السر وأخفى وما يستحقانه فيجازي بما
عملاه، ولعل في قوله " بعد ما سمعه " تنبيه على عدم جواز التكليف والإثم، قبل
العلم، كما يدل عليه العقل أيضا.
ثم أعلم أنه قال في مجمع البيان: في هذه الآية دلالة على أن الوصي أو
الوارث إذا أفرط في الوصية أو غيرها لا يأثم الموصي بذلك، ولم ينقص من أجره
470

شئ، وأنه لا يجازي أحد على عمل غيره، وفيها أيضا دلالة على بطلان قول من يقول
إن الوارث إذا لم يقض دين الميت فإنه يؤاخذ به في قبره وفي الآخرة، لما قلناه
من أنه يدل على أن العبد لا يؤاخذ بجرم غيره، إذ لا إثم عليه بتبديل غيره، و
كذلك لو قضى عنه الوارث من غير أن يوصي لم يزل بذلك عقابه إلا أن يتفضل الله
عليه باسقاط عقابه. وأنت تعلم أن دلالة غير واضحة، فإن مضمونها - الله يعلم -
انحصار إثم التبديل على المبدل، وذلك لا يدل على أن إثم الموصى به من الأموال
للزكاة أو الدين أو الحج أو الصلاة أو الصوم وغير ذلك من الوصايا الواجبة
بالأصل وغيره من النذور والعهود وغير ذلك، مثل التحمل عن الغير من العبادات
بالإجارة ونحوها ومات الأجير قبل الفعل وأوصى وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى
على المبدل، لا على الموصي.
وأيضا يبعد أن لو قصر شخص في اخراج الأموال من الحقوق الواجبة
كالزكاة والخمس وأكل أموال الناس، غصبا وظلما بقطع الطريق والسرقة
وغير ذلك ثم أوصى، يخرج من تلك الحقوق بالكلية ولا يبقى عليه شئ وكذا من
قصر في إعطاء النفقة لمن وجب له القضاء مثل الزوجة ومن أكل الربا ومن قصر
وأخذ الزكاة والخمس بغير استحقاق وغير ذلك ثم أوصى، لا يكون عليه إثم ذلك
كله فإنه بعيد جدا.
وأيضا قد يتعمد ويقول: أنا أفعل هذه المذكورات كلها، ثم أخلف ما لا
وأوصي به، فمن لم يخرج يكون الإثم عليه لا علي، وهكذا يفعل الآخر فلا يصل
الحق إلى أهله ويبطل حقوق الناس من الأموال بل العبادات الموصى بها، أيضا
فإنه على ذلك التقدير أيضا إنما الإيفاء واجب على الوارث، فهو المغير والمبدل
ولا يجازى أحد بفعل غيره، إلا أن يريد عدم العقاب على التبديل لا غير، وهو ظاهر
فحينئذ يصح، ولكنه بعيد من كلامه.
وكذا يريد (1) بقوله: وفيها أيضا دلالة الخ أنه يسقط عنه عقاب التقصير بعدم

(1) يعني الطبرسي صاحب مجمع البيان.
471

إعطاء الدين لا أصل الدين فتأمل، بل ظاهر كلامه يدل على عدم الاحتياج إلى
الايصاء وهو أبعد.
ثم الظاهر أنه يعاقب بالتأخير، ويؤخذ منه ما يقابل المال لأصحابه الأول
لو بقي على ملكهم، ويؤخذ عوض الحيلولة بينهم وبين أموالهم، على تقدير الانتقال
إلى الوارث، وكذا للوارث إلى أن ينتهي، نعم قد يكون المبدل أيضا معاقبا
ومؤاخذا على مقدار تقصيره، سواء كان شاهدا أو وارثا أو وصيا أو مانعا من اخراج الوصايا على أي وجه كان، ولو كان باعتبار النظارة أو عدم تعيين الوصي لمن لا وصي
له، أو على عدم بيان الحكم للفاعل، بل كل من يقدر على وجه ولم من باب
الحسبة، وكان موقوفا عليه، فالظاهر أنه مؤاخذ في قبره وفي الآخرة، نعوذ
بالله من عذاب الآخرة.
ثم الظاهر أيضا أنه لو أدى عنه الوارث بل الأجنبي أيضا ما عليه من الحقوق
التي يصح أداؤها عنه أو أخرج وصاياه التي يصح الاخراج عنه تبرأ ذمته من تلك
الحقوق والوصايا من غير شك، ولا عقاب عليه، ويرث الأموال المتروكة وارثه
إذ ما بقي لأهل الحق عنده شئ، فلم يعاقب ولم يؤاخذ؟
نعم لو قصر في الأداء الوصية الواجبة يعاقب حينئذ وإلا فلا، وبالجملة
ما ذكره قدس الله سره روحه غير واضح إلا قوله أحد لا يجزى بفعل غيره، وذلك صحيح
وهو مما دل عليه العقل والنقل مثل " ولا تزر وازرة وزرة أخرى " وهو واضح، و
أما دلالة هذه الآية عليه أيضا فغير واضح، فإن دلالتها أن ليس إثم التغيير لهذه
الوصية الخاصة إلا على مبدلها فلا يدل على الكلية إلا بضم مقدمة أخرى، و
أما دلالة هذه الآية على إبراء ذمة المديون وغيره بالوصية، وكذا على عقاب كل
مبدل ومغير فغير واضح كما مر، إذ مرجع ضمير " بدله " الوصية الخاصة وهي
الوصية المندوبة للأقارب فإنه هنا ما كان على الموصي إثم وذنب، فلا جرم أن
لا يكون هنا إثم إلا على مبدلها وهو ظاهر، مع ما مر من الاستبعادات وغيرها من
الأمور الواضحة.
472

ثم إنه ينبغي التحقيق والتفصيل أيضا بأن الموصي هل كان مقصرا أو لا
وكذا المبدل، وظاهره أنه لو لم يقصر المبدل لم يكن عليه إثم وضمان، كما يعلم
من التقييد في الآية، وفي كلامه أيضا، ومعلوم عدم الإثم على الموصي أيضا على
تقدير عدم التقصير والتفريط، ولكن يحتمل الضمان بحيث يعطي العوض كما أنه
يقع في الدنيا كثيرا الضمان مع عدم الإثم، وهذا في الموصي أيضا متصور بعد
التصرف ولكن تضمينها بعيد، فإنه يبعد تضمين شئ في الآخرة مع عدم التكليف
فيها، ولا يقاس أمور الآخرة بالدنيا لنصوص بخصوصها من غير تعقل علة بل
لمحض نص وتعبد لمصالح يعلمها الله فقط، فينبغي حينئذ ألا يضيع حق صاحب
الحق أيضا بأن يعطيه الله العوض الله يعلم.
" ومن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور
رحيم " الجنف الجور وهو الميل عن الحق قاله في مجمع البيان وقال أيضا إن
من متعلق بمقدر حال عن جنفا أي جنفا حال كونه كائنا من موص، وكأنه ليس
بصفة للتقديم، ويحتمل أيضا تعلفه بخاف، والمعنى على الظاهر أن من علم - لأن
خاف جاء بمعنى علم كما قيل في التفاسير - من موص أن يفعل جورا وغير مشروع
في الوصية خطأ أو إثما يعني يفعل ذلك عمدا فأصلح بين الموصى لهم، وهم الولدان
والأقرباء في الوصية المذكورة، ويحتمل أن يكون المراد من يتوقع ويظن حين
وصية الموصي أنه يجور في الوصية فأصلح، لكنه قال في مجمع البيان: الأول
عليه أكثر المفسرين ونقله عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام - فلا إثم عليه ولا ذنب
ولا عصيان على المصلح المبدل من الباطل إلى الحق فإن الله غفور للمذنب، فكيف
لم لا ذنب له، فكأنه لما كان مبدلا والتبديل حراما وإثما، دفع هذا الوهم، و
ذكر أن الإثم على التبديل الباطل لا الحق، فذكر عدمه والمغفرة والرحمة لذلك
لا لمقابلة الذنب، لمشاكلته، وإلا، المصلح له أجر وثواب على ذلك، بل لو لم
يفعله كان عليه إثم، ثم قال في مجمع البيان: وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال:
من حضره الموت فوضع وصيته على كتاب الله كان كفارة لما صنع من ذنوبه في
473

حياته، ولعل المراد حقوق الله وأما سقوط حقوق الناس بالكلية بمجرد ذلك
فمحل التأمل، ولعل هذا الخبر وأمثاله مؤيد لما تقدم من سقوط العقاب عن
الموصي بمجرد الوصية فتأمل.
الثانية: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " أي الاشهاد الذي شرع بينكم
وأمرتم به فهي مبتدأ " إذا حضر أحدكم الموت " أي وقت حضور الموت وإشرافه
عليكم قبل أن تموتوا وتفارقكم الروح والقدرة على التكلم والوصية " حين
الوصية " يمكن كونه بدلا من إذا حضر، قيل أو ظرف حضر، فيه شئ، والأول
أولى، ويمكن كونه ظرفا آخر للاشهاد، " اثنان " خبر الشهادة أو فاعل ساد مسد
الخبر، على حذف المضاف، على التقديرين، أي شهادة اثنين فحذف المضاف وأقيم
المضاف إليه مقامه وأعرب باعرابه " ذوا عدل منكم " أي صاحبا عدالة حال كونهما
بعضكم أيها المؤمنون، فهو صفة اثنان، ويحتمل أن يكون " منكم " صفة " ذوا عدل "
وهذا كالصريح في اعتبار التعدد والعدالة في الشهود، فلا يكفي المجهول ولا حسن
الظن إذ لم يصدق حينئذ إشهاد ذوي عدل الذي هو شرط في سماع الشهادة وواجب.
" أو آخران من غيركم " ولعل المراد أو آخران كذلك أي ذوا عدل من
غيركم فهو عطف على اثنان مع التزام حذف للعلم به، ولكن مع كون العدل
المعتبر في مذهب الآخر، ولعدم حسن التصريح بتلك العدالة ويحتمل جعله عطفا
على منكم وهو أنسب بحسب المعنى، ولكن يصير الآخران كالزائد ويحتمل كونه
للتصريح والمبالغة في عدم ترك التعدد، وإن ترك العدالة الحقيقية، ويحتمل
الاكتفاء بغير العدل من الغير، بأن لا يقيد آخران بكذلك، وهو بعيد، وإن كان
للضرورة، لأن المسلم الغير العدل لا يكفي معها، فغيره بالطريق الأولى، وخص
الآخران بأهل الذمة كما قيل في سبب النزول، للإجماع على عدم سماع شهادة
الحربي على المسلم، بل مطلق الكافر إلا في هذه المسألة عند أصحابنا، وأما عند
غيرهم فمنهم من يقول: إن المراد من " غيركم " هو البعيد أي الأجنبي " ومنكم "
الأقارب، وهو بعيد لسبب النزول وغيره.
474

أو أنه منسوخ لدعواهم الاجماع على عدم سماع شهادة الكفار مطلقا على
المسلم، قاله القاضي، والأصل والاستصحاب يقتضي العدم، والاجماع ممنوع لقول
علماء الإمامية ورواياتهم، ولكن مشروط بعدم إمكان المسلم العدل كما يشعر به " إن
أنتم ضربتم في الأرض " أي سافرتم فيها " فأصابتكم مصيبة الموت " أي قاربكم الأجل
فليس بشرط لمطلق هذه الشهادة، بل إشارة إلى اشتراط الانتقال من شهادة العدلين من
المسلمين إلى شهادة غيرهما بعدمهما، ولما كان السفر مع حضور الموت غالبا سببا لذلك
اكتفى به، وذلك يعلم من قول الأصحاب كأن لهم دليلا على ذلك، والفاء للعطف
والخبر محذوف من جنس قوله " أو آخران من غيركم " أو هو جزاء مقدم
واعتراض الشرط بين الموصوف والصفة أي " تحبسونهما " فإنه صفة لآخران أي
تقفونها وتصبرونهما للإشارة إلى ما قلناه: إن سماع شهادة الغير مشروط بالتعذر
قاله القاضي أيضا، فهو صريح في عدم كون معنى منكم القريب، ومن غيركم البعيد
وفي عدم نسخ الآية فتأمل، إذ السبب المجوز هو الضرورة. فيعمل به ما دام وجد
فهو إشارة إلى كيفية استشهاد الغير.
" من بعد الصلاة " قيل: صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وقيل مطلق
الصلاة وهو الظاهر من الآية " فيقسمان بالله " أي الآخران " إن ارتبتم " أي إن
ارتاب وشك الوراث في صدقهم أو الحكام، فهو اعتراض، بناء على قاعدتهم، بين
القسم والمقسم عليه أي " لا نشتري به ثمنا " أي قليلا، يعني لا نستبدل بالقسم أو
بالله عوضا من الدنيا، وهو المراد بالثمن القليل، فإن كل ما في الدنيا فهو قليل
بالنسبة إلى الآخرة وعقابها، حاصله لا نحلف بالله كاذبين لطمع في الدنيا، للإشارة
إلى أن القسم إنما هو مع الارتياب والشك فتأمل.
" ولو كان ذا قربى " يعني يقسمان ويقولان لا نحلف بالله كاذبا ولو كان المحلوف له
قريبا منا، وقال القاضي جوابه أيضا محذوف أي لا نشتري، وفيه أنه وصلي فلا
يحتاج إلى تقدير الجزاء، ولعله بناء على عادته أنه دائما يجعل الجزاء محذوفا
لا مقدما، وهنا تقديره سواء كان المحلوف له بعيدا منا أو قريبا فتأمل " ولا تكتم
475

شهادة الله " أي لا نكتم الشهادة التي أمر الله بإقامتها، يحتمل عطفه على المحلوف عليه
أي لا نشتري ويحتمل الاستيناف، والأول أظهر " إنا إذا لمن الآثمين " إن كتمنا
الشهادة أو اشترينا بها ثمنا كأنهم يقولون هذا أيضا في قسمهم.
" فإن عثر " أي اطلع وحصل العلم " على أنهما استحقا إثما " أي الآخران
استحقا إثما بسبب تحريف في الشهادة، فيعزلان ولا يسمع شهادتهما " فاخران "
يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان " أي يقوم اثنان من الورثة التي جني
عليهم، فعليهم يقوم المقام فاعل استحق، " الأوليان " أي الأحقان بالشهادة للقرابة
والمعرفة والإسلام، هو خبر مبتدأ محذوف أي هما الأوليان أو بدل من ضمير يقومان
" فيقسمان " الأوليان " بالله لشهادتنا أحق " بالقبول " من شهادتهما " أي من شهادة
الآخران من الغير " و " إنا " ما اعتدينا " وما تجاوزنا الحق في الشهادة " إنا إذا
لمن الظالمين " إن اعتدينا، فنحن الظالمون بوضع الباطل موضع الحق أو ظالمين
لأنفسنا، قال القاضي: معنى الآيتين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد
عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته، أو يوصي إليهما احتياطا، فإن لم يجدهما
بأن كان في السفر فآخرون من غيرهم -.
ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ، في الوقت
فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة ومظنة حلف آخران من أولياء الميت، والحكم
منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإنه لا يحلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث
وثابت إن كان وصيين، ورد اليمين إلى الوراثة إما لظهور خيانة الوصيين، فإن
تصديق الوصي باليمين لأمانته، أو لتغيير الدعوى [آه] وفيه أن الظاهر من الآية
الاشهاد على الوجه المذكور لا أنه إن أراد الوصية يفعل ذلك احتياطا، ويقول
الأصحاب إن الوصية واجبة، ويدل عليه الرواية عليهم السلام ولأنه قد يكون
عليه شئ أوله شئ فبترك الوصية يضيع ويتلف وذلك غير جائز.
فأما النسخ الذي ذكره فقد ذكر أولا أنها منسوخة على تقدير كون المراد
بآخرون الكفار، وهنا ذكر أنه منسوخ على تقدير كونهما شاهدين مطلقا، لعدم
476

الحلف على الشاهد، وأيضا ظاهر الآية أنهما شاهدان كما هو أيضا فسرها به
لا أن يوصي إليهما احتياطا، وحلف الشاهد لنص خاص في صورة كونه كافرا ليس
ببعيد، كما كان ثم نسخ على قوله، وليس بمعارض لحلف الوارث إذ مع حلف
الشهود لا حلف للورثة وثبوت الحكم [وهو الحلف] في الوصيين أيضا غير ظاهر
إذ الوصي أيضا لا حلف عليه، لأنه ليس ممن لو لم يحلف يلزمه شئ، وهو ضابط
اليمين إلا ما خرج بدليل، ولا يعارض به يمين الوارث، فإنه جوز ذلك لدليل
وهو الآية فيمكن جوازه في الشاهد أيضا للآية، بل هو أولى لظهورها في الشاهد،
ثم قال بعد قوله أو لتغيير الدعوى: إذ روي أن تميما الداري وعدي بن
بدى خرجا إلى الشام للتجارة، وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بدليل مولى عمرو
ابن العاص، وكان مسلما، فلما قدم الشام مرض بدليل فدون ما معه في صحيفة
وطرحها في متاعه، ولم يخبرهما به، وأوصى إليهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات
ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه، فأصاب
أهله الصحيفة وطالبوهما بالإناء فجحدا، فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فنزلت
فحلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله بعد صلاة العصر عند المنبر وخلى سبيلهما، ثم وجد الإناء
في أيديهما فأتاهم بنو سهم في ذلك فقالا قد اشترينا منه، ولكن لم يكن لنا عليه بينة
فكرهنا أن نقر به، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فنزلت " فإن عثر " فقام عمرو بن
العاص والمطلب بن أبي رفاعة السهميان وحلفا (1) ولعل تخصيص العدد لخصوص
الواقعة، وفيه مخالفة بعض القواعد الفقهية مثل تجديد الدعوى بعد الاحلاف، و
أخذ المال. فتأمل فيه، فإنه يمكن انطباقه عليها، وحلف المدعي، ويمكن جعله
منكرا، للشراء، ولكن كيف يمكن الحلف عليه مع غيبتهم عن الميت، فكأنهم
اكتفوا بالخط والقرائن أو على نفي العلم.
" ذلك " قال القاضي أي المحكم الذي تقدم أو تحليف الشاهدين " أدنى "

(1) راجع الكافي ج 7 ص 5، مجمع البيان ج 3 ص 256 و 259، الإصابة ج 2 ص 460
و ج 1 ص 186، سنن أبي داود ج 2 ص 276.
477

أي أقرب إلى " أن يأتوا بالشهادة على وجهها " على نحو ما حملوها من غير تحريف
وخيانة فيها " أو يخافوا " أقرب إلى أن يخافوا " أن يرد أيمانهم " أن
يردوا اليمين على المدعيين بعد أيمانهم، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة
وإنما جمع الضمير لأنه حكم يعم الشهود كلهم، وهذا تصريح منه بأن المراد
الشهود لا الأوصياء.
" واتقوا الله، في معاصيه بارتكاب أوامره وترك نواهيه، واقبلوا ما توصون
به واسمعوه بسمع إجابة " والله لا يهدي القوم الفاسقين " أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا
كنتم قوما فاسقين، والله لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة، بمعنى أنه يتركهم
وأنفسهم حتى لا يختارون تلك الهداية بل الضلالة.
وليتبع به النظر في حال أولاده وحفظ أموالهم، وهو البحث عن اليتامى
وفيه آيات:
الأولى: وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا
تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا (1).
أمر الله تعالى أولا المكلفين الذين بأيديهم أموال من لا أب له من الأطفال
بأن يعطوهم إما بأن يسلموا إلى أوليائهم إن لم يكونوا أولياء، وبأن يطعموهم إن
كانوا أولياء، أو إليهم ولكن بعد البلوغ والرشد بدليل العقلي والنقلي، وهو
ظاهر، فيكون اليتيم حينئذ مجازا لأنه في اللغة من مات أبوه مع عدم بلوغه، باعتبار
ما كان قبل البلوغ، وعبر بل للإشارة إلى المبالغة في عدم التأخير بعد تحققهما
ثم نهى عن استبدال أموالهم التي هو خبيث أو ردئ بالنسبة إلى الآخرة يعني به
الحرام، وإن كان جيدا صورة ونفعا في الدنيا، بأموال أنفسهم الحلال الطيب
أي لا تتصرفوا في أموالهم بدل تصرفكم في أموالكم.
فهي نهي لتحريم التصرف في أموالهم، وإشارة إلى أن ذلك خبيث، والتصرف

(1) النساء: 2.
478

في أموالهم أنفسهم طيب، لأن الخبيث والطيب إنما يكون باعتبار العاقبة، و
يحتمل أن يكون معناه لا تبدلوا الخبيث بالطيب، أي لا تعطوا الخبيث من أموالكم
بالطيب من أموالهم، قيل: كانوا يأخذون الطيب مثل السمين من أموال الأيتام، و
يخلون بدله الخبيث المهزول من أموالهم، فنهوا عن ذلك، ثم أكد التحريم بعدم
جواز أكل أموالهم، ولو كان قليلا أو التصرف مطلقا، ويكون الأكل كناية عنه
بانضمام شئ منها إلى أموالكم فيفهم الانفراد بالطريق الأولى، ويحتمل أنه كان
الواقع ذلك فنهي عنه، فأكد بأن ذلك الأكل كان ذنبا عظيما، وهذه مخصصة
فإن أكل مقدار أجرة المثل أو ما يحتاج إليه الوصي لما دل عليه قوله: " فليأكل
بالمعروف " جايز، وكذا أكل أموالهم بالانضمام مع التخمين، بحيث يعلم عدم
أكل زيادة على أموالهم، لما روي أنه لما نزلت هذه الآية كرهوا مخالطة اليتامى
فشق ذلك عليهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله سبحانه " ويسئلونك
عن اليتامى قل إصلاح لهم خير " الآية قال في مجمع البيان وهو المروي عن السيدين
الباقر والصادق عليهما السلام فتأمل.
الثانية: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا
فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا
فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا
عليهم وكفى بالله حسيبا (1).
الابتلاء هو الاختيار والامتحان وهو هنا تتبع أحوال اليتامى حتى يتبين
حالهم من الرشد، فإن ثبت يعطوا أموالهم وإلا فيترك حتى يتبين، وقد بينا في
شرح الارشاد كون الابتلاء قبل البلوغ أو بعده وظاهر قوله " فإن آنستم " الخ كونه
بعد البلوغ لأنه أوجب الله تعالى دفع الأموال إليهم بعد إيناس الرشد، فلو كان

(1) النساء: 5.
479

الامتحان قبله لما جاز ذلك فكيف الوجوب، ولا يدل " اليتامى " على كونه قبل البلوغ
فإن إطلاقه على البالغ خصوصا القريب إلى حال البلوغ الممنوع من التصرف في ماله
باعتبار ما كان شايع ذايع كما مر، ولكن يدل على كونه قبل البلوغ دلالة واضحة
فيقيد الدفع بما بعده أيضا.
قوله تعالى: " حتى إذا بلغوا النكاح " أي حد البلوغ بأن يقدروا على الوطي
الذي يحصل معه المني بحصول المني أو السن، وهو عند الأصحاب بلوغ خمسة
عشر سنة في الذكر وتسعة في الأنثى على المشهور للاستصحاب، ودلالة الآية على عدم
البلوغ حتى يبلغ النكاح أو الحلم، وهو ظاهر في عدم الحصول إلا بالمني وخرج
خمسة عشر والتسعة بالإجماع كما في حصول المني وبقي الباقي ولكن يدل على
الأقل بعض الأخبار ويمكن الجمع بالحمل على الشروع في الخمسة عشر
ولكن ظاهر خبر حصوله بأربعة عشر وثلاثة عشر (1)، وكأنه صحيح على تقدير
توثيق الحسن بن علي الوشاء، وهو لا بأس به، ولكن الخروج عما تقدم
بمجرد خبر مع عدم توثيق راويه صريحا، ونقل الشيخ في التهذيب أنه كان
واقفيا ثم رجع، مشكل. إلا أنه يظهر من كلامهم عدم التوقف في توثيقه
فإنهم يسمون الخبر الذي هو فيه بالصحة، ولا يذكرون ذكر الشيخ أنه
كان واقفيا ثم رجع، وكأنه للرجوع تركوه فتأمل، ويمكن حملها على
الشروع في الخمسة عشر، ولا بأس، وعلى ظهور علامة أخرى فتأمل أو الحيض في
الأنثى ولا يلتفت إلى الدور الموهوم لظهور دفعه، ولا إلى أنه علامة لسبق البلوغ
ولا يحصل به البلوغ لأن المراد ما يعلم به بلا فصل وهو حاصل، أو الانبات فيهما
على ما ذكروه ويمكن أن يكون المعنى فإن آنستم بعد البلوغ بل هو الظاهر منه
وإن كان الامتحان قبله والدفع بعد إيناس الرشد ولا يستلزم كون الامتحان بعده
لاحتمال أن يكون قبله حتى علم الرشد بعده، ويؤيده أنه لا يلزم حينئذ منع المستحق
عن حقه فتأمل.

(1) الكافي ج 7 ص 69، الفقيه ج 4 ص 164 والحديث صحيح على اصطلاحهم.
480

والخطاب هنا أيضا قبل للأولياء ولا يبعد كونه لمن بيده مال اليتيم، ويمكن
إطلاق الولي عليه مسامحة فيكون مراد القائل إن الخطاب للأولياء ذلك في الموضعين
فبلوغ النكاح كناية عن البلوغ وهو يحصل بما تقدم، والمراد بايناس الرشد إبصاره
والعلم به، وسيجيئ أن الظاهر أن المراد به إصلاح المال بل حفظه وعدم صرفه
فيما لا يليق بحاله، وإن لم يكن عالما بصرفه بالفعل فيما ينبغي بمعنى عدم معرفته
بالسعر، وعدم قدرته على المعاملات، وتحصيل الأموال، وأنه لا يعتبر فيه العدالة
وقيل باعتبارها في حصول الرشد، ونقل الاجماع على عدم اعتبارها في بقاء الرشد
في التذكرة، وقد ادعى عليه الاجماع أيضا في مجمع البيان وقال المراد به العقل
وإصلاح المال وهو المروي عن الباقر عليه السلام فمراده ما قلناه، وقد حذف العقل من
تعريف الرشد في عبارات الفقهاء لأن الغرض حصول العقل بل البلوغ أيضا وبيان
ما يعتبر بعد ذلك وهو إصلاح المال، وأنت تعلم أنه لا يحتاج في الرشد إلى القدرة على
الكسب ولا يضر عدم الكسب بل تركه وعدم تحصيل المال به على تقدير القدرة أيضا
ولا القدرة على تحصيل المال بالمال، بل ولا القدرة على المعاملات بنفسه، بل يكفي
الحفظ فقط، بحيث لا يعد مضيعا له وإن تصرف لا يتصرف تصرفا غير لايق بحاله
ولا يحتاج إلى كون ذلك ملكة أيضا.
كل ذلك للأصل، وثبوت تسلط المالك على ملكه بالعقل والنقل، وخرج
المضيع بالدليل، وبقي الباقي، ولحصول المقصود، ولأن كل أحد ليس ممن له
كسب أو قدرة على تحصيل المال والمعاملة، فما ذكر في كتب الفقه مثل شرح
الشرايع محل التأمل، وقد حققنا الأمر فيه في شرح الارشاد. فالآية تدل على وجوب
الامتحان حتى يعلم البلوغ والرشد على من بيده المال ووجوب الدفع بعد ذلك
ولا يحتاج إلى الحاكم والولي، ولا إلى الطلب كسائر الحقوق مثل الدين، كأنه
بمنزلة الأمانة الشرعية ولا يبعد ذلك إلا أن يرضى بالبقاء عند من كان ولا يبعد الفورية
أيضا حينئذ بل مطلقا لتعقيب الايجاب بالفاء بعد البلوغ وايناس الرشد.
وينبغي الاشهاد عند الدفع لما قال في آخر الآية وظاهرها الوجوب، ولكن
481

حملت على الارشاد، ويحتمل الاستحباب للمبالغة في حفظ ماله بل الوجوب لو قال
به قائل لأنهم يقولون بوجوب حفظ المال وتحريم التضييع، وترك الاشهاد قد يؤول
إليه، فالظاهر أنه لا نزاع فيه مع تحقق ذلك وتدل هذه بالمفهوم الذي هو حجة
وهو مفهوم الشرط بل مفهوم الغاية أيضا لأنه قيل: معنى قوله: " حتى يبلغ النكاح "
كمل عقله ورشده، وهو المناسب إذ مجرد البلوغ والعقل ليس بغاية المنع وينبغي
إرادة كمال العقل وإصلاح المال بالرشد كما قال في مجمع البيان، وقوله " ولا
تؤتوا السفهاء " بالمنطوق صريحا على تحريم إعطاء المال إلى السفهاء حتى يبلغوا
ويرشدوا، فيحرم بدونهما وإن كبر سنه وصار شيخا كبيرا.
وقول أبي حنيفة بإعطاء المال بعد خمسة وعشرين سنة أونس منه الرشد أو لا
لأن البلوغ يحصل بثمانية عشر، ويحصل بعد سبع سنين تغيير في أحوال الناس
لقوله صلى الله عليه وآله مروهم بالصلاة لسبع على ما نقله عنه في الكشاف بل القاضي أيضا مخالف
للقرآن العزيز، والعقل السليم من غير دليل، والدليل المذكور باطل، فإن
كون البلوغ ذلك ممنوع وبعد التسليم حصول التغيير ممنوع وعلى تقدير التسليم
حصول تغيير موجب للدفع وترك القرآن ممنوع، والخبر بعد تسليمه لا يدل على
ذلك وهو ظاهر، كيف يدل الخبر المعمول على خلاف القرآن، وإن دل يجب
التأويل بحيث يمكن الجمع وعلى تقدير دلالته على تغيير فإن كان هو إيناس الرشد
فلا معنى لقوله أونس منه الرشد أو لا، وأيضا خلاف المشاهد لأنه يوجد من هو في
ذلك السن مع عدم الرشد، وأنه إن سلم وصح فلا يحتاج إلى الاستدلال الضعيف
المذكور، إذ يكفيه الآية فإن لم يكن ذلك التغيير إيناس الرشد فلا معنى لاعتباره
لاعطاء المال مع بقاء السفه الموجب لعدم الاعطاء بالنص والاجماع والعقل بل يمكن
أن يقال يلزمه البلوغ في أربعة عشر، بل جواز الاعطاء أيضا فإنه يحصل التغيير
للخبر، بل للسبع أيضا.
وبالجملة هذا القول مع هذا الدليل من الغرائب والعجائب.
ثم نهى عن أكل مال اليتامى مسرفا في ذلك فاسرافا بمعنى مسرفين حال عن الآكلين
482

ويحتمل غيرها، يحتمل أن يكون المراد زيادة على المعروف الذي يجوز أكله بالآية
أو مع الغنى، فإن أكل مال اليتيم مطلقا وإن كان وصيا مع غناه إسراف غير مباح
لقوله: " فليستعفف " ولغيره، فأراد بالاسراف لازمه وهو غير المباح، وإن كان
المراد معناه العرفي فلا خصوصية له بمال الأطفال، والظاهر أن المراد بالأكل
الأخذ والتصرف و " بدارا " أي مبادرين فهو أيضا حال، أو غيرها مثل إسرافا
أو لمبادرتكم كبرهم، فإن يكبروا في تأويل المصدر مفعول بدارا أي يقولون ننفق
كما نشتهي قبل أن يكبروا ويأخذوا المال من أيدينا، ويحتمل كونه مفعولا له
بتقدير خوفا أن يكبروا ويأخذوا المال من أيدينا، وهذا القيد لكون الأكل حينئذ
أقبح ولاحتمال كونه في خاطر الآكلين كذلك، وإلا فليس التحريم مقيدا به
ثم أوجب الاستعفاف على القيم والمتصرف في مال الأيتام وهو الامتناع عن أكل
مال الأيتام، وأخذه إذا كان غنيا غير محتاج وفقير، يحتمل إرادة الغنى العرفي
والشرعي وهو من يقدر على قوت سنة له ولعياله الذي هو ضد الفقر الشرعي
فلا يجوز الأخذ للقيم بمال الأيتام وإن كان فعله مما يحتاج إلى الأجرة فلا
يأخذها أيضا.
هذا فيمن صار المال بيده باختياره، أو صار وصيا كذلك ظاهر، وأما غيره
بأن يجعله الحاكم قيما فيمكن له جواز أخذ أجرة المثل، وجواز تعيين الحاكم
ذلك له إذا لم يوجد الباذل بغير عوض، فيقيد بالوصي والمتبرع دون من استأجره
الحاكم وأما الفقير فله الأخذ والأكل منها بالمعروف، يحتمل أن يكون المراد
به ما هو معروف في الشرع والعرف أجرة لعمله الذي هو حفظ الأولاد والأموال
فلا يجوز إلا ذلك المقدار، وله أخذ ذلك كله، وإن كان زائدا عما يحتاج إليه
من سد الخلة.
ويحتمل إرادة ما يحتاج إليه ولكن يبعد جواز أخذه مع عدم الأجرة أو زيادته
عليها ويحتمل أقل الأمرين والأول أظهر إلا أن يكون متبرعا فلا يسلم إليه الأيتام
والأموال، بل يسلم إلى المتبرع، نعم إن جعله الموصي وصيا لا يبعد ذلك والظاهر
483

أن الآكل هو الوصي والذي جعله الحاكم وصيا وقيما، ويحتمل الذي كان
المال بيده بعد موت صاحبه أيضا مع عدم الوصي وتعذر الحاكم للعموم، وأيضا
الظاهر جواز الأكل مع وجود الأولاد بقرينة " أن يكبروا " ويحتمل جواز التصرف
والأخذ مطلقا بجعل الأكل كناية عنه، ويحتمل الاختصاص به كما في آية تضمنت
الأكل من بيوت الآباء وغيرهم ويحتمل جوازه مع عدم الأولاد أيضا لعموم من
كان مع قطع النظر عن قرينة أن يكبروا فتأمل، ولا شك أن الاجتناب أحوط، و
الظاهر أن هذا الأمر للإباحة كما أن الأمر بالاشهاد للإرشاد، ويحتمل
الاستحباب.
ثم عقبه بأن الله يكفي حسيبا أي محاسبا وعالما أي كافيا في الشهادة عليهم بأخذ
أموالهم وبراءة ذمتكم وهو إشارة إلى عدم وجوب الاشهاد فإن الله كاف وشاهد، فتدل
على جواز الامتناع عن الاعطاء مرة أخرى بالانهزام عن الحكام، وباليمين وغيرهما
وحسيبا حال ويحتمل التمييز والباء زائدة.
الثالثة: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم
فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا (1).
" الذين " فاعل " وليخش " و " تركوا " فعل شرط فاعله ضمير " الذين "
و " ذرية " مفعوله و " ضعافا " أي صغارا صفتها و " خافوا عليهم " جزاء الشرط
والجملة صلة الذين على معنى حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا على أن يتركوا خلفهم
أولادا صغارا خافوا عليهم، ويحتمل كون المخاطبين هم أولياء اليتامى، والمقصود
تخويفهم من التصرف فيهم وفي أموالهم على غير الحق، ويؤيده ما روي في مجمع
البيان عن موسى بن جعفر عليه السلام قال: إن الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين، أما
أحدهما فعقوبة الدنيا قوله " وليخش " الآية قال يعني بذلك ليخش إن يخلف ذرية
يصنع بهم كما صنع بهؤلاء الأيتام، والظاهر أن الثانية " إن الذين " ورواية

(1) النساء: 8.
484

الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: إن في كتاب علي بن أبي طالب عليه السلام أن آكل
مال اليتيم ظلما سيدركه وبال ذلك في عقبه من بعده: يلحقه وبال ذلك أما في الدنيا
فإن الله يقول: " وليخش الذين " الآية، وأما في الآخرة فإن الله تعالى يقول:
" إن الذين " الآية (1) ويحتمل كون الخطاب للحاضرين عند إيصاء الموصي فلا يتركوه
أن يوصي بحيث يضر بأولاده، ويشفقون عليهم كما يشفقون على أولادهم، ويحتمل
غير ذلك.
وحاصله أنه ينبغي أن يكون الانسان نفسه وأولاده ونفس غيره وأولاده
عنده سوء كما يخاف على الأول ويدبرهم ويفعل ما يصلح لهم ويخاف عليهم مما
يلحقهم من الأذى فكذا ينبغي أن يخاف على الثاني، ويخاف من أنه إن قصر في
حق الثاني يقصر في حق الأول وفي الأخبار ما يدل عليه كثير، والعقل يساعده
حتى ورد أنه من زنى زني بأهله فيدل على تحريم الإشارة إلى فعل ما يضر بالغير
بل تحريم ترك نهي فعل يؤل إلى ضرر، من أولاد الموصي وغيرهم، وذلك غير بعيد
من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم أكد ذلك بقوله " فليتقوا الله " رعاية للمبتدأ والمنتهى إذ لا ينفع الأول
بدون الثاني بل الأصل هو العاقبة. ثم أمرهم بأن يقولوا قولا سديدا للأيتام كما
يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الأدب، فتدل الآية حينئذ على جواز تأديب
اليتامى بالقول والفعل السديد اللائق بحالهم كما صرح به في محله ويحتمل أن
يكون المراد أن يقولوا قولا مصيبا وصوابا وموافقا للشرع والعقل للموصي في
إيصائه بمنعه عن الزايد عن الثلث، بل يقول ما في الروايات إن الثلث كثير، و
الربع والخمس أولى، وأن الترك لأولادكم حتى لا يتكففوا أولى، ويأمره
بايصاء ما عليه وما له، وبالتوبة وغيرها فتأمل.
بل القول السديد المذكور لكل أحد وعلى كل حال: " إن الذين يأكلون "

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 223.
485

الآية (1) " فظلما " يحتمل أن يكون حالا أي ظالمين في الأكل، وتميزا أي من
جهة الظلم، ويحتمل أن يكون المراد بالأكل التصرف مطلقا كما في قوله تعالى
" ولا تأكلوا الربا " " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " وغيرهما فإن التعبير
عن مطلق التصرف بالأكل كثير، ولعل ذكر البطن للتأكيد مثل " يطير بجناحيه "
ويحتمل أن يكون ظلما للبيان والكشف، فإن أكل مال اليتيم إنما يكون ظلما
كما في " يقتلون النبيين بغير الحق " أو لأنه قد يجوز أكل مالهم بالحق مثل
الأكل بالمعروف أجرة أو عوضا عن مال الموصي الذي أقرضه إياه أو استقرض
من مالهم وإن أمكن تأويله بأن ذلك ماله لا مالهم، لأنه يكفي ذلك المقدار لدفع
التوهم.
والمراد بأن أكل مال اليتيم أكل النار، يحتمل أن يكون أكلا يوجبها
أي آكل مال اليتيم إنما يأكل ما يوجب دخوله النار، أو أن المراد به كناية عن
دخول النار، فإذا دخل النار بالكلية فكأن في بطنه نارا، أو أنه يأكل يوم القيامة
النار، ويشعر به ما روي عن الباقر عليه السلام أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله يبعث ناس
من قبورهم يوم القيامة تأجج أفواههم نارا، فقيل: يا رسول الله من هؤلاء؟ فقرأ
هذه الآية (2).
" وسيصلون سعيرا " أي يلزمون النار المشتعلة، ويقاسون حرها يقال:
صلى بالأمر: قاسى حره، والسعير بمعنى المسعور والسعير اشتعال النار.
ولنتبع هذا البحث بآيتين:
الأولى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياسا وارزقوهم
فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (3).

(1) النساء: 9.
(2) تفسير العياشي ج 1 ص 225.
(3) النساء: 5.
486

قد اختلف في تفسير السفيه، والظاهر المتبادر منه غير الرشيد أعني المبذر
أمواله ومن يصرفها فيما لا ينبغي ولا يهتم باصلاحها وبتميزها والتصرف فيها، و
لهذا فسره في الكشاف وغيره به، وقد فسر في الكتب الفقهية أيضا به بحيث صار
حقيقة في ذلك عندهم، وهو قريب من معناه اللغوي فيتعين حمله عليه لرجحانه
على سائر ما قيل فيه، إذ لا دليل لغيره، ثم إن الظاهر من أكثر المفسرين رجحان
أن المراد بأموالكم أموال السفهاء والخطاب لأوليائهم والعموم أظهر، والذي
يدل على أن المراد أموالهم قوله تعالى: " وارزقوهم فيها " فإن الضمير راجع
إلى السفهاء، فلو لم يكن المراد أموالهم يلزم [إيجاب] ارزاق السفهاء على غيرهم
مطلقا، أو على الأولياء من غير أموال السفهاء ولا قائل به، والتقدير " إن كانوا ممن
يجب نفقتهم " تكلف.
وأيضا يدل عليه قوله: " وقولوا لهم قولا معروفا " فإن الظاهر أن الخطاب
للأولياء، أو لمن بيده مال السفهاء، لأنه فسر بأن يقولوا لهم قولا جميلا معروفا
شرعا وعقلا، بأن يعدهم وعدا حسنا، مثل إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم
أموالكم أو إذا ربحتم أعطيتم أو أن يتلطفوا بهم ويقال لهم كلام مشعر بالرشد
وينبهوهم على ذلك ويرشدوهم إليه بطريق حسن ونحو ذلك، فيكون إضافة الأموال
إليهم للملابسة، مثل كونهم قوامين عليها، ومتصرفين فيها كالملاك وللإشارة إلى
أنه لا بد من المبالغة في حفظها كحفظهم أموالهم، ولأنه من جنس أموالهم التي
بها قيام الكل كما في قوله تعالى " ولا تقتلوا أنفسكم " " مما ملكت أيمانكم من
فتياتكم " (1) فإن المراد عدم قتل البعض بعضا، وجنس ما ملكت الأيمان، وجنس
الفتيات، لا نفس المخاطب، وما ملكت يمينه وفتياته فقط ولعل ارتكاب هذا المقدار
في الإضافة التي يكفيها أدنى ملابسة أولى من جعل الأموال للمخاطبين لما عرفت
فتأمل، ويدل عليه أيضا ما بعد الآية فإنه في بيان أحكام الأيتام والرشد، ومن
بيده المال وهو مؤيد للعموم الذي قلناه، وقال القاضي: نهي للأولياء عن أن يؤتوا

(1) النساء: 29 و 25.
487

الذين لا رشد لهم أموالهم - إلى قوله: وهو الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة كأنه
يريد بالمتقدمة قوله: " وآتوا اليتامى أموالهم " وهو بعيد.
فالآية تدل على عدم جواز تسليم أموال السفهاء إليهم لمن بيده مالهم، فيضمن
المعطي مطلقا على الظاهر، ووجوب إنفاقهم وكسوتهم في أموالهم ويمكن إدخال
سائر الضروريات مثل السكنى في الانفاق، وهو في الولي ظاهر، وفي غيره إذا كان
لهم ولى مطلقا، فهو بمنزلتهم فالاعطاء إليه إعطاء إليهم، وإذا لم يكن ولي أصلا لا يبعد
وجوبه على المتصرف كالولي مع عدم الضمان، وينبغي الاشهاد، ويفهم منه أنه يجوز
لمن عنده المال من غير شرط العدالة ولا إذن الولي والحاكم، ويمكن استخراج
الإذن مع الامكان من خارج وتدل أيضا على وجوب القول المعروف لهم وعدم جواز
قول يؤذيهم بما يحرم، ويحتمل كون الأمر للندب.
ثم اعلم أن ظاهر هذه وقوله تعالى: " وابتلوا اليتامى " إلى قوله: " فإن
آنستم منهم رشدا " والتي تقدمت في آخر البقرة و " من كان سفيها أو ضعيفا فليملل
وليه " أن السفيه بمجرد ظهور سفهه محجور عليه في ماله مطلقا فلا يجوز تصرفاته
المالية ولا تسليم ماله إليه، ولا أخذه منه، فيحرم ويضمن سواء كان بالمعاوضة أو لا
مثل الهبة والزكاة والخمس وغيرها، وقد مر تفسير السفيه، فلو صرف ماله فيما
لا ينبغي عقلا أو شرعا، وإن كان له فائدة بدنية ودنيوية فإنه مضيع لذلك المال
شرعا ومبذر وسفيه، وقد ادعى الاجماع في التذكرة على أن صرف المال في محرم
مثل الخمر سفه وإسراف، وظاهره اجماع الأمة.
في الكشاف في تفسير قوله تعالى: " ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان
الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا " (1) التبذير تفريق المال في ما لا ينبغي، وإنفاقه
على وجه الاسراف، وكانت الجاهلية تنحر إبلها ويتياسر عليها، وتبذر أموالها
في الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها، فأمرها الله بالنفقة في وجوهها مما يقرب
منه ويزلف، وعن عبد الله بن عباس هو إنفاق المال في غير حقه وعن مجاهد لو أنفق مدا

(1) أسرى: 27.
488

في باطل كان تبذيرا، وقد أنفق بعضهم في خير فأكثر فقال له صاحبه لا خير في
السرف فقال لا سرف في الخير، وعن عبد الله بن عمر: مر رسول الله صلى الله عليه وآله بسعد وهو
يتوضأ فقال ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف؟ قال: نعم، وإن كنت
على نهر جار، ومثله مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضا.
قال في مجمع البيان: التبذير تفريق المال في ما لا ينبغي وأصله أن يفرق
كما يفرق البذر، إلا أنه مختص بما يكون على سبيل الافساد، والمراد باخوان
الشياطين أمثالهم في الشرارة، وهي غاية المذمة لأنه لا أشر من الشيطان أو هم أصدقاؤهم
لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الاسراف، أو هم قرناؤهم في النار على سبيل
الوعيد " وكان الشيطان لربه كفورا " كان الشيطان كافرا بربه فلا يجوز أن يطاع
فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله، وهي صريحة في تحريم التبذير والإسراف، و
فيه مبالغة في ذلك حيث إن المبذر كالشيطان في الشر واستحقاق النار فافهم.
ثم إنه قد جعل الشيخ والشافعي كل فاسق سفيها ومبذرا، واشترطا
العدالة في الرشد وزوال الحجر، ورأيت رواية حسنة في الكافي تدل على أن شارب
الخمر سفيه (1) إلا أنه نقل عن الشيخ أن ذلك في ابتداء الرشد وزوال السفه، وأما إذا
رشد فلا يشترط في بقاء رشده، فبعد ذلك يجوز أن يكون رشيدا وفاسقا، بل قد
ادعي على ذلك الاجماع في التذكرة، وأنه قد صرح بعض الأصحاب مثل العلامة
في بعض تصانيفه بأنه يشترط في الحجر وعدم جواز تصرفات السفيه المالية أن
يحكم الحاكم على حجره بقوله " جعلتك محجورا عليه " ونحوه ولا يكفي في ذلك
مجرد السفه كما أن المفلس كذلك، فإن مجرد زيادة الدين على المال ليس بحجر
وموجب له، بل إنما يصير محجورا بعد حكم الحاكم.
ودليله أن العقل والنقل دلا على جواز تصرف العقلاء في أموالهم إلا ما خرج
بالدليل، ولا دليل ههنا، وقد خرج ما انضم إليه حكم الحاكم بالإجماع، وبقي غيره
تحت الجواز، وأنه يلزم الحرج والضيق فإن أكثر الناس ليسوا بخال عنه فتأمل

(1) الكافي ج 6 ص 398.
489

وكأنه يقول إن الآيات لا صراحة فيها في حصول الحجر مطلقا لكل سفيه أما آية
البقرة فلان إملال الولي أي إملاءه في أمر ما لسفيه ما كما يدل عليه تنكير سفيها
لا يدل على الحجر مطلقا وبدون الحكم أيضا لاحتمال اختصاص الولاية له في أمر
واحد وهو الاملاء لنقص له عنه بخصوصه أو يكون النقص في سفيه خاص أو يكون
المراد السفيه الذي هو غير مسبوق برشد متصل بالبلوغ، ولا نزاع في عدم اشتراط
حصول الحجر في هذا السفيه بحكم الحاكم وحصوله بمجرد السفه، ولا في
زواله عنه بدونه، وقد يفهم الاجماع على ذلك وعدم النزاع فيه من بعض كتب الفقه.
على أنه قد فسر كثير من المفسرين السفيه هناك بغير هذا المعنى، فاثبات
مثل هذا الحكم بمثله بأن يقال الظاهر منه العموم العرفي، وأن العلة هو السفه
مطلقا وأن لا قائل بالفرق ولا فرق بين الابتداء والبقاء، وعدم فرق معقول بين
حكم الحاكم وعدمه مشكل إذ المنع والحجر بمجرد السفه خلاف ما ثبت بالدليل
العقلي والنقلي من الكتاب والسنة والاجماع، ومستلزم لحرج ما فتأمل.
وكذا يجري بعض البحوث في الآيتين الباقيتين، فإن عدم إعطاء الولي مال
السفيه إليه حتى يرشد لا يدل على عدم جواز تصرفه في أمواله مطلقا لاحتمال أن
المراد قبل البلوغ والمتصل بالبلوغ، ويؤيده ما قيل من كون الخطاب في أكثر
التفاسير للأولياء، إذ تنقطع الولاية عنهم بعد البلوغ والرشد، وإن حدث السفه.
وإن جعلنا الخطاب لمن بيده ماله فلا يدل على حجره مطلقا، لاحتمال عدم جواز
إعطاء ماله إليه، وجواز تصرفاته المالية في الجملة إذا وقعت على وجه لا قبح فيه
بأن يهدي ويزكي ويخمس، ويعامل معاملة لا غبن فيها أصلا، غاية الأمر إن سلم
عموم ذلك بحسب الأشخاص والأوضاع والأحوال أنه لا يجوز لمعامليه أيضا إعطاء
ماله إياه، بل يسلموه إلى الولي ويمكن جواز الأخذ له خفية أو جهرا، وتصرفه
فيما هو بيده، ولو كان بعد التسليم الغير المجوز، والآية الثالثة أظهر في اختصاص
السفيه بالسفيه المتصل سفهه إلى البلوغ، ولهذا قال الشيخ الشهيد رحمه الله في شرح
الارشاد أنه مخصوص به.
490

وبالجملة المسألة من مشكلات الفن وقوانين استدلالات الأصحاب تقتضي
عدم الاشتراط بحكم الحاكم، وأما دقة النظر في الأدلة على ما هو المتعارف في
غير الفقه، وقطع النظر عن قوانينهم، واكتفاؤهم ببعض المقدمات مثل أن لا قائل
بالفرق، وأنه ظاهر في العموم وأن الظاهر عدم الفرق، وأن السفه إذا كان
موجبا فحكم الحاكم لا أثر له، فيقتضي الاشتراط، والاحتياط لا يترك إن أمكن.
الثانية: ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ ومن رزقناه
منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستون (1).
قد استدل بها على كون المملوك محجورا عليه في جميع تصرفاته، وعدم صحة
شئ منها إلا بإذن سيده، لكن هذا العموم مخصوص بصحة بعض تصرفاته، مثل
طلاق زوجته، ونفوذ إقراره بالمال، ويتبع به بعد عتقه، ويقبل قول المأذون في
ضروريات تجارته المأذون فيها. وكذا على أنه لا يملك شيئا أصلا، سواء كان
ملكه مولاه أم لا، لأنه نفيت عنه القدرة مطلقا، وليس حقيقة فيكون المراد نفي
التملك لأنه أقرب المجازات، وفي الاستدلال نظر فإن غاية دلالتها على وجود عبد
مملوك لا قدرة له على شئ ووجود عبد مملوك قادر على شئ في الجملة، فأين الدلالة
على عدم التملك لمملوك أصلا، ولو بغير الاختيار وبتمليك المولى وغيره، فإنه
يحتمل ذلك أن يكون عاجزا ولا يملكه المولى أو بغير إذن المولى أو الذي
لا يضرب له ضريبة وغير ذلك، أو يكون المراد الحجر وعدم صحة التصرف لا عدم
الملك فقد يكون مالكا ومحجورا عليه كالصبي فإنه يقال للطفل أنه لا يقدر على
شئ مع تملكه، بل بين كونه محجورا عليه وغير مالك، تناف في الجملة، فإن
المتبادر من الأول الملكية إلا أنه ممنوع من التصرف كالصغير والمفلس والسفيه
فتأمل.
ثم إنه يدل على التملك قوله تعالى " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين

(1) النحل: 75.
491

من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " فافهم (1) وبعض الأخبار
الصحيحة، وإن دل على عدمه أيضا بعضها ويمكن الجمع بينهما في الجملة بالحمل
على التملك والحجر، وقد فصلنا المسألة في شرح الارشاد.
* (الثالث عشر) *
العطايا المنجزة كالوقف والسكنى والصدقة والهبة وغيرها وليس ما يدل
عليها بالخصوص بل يدل عليها عموم ما يدل على فعل الخيرات، وقد ذكر الراوندي
وغيره آيات:
الأولى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون (2).
الثانية: وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا
وأعظم أجرا (3).
الثالثة: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب - إلى قوله
وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل و
السائلين وفي الرقاب (4).
وقد مر تفسيرها، والآيات والأخبار على ذلك لا تعد ولا تحصى، ومعلوم
أنه لا يحتاج إلى ذكرها.

(1) النور: 32.
(2) آل عمران: 92.
(3) المزمل: 20.
(4) البقرة: 177.
492

* (الرابع عشر) *
* (النذر والعهد واليمين) *
وفيه أبحاث:
* (الأول النذر) *
وفيه آيتان:
الأولى: وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر (1).
أي كل ما فعلتم من نفقة حسنة أو قبيحة وكل ما أوجبتم على أنفسكم
بالنذر، ويحتمل شبهه أيضا الله يعلم " فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار " فيعلم
استحقاق صاحبه [للأجر] ونية فاعله فيجازيه على ذلك إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا
فلا يبعد دلالتها على استحباب فعل النذر إن كان المنذور طاعة، وتحريمه إن كان
معصية، حيث قرنه بالانفاق المرغوب والمرهوب، ووعد فاعله بالأجر إذا فعله
على الوجه المرضي، وأوعد بالعقاب على عدمه بأنه يعلمه، وكذا وجوب الوفاء
به لتسمية من يخالفه ظالما على ما هو الظاهر وسيجئ ما يدل على الوفاء به.
وقال في مجمع البيان: النذر هو عقد المرء على نفسه فعل شئ من البر
بشرط ولا ينعقد ذلك إلا بقوله " لله علي كذا " ولا يثبت بغير هذا اللفظ، وأصل النذر
الخوف، لأنه يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر، ومنه نذر الدم وهو العقد
على سفك الدم للخوف من مضرة صاحبه، ومنه الانذار، وفي هذا الكلام تأمل
إذ يفهم تخصيصه بالفعل وبالرجل، إلا أن يقول بالتأويل، ويريد بالمرء الشخص
أو يعلم المرأة والترك بالمقايسة أو المراد مثلا، وأيضا التقييد بالبر يدل على
عدم انعقاده في المباح كما هو مذهب بعض الأصحاب، وهو محل التأمل أيضا لعموم
أدلة النذر، مع عدم اشتماله على قبح، ويحتمل أن يريد به المباح.

(1) البقرة: 270.
493

وأيضا من التقييد بالشرط يعلم عدم انعقاد النذر إذا لم يكن مقيدا به كما
هو مذهب السيد، وهو أيضا محل التأمل لعموم الأدلة وعدم العلم باعتباره في
معناه، وكون أصله الخوف ظاهر في العموم وكذا أصل عدم الزيادة ولهذا ذهب
أكثر الأصحاب إلى عدمه على الظاهر، ولكن يشعر باعتباره صحيحة منصور بن
حازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال إذا قال الرجل علي المشي إلى بيت الله وهو محرم
بحجه، أو على هدي كذا وكذا فليس بشئ حتى يقول: لله على المشي إلى بيته
أو يقول لله علي هدي كذا وكذا إن لم أفعل كذا وكذا، وأما اشتراطه بهذه الصيغة
فيدل على عدم انعقاده إذا أتى بلفظ آخر مرادف له، وهو المشهور، والمفهوم من
بعض الروايات كالصحيحة المتقدمة.
ويدل أيضا على عدم انعقاده من غير لفظ كما هو مذهب الأكثر خلافا
للشيخ، فإنه يكتفي بعقده قلبا وإن لم يتلفظ به ودليل مذهب الأكثر عدم العلم
بإطلاق النذر عليه، والأصل والشهرة وبعض الروايات مثل الصحيحة المتقدمة.
وفي الاستدلال على مذهب الشيخ بمثل " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم
به الله " (1) تأمل لا يخفى، وكذا بمثل قوله تعالى " واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم
فاحذروه " (2) نعم هما يدلان على العقاب بأفعال القلب، ولو بقصد المعصية، وذلك غير
بعيد، فإن قصد القبيح عقلا وشرعا أيضا إلا أنه لا يعاقب عليه العقاب الذي
يعاقب عليه بفعله في الخارج وبه يجمع بين الأدلة بل بين الأقوال.
الثانية: يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا (3).
قال في الكشاف: " يوفون " جواب من عسى أن يقول: ما لهم يرزقون ذلك؟
والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات، لأن من وفى بما
أوجبه هو على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى وكذلك ورد الإيفاء في مواضع

(1) البرة: 285.
(2) البقرة: 237.
(3) الدهر: 7.
494

فيدل على وجوب الوفاء فتأمل وفي قوله تعالى " أني نذرت للرحمان صوما
فلن أكلم اليوم إنسيا " (1) دلالة على جواز نذر عدم التكلم، وكأنه مخصوص بتلك
الشريعة ولهذا قال الأصحاب إن صوم الصمت حرام.
* (الثاني العهد) *
وفيه آيات:
الأولى: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا (2).
الثانية: وبعهد الله أوفوا (3).
الجار متعلق بعده أي " أوفوا " للتأكيد والمبالغة للحصر المستفاد أي يجب
إيفاء ما عهد الله إلى المكلف لا غير، أي لا يصار إلى غيره ولا يجعل معارضا له ويترك
به، ففيها دلالة على وجوب الإيفاء بالشروط والعهود والنذور والعقود والإتيان
بجميع ما أمر به من العمل بالعدالة في القول والفعل وإيفاء الكيل والوزن وغير
ذلك " ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون " أي جميع ما تقدم أو حصر الإيفاء بعهد الله
فإنه مشتمل على ما تقدم وزيادة، وصاكم الله بحفظه والعمل بمقتضاه، رجاء
تذكركم الله وعقابه وثوابه، فتتعظون به، وفيه تأكيد بالغ.
وكذلك " الذين يوفون بعهد الله " (4) قيل عهد الله ما عقده الله على أنفسهم من
الشهادة بربوبيته " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " (5) " ولا ينقضون
الميثاق ": كل ما وثقوه على أنفسهم من المواثيق بينهم وبين الله، من العهود والنذور
والايمان وغير ذلك، وبين خلقه من العقود والشروط وسائر ما قرر معهم، فهذا
تعميم بعد تخصيص، ويحتمل أن يكون معناهما واحدا فيكون الثاني تأكيدا للأول
فيمكن جعل هذه دليلا على وجوب الوفاء بالنذور والعقود والشرائط والوعد.

(1) مريم: 27.
(2) أسرى: 34.
(3) الأنعام: 152.
(4) الرعد: 20.
(5) الأعراف: 171
495

وكذلك قوله تعالى " والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون " (1) في الكشاف
سمى الشئ المؤتمن عليه أمانة وعهدا ومنه " أن تؤدوا الأمانات " " ولا تخونوا
أماناتكم " (2) وإنما تؤدوا العيون لا المعاني، ويخان المؤتمن لا الأمانة، والراعي
الحافظ، يحتمل العموم في كل ما أؤتمنوا عليه من جهته تعالى والخلق والخصوص
فيما حملوه من أمانات الناس وعهدهم، وفي مجمع البيان: راعون أي حافظون
وافون، والأمانات ضربان: أمانات الله، وأمانات العباد، فأماناته تعالى هي
العبادات كالصيام والصلاة ونحوها، وأمانات العباد هي مثل الودايع والشهادات
وغيرها، وأما العهد فعلى ثلاثة أضرب: أوامر الله، ونذور الانسان، والعقود الجارية
بين الناس، فيجب على الانسان الوفاء بجميع ضروب الأمانات والعهود، والقيام
بما يتولاه منها.
* (الثالثة اليمين) *
وفيه آيات:
الأولى: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا
بين الناس والله سميع عليم (3).
ظاهرها نهي عن كثرة الأيمان والحلف على كل شئ أي لا تجعلوا الله معرضا
لأيمانكم ولا تكثروا الحلف حتى في المحقرات وغير المهمات الضرورية، ويؤيد
النهي عن كثرة الحلف " ولا تطع كل حلاف " (4) و " أن تبروا " علة للنهي بحذف مضاف
أي إرادة بركم وتقواكم واصلاحكم بين الناس، فإن الحلاف مجترئ على الله
فيكذب، ولا يصلح أن يكون بارا ولا متقيا ولا مصلحا بين الناس، وقد قيل غير
هذا المعنى أيضا وهو أنه لا تجعلوا الله حاجزا ومانعا لما حلفتم عليه من البر والتقوى

(1) المعارج: 33.
(2) الأنفال: 28.
(3) البقرة: 224.
(4) القلم: 11.
496

وإصلاح ذات البين، فيكون الأيمان بمعنى المحلوف عليه، و " أن تبروا " بيانا له
ويكون إشارة إلى ما هو المشهور أن المحلوف إذا كان مرجوحا لا ينعقد، وكذا
إذا كان راجحا ثم صار مرجوحا كما تدل عليه الأخبار من العامة والخاصة، مثل
قوله صلى الله عليه وآله لعبد الرحمن بن سمرة: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت
الذي هو خير (1) فتأمل.
الثانية: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت
قلوبكم والله غفور رحيم (1).
قيل: أصل اللغو الكلام الذي لا فائدة فيه، يقال ألغى الكلمة إذا طرحها
لأنه لا فائدة فيها، واللاغية الكلمة القبيحة الفاحشة، ومنه اشتقاق اللغو لأنه
كلام لا فائدة فيه عند غير أهلها، وأصل الحلم الأناة وهو في صفته تعالى الامهال
بتأخير العقاب على الذنب، قال في الكشاف والقاضي: اللغو من اليمين الساقط
الذي لا يعتد به في الأيمان وهو الذي لا عقد معه بقرينة " عقدتم الأيمان " وهو
الذي يجري على اللسان عادة مثل قول العرب لا والله وبلى والله، من غير عقد على
يمين، بل لمجرد التأكيد لقولها، أو جاهلا بمعناها أو سبق لسانه إليها، أو في حال
الغضب المسقط للقصد.
فمعناه: أن الله لا يؤاخذكم بما لا قصد معه لكم من الأيمان بعقوبة، لا في
الدنيا بكفارة ولا في الآخرة بعذابها، بل يؤاخذكم باليمين الملفوظة إذا عزمتم
وقصدتم بقلوبكم، وخالفتم، أو إذا كذبتم عمدا بأن يحلف على الماضي كاذبا فإنه
يسمى الغموس وهو حرام، ولا كفارة فيه عند الأصحاب، بل إنما هي على فعل
متوقع راجح أو ترك كذلك أو مباح، وتحقيق ما يوجب الكفارة سيجئ في تفسير
آية الكفارة إن شاء الله، وكل ذلك إذا قصدتم الأيمان وعقدتم عليها القلوب أي
إذا واطأت قلوبكم ألسنتكم، أو أنه يؤاخذكم بما تعمدتم وقصدتم من الأيمان على

(1) مشكاة المصابيح 296.
(2) البقرة: 225.
497

خلاف الحق أي الأيمان الكاذبة فلا كفارة حينئذ فلا حذف في الكلام " والله غفور "
يغفر الذنوب لعله مع التوبة وجوبا أو تفضلا من غير توبة أيضا " حليم " يؤخر
العقوبة ولا يعجل بها لأنه إنما يعجل من يخاف الفوت.
الثالثة: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " (1) يحتمل أن يكون المراد من
اللغو ما يصدر من الانسان بغير قصد، كقول الرجل لا والله وبلى والله، حين الغفلة
والغضب وغير ذلك، ولهذا شرط في انعقاده القصد، ويشعر به ما بعده كما مر ويحتمل
الحلف على ما ظن أنه كذلك ولم يكن، ويمكن شموله للكل، والظاهر أن
" في أيمانكم " صلة اللغو لأنه مصدر أو حال عنه أو صفته، بأن يقدر معرفا باللام
مثل الحاصل، والمراد نفي المؤاخذة مطلقا في الدنيا بعدم الكفارة وعدم التعزير
وفي الآخرة بعدم العقاب " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " بالقصد وجئتم
بها على الوجه الشرعي إن كان مستقبلا قابلا للحنث بالكفارة والتعزير بل
العقاب أيضا ويحتمل السقوط بالكفارة، وإن كان ماضيا بالعقاب والتعزير، إن
كان كذبا عن عمد من غير داع شرعا مع عدم التوبة " فكفارته " بيان للمؤاخذة أي
كفارة نكث الحلف والمؤاخذة به، قال القاضي المراد بالكفارة الفعلة التي تذهب
الإثم، وتستر الذنب، واستدل بظاهره على جواز التكفير بالمال قبل الحنث، وهو
عندنا خلافا للحنفية لقوله عليه السلام من حلف على يمين ورأي غيرها خيرا منها فليكفر
عن يمينه وليأت الذي هو خير (2) ولعل " لقوله عليه السلام " دليل لمذهبه لا لمذهب الحنفية.
وظهور الآية ممنوع لأن الكفارة إنما يكون بعد الذنب كما فهم من كلامه عليه السلام
أيضا، مثل كفارة إفطار شهر رمضان وغيره فلا معنى لتقديمها، وعلى تقدير ظهور
الآية في ذلك فالتخصيص بالمال لا وجه له، وكذا الخبر مع أن جعله دليل ظاهر
الآية غير سديد، على أنه مقيد برؤية غيرها خيرا، والمراد أعم وأنه غير معلوم
الصحة، والذي ثبت عند الأصحاب أنه إذا حلف على شئ ثم رأى غيره أولى تنحل

(1) المائدة: 89.
(2) أنوار التنزيل ص 124، والحديث تراه في سنن أبي داود ج 2 ص 240.
498

اليمين بغير كفارة، مثل أن حلف ليضرب عبده، أو لم يأكل الطعام الفلاني ولم يفعل
الفعل الفلاني، وصار المصلحة في عدمه ويكون هو أولى بالنسبة إليه تنحل اليمين
من غير كفارة، فكأنه يدخل حينئذ في اليمين اللغو الذي لا يؤاخذ عليه، ولهم
عليه الروايات، وكأنه مجمع عليه أيضا عندهم والحنفية موافقة لهم في عدم الكفارة
قبل الفعل مطلقا، والشافعية بغير المال.
و " إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " خبر كفارته، والمراد
بالمسكين هو الفقير الذي يستحق الزكاة أي لا قدرة له على قوت سنته، ولو بالكسب
على ما قالوا " من أوسط " أي من أقصده ووسطه باعتبار النوع، ويمكن القدر أيضا
ولكن القدر مقدر في الأخبار بالمد لكل مسكين عند الأكثر، وقيل مدان، و
الجنس هو الحنطة مثلا، إن كان هو الأوسط أو الأعلى، والظاهر أن الأوسط
للرخصة، وأن دونه لا يجوز، لا أن الأعلى لا يجزئ، وقال القاضي: محل
" من أوسط " نصب لأنه صفة مفعول محذوف تقديره أن تطعموا عشرة مساكين
طعاما من أوسط، أو الرفع على البدل من إطعام وأظن جواز تعلقه بإطعام، و
معنى البدلية غير ظاهر، والتقدير موجب للتكرار، وأيضا إن سلم مانع عن
تعلقه بالاطعام المذكور، فلا مانع من كونه صفة له فلا يحتاج إلى تقديره، بل
لا مانع من الحالية أيضا و " أهليكم " منصوب بأنه مفعول ثان حذف نونه بالإضافة
والمفعول الأول محذوف، أي ما تطعمونه أهليكم، وصريح الآية اعتبار العدد في
المساكين فلا يجزئ مقدار العشرة لواحد لا أن المقصود من العدد مقدار الطعام
كما قاله أبو حنيفة، لأن كون ذلك مقصودا بل مساويا له ممنوع إذ في تعدد الأشخاص
مصالح لا توجد في واحد من استجابة الدعاء والقبول عند الله.
وبالجملة رعاية خواطر أعظم من رعاية خاطر واحد، وهو واضح وصريح
الآية لا يخرج عنه " أو كسوتهم " عطف على إطعام إما لكونه مصدرا أو لتقدير
إلباس كسوتهم، وقال القاضي: أو من أوسط إذا كان بدلا، وما عرفت معنى البدل
هنا، ويمكن تقدير: أو كسوتهم من أوسط ما تكسون أهليكم، والظاهر ما يصدق
499

عليه الكسوة لغة أو عرفا مثل ثوب يكون مغطيا للعورة كالقميص ويحتمل الوزرة
والسراويل، والأزار أولى والجبة أولى أما مجرد الرداء فمشكل لأنه لا يقال
له كسوة إن كان صغيرا يحصل به مجرد الارتداء، ويحتمل أن يكون المراد من
الكسوة الثياب التي يحتاج إليها الانسان عرفا كالاطعام، فإنه لا بد من كونه
مقدار ما يكفيه يوما، ولهذا يقال يجب للزوجة والمملوك ومن يجب نفقته من
الأقارب كسوتهم على الزوج والسيد والقريب، ويراد جميع ما يحتاج إليه
عرفا، ويؤيده مقابلته للإطعام وتحرير الرقبة، فيجب حينئذ ما يستر جميع بدنه
مثل قميص أو جبة مع عمامة أو قلنسوة على الوجه المتعارف في زماننا، ولكن القائل
به غير ظاهر قال القاضي: قيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار، وفيه تأمل خصوصا
في الرداء.
" أو تحرير رقبة " أي أو إعتاق انسان فظاهر الآية أنه يجزئ كل انسان كما
يدعيه الأصحاب، وشرط الشافعي كونه مؤمنا قياسا على كفارة القتل وهو باطل
نعم لو كان نص مقيد بذلك يجب وإلا فلا، فلا يجزئ الطفل أيضا إلا أن يلحق
بآبائه في الايمان، والظاهر أنه يكتفى بالإسلام وعند الأصحاب يمكن كونه
مؤمنا بالمعنى الأخص عندهم، فالمكفر مخير بين اختيار أي الثلاث شاء إن
وجدت الثلاثة وإلا يختار ما وجد، وإن لم يجد شيئا أصلا كما هو ظاهر قوله
" فمن لم يجد " أي شيئا منها " فصيام ثلاثة أيام " أي فكفارة حلفه صيام ثلاثة أيام
وظاهرها إجزاء أي ثلاثة على أي وجه جايز، إلا أنه قيده الأصحاب كالشافعي
بالتتابع للإجماع والسنة ويؤيده قراءة " متتابعات " في الشواذ، وإن لم تكن
الشاذة حجة إذ لم يثبت كتابا ولم يرو سنة، وهذا لم يرد علينا لما مر، نعم يرد
على أبي حنيفة حيث قيد بالتتابع عليه بالقراءة الشاذة، قال القاضي
ليست بحجة.
" ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " كأنه يريد وحنثتم أيضا لما مر، ويريد
به التأكيد والإيضاح، وإلا فما كان يحتاج إلى ذكره خصوصا " إذا حلفتم "
500

" واحفظوا أيمانكم " ظاهرها أنه لا تخالفوها ولا تنكثوها فيدل على أن خلف الحلف
والحنث حرام كفر أم لا، فتجب الكفارة بعد الحنث وأنه لا يجوز نكثه بوجه
وعلى تقدير الجواز لا وجه للكفارة، فمذهب الشافعي بتجويزه بعد الكفارة محل
التأمل، وكذا صحة الخبر المتقدم، فإنه على تقدير انعقاده يجب حفظه لهذه
الآية ونحوها فكيف يجوز رفعه بالكفارة، إلا أن يقال بالحل كما قال أصحابنا
للنص والاجماع ولأن الانعقاد مشروط بكون ما يحلف عليه راجحا أو مساويا
بالإجماع على الظاهر والأخبار، وعلى تقدير القلب بالمرجوحية لا يبقى شرط
الانعقاد ودوامه فتأمل فيه، وللايمان شروط وأحكام مذكورة في محلها.
" كذلك " مثل ذلك البيان " يبين لكم آياته " أعلام شرايعه " لعلكم تشكرون "
الله تعالى على التعليم أو سائر نعمه الواجب شكرها، فإن مثل هذا البيان يسهل
لكم المخرج، ويحصل الخلاص بالكفارة في الدنيا عن العقاب، فيجب شكر نعمة
شرع الكفارة وبيانها على وجه واضح كساير النعم.
* (الخامس عشر العتق) *
وفيه آيات مثل قوله تعالى:
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه (1).
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله " الذي " زيد بن الحارثة وإنعام الله عليه توفيقه
للإسلام، وإنعامه صلى الله عليه وآله إعتاقه بعد أن ملكه بالأسر (2) فدلت الآية على مشروعية
تملك الانسان وعتقه بل رجحانه وكون المعتق منعما، والآيات الدالة عليه كثيرة
لا يحتاج إلى الذكر، ولنذكر آية الكتابة وهي قوله:

(1) الأحزاب: 37.
(2) بل ملكه صلى الله عليه وآله بالهبة وهبته له خديجة زوجته عليها السلام نعم أسره
بنو ألقين في الجاهلية وشروه في سوق عكاظ أو سوق حباشة من حكيم بن حزام وقد اشتراه هو
لعمته خديجة بنت خويلد. راجع أسد الغابة ج 2 ص 225، الإصابة ج 1 ص 545، والاستيعاب
بذيله ج 1 ص 525.
501

والذين يبتغون الكتاب من ما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم
فيهم خيرا (1).
في الكشاف: " الذين " مرفوع على الابتداء أو منصوب بفعل مضمر يفسره فكاتبوهم
ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط، والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة، وهو أن
يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على ألف درهم، فإن أداها عتق، ومعناه كتبت لك
على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك، أو
كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت علي العتق. أي الذين يطلبون المكاتبة منكم أيها
الموالي من العبيد والإماء فكاتبوهم وهي أن تقرر معه أن يعطيك مالا معينا في
نجم أو نجوم معينة فينعتق بذلك فهي دالة على جوازها مطلقا حالا ومؤجلا منجما
بنجم واحد أو متعدد، ومشروطة ومطلقة، وعلى مال قليل وكثير، عين ومنفعة
وأحكامها مذكورة في الفقه.
" إن علمتم فيهم خيرا " الأمر بها متعلق بعلم الخير في المملوك فقيل هو المال
وقيل هو الصلاح، وقيل هو القدرة على الاكتساب وتحصيل مال الكتابة والأمانة
والمتبادر الوسط، ويحتمل الأخير والأول بعيد خصوصا على المذهب المشهور من
عدم تملكهم شيئا. في الكشاف: الأمر الندب عند عامة العلماء وجميع الفقهاء، ونقل
عن ابن سيرين أنه أمر حتم وإيجاب فهو مسبوق بالإجماع وبالعكس، ففيها دلالة
على استحباب الكتابة بشرط طلبه وخيريته.
" وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " أمر الموالي بإعطاء المكاتبين بعض المال
الذي أعطاهم الله إياه فهو يدل على وجوب إعطاء المكاتب للمكاتب من المال الذي
أعطاه الله إياه وقال بعض الأصحاب بوجوب إعطاء المكاتب شيئا من الزكاة، وهو من
سهم الرقاب إن وجبت وإلا استحب فيجوز أن يعطيه من الزكاة ثم يأخذها منه، و
أن يحسب عليه من الزكاة ويسقط من مال الكتابة، ورجوع زكاته إليه بوجه آخر

(1) النور: 33.
502

غير ضائر كما إذا اشترى من الفقير زكاته، ولكن قالوا يكره أن يتملك ما يتصدق
به باختياره، ولا يبعد اخراج هذه عنه للآية فتأمل، وكأنهم حملوا الآية عليه وهو
بعيد لا يفهم إلا أن يكون لهم دليل عليه، فتأمل.
وفي مجمع البيان: معناه حطوا عنهم من نجوم الكتابة شيئا، وقيل ردوا
عليهم معشر السادة من المال الذي أخذتم منهم شيئا، وهو استحباب، وقيل إيجاب
وقال قوم من المفسرين إنه خطاب للمؤمنين بمعونتهم على تخليص رقابهم من الرق
ومن قال إنه خطاب للسادة اختلفوا في قدر ما يجب، والأولى قدر ما يعطي فقيل:
مقدر بربع المال عن الثوري، وروي ذلك عن علي عليه السلام وقيل ليس فيه تقدير
بل يحط عنه شئ، وهو الصحيح للصدق فإنه يصدق الامتثال ويكفي، ويخرج
عن العهدة.
ثم إن ظاهر الآية وجوب إعطاء ما يصدق أنه من المال الذي أعطاهم الله
ولكن ينبغي أن يكون مما يسمى إعطاء عرفا وينتفع به غالبا، لا مثل فلس واحد
فتأمل، وأن المخاطب به هم الموالي والسادة، لا المسلمون كما نقل في الكشاف
عن أبي حنيفة أنه على المسلمين، فإنه يحصل بالحط، فلا يحتاج إلى الدفع ثم
الأخذ، وإن كان رعاية ظاهر اللفظ أولى فتأمل.
503

* (كتاب النكاح) *
والبحث فيه يتنوع أنواعا:
* (الأول) *
* (في شرعيته وأقسامه وغير ذلك) *
وفيه آيات:
الأولى: وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم
إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم (1).
في الكشاف: الأيامى واليتامى أصلهما أيايم ويتايم فقلبا، والأيم للرجل
والمرأة إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين، والأولى أن يقول من لا زوج لها بكرا
أو ثيبا ومن لا امرأة له كما قاله في القاموس. في مجمع البيان: أحد مفعولي أنكحوا
محذوف، والتقدير أنكحوا الأيامى الرجال منكم من نسائكم والنساء من رجالكم
في الكشاف المراد أن زوجوا من تأيم منكم من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه
صلاح من غلمانكم وجواريكم، وخص الصالحين لشدة الاهتمام بشأنهم، وللارشاد
والترغيب إلى الصلاح، فإنهم إن رؤوا مزوجين لصلاحهم رغبوا فيه، ولأن ثوابه
أكثر، ولأنهم في التعب إذ يلاحظون، وأما غيرهم فيعالجون أنفسهم نعوذ بالله
بغير التزويج وإن أثموا ويجازوا في الآخرة، في الكشاف: لأن الصالحين من
الأرقاء هم الذين مواليهم يشفقون عليهم، وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة
والمودة، فكانوا مظنة للتوصية بشأنهم، والاهتمام بهم، وتقبل الوصية فيهم
وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك. وهذا الأمر للندب
لما علم أن النكاح أمر مندوب إليه، وقد يكون للوجوب في حق الأولياء عند

(1) النور: 32.
504

طلب المرأة ذلك، ومما يدل على كونه مندوبا إليه قوله صلى الله عليه وآله من أحب فطرتي
فليستن بسنتي وهي النكاح، وعنه عليه السلام من كان له ما يتزوج به فلم يتزوج فليس
منا وهذا يدل على الوجوب فتأمل، وعنه عليه السلام إذا تزوج أحدكم
عج به شيطانه يا ويله عصم ابن آدم مني ثلثي دينه، وعنه عليه السلام يا عياض لا تزوجن
عجوزا ولا عاقرا فإني مكاثر (1) والأحاديث فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله كثيرة وربما كان
واجب الترك كما إذا أدى إلى معصية أو مفسدة، وعن النبي صلى الله عليه وآله إذا أتى على
أمتي مائة وثمانون سنة من هجرتي فقد حلت لهم العزوبة والعزلة، والترهب على
رؤس الجبال، وفي الحديث: يأتي على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية
فإذا كان ذك الزمان حلت العزوبة، وهذه أيضا تدل على وجوب التزويج في الجملة
ويفهم من كلامه أن الأمر إذا آل إلى المعصية يصير ذلك حراما فيكون ما يتوقف
ويحصل به الحرام حراما ككون ما يتوقف عليه الواجب واجبا، ولبعض العلماء
فيه نزاع وليس هذا محله.
وتدل الآية على وجوب قبول الولي الخطبة وتزويجه المولى عليها حرا
كان أو مملوكا، وذلك غير بعيد، إذا كان فيه مصلحته، بأن كان الزوج قادرا على
النفقة وكفوا كما يدل عليه بعض الأخبار، وفي كلام الأصحاب أنه يجب إجابة
الكفؤ القادر، فيفهم الوجوب على الزوجة أيضا وفيه تأمل ذكرناه في محله، وظاهر
الآية عدم اشتراط القدرة والكفؤ، وكأنه مفهوم من الخبر والاجماع، فالآية دليل
ترغيب الأولياء والوكلاء وإن لم يكونوا أولياء شرعا بتزويج من يسمع كلامهم
ويتبعهم، وعدم جعل فقر الزوج والزوجة مانعا، معللا بأن الله هو المغني، بل في
الأحاديث ما يدل على أن التزويج موجب للغناء وأن تركه خوفا من الفقر سوء
ظن بالله.
ولكن جعل في الكشاف ذلك مشروطا بمشيئة الله تعالى، حيث قال ينبغي أن
يكون شريطة الله غير منسية في هذا الموعد ونظائره، وهي مشيته، ولا يشاء الحكيم

(1) راجع مجمع البيان ج 7 ص 140، الكافي ج 5 ص 329.
505

إلا ما اقتضته الحكمة، وما كان مصلحة. ونحوه " ومن يتق الله يجعل له مخرجا
ويرزقه من حيث لا يحتسب " (1) وقد جاءت الشريطة منصوصة في قوله تعالى " وإن خفتم
عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم " (2) ومن لم ينس هذه
لم ينتصب، معترضا بعزب كان غنيا فأفقره النكاح، وكأن هذه الشريطة محذوفة
مثل إجابة الدعاء في قوله " ادعوني استجب لكم " (3) فلا يرد الشبهة.
ففيها دلالة على مرغوبية النكاح مطلقا وأفضليته وعلى استقلال الآباء والأولياء
وإن كان المولى عليها بلاغا تأمل، وعلى استقلال الموالي أيضا في نكاح المماليك و
أيضا فيها دلالة على تملك المماليك لقوله " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " إذ
الظاهر أنه راجع إلى الكل لا الأحرار خاصة، فإنه خلاف الظاهر، نعم يمكن
أن يقال غناهم وفقرهم باعتبار مواليهم وإذنهم في التصرف في مالهم، وهو بعيد
فتأمل.
الثانية: وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من
فضله (4).
في الكشاف وليجتهد في العفة وظلف النفس، كأن المستعفف طالب من نفسه
العفاف، وحاملها عليه " لا يجدون نكاحا " أي استطاعة تزوج، ويجوز أن يراد
بالنكاح ما ينكح به من المال " حتى يغنيهم الله " ترجئة للمستعففين، وتقدمة وعد
بالتفضل عليهم بالغنى ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفا لهم في استعفافهم وربطا على
قلوبهم، وليظهر بذلك أن فضله أولى بالاعفاء وأدنى من الصلحاء، وفيها دلالة
على الصبر وطلب العفة إذا لم يجد ما ينكح به، حتى يعطيه الله تعالى من فضله ما
يتمكن معه من ذلك وإن كان قليلا، فالصبر والعفة إنما يرغب فيهما بعد عدم وجدان
ما يتمكن به من التزويج أصلا لا من يجد شيئا في الجملة، فلا ينبغي طلب الصبر

(1) الطلاق: 3.
(2) براءة: 28.
(3) غافر: 60.
(4) النور: 33.
506

والعفة ليجد مالا كثيرا أو يصير غنيا، ولهذا لا يجدون، ويحتمل أن يكون معنى
" حتى " غاية للاستعفاف، ويكون المراد بالنكاح الزوجة المناسبة بحاله.
وبالجملة على التقادير لا منافاة بين ما تقدم وهذه، إذ الأولى أمر للأولياء
بالانكاح وعدم جعل الخوف مانعا، وهذه ترغيب للأزواج بطلب العفة حتى
يغنيهم الله وأن يزوجوه ولكن له الأولى عدم ذلك، أو يكون المراد بالثانية مجرد
الإباحة والرخصة دون الرجحان والأولى أن يكون المراد هو عدم الزوجة ونحو
ذلك فتأمل ويحتمل أيضا أن يكون معناها وجوب الصبر والاستعفاف بمعنى عدم
التعدي والميل إلى السفاح، فكأنه قال: لا يسفح الذين لا يجدون نكاحا حتى
يغنيهم الله فتأمل.
الثالثة: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من
النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت
أيمانكم (1).
أي إن خشيتم أن لا تعدلوا بل تجوروا في يتامى النساء إذا تزوجتم بهن
فتزوجوا غيرهن ممن طاب لكم من النساء اللاتي لا تقدرون على عدم العدل لعشيرتهن
ونحوها، فتعدلوا بينهن ولا تقصروا في حقهن من المهر والنفقة، وروي أنهم
كانوا إذا وجدوا يتيمة ذا مال وجمال تزوجوها فربما يجتمع عند أحدهم عدة منهن
فيقصرون فيما هو واجب عليهم، فنزلت. وروي أيضا أنهم لما كانوا يتحرجون عن
اليتامى والتصرف في أموالهم خوفا من العقاب بعد أن عرفوا عظم أمر اليتامى
والتصرف في أموالهم ولا يتحرزون عن الجور في أمور النساء من عدم التعديل
والتقصير في المهر والنفقة، نزلت هذه الآية، أي إن خفتم من العقاب وتحرجتم
من اليتامى لذلك فينبغي أن تتحرزوا في أمور النساء أيضا عن ترك ما هو واجب

(1) النساء: 3.
507

عليكم لهن من الحقوق، فتزوجوا ما هو حلال طيب وتقدرون على العدل بينهن
من ثنتين أو ثلاثا أو أربعا أي عدد كانت من هذا العدد الجايز، وترك الواحدة
لعدم الاحتياج إلى القسط والعدل وإن احتاج إلى ملاحظة المهر والنفقة وهي معلومة
وقيل: كانوا يتحرجون من اليتامى ولا يتحرجون من الزنا فنزلت.
ثم اعلم أن التعبير عنهن بما للإشارة إلى قلة عقولهن وأن معنى " مثنى
وثلاث ورباع " أنكحوا الطيبات حال كونهن معدودات بهذا العدد ثنتين ثنتين، و
ثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، وهي معدولات منها فهي غير منصرفة بالعدل التحقيقي والصفة
فإنها بنيت للوصف فإن معنى مثنى مثلا الذي يكون ثنتين أي تزوجوا أيها الرجال
ثنتين ثنتين ثلاثا ثلاثا أربعا أربعا والخطاب للجميع أي خذوا كل واحد منكم ثنتين
أو ثلاثا أو أربعا أو مختلفا كما يقول اقسموا هذا المال اثنين اثنين ثلاثة ثلاثة أربعة
أربعة، ويراد قسمة المال على الوجه المذكور، سواء كانت القسمة متفقة أو مختلفة
وهي منصوبات على الحال عن مفعول " فانكحوا " أو عن فاعله فيحتاج إلى التأويل
ليحمل، ويحتمل غيرها ولو اختير المفرد بأن يقول ثنتين وثلاثا وأربعا لدل على جواز
الجمع دون التوزيع، ولو قيل " أو " لدل على أحدها فقط دون الجمع فلا تجوز القسمة
إلا على وجه واحد، ولا يفهم جواز الجمع بين المذكورات، فيلزم تجويز أكثر من
أربعة مثل ثمانية عشر لشخص واحد، لما مر أن المتبادر من هذا الكلام عرفا هو
القسمة بين الجميع على الوجه المذكور على سبيل الاتفاق أو الاختلاف فلا يحتاج
لذلك إلى جعل الواو بمعنى أو، بل لا يصح لما مر، ولأنه يلزم تجويز الستة بل
ثمانية لشخص واحد، فإن الثلاث بمعنى ثلاثة ثلاثة، وكذا رباع.
" فإن خفتم " من العقاب في التعدد بعدم العدل " فواحدة " أي فانكحوا واحدة
لا غير، فإنها لا تحتاج إلى التعديل وكثرة المؤنة " أو ما ملكت أيمانكم " واحدة أو
متعددة فإنها لا تحتاج إلى التعديل مع الكثرة، ولا إلى المهر والمؤنة مثل مؤنة
الأحرار " ذلك أدنى ألا تعولوا " أي الواحدة من الحرائر أو اختيار الإماء أقرب
إلى أن لا تميلوا، من عال الميزان إذا مال، أو أن لا تجوروا، من عال الحاكم في
508

حكمه إذا جار، ومنه عول الفريضة، وفسر بأن لا يكثر عيالكم من عاله، فعبر
عن كثرة العيال بكثرة المؤنة على الكناية ويؤيده قراءة تعيلوا من أعال الرجل إذا
كثر عياله، فالمراد بالعيال الأزواج والأولاد، فهو بالنسبة إلى الواحدة ظاهر، وأما بالنسبة إلى الإماء فإنه باعتبار عدم كثرة مؤنتهن، فهن بمنزلة القليلة وإن
كثرن وأنهن مظنة قلة الولد بالعزل وغيره.
ثم إنه لا يخفى ما يفهم من الآية الكريمة من وجوب التحرز عن المحرمات
بمجرد خوف الوقوع فيها، حيث قال " وإن خفتم ألا تقسطوا فانكحوا " وقال
" فإن خفتم " الآية، فتدل على كمال المبالغة في وجوب الاجتناب عن المحرمات، و
في ملاحظة العدل والقسط بين النساء بل مطلقا، فيكون المعنى إن خفتم من عدم
القسط في يتامى النساء بالمعنى الذي تقدم، فلا يباح لكم ذلك غير مضطرين، فإن
لكم أن تنكحوا فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، عادلين بينهن
منفقين على العيال، وإن خفتم من عدم العدل وكثرة العيولة فانكحوا ما لا يحتاج
إليهما، فمقصود الآية تحريم عدم القسط، وما يؤل إليه، وإباحة النكاح معه إلى
أربع لا وجوبه على الظاهر، ويحتمل حمل الأمر بالتزويج على الندب، للإجماع على
عدم وجوب مثنى، بل الواحدة إلا في بعض الصور وحمله بعيد، بل لا يمكن فتأمل
بل استحباب الثنتين وما فوقهما أيضا غير ظاهر وكأني رأيت عن الشيخ كراهة
ذلك وسببها ظاهر، وفي الآية أيضا إشارة إليها فكأنه للإباحة وعدم التحريم
فتأمل.
قال في مجمع البيان: استدل بعض الناس على وجوب التزويج بقوله:
" فانكحوا " وهو خطأ لأنه يجوز العدول عن الظاهر بدليل، وقد قام الدليل على
عدم الوجوب، وأنت قد عرفت عدم الدلالة وإلا يلزم وجوب مثنى، وأن وجود
الدليل على عدم الوجوب، مثل الاجماع والخبر لا ينافي دلالته على الوجوب ظاهرا
إلا أن يقال: أنه قال به لذلك، فحينئذ يمكن أن لا يسلم وجود الدليل.
ويفهم أيضا أنه يجب الاجتناب عن جميع المحرمات فهو مؤيد لما ذكره سلطان
509

المحققين من عدم قبول التوبة عن بعض الذنوب دون البعض، ويفهم أيضا جواز
النكاح إلى أربع وتحريم الخامسة، وعدم حسن ترك النكاح بالكلية فإنه العزوبة
وأنها ترتفع بملك اليمين، ولا تحتاج إلى النكاح بالعقد، والكل موجود في الأخبار
وأنه لا يجب التعديل بين السراري، بل المنام عندهن وجواز العزل عنهن وقلة
مؤنة ما يحتاج إليه منهن.
ثم أوجب إعطاء مهور النساء فقال " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " (1) أي
عطية من الله تعالى لهن، وسمي بها مع كونه عوض البضع لاشتراك فوائد التزويج
فنحلة حال عن الصدقات، ويحتمل عن فاعل " آتوا " بمعنى ناحلين فكأنه عطية
منهم، وهو أظهر، ويحتمل كون نصبها على المصدر، فكأنه قال انحلوهن نحلة
فظاهرها يدل على وجوب المهر بمجرد العقد مطلقا، لأنه بالعقد تصير الزوجة
داخله في النساء، فيدل على أن الموجب للمهر هو العقد فقط، ولا دخل للدخول
ثم قد ينتصف بالطلاق وهو مذهب بعض الأصحاب بل على وجوب إعطائه حينئذ فكأنه
مقيد بطلب صاحبه كسائر الحقوق فيمكن أن يكون لها الامتناع حتى تأخذه فتأمل
فيه ويدل على أنه يجب الاعطاء من طيب النفس " فإن طبن " خطاب للأزواج أي فإن
طابت نفوسهن بهبة " لكم عن شئ منه " من صدقاتهن فتذكير الضمير باعتبار المهر
أو باعتبار الفرد المذكور فيها " نفسا " هو تمييز، وتنكير شئ يدل على عمومه
والظاهر أن هبة الكل أيضا كذلك إلا أنه ذكر للإشارة إلى أنه ينبغي إعطاء
البعض كما دل بعض الروايات على تقدم شئ من المهر " فكلوه " أي فكلوا الموهوب
لكم، ويحتمل أن يكون المراد التصرف والقبول مطلقا " هنيئا مريئا " فالهنئ
الطيب المساغ الذي لا ينغصه شئ، والمرئ المحمود العاقبة الذي لا يضر ولا
يؤذي، وقال في مجمع البيان: الصداق المهر، والنحلة العطية، وسمي النحل
نحلا لأن الله تعالى نحل منها العسل للناس، والهنئ شفاء من المرض، ويقال:

(1) النساء: 4.
510

هنأني الطعام ومرأني أي صار لي دواء عاجلا شافيا، وفي كتاب العياشي مرفوعا
إلى أمير المؤمنين عليه السلام: جاء رجل فقال يا أمير المؤمنين إني يوجعني بطني، فقال
ألك زوجة؟ قال: نعم قال: فستوهب منها شيئا طابت به نفسها من مالها، ثم اشتر
به عسلا ثم أسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فإني سمعت الله يقول في كتابه:
" وأنزلنا من السماء ماء مباركا " وقال " يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه
فيه شفاء للناس " وقال " فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " فإذا
اجتمعت البركة والشفاء والهنئ والمرئ شفيت إن شاء الله تعالى، قال ففعل
ذلك فشفي (1):
فدلت الآية على جواز أكل مهورهن بطيب أنفسهن، ولا يحتاج إلى الايجاب
والقبول بل مطلق التصرف في أموالهن بل أموال الناس أيضا بطيب النفس، فلا يبعد
سقوطها بالهبة كما وردت بل الرواية، فالهبة غير مخصوصة بالأعيان كالصدقة على ما
دل عليه قوله تعالى: " وأن تصدقوا خير لكم " والظاهر أنه يجوز الابراء أيضا
ولكن ينبغي قبول أيضا، وأن (2) في المهر شفاء، وفي الخبر المذكور دلالة على عدم
كراهة الاستيهاب من مال الزوجة مطلقا وإن كان الظاهر أنه المهر فقط، وحصول
الشفاء بل وبالعسل وبماء السماء.
الرابعة: " والذين هم لفروجهم حافظون " في جميع الحالات " إلا على أزواجهم
أو ملكت أيمانهم " (3) إلا حال تزوجهم أو تسريهم، أي يحفظونها عن جميع ما أمر
بالحفظ عنه ولا يحفظونها عن شئ أبيح بدليل، لعدم حسن الحفظ إما وجوبا أو
استحبابا أو إباحة فكما أن الحفظ عنه صفة حسن، فكذا عدم الحفظ عن الزوجة
والسرية، فلا ينبغي ترك التزويج خوفا من المعاش بل غيره، ولا ترك التسري
خصوصا باعتقاد أنه ليس بحسن لعدم حصول ولد مناسب، وكونه عارا كما يفعله
بعض الجهلة، وهو ظاهر. ويدل عليه غير هذه الآية أيضا من الآيات والأخبار فافهم

(1) راجع تفسير العياشي ج 1 ص 218.
(2) فان خ.
(3) المؤمنون 5 و 6.
511

ولهذا أكده ردا لهم بقوله " فإنهم غير ملومين " فيكون اللوم عليه حراما و " على
أزواجهم " في موضع الحال أي وألين على أزواجهم أو قوامين عليهن، نظيره
فلان على البصرة أي وال عليها، أو متعلق بمحذوف يدل عليه غير ملومين، كأنه
قيل يلامون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين عليهن فدلت على عدم حسن مباشرة جميع النساء إلا زوجته وأمته، بل كشف الفروج
عند غيرهما، والاستمتاع بغيرهما، حتى الاستمناء باليد وسائر البدن وبالحيوانات
وغيرها، وأكد ذلك بقوله " فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " حتى
فهم تحريمه.
وفي مجمع البيان: أي الظالمون المتجاوزون إلى ما لا يحل لهم أي من أراد
واحدة غير الأزواج المحللة والإماء على الوجه الشرعي فأولئك هم الكاملون في
العدول عن الحد الذي حده الشارع، سواء كانت الزوجة فوق الحد أم لا، ولا تدل
على تحريم المتعة لأنها زوجة وانتفاء بعض أحكامها مثل الإرث عند البعض والقسمة
لا تقتضي خروجها عن مسمى الزوجة، لأنها زوجة لغة بل شرعا أيضا كما في بعض
الدائمات أيضا مثل الناشزة والقاتلة.
قال في الكشاف فإن قلت: هل فيه دليل على تحريم المتعة؟ قلت: لا لأن
المنكوحة نكاح المتعة من جملة الأزواج إذا صح النكاح، وفيه اشعار إلى جواز المتعة
عنده وأن الآية دالة على جوازها، فإنه قال إنها زوجة. فتدخل تحت المستثنيات
فليزمه القول به إلا أن لا يقول بعمومها، بل يخصصها بالخبر، ولكن لا بد حينئذ
من الاتيان بخبر يمكن تخصيص القرآن المتواتر به.
وتدل على تحريم جميع المباشرة بجميع النساء غيرهما، فلا يصح بالهبة
والإجارة وغيرهما فيفهم من الآية عدم جواز التحليل أيضا لكن أكثر الأصحاب
بل نقل الاجماع قبل المخالف وبعده على جوازه الأخبار الصحيحة عن أئمتهم عليهم السلام
على ذلك، فسلموا الحصر في الآية وأدخلوا التحليل في أحدهما، فبعض أدخله في
التزويج، فإن المحللة متعة والتحليل تزويج وبعضهم أدخله في الملك وجعل الملك
512

أعم من المنفعة والعين، والتحليل تمليك منفعة والأول بعيد إذ ليس فيه خواص
المتعة من وجوب تعيين المدة والمبلغ والصيغة الخاصة، والثاني أيضا لا يخلو عن
بعد إذ الظاهر من الآية هو ملك اليمين لا الأعم ولهذا لا يحل تملك المنفعة بغير
وجه التحليل، على أن كون تمليك البعض مثل القبلة المحضة أو اللمس أو النظر فقط
غير واضح مع أنها تباح بالتحليل للنصوص الصحيحة، وإدخاله في الملك أشكل
وإدخال المستأجرة لجميع منافعها أولى منها، وهو ظاهر فلا بد من التخصيص، و
لكن لما ثبت التحليل فلا بد من التأويل وإن كان بعيدا فيمكن جعله قسما آخر
بنفسه، وتخصيص هذه الآية، فإنه غير عزيز على ما اشتهر أنه ما من عام إلا وقد
خص، حتى هذا. فتأمل.
الخامسة: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله
عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم (1).
عطف على المحرمات مؤبدا أي حرم عليكم المحصنات أي المزوجات إلا ما
ملكت أيمانكم من السبايا فإنه يجوز وطيهن مع كونهن مزوجات لبطلان
عقدهن بالسبي والتملك، كما ورد في رواية أبي سعيد الخدري: أصبنا سبايا يوم
أوطاس ولهن أزواج فكرهنا نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه وآله فنزلت الآية (2) أو ما
ملكت الأيمان من الإماء المزوجات فإنه للمالك إبطال نكاحهن بمنع أزواجهن
وطيها بعد العدة إذا كان زوجها أيضا لمالكها بغير خلاف، ويدل عليه الروايات مثل
صحيحة محمد بن مسلم قال سألت الباقر عليه السلام عن قول الله عز وجل " والمحصنات من
النساء إلا ما ملكت أيمانكم " قال هو أن يأمر الرجل عبده وتحته أمته فيقول اعتزل
امرأتك ولا تقربها، ثم يحبسها حتى تحيض ثم يمسها (3).

(1) النساء: 24.
(2) سنن أبي داود ج 1 ص 497، مجمع البيان ج 3 ص 30.
(3) الكافي ج 5 ص 481.
513

والآية تدل على جواز نكاح الإماء المزوجات لمالكها مطلقا والخبر خصصها
وبينها بل الاجماع أيضا، " وكتاب " مصدر لفعل محذوف أي كتب الله كتابا وفرض
فريضة عليكم وأحل الله ما وراء ذلك الذي تقدم من المحرمات، وهو عام مخصوص
بالمنفصل من الأخبار والاجماع كتحريم بنت الأخ وبنت الأخت على العمة والخالة
بغير رضاها وغير ذلك " أن تبتغوا " مفعول له بتقدير إرادة أي أحل الله ذلك لإرادة
أن تبتغوا " بأموالكم " إشارة إلى المهر بالرضا وعدم الغصب، ويشعر بالمبالغة في
المهر بأن يعطى، ويمكن إدخال شراء السراري أيضا فيه " محصنين " معففين " غير مسافحين " السفاح الزنا "
فما استمتعتم " فمن تمتعتم " به منهن " من النساء المحللات
المتقدمات " فآتوهن أجورهن " فيجب عليكم أن تؤتوهن أجورهن التي وقع
العقد عليها كسائر الأجراء " فريضة " أي مفروضة، حال من الأجور أو مصدر فعل
محذوف، أو صفة مصدر محذوف: أي إيتاء مفروضا.
قال في مجمع البيان قيل المراد به نكاح المتعة وهو النكاح المنعقد بمهر معين
إلى أجل معلوم، عن ابن عباس والسدي وسعيد بن جبير وجماعة من التابعين، و
هو مذهب أصحابنا الإمامية وهو الواضح لأن لفظ الاستمتاع والتمتع وإن كان
في الأصل واقعا على الانتفاع والالتذاذ فقد صار بعرف الشرع مخصوصا بهذا العقد
المعين إذا أضيف إلى النساء، فعلى هذا يكون معناه فمتى عقدتم عليهن هذا العقد
المسمى المتعة، فآتوهن أجورهن ويدل على ذلك أن الله سبحانه علق وجوب إعطاء
المهر بالاستمتاع، وذلك يقتضي أن يكون هذا العقد المخصوص من دون الجماع و
الاستلذاذ، لأن المهر لا يجب إلا به.
هذا وقد روي عن جماعة منهم أبي بن كعب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن
مسعود رضي الله عنهم أنهم قرؤا " فما استمعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن
" أجورهن " وفي ذلك تصريح بأن المراد به عقد المتعة، وقد أورد الثعلبي في تفسيره
عن حبيب ابن أبي ثابت قال أعطاني ابن عباس مصحفا فقال: هذا على قراءة أبي
فرأيت في المصحف " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى " وبإسناده عن أبي نصر
514

قال سألت ابن عباس عن المتعة فقال أما قرأت سورة النساء؟ فقلت: بلى، فقال أما
تقرأ " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى " قلت لا أقرأها هكذا قال ابن عباس
والله هكذا أنزله الله عز وجل ثلاث مرات، وبإسناده عن شعبة عن الحكم بن عيينة
قال سألته عن هذه الآية " فما استمتعتم به منهن " منسوخة هي؟ قال: لا، قال الحكم
قال علي بن أبي طالب عليه السلام: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي، و
بإسناده عن عمران بن حصين قال نزلت آية المتعة في كتاب الله عز وجل ولم تنزل
بعدها آية تنسخها فإنا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله فتمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله فمات عليه السلام
ولم ينهنا عنها، فقال رجل بعد برأيه ما شاء.
ومما أورده مسلم ابن حجاج في الصحيح حدثنا الحسن الحلواني قال:
حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريح قال عطاء: قدم جابر بن عبد الله معتمرا فجئنا
منزله فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة، فقال: نعم استمتعنا على عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وعمر (1).
ومما يدل أيضا على أن لفظ الاستمتاع في الآية لا يجوز أن يكون المراد به
الانتفاع والجماع أنه لو كان كذلك لوجب أن لا يلزم شئ من المهر من لا ينتفع
من المرأة بشئ، وقد علمنا أنه لو طلقها قبل الدخول، لزمه نصف المهر، ولو كان
المراد به نكاح الدائم للمرأة يلزم بحكم الآية جميع المهر بنفس العقد، لأنه قال
" فآتوهن أجورهن " أي مهورهن ولا خلاف في أن ذلك غير واجب، وإنما يجب
الأجر بكامله بنفس العقد في نكاح المتعة، وأنت تعلم أنه قد قيل بوجوب المهر
بمجرد العقد من أصحابنا أيضا بل هو المشهور كما مر إلا أنه ينتصف بالطلاق، و
لعل مراده وجوبه بحيث لا يسقطه شئ فحينئذ يرد عقد المنقطع أيضا لأنه ينتصف إذا
وهبت المدة قبل الدخول على المشهور وينبغي أن يقول يلزم ثبوت المهر ووجوده
دائما في عقد الدائم، وليس كذلك فإنه يجوز خلوه عن مهر، ثم يلزم بالدخول

(1) راجع في ذلك تفسير الرازي ج 10 ص 51، تفسير الطبري ج 5 ص 12 و 13
سنن البيهقي ج 7 ص 206، الوسائل الباب الأول من أبواب المتعة.
515

مهر المثل، ويمكن كونه مقصود مجمع البيان فتأمل.
ومما يمكن التعلق به في هذه المسألة الرواية المشهورة عن عمر بن الخطاب أنه
قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله حلالا أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما (1) فأخبر
بأن هذه المتعة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأضاف النهي عنها إلى نفسه لضرب
من الرأي، فلو كان النبي نسخها أو نهى عنها أو أباحها في وقت مخصوص دون غيره
لأضاف التحريم إليه صلى الله عليه وآله دون نفسه، وأيضا فإما ما فرق بين متعة الحج ومتعة
النساء في النهي، ولا خلاف في أن متعة الحج غير منسوخة ولا محرمة فوجب أن يكون
حكم متعة النساء حكمها.
" ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " من قال: إن المراد
بالاستمتاع الانتفاع والجماع، قال: المراد به لا حرج ولا إثم عليكم فيما تراضيتم
به من زيادة مهر أو نقصانه أو حطه أو إبرائه، وقال السدي: معناه لا جناح عليكم
فيما تراضيتم به من استيناف عقد آخر بعد انقضاء المدة المضروبة في عقد المتعة، يزيد
الرجل في الأجر وتزيده في المدة، وهذا قول الإمامية، وتظافرت به الروايات
عن أئمتهم عليهم السلام (2).
قال القاضي: نزلت الآية في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتحت مكة ثم
نسخت كما روي أنه عليه السلام أباحها ثم أصبح يقول: يا أيها الناس أني كنت أمرتكم
بالاستمتاع من هذه النساء إلا أن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة، وهي النكاح الموقت
بوقت معلوم سمي به المتعة إذ الغرض منه مجرد الاستمتاع بالمرأة وتمتيعها بما
يعطي، وجوزها ابن عباس رضي الله عنه ثم رجع عنه.
قال في الكشاف قيل: نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة
على رسوله، ثم نسخت، كان الرجل ينكح المرأة وقتا معلوما ليلة أو ليلتين أو

(1) راجع أحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 342، شرح النهج لابن أبي الحديد في
شرح الخطبة الشقشقية والخطبة الرقم 223، تفسير الرازي ج 10 ص 50: وغير ذلك.
(2) الكافي ج 5 ص 458.
516

أسبوعا بثبوت أو غير ذلك، ويقضي منها وطره ثم يسرحها، سميت متعة لاستمتاعه
بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها، وعن عمر أنه لا أوتى برجل تزوج امرأة إلى أجل إلا
رجمتها بالحجارة، وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه أباحها ثم أصبح يقول إني أمرتكم بالاستمتاع
من هذ النساء ألا إن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة، وقيل أبيح مرتين، وحرم
مرتين وعن ابن عباس هي محكمة يعني لم تنسخ، وكان يقرأ " فما استمتعتم به منهن
إلى أجل مسمى " ويروي أنه رجع عن ذلك عند موته، وقال " اللهم أني أتوب إليك
من قولي بالمتعة وقولي بالصرف ".
وبالجملة الذي يظهر أن الآية ظاهرة في المتعة والقراءة والمنقولة صريحة في
ذلك والاجماع واقع على أنها كانت جايزة، والروايات كذلك، فالكتاب والسنة و
إجماع الأمة متفقة على جوازها وقد اختلفت الأمة في بقائها والأصل والاستصحاب وعدم
دليل واضح على النسخ، وكونه على خلاف الأصل مع الخلاف في جواز نسخ الكتاب
بالسنة المتواترة، وعدم الاجماع مع عدم العلم بالتواتر منا، وعدم جوازه بالخبر
الواحد بالعقل والنقل من الاجماع وغيره، دليل العدم.
ويؤيده عدم ورود خبر منقول صريح، والخلاف من كبار الصحابة مثل ابن
عباس وأبي ونقل بقائه إلى زمان عمر وإسناده التحريم إلى نفسه كما مر والروايات
من طرق أهل البيت عليهم السلام متواترة وأن رجوع ابن عباس عنه وتوبته بعيد لأنه ما كان
حراما بل كان قوله به واجبا حيث كان مسندا إلى دليل فكيف يصح الرجوع عند
الموت مع عدم ظهور دليل خلافة في حياته، ويبعد ظهور دليلة عند الموت وكونه
مخفيا عليه وعلى غيره حتى يمنعوه عنه إلى حين الموت، ومع ذلك لا معنى للتوبة
حيث كان قائلا بقول واجب، ولهذا ما نقل في غير الكشاف والقاضي الرجوع (1).
وما تقدم من تفسيري مجمع البيان والثعلبي صريح في بقاء الجواز فقولهما
بالنسخ باطل لما عرفت من عدم ما يصلح له من عقل ونقل، كتابا وسنة، وإجماعا
لوجود الخلاف من الخاصة والعامة مثل السدي وسعيد بن جبير وجماعة من التابعين

(1) راجع في ذلك ذيل كنز العرفان ج 2 ص 156.
517

وابن عباس وكذا نقل رجوعه باطل، ومما يدل على بطلانه كونه عند الموت والتوبة
عنه، لما عرفت على أن في كلامهما اضطرابا فإنه يفهم تارة أنه أباحها مرة ثم
حرمها وتارة أنه كان مرتين وأنه أباحها ثم أصبح وقال إن الله حرمها أبدا، فإنه
يفهم منه أنه كانت يوما واحدا بل ليلة واحدة ويفهم أنه كانت ثلاثة أيام مع أنه
قال كان الرجل منهم يتمتع أسبوعا، وهل هذا إلا تناقض واضطراب لرد ما أحل الله
لقول عمر به، فتأمل ولا تقلد.
والحاصل أن الجواز كان يقينا بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا يزول
إلا بيقين مثله عقلا ونقلا من العامة والخاصة، وليس، فإنه لا يحصل إلا من الدليل
العقلي والكتاب والسنة والاجماع اليقينيات، ومعلوم عدمها " إن الله كان عليما "
بمصالح " حكيما " فيما شرع من الأحكام.
السادسة " ومن لم يستطع منكم طولا " أي من لم يجد قدرة وغنى، وأصله
الفضل والزيادة ومنه الطول " أن ينكح المحصنات المؤمنات " أي يتزوجها، وهو
في موضع النصب بطولا أو بفعل مقدر صفة له، أي ومن لم يستطع منكم قدرة يرتكب
بها نكاح المحصنات أو لم يستطع غنى يبلغ به نكاح المحصنات يعني الحرائر المسلمات
وظاهره العقد ويحتمل الوطي " فمما ملكت أيمانكم " أي فليتزوج منهن أي من
جنس ما ملكتم، فيريد إماء الغير، فإن التزويج لا يمكن إلا بها، ويحتمل أن يكون
المعنى فإن لم تقدروا على نكاح المسلمة الحرة فخذوا الإماء سراري والنكاح حينئذ
أيضا يحتمل المعنيين فتأمل " من فتياتكم المؤمنات " يعني الإماء المسلمات.
وظاهر الآية يدل على جواز نكاح المسلمة الحرة للحر والعبد لعموم " من "
إلا أن يكون الخطاب للأحرار، وعلى عدم جواز وطي الكافر مطلقا كتابية وغير
كتابية حرة أو أمة للعبد والحر لقيد المؤمنات في الموضعين، ولكن بمفهوم الوصف
وما ثبت حجيته، فلا يعارض عموم الأدلة الحل ولا شك أنه أحوط وسيجيئ تحقيقه
وعلى جواز عقد الأمة مع عدم قدرة الحرة على الاحتمال الأول حرا كان الناكح
أو عبدا لعموم " من ".
518

وقيل: على عدم جواز أخذ الحر الأمة بالعقد مع القدرة على الحرة، كأنه
بمفهوم الشرط الذي ثبت حجيته وفيه تأمل، لاحتمال أن يكون المراد المعنى الثاني
ولعدم صراحته في الشرط لأنه متضمن له، والمفهوم قد يكون معتبرا إذا كان صريحا
ولهذا قيد في بعض عبارة الأصوليين بمفهوم " إن " ولأن المفهوم إنما هو حجة إذا
لم يظهر للقيد فائدة غير نفي الحكم عن المسكوت، كما بين في موضعه من الأصول
وهنا وجه ظاهر، وهو الترغيب والتحريص على النكاح وعدم الترك بوجه ولو كان
بأمة، وإفادة أن الحرة أولى، فلا يترك إلى غيرها مهما أمكن وهو ظاهر.
فالمعنى إن أمكن الفرد الأعلى والأفضل وهو نكاح المسلمة الحرة فهو مقدم
عقلا وشرعا على تقدير القدرة وإلا فالفرد الضعيف الغير الأولى وهو نكاح الإماء وهو
جار في مفهوم الصفة المذكورة أيضا وأيضا سوق الآية مشعر بأن ليس المقصود ذلك فإن
الظاهر أن المقصود من الآية هو الارشاد، لا الترتيب في الحكم والأمر والنهي، ولهذا
ما حملت على تعين النكاح الحرة المسلمة مع القدرة، وتعين الأمة على تقدير العدم
وأيضا لا شكل في عموم " من " للحر والعبد، وأنه يجوز نكاح الأمة للعبد مع القدرة
على الحرة بغير خلاف على الظاهر، ولو كان المفهوم هنا حجة لزم عدم الجواز له
أيضا فتأمل.
وبالجملة هذا المفهوم لا يعارض عموم أدلة الجواز مثل " أحل لكم ما وراء
ذلكم " فلا يخرج عنه إلا بدليل أقوى أو مثله، ويؤيده " والله أعلم بايمانكم " يعني
ما أنتم مكلفون إلا بظاهر الحال، فكل من يظهر الايمان فهو مؤمن ومؤمنة عندكم
واحكموا به فنكاحهما جائز، ولستم مؤاخذين بما في نفس الأمر فإن ذلك لا يعلمه
إلا الله، فلا يمكن تكليفكم به، " بعضكم من بعض " أي كل منكم من ولد آدم
فلا تابوا نكاح الإماء فإن المدار على الجنسية والايمان، وأنتم لا تفاضل بينكم إلا
بالايمان وهو أمر غير معلوم إلا لله.
ويؤيد الجواز أيضا بقوله " فانكحوهن بإذن أهلهن " أي تزوجوا من الفتيات
المؤمنات بإذن أهلهن وأمر ساداتهن، وفيها دلالة على عدم جواز العقد على الأمة
519

بغير إذن مولاها مطلقا، عقدا منقطعا ودواما سيدا وسيدة فينبغي تأويل ما ورد في
بعض الأخبار من جواز العقد المنقطع على أمة السيدة بغير إذنها، مع عدم الصحة
والصراحة وتمام تحقيقها في الفروع فراجعها، ويؤيده أيضا " وأنكحوا الأيامى "
الآية ويمكن فهم دلالتها على عدم اعتبار إذن الأمة حيث شرط إذن الأهل فقط.
" وآتوهن أجورهن " أي أعطوهن مهورهن، ولعل المراد أهلهن فإنها
مملوكة لهم " بالمعروف " بطريق يقتضيه عرف الشرع، وهو ما وقع عليه التراضي
والعقد، أو مهر المثل إن لم يقع في العقد، وعلى وجه حسن دون مماطلة وقبح
" ومحصنات " أي تزوجوهن عفائف " غير مسافحات " زانيات " ولا متخذات أخدان "
أي أخلاء في السر، لأن الرجل كان يتخذها صديقة يزني بها، والمرأة كانت
تتخذ صديقا فيزني بها، وروى ابن عباس أنه كان قوم في الجاهلية يحرمون ما
ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي منه فنهى الله سبحانه عن الزنا سرا وجهرا، فعلى
هذا يكون المراد بقوله: " ولا متخذات أخدان " غير زانيات جهرا وسرا كلها
حالات ولعل الفائدة الترغيب في المتصفة بهن لا عدم جواز غيرهن.
" فإذا أحصن " قرئ بضم الهمزة وكسر الصاد مبنيا للمفعول أي فإذا
تزوجن وأحصن وحفظن من الزنا بأزواجهن، وبالفتح للفاعل يحتمل أن يكون
معناه أحصن أنفسهن من الزنا بالتزويج كما يحتمل أن يقال ذلك في قراءة محصنات، و
قيل: أحصن أزواجهن من الزنا، وقيل أسلمن فأحصنهن الاسلام كما يحصنهن
الأزواج " فإن أتين بفاحشة " أي فإن زنين المحصنات من الإماء " فعليهن نصف ما
على المحصنات من العذاب " أي نصف ما على الحرائر من الحد في الزنا وهو مائة
جلدة ونصفها خمسون، لا الرجم إذ لا ينتصف فلا رجم على الإماء مطلقا بل العبيد
أيضا لعدمه.
فدلت على أن حد الزنا في المملوكة المحصنة هو خمسون ولكن لم يظهر
حينئذ للقيد بالاحصان والمملوكة وجه، فإنه بدونهما أيضا ذلك، على ما تقرر
فالمعنى الأول غير مناسب، فيحتمل الثاني إذ قد يقال لا زنا للكافرة للشبهة، ويحتمل
520

في الأول أيضا لأنها قد تقول تجوز الزنا مع عدم الزوج للاحتياج، وليس بواضح
إذ الشبهة مطلقا تتأتى ويسقط الحد إلا أنه قد يكون ورودها حينئذ أظهر فتأمل، و
يمكن أن يقال لما كان الكلام في الإماء وتوهم الرجم مع الاحصان صرح بعدمه
وتنصيف الجلد ويفهم الباقي من عدم القائل بالفصل والاجماع والأخبار فتأمل.
" ذلك " إشارة إلى جواز نكاح الأمة " لمن خشي العنت منكم " أي الإثم الذي
يحصل بسبب الزنا لغلبة الشهوة وهو في الأصل انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل
مشقة ولا مشقة أعظم من الإثم، وعليه أكثر المفسرين، وقيل: معناه لمن خاف
الحد بأن يهويها ويزني بها فيحد، وقيل الضرر الشديد في الدنيا والدين لغلبة
الشهوة والأول أصح قاله في مجمع البيان، قيل: وهذه أيضا تدل على تحريم
نكاح الإماء مع إمكان العقد على الحرة، ولكن زيد له شرط آخر، فهن يحرمن
بدونهما، والجواز مشروط بهما: عدم الامكان وخوف العنت، وهو قول بعض أصحابنا
أيضا وقد عرفت عدم الدلالة على التحريم بالشرط الأول، وما ذكرناه هناك مما يدل
على الجواز.
ويؤيده قوله " وأن تصبروا خير لكم " أي صبركم عن نكاح الإماء واحتمال
الشدة بالصبر على العزوبة خير لكم من تزويجكم بها، والصبر على ما يحصل لكم
من معاشرتهن والعار وتحصيل الأولاد، وما يلحقهم من العار بسببكم ومن جهة
عدم اصلاحهن البيت كما دل عليه ما روي عنه صلى الله عليه وآله الحرائر إصلاح البيت، و
الإماء خراب البيت، فإن الظاهر أن المراد أن ترك التزويج بالإماء بدون الشرطين
خير فيجوز حينئذ فعله وتركه إذ لو كان المراد بعد الشرطين، لا ينبغي الترك ولا
يكون راجحا بل يجب التزويج حينئذ كما قال الفقهاء إنه يجب النكاح إذا
خاف الوقوع في الزنا، أو يحصل به ضرر لا يتحمل مثله، ويستحب لو دعته نفسه.
بل قال الأكثر إنه مستحب مطلقا فلا يكون ترك التزويج بالإماء مع عدم
القدرة على الحرة وحصول الضرر، أو خوف الوقوع في الزنا خيرا، بل هو خير
مع عدمها بأن يتزوج بالحرة لما تقدم، وللترغيب على النكاح في الأخبار و
521

الآيات والاجماع، ويبعد تخصيصها بالحرة مع عدم إمكانها أيضا، والضرر أيضا
وهو ظاهر، ولهذا قال أكثر الفقهاء بالجواز مع الكراهة إلا مع الشرطين، وبها يجمع
بين الأدلة ويؤيدها رواية محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يتزوج
المملوكة قال إذا اضطر إليها فلا بأس، ومرسلة ابن بكير عن الصادق عليه السلام لا ينبغي
أن يتزوج الحر المملوكة الحديث (1).
" والله غفور رحيم " يغفر ذنوب عباده تفضلا وكرما أو بالتوبة ولعله إشارة
إلى عدم يأس من تعدى عن الحدود المتقدمة من رحمة الله وأمر بالتوبة والرجاء
والطمع.
(النوع الثاني)
* (في المحرمات) *
وفيه آيات:
الأولى: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " (2) يحتمل تحريم العقد على امرأة
عقد عليها الأب وهو الظاهر من النكاح، فإنه حقيقة فيه على ما قيل، ويحتمل الوطي
مجازا أو بالاشتراك، ويحتمل حمله على الأعم عموم مجاز أو عموم اشتراك فيحرم
الوطي والعقد على الابن لمن عقد عليها الأب أو وطئها بالملك فيشمل الزوجة
والسرية ولكن الفهم مشكل لأنه لا يخلو عن إجمال، فالعمدة هو الاجماع والأخبار
فالظاهر عدم الخلاف في جواز نظر الابن إلى امرأة أبيه وسريته و " من النساء "
بيان " ما ".
" وإلا ما قد سلف " يحتمل كونه منقطعا أي لا يجوز لكم نكاح ما نكح آباؤكم
ولكن ما نكحتم قبل الاسلام فهو جائز، ومتصلا باعتبار اللازم أي تعاقبون على نكاح
ما نكح آباؤكم إلا النكاح الذي سلف قبل نزول هذه الآية فإنه لا عقاب على ذلك

(1) راجع الكافي كتاب النكاح باب الحر يتزوج الأمة ج 5 ص 359.
(2) النساء: 22.
522

فإنه فعل في زمن الجاهلية فلا ينافي ما نقل في القاضي أنه ما كان جايزا في أمة
أصلا كما يدل عليه قوله: " إنه كان فاحشة ومقتا " علة للنهي أي نكاحهن كان فاحشة
عند الله وموجبا للمقت والبغض وما رخص فيه أمة من الأمم، وساء سبيلا " أي
بئس طريق من يقول به أو يفعله.
وقد ذكر في سبب النزول وجود ذلك فعلم تحريمه بالآية، ويحتمل أيضا
أن يكون من قبيل " ولا يذوقون فيه إلا الموتة الأولى " (1).
ولا عيب غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب
ولا عيب فيه إلا أنه من قريش، للمبالغة والتأكيد.
الثانية: " حرمت عليكم أمهاتكم " (2) الظاهر أن المراد تحريم نكاحهن لما
تقدم وتأخر وللتبادر من مثله كتبادر الأكل في " حرمت عليكم الميتة " ولعدم
تحريم الذات والنكاح أولى ما يمكن تقديره، والأم امرأة رجع نسبك إليها
بالولادة بغير واسطة أو بواسطة الأب أو الأم " وبناتكم " البيت امرأة رجع نسبها
إليك بالولادة بواسطة أو بلا واسطة " وأخواتكم الأخت امرأة ولدها وولدك شخص
بغير واسطة " وعماتكم " والعمة امرأة ولدها وولد أباك أو أبا أبيك أو أبا أمك
بالغا ما بلغ شخص " وخالاتكم " والخالة مثل العمة إلا أن النسبة هنا إلى الأم
بمنزلة الأب هناك " وبنات الأخ وبنات الأخت " يعلمان مما سبق إذ بعد العلم
بالأخ والأخت والبنت يعلم بناتهما وهو ظاهر. وفي الآية دلالة على أن إطلاق
البنت والأم والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت على هؤلاء إذا كانت
بواسطة أو بلا واسطة حقيقة وهو خلاف ما اشتهر من أن الاطلاق على الأول حقيقة
وعلى غيره مجاز.
والظاهر أن المراد تحريم العقد لأنه حقيقة فيه، ويعلم الوطي بالطريق
الأولى، ويحتمل إرادتهما، هذا هو التحريم النسبي والظاهر أن لا خلاف بين الأمة
فيها، وفي كونها لشبهة أو عقد صحيح في نفس الأمر أو عند الفاعل وأما الحاصلة

(1) الدخان: 57.
(2) النساء: 23.
523

بالزنا فالظاهر عدم الخلاف عند الأصحاب في ذلك أيضا، وأنه لا خلاف حينئذ في
جواز النظر واللمس والتقبيل بغير شهوة إلا على العورة وكلام الأصحاب في ذلك
غير مفصل ويحتمل أن يكون كذلك بالنسبة إلى المحرمات الغير النسبية أيضا
كالمصاهرة، ويحتمل الاقتصار على جواز النظر إلى الوجه وما يتعسر التحرز عنه
مثل اليد والرجل وأما النظر إلى أطفال الأجانب وعورتهم ومباشرة من يباشر ذلك
فكلام الأصحاب في ذلك أيضا مجمل غير مفصل، فيمكن جواز ذلك إلا محل الشهوة
والريبة، واللذة المطلوبة ومباشرة العورة مع الحاجة والاجتناب أحوط مهما
أمكن.
" وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة " إشارة إلى المحرمات
بالسبب والرضاع أقوى سبب لأنها لحمة كلحمة النسب، ويحرم من الرضاع
ما يحرم من النسب (1) قال في الكشاف إلا في مسئلتين: إحداهما أنه لا يجوز للرجل
أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز أن يتزوجها من الرضاع [لأن المانع في
النسب وطي أمها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع] والثانية أنه لا يجوز أن
يتزوج أم أخيه من النسب، ويجوز من الرضاع، لأن المانع وطي الأب إياها
وهو غير موجود في الرضاع.
ولا يحتاج إلى هذا الاستثناء بالحقيقة، لأن معنى يحرم من الرضاع ما
يحرم من النسب أن كل من يحرم ويكون سبب تحريمه النسب وأحد أسبابه
السبعة المذكورة يحرم ذلك بالرضاع إذا وجد ذلك السبب بعينه فيه، مثل الأم
الرضاعية والأخت كذلك ومعلوم انتفاء ذلك في المسألتين لأن أخت الابن إن
كانت من الرجل فهي بنته وإلا فهي ربيبته فتحريمها بالمصاهرة لا بالنسب، وكذا
أم الأخ فإنها أم أو زوجة الأب، ومعلوم انتفاؤهما من الرضاع وعدم تحريم
ما يحرم بالمصاهرة بالرضاع، وكأنه أشار إليه بقوله " لأن المانع الخ فالاستثناء
ظاهري فالتي تحرم بالرضاع بالكتاب هي الأم والأخت، وكأن الباقي يحرم

(1) راجع المستدرك ج 2 ص 572، سنن أبي داود ج 1 ص 474.
524

بالإجماع والأخبار، والاعتبار.
ولكن للتحريم شروط: كون الرضاع في مدة الحولين لرضاع المرتضع، و
كون الشرب بالمص من الثدي والمقدار المعين، وفي أكثر الأخبار أنه ما أنبت
اللحم وشد العظم، ولكن العلم به مشكل، وفي بعض الروايات ما يدل على أنه
يحصل باليوم والليلة وفي بعض بخمسة عشر رضعة وفي بعضها بعشر رضعات
بشرط عدم الفصل بلبن غيرها، وفي بعضها مرة وتمام التفصيل في الكتب الفقهية.
والأصل وبعض الآيات والأخبار دليل الجواز، فلا يعدل عنها إلا بدليل
وهذه الآية لم تدل على أن مجرد صدق الرضاع يكفي لأنه قيد بكونها أما
من الرضاع وأختا، ولم تعلم التسمية بمجرد صدق أنه أرضعت وارتضعت، فالاستدلال
الحنفية ونحوها بها على أن مجرد صدق الرضعة لغة كاف مدخول، ولو كان كذلك
لكان الاكتفاء بقوله " واللاتي أرضعنكم " أولى، نعم يحرم ما كمل له يوم وليلة
وخمسة عشر بالإجماع وبعض الأخبار، وبقي الباقي تحت الجواز، وهو المذهب
المشهور، وأكثر الأصحاب عليه، ويحمل غيرها على تقدير الصحة على العلم بالانبات
أو استحباب الاجتناب جمعا بين الأدلة فتأمل فيه.
" وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم
بهن " إشارة إلى المحرمات بالمصاهرة، وهي أم الزوجة وبنتها التي يربيها الزوج
والمراد بها بنت الزوجة مطلقا، سميت بها وقيدت بالحجر لتربيته إياها غالبا، و
للإشارة إلى أنه ينبغي له تربيتها وحفظها في حجره حتى لا تضيع، وهما عطف على
" أمهاتكم " أو على ما عطف عليها، قوله " من نسائكم " قيد للربائب على الظاهر
أي الربيبة المحرمة هي التي كانت من الزوجة التي دخلتم بها فمن للابتداء، فلا
تحرم حينئذ بنت الزوجة إلا إذا كانت أمها مدخولا بها لقوله " التي دخلتم بهن " و
لقوله " فإن لم تكونوا دخلتم بهن الخ " وحينئذ تحرم جمعا لدليل آخر، فإذا فارق الأم
يجوز النكاح للبنت بخلاف العكس فإنه تحرم الأم أبدا لأنه غير مقيد بالدخول
فبمجرد العقد على البنت تحرم الأم لعموم تحريم الأم من دون القيد.
525

والدليل على أن " من نسائكم " قيد للربائب لا لنسائكم ما ثبت في الأصول
أن ما يعقب الجمل من الصفة والاستثناء وغيرهما قيد للأخيرة، وظهور كونه قيدا لها
وعدم ظهور كونه قيدا للأولى، مع وجود التحريم، وتقييده بلا دليل غير جايز، و
مجرد صلاحيته واحتماله له ليس بموجب ذلك وهو ظاهر، وعدم إمكان كونه قيدا
لهما إذ يلزم تعليقه بالموضعين، وجعله بالمعنيين البيانية والابتدائية، وهو غير ممكن
وإن أمكن استعمال لفظ مشترك بمعنيين مجازا، أو حقيقة لعدم إمكان تعليقه بالموضعين
وجعله قيدا لهما في التركيب إلا بالحذف وهو خلاف الأصل والظاهر، والحاصل
أنه لا شك في أن تقييد الأولى خلاف الأصل والظاهر، فلا بد له من دليل موجب و
ليس في الآية، نعم في بعض الروايات الصحيحة دلالة صريحة على ذلك فلا بد إما
تأويله أورده، حيث إنه معارض بمثله وظاهر الآية، أو تقييد الآية وتخصيصها بتلك
الأخبار لعدم صحة معارضها من الأخبار وجواز تخصيص القرآن بالخبر الصحيح
[الصريح] فالمسألة مشكلة، وتمام التفصيل في الكتب الفقهية.
وفي قوله تعالى " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " (1) أي البلغ من غير أهل البيت
فلا يرد أبوته لهم، دلالة على أن ما ثبت بين الأب والولد من تحريم المصاهرة
وغيره ليس بمتحقق بينه صلى الله عليه وآله وبين أمته، بل له حق الأبوة وأعظم، نعم ثبت
بين زوجاته فقط والمسلمين التحريم بقوله " وأزواجه أمهاتكم " وغيره من الاجماع
والأخبار حتى لا يحرم بناتهن على المسلمين فليست الأمومة أيضا حقيقية بل المراد
مجرد التحريم وهو ظاهر، وإلا يلزم التعدي في جميع الأفراد وفي قوله " فإن
لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " دلالة ما على عدم اعتبار مفهوم القيود
فافهم.
والظاهر أن المراد بالنساء هو المعقود عليهن مطلقا، فلا يشمل السرية
فكأن تحريم أمها وبنتها بغير الآية من الاجماع والرواية والقياس، والظاهر أن
المراد بالأم والربيبة أعم من أن يكون بواسطة أو بغير واسطة فيشمل الجدة وبنت

(1) الأحزاب: 41.
526

البنت بل بنت الابن أيضا لأنها بنت للمرأة كبنت البنت كما تقدم، وكما يدل
عليه أيضا قوله " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " فإن الظاهر أن لا خلاف
في أن المراد بالابن هنا أعم منه ومن ابن الابن، ومن ابن البنت أيضا، والحلائل
جمع حليلة وهي التي حل وطئها فيشمل المعقود عليها مطلقا والسرية أيضا ولكن
الظاهر أنها مقيدة بوطئها، ويحتمل بالنظر إلى العورة أو فعل ما يحرم على غير
المالك من القبلة ولمس الجلد بشهوة كما في الابن ولا يكفي مجرد جواز الوطي فإن
للأب وطئ مملوكة الابن كالعكس، ويحتمل العدم إذا كانت متخذة للتسري دون
الخدمة، ولعل ظاهر الآية يشملها فتأمل.
فدلت هذه على أن الابن بواسطة هو ابن الصلب، فالاحتراز بقيد الصلب عن
الولد المتبني الذي يأخذه الانسان ابنا ويسميه به للشفقة والمحبة، ولكونه ابن
زوجته، ونحو ذلك، فإنه لم يصر بذلك ابنا حقيقة.
" وأن تجمعوا بين الأختين " أيضا عطف على المحرمات وفائدة زيادة الجمع
أن التحريم هو الجمع لا الأفراد، فمع مفارقة إحداهما يجوز أخذ الأخرى ووجه
" إلا ما قد سلف " سلف " إن الله كان غفورا رحيما " إشارة إلى عدم يأس من تعدى
عن حدود الله من رحمة الله، فإن الله كان غفورا رحيما من قبل وبعد ودائما، فيتجاوز
عنه بالتوبة والعفو والكرم.
الثالثة: " ولا تنكحوا المشركات " (1) النكاح لغة الوطي والعقد أيضا فقيل
بالاشتراك اللفظي، وقيل حقيقة في الثاني ومجاز في الأول، وقيل بالعكس
والأكثر على أنه بمعنى العقد، وقال في الكشاف إنه ما جاء في القرآن إلا بمعنى
العقد، وأول ما يدل عليه، أي لا تتزوجوا وقرئ بضم التاء، أي لا تزوجوا يا معشر
المسلمين المشركات أي الكافرات مطلقا كتابية وغيرها، فإن الكتابي يقال له أيضا
مشرك بدليل قوله تعالى " وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح بن
الله " إلى قوله " سبحانه عما يشركون " (2) كذا في الكشاف والقاضي وغيرهما، وفي

(1) البقرة: 221.
(2) براءة: 31.
527

الدليل نظر تقدم وسيجيئ، ويمكن أن يستدل كما قيل بقوله تعالى: " إن الله
لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " (1) فافهم.
وقال في الأول: هي منسوخة بقوله " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب "
وسورة المائدة ثابتة لم ينسخ منها شئ قط وهو إشارة إلى ما روي عنه صلى الله عليه وآله أنها
آخر ما نزلت فحللوا حلالها وحرموا حرامها، وفيه نظر فإن التخصيص خير من
النسخ على تقدير التنافي والإمكان وهو ظاهر ولأنها ليست بمرفوعة بالكلية حتى
تكون منسوخة ولهذا قال القاضي: ولكنها خصت بقوله " والمحصنات الخ " وأما أصحابنا
فبعضهم موافق للقاضي وبعضهم لا يجوز نكاح الكتابيات مطلقا، ويؤول آية المائدة
كما في مجمع البيان، وأسند ذلك إلى الأصحاب، وقال هو مذهبنا وسيجئ في محله
وبعضهم يخص جواز نكاح الكتابيات بالمنقطع دون الدوام، وسيجئ البحث عن
ذلك في تفسير آية المائدة.
" حتى يؤمن " أي يصدقن بالله ورسوله ويسلمن " ولأمة مؤمنة " أي لامرأة مسلمة
حرة كانت أو مملوكة " خير من مشركة " وكذا " ولعبد مؤمن خير من مشرك " فإن
الناس كلهم عبيد الله وإماؤه، كذا في تفسير الكشاف والقاضي، وهو خلاف الظاهر
إذ الظاهر المعنى العرفي من الأمة والعبد، وأيضا لا مبالغة فيه حينئذ والظاهر أنها
المقصود والأولى " ولو أعجبتكم " وإن كان الحال أن المشركة تعجبكم وتحبونها
لمالها أو لجمالها وخلقها وحسنها ونسبها، فلو بمعنى إن كما قاله القاضي والجملة
حالية، والغرض الحث على المنع من المخالطة وإنكاح المشركات، وكذا الكلام
في الجملة الثانية وهي قوله تعالى " ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن
خير من مشرك ولو أعجبكم " ولهذا علله بقوله " أولئك " فإنه بمنزلة التعليل بأن
المشركين والمشركات " يدعون إلى النار " فلا ينبغي مخالطتهم، فلا يجوز مناكحتهم
فإنه قد يأخذ أحد من دين صاحبه، فإنه دايما يدعوه إلى سبب دخول النار وهو
الكفر والمعاصي، والشيطان يعينه على ذلك ويروجه، وأولياء الله وهم المؤمنون

(1) النساء: 51.
528

يدعونه إلى سبب دخول الجنة والمغفرة، وهو الايمان والطاعة، فهم الذين تجب
مودتهم ومواصلتهم ومصاهرتهم، فالمضاف محذوف كما قالا فيهما.
" والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة " يعني بين دعوتهم ودعوة الله منافاة فلا
ينبغي أن يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا القتال والعداوة لا المحبة
اللازمة بين الزوجين، فلا يحتاج إلى حذف كما فعله في مجمع البيان. " بإذنه " أي
بتيسير الله وتوفيقه للعمل الذي يستحق به الجنة والمغفرة " ويبين الله آياته "
أي حججه وقيل أوامره ونواهيه، وما أباحه وما حرمه " للناس لعلهم يتذكرون "
لكي يتعلموا ويتذكروا ويتعظوا، وليكونوا بحيث يرجى منهم التذكير لما تقرر
في العقول من الميل إلى الخير، ومخالفة الهوى، قاله القاضي وهو مناسب للحسن
العقلي لا الشرعي.
ثم اعلم أن الكلام في استنباط الأحكام أن يقال: ظاهرها دال على تحريم
التناكح بين المسلم والكافر الذي هو المشرك الحقيقي وشمول المشرك للكتابي
الذي يقول بوحدانية الواجب غير ظاهر لغة وعرفا، لكون القول بأن لله ابنا
لا يستلزم الشرك الحقيقي، وإطلاقه عليهم في الآية السابقة لا يستلزم كونه حقيقة
فيهم أيضا حتى يرادوا منه مطلقا، وأيضا لا تشمل جميع غير المشرك الحقيقي من
أصناف من يحكم بكفره، والأصل وعموم أدلة النكاح يدل على الجواز ولا يمنعه
عدم جواز تزويج المسلمة بالكافر مطلقا إجماعا ولا يستلزم ذلك كونه مستفادا من
هذه الآية وعلى تقدير التسليم لا يستلزم عموم المشركات، وآية المائدة ظاهرة في
الجواز فانتظر زيادة التحقيق هناك.
وأن يقال: إنها تدل على عدم جواز نكاح المشركة لو صارت كتابية لقوله
" حتى يؤمن " حيث جعل غاية التحريم الايمان، فلو كان تلك أيضا غاية فلا تصير
الغاية غاية، ولا يبعد دلالتها على عدم تقدير الوثنية على دين الكتابية، وإلا لكان
ينبغي جواز نكاحها على تقدير جواز نكاح الكتابية، وأنها تدل على جواز نكاح
المخالفة من أنواع المسلمين لكون الايمان بمعنى الاسلام على ما يظهر من التفاسير
529

وهو الظاهر، ولعدم التكليف بأكثر من الاسلام في أوائل الاسلام، وكذا تزويج
المؤمنة بالمخالف لما مر، ويدل عليه أيضا بعض الروايات ومنعه أكثر الأصحاب
ويدل عليه بعض الروايات ويمكن الجمع بحمل أخبار المنع على تقدير المنافاة
على الكراهة أو على الناصب الكافر، وأنها تدل على جواز تزويج الأمة مطلقا كما
تدل على عدم جواز وطي الكافر بالملك أيضا إذا حمل النكاح على الوطي ولكن ذلك
بعيد، وخلاف الظاهر، فالاقتصار عليه بعيد، وإن أمكن وحصل منع وطي الكافرة
مطلقا لكن ما يحصل منع العقد وإطلاقه عليه وعلى العقد أيضا بعيد مع عدم ظهور
معنى مشترك بينهما يصلح للإرادة هنا، وأنها تدل على تحريم التزويج لنفس
الزوج والزوجة ولوليهما.
* (النوع الثالث) *
* (في لوازم النكاح) *
وفيه آيات:
الأولى: " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " (1) أي إن أردتم مفارقة زوجة وتزويج
أخرى " وآتيتم إحداهن " التي تريدون مفارقتها، الضمير للزوج، وهو الزوجة
أي الجنس فيصح إرجاع ضمير الجمع إلى الجنس باعتبار المعنى " قنطارا " مالا
كثيرا قيل: إنه مسك ثور ذهبا أو دية انسان " فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه
بهتانا وإثما مبينا " استفهام إنكار أي لا تأخذوه باهتين وآثمين أو للبهت والإثم فإن
أخذه ظلم وباطل، وإثم واضح، والبهتان هو الكذب المواجه به صاحبه على وجه
المكابرة له، وأصله التحير من قوله " فبهت الذي كفر " أي تحير لانقطاع حجته
فالبهتان كذب يحير صاحبه لعظمه " وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض " إنكار
وتعجب وتعظيم لما فعلوا، والافضاء الوصول إلى شئ بالملامسة، قيل هنا كناية
عن الوطئ وقيل المراد به الخلوة الصحيحة، وقال في مجمع البيان: كلاهما

(1) النساء: 20.
530

مرويان عندنا، والمراد تقدير المهر ولزومه بحيث لا يرجع إليه شئ، وذلك لم يكن
إلا بعد الوطي على المشهور " وأخذن منكم ميثاقا غليظا " أي أخذت الزوجات
منكم عهدا وثيقا بالعقد وأحكم لوازمها بالوصية مرارا، مثل قوله " فأمسكوهن
بمعروف " و " إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " (1) وعدم التجاوز عن مطلق حدود الله
وارتكاب المأمورات واجتناب المعاصي.
فالآية دلت على لزوم المهر بالوطئ دون غيره بمعنى أنه لا يرجع إلى الزوج
منه شئ أصلا بالطلاق والفسخ، وعلى الرواية الأخرى الخلوة مثل الوطئ، و
الأول أشهر، فلا ينافي ما تقدم من أن المهر لازم بمجرد العقد، وفيها دلالة ما على
رجوع الشئ إلى الزوج بالطلاق قبل الوطي والافضاء، ويحتمل دلالتها على عدم
جواز الرجوع في الهبة وغيرها للزوج لعموم الآية وتدل على جواز الغلا في المهر مهما
وقع عليه التراضي كما دل عليه السنة، وكأنه على غير المهر حملها السيد حيث
ذهب إلى عدم جواز الزيادة عن مهر السنة، وهو بعيد عنه، لأنه خلاف ظاهر
الآية، والسنة الشريفة، والعقل، أو أنه يقول لا يجوز ولكن يلزم بالعقد والوطئ
وهو أيضا بعيد، ويمكن حمل كلامه على الاستحباب.
فمنع عمر من غلاه وجعل الزائد في بيت المال لا وجه له، وإن كان للأول وجه
كما قلنا للسيد، ولكن لا وجه للثاني وكأنه لذلك جعل من مطاعنه، أو لكونه خليفة
وإماما ففرق بينه وبين السيد ولقبوله اعتراض المرأة ولقوله كل الناس أفقه من عمر
قال في الكشاف: وعن عمر أنه قام خطيبا فقال أيها الناس لا تغالوا بصدق النساء
إذ لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وآله فإنه ما أصدق
امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشر أوقية فقامت إليه امرأة فقالت له لم تمنعنا حقا
جعله الله لنا، والله يقول " وآتيتم إحداهن قنطارا " الآية فقال عمر: كل أحد أعلم
من عمر، ثم قال لأصحابه تسمعونني أقول مثل هذا فلا تنكرونه علي حتى ترد

(2) البقرة: 231 و 229.
531

على امرأة ليست من أعلم النساء (1).
ثم إنه لا شك في عدم جواز أخذ ما أعطى من المهر بعد الدخول بوجه، سواء
أراد الزوج الاستبدال أم لا، فذكر الاستبدال يحتمل لكون العمل ذلك وقت
نزولها ولكونه محل الأخذ حيث آتاها مهرا وقد طلقها، وأراد بدلها أخرى، وهي
تحتاج إلى مهر، والمهر إنما يكون لدوام الاستمتاع، وما استمتع إلا في بعض
الزمان، ولكونه يلزم منه عدم الجواز مع عدم الاخراج والاستبدال بالطريق الأولى
وبالجملة هنا لا يتوهم اعتبار المفهوم لعدم شرط حجيته والعمل به، وهو ظاهر
فتأمل.
الثانية: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا
لهن فريضة (2).
أي لا تبعة عليكم في مهر وما وجب عليكم - بقرينة وجوبه فيما يقابله وهو
قوله " وإن طلقتموهن " حيث أوجب نصف المهر فدل على أن المنفي أولا هو المثبت
ثانيا - إن طلقتم النساء قبل المس والوطي وقبل فرض المهر فيكون " أو " بمعنى
الواو، وقد يدل عليه " وقد فرضتم " أو يكون " أو " بمعنى " إلا أن " أو " حتى " كذا
في التفسيرين، وفيه تأمل إذ على الأول المناسب فرضتم وعلى الثاني يلزم تجويز
الفرض ولزوم شئ به بعد الطلاق قبل المس وهو باطل، ويحتمل أن يكون المراد
نفي الإثم كما في قوله تعالى " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " مع تأويلات، أو
تفرضوا وبدونها ويحتمل حينئذ أن يكون عديل " أو " محذوفا، فالتقدير إن لم
تفرضوا لهن فريضة أو تفرضوا وهو أيضا خلاف الظاهر مع عدم ظهور فائدة التقييد
بقبل المس فإنه بعده أيضا لا إثم إلا أن يقال إنه لا إثم حينئذ مطلقا بخلاف ما بعد
المس أو يقال إنه لدفع تخيل أنه لما لم يحصل فائدة النكاح لم يجز الطلاق

(1) راجع الدر المنثور ج 2 ص 133.
(2) البقرة: 236.
532

ويمكن الحمل على الأعم وارتكاب خلاف الظاهر في القرآن لدليل غير عزيز.
والمراد بالفرض تعيين المهر قبل الدخول والطلاق " ومتعوهن " كأنه
عطف على محذوف أي فطلقوهن ومتعوهن " على الموسع قدره " بفتح الدال
وسكونها المقدار الذي يليق بحاله والموسع الغني الذي وسعت معيشته عليه وحاله
" وعلى المقتر قدره " أي الفقير الذي تضيق معيشته أي الواجب عليهما ما يناسب
حالهما " متاعا بالمعروف " يعني تمتيعا بالوجه المعروف شرعا وعرفا بحسب المروة
" حقا " يعني تمتيعا حقا واجبا ثابتا أو حق ذلك حقا " على المحسنين " أي الذين
يريدون أن يحسنوا إلى أنفسهم باخراجها عن المعاصي بفعل الواجبات، وترك
المحرمات أو إلى المطلقات باعطائهن حقوقهن، سمى الأزواج المطلقون محسنين
ترغيبا وتحريضا على المأمور به والمسارعة إليه فجزاء الشرط محذوف من جنس ما سبق
وهو رفع الجناح، و " ما " بمعنى المدة أي زمان ترك المس و " متاعا " مفعول مطلق
و " حقا " صفة أو مفعول مطلق.
وأما قدر المتاع فظاهر الآية ما يقتضيه العرف ويسمى تمتيعا بحسب حال
الغني وغيره، وقد عين بخادم أو ثوب أو ورق في مجمع البيان، وقال: إنه مروي
عن الباقر والصادق عليهما السلام وغيرهما، وهو مذهب الشافعية أيضا وظاهر مذهب
الأصحاب خلافه، فإنهم قالوا إن الغني يمتع بالدابة أو الثوب المرتفع أو عشرة
دنانير والمتوسط بخمسة أو الثوب المتوسط والفقير بالدينار أو الخاتم وما شاكله
وما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه إذا كان موسعا عليه متع امرأته بالعبد
والأمة، والمعسر يمتع بالحنطة والزبيب (1) والثوب والدراهم، لا ينافي انقسامه إلى
ثلاثة أقسام، ولا ما ذكر في كل قسم منها، لأن مرجعها إليهما والعرف اقتضى
تعيين كل مرتبة، وقريب من الدابة التي هي الفرس العبد والأمة وقريب منها
البغل والبعير المقارب لها في القيامة لأن المحكم في ذلك العرف لا التحديد فتأمل
وعلى مذهب أبي حنيفة درع وخمار وملحفة على حسب الحال، إلا أن يكون مهر

(1) والزيت خ.
533

مثلها أقل من ذلك فلها حينئذ الأقل من يصف مهر المثل والمتعة، ولا ينقص من
خمسة دراهم لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها، وذلك خلاف ظاهر
الآية، وكذا تعيين أقل المهر خلاف الظاهر (1).
فدلت الآية على جواز الطلاق، وعدم وجوب المهر للمرأة المطلقة قبل الدخول
وقبل تسمية المهر لها، ووجوب المتعة لها بالمنطوق وعلى عدمها لغيرها بالمفهوم، و
هو مذهب الأصحاب والحنيفة وألحق الشافعي بها في أحد قوليه الممسوسة المفوضة و
غيرها قياسا، لأنه مقدم على المفهوم كذا في تفسير القاضي وهو خلاف الظاهر والأصل
وإيجاب الشئ بمثل هذا القياس الذي لا علم بعلته مع مخالفته ظاهر القرآن اليقيني
بعيد، إذ قد يكون العلة الطلاق مع عدم الفرض وعدم المس كما هو الظاهر، و
أيضا يلزم اللغو وهو دليل القائل بالمفهوم وأن إلحاق الممسوسة لغير المفوضة أبعد
ولعله لذلك ما قال به في قوله الآخر، وبالجملة من سوقهما يفهم تخصيص المتعة
بالمذكور في الآية كما هو مذهب الأصحاب فافهم.
الثالثة: وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن
فريضة (1).
بين في السابقة حال المطلقة المفوضة قبل المس والفرض، وبين في هذه
حالها بعد الفرض وقبل المس وترك المطلقة بعدهما، فإن حكمها لزوم المسمى
وكذا المطلقة بعد المس وقبل الفرض فحكمه عند الأصحاب مهر المثل " وقد
فرضتم " جملة حالية عن فاعل فعل الشرط أي طلقتموهن " فنصف ما فرضتم " جوابه
مرفوع إما بأنه مبتدأ خبره محذوف أو عكسه والتقدير: فالواجب أو فالذي عليكم
نصف ما فرضتم، أو فلهن نصف، أو عليكم نصف، أو نصف ما فرضتم واجب عليكم
" إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " فالاستثناء كأنه من مقدر أي
الواجب نصف على جميع التقادير والحالات، إلا على تقدير حصول العفو من

(1) خلاف الأصل خ.
534

المطلقات عن الكل أو عن شئ من المهر، فليس هنا حينئذ في هذه الحال النصف
واجب، بل إما لا واجب أصلا أو الواجب أقل من النصف " ويعفو " عطف
على محل " يعفون " فإنه مبني على النصب بأن " والذي بيده عقدة النكاح "
قيل هو ولي المطلقة المذكورة ففي الأول العفو منهن بشرط البلوغ والرشد وفي
الثاني من أوليائهن على تقدير عدمهما وللولي أيضا العفو وهو مذهب الشافعي
والأصحاب، ولكن يكون منوطا بالمصلحة، وبشرط عدم العفو عن الجميع، فإنهم
ما يجوزون للولي العفو عن الكل، ويبعد ذلك عن الآية، وأيضا يبعد وجود
المصلحة للعفو بعد حصول الطلاق إلا أن يكون دفع ضرر، وحينئذ ليس بعفو
ولعل دليلهم أخبار أو إجماع، قال في مجمع البيان: وهو المروي عن أبي جعفر
وأبي عبد الله عليهما السلام ويحتمل أن يكون " الذي " عبارة عن الزوج، يعني المأخوذ
هو النصف " إلا أن يعفون " فيقل أو يعدم أو يعفو الزوج عن الباقي فيصير أكثر
من النصف، إما الكل أو لا، وهو مذهب أبي حنيفة وقال في مجمع البيان: رواه
بعض أصحابنا وهو بعيد أيضا إذ مقابلة الذي بيده عقدة النكاح للمرأة لا يناسب فإن
العفو حينئذ ليس بمناسب فكأنه سمي للمشاكلة إلا أن أداه إلى الزوجة، فيعفوا
عن النصف ولم يأخذه، فيصح كونه عفوا حقيقية وأيضا إنه كان المعنى " الواجب
نصف " ومع استثناء العفو منه لا يصير الواجب غيره، والأول أظهر بحسب اللفظ
والثاني بحسب المعنى، ولا استبعاد في جواز العفو للولي بالنص، ولكن لا بد
لعدم تجويز الكل من دليل، ولعل لهم دليلا عليه، وعلى الحمل على المعنى
الأول أيضا، وهو الروايات كما أشير إليه أو الاجماع.
" وأن تعفوا أقرب للتقوى " كأنه خطاب للزوج والمرأة، وغلب المذكر
أو يكون للزوج، والجمعية باعتبار الأفراد، وهو مؤيد لكونه العافي من جهة
إسناد العفو إليه، وكون العفو من الولي أقرب غير معلوم، ولكن المناسب لحصر
العافي فيها وفي الولي كون الخطاب لهما، وقد يقال مع المصلحة يكون أقرب من
الولي أيضا، ويحتمل أن يكون المخاطب الناس والغرض أن العفو أقرب من أي
535

أحد كان، ولا يكون الغرض كونه من شخص بل مجرد حسن العفو.
" ولا تنسوا الفضل بينكم " أي لا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض، وقد
نقل أن جبير ابن مطعم تزوج وطلق قبل المس وأعطي جميع المهر، فقيل له في
ذلك فقال: أنا أحق بالعفو وعدم النسيان الفضل " إن الله بما تعملون بصير " أي
عليم بأعمالكم من العفو فيعوضكم عليه، وهو ترغيب عليه، ويحتمل الترهيب أيضا
لزيادة طلب الحق ظلما ويحتمل أن يكون الخطاب هنا أيضا عاما.
فدلت على وجوب نصف المهر المسمى بعد الطلاق قبل المس وبعد الفرض
وظاهرها التشطير بالطلاق، لا أنه يجب النصف حينئذ لقوله " فنصف ما فرضتم "
فعلم أن الجميع فرض ووجب بالعقد، وشطر بالطلاق، وعلى استحباب العفو
مطلق من غير شرط الاستغناء، وعلى استحباب التفضل والاحسان، وعلى استحباب
العفو للولي، وعلى استقلال المرأة في العفو، فيلزم في العقد أيضا، بل على
استقلال الولي حيث أسند العقد إليه إلا أنه مجمل غير مبين من " الذي بيده
عقدة النكاح ".
الرابعة: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض (1):
يقومون بأمورهن ويسلطون عليهن كقيام الولاة على رعيتهم بسبب تفضيل
الله تعالى إياهم عليهن بكمال العقل وغيره وبسبب ما ينفقون عليهن من أموالهم
" واللاتي تخافون نشوزهن " أي الزوجات التي تخافون أيها الأزواج عصيانهن
وترفعهن عنكم وعن مطاوعتكم فيما يجب عليهن بظهور أمارات العصيان والنشوز
والأولى حمل الخوف على العلم كما نقل في مجمع البيان عن الفراء، قال: معناه
تعلمون نشوزهن قال: وقد يكون الخوف بمعنى العلم كما قالوا في قوله تعالى: " فمن
خاف من موص جنفا " الآية لأن خوف النشوز لا يوجب الهجر والضرب " فعظوهن و
اهجروهن في المضاجع واضربوهن " أي فعظوهن بالقول والنصيحة فإن لم ينفع الوعظ

(1) النساء: 34.
536

والنصيحة ولم يتركن النشوز به، فاهجروهن في المراقد والمبايت، فلا تدخلوهن تحت
اللحف بأن تعزلوا فراشها أو حولوا إليهن ظهوركم في الفراش كما يدل عليه ما روي
عن أبي جعفر عليه السلام يحول ظهره إليها، أو لا تجامعوهن فكنى بالمضاجعة عن الجماع
كما في المباشرة أي لا تجامعوهن حتى يتركن النشوز، وإن لم يتركن فاضربوهن
قيل: فعظوهن بكتاب الله أولا وذلك أن يقول الزوج اتقي الله وارجعي إلى طاعتي
فإن رجعت وإلا غلظ عليها القول، فإن رجعت وإلا ضربها ضربا غير مبرح، قيل:
معناه أن لا يقطع لحما ولا يكسر عظما، وقيل أن يكون شديدا وروي عن أبي جعفر
عليه السلام الضرب بالسواك.
" فإن أطعنكم " أي رجعن إلى طاعتكم بالايتمار بأمركم " فلا تبغوا عليهن
سبيلا " أي لا تطلبوا عليهن تسلطا وعلوا بالباطل، وسبيلا للضرب والهجران
والوعظ، مما أبيح لكم فعله عند النشوز، بل ينبغي أن تجعلوا ما كان منهن كأن لم
يكن فإن التائب عن الذنب كمن لا ذنب له على ما روي ودل عليه القرآن العزيز
فينبغي الأخذ به، فينبغي الكون معهن مثل ما كانوا معهن قبل النشوز، بل ينبغي
ذلك مع كل تارك ذنب، فالآية تدل على عدم جواز الهجران والضرب بالمفهوم
بدون النشوز والجواز معه بالمنطوق، فالأمر هنا للإباحة لا الوجوب والاستحباب
بل يمكن أن يكون مرجوحا فإن العفو حسن إلا أن يعلم الفساد في الترك فيمكن
الاستحباب بل قد يجب فيجري فيه الأحكام الخمسة.
الخامسة: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء " (1) أي لا تقدروا على العدل
والتسوية بينهن بحيث لا يقع منكم أصلا ميل قلبي إلى إحداهن أكثر من غيرها
ويكون الميل والمعاشرة متساوية بينهن من غير زيادة لإحداهن على الأخرى
ولهذا نقل عنه صلى الله عليه وآله أنه كان يقسم بين النساء فيعدل ويقول: هذه قسمتي فيما
أملك، فلا تأخذني فيما تملك ولا أملك. " ولو حرصتم " على ذلك وبذلتم جهدكم
الذي هو مقتضى الحرص والميل فرفع الله ذلك عنكم ولم يكلفكم به لقبحه، ولكم

(1) المساء: 129.
537

ينبغي الملاحظة بحسب المقدور والتساوي مهما أمكن " فلا تميلوا كل الميل " أي
لا تجوروا على المرغوب عنها التي لا ميل لكم إليها كل الجور، فتمنعوها عن قسمتها
من غير رضاها، يعني لا بد من اجتناب كل الميل فإنه مقدور والتكليف به واقع، فلا
تفرطوا فيه، وإن وقع منكم تفريط في العدل كله حيث ما كان مقدورا فلا يقع في
الميل كله.
ولعل فيه توبيخا على وقوع التفريط في العدل مع إمكان عدمه، وإن لم يكن
واجبا، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وآله من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم
القيامة وأحد شقية مائل " فتذروها كالمعلقة " وهي التي لم تكن بذات بعل ولا بغير
بعل ولا يميل إليها، ولا يعاشرها معاشرة الأزواج، ولا يطلقها بل يجعلها كالمعلقة بين
الأمرين: لا إلى هذه ولا إلى ذلك، وبالجملة يجب " إمساك بمعروف أو تسريح
بإحسان " ففيها دلالة على النهي من جعلها كالمعلقة، وتعطيلها، ووجوب الامساك
بالمعروف أو الطلاق، وتحريم الميل [إلى إحداهن] كل الميل وعدم التكليف بالتسوية
واستحباب المساواة في الأمور كلها مهما أمكن.
السادسة: " وإن امرأة خافت " (1) أي علمت وقيل ظنت " من بعلها نشوزا "
أي استعلاء وارتفاعا عنها إلى غيرها إما لبغضه لها أو لكراهته منها شيئا كعلو
سنها وغيره " أو إعراضا " يعني انصرافا بوجه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه
" فلا جناح عليهما " أي لا حرج ولا إثم على كل من الزوج والزوجة " أن يصلحا
بينهما صلحا " بأن تترك المرأة له يومها أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة أو كسوة
أو غير ذلك تستعطفه بذلك فتستديم المقام في حباله كذا فسر، وفيه تأمل لأنه يلزم
إباحة أخذ شئ للاتيان بما يجب عليه وبترك ما يحرم عليه، وقد مر في الصلح
فتذكر وتأمل.

(1) النساء: 128.
538

السابعة: أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن
لتضيقوا عليهن (1).
إشارة إلى بيان سكنى الزوجة التي تستحق ذلك يعني يجب إسكان الزوجة
حال الزوجية أو بعد الطلاق الرجعي في العدة ودل إجماع علماء أهل البيت
وأخبارهم مع الأصل على تخصيص السكنى والنفقة بهما إلا الحامل وسيجئ.
أسكنوهن من الأمكنة التي تسكنونها مما تطيقونه وتقدرون على تحصيله بسهولة
لا بمشقة وهو معنى قوله " من وجدكم " أي وسعكم، قيل: هو عطف بيان لقوله:
" من حيث سكنتم " فإن معناهما واحد، وهو المكان الذي يليق لهم السكنى ولا
تسكنوهن فيما لا يسعهن ولا مع غيرهن مما لا يليق بهن فيتعبن، وقد يلجأن إلى
الخروج مع تحريمه عليهن أو طلب الطلاق بالفداء.
وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن.
إشارة إلى وجوب النفقة المقررة للزوجة الحامل بعد الطلاق البائن أيضا
إذ الزوجة والرجعية يجب نفقتهما حاملا كانتا أم لا، وللمسألة فروع كثيرة مثل
كونها للحمل أو الحامل مع ظهور الفائدة مذكورة في محلها، ولي فيها بحث، و
ينبغي السكوت عما سكت الله منه، وقطع النظر عن كونها للحمل أو الحامل
والاقتصار على ظاهر القرآن وهو وجوب النفقة للحامل المطلقة، ويمكن فهم عدم
وجوب الأنفاق على غير الحامل بالمفهوم، فالقول بوجوبها للمطلقة حاملا كانت
أم لا، كما ذكره في الكشاف غير جيد، ويؤيده الأصل والأخبار والاجماع.
والظاهر أن الآية إن كانت عامة في الرجعية والباينة تخصص الأولى
بالأدلة الدالة على أن حكمها حكم الزوجة، وبالآية السابقة الدالة على إيجاب
سكناها والنفقة تابعة وبالطريق الأولى لأنها أكثر احتياجا إليها، ولهذا لا سكنى
للحامل المتوفى عنها زوجها، وإن قلنا بالنفقة لعدم النص، وصحة القياس وفي

(1) الطلاق: 6.
539

ثبوتها لها تأمل، والظاهر العدم لأصل مع عدم الدليل.
" فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " إشارة إلى عدم وجوب الارضاع على
الأم كما هو مذهب الأصحاب والشافعي ومنع الحنفي عن الإجارة حال الزوجية
نقله في الكشاف بل يجب الأجرة لها على الأب، وظاهرها كونها بعد انقطاع عقدة
النكاح بالطلاق ويحتمل العموم أيضا ولعل وجوب الأجرة على الأب من جهة وجوب
نفقة الولد عليه وحينئذ يكون مشروطا بفقر الولد وغنى الأب، فإن كان للولد
مال يعطى للأم الأجرة منه، ويؤيده أن الآية ليست بصريحة في كون الأجرة
من مال الأب، فإنه لو كان من الولد أيضا يجب الاعطاء على الأب، وإن لم يكن
له مال مع فقر الأب يمكن الايجاب على الأم بلا أجرة مطلقا لأنه يجب نفقته
عليها مع قدرتها، ويحتمل اشتراط غناها عن أجرة الارضاع فإنها بمنزلة مالها فتقدم
نفسها على من يجب نفقته عليها فيكون من بيت المال كما إذا لم يمكن إرضاع الأم.
" وائتمروا " اصنعوا واعملوا " بينكم " في الارضاع والانفاق والاسكان وإعطاء
الأجرة وغيرها " بمعروف " الأمر الشرعي واقبلوه فتكونون مؤتمرين حاملين
للآمر بوجه حسن جميل من غير تعاسر وتضايق، وفي القاضي: وليأمر بعضكم
بعضا بجميل في الارضاع والأجر، وفيه تأمل وفي الكشاف الايتمار بمعنى التآمر
كالاشتوار بمعنى التشاور، يقال ائتمر القوم وتوامروا إذا أمر بعضهم بعضا إن صح
فهو نادر و " إن تعاسرتم " أي تضايقتم وما رضي بعضكم بما قاله الآخر " فسترضع
له " امرأة " أخرى " غير الأم وكأن فيه إشارة ما إلى معاتبة الأم على المعاسرة
فإن المساهلة من جانبها أنسب لأنها أشفق ولأنه ولدها، فلو نقص من أجرتها
المتعارفة لا يضيع ولأنه ما ينقص عنها بالحقيقة شئ بخلاف الأب، فإنه يخرج
الأجرة من ماله، وإن كان من مال الولد فعدم المعاسرة أولى، ويمكن فهم عدم
جواز الارضاع لغيرها مع عدم معاسرتها ورضاها كما قاله الفقهاء كعدم وجوبه
عليها وجواز إرضاع غيرها على تقدير المعاسرة، ويدل عليها الأخبار، ولعله
لا خلاف فيها.
540

" لينفق " إشارة إلى كيفية الأنفاق على الزوجة بل مطلقا بأن ينفق " ذو سعة "
على ما يليق بحال مثله " من سعته " في المعيشة مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا
ولا يخرج عن ذلك إلى الطرفين إسرافا وتقتيرا اللذين هما منهيان، والفقير كذلك
وإليه أشار بقوله " ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله " فلا يتكلف تكلف
الأغنياء بل يعطي وينفق مما قدر الله له، ولا تكلف بالزائد، ولا ينقص عن اللائق
بحاله، فإنه منهي عنه، وبالجملة يعمل ما يتعارف في أمثاله مع القدرة فإن الله
تعالى لم يكلفه بأزيد من ذلك لأنه ما أعطاه فكيف يكلفه به، وإليه أشار بقوله
" لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " إشارة مدللة حسنة فأفهم، فهو يدل على القبح
العقلي وأن التكليف بما لا يطاق بل بما يشق لا يقع من الله، بل محال، وفيه وفيما
بعده " سيجعل الله بعد عسر يسرا " تطييب لقلب الفقراء، بل من يجب نفقتهم عليهم
ووعدهم بحصول العوض وتبديل العسر باليسر، إما في الدنيا أو في الآخرة على
سبيل منع الخلو كذا في الكشاف. وفي القاضي: تطييب لقلب المعسر والأول أولى.
* (النوع الرابع) *
* (في أشياء من توابع النكاح) *
وفيه آيات:
الأولى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم (1).
الخطاب له صلى الله عليه وآله والمقول لهم هم المسلمون ولعل اللام مقدر، والتقدير
ليغضوا فتأمل، ويبعد أن يكون بتقدير غضوا يغضوا إذ المناسب الفاء مع أن حذف
المقصود وذكر غير المقصود غير موجه، وأيضا الخبر غير مناسب إذ مضمونه قد لا يقع
وفي الكشاف من للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحل
وجوز الأخفش أن تكون مزيدة وأبا سيبويه وأنت تعلم أن التبعيض هنا يفيد

(1) النور: 31.
541

تحريم غض بعض البصر دون البعض، لا بعض المبصر، وهو المطلوب والمعقول كما
يفهم من قوله " والمراد الخ " فتأمل فالزيادة أولى بحسب المعنى.
وقال أيضا: في ترك " من " في الفروج فقط دلالة على أن أمر النظر أوسع
من أمر الفرج ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن
وأعضادهن وأسوقهن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات للبيع والأجنبية
ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين، وأما أمر الفرج فمضيق
وكفاك فرقا إن [كان] أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه
وقد عرفت ما فيه مما تقدم من أن هذا ليس مفاد التبعيض هنا وأيضا ليس في منطوق
القرآن إباحة الأول وتحريم الثاني إلا ما استثني فافهم، ثم قال: ويجوز أن
يراد مع حفظها عن الافظاء إلى ما لا يحل حفظها عن الابداء وفهم هذا المعنى لا
يخلو عن بعد، نعم يمكن بعد العلم بالمسألة من غير هذه، ثم قال: وعن أبي زيد
كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا هذا فإنه أراد به الاستنار قال
في مجمع البيان: وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام قال فلا يحل للرجل أن ينظر
إلى فرج أخيه ولا يحل للمرأة أن تنظر إلى فرج أختها، وقال أيضا معناه قل
يا محمد للمؤمنين يغضوا أبصارهم عما لا يحل لهم النظر إليه. ويحفظوا فروجهم عمن
لا يحل لهم وعن الفواحش، وقيل إن " من " زائدة وتقديره يغضوا أبصارهم عن
عورات النساء، وقيل إنها للتبعيض لأن غض البصر إنما يجب في بعض المواضع
عن أبي مسلم، والمعنى يغضوا من نظرهم، فلا يبصروا ولا ينظروا إلى ما حرم، و
قيل إنها لابتداء الغاية وفي التبعيض ما تقدم فأمل.
وأيضا لا يخفى أن في الآية إجمالا فإنه ما نعلم ما لا يحل وما لا يحل، فلم نعلم
حينئذ غض البصر في أي موضع يحرم وفي أي موضع يحل وينبغي أن يقال المفهوم
تحريم النظر وعدم حفظ الفرج مطلقا، وقد علم الجواز في المحارم والحلائل بالآية
والاجماع وغيرهما، وبقي الباقي تحته " ويحفظوا فروجهم " عطف على يغضوا " ذلك
أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون " أي أنفع لدينهم ودنياهم وأطهر وأنقى من التهمة
542

وأقرب إلى التقوى عليم بما يعملونه على أي وجه يعملونه.
واعلم أن في الأمر للمؤمنين بحفظ الفروج فقط مع أمر المؤمنات في الآية
الثانية به، وبعدم إبداء الزينة مع الأصل وحصر المحرمات دلالة ظاهرة على عدم
وجوب الستر من المحرمات على الرجال، سوى فروجهم، فبدنهم ليس بعورة وإن
كان رؤيته عليهن حراما، فلا يجب عليهم الستر من باب المعاونة على الإثم والعدوان
وإن علموا بذلك لما تقدم، ويمكن تحريم ذلك لو قصدوا ذلك فتأمل ودلالة أيضا
على أن عورتهم ليس إلا الفرج، والفرج يطلق على المخرجين.
الثانية: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن (1).
هذا ظاهر في نهي النساء عن النظر إلى الأجانب أصلا ورأسا، ويؤيده
خبر ابن أم مكتوم المشهور (2) " ولا يبدين زينتهن " أي مواضعها " إلا ما ظهر منها "
فبعد الاستثناء يبقى ما بطن وسيجئ الاستثناء منه أيضا بقوله " إلا لبعولتهن " الآية
في الكشاف الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهرا

(1) النور: 32.
(2) روي عن أم سلمة أنها قالت: كنت أنا وميمونة عند رسول الله صلى الله عليه وآله
فدخل علينا ابن أم مكتوم بعد آية الحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وآله لنا: احتجبا!
فقلنا: يا رسول الله إنه أعمى، فقال: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ أخرجه أبو داود
والترمذي وصححه والنسائي والبيهقي في سننه عن أم سلمة كما في الدر المنثور ج 5 ص 42.
أقول: قد اشتبه المراد من آية الحجاب على بعض كالمؤلف رضوان الله عليه، فتوهم
أن المراد بآية الحجاب في هذا الحديث آية النور المبحوث منها وليس كذلك، بل المراد
آية الأحزاب: 54 " وإذا سألتموهن فاسألوهن من وراء حجاب. ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن "
ففرض أن لا يتكلموا إلا وبينهم وبينهن حجاب من ستر، وهذا الحكم من مختصات أمهات
المؤمنين.
وقوله صلى الله عليه وآله " احتجبا " يعني ادخلا وراء الستر، فقالا إنه أعمى يعنون أن عماه
كالغشاء والستر بينه وبينهن، فقال صلى الله عليه وآله، هذا ستر يستركن عن عينه ولا يستره
عن عيونكن، وقد كان الواجب حجاب يستر على الجانبين.
543

منها كالخاتم والفتخة وهي حلقة من فضة لا فص لها، والكحل والخضاب فلا بأس
بابدائه للأجانب، ثم قال: إن المراد من الزينة موقعها والصحيح أنه العضو كله
لا المقدار الذي يلامسه الزينة منه كما فسرت مواقع الزينة الخفية وكذلك مواقع
الزينة الظاهرة الوجه موقع الكحل في عينيه والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربيه
والغمرة في خديه، والكف والقدم موقعا الخاتم والفتخة والخضاب بالحنا وإنما
تسومح في هذه المواقع، لأن سترها فيه حرج، فإن المرأة لا تجد بدا من مزاولة
الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصا في الشهادة والمحاكمة
والنكاح وتضطر إلى المشي في الطرقات، وظهور قدميها وخصوصا الفقيرات منهن
وهذا معنى قوله " إلا ما ظهر منها " يعني إلا ما جرت العادة على ظهوره، والأصل
فيه الظهور.
ولا شك في بعد كون الوجه موقع الكحل والوسمة وكونها في شاربيه، مع
أن المناسب تأنيث الضمير في الكل كحذف المرأة، وأيضا لا شك أن مع الضرورة
والحاجة يجوز إبداء موقع الزينة الظاهرة والباطنة كالعلاج للطبيب وللشهادة
والمحاكمة، وأيضا إن نظر إلى العادة والظاهر خصوصا الفقيرات فالعادة ظهور
الرقبة بل الصدر والعضدين والساقين وغير ذلك، وبالجملة الحكم محل الاشكال
وقد أوضحته في الجملة في محله من الفروع في شرح الارشاد فتأمل.
وليضربن بخمرهن على جيوبهن.
أي يضعن خمارهن على صدورهن ليسترنه وما فوقه من الرقبة، ففيها دلالة
على عدم وجوب ستر الوجه فافهم، وكانت جيوبهن واسعة يبدوا مها نحورهن
وصدورهن وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة فأمرن
أن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها ويجوز أن يراد بالجيوب الصدور تسمية بما
يليها ويلابسها، ومنه قولهم ناصح الجيب، وقولك ضربت بخمارها على جيبها كقولك
ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه.
544

ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أزواجهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو
أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن.
والمراد بالآباء الأب وإن علا، وبالأبناء الابن وإن سفل، والأخ أعم
من أن يكون من الطرفين أو أحدهما وبني الأخوة والأخوات وإن سفلوا، فهؤلاء
مستثنون، والظاهر من النسب والرضاع للصدق، فيحرم نكاح بعضهم على بعض
فهؤلاء محارم.
والمراد بالزينة المحرم ابداؤها هو موضع الزينة لا نفسها إذ نفسها يجوز
النظر إليها لكل أحد وليس بحرام فلا يصح الحكم المستثنى منه إلا أن يكون هناك
ريبة أو شهوة أو فتنة، فالظاهر جواز نظرهم إلى سائر البدن إلا العورة لغير البعولة
للأصل ولما تقدم، ولظاهر هذه الآية، حيث إن الظاهر أن المراد موقع الزينة
الخفية، ويحتمل اختصاص محلها فقط، فلا يتعدى إلى غيرها، خصوصا المواضع
الخفية في أكثر الحالات والقريبة من العورة فتأمل.
وقال في الكشاف: إن المراد جميع العضو كما تقدم في الزينة الظاهرة فهذا
يدل على أن المراد بإلا ما ظهر هو الموضع، كما مر إليه الإشارة فتأمل، والزينة
الخفية مثل السوار للزند، والخلخال للساق، والدملج للعضد، والقلادة للعنق
والوشاح للرأس، والقرط للإذن، وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة كما في
" ولا تقربوا الزنا " لأن هذه الزينة واقعة على مواضع يحرم النظر إليها لغير
المذكورين، قال في الكشاف إنما سومح في الزينة الخفية أولئك المذكورون لما
كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم، ولقلة موقع الفتنة
من جهاتهم، ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب، ويحتاج المرأة إلى
صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك.
" أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن " في الكشاف قيل: هن المؤمنات لأن ليس
للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية عن ابن عباس، فيكون ذكر استثناء
545

الكشف للمسلمات وعدمه للكافرات، فإنه إذا كانت النساء كلها داخلة تحت حكم
الستر واستثني منها المسلمات (1) بقيت الكافرات وهو ظاهر، ثم قال والظاهر أنه
عنى بنسائهن وما ملكت أيمانهن: من في صحبتهن وخدمتهن من الحرائر والإماء
والنساء كلهن سواء في حل نظر بعضهن إلى بعض، وقيل " أو ما ملكت أيمانهن "
هم الذكور والإناث جميعا، وعن عائشة أنها أباحت النظر إليها لعبدها.
ثم قال: المراد بها الإماء وهذا هو الصحيح، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي
منها خصيا كان أو فحلا، هذا هو المشهور والصحيح عندنا أيضا، ولكن في بعض
الأخبار ما يدل على خلاف ذلك فينبغي الرجوع والتأمل فيها.
أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا
على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن
وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون (2).
في الكشاف: الإربة الحاجة، قيل: هم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل
طعامكم ولا حاجة لهم إلى النساء لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمرهن أو شيوخ
صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم أو بهم عنانة، وقرئ " غير " بالنصب على
الاستثناء أو الحال، والجر على الوصفية، وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد
الجنس ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونحوه " نخرجكم طفلا ".
" ولم يظهروا " إما من ظهر على الشئ إذا اطلع عليه أي لا يعرفون ما العورة
ولا يميزون بينها وبين غيرها، وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه، وظهر على
القرآن أخذه وأطاقه أي لم يبلغوا أوان القدرة على الوطئ.
ولا يخفى أن الشيوخ الصلحاء الذين يغضون أبصارهم إذا كانوا معهن
لا يحتاجون إلى الاستثناء بل لا يصح فإن الظاهر من الاستثناء جواز الكشف لهم، و
جواز النظر لهم، فافهم، وأن وجود العنة لا يوجب النظر إلى مواضع الزينة

(1) المؤمنات خ.
(2) النور: 32.
546

الباطنة وأن في استثناء " غير " تأملا فالظاهر الجر أو الحال، وأنه ينبغي أن يقول
يراد منه الجمع ويبينه ما بعده أي " الذين " والطفل عطف على بعولتهن، ويحتمل
أن يكون عطفا على الرجال و " الذين " يكون صفتهما.
فالظاهر منها تحريم نظر الخنثى إلى الزينة الباطنة، وتحريم كشف ذلك
عليهن، وقد مر الخلاف والقول في الظاهرة والباطنة، ولا يبعد حملها على العرف
ولا يبعد حمل الظاهر على ما في الكشاف، فلا يحرم النظر إلى الوجه وغيره إلا مع
اللذة أو الفتنة والريبة، فيحتمل أن يراد النظر الأول لا التكرار كما قال به بعض
الأصحاب ويحتمل التكرار أيضا للعموم لولا خلاف الاجماع للصدق عرفا فتأمل، ووجوب
ضرب الخمر على الجيوب، وحاصله تحريم كشف الصدور وغيره للأجانب، و
وجوب سترها عنهم، وتحريم كشف الباطنة والنظر إليها، وقد استثني من تقدم
وقد مر معناه، وأن المراد بنسائهن المؤمنات، فلا يجوز الكشف عند نساء الكفار
وقيل: إذا علم خبرهن للرجال وفيه تأمل، ويمكن أن يقال التقييد ليس بحجة
إلا أن الاستثناء بعد مطلق الحكم يقتضي بقاء نساء الكفار تحت التحريم فتأمل.
وأن المراد بما ملكت هي الإماء والظاهر العموم وهو المروي عن أبي عبد الله
عليه السلام، فالظاهر جواز رؤية الزينة الباطنة أيضا لعبيدهن، وأن المراد
بالتابعين: الذين لا يعرفون ولا يطمعون في النساء وهم البله، وبالطفل: الذي لاحظ
له من عورة النساء، فيفهم التحريم على غيره من غير البلغ أيضا بمعنى تحريم الكشف
عليهن عندهم، ووجوب منعهم على الأولياء.
وفي مجمع البيان: المراد بالطفل الجماعة من الأطفال الذين لم يظهروا على
عورات النساء ويريد به الصبيان الذين لم يعرفوا عورات النساء لعدم شهوتهم، و
قيل لم يطيقوا مجامعة النساء، فإذا بلغوا مبلغ الشهوة، كان حكمهم حكم الرجال
والظاهر أن " قيل " ليس بجيد وإليه أشار بقوله فإذا الخ.
" ولا يضربن بأرجلهن " قيل كانت المرأة تضرب برجلها لتسمع صوت الخلخال
منها فنهاهن الله عن ذلك، وقيل معناه ولا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليتبين
547

خلخالها أو يسمع صوته، عن ابن عباس، فيكون ذلك لقصد أن يتوجه إليهن
ويرينهم موضع زينتهن الباطنة حراما حيث يؤل إلى الحرام، ويحتمل التحريم
مطلقا عمدا وإن لم يؤل إلى ذلك كما هو ظاهر الآية، وفي الكشاف كانت المرأة
تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها، فيعلم أنها ذات خلخال، وقيل: كانت
تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين، وإذا نهين عن إظهار صوت
الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي، علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي
أبلغ وأبلغ، أوامر الله ونواهيه في كل باب لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها
وإن ضبط نفسه واجتهد، ولا يخلوا من تقصير يقع منه، فلذلك وصى المؤمنين
جميعا بالتوبة والاستغفار، وبتأميل الفلاح إذا تابوا واستغفروا، وعن ابن
عباس: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة.
فإن قلت: قد صحت التوبة بالإسلام والإسلام يجب ما قبله، فما معنى هذه
التوبة؟ قلت أراد بها ما يقوله العلماء إن من أذنب ذنبا ثم تاب عنه، يلزمه كلما
تذكره أن يجدد عنه التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه، إلى أن يلقى
ربه، ووجوب الندامة والتوبة كلما ذكر لا دليل عليه وهو مشكل، نعم لو خطر بباله
وتردد في خاطره يجب عليه ذلك فتأمل.
وقال: فإن قلت: لم لم يذكر الله تعالى الأعمام والأخوال؟ قلت: سئل
الشعبي عن ذلك فقال لئلا يصفها العم عند ابنه والخال كذلك، ومعناه أن سائر
القرابات تشرك الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وأبناؤهما، فإذا رآها
العم فربما وصفها لابنه، وليس بمحرم فيداني تصوره لها بالوصف نظره إليها، و
هذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في الستر. ولا يخفى أنه
يجوز للعم والخال النظر، فعدم ذكرهما في الآية لا ينفع مع أن عدم ذكره لهذا
بعيد جدا، إذ يفهم عدم جواز النظر لهما وتحريم التكشف لهما، نعم لو فهم أن
عدم ذكرهما مع جواز التكشف عندهما لأن لا يقولا ولا يصفا لكان جيدا، ولكن
لا يفهم، وهذا من العام المخصوص بغيره ويمكن أن يكون ذلك نكتة الترك فتأمل
548

والأمر في ذلك وأمثاله بعد العلم بالمسألة هين.
الثالثة: يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم (1).
في مجمع البيان: مروا عبيدكم وإماءكم أن يستأذنوا عليكم إذا أرادوا
الدخول إلى مواضع خلواتكم عن ابن عباس، وقيل: أراد العبيد خاصة، وهو
المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام " والذين لم يبلغوا الحلم منكم " أي
الأطفال الذين لم يبلغوا من الأحرار " ثلاث مرات " ثم فسرها فقال " من قبل
صلاة الفجر " لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس
ثياب اليقظة " وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة " لأنها وقت وضع الثياب للقائلة " ومن
بعد صلاة العشاء " لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والاستلحاف بثياب النوم.
" ثلاث عورات لكم " في مجمع البيان هو خبر مبتدأ محذوف على تقدير رفعه
والتقدير هذه ثلاث عورات لكم، وبدل من ثلاث مرات على تقدير نصبه بتقدير
أوقات ثلاث عورات، حذف المضاف وأعرب المضاف إليه باعرابه، وفي الكشاف
سمى كل واحدة من هذه الأحوال عورة لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم
فيها، والعورة الخلل ومنها الأعور المختل العين وفي مجمع البيان: لأن الانسان
يضع هذه الأوقات ثيابه فتبدو عورته وعن السدي أن أناسا من الصحابة كانوا
يواقعون في هذه الأوقات فأمر الله سبحانه بأن يأمروا الغلمان والمملوكين أن
يستأذنوا في هذه الساعات، والظاهر أن " الذين ملكت " أعم من العبيد والإماء و
الأجانب والمحارم لأن " الذين " عام ولا مخصص له، وأن المراد بالذين لم يبلغوا
الحلم أيضا أعم من الذكور والإناث والمحارم والأجانب ولكن يحتمل أن يكون
بشرط التمييز الذي أشار إليه في الآية المتقدمة " أو الطفل الذين لم يظهروا على
عورات النساء " وفي مجمع البيان أراد به الصبي الذي يميز بين العورة وغيرها.
وأن حكم غير الأوقات الثلاثة حكمها إذا كانت مشتملة على ما يشتمل تلك

(1) النور: 58.
549

فإن المقصود هو التستر وأن المراد من بعد صلاة العشاء وقت النوم تمام الليل و
بالجملة الظاهر أن المقصود النهي عن الدخول وقت مظنة كون المدخول عليه على
حالة يستقبح الدخول عليه وأن الاستيذان يحصل بكل ما يرفع ذلك وأن ظاهر
هذا الأمر الوجوب والظاهر أن لا نزاع فيه بالنسبة إلى البلغ وأما بالنسبة إلى
الأطفال فيحتمل أن يكون ذلك متوجها إلى الأولياء ولكن هو خلاف الظاهر
فيحتمل أن يكون على حقيقته.
قال في مجمع البيان قال الجبائي الاستيذان واجب على كل بالغ في كل
حال، وعلى الأطفال في هذه الأوقات الثلاثة بظاهر الآية، ويكون هذا الوجوب
مستثنى من عدم تكليف غير البالغ للتأديب وتعليم الأحرار أو يكون للندب بأن يكون
للرجحان المطلق أو يكون للإرشاد وتعليم المعاشرة، وعلى كل تقدير لا شك أن
فيها دلالة على كون الطفل الغير البالغ مأمورا بأمر الله ومخاطبا بخطابه، لا أن
الأمر إنما هو للأولياء وهم مأمورون بأوامرهم لا بأمر الله فإن الأمر بالأمر لهم
ليس أمرا منه لهم كما حقق في الأصول، وفيها دلالة ما على أن ذلك أمر منه لهم
وتحقيقه في الأصول.
وأيضا فيها مع ما بعدها دلالة على أن البلوغ بالاحتلام وخروج المني مطلقا
لا قبله إلا أن يثبت بدليل من إجماع ونحوه مثل إكمال خمسة عشر سنة إلا أن يراد بلوغ
الحلم بلوغ زمان يمكن فيه الاحتلام ولكن العلم بذلك مشكل، وهو يعلم في الذكر
ببلوغ كمال خمسة عشر سنة باتفاق أصحابنا، وبدونه مثل الشروع فيها عند بعض
وفي أربعة عشر وثلاثة عشر رواية ولكن العمل بها مشكل من دون ظهور القائل، و
إن كان سندها صحيحا لأنه خلاف ظاهر القرآن والأصل، ولكن الاحتياط يقتضي
العمل بها وتمام ذلك مذكور في محله، وفي الأنثى يتحقق البلوغ بخروج المني والحيض
وإكمال تسع وإنبات الشعر فيهما، والدليل عليه غير واضح، وكأنه لا خلاف في
ذلك عندهم والله أعلم.
" ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض
550

[كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم] أي لا إثم ولا حرج من الله عليكم
أيها المؤمنون ولا عليهم في ترك الاستيذان، وفي عدم منعكم إياهم من الدخول وإن
رأوكم مكشوفين في غير هذه الأوقات اتفاقا من غير قصد وعلم منكم ومنهم.
في الكشاف ثم عذرهم في ترك الاستيذان وراء هذه المرات وبين وجه العذر
في قوله " طوافون عليكم " يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة يطوفون
عليكم في الخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام فلو جزم الأمر بالاستيذان في كل
وقت لأدى إلى الحرج، ولا يخفى أن فيها نقصا وزيادة من جهة عدم بيان الجناح
المنفي عنهم، وبيان كونهم طوافين عليهم للاستخدام وإن كان فيه بيان لبعضكم
على بعض، وهو الظاهر لأن الظاهر أن الطواف العبيد والأطفال لأهم، ولهذا
قال في مجمع البيان ثم بين المعنى وقال " طوافون عليكم " أي هم خدمكم فلا
يجدون بدا من دخولهم عليكم في غير هذه الأوقات ويتعذر عليهم الاستيذان في كل
وقت، قال سبحانه " ويطوف عليهم ولدان مخلدون ". ثم قال في الكشاف: إذا رفعت
" ثلاث عورات " كان " ليس عليكم " في محل الرفع على الوصف، والمعنى: هن
ثلاث عورات مخصوصة بالاستيذان، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاما مقررا
للأمر بالاستيذان في تلك الأحوال خاصة، " وبعضكم " مرفوع بالابتداء وخبره
" على بعض " على معنى طائف على بعض، وحذف لأن طوافون يدل عليه، ويجوز
أن يرتفع بيطوف مضمرا لتلك الدلالة.
الرابعة: وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن
الذين من قبلهم (1).
في مجمع البيان: " منكم " أي من الأحرار فليستأذنوا في جميع الأوقات
كما استأذن الذين من قبلهم من الأحرار الكبار الذين أمروا بالاستيذان على كل

(1) النور: 59.
551

حال في الدخول عليكم، فالبالغ يستأذن في كل الأوقات، والطفل والمملوك
يستأذنان في العورات الثلاث " كذلك يبين الله لكم آياته " أي كما بين لكم ما
تتعبدون به في هذه يبين لكم الآيات الدالة على الأحكام " والله عليم " بما يصلحكم
" حكيم " فيما يفعله، فهذه الأطفال الأحرار الذين بلغوا بأحد العلامات يجب عليهم
أن يستأذنوا للدخول على البيوت والناس مطلقا أبا وابنا استيذانا كاستيذان الذين
بلغوا من قبلهم، وهم الرجال البلغ العقلاء أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله " يا أيها
الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا " الآية.
والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في العورات الثلاث
فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم خرجوا من حد الطفولية بأن يحتلموا ويبلغوا السن
الذي يحكم فيها عليهم بالبلوغ وجب أن يفطموا عن تلك العادة، ويحملوا على
أن يستأذنوا في جميع الأوقات، كما يحمل الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول
عليكم إلا بإذن، وهذا مما يغفل عنه الناس، وهو عندهم كالشريعة المنسوخة، وعن
ابن عباس آية لا يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن، وإني لآمر جارتي أن يستأذن
علي، وسأله عطا: استأذن على أختي؟ قال: نعم، وإن كانت في حجرك تمونها
وتلا هذه الآية، وعنه ثلاث آيات جحدهن الناس: الإذن كله، وقوله " إن
أكرمكم عند الله أتقاكم " فقال ناس أعظمكم بيتا، وقوله تعالى: " وإذا حضر
القسمة ". وعن ابن مسعود رضي الله عنه عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم
وأخواتكم.
هذا كله من الكشاف: ولا يخفى ما في هذه من المبالغة في الاستيذان
حتى أن ظاهر الآية وجوب ذلك على الأطفال والمماليك في ثلاث مرات وعلى
غيرهم دائما الأقارب والأباعد، والمحرم وغيره، فلا يناسب الترك بوجه فتأمل
ولكن يفهم عدم الاستيذان للمماليك البلغ فيشعر بعدم وجوب التستر عنهم كما مر.
إليه الإشارة فافهم.
552

الخامسة: والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن
جناح إن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وإن يستعففن خير لهن والله
سميع عليم (1).
في الكشاف: القاعد التي قعدت عن الحيض والولد لكبرها " لا يرجون
نكاحا " لا يطمعن فيه، والمراد بالثياب الثياب الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي
فوق الخمار " غير متبرجات بزينة " غير مظهرات بزينة يريد الزينة الخفية التي
أرادها في قوله: " ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن " أو غير قاصدات بالوضع التبرج
ولكن التخفف إذا احتجن إليه والاستعفاف من الوضع خير لهن.
لما ذكر الجايز عقبة بالمستحب بعثا منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها
كقوله " وأن تعفوا أقرب للتقوى. وأن تصدقوا خير لكم " وفيه تأمل إذ قد تقدم
جواز إظهار الزينة الظاهرة فليس على غير القاعد من النساء أيضا جناح في وضع
الثياب الظاهرة، والظاهر من سوق هذه الآية أن القاعدات من النساء مستثنيات
من الحكم السابق الذي هو وجوب التستر، وتحريم كشف الزينة الباطنة ومواضعها
المتقدمة، فلا يحرم عليها كشف مواضع الزينة الباطنة المحرم على غيرها، ولكن
بشرط أن لا تتبرج بزينة أي لا يقصد إظهارها.
قال في مجمع البيان: التبرج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره
انتهى، فإذا تبرجت بها يحرم عليها أيضا ذلك، كما يحرم على غيرها، لا بقصد
التكشف والاظهار وهي التي بلغت سنا أيست عن الجماع، وأيس الناس أيضا عنها
بمعنى أن لا يكون مطعما ولا يكون لها طمعا عادة وعرفا، ولكن العلم بذلك مشكل
فإن الرجال والنساء يتفاوتون في ذلك تفاوتا كثيرا جدا، فإن بعض الناس
يفعلون بأيديهم بل بالأرض والخشب وأية ثقبة كانت، فليست القاعد أقل من

(1) النور: 60.
553

ذلك، وعلى كل حال لا شك أن الستر والعفاف لها خير لاحتمال ذلك وهو ظاهر
غير مخفي.
وفي مجمع البيان: هن المستثنيات من النساء اللاتي قعدن عن التزويج
لأنه لا يرغب في تزويجهن، وقيل هن اللاتي ارتفع حيضهن ولا يطمع نكاحهن
" فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن " يعني الجلباب فوق الخمار عن ابن مسعود
وسعيد بن جبير، وقيل: يعني الخمار والرداء عن جابر بن يزيد، وقيل: ما فوق
الخمار من المقانع وغيرها، أبيح لهن القعود بين يدي الأجانب في ثياب أبدانهن
مكشوفة الوجه واليد، فالمراد بالثياب ما ذكرناه لا كل الثياب " غير متبرجات
بزينة " أي غير قاصدات بوضع ثيابهن إظهار زينتهن، بل يقصدن به التخفيف عن
أنفسهن فاظهار الزينة في القواعد وغيرهن محظور، وأما الشابات فإنهن يمنعن
من وضع الجلباب أو الخمار، ويؤمرن بلبس أكثف الجلابيب لئلا تصفهن ثيابهن
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: للزوج ما تحت الدرع، وللابن والأخ ما فوق
الدرع، ولغير ذي محرم أربعة أثواب: درع، وخمار، وجلباب، وإزار ولا يخفى
أن فيه ما هو غير ظاهر الوجه فتأمل.
السادسة: نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا
لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين (1).
" أنى " في محل النصب لأنها ظرف مكان إذا كان بمعنى حيث أو أين، وظرف
زمان إذا كان بمعنى متى، والعامل فيه " فأتوا " و " شئتم " جملة فعلية في موضع الجر
بإضافة " أنى " إليها، وإذا كان بمعنى كيف في محل النصب على المصدر، ولا محل
لشئتم حينئذ، وتقديره فأتوا حرثكم أي نوع شئتم قيل: نزلت ردا على اليهود
قالوا إن الرجل إذا أتى المرأة من خلفها في قبلها خرج الولد أحول، فكذبهم الله

(1) البقرة: 223.
554

تعالى عن ابن عباس وجابر، وقيل: أنكرت اليهود إتيان المرأة قائمة وباركة
فرد عليهم.
وفي مجمع البيان معنى " نساؤكم حرث لكم " أنهن مزرع لكم ومحرث
لكم عن ابن عباس والسدي، أو أنهن موضع حرثكم وذوات حرث لكم فيهن
تحرثون الولد، فحذف المضاف، أو يكون بحذف كاف التشبيه أي كحرث لكم
فأتوا حرثكم أي أدخلوا في أي موضع تريدون من موضع حرثكم " أنى شئتم "
أي من أين شئتم كما يدل عليه اللغة عن قتادة، وقيل كيف شئتم عن مجاهد وقيل
متى شئتم عن الضحاك وهذا خطأ عند أهل اللغة إذ " أنى " ما جاء إلا بمعنى
من أين كذا في مجمع البيان.
ثم قال استدل مالك بهذه الآية على إباحة وطي الدبر، وذلك غير بعيد، و
أما الاستدلال بها على عدم الجواز، كما هو المشهور فذلك بعيد، إذ على تقدير
تسليم أن المعنى، فأتوا حرثكم كيف شئتم، بناء على سبب النزول الذي مضى
ومناسبة الحرث للاتيان في محل الحرث وهو القبل، لحصول الولد منه، وتشبيها
لهن بالمزرع لقرار النطفة في أرحامهن كالبذر في الزرع، لا يدل على ذلك، إذ ليس
فيه المنع عن غير محل الزرع وغير الزراعة، ولأنه يجوز الاتيان في المزرع في جميع
أجزائه وأي مكان منه أراد، ولهذا يجوز الاتيان في النساء في غير القبل والدبر
والانتفاع منها، ولا شكل أنه لو صرح الاتيان بالقبل لما دل على منع غيره إلا
بمفهوم بعيد ليس حجة هو ظاهر بغير نزاع.
" وقدموا لأنفسكم " الأعمال الصالحة التي أمرتم بها ورغبتم فيها، ليكون
ذخرا لكم عند الله، وزادا ليوم فاقتكم، وقيل: هو طلب الولد، لما روي في مجمع
البيان أنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح، وصدقة جارية
وعلم ينتفع به بعد موته، وقيل هو تقديم الافراط جمع فرط وهو الولد الذي يقدمه
الانسان قبل بلوغه لما ورد في الحديث من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم
555

تمسه النار إلا تحلة القسم (1) فقيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله واثنان؟ فقال: واثنان وهو
بعيد، لأنه ليس باختياري فيحتاج إلى التأويل وقيل التسمية عند الجماع، وقيل
الدعاء وهما مرويان، وقيل التزويج ليحصل منهما الولد الصالح، ولهذا استحب
اختيار كريمة الأصل والعفيفة الولود.
" واتقوا الله " معاصيه " واعلموا أنكم ملاقوه " أي ملاقوا جزائه يعني ثوابه
إن أطعتموه، وعقابه إن عصيتموه، وإنما أضاف إليه تعالى على ضرب من المجاز
أي تزودوا ما لا تفتضحون به عنده، وهو التقوى، فإن خير الزاد التقوى " وبشر "
يا محمد " المؤمنين " الكاملين في الايمان أو العاملين المستوجبين للمدح والتعظيم بفعل
الطاعات والحسنات، وترك المعاصي والقبايح، وكأن " نسائكم حرث لكم "
بيان لقوله: " من حيث أمركم الله " أي المأمور بالإتيان موضع حرثكم فأتوه من
أين أردتم كما في الحرث إلا أنكم تجتنبون في زمان الحيض مكانه، والله أعلم.
السابعة: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين (2).
في الكشاف: إنشاء عبر عنه بالخبر كقوله " يتربصن " للمبالغة، معناه
لترضع الأمهات أولادهن على طريق الاستحباب والندب إذ لا يجب عليهن إرضاع
أولادهن عندهم إلا في الصور المخصوصة، فيه أنه خلاف الظاهر مع التعبير بالخبر
للمبالغة، وأيضا الظاهر أن الارضاع في الحولين واجب فلا يفهم حينئذ من الآية لحملها
على الندب، مع أن الأكثر يستدل بها على حده، أو الوجوب فيلزم تخصيصها
بالصور الخاصة مثل أن لا يعيش إلا بلبن أمه بأن لا يشرب إلا لبنها أو لا يوجد غيرها
أو الوالد يكون عاجزا عن تحصيل غيرها لعدم قدرته على الأجرة فيكون الولد
ممن تجب نفقته على الأم إن كانت قادرة ويحتمل أيضا أن يكون المعنى أن الارضاع
في هذه المدة للأم، بمعنى أنه حقها يجب على الأب تمكينها منه ولا يجوز له الأخذ

(1) وفي الحديث لا يموت للمؤمن ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم أي قدر ما بين
الله تعالى قسمه فيه بقوله تعالى وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (الصحاح).
(2) البقرة: 233.
556

منها وإرضاع غيرها، فيكون حينئذ إخبارا عن حق الأم الواجب على الأب فلا يحتاج
إلى ارتكاب الخروج عن الظاهر، ولكن شرط الأصحاب عدم رضاع غيرها بأقل مما
ترضى، وعدم وجود متبرعة إذا لم تتبرع هي بالارضاع، وهو بالحقيقة شرط وقيد
لقوله " وعلى المولود رزقهن " على بعض الوجوه.
والظاهر حمل الوالدات على عمومها كما هو الظاهر، لا تخصيصها بالمطلقات
لأن الكلام فيهن لعموم اللفظ، وأيضا الظاهر أن تقييد الحولين بالكاملين لدفع
احتمال المسامحة المشهورة في مثله يقال أقمت عند فلان سنة وفي البلد الفلاني سنة، مع
عدم استكمالها " لمن أراد أن يتم الرضاعة " أي هذا الحكم هو الرضاع في الحولين
لمن أراد إتمام الرضاعة من الآباء أو أنه متعلقة بيرضعن فإن الوالد هو الذي يرضع
الولد له وينسب إليه لا الأم في الأغلب والأكثر، وأكد هذا المضمون بقوله " و
على المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " حسب ما يكون معروفا في العرف
والشرع مثله لمثلها، فيكلف بما يحصل له بسهولة ويليق بأمثالها، ولعله نبه عليه
بقوله " لا تكلف نفس إلا وسعها " أي لا يكلف الله تعالى نفسا ما أمرا شاقا بحيث
يكون حرجا وضيقا، فإنه لا يناسب الشريعة السهلة، بل العقل أيضا، لا أنه
لا يكلف بما لا يطاق أصلا كما قيل، إذ لا يحتاج ذلك إلى النقل فإن العقل يحكم
به بديهة.
فبظاهرها دلت على أن الارضاع حق لهن فلا يمنعن أو على استحبابه أو
وجوبه في الجملة على ما مر، وأن ذلك عام لكل أم فإن خرجت واحدة لدليل
وإلا بقيت على العموم، ودلت أيضا على أن الحولين حق لكل ولد سواء ولد لستة
أشهر أو أكثر إن أراد الولي إتمام الرضاعة، وبعضهم خصصه بالأول ويفهم
كونه مقبولا للأصحاب من مجمع البيان لقوله " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا "
والظاهر خلافه، وعلى أن ليس أكثر من ذلك وقت الرضاع، فلو علق أمرا بالرضاع
لا يتعدى عن الحولين فافهم.
فدلت بالقيد على جواز النقص مطلقا إن لم يرد إتمام الرضاعة، ولكن قال
557

الأصحاب لا يجوز النقص إلا شهرا وشهرين وفي بعض العبارات ثلاثة أيضا ولعل
هذا التحديد بالإجماع أو الروايات، فقول صاحب مجمع البيان: وأما حد القلة
فمنوط بحال الصبي فبأي شئ يعيش يجوز الاقتصار عليه، والكثرة محدودة بالحولين.
محل التأمل، نعم ظاهر الآية تحديد جانب الكثرة كما قلنا لكن الأصحاب جوزوا
الزيادة عليه أيضا بمقدار ما جوزوا النقيصة، فكأنه لما مر أو للضرورة، فلا ينافي
الآية لأن جميع الأحكام مخصوصة ظاهرا بحال الاختيار عقلا ونقلا أو بقوله تعالى
" فإن أرادا فصالا " لما سيجئ.
ودلت أيضا على وجوب النفقة والكسوة على والد الولد، فايجاب أجرة
زيادة على نفقة الزوجية بها بعيد ويمكن حملها عليه حيث قوبلت بالرضاع فتكون
محمولة على أجرة المثل، وكونها في وقت نزولها ذلك غير بعيد، وفي غير ذلك
يكون أجرة المثل يساوي ذلك أو زاد أو نقص، وهذا يكون مخصوصا بما إذا كانت
الولد ممن تجب نفقته على الوالد، بأن يكون فقيرا وأبوه غنيا إذا الظاهر أن ليس
شئ واجب على الوالد إلا النفقة وهي مخصوصة لما قلناه على ما صرحوا به، وإلا
يكون من مال الولد وإن لم يكن له مال فعلى الأم وإلا فمن بيت المال.
" لا تضار " وكأنه تفصيل وبيان للا تكلف أي يكلف كل منهما ما ليس في وسعه
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب لا تضار بالرفع بدلا عن قوله " لا تكلف " كذا قيل
والظاهر أن معناه يغاير معنى لا تكلف ولو ببعض الاحتمالات، وقرأ أكثر القراء
بفتح الراء، وعلى التقديرين يحتمل البناء للفاعل فأصله " يضارر " بكسر الأول
والمفعول فأصله يضارر بفتحه، والمعنى المقصود على التقادير النهي، أي لا تضار
والدة زوجها بسبب ولدها، وهو أن تعنفه به وتطلب منه ما ليس بمعروف وعدل
من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه في شأن الولد وأن تقول بعد ما ألفها الولد
أطلب له ظئرا وما أشبهه ذلك، مثل أن تترك إرضاع الولد فيحصل للولد مرض أو
موت في يد الأجنبية أو لم تفعل ما وجب عليها بعد الإجارة بحيث يحصل الضرر للولد
فيضر الوالد ولا يضار المولود له أيضا امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا مما
558

وجب عليه من رزقها وكسوتها، أو يأخذه منها وهي تريد الارضاع فتتضرر بمفارقة
الولد ونحوه، ولا يكرهها عليه إذا لم ترده فتتضرر بالاكراه.
وقال في مجمع البيان: وروي عن السيدين الباقر والصادق عليهما السلام لا تضار
والدة بأن يترك جماعها خوف الحمل، لأجل ولدها المرتضع، ولا مولود له بولده أي
لا تمنع نفسها من الأب خوف الحمل، فيضر ذلك بالأب، لعل المراد في الأولى
بعد مضي أربعة أشهر، فإنه حينئذ لا يجوز له الترك، وأما قبله فيجوز فلا يكون
منهيا إلا أن يحمل على الكراهة، وقيل مطلق الجماع حال الرضاع يضر المرتضع
تحمل الأم أم لا، رأيت ذلك في قانون الشيخ في الطب ولا يتفاوت الحال بالبناء
للفاعل والمفعول، فإنه يكون نهيا عن أن يلحق بها الضرر من قبل الزوج، وأن
يلحق به الضرر من جهة الزوجة بسبب الولد.
ويجوز أن يكون " تضار " بمعنى تضر، وأن يكون الباء من صلته أي
لا تضر والدة بولدها فلا تسئ غذاءه وتعهده ولا تفرط فيما ينبغي له، ولا تدفعه إلى
الأب بعد ما ألفها، ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها مع الألف والضرر، أو
يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد، وإسناد الولد إليها تارة بقوله ولدها
وإليه أخرى بقوله لولده إشارة إلى الاستعطاف وعدم التقصير في حقه واستعمال
الشفقة.
" وعلى الوارث مثل ذلك " قيل إنه عطف على المولود له الخ وما بينهما اعتراض
لبيان تفسير المعروف، فكأن المعنى وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه، أي
يجب عليه مثل ما وجب على المورث، فعلى الوارث خبر مقدم متعلق بمقدر، ومثل
ذلك مبتدأ، يعني إن مات المولود له لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها
ويكسوها بالمعروف وعدم الضرر، وهذا مشكل لعدم وجوب نفقة الولد على غير
الأبوين، فلا تجب أجرة الرضاع على غيرهما، وهو مذهب الأصحاب والشافعي
فقيل المراد من الوارث هو الولد المرتضع فتجب الأجرة في ماله بأن يعطيه الولي
أو الوصي أو الحاكم أو من ينوبه فيسترضع وهو بعيد عن ظاهر الآية.
559

ويحتمل بعيدا أيضا أن يكون المراد أم المرتضع أي المرضعة يجب على نفسها
حينئذ نفقتها وكسوتها ويحتمل إرادة الجد والجدة أيضا على المذهب أو كانت الأم
المرضعة محتاجة لا تعيش بدون أجرة رضاعها ويحتمل أيضا كونها واجبة على الورثة
في مال الميت بأن كان أوقع الإجارة، ومات من غير أن يسلم تمام الأجرة فتكون الآية
حينئذ دليلا على عدم بطلان الأجرة بموت المؤجر، وقيل المراد وارث الصبي وهو
خلاف الظاهر إذ الظاهر أن المراد من الوارث وارث الميت المشار إليه وأيضا إن الوارث
إنما يقال حقيقة إذا ورث وإطلاقه على من يكون وارثا على تقدير موت الصبي وتخلفه
مالا بعيد، وأيضا ليس بمنطبق على المذهب المتقدم إلا بالتأويل المذكور في الجملة
فلا يحتاج حمله على خلاف الظاهر، إذ يصح حمله على وارث الوالد.
" فإن أرادا " الوالد والوالدة " فصالا " أي قطع الولد من الرضاع قبل
الحولين أو بعده، على الاحتمال كما قاله في الكشاف، فإن الفصال أعم فالحمل
عليه دون ما قبله كما في باقي التفاسير أولى، صادرا " عن تراض منهما وتشاور "
مشتملا على مصلحة الصبي وعدم ضرر به " فلا جناح " ولا إثم " عليهما " فيما فعلا
وحذف للظهور واشتراط رضى الأب مما لا كلام فيه، لأنه ولي اتفاقا وأما الأم
فلأنها أحق بالتربية وهي أعرف بحال الصبي مع كثرة حقها عليه وزيادة شفقتها
له، فناسب اعتبار رضاها، إذا لم يكن قصدها إلا الاصلاح، ولا يبعد حينئذ الرضا
والمشورة من العارفين بحال الصبي فكيف الأم العارفة فكأن في إطلاق التشاور
من غير الإضافة إليهما إشارة إلى ما قلناه فافهم، [و] التشاور والمشاورة والمشورة
استخراج الرأي من شرت العسل إذا أخرجته.
فدلت الآية على جواز النقص والزيادة على الحولين، لكن مع التراضي
والمصلحة، وهو ظاهر، وقاله الأصحاب أيضا، لكن ما ذكروا التراضي وحددوا
بشهر واثنين وثلاثة كأنه للإجماع أو الرواية كما مر.
" وإن أردتم " خطاب للأزواج " أن تسترضعوا " المراضع " أولادكم " أي
لأولادكم فالاسترضاع يتعدى إلى مفعولين حذف أحدهما للاستغناء عنه. وكذا
560

حكم كل مفعولين إذا لم يكن أحدهما هو الآخر " فلا جناح " ولا إثم " عليكم "
في ذلك الاسترضاع " إذا سلمتم " إلى تلك المراضع " ما آتيتم " ما أردتم إعطاءه
إياهن وشرطتم لهن " بالمعروف " متعلق بسلمتم أي بالوجه المتعارف الحسن شرعا
وعقلا فكأنه " إذا " شرط والجزاء محذوف، والتقييد للحث والترغيب على
إعطاء الأجرة، وغاية الاهتمام بإعطاء حقوق الناس أو الاهتمام بتربية الصبي، فإنها
مع الأخذ تصير راضية بالرضاع لحصول النفع فتعمل غاية الجهد كما في المهر، لا لعدم
الجواز والصحة بدونه على ما قالوه، كأنه للإجماع ويحتمل حذف الجزاء من غير
جنس ما تقدم مثل فقد خرجتم عن عهدة الواجب أو برأت ذمتكم ونحوه، فلا يحتاج
إلى هذا التكلف.
" واتقوا الله " مبالغة في المحافظة على ما شرع من أمر الأطفال والمراضع
بل في مطلق الواجبات والمحرمات " واعلموا أن الله بما تعملون بصير " حث
وتهديد وخوف ووعد، فقد ظهر من هذه الآية تأكيدات في أمر الأطفال والمراضع
بل مطلق الأحكام.
الثامنة: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم
في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا
قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا
إن الله غفور حليم (1).
التعريض هو التلويح والإيهام على القصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا
كقول السائل للغني جئتك لأسلم عليك، يريد به الإشارة إلى طلب شئ، والكناية
هي الدلالة على الشئ بغير لفظه الموضوع له، بل بلوازمه كطويل النجاد لطويل
القامة، وكثير الرماد للمضياف، والخطبة بالكسر طلب المرأة للتزويج، فمضمونها

(1) البقرة: 235.
561

نفي الحرج والإثم عن التعريض بطلب المرأة في العدة بالتزويج بعدها، مثل أن يقول
لها أنت جميلة ونافقة وصالحة للتزويج، ونحوها من أوصافها، أو يذكر بعض أوصافه
مثل أنا محتاج إلى التزويج وأنا من قريش ونحوه، فالظاهر إباحة الخطبة تعريضا
لكل من في العدة عدة الوفاة والطلاق فتخصيص القاضي بالمتوفى عنها زوجها مع
كونه قائلا بالجواز في عدة الطلاق أيضا غير سديد لظهور العموم مع انطباقه على
المذهب، وعدم المخصص، وكون الكلام قبله في المتوفى لا يستلزم ذلك مع أن
الترتيب النزولي غير معلوم، نعم ينبغي تخصيصها بغير ذات العدة الرجعية، فإنه
لا يجوز التعريض لها لغير الزوج، فإنها كالزوجة للإجماع.
وكذا لا إثم فيما أكننتم: أي أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم، لا
تصريحا ولا تعريضا أو تذكرونه بقوله سرا من غير جهر فأكننتم عطف على عرضتم وهي
صلة " ما " في " ما عرضتم " و " من خطبة النساء " بيان له " علم الله أنكم " ما تصبرون على
الكتمان بل " ستذكرونهن " لكثرة رغبتكم فاذكروهن " ولكن لا تواعدوهن "
جماعا فعبر عنه بالسر لأنه مما يسر فالمراد المواعدة بما يستهجن مثل عندي جماع
يرضيك أو أجامعك كل ليلة ونحوه " إلا أن تقولوا قولا معروفا " كأن المستثنى
منه، محذوف أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة أو إلا مواعدة بقول
معروف، فسرا حينئذ غير داخل في المستثنى منه، إذ المراد به مطلق المواعدة
منكرة كانت أو معروفة.
وقال القاضي: قيل إنه استثناء منقطع عن " سرا " وهو ضعيف، لأدائه
إلى قولك لا تواعدوهن إلا التعريض وهو غير موعود، يعني أن المراد بالقول
المعروف هو الخطبة تعريضا وليس ذلك موعودا بل مقول في الحال، ويلزم حينئذ
كونه موعودا وهو في الكشاف أيضا وفيه أنه: يحتمل أن يراد بالقول غير الخطبة
تعريضا مثل الوعد بحسن المعاشرة وغيره، بل ينبغي ذلك لفهم حسن الخطبة من
قبل وأيضا لما كان المقصود الحاصل من التعريض هو النكاح بعد العدة وكان ذلك
موعودا فيصح إطلاق الموعود عليه في الجملة على أنه قد يمنع الأداء فإن الحاصل
562

أنه لا تواعدوهن مواعدة سر ولكن تعرضوهن بالقول المعروف بالخطبة، ولا يلزم
كونه موعودا فتأمل
" ولا تعزموا عقدة النكاح " ذكر العزم مبالغة في النهي عن العقد في العدة
مثل النهي عن القرب من الزنا وغيره، أي لا تقصدوا عقدة النكاح كأن المراد بالعقدة
الحالة الثانية بسبب العقد في النكاح بين الزوج والزوجة، وقيل: معناه ولا تقطعوا
عقدة النكاح لأن العزم بمعنى القطع، وجعل في الكشاف سند هذا قوله في الحديث
لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل، وليس بواضح إذ يحتمل العقد والنية كما
قيل، قال: ويروي لا صيام لمن لم يبت الصيام " حتى يبلغ الكتاب " ما في
القرآن " أجله " أي ينقضي العدة الواجبة فيه، أو المراد بالكتاب المكتوب وهو
المفروض.
" واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم " ما تعزمون وما في قلوبكم من العزم
على ما لا يجوز " فاحذروه " أي فابعدوه ولا تفعلوه خوفا أن تعاقبوا، فهو تخويف
وترهيب وإشارة إلى المبالغة في عدم قرب المعاصي كأنه يعاقب بمجرد العزم لا أنه
يعاقب به كما هو الظاهر، لأن المشهور عند الأصحاب أنه لا يعاقب بعزم الحرام
ويثاب بعزم الطاعة وهو من جملة ألطافه تعالى، وإن كان ذلك أيضا محتملا وذهب
إليه السيد السند، ويحتمل أن يكون معنى القول المشهور أنه لا يعاقب بعقاب
الحرام المنوي وإن يعاقب بعقاب العزم بخلاف النية على الطاعة، فإنه يثاب
الناوي بثواب تلك الطاعة، ويؤيده ما روي عنه عليه السلام نية المؤمن خير من عمله، و
في معناه بحث ليس هذا محله، فافهم.
وأيضا يؤيد الأول قوله تعالى " واعلموا أن الله غفور حليم " لعله يدل على
أنه لا يعاقب على العزم لحمله في تأخير العقاب حتى يقع المنهي، أو لكثرة فعل
المغفرة بل في جميع المعاصي فإنه لا يعاقب ولا يكتب، بل ينتظر المسقط والتوبة
كما في الأخبار.
ففيها دلالة على جواز التعريض للخطبة مطلقا وعلى تحريم التصريح في الجملة
563

وعدم حسن ذكر الخطبة في الجملة بقوله " علم الله أنكم ستذكرونهن " وتحريم
عقد النكاح في العدة مطلقا، وأن الله عالم بما في الضمائر، وأنه كثير المغفرة، ولا
يعجل بالعقاب لكثرة الحلم، وعدم خوف الفوت والعجز.
الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون
للطيبات (1).
في مجمع البيان: قيل في معناه أقوال: أحدها أن الخبيثات من الكلم أي
القول والعبارة والكلام للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات
من الكلم، والطيبات من الكلم للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال
للطيبات من الكلم، ألا ترى أنك تسمع الخبيث من الرجل الصالح فتقول غفر الله
لفلان ما هذا من خلقه وكلامه، والثاني الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال
والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من
الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء عن أبي مسلم والجبائي وهو
المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما الصلاة والسلام قالا: هي مثل قوله " الزاني
لا ينكح إلا زانية أو مشركة " (2) الآية لأن أناسا يتزوجون منهن فنهاهم الله
عن ذلك.
" أولئك مبرؤون " أي الطيبون والطيبات منزهون " مما يقولون " من
الكلام الخبيث، هذا يؤيد الأول ويمكن أن يقدر، ومن أن يميلوا إلى
الخبيثات " لهم " أي للرجال والنساء من الطيبين " مغفرة ورزق كريم " عطية من
الله كريمة حسنة في الجنة، بل يمكن في الدنيا أيضا، ففي الآية دلالة على عدم
جواز الكلام الخبيث، وعدم جواز نكاح الزانية لغير الزاني كما تقدم فتأمل.

(1) النور: 26.
(2) النور: 3.
564

يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله
غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله موليكم وهو العليم
الحكيم (1).
المشهور في سبب نزولها أنه صلى الله عليه وآله خلا بمارية جاريته في يوم حفصة أو عائشة
وعلمت بذلك حفصة فقال لها صلى الله عليه وآله اكتمي علي فقد حرمت مارية على نفسي، و
ما كتمتها بل قالت لعائشة فطلقها رسول الله صلى الله عليه وآله واعتزل نساءه تسعا وعشرين ليلة
في بيت مارية.
وروي أن عمر قال لها: لو كان في آل الخطاب خيرا لما طلقك رسول الله صلى الله عليه وآله.
وروي أنه شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة
فقالتا له: إنا نشم منك ريح المغافير، وكان يكره رسول الله ويشق عليه أن يجئ
منه الرائحة الكريهة فحرم العسل كذا في الكشاف وقيل إنه شرب في بيت حفصة
وعلمت عائشة وغارت فأرسلت إلى صواحبها فأخبرتهن وقالت: إذا دخل عليكن
رسول الله صلى الله عليه وآله فقلن إنا نجد منك ريح المغافير، فقالت له عائشة وصواحبها ذلك
فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فحرم على نفسه العسل، فأنزلت الآية.
وفي هذا السبب شئ عظيم لحفصة ولعائشة أعظم حيث كذبت وغدرت وفتنت
وأمرت بهذه المناكير، وحصل الأذى للنبي صلى الله عليه وآله بذلك حتى حرم على نفسه ذلك
واعتزل من النساء ونزلت هذه الآية التي تشعر بتوبيخه صلوات الله عليه مع
معلومية إثم أذاه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله من قوله تعالى: " والذين
يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم " ومن قوله تعالى " إن الذين يؤذون الله ورسوله
لعنهم الله في الدنيا والآخرة " ومن قوله " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات
بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا " (2) وفي الأخبار ما يدل على أن

(1) التحريم 1 و 2.
(2) براءة: 61. الأحزاب: 57 و 58.
565

أذاه أذى الله تعالى.
ويمكن أن يكون معنى الآية الله يعلم أنه صلوات الله عليه وآله لما حصل له
الأذى والندامة وضيق الخلق بسبب الفتنة التي فعلن كما هو عادة النساء على ما
نراها الآن أيضا فأراد منع نفسه عن هذا الأمر الذي هو سبب ذلك وإن كان محبوبا
عنده ومستلذا به إرادة مرضاتهن حتى لا تصير فتنة فقال منعت نفسي عن هذا ولا أرتكبه
أبدا، فقال الله تعالى لم تمنع نفسك عن مشتهياتك بسب مرضات زوجاتك فإن رضاك
وهواك مقدم على رضاهن فافعل ما تريد وإن فعلن هن ما أردن والإثم لهن لا لك
فيكون التحريم بالمعنى اللغوي كما في قوله تعالى " وحرمنا عليه المراضع " أي
منعنا موسى عن ارتضاع امرأة مطلقا إلا أمه حتى رجع إليها.
ونقل في الكشاف عن الشعبي: لم تمتنع منه؟ إلى قوله ونحوه قوله تعالى:
" وحرمنا عليه المراضع " أي منعناه منها، ويحتمل أيضا أن يكون المعنى الشرعي
ويكون صلى الله عليه وآله يعرف حلية ذلك إما بالعقل أو بالوحي، وقد كان مكروها فالله
تعالى ذكر أنك لم تترك هذا المباح وتفعل المكروه لمرضات زوجاتك وهن لا يستحقن
أن تترك لهن ما تحب، وتفعل ما تكره وأكره أنا أيضا ذلك لك، فلا زلة للنبي
صلى الله عليه وآله في هذه الآية بتحريم ما حلل الله كما قال في القاضي حاشاه فإن
مثل ذلك لا يجوزون لأدنى متفقه بل عامي فكيف لأكرم خلق الله وأعزه عند الله
وأعلمهم، بل تحريم ما حلله الله كفر مع العلم، والظاهر أن مع الجهل لا شئ عليه
لكنه منتف هنا، فلا دلالة.
والعجب من الكشاف أنه قال: وكان هذا زلة منه لأنه ليس لأحد أن يحرم
ما أحل الله لأن الله عز وجل إنما أحل ما أحل لحكمة ومصلحة عرفها في إحلاله
فإذا حرم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة، لأن عدم جواز تحريم ما أحله الله ظاهر
ولا يحتاج إلى الدليل ومعلوم انتفاؤه عنه صلى الله عليه وآله.
" والله غفور " لكل مؤمن فيغفر لمن يريد بالعفو أو بالتوبة بأن يوفقه له
و " رحيم " قد يرحم لمن يشاء، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن هذا الذي فعلت
566

لا تؤاخذ به، ولا تنقص بذلك مرتبة من مراتبك التي عند الله، فإنه يغفر الذنوب
ويرحم المذنبين، فكيف يفعل ذلك بك ويؤاخذك بفعل أمر مباح لمرضات أزواجك
ومصلحة رأيتها ودفع الفتنة، فعقب ما يشعر بعتاب ما بهذا، لدفع وهم المتوهم
وتسليته صلوات الله عليه وعلى آله ويحتمل أيضا أنه خطر بباله صلوات الله عليه أن
هذا الفعل يصير سببا لصدور الذنب عنهما فتعاقبان، فأحب أن يترك حظ نفسه
من وقوع الذنب والمعاصي وخلاف مرضات الله لهما فقال الله افعل أنت ما تريد والله
غفور يغفر لمن يشاء ويرحم من يشاء مع المصالح، ويعاقب من يستحق، فافعل
ما هو مباح لك وتشتهيه، وخل المذنب ومن يعصي الله إلي، فإنه عبدي إن أشاء
أعاقب، وإن أشاء أعفو.
" قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " قد شرع وجوز وبين وقدر لكم
حل ما عقدتم على أنفسكم في تحريم ما هو حلال لكم في الأصل من وطي الجوار
وأكل العسل ونحو ذلك مما لكم فيه نفع، ولا ضرر عليكم فيه، سواء وقع عليه
الحلف الشرعي واليمين المقررة لفظا أو مجرد التقرر على نفسه وقصد ذلك، فإن
الحلف في مثله لا ينعقد ولا يحرم خلفه، ولا كفارة بذلك إذ لا حنث حيث لا عقد
ولا يترتب عليه أثره، فوجوده كعدمه، فدل على عدم انعقاد اليمين على مثله
فإنه مرجوح مع اشتراط الرجحان في الدين أو الدنيا أو التساوي في المحلوف عليه
وأنه يجوز خلف اليمين من غير كفارة لو حلف على مثله، مثل وطي الأمة أو
الزوجة كما ذكره الفقهاء وقالوا لو شرط أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى وحلف
عليهما لم يلزم ولم يحنث بالخلف.
وقال في القاضي والكشاف معناه تحلة الأيمان بتجويز الاستثناء يعني يجوز
أن يقيد اليمين بعد الوقوع بأن يقول عقيبها إن شاء الله، حتى لا يحنث من قولك
حلل فلان في يمينه، إذا استثنى فيها أو قد شرع ذلك بالكفارة وهما بعيدان أما
الأول فلأن تجويز حل اليمين بمثله بحيث يجوز خلف اليمين المنعقد ولو بزمان
كثير بعيد، على أنه لم يعلم عدم مشية الله تعالى قبل نزول الآية، ولأنه لا معنى
567

لانعقاد مثل هذا اليمين بعد أن قال " لم تحرم " فإنه يدل على عدم أولوية ذلك
بل مرجوحيته وعدم ترتب الأثر خصوصا على قولهما إنه حرام، وأما الثاني
فللثاني، ولأن ظاهر الآية عدم الكفارة حيث أطلق ولم يقيد بالكفارة، ولأنه
غير معلوم وقوع الكفارة عنه صلى الله عليه وآله ولهذا نقل الخلاف في الكشاف في أنه كفر أم لا.
وقولهما بأن معنى تحلة اليمين الاستثناء يدل على عدم اليمين فلا كفارة، فلم
يعلم وقوع اليمين أيضا على ذلك، ولهذا نقل الخلاف بين الصحابة والفقهاء هل قول
حرمت الأمر الفلاني، إذا كان حلالا، يحرم ذلك أم لا؟ وإذا كان وطئ امرأة
هل هو ظهار أو إيلاء أو طلاق رجعي أم لا شئ، لأن ذلك هو الذي قال صلى الله عليه وآله
بقوله حرمت.
وأصحابنا على أنه ليس بشئ للآية المذكورة، فإنها ظاهرة في أنه ليس
بشئ ولا يترتب عليه شئ، ولهذا منع عن ذلك أو لا ثم أكد عدم لزوم شئ بقوله
" والله غفور رحيم " ثم بقوله " قد فرض الله " أي شرع، فإن ضم هذا إلى الأول
يصير المجموع كالصريح في كون وجوده كعدمه في عدم ترتب الأثر وللآيات الأخر
والأخبار والعقل الدالة على عدم حسن ذلك وترتب الأثر وهو ظاهر، فإن ما
حلله الله لم يخرج عنه إلا بتحريمه نعم يحتمل الإثم بل الكفر لو فعل معتقدا أو عالما
وهو مذهب مسروق كما نقل عنه في الكشاف وقال كان مسروق لا يراه شيئا ويقول
ما أبالي أحرمتها أو قصعة من تريد، وكذلك الشعبي قال ليس بشئ محتجا بقوله
تعالى " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام " وقوله " لا تحرموا
طيبات ما أحل الله لكم " (1) وما لم يحرمه الله فليس لأحد أن يحرمه ولا أن يصير بتحريمه
حراما، ولم يثبت من رسول الله أنه قال لما أحله الله هو حرام علي الخ هذا كلام جيد
جدا لأنه نقل بعد ذلك كلاما غير جيد، إذ قد ذكر مع ذلك الكفارة لليمين
بظهوره من قوله تحلة أيمانكم مع أنه شبه أول الكلام بقوله " وحرمنا عليه المراضع "
وفسره بمنعناه منها، وعملنا بخذ ما صفي، ودع ما كدر.

(1) النحل: 116، المائدة: 87.
568

" والله موليكم " متولي أمركم، " وهو العليم " بما يصلحكم فيشرعه لكم
" الحكيم " المتقن في أحكامه وأفعاله، فما حلل إلا لمصلحة، وما حرم إلا لذلك
ولا يفعله إلا لغرض صحيح، ولا يحل إلا ما هو أصلح لكم، فنصحته لكم أولى
من نصحتكم، وما حلل لكم أولى مما تحرمون على أنفسكم، فلو كان التحريم
مصلحة لحرم.
واعلم أن في تتمة السورة عتابا كثيرا وتعريضا جزيلا بالنسبة إلى من
يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وأن ذلك موجب للتوبة والعقاب بدونها، ولا ينتفع بعد ذلك
القرب من النبي صلى الله عليه وآله ولصوق جلده بجلده، حيث قال " إن تتوبا إلى الله " قال
في الكشاف والقاضي خطاب لحفصة وعائشة على طريق الالتفات للمبالغة في المعاتبة
" فقد صغت قلوبكما " فقد وجد منكما ما يوجب التوبة وهو ميل قلوبكما عن الواجب
في مخالصة الرسول صلى الله عليه وآله من حب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه.
ونقل في الكشاف عن ابن عباس أنه قال: لم أرل حريصا على أن أسأل عمر
عنهما إلى قوله ثم قال أي عمر: هما حفصة وعائشة وفي حرص ابن عباس للسؤال عن
عمر عنهما نكتة فافهمها.
و " إن تظاهرا عليه " في القاضي والكشاف وإن تعاونا عليه بما يسوؤه " فإن
الله هو مولاه " وليه وناصره " وجبريل " من الملائكة مع كونه رأسهم، ولهذا أفرد
" و " من الناس " صالح المؤمنين " قيل: صالح المؤمنين هو جنس من كان مؤمنا
وصالحا، وبرئ من النفاق، قيل: هم الأنبياء وقيل الخلفاء.
قال في القاضي المراد الجنس ولهذا عم بالإضافة قلت هذه الإضافة لا تفيد العموم
في المضاف، وهو ظاهر، نعم لو كان المضاف جمعا أمكن ذلك كما في المعرف باللام
لما قيل إن للإضافة معاني التعريف فتأمل والمتبادر منه أن المراد صالحهم أي الذي
أصلح من كلهم، لأن الإضافة تفيد العموم كما يقال صالح آل فلان وعالمهم، فلا يبعد
كون المراد واحدا منهم يكون أصلحهم وهو علي بن أبي طالب عليه السلام كما ورد في
الأخبار أنه الأقضى والأعلم والأصلح.
569

قال في مجمع البيان: وردت الرواية من طرق العامة والخاصة أن المراد
بصالح المؤمنين أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو قول مجاهد، وفي كتاب شواهد التنزيل
بالاسناد عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر عليه السلام قال لقد عرف رسول الله صلى الله عليه وآله عليا
أصحابه مرتين أما مرة فحيث قال من كنت مولاه فعلي مولاه، وأما الثانية فحيث
نزلت هذه الآية " فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين " أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله
بيد علي عليه السلام وقال: أيها الناس هذا صالح المؤمنين، وقالت أسماء بنت عميس سمعت
النبي صلى الله عليه وآله يقول " وصالح المؤمنين " علي بن أبي طالب.
ولا شك في أنه أصلح المؤمنين، ومن أراد معرفة ذلك فعليه بكتب السير
والأخبار من العامة والخاصة بشرط ترك العناد ونظر المعرفة وترك ما انفردت
به طائفة من نقل ما يدل على ما يقول به فأنا والله ضامن لحصول العلم بذلك، وبأنه
الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله والأحق كما اعترف به ابن أبي الحديد في شرح الخطبة
الشقشقية بعد تصحيح كونه عن أمير المؤمنين عليه السلام من غير شك من أنها تدل على
أنه كان أولى، ووقع ترك الأولى من الصحابة التي أخذوا ذلك منه، وترك الأولى
جايز، وإنما شكا فيها عليه السلام من ترك الأولى لا من المحرم الذي فعله
الصحابة وأنت تعلم ما في هذا الكلام بعد الاعتراف بكونها منه، والعلم بتلك الشكاية
المذكورة فيها، فإن مثل ذلك لا يصدر عن مثله في ترك الأولى الذي وقع من
كبار الصحابة وإسناد بعض الأمور إليهم مثل قوله عليه السلام يخضمون مال الله خضم
الإبل نبتة الربيع، وفعل الأول كذا، والثاني كذا، ثم قام ثالث القوم كذا بطريق
الكناية والتصريح، وذلك ظاهر مع أنه ليس محل ذكر مثله إلا أن النفس ممتلئ
من المتقدمين يترشح من غير اختيار.
ثم أعظم مما ذكر من المعاتبة وعدم رضى الله تعالى من بعض نسائه وما يفعلن
ما يفهم من قوله تعالى " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن " على
تغليب المخاطب وهما عائشة وحفصة أو تعميم الخطاب، ويحتمل التخصيص بهما
فقط، حيث قال في الكشاف والقاضي: إن الكلام كان معهما وهما مخطئة وإطلاق
570

ضمير الجمع على الاثنين كثير " مسلمات مؤمنات " مقرات مخلصات أو منقادات
مصدقات " قانتات " مصليات أو مواظبات على الطاعة، أو مطيعات لله والرسول، أو
خاضعات متذللات لأمر الله ورسوله في العبادات، أو في الصلاة القنوت المتعارف في
الفقه، وقيل ساكتات عن الفضول " تائبات " عن الذنوب " عابدات " متعبدات
ومتذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وآله " سائحات " صائمات سمي الصائم سائحا لأنه يسيح في
النهار بلا زاد " ثيبات وأبكارا " وسط العاطف لتنافيهما وعدم اجتماعهما، بخلاف
سائر الصفات، يعني يجتمع في المبدلات هذه الصفات مع ما يوجد فيهن من البكارة
والثيوبة.
وبالجملة هذه تدل على عدم اتصافهما بهذه الصفات واتصاف غيرهما بها
وإن كان معلقا بطلاق الكل مع عدم وقوعه، مع أنه وقع طلاق حفصة لأنه ليس
المراد تعليق الوجود بل تعليق الانكاح بهن، يعني لو طلقكن يحصل له خير منكن
من الموصوفات بهذه الصفات التي ليست فيكن، وهو المفهوم عرفا ولغة، يعني
لا يتخيل هو ولا يتخيلن أنتن أنه لو طلقكن لم يحصل له مثلكن، بل يحصل له
كذا وكذا، قال في مجمع البيان: وعسى في فعل الله تعالى للوجوب، وقيل في غيره
أيضا وهو ظاهر.
ثم أشار إلى أنه كما يجب عليه أن يؤدب نساءه يجب عليكم كذلك بقوله:
" قوا أنفسكم " بترك المعاصي وفعل الطاعات " و " كذا " أهليكم " بأن تفعلوا ذلك
بالنصح والتأديب بالطريق المذكور في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و
قرئ " أهلوكم " عطفا على فاعل " قوا " و " أنفسكم " يراد به نفس القبيلتين على
تغليب المخاطبين على الغياب، وهم الأهل وفيه تأمل، ويحتمل حذف وليق أهلوكم
" نارا وقودها الناس والحجارة " أي نارا حطبها هما، وتتوقد بهما كتوقد سائر
النار بالحطب، قيل المراد بالحجر حجر الكبريت " عليها ملائكة " تلي أمر تلك النار
الزبانية " غلاظ " الأقوال " شداد " الأفعال أو غلاظ الخلق شداد الخلق، وبالجملة
لا رحم فيهم " لا يعصون الله ما أمرهم " أي يقبلون ذلك ويعتقدون " ويفعلون ما يؤمرون "
571

كأنه لقطع الطمع في أنهم يرحمون ولا يعذبون أهل العذاب، وقتا ما، أو أنهم
وصفهم بأنهم ما عصوا ربهم فيما مضى وما استقبل، وفي هذه الآية توبيخ عظيم وزجر
كثير لمن يترك طاعة الله ويعصيه، ولو بترك أهله.
فدلت على وجوب أمر الأهل ونهيه لسائر العبادات وعن المعاصي كما يدل
عليه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقا، فكأن بالنسبة إلى الأهل
زيادة اعتناء، فدلت على وجوب تعليمهم الواجب والمحرم، وأمرهم بالفعل ونهيهم
عن الترك.
ثم أشار بعدم قبول العذر في القيامة بقوله " لا تعتذروا اليوم " وهو ظاهر، و
أشار إلى وجوب التوبة والعذر في الدنيا بقوله " يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله
توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم " الآية (1) توبة نصوحا
بالغا في النصح، وهو صفة للتائب، فإنه ينصح نفسه، وصف به التوبة للمبالغة، و
تذكيره لكونه فعولا بمعنى الفاعل عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل: قلت
يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال أن يتوب التائب ثم لا يرجع كما لا يعود اللبن
إلى الضرع، قال ابن مسعود: التوبة النصوح هي التي تكفر كل سيئة وهو في
القرآن ثم تلا هذه الآية، وقيل إن التوبة النصوح هي التي يناصح الانسان فيها
نفسه باخلاص الندم، مع العزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح، وقيل: هي
أن يكون العبد نادما على ما مضى مجمعا على أن لا يعود فيه، وقيل، هي الصادقة
وقيل هي أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن، وقيل: هي: المقبولة
ولم تقبل ما لم يكن فيها ثلاث: خوف أن لا يقبل ورجاء أن يقبل وإدمان الطاعة
وقيل هي أن يكون الذنب نصب عينيه، ولا يزال كأنه ينظر إليه، وقيل هي من
النصح بمعنى الخياطة لأن العصيان يمزق الدين والتوبة ترقعه، وقيل: لأنها
جمعت بينه وبين أولياء الله كما جمع الخياط الثوب وألصق بعضه ببعض، وقيل:
لأنها أحكمت طاعته وأوثقها كما أحكم الخياط الثوب وأوثقه.

(1) التحريم: 8.
572

وعن أمير المؤمنين عليه السلام كأنه في نهج البلاغة: أنه لما قال قائل بحضرته
أستغفر الله قال ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار إن للاستغفار درجة العليين وهو اسم
على ستة معان أي يشترط في صحته أشياء أولها الندم على ما مضى والثاني العزم على ترك
العود إليه أبدا والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله وليس عليك
تبعة، الرابع أن تعمد إلى كل فريضة ضيعتها فتؤدي حقها، والخامس أن تعمد
إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ
بينهما لحم جديد السادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند
ذلك تقول أستغفر الله (1).
ومثل هذا المضمون عنه عليه السلام في الكشاف والقاضي وسئل علي رضي الله عنه
عن التوبة، فقال تجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، وللفرائض
الإعادة، ورد الظالم واستحلال الخصوم، وأن يعزم على أن لا يعود، وأن تذيب
نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة
المعاصي، ومنه يفهم الشرائط المذكورة لقبول التوبة في الكتب على ما نقل من
العامة والخاصة، وهو أنه إن كان عن حق الله يكفي ثلاثة أشياء: القلع عن فعل
المعصية، والندم، والعزم على عدم العود، وإن كان عن حقوق الناس يزيد عليها
رابعا هو رد الظلامة على صاحبها وطلب عفوه والابراء منها، والظاهر أنه لا بد من
هذه الأربعة، وأما غيرها التي يفهم من كلامه صلوات الله عليه، فكأنه شروط
للكاملين.
ثم إن ظاهر هذه الآية وسائر الآيات وجوب قبول التوبة على الله بمعنى
سقوط العقاب عن الذنب الذي تاب العبد عنه لأنه وعد القبول " إن الله يقبل التوبة "
" إن الله يحب التوابين " (2) وهذا المضمون أي قبول التوبة وأنه يكفر السيئات
في القرآن كثير، وفي الأخبار أكثر، ومنها ما اشتهر بين العامة والخاصة التائب

(1) راجع نهج البلاغة الرقم 417 من الحكم.
(2) الشورى: 25، (وهو الذي قبل التوبة عن عباده) البقرة: 222.
573

من الذنب كمن لا ذنب له، ويدل على أنها مقبولة إلى أن يعاين الموت أنه وضع
يده صلى الله عليه وآله على حلقه وقال: وإلى هنا، وغير ذلك ويدل حكاية فرعون في القرآن
على ذلك، وقد نقل في مجمع البيان: الاجماع على ذلك في موضعين فما هو في التجريد
من أنه لا يجب القبول على الله كما هو مذهب المعتزلة، ومذكور في مجمع البيان
أيضا في موضع، معناه عدم الوجوب العقلي أي مع قطع النظر عن دليل الشرع لا شئ
في العقل يدل على وجوب القبول على الله، لأن من أساء إلى أحد فللمساء إليه
أن يعفو، وأن يعاقب، كلاهما حسن، إلا أن العفو أحسن.
وقد يقوم الدعاء مقام الاستبراء إذا كان صاحب الحق ميتا أو غائبا عنه، و
تعذر الوصول إليه، وكان الحق هتك عرض بالغيبة مثلا فقد وجد في كتب العامة
والخاصة وزاد في العامة أنه يدعو له كثيرا ويستغفر له، وقد قيل أيضا إذا لم يصل
إليه الغيبة يكفي الدعاء ولا يحتاج إلى الاستبراء بل يكفي الدعاء والتوبة، وقيل
إذا استبرأ فالابراء أولى للآية " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب
المحسنين " (1) وغير ذلك من الآيات والأخبار.
ثم أشار إلى التمثيل بامرأة نوح وامرأة لوط، بأنه لا ينفع أحدا صلاح أحد
حتى حفصة وعائشة وغيرهما صلاح النبي صلى الله عليه وآله كما في امرأتي هذين النبيين
العظيمين، فإن امرأتيهما خانتاهما قال في الكشاف والقاضي: بالنفاق، وقيل بأن
كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس إنه مجنون، وإذا آمن به أحد أخبرت به
الجبابرة من قوم نوح، وكانت امرأة لوط تدل على أضيافه فكان ذلك خيانتهما فما
بغت امرأة نبي فكذا نبينا بالطريق الأولى ولهذا قالوا قطع الله بهذه الآية طمع
من ركب المعصية رجاء أن ينفعه صلاح غيره.
وقال في الكشاف: وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين
في أول السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله بما كرهه، وتحذير لهما على
أغلظ وجه وأشده لما في التمثيل من ذكر الكفر، ونحوه في التغليظ قوله " ومن كفر

(1) آل عمران: 97.
574

فإن الله غني عن العالمين " (1) وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الاخلاص
والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين وأن لا تتكلا على أنهما زوجتا رسول الله صلى الله عليه وآله
فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين، والتعريض بحفصة أرجح
لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله صلى الله عليه وآله.
وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء جدا تدق
عن تفطن العالم، وتزل عن تبصره، ونعم ما قال: ولعل فيه تسلية للنبي وغيره
من المؤمنين، بأنه لا يستبعد حصول امرأة غير صالحة للنبي وغيره ودخلوها النار مع
كون جسدها مباشرة لجسده ووجود الزوجية وهي صريحة في ذلك، والمقصود
واضح فافهم وكذا رجاء من يتقرب بتزويجه وزوجيته صلوات الله عليه وآله ولهذا
كانت أم حبيبة بنت أبي سفيان أخت معاوية أيضا عنده صلوات الله عليه وآله وهي
إحدى زوجاته، وأبوه كان أكبر رؤس الكفار، وصاحب حروبه صلى الله عليه وآله وأخرى
صفية بنت حبي بن أخطب بعد أن أعتقها وقد قتل أبوها على الكفر، وأخرى سودة
بنت زمعة وكان أبوها مشركا ومات عليه، قيل: وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وآله ابنتيه (2)
قبل البعثة بكافرين يعبدان الأصنام أحدهما عتبة بن أبي لهب والآخر أبو العاص
ومات عتبة على الكفر وأسلم أبو العاص، فرد إليه زوجته بالنكاح الأول مع أنه
صلى الله عليه وآله ما كان في حال من الأحوال مواليا للكفار.
وبالجملة لا ينفع صلاح أحد أحدا من حيث هو، نعم يمكن الشفاعة بإذن الله
تعالى ولطفه كما أن معصية أحد لا يضر أحدا كما مثل له بامرأة فرعون " وضرب
الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة "

(1) آل عمران: 134.
(2) قيل هما رقية وزينب كانتا بنتي هالة أخت خديجة ولما مات أبوهما ربيتا في حجر
رسول الله صلى الله عليه وآله فنسبتا إليه كما كانت عادة العرب في نسبة المربى إلى المربي، وهما
اللتان تزوجهما عثمان بعد موت زوجيهما، وكان لهما أخ اسمه هند، قتل مع الحسين عليه السلام
ويقال له ابن خالة الحسين عليه السلام وما كان ابن خالته وكان ابن خالة أمه عليه السلام، هكذا
في كتاب الاستغاثة لابن ميثم، منه رحمه الله، أقول: وفيه كلام.
575

فرفعها الله في الجنة فهي فيها تأكل وتشرب، وقيل إنها أبصرت بيتها في الجنة في
درة " ونجني من فرعون " وعذابها، قيل كان أمر بأن يلقى عليها صخرة عظيمة
فدعت الله وانتزع الله روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه، فلم تجد ألما من
عذاب فرعون، وقيل إنها كانت تربط وتستقبل بالشمس وإذا انصرفوا عنها أطلقها
الملائكة وجعلت ترى بيتها في الجنة " وعمله " أي دينه وقيل جماعة " ونجني من
القوم الظالمين " من أهل مصر أتباع فرعون.
وقد خرجنا في هذا المقام عما نحن فيه في الجملة لأنه باعث على فعل الطاعات
وترك المعصيات وهو المقصود الحقيقي من كل فعل الانسان الذي ينتفع، بل المقصود
من فعل الله تعالى وخلقه.
" فقلت استغفروا ربكم " (1) اطلبوا من الله المغفرة بالتوبة والاستغفار عن الكفر
والعصيان " إنه كان غفارا " كثير المغفرة للمستغفرين التائبين، ولكل من طلب
المغفرة، فيغفر جميع من طلب المغفرة وتاب تفضلا منه وكرما " يرسل السماء
عليكم مدرارا " أي إن استغفرتم يسيل السماء بحسب الرؤية وظاهر الحال أو السحاب
أو المطر إذ قد يطلق عليهما السماء فيحصل عليكم بالمطر سيلا ويكثر ذلك فهو كناية
عن كثرة المطر والغيث فيحصل لذلك خير كثير " ويمددكم بأموال وبنين " أي يكثر
أموالكم وأولادكم الذكور أيضا " ويجعل لكم جنات " أي بساتين أيضا في الدنيا
" ويجعل لكم أنهارا " تسقون بها بساتينكم.
قيل إن قوم نوح عليه السلام كانوا قد قحطوا وهلكت أموالهم لأنه منع منهم الغيث
أربعين سنة، وهلكت أولادهم وصارت نساؤهم لا يلدن، فأراد نوح عليه السلام حصول ما
منعوا منه مما يشتهون، فأمرهم بالاستغفار الموجب لذلك، كأنه علم ذلك نوح عليه السلام
بالهام الله تعالى إياه.
ففيه دلالة على وجوب الاستغفار والتوبة، وحصول فوائد له، وهي كثرة

(1) نوح: 10.
576

المال والولد، ولهذا روي عن الحسن أنه جاء إليه من شكى قلة المال ومن شكى
قلة المطر ومن شكى قلة الولد فأمرهم بالاستغفار، وسئل عن ذلك فقال ما أمرتهم
من نفسي بل من القرآن العزيز، قاله في الكشاف ومجمع البيان، وقال فيه أيضا:
روى علي بن مهزيار عن حماد بن عيسى عن محمد بن يوسف عن أبيه قال سأل رجل
أبا جعفر عليه السلام وأنا عنده فقال له: جعلت فداك أني لكثير المال وليس يولد لي
ولد، فهل من حيلة؟ قال نعم استغفر ربك سنة في آخر الليل مائة مرة. (1)
وقال في الفقيه في باب النكاح في باب الدعاء في طلب الولد قال علي بن الحسين
عليه السلام لبعض أصحابه قل لطلب الولد " رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين
واجعل لي من لدنك وليا يرثني في حياتي ويستغفر لي بعد موتي ولا تجعل للشيطان
فيه نصيبا اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك إنك أنت الغفور الرحيم " سبعين مرة
فإنه من أكثر من هذا القول رزقه الله ما تمنى من مال وولد، ومن خير الدنيا والآخرة
فإن الله تعالى يقول " استغفروا " وذكر الآية (2).
وأيضا قال فيه في الصحيح عن عمر بن يزيد الثقة عن أبي عبد الله عليه السلام أنه
قال من قال في وتره إذا أوتر: أستغفر الله وأتوب إليه سبعين مرة، وواظب على ذلك
حتى تمضي سنة كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار، ووجبت له المغفرة من الله
عز وجل، ولعل المراد (3) أستغفر الله وأتوب إليه كما فهم من الروايات (4).
وأيضا نقل عن صحيح البخاري عن شداد بن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله قال سيد
الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك
ووعدك ما استطعت، أعوذ بك شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك علي وأبوء على
ذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها في النهار موقتا بها فمات
من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها في الليل وهو موقن بها

(1) مجمع البيان ج 9 ص 361.
(2) الفقيه ج 3 ص 304.
(3) يعني في الآية.
(4) الفقيه ج 1 ص 309.
577

فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة عن كتاب النووي.
ثم قال: قلت أبوء بباء بعد الواو وهمزة ممدودة معناه أقر وأعترف، وقال
فيه أيضا ورويناه في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، وفي حديث آخر مائة مرة.
وبالجملة الآيات والأخبار في وجوب الاستغفار وفوائده كثيرة جدا مثل
" واستغفر لذنبك وسبح " " واستغفر لذنبك وللمؤمنين " " للذين اتقوا عند ربهم
جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله " إلى قوله
" والمستغفرين بالأسحار " " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله واستغفروا لذنوبهم
ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة
من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين " " ومن
يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " (1) وغيرها من الآيات
والأخبار من طرق العامة والخاصة مما يدل على وجوب الاستغفار، ووجوب
التوبة ووجوب قبولها على الله بمعنى سقوط الذنب عندها بل بها، وأن لها فوائد شتى
دينا ودنيا فلا يترك وإن لم تكن فيها الفروعات الفقهية المذكورة في الفقه، ولكن
ذكرتها لكثرة فوائدها.

(1) غافر: 55، القتال: 19، آل عمران: 17، الأنفال: 33، آل عمران: 135
النساء: 110، على الترتيب
578

* (النوع الخامس) *
* (في روافع النكاح) *
وهي أقسام:
* (الأول الطلاق) *
وفيه آيات:
الأولى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا
العدة واتقوا الله ربكم ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين
بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا ندري
لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا * فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف
أو فارقوهن بمعروف واشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله (1).
خص النبي صلى الله عليه وآله بالنداء وعم الخطاب لأمته لأنه الرأس، بأنه إذا
أراد هو صلوات الله عليه وأرادوا هم طلاق نسائهم، مثل " إذا قمتم إلى الصلاة "، و " إذا
قرأت " (2) أو من قتل قتيلا فله سلبه، قال في الكشاف منه: كان الماشي إلى الصلاة
والمنتظر لها في حكم المصلي وفيه تأمل فافهم.
" فطلقوهن لعدتهن " أي وقت عدتهن بأن يكون ذلك في وقت الطلاق
وهو الطهر الذي لم يواقعها فيه بالإجماع، والأخبار، قال البيضاوي: لأن اللام
الداخل على الزمان ونحوه للتوقيت، وقال في مجمع البيان: ليعتددن بعد ذلك
وفيه تأمل.
فدلت الآية على أن للطلاق وقتا وهو وقت العدة أي الطهر، فالأقراء التي

(1) الطلاق: 1.
(2) المائدة: 6، النحل: 98.
579

هي لبيان العدة في الآية الأخرى هي الأطهار كما هو مذهب الأصحاب والشافعي
لا الحيض كما هو مذهب أبي حنيفة، وقد تكلف له بأن يكون " قبل " محذوفا، أي
قبل عدتهن وأيده في الكشاف بأنه قرئ في الشواذ قبل عدتهن وأن اللام متعلقة
بمحذوف أي مستقبلات لعدتهن كما يقال توضأ للصلاة والبس السلاح للقاء العدو
وأنت تعلم عدم صحة الاحتجاج بالشواذ وعدم جواز التكلف، والحذف مع عدم
الاحتياج.
ثم إن الظاهر أن النساء عام مخصص بالإجماع والنص بذوات الأقراء
المدخول بهن الحوائل (1) سواء قلنا إنه اسم جمع بمعنى الجمع أو جمع كما قاله في
القاموس، النسوة بالكسر والضم والنسوان والنسون بالكسر جمع المرأة من غير
لفظها، أو اسم جنس كما قاله في الكشاف، لأن الألف واللام في مثل هذا المقام
ظاهر في الاستغراق، فقول صاحب الكشاف إنه لا عموم ثمة ولا خصوص، ولكن
النساء اسم جنس للإناث من الإنس محل التأمل.
وأيضا الظاهر من سوقها أنه لا بد من وقوع الطلاق في وقت خاص صالح
للعدة، وأن ذلك واجب وشرط لصحته، لأنها واردة لبيان تعليم الطلاق
فالظاهر أن المراد الطلاق الصحيح فكأنه قال إذا أردتم الطلاق الصحيح فطلقوهن
وقت الطهر الذي يعتددن بعده في الجملة، لا وقت الحيض ولأنه نقل أنها نزلت
في ابن عمر لما طلق زوجته في الحيض فأمره النبي صلى الله عليه وآله بمراجعتها ثم الطلاق في
الطهر إن أراد (2) ولأن النكاح عصمة ثابتة بالنص والاجماع، وقد علم رفعها بالطلاق
الجايز، ولم يدل دليل على رفعها بالطلاق المحرم المنهي بهما، ويؤيده أخبار أهل
البيت عليهم السلام، وإجماع علمائهم على ذلك، فدلالة الآية على وجوبه في الطهر وشرطيته
وتحريمه في الحيض، وبطلانه بالقرائن والسوق والمؤيدات، فقول الشيخ أبي علي
الطبرسي قدس الله سره بأنها تدل على بطلان الطلاق في الحيض لأن الأمر يقتضي
الايجاب محل التأمل، إلا أن يؤول بما ذكرناه.

(1) يعني غير الحوامل.
(2) مشكاة المصابيح: 283. سنن أبي داود ج 1 ص 504.
580

وقال البيضاوي: وظاهره يدل على أن العدة بالأطهار وأن طلاق المعتدة
بالأقراء ينبغي أن يكون في الطهر، وأنه يحرم في الحيض من حيث إن الأمر
بالشئ يستدعي النهي عن ضده ولا يدل على عدم وقوعه، إذ النهي لا يستلزم الفساد
كيف وقد صح أن ابن عمر لما طلق امرأته حائضا أمره عليه السلام بالرجعة، وهو
سبب نزوله.
وفيه تأمل أما أولا فلأنه ينبغي أن يقول: " يجب " بدل " ينبغي " وكأنه
يريد به ذلك، وهو لا ينبغي وثانيا فإنه لا أمر للوجوب هنا إذ لا يجب الطلاق وثالثا فإن
ذلك فرع دلالة أن الأمر بالشئ يستلزم النهي عن ضده الخاص، وأكثر أصحاب
الشافعية على خلاف ذلك فإن كان مذهبه ذلك وإلا يكون منافيا لمذهبه، فتأمل
كلامه في المنهاج فإنه ظاهر في ذلك، ورابعا فإن الطلاق في الحيض ليس ضد الطلاق
في الطهر.
وخامسا فإن هذه الدلالة بالمفهوم، وبما ذكرناه، إلا أن يتكلف ويقال إنه
واجب بالنسبة إلى القيد، أي لعدتهن، فتدل على الوجوب المستلزم لتحريم
ضده، وفيه مع التكلف تأمل لأنه حينئذ ليس بواجب بالمعنى المقرر بل بمعنى
الشرط فيدل على عدم الوقوع لا التحريم فقط، وهو لا يقول به، أو الوجوب بالشرط
أي يجب الايقاع في الطهر على تقدير الايقاع كما يقال مثل ذلك في الوضوء للصلاة
المندوبة والقبلة وغير ذلك، وهو بعيد عن الوجوب المصطلح الذي يريد دلالته على
تحريم الضد، فإنه لا يترتب استحقاق العقاب ولا الذم على ترك الطلاق في الطهر
بل إنما يتحقق بايقاعه في الحيض وهو ظاهر، وعلى تقدير التسليم فالظاهر أن
دلالته على عدم الانعقاد أظهر من دلالته على التحريم، وأنه بالمفهوم لا بالوجه
الذي ذكره فافهم.
وسادسا فإنه يمكن أن يكون الرجعة في خبر ابن عمر بالمعنى اللغوي لا باصطلاح
الفقهاء لما قاله إنه سبب النزول، فيكون الغرض تعليم الطلاق الصحيح المترتب
عليه أثره.
581

وسابعا فإنه لا ينبغي حينئذ الأمر بالرجعة، إذ لا معنى للأمر بمراجعة امرأة
مطلقة بطلاق صحيح، وقد تحقق المفارقة لأنه فعل حراما وغير جايز، إذ لم يصر
ذلك سببا له، وهو ظاهر بل غير معلوم كونه حراما أيضا لعدم تحقق الحكم إلا بعده
فالظاهر أن الأمر بالرجوع إنما هو لعدم الصحة.
وثامنا فإنه روي في الكشاف أن الأمر بالرجوع لكون وقوع الطلاق
ثلاثا في طهر واحد، وتاسعا فإنه قد يمنع الصحة على وجه يدل على الصحة. وإلا
لم يكن لقول سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين الذين قالوا ببطلان الطلاق
حينئذ على ما نقله عنهم في الكشاف وجه، فعلم عدم الأنفاق على صحة ذلك عندهم.
وعاشرا فإنه على تقدير تسليم دلالة الخبر على الصحة لا يستلزم [عدم] ظ دلالة
الآية ظاهرا على عدمها، ويمكن الاستدلال بها على عدم صحة الطلاق ثلاثا في مجلس
واحد كما فعله في مجمع البيان، لعدم وقوعها إلا في العدة الواحدة وأيده بأخبار
أهل البيت عليهم السلام وأقوال علمائهم، وفيه تأمل يعلم من محله، وللطلاق أحكام وفروعات
مذكورة في محلها فلتطلب هناك.
" وأحصوا العدة " أي واضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كما ورد في آية
أخرى كذا في القاضي والكشاف ويحتمل مطلق العدة المعتبرة بالدليل ليدخل
المسترابة وغيرها " واتقوا الله ربكم " من تطويل العدة والاضرار بهن كذا في
القاضي ويحتمل من فعل الماضي والمنهيات وترك المأمورات مطلقا، أو أحكام العدة
من جانب الرجل بالتطويل والاضرار ومن المرأة بالتقصير والانقضاء بدعوى
خروجها كاذبة لئلا يكون له الرجوع ولتتزوج وغير ذلك " لا تخرجوهن " ظاهره
تحريم إخراجهن على الزوج ما دمن في العدة الرجعية مطلقا، سواء كان برضاهن
أم لا " من بيوتهن " من البيوت التي هن ساكنات فيها وقت الطلاق، سكون إقامة
على وجه يكون مسكنهن عادة كما هو المتبادر " ولا يخرجن " وكذا يحرم عليهن
الخروج مطلقا وإن أذن لهن الزوج لعدم القيد في الآية الشريفة، فذلك حق من
حقوق الله عليهما، وإن كان لكل واحد أيضا حق في ذلك. وفي القاضي أن المحرم
582

هو استبدادهن أما لو اتفقا على الانتقال جاز، إذ الحق لا يعدوهما، وفيه ضعف
واضح لما عرفت من عدم التخصيص في الآية مع التأكيد التام بذكر النهيين معا، و
تأكيده بما بعده وهو ظاهر، ولا يجوز التخصيص في كلامه تعالى وأحكامه المنصوصة
أو الظاهرة إلا بالدليل وما ذكره غير مسلم.
نعم في بعض روايات أصحابنا المعتبرة مثل حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: لا ينبغي للمطلقة أن يخرج إلا بإذن زوجها حتى ينقضي عدتها ثلاثة قروء
أو ثلاثة أشهر، ما يدل على جواز خروجهن بإذن الزوج، ولكن الظاهر أنه ما عمل
بها الأكثر، فلا بد من التأويل، وهو مفهوم من الايضاح، ويفهم من الاستبصار
العمل بها، ولكن الخروج عن الآية مع التأكيد والمبالغة بمثلها مشكل وقال في
الكشاف إنما جمع بين النهيين المشعر بأن لا يأذنوا، وليس لإذنهم أثر، وهو كلام
جيد، نعم إن اضطرت إلى الخروج لحاجة فالظاهر الجواز للحرج والضيق
المنفيين عقلا ونقلا، فكأنه مستثنى، ومع ذلك قيد الأصحاب بالخروج بعد
نصف الليل والرجوع قبل الصبح للرواية، والظاهر أن الغرض دفعها بذلك وإلا
فالظاهر الجواز وقت الضرورة.
" إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " مستثنى عن الأول، أي إلا أن تفعل المرأة
فاحشة ظاهرة أو مظهرة، قيل هي أن تبذوا على الزوج وتؤذيه وتؤذي أهله وحينئذ
يجوز الاخراج بهذا النص، والضرر المنفي عقلا ونقلا، وفي القاضي: فإنه
كالنشوز في اسقاط حقها وفيه تأمل إذ يفهم أن سبب سكناها كونها زوجة غير ناشزة
والظاهر أنه ليس كذلك بل سببه النص وإن لم تكن مستحقة للنفقة لنشوزها بوجه
لا يصدق عليه أنه فاحشة، ولهذا يجب أن تكون في البيت الذي طلقت وهي فيه، و
أنه يجب السكنى وإن كانت باينة، مع عدم استحقاقها للنفقة والسكنى، وهو ظاهر
وهذا المعنى مروي عن أهل البيت عليهم السلام أو أن تزني وتفعل ما يوجب حدها فتخرج
إلى أنه تحد، والظاهر أنها ترجع في الثاني دون الأول ويحتمل الرجوع فيه
أيضا مع العلم بعدم حصول ما حصل أولا، ويحتمل كون الفاحشة مطلق المعصية
583

كما قيل، ويحتمل الاستثناء عن الثاني مبالغة في النهي، يعني لا يجوز لها الخروج
ولا يقع منها إلا أن تفعل فاحشة وهي الخروج قاله في القاضي.
" تلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " إشارة إلى جميع الأحكام
المذكورة، حتى عدم خروج المرأة بإذن زوجها، وظلم الخارج عن حدود الله مطلقا
سواء كانت المذكورة أم لا نفسه باعتبار أنه عرضها للعقاب وسخط الله وغضبه، فهو
يدل على جواز إطلاق الظالم على من فعل معصية ويمكن تخصيصها بكونها
كبيرة، ولكن الظالم له إطلاقات (1) وأفراد والغرض التأكيد والمبالغة في
ترك المنهيات، وفعل المأمورات خصوصا الأحكام المذكورة " لا تدري " أيها النبي
أو لا تدري النفس عواقب الأمور والحوادث " لعل الله يحدث بعد ذلك " الطلاق
" أمرا " رغبة في الرجعة برفع ما يكره من الجانبين، فكأنه إشارة إلى أن الخروج
عن حدود الله تعالى شئ ينكر ويؤذي صاحبه، وموجب للندامة في الدنيا أيضا إذ
قد تحصل الرغبة بالاجتماع، وقد حصل ما لا يمكن ولا يحسن معه ذلك، فالخروج
عن حدود الله موجب للندامة في الدنيا والآخرة والخسران فيهما وهو ظاهر.
" فإذا بلغن أجلهن " أي قربن آخر عدتهن وشارفن على الخلاص منها
" فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف " فيجب إما الامساك بالرجعة بطريق
معروف حسن شرعا بحسن المعاشرة والانفاق الحسن، أو المفارقة بترك الرجعة
وتخلية سبيلها وتركها بطريق حسن جميل، لا باضرار وغيظ وغضب، بمعنى تحريم
جعلها كالمعلقة بأن يطلق ولم يراجع ولم يخبر بالطلاق، ويظهر الزوجية حتى
لا تتزوج أو يراجع فيطلق ثم إذا قرب الخلاص يفعل مثل ذلك للاضرار ونحو ذلك
" وأشهدوا " دليل على وجوب الشهادة لأن الأمر للوجوب كما ثبت في محله، وعلى
اشتراطها لأنه للتعليم، ولأن الظاهر أن من يقول بالوجوب يقول بالاشتراط وإلا
فمجرد الأمر لا يدل على الاشتراط ويدل عليه أخبار أهل البيت وإجماع علمائهم أيضا
والمراد بوجوب الاشهاد إيقاع المشهود به على وجه يعلم الشاهد ذلك لا الاخبار

(1) كما في قوله تعالى: " والكافرون هم الظالمون ".
584

والاعلام أيضا بأنه: اشهدا أني أفعل كذا، وقد صرح فيهما أيضا بذلك.
ثم إن المشهود به هو الطلاق لا الرجعة ولا تركها لهما أيضا، ويؤيده أن
المقصود الأصلي هنا ذكر الطلاق، والباقي من توابعه، فتوسطت تلك بين
أحكامه، وأن الأمر للوجوب، فلا يمكن إرجاعه إلى الرجعة والفرقة كما فعله
في الكشاف والقاضي لعدم القائل بذلك، فإن أبا حنيفة لم يقل بالوجوب أصلا
والشافعي يقول بالوجوب في الرجعة دون الفرقة، وقد صرح به فيهما، بل لا معنى
للاشهاد على ترك الرجعة إلا بتأويل من عدم إيفاء حقوقها التي كانت عنده مثل المهر
والنفقة، فلعل مرادهما بالفرقة هو الطلاق، وإن كان خلاف الظاهر، ولهذا قال
في مجمع البيان قال المفسرون أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي
عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدة، ولا الرجل الطلاق وما ذكر
قولا راجعا إلى الفرقة ورجح ما ذكرناه، لأنه مروي عن أهل البيت عليهم السلام
فعلى قولهما لا بد من الخروج عن ظاهر الأمر، والحمل على الندب على قول أبي
حنيفة وعليهما على قول الشافعي.
على أنه قال القاضي وهو ندب كقوله " وأشهدوا إذا تبايعتم " وعن الشافعي
وجوبه في الرجعة، وقد قال من قبل " وأشهدوا ذوي عدل منكم " على الرجعة أو
الفرقة، وفيه تعمية والغاز لا يفهم للزوم حمل لفظ واحد على معنييه، وهو على تقدير
جوازه مجاز، وإن حمل على الأعم فمجاز أيضا مع الاجمال والألغاز، فإنه لم يفهم
أن المراد مطلق الرجحان فيهما أو في بعض الأفراد الوجوب وفي الآخر الندب، وأن
كلا منهما في أي قسم، وإخراج الآية عن الظاهر، وحملها على مثل هذا مشكل
إلا مع دليل واضح، وليس مجرد القرب والبعد موجبا لذلك، فتأمل.
ويؤيد الوجوب أيضا المبالغة الكثيرة التي وجدت فيما بعد الآية بقوله
" ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا
ويرزقه من حيث لا يحتسب " حيث تدل على أن الاشهاد والإقامة أو جميع الأحكام
المتقدمة كما قال القاضي وغيره يتعظ وينتفع به المؤمن، فيشعر بأن من لم يفعل
585

ذلك ليس بمؤمن ومتق ولم يجعل له مخلصا ومخرجا من كرب الدنيا والآخرة
ولم يرزقه من حيث لا يحتسب أي لم يخلف عليه ولم يعطه من حيث لا يخطر بباله، و
غير ذلك مما قيل في تفسير هذه الآية من النفع الكثير جدا وبالجملة المتقي يجمع
الله تعالى له خير الدنيا والآخرة ويخلصه من مضارهما، وكذا المتكل على الله
حيث أشار به إليه بعده " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " وفيه إشعار بأن المتقي
متكل فافهم.
وروي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال إني لأعلم آية لو أخذ الناس
بها لكفتهم " ومن يتق الله " الآية، فما زال يقرأها ويعيدها وروي أن رجلا أسره
المشركون فأتى أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وذكر له ذلك وشكا إليه الفاقة، فقال له:
اتق الله واصبر وأكثر من قول " لا حول ولا قوة إلا بالله " ففعل الرجل، فبينا
هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل قد غفل عنها العدو فاستاقها، ومثل
هذه المبالغات لا ينبغي في المندوبات.
" وأقيموا الشهادة لله " أمر للشهود بإقامة الشهادة عند الاستشهاد والحاجة لله
لا لغرض آخر مثل رضا المشهود له ومحبته وبغض المشهود عليه، وبالجملة لا بد
من كونها لله كسائر الأعمال والأفعال، لعل فيه إشارة إلى الترغيب على الصدق
في الشهادة، فإنها لله فلا يفعل الكذب والإيقاع على غير ما هي عليه، والظاهر أنه
على تقدير الصدق لو كانت الشهادة مشوبة بأغراض أخر يحصل غرض المشهود له
وتصح دون ما وعد الله على الشهادة للشاهد، بل يمكن العقاب فتأمل، ويفهم اعتبار
القصد من مثل هذه الآية في العبادة لا النية المعتبرة عند الفقهاء فافهم.
وقريب منها الثانية: وهي قوله تعالى:
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن
بمعروف (1).

(1) البقرة: 231.
586

أي إذا طلقتم أيها الأزواج نساءكم فقرب انقضاء عدتهن، والبلوغ هنا بمعنى
القرب، يقال بلغ البلد إذا قرب منه، والأجل آخر المدة " فأمسكوهن " أي
راجعوهن بمعروف عند العقل والشرع مما يتعارف عند الناس أي أمسكوهن على
وجه أباحه الله تعالى من الأخذ على وجه تقومون بمصالحها، وما يجب عليكم من
حقوقها " أو سرحوهن بمعروف " أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيكن
أملكن أنفسهن.
" ولا تمسكوهن ضرارا " أي لا تراجعوهن لا لرغبة فيهن بل لطلب الاضرار
بهن أو مضرين فهو نصب إما على العلة أو على الحال، والضرار بتطويل العدة
كما روي أنه كان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى تقرب انقضاء عدتها، ثم
يراجعها لا عن حاجة، ولكن لتطول العدة فهو الامساك ضرارا " لتعتدوا " أي لتظلموهن
أو لتلجؤهن إلى الافتداء " ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه " بتعريضها لعقاب الله " ولا
تتخذوا آيات الله هزؤا " أي جدوا في الأخذ واعملوا بآيات الله، وارعوها حق الرعاية
وإلا فقد اتخذتموها هزؤا ولعبا ويقال لمن لم يجد في الأمر إنما أنت لاعب " واذكروا
نعمة الله عليكم " بالإسلام وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله " وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة "
من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقهما والعمل بها " يعظكم
به " أي ما أنزل عليكم من الوعظ " واتقوا الله " معاصيه " واعلموا أن الله بكل
شئ عليم " تهديد وتأكيد للوعظ. فدلت على وجوب الرجعة والامساك والمعاشرة
بالمعروف، أو التسريح والترك بالإحسان، وعلى النهي عن الامساك ضرارا تأكيدا
للتحريم، بعد أن علم ضمنا، وعلى أن فاعل العدوان ظالم لنفسه، وعلى تحريم
أخذ آيات الله هزؤا وعدم الجد في فعل الأوامر، وترك المناهي، وعلى وجوب
شكر النعمة، والعمل بالكتاب والسنة، والعلم بأن الله عالم بكل شئ.
الثالثة: " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن
أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم
587

يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا
تعلمون (1).
يعني إذا طلقتم النساء وانقضت عدتهن فلا تمنعوهن عن التزويج، قيل:
المخاطبون هم الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد مضي العدة ولا يتركونهن
يتزوجن عدوانا وقسرا للحمية الجاهلية بقرينة أن الخطاب كان لهم، فيكون منعا
لهم من عضلهم نساءهم، فيكون " أن ينكحن " مجرورا بتقدير " من " وإطلاق الأزواج
على الخطاب باعتبار أن يصيروا كذلك لحصول الرضا [والشرائط] وقيل هم الأولياء
لما روي أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى زوجها باستيناف
عقد، وقيل هما معا، وقيل الناس كلهم بمعنى أن لا يوجد فيما بينكم العضل فإنه
إذا وجد بينهم وهم راضون به، كانوا كالعاضلين، والعضل: الحبس والمنع و
التضييق.
هكذا في التفسيرين، ولا يحتاج إلى ذلك لاحتمال أن يكون الخطاب للناس
بمعنى أن ليس لأحد منع المرأة من التزويج بالكفؤ إذا حصل التراضي بينهما، ولا
يحتاج أن يكون باعتبار عضل الولي أو الزوج ورضا غيره به، وعلى تقدير كون
سبب النزول ما ذكر لا يلزم كون الخطاب للأولياء خاصة لعموم اللفظ، مع عدم
تسليم كون الأخ وليا وليس فيها دلالة عليهما، فعلى التقادير علم عدم دلالتها
على منع الولي المرأة عن الزواج بالكفؤ وعدم استقلالها، وإن قلنا إن الخطاب
للولي، والأخ ولي وسبب النزول حق إذ استقلال المرأة بالتزويج لا يستلزم عدم منع
أحد لها قسرا وجورا وظلما بل الظاهر أنه على ذلك التقدير يعلم أن ليس للولي
منعها بل هي مستقلة.
فقول القاضي: فيكون دليلا على أن المرأة لا تتزوج نفسها إذ لو تمكنت منه
لم يكن لعضل الولي معنى، ضعيف، فلا يبعد أن يستدل بها على عدم جواز منع

(1) البقرة: 232.
588

الولي التزويج بالكفؤ كما يقوله الأصحاب، بل كل من يمنع ذلك بعد حصول
الرضا ولو أراد الأعلى دينا أو دنيا سواء كان قريبا أو لا، فتخصيص الأصحاب بالولي
والاستثناء بقوله " إلا أن يريد الأعلى " غير ظاهر، وعلى تحريم الخطبة بعد الرضا
على الخطبة لأنه منع وعضل، الله يعلم.
" إذا تراضوا بينهم " أي الخطاب والنساء وهو ظرف لأن ينكحن أو لا تعضلوهن
" بالمعروف " أي بما يعرفه الشرع ويستحسنه المروة كأنه صفة مصدر محذوف أي
تراضيا كائنا بمعروف، أو حال عن الضمير المرفوع أي تراضوا عاملين بالمعروف
وفيه دلالة على عدم تحريم العضل إذا لم يكن بالكفؤ.
" ذلك " إشارة إلى جميع ما مضى ذكره، والخطاب للجميع، لكن على تأويل
القبيل أو كل واحد واحد، أو أن الكاف لمجرد الخطاب، والفرق بين الحاضر و
الغائب دون تعيين المخاطبين، أو للرسول على طريقة قوله " يا أيها النبي إذا طلقتم
النساء ".
" يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر " تخصيص الوعظ الذي
هو الزجر والتخويف والتطميع بالمؤمن لأنه المنتفع والمتعظ به " ذلكم " أي
العمل بمقتضى ما ذكر " أزكى " أي أنفع " لكم " وأقوى أي يجعلكم أزكياء " و
أطهر " لقلوبكم من دنس الآثام " والله يعلم " ما فيه من النفع أو المصلحة " وأنتم لا
تعلمون " تأكيد لتصديق الأحكام وإشارة إلى اشتمالها على الحكم والمصالح، فلو
لم يظهر لهم الحكمة لا يجوزون عدمها، لأن الله يعلم وهم لا يعلمون الأمور الخفية
لمصالح جليلة.
الرابعة: المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن
يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر و
بعولتهن أحق بردهن في ذلك أن أرادوا اصلاحا ولهن مثل الذي عليهن
589

بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم (1).
ظاهرها الاخبار عن كل امرأة مفارقة لزوجها بالطلاق بالتربص المدة
المذكورة أو في المدة فثلاثة إما مفعول به أو فيه، ولعل المقصود إيجاب العدة على كل
مطلقة مدخول بها ذات القرء إذ العدة المذكورة مخصوصة بها بالإجماع وغيره، و
النكتة في التعبير عن الأمر بالخبر هو التأكيد والمبالغة بالمسارعة إلى الامتثال فكأنهن
امتثلن الأمر بالتربص، فهو يخبر عنه موجودا ونحوه قولك في الدعاء رحمك الله.
كذا في التفسيرين، ولا يبعد جعلهما مخصوصة بالمطلقات الرجعيات غير
الحاملات أيضا، لأن عدتها وضع الحمل عند الأصحاب لأدلتهم، ولقوله " و
بعولتهن " إذ الظاهر أن تخصيص الضمير يقتضي تخصيص المرجع، وإن كان فيه
خلاف، إذ الضمير عين المرجع ولا معنى لمغايرة أحدهما الآخر إلا بالتكلف، و
ليس كذلك إعادة الظاهر، وإرادة الخاص منه، وهو ظاهر فالقياس عليه غير
جيد كما هو مذهب الشافعي وارتكبه القاضي، بل الظاهر هو الأول كما هو مذهب
بعض المحققين والحنفية، وأيضا وجه التعبير غير ظاهر إذ قد يقتضي ذلك كونه ماضيا
مثل رحمك الله على أن لفظة المسارعة لا تناسب.
وأيضا قول صاحب الكشاف قلت بل اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله
وبعضه، وجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك في جواب قوله، فإن قلت كيف
جازت إرادة المدخول بهن خاصة واللفظ يقتضي العموم، لا يخلو عن مناقشة، إذ
المطلقات عام لا مطلق لأنه جمع معرف باللام، وهو من صيغ العموم، وقد صرح
هو أيضا بذلك مرارا، نعم هو قابل للتخصيص فيخصص بمنفصل كما أشرنا إليه، و
قالوا أيضا في ذكر التربص بأنفسهن إشارة إلى أن العدة والصبر عن التزويج
صعب على النساء فكأنهن يحملن بالقوة والجور أنفسهن على الصبر في تلك المدة
والقروء جمع قرء بالفتح أو الضم ولا شك في إطلاقه على الحيض والطهر إما بالاشتراك

(1) البقرة: 228.
590

أو الحقيقة والمجاز، وأن المراد هنا هو الطهر عند الأصحاب والشافعي وزيد بن
ثابت وعائشة وابن عمر وابن مالك وأهل المدينة إلا سعيد بن المسيب، ولعل دليلهم
نقل الاجماع والأخبار، وإن كان بعضها يدل على أنه الحيض والتأويل والجمع
مذكور في محله.
وقوله تعالى " وطلقوهن لعدتهن " أي وقت عدتهن واللام للتوقيت إذ
ظاهره وجوب وقوع الطلاق في زمان فيه العدة ومعلوم بالإجماع عدم جواز
الطلاق في الحيض، ويبعد حملها على أن يستقبله العدة وإن كان يجئ بعد مدة طويلة
كما حملها عليه صاحب الكشاف ليوافق مذهب الحنفي، ولوجوده بهذا المعنى في
بعض الأخبار مثل دعي الصلاة أيام أقرائك، وليس ذلك دليلا وهو ظاهر ولعل النكتة
في التعبير بالقروء التي هي جمع كثرة دون الأقراء التي هي جمع قلة مع مناسبة جمع
القلة التنبيه على عدم إرادة الحيض حيث جمع بالأقراء القرء الذي يكون المراد
منه الحيض، فتنبه على أن كلا من جمع الكثرة والقلة يستعمل في مقام الآخرة.
وقال القاضي: ولعل الحكم لما عم المطلقات ذوات الأقراء تضمن معنى
الكثرة فحسن بناؤها، وفيه مناقشة إذ لا شك أن المراد الحكم على كل مطلقة
مطلقة بأن عدتها قروء وهو ظاهر، فلا ينفع كثرتهن وهو ظاهر وأن القروء أطلق
على الثلاثة التي أضيفت إليها، وهي تميزها، فليس ما يطلق عليه إلا ثلاثة أقراء فلا
يحسن وجودها في أفراد كثيرة من النساء، ولعل مقصوده أنه إذا جاز الحكم في
كثير من النساء فصار أفراد ثلاثة الأقراء كثيرة فوجد أفراد جمع الكثرة فيه باعتبار
أفراده، فحسن، وفيه تكلف.
" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " يعني يحرم عليهن أن
يسترن، ولا يظهرن ما في بطونهن من الولد والحيض استعجالا للعدة، وإبطالا
لحق الرجعة وأخذا للنفقة، وقيل في هذه دلالة على أن قولها مقبول في ذلك، و
لعل الوجه أنه لو لم يكن كذلك لما حسن الايجاب عليهن وتحريم الكتمان، و
لعله مؤيد بالأخبار والاجماع وعدم لزوم الحرج والضرر المنفيين عقلا ونقلا، و
591

لعسر الاطلاع عليهن غالبا إلا من جهة قولهن، وليس الغرض من التقييد بقوله
" إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر " اشتراط نفي الحل بإيمانهن، بل التنبيه
على أن كمال الايمان يقتضي عدم الكتمان وعدم فعل حرام، وأن المؤمن لا يجترئ
عليه ولا يفعله.
" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " أي أزواج تلك المطلقات أولى في تلك
المدة وزمان التربص بردهن ورجوعهن إلى النكاح والزوجية بغير نكاح مجدد
بل بمجرد الرجوع إما لفظا أو فعلا كما هو المبين في محله، بمعنى أن ليس لأحد
أن يتزوجهن، وليس لهن أيضا أن يتزوجن حينئذ بغيرهم، فليس الرجوع إلا
للأزواج، فأفعل هنا بمعنى أصل الفعل بمعنى هم حقيق بهن دون غيرهم، أو أنهم
أحق بالرد في زمان التربص من التزويج بعده فتأمل، والبعول جمع بعل، والتاء
لتأنيث الجمع كالعمومة جمع عم والخؤولة جمع خال.
وليس الغرض من قوله " إن أرادوا إصلاحا " اشتراط تقييد الأحقية بإرادة
الاصلاح، فإنهم نقلوا الاجماع على صحة الرجوع وإن أرادوا الاضرار بل الإشارة
والتنبيه على أنه لا ينبغي بل لا يجوز الرجوع بقصد الاضرار بل يجب قصد الاصلاح، بل
لا يبعد جعله شرطا لجواز ذلك كما هو الظاهر وإن قلنا بصحته بمعنى عود الزوجية
بناء على الاجماع المنقول، ولا ينفى حصول الإثم وفعل الحرام بذلك القصد والاضرار
كما يظهر في مجمع البيان، فقول القاضي وليس المراد منه شرطية قصد الاصلاح
للرجعة، بل التحريص عليه والمنع من قصد الضرار محل المناقشة، فيؤول إلى
ما قلناه.
" ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " أي ولهن حقوق واجبة على الرجال
مثل حقوقهم عليهن في الوجوب واستحقاق المطالبة بها لا في الجنس، لأن حقوق
النساء على الرجال المهر: والنفقة والكسوة والمسكن والمضاجعة والدخول في
الأوقات المقررة شرعا وترك الضرار كما روي أن الرجل كان يطلق فإذا قرب
خروج العدة فيرجع وهكذا، لئلا تتزوج وتستضر بعدم الزوج، فنهى عن
592

ذلك على ما فهم مما سبق، وحقوق الأزواج عليهن في أنفسهن بأن يبذلن أنفسهن
لهم، ولا يمنعهم ولا يتزين لغيرهم، ولا يخرجن عن البيوت بغير إذنهم، بل ولا يخرجن
عن إذنهم حتى لا يصمن ندبا ولا يحججن كذلك إلا بإذنهم على ما ذكروه.
فهذا معنى قوله: " وللرجال عليهن درجة " فإن حقوقهم عليهن في أنفسهن بهذه
المثابة دون حقوقهن، فحقوقهم زيادة على حقوقهن في الحق أو في الشرف والفضيلة
فإنه من جهة القوام ومتعلق بأنفسهن بخلاف حقوقهن وهنا روايات مشتملة على بيان
حقوق الجانبين مفصلة وزيادة حق الزوج على حق الزوجة حتى وقع في بعضها عنه صلى الله عليه وآله
لو كنت آمر أحدا يسجد لأحد لأمرت المرأة لتسجد لزوجها (1) ومن كثرتها عليها قالت
امرأة بعد أن سمعت عن النبي صلى الله عليه وآله حيث قالت فما لي من الحق عليه مثله؟ قال
لا، ولا من كل مائة واحدة: والذي بعثك بالحق نبيا لا يملك رقبتي رجل أبدا (2) فمنه
ومن أمثاله يعلم معنى قوله " ولهن مثل الذي " ومعنى " للرجال عليهن درجة "
فافهم " والله عزيز " أي قادر على الانتقام ممن خالف الأحكام " حكيم " يشرع الأحكام
بحكم ومصالح ولا يفعل فعلا خاليا عن الحكمة والمصالح لأنه عبث ولغو ولهو، و
الله منزه عن ذلك، علوا كبيرا، وقد علمت مما سبق أن الآية الكريمة مخصوصة
بالمدخول بها للإجماع والأخبار وقوله تعالى " فما لكم عليهن من عدة تعتدونها "
لعلها في غير المدخول بها ولغير ذوات الأحمال، فإن أجلهن أن يضعن حملهن، فلا معنى
لارتكاب النسخ ههنا والقول بأنه نسخ بعضها مع أنه خلاف الاصطلاح ومما لا ضرورة
لارتكابه.
الخامسة: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن
ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن (3).
ولما بين عدة المطلقة البين حيضها بقوله تعالى: " والمطلقات يتربصن

(1) رواه أبو داود وأحمد كما في مشكاة المصابيح ص 283.
(2) الكافي ج 5 ص 511.
(3) الطلاق: 4.
593

بأنفسهن ثلاثة قروء " أراد بيان عدة المطلقة غير البين حيضها لكبر أو صغر أو حمل
غالبا فقال " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم " أي يئسن من الحيض
بحسب الظاهر ولم يتحقق كونه لكبر ووصولها إلى حد يأس منه بالكلية كما تقرر
في الشرع فحصل الشك في ذلك فيجب عليهن أيضا العدة لعدم تحقق الوصول إلى
ذلك الحد للاستصحاب والأصل " فعدتهن ثلاثة أشهر " وكذلك من لم تحض مع
الشك في كون ذلك للصغر الذي لا حيض معه شرعا، هكذا يفهم من الكشاف
ومجمع البيان حيث قدرا هنا إن ارتبتم فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر، وفيه تأمل
لأنه قد تقرر أنه قبل التسع لا حيض بإجماعنا وأخبارنا والأصل عدم الوصول إليه
ويمكن التقييد بمن تجاوز التسع ولم تحض ومثلها تحيض كما فعله الشيخ وغيره
ويفهم من مجمع البيان أيضا فلا يكون المحذوف إلا لفظ كذلك أي عدتهن أيضا
ثلاثة، فحذف الخبر منه لدلالة الأول عليه، عكس -
نحن بما عندنا وأنت بما عند * ك راض والرأي مختلف
فلا عدة على اليائسة والصغيرة
وقيل: معناها أن النساء اللائي يئسن من المحيض وجهلتم عدتهن فعدتهن
ثلاثة أشهر وكذلك من لم تحض فاليائسة والصغيرة مطلقا يجب عليهن العدة مع
الدخول وهي ثلاثة أشهر، وهو مذهب العامة، وبعض الخاصة كالسيد السند، و
ذلك غير بعيد، ولكن يبعد المعنى الذي قيل لقوله " أن ارتبتم " إذ هو بعيد عن معنى
الجهل مع عدم الاحتياج إليه، إذ بيان الأحكام في القرآن العزيز لا يقيد بذلك في
شئ من الأحكام.
وأيضا ينافيه بعض الأخبار مثل صحيحة حماد بن عثمان قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن التي قد يئست من المحيض والتي لا تحيض مثلها قال ليس عليهما
عدة وحسنة محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: في التي قد يئست من
المحيض يطلقها زوجها قال: بانت منه ولا عدة عليها، ومثلها كثيرة وعدم التقييد
ظاهر في المدخول بها وغيرها. ويؤيده حسنة زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال في
594

الصبية التي لا تحيض مثلها والتي قد يئست من المحيض قال ليس عليهما عدة وإن
دخل بهما، ومرسلة جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام في الرجل
يطلق الصبية التي لم تبلغ ولم تحمل مثلها، وقد كان دخل بها والمرأة التي قد
يئست من المحيض وارتفع حيضها ولا تلد مثلها، قال ليس عليهما عدة وإن
دخل بهما.
ولا يضر إرسال مثل جميل في مثلها، وقال في الفقيه وفي رواية جميل أنه
قال في الرجل إلى آخر الرواية، وكأنه نقل بلا واسطة عن أبي عبد الله عليه السلام حيث
تقدم الرواية عنه عليه السلام، ولكن يدل على الثاني أيضا أخبار مثل صحيحة الحلبي
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: عدة المرأة التي لا تحيض والمستحاضة التي لا تطهر، و
الجارية التي قد يئست و [التي] لم تدرك الحيض ثلاثة أشهر وعدة التي لا يستقيم حيضها
ثلاث حيض، متى حاضتها، فقد حلت للأزواج، وضعيفة أبي بصير قال عدة التي
لم يبلغ الحيض ثلاثة أشهر، والتي قد قعدت عن الحيض ثلاثة أشهر (1).
ويرجح الأول بكثرة الأخبار والقائل، قال في التهذيب: والذي ذكرناه
وهو حمل خبر أبي بصير على من يكون مثلها تحيض لأن الله تعالى شرط ذلك وقيده بمن
يرتاب بحالها مذهب معاوية بن حكيم من متقدمي فقهائنا وجمع فقهائنا المتأخرين
وهو مطابق لظاهر القرآن فتأمل فيه.
وبالجمع بين الأدلة وبالأصل وعموم ما يدل على جواز النكاح من النساء
وعمومات الثاني تخصص بأدلة الأول، ورواية أبي بصير ضعيفة وصحيحة الحلبي
تحمل على ما حمله الشيخ على رواية أبي بصير كما تقدم قبيل هذا.
على أنها مشتملة على حكم المستحاضة، والقائل به غير ظاهر، وعلى أن
عدة المسترابة ثلاثة حيض مع أن عدتها أحد الأمرين إما ثلاثة أشهر أو ثلاثة

(1) راجع الكافي ج 6 ص 85، الفقيه ج 3 ص 331، التهذيب ج 2 ص 168 و 269
و 282.
595

أطهار، وفي متنها أيضا شئ فتأمل، وصحتها أيضا غير ظاهرة، لأن في طريقه في
الفقيه أبان بن عثمان، وفيه كلام وإن كان في التهذيب أبان بن تغلب، ولكن غير
معلوم لأنه يبعد نقله عن الحلبي مع كثرة نقل ابن عثمان منه، ولعله لذلك ما قيل
بها، ولكن الاحتياط معه، فلا يترك.
ويؤيد حمل الشيخ رواية محمد بن حكيم عن العبد الصالح عليه السلام قال قلت له
الجارية الشابة التي لا تحيض ومثلها تحمل، طلقها زوجها؟ قال عدتها ثلاثة أشهر
وأما عدة ذات الحمل المذكورة فالظاهر أنها للمطلقة لا مطلقا، والذي يدل عليه
أن الكلام في عدة الطلاق لقوله تعالى " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " والتصريح
بعدة المتوفى عنها زوجها عاما في قوله تعالى " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا
يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " معناه الله أعلم أن عدة كل زوجة كل
زوج توفي عنها أربعة أشهر وعشرة أيام والزوجة الحامل المتوفى عنها زوجها
داخلة فيها بلا شك، وليس بمعلوم دخولها في أولات الأحمال لأن الآية في بيان
حكم المطلقات ولهذا ما كان الخلاف الذي في اللائي يئسن إلا في المطلقات
بالإجماع، ولا علة في الحكم هنا في النص وهو ظاهر، ولا اعتبار بالاستخراج فلا
رجحان هنا بأن هذا معلل، وأن العموم هناك بالذات، وهنا بالعرض لأنه
يحصل من عموم الزوج كما قاله القاضي ولا حجة في الخبر المنقول من طرقهم، و
هو ظاهر لمنع الصحة كيف وقد نقل في الكشاف أن مذهب أمير المؤمنين عليه السلام
وبعض الصحابة أيضا مثل ابن عباس الذي هو وعاء العلم خلاف ذلك، وهو كونها
بأبعد الأجلين في المتوفى عنها زوجها، فتكون هذه مخصوصة بالمطلقة كما هو
مذهب الأصحاب.
ويؤيده إجماعهم وأخبار أهل البيت عليهم السلام، مثل ما في صحيحة زرارة في الفقيه
عن أبي جعفر عليه السلام الحبلى المتوفى عنها زوجها تعتد بأبعد الأجلين الخ وأن تطويل
العدة في المتوفى أولى وهو ظاهر، ولهذا لا خلاف في عدة الوفاة في أحد من الزوجات
وإن كانت رضيعة أو زوجها غير مدخول بها، واليائس وغيرها فعدة الحامل
596

المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين بأخبارهم عليهم السلام وإجماع علمائهم وبالآية إن
تقدم الوضع وإلا فمعلوم أنه لا بد من وضع الحمل، فهذا التخصيص كعدمه لوضوحه
وبالجملة إذا ثبت كونه مذهب أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام كما اعترف به
صاحب الكشاف لم يبق كلام لأن قولهم حجة، وليس هنا محل بيانها فافهم.
السادسة: يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن
من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن
سراحا جميلا (1).
المراد بالنكاح هنا العقد ولعل في " المؤمنات " إشارة إلى عدم جواز نكاح
الكافرات، والمراد بالمس الدخول قبلا ودبرا، فالمعنى، إذا طلقتم الزوجات
قبل الدخول مطلقا ليس لكم عليهن عدة أي يجوز لهن أن يتزوجن في الحال من
غير أن يصبرن ساعة إذ لا عدة لكم عليهن تعتدونها وتستوفون عددها، نعم يثبت
لهن متعة عليكم فيجب أن تمتعوهن بشئ وتفصيله تقدم، وتقدم أيضا أنه يشترط في
المتعة أن لا يسمي لها مهرا وإلا يثبت لهن نصف المهر المسمى فتقيد هذه بما تقدم
ويمكن أن تحمل على العموم وتجعل المتعة راجحة لا واجبة، فتكون مع التسمية
مستحبة ومع عدمها واجبة.
وفيها دلالة على أنه لا عدة مع عدم الدخول سواء تحقق الخلوة أم لا، فليس
للخلوة حكم الدخول في المهر والعدة كما قال به أبو حنيفة، إذ المس هو الدخول
والجماع والوطي، ولا شك أن مع الخلوة التي ما يتحقق معها الدخول يصدق
عليه قبل المس وهو ظاهر.
و " سراحا جميلا " أي تخلية من غير ضرار ولا منع واجب من نفقة وكسوة
ومتعة ومهر وغيرها، إشارة إلى ما نفاه في قوله " ولا تمسكوهن ضرارا " ونحو ذلك

(1) الأحزاب: 49.
597

والجملة لا يجوز الخروج عن الشرع، فيجب إما الامساك بالمعروف أو المفارقة به
من غير قصد إضرار.
السابعة: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن
أربعة أشهر وعشرا (1).
أي أزواج الذين، فالمضاف محذوف للظهور، أو يكون التقدير يتربصن بعدهم
فيكون العائد محذوفا، أو يقال التقدير يتربصن أزواجهم فلا يحتاج إلى العايد
فكأنه مذكور فإن ضمير يتربصن، راجع إلى " أزواجا " والمراد أزواجهم
فالأزواج هنا جمع الزوجة أي الأزواج الذين يموتون ويتركون زوجاتهم فتعتد
زوجاتهم هذه المدة، ويحبسن أنفسهن عن التزويج والتعريض للخطبة وتلك المدة
أربعة أشهر وعشرة أيام، وقيل عشرا لملاحظة الليالي فإنها مؤنثة وعشرة للأيام
وإنما تعتبر هي دون الأيام حتى أنهم لا يقولون صمت عشرة بل عشرا " فإذا بلغن
أجلهن " أي انقضت عدتهن " فلا جناح عليكم " أيها الحكام أو المسلمون " فيما
فعلن في أنفسهن بالمعروف " من التعرض للخطاب بالتزويج بالوجه الذي لا ينكر
شرعا، فيفهم أنهن لو فعلن في أنفسهن ما هو منكر شرعا فعلى الحكام بل الناس
الذين يقدرون على منعهن ويتركونهن يفعلن إثم وجناح، فيجب عليهم منعهن
من باب النهي عن المنكر.
فالآية دلت على وجوب العدة على كل من توفي عنها زوجها وأنها تلك
المدة سواء كانت صغيرة أو كبيرة، مدخولا بها أم لا، مسلمة أو كافرة، حرة أو أمة
حاملا أو حائلا.
وقال القاضي: عموم اللفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابية فيه كما قاله
الشافعي والحرة والأمة كما قاله الأصم والحامل وغيرها، لكن القياس اقتضى
تنصيف المدة للأمة، والاجماع خص الحامل عنه قوله تعالى " وأولات الأحمال

(1) البقرة: 234.
598

أجلهن أن يضعن حملهن " وعن علي عليه السلام وابن عباس أنها تعتد بأقصى الأجلين
احتياطا.
وفيه نظر إذ لا شك في عموم الآية وشمولها بل كلام الشافعي أيضا للأمة
والحرة، وأن القياس، على تقدير صحته في نفسه، غير معلوم صحته هنا، وعلى
تقدير صحته هنا يكون من المستنبطة، فلا يجوز تخصيص القرآن العزيز بها كما
هو مذهب الحق في الأصول، والاجماع المدعى غير معلوم، بل ولا مظنون، كيف
وقد نقل خلافه عن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس ونقله في الكشاف أيضا والآية
لو لم تكن ظاهرة في الطلاق يكون شمولها للحامل المتوفى عنها زوجها كشمول
هذه لها، فالترجيح يحتاج إلى دليل، والعمل بأبعد الأجلين جامع للعمل بهما
وقد نقل عن علي عليه السلام وابن عباس أيضا وهو المختار عند الأصحاب.
ثم إن الظاهر وجوب العدة من حين الوفاة، قال الأصحاب من حين وصول
الخبر إلى الزوجة للأخبار، وكأنه للإجماع أيضا وفي يتربصن أيضا إشارة إليه
حيث معناه حبس النفس على العدة تلك المدة وهو بدون وصول الخبر لا يمكن
ولوجوب الحداد للأخبار، وكأنه للإجماع أيضا وهو ترك الزينة لأجل موت الزوج
وهو إنما يمكن بعده، وهو واجب أيضا في زمان العدة ولعله لا يتحقق أحدهما
بدون الآخر، ولهذا في الطلاق إنما يعتبر حساب العدة من حين الوقوع لا وصول
خبر الطلاق إليها للأخبار، ولحصول الغرض وهو براءة الرحم في الطلاق دون
الوفاة، ولهذا كانت مخصوصة بالمدخول بها غير الآيسة والصغيرة عند الأكثر.
وأما وجوب ترك النقلة عن المنزل على المتوفى عنها زوجها كما قاله في مجمع
البيان أنه واجب عندنا وأنه مذهب ابن عباس أيضا فغير معلوم أنه ذهب إليه أحد
من الأصحاب، نعم واجب عندهم على المطلقة الرجعية فقط، عدم الخروج عن
المنزل الذي طلقت فيه إلا بعد نصف الليل للحاجة، مع الرجوع ليلا، وقد مر
البحث فيه.
وقال فيه. أيضا قيل: معناه لا جناح على النساء ولا عليكم فيما فعلن في أنفسهن
599

من النكاح والزينة التي لا ينكر مثلها وهذا معنى قوله " بالمعروف " وقيل معناه
ما يكون جائرا، وقيل معناه النكاح الحلال والظاهر أن الأول لا يناسب لو لم يكن
المراد ما لا ينكر شرعا، ومع المراد يكون هو الثاني، وأن الأخير أخص
مما قبله.
" والله بما تعملون خبير " أي عليم ففيه ترغيب وترهيب كما هو العادة في
تعقيب أكثر الأحكام للمبالغة والاهتمام بإقامة حدود الله.
وقال في مجمع البيان إن هذه ناسخة لقوله تعالى " والذين يتوفون منكم "
إلى قوله " غير اخراج " (3) وإن كانت متقدمة عليه في التلاوة، ولعل المنافاة باعتبار
وجوب العدة سنة المفهوم من قوله " إلى الحول " كما قاله القاضي وفيه تأمل، وإما
باعتبار وجوب الوصية وامتاعهم وعدم إخراجهم عن بيوت الأزواج إلى الحول فغير
ظاهر وبالجملة إنما يتحقق بعد العلم بتفسيرها وسيجئ إنشاء الله تعالى.
الثامنة: الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان (2).
الطلاق بمعنى التطليق كالسلام والكلام بمعنى التسليم والتكليم، أي
التطليق الرجعي ثنتان فإن الثالثة بائن لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه سئل
عن الثالثة فقال عليه الصلاة والسلام " أو تسريح بإحسان " أو أن التطليق الشرعي
تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، ولم يرد
بالمرتين التثنية بل مطلق التكرير كقوله " ثم ارجع البصر كرتين " (3) أي كرة
بعد كرة لا كرتين فقط، ومثله من الثاني التي يراد بها التكرير قولهم لبيك
وسعديك.
" فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان " تخيير للأزواج بعد أن علمهم كيف
يطلقونهن، بين أن يمسكوا النساء بحسن المعاشرة والقيام بحقهن الواجب عليهم

(1) البقرة: 243.
(2) البقرة: 229.
(3) الملك: 5.
600

وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم، وعلى الثاني معناه فبعد التطليقتين.
فالواجب إمساك المرأة بالرجعة وحسن المعاشرة بالوجه الذي لا ينكر عرفا وشرعا
بل يكون معروفا، أو تسريح بإحسان بأن يطلقها التطليقة الثالثة أو بأن لا يراجعها
حتى تبين منه، وتخرج عن العدة، والامساك هو الأخذ وضده الاطلاق والتسريح
" فامساك " خبر مبتدأ محذوف، و " بمعروف " متعلق به، أو بمقدر صفة له، و
" أو تسريح " عطف عليه و " بإحسان " مثل " بمعروف ".
فعلى الأول يدل على انحصار الطلاق الرجعي في التطليقتين كما هو المقرر
ولكن ما علم كيفية إيقاعهما، فهل تجوز في مجلس واحد مرتين بينهما رجعة
ثم رجعة أخرى؟ فإن طلق ثالثة تصير باينا؟ أو لا بد من إيقاع كل واحدة
في طهر على حدة كما هو مذهب الحنفي أو لا يكفي ذلك أيضا بل لا بد من الرجعة
والوطي أيضا حتى يصح تطليقة أخرى والكل محتمل، وفي بعض الروايات
إشارة إليه، وكأن أكثر الأصحاب على الأول وهو مذهب الشافعي أيضا بل
مذهبه أعم منه، والظاهر صحة الطلاق من غير شرط مع أصل عدم الاشتراط، وصدق
عموم الطلاق مثل الآية المذكورة، وكذا الأخبار دليله والاحتياط في الفروج، و
عدم العلم بصدق الطلاق الشرعي عليه، والاستصحاب حتى يعلم المزيل دليلهما فتأمل.
نعم الظاهر أن اشتراط وقوعه في طهر غير طهر المواقعة دون الحيض، إلا
أن يكون حاملا أو غائبا زوجها غيبة معتبرة عندهم، أو يكون غير مدخول بها
إجماعي.
وعلى الثاني تدل على اشتراط وقوع التطليق منفصلا بأن يقول هي طالق
ثم يرجع، ثم يطلق أخرى ويقول هي طالق وهكذا، لا بأن يرسل في مجلس واحد
اثنين أو ثلاثة أو أكثر إما بأن يقول هي طالق ثلاثا أو هي طالق وطالق وطالق أو يكرر و
هي طالق كما هو مذهب الشافعي فإنه لا يقع عند الأصحاب، ويحتمل الواحدة فقط
عندهم وأما دلالتها على وقوع كل واحدة في طهر غير طهر المواقعة كما هو مذهب
الحنفي وأصحابه على ما ذكره في الكشاف، فليست بواضحة إذ ليس فيها على هذا
601

إلا نفي الارسال إن سلم، وأما كون التطليق الثاني في طهر غير طهر المواقعة وغير طهر
التطليق الأول فبعيد عن الفهم إلا بمعونة الأخبار، وقد ذكر في الكشاف حيث
ابن عمر للدلالة عليه وهو صريح فيه على ما نقله، ولكنه ما ثبت صحته ومعارض
أيضا بما نقله أيضا فيه من الاستدلال الشافعي بخبر العجلاني الدال على طلاق
امرأته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث طلقات في مجلس واحد وهذا لا يدل على صحة
الارسال أيضا لاحتمال وقوع الفاصلة بالرجعتين كما يقوله الأصحاب، والظاهر أن
في أصحابنا من ذهب إلى مذهب الحنفي وفي رواياتهم ما يدل عليه، لكنه لا يخلو
عن قصور متنا أو سندا، ويحتمل التقية والاستحباب.
التاسعة: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن
طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله
يبينها لقوم يعلمون (1).
أي فإن طلق الزوج الزوجة التي طلقها مرتين فلا يحل له تزويجها من بعد
هذا الطلاق، حتى تنكح المرأة زوجا آخر غير المطلق بالنكاح الدائم مع الوطي
قبلا، إما بحمل النكاح على الوطي المتعارف شرعا كما قيل إنه جاء بهذا المعنى
والمتبادر كونه بالعقد الدائم أو أخذ العقد الدائم من " زوجا " بحمله على المتعارف
أو من " فإن طلقها " أو من الأخبار والاجماع وإما بحمله على العقد وأخذ الوطي
من الأخبار والاجماع من غير نظر إلى خلاف ابن المسيب والنكاح يسند إلى الزوجة
كما يسند إلى الزوج.
فإن طلقها الزوج الثاني المحلل فلا إثم ولا حرج على الزوج الأول والزوجة
في أن يرجع كل منهما إلى الزوجية، بأن يعقدا بعقد ومهر جديدين إن ظنا
الاتيان بلوازم الزوجية من حسن الصحبة والمعاشرة، وسائر الأمور الواجبة عليهما

(1) البقرة: 229.
602

فقيد جواز ونكاحهما مرة ثانية بظنهما إقامة حدود الزوجية، فلا يجوز ذلك بدونه
وذلك غير بعيد بمعنى أنه إن تيقنا، ويحتمل إن ظنا أيضا عدم الاتيان بالواجبات
وارتكاب المحرمات لا يجوز لهما ذلك لأنه مستلزم للحرام وإن قلنا بصحة العقد
فإن النهي في غير العبادات لا يستلزم البطلان ويحتمل أن لا يكون العقد أيضا حراما
ويكون التقييد للإشارة إلى تأكيد حسن المعاشرة، وعدم الخروج عن الطاعة، و
عدم حصول نفع الزوجية على تقدير عدم إقامة الحدود، إذ يرجع إلى المفارقة و
يبقى الإثم والعدوان، وبالجملة المفهوم لا يكون حجة هنا لعدم شرط حجيته أو
لدفعه بأقوى منه من الاجماع ونحوه.
فإن شرطية، و " فلا تحل " جزاء و " بعد " مبني على الضم لنية ما أضيف
إليه أي الطلاق و " فلا جناح " جزاء الشرط الثاني و " أن يتراجعا " في محل الخبر
بحذف في و " أن يقيما " في محل النصب مفعول " ظنا " وهو شرط وجزاؤه محذوف
من جنس ما قبله و " يبينها " لا محل له أو صفة للحدود و " تلك حدود الله " إشارة
إلى ما شرعه الله من حقوق الزوجية والطلاق والرجعة والنكاح وأحكامها " يبينها
لقوم يعلمون " أي يذكرها مبينة ظاهرة لأجل العلم والعمل بمقتضاه أو لمن يصح
منهم العلم أو العلماء والفقهاء، لأنهم المنتفعون به دون غيرهم، فخصوا لذلك
بالخطاب أو لأنهم الرؤساء فاكتفي بهم.
فالآية دلت على اشتراط المحلل بعد كل طلاق ثالث كما هو المقرر والمجمع
عليه ظاهرا إلا أن في الدلالة تأملا، إذ الظاهر أن بعد الثالث الذي بعد التطليقتين
الرجعيتين يحتاج إليه على أحد الاحتمالين، فهذا يؤيد الاحتمال الأخير يعني أن
الطلاق المشروع هو الطلاق المفصل الواقع كل واحد بعد الآخرة، سواء كان بعد
خروج العدة والعقد ثانيا أو في العدة بعد العقد أو الرجعة فيها، لا المرسل المجمل
مثل هي طالق ثلاثا أو طالق وطالق كما مر فإذا طلق بعد اثنين منها فلا بد
من المحلل.
ودلت أيضا على أنه لا بد من أن يكون التحليل بالعقد الدائم مع الوطي
603

على بعض ما مر أو الأخبار والسنة، فلا بد من كون الزوجين صالحين شرعا لذلك
وأما كونه بالغا فغير ظاهر الوجه، إلا أن يقال بعدم اعتبار أفعال غيره، وهو محل
المناقشة، نعم في قوله " تنكح " إشارة إلى وقوعه منها، فتكون هي بالغة رشيدة
ولهذا قيل تدل على عدم اعتبار الولي في المبالغة الرشيدة [بكرا وثيبا] لاسناد النكاح
إليها، وصدق النكاح على نكاحها بدون الولي.
وقد يقال إن نكاح الولي نكاحها، وأنه قد يكون في الثيب، وأيضا إذا
ثبت بطلان النكاح بغير إذن الولي تقيد هذه وأيضا لا يمكن الاستدلال به إلا [مجازا]
بعد تحقق حصول شرائط العقد وفيه أن المجاز لا يصار إليه إلا مع العجز، وكذا
التخصيص وظاهرها العموم فتثبت الدلالة في الجملة، وإذا ثبت للمثبت أيضا دليل
فينظر في وجه الجمع، وهذه المسألة جليلة وفيها اختلاف كثير، وأدلة كل من
الأقوال مذكورة في مظانها، وذكرها يحتاج إلى التطويل، وليس هذا محله.
واختلفوا أيضا في النكاح بشرط التحليل فجوزه أبو حنيفة، وقال بصحته، و
قيل لا يصح العقد ولا الشرط، فلا يحل للأول ولا للثاني وهو مذهب الأصحاب
والشافعي لأن الشرط مناف لمقتضى العقد إذ مقتضاه بقاء الزوجية، وعدم وجوب
الطلاق، وعدم صلاحية عقد النكاح للخيار على تقدير عدم فعل الشرط، وعدم
بطلان عقد النكاح الصحيح مع الوطي من دون طلاق وفسخ ثابت شرعا، ومعلوم
استلزام بطلان الشرط لبطلان المشروط.
فلا يمكن الاستدلال على مذهب أبي حنيفة بعموم الآية، مع أن الظاهر أن
المراد من قوله " حتى تنكح زوجا غيره " هو العقد المتلقى من الشارع، وغير معلوم
كونه كذلك مع الشرط وأيضا قد قيل إن الاستدلال بعمومات العقود لا يمكن إلا
بعد ثبوت تحقق شرائطها وفيه تأمل، وأيضا نقل عنه صلى الله عليه وآله أنه لعن المحلل والمحلل
له فكأن المراد هذا المحلل المشترط إذ لا شك في جواز فعلهما، والحمل على الكراهة
مع الشرط أو مع نية التحليل كما هو مذهب البعض بعيد، إذ الظاهر من الشرع
تعليق الأحكام على العقد الواقع ظاهرا بينهما ونية التحليل وخطورة بالبال
604

لا دخل له، بل الظاهر أنه قليلا ما ينفك عنه فهو لا يخلو عن حرج ما الله يعلم.
واعلم أن الأصحاب استدلوا بهذه الآية على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد
لا يقع، لأنه قال " طلاق مرتان " ثم الثالث إما بقوله " أو تسريح بإحسان "
كما مر في الخبر أو بقوله " فإن طلقها " فإن من طلق ثلاثا بلفظ واحد لم يأت
بالمرتين ولا بالثالث، كما في اللعان ورمي الجمار بلا خلاف كذا في مجمع البيان
وفيه تأمل.
* (الثاني) *
* (الخلع والمبارات) *
وفيه آية واحدة أعني قوله تعالى:
ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما
حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت
به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم
الظالمون (1).
قيل: نزلت في ثابت بن قيس وزوجته، حيث كانت تبغضه وهو يحبها وأتت
النبي صلى الله عليه وآله فقالت لا أنا ولا ثابت، لا يجمع رأسي ورأسه شئ، فنزلت فاختلعت
بحديقة كانت صداقها، والخطاب للحكام، ولما كان الأخذ والاعطاء بأمرهم
أسند إليهم، فكأنهم الآخذون والمؤتون، فالمعنى لا يحل لكم أيها الحكام أن
تأمروا بأخذ شئ مما حكمتم على الأزواج بإعطائه أولا من المهور أو لا يحل لكم أن
تأخذوا شيئا مما أخذتم من الأزواج وأعطيتم النساء من مهورهن وتعطوه لأزواجهن
إلا أن يخاف الزوجان من ترك إقامة حدود الله ومواجب الزوجية، لما يحدث من

(1) البقرة: 229.
605

نشوز المرأة وسوء خلقها، ولعل المقصود ظنهما عدم إقامة الحدود، بأن يظهر من
المرأة النشوز والبغض، ولو بقول: لا أغسل لك رأسي من جنابة، والرجل يخاف
حينئذ أن يخرج عن الشرع بمنعها ففاعل " يخافا " هو الزوجان، ويعلم من السوق
و " أن لا يقيما " مفعوله بنزع الخافض وفهم المخاطب لا يخلو عن شئ سيما في
" فإن خفتم " فإنه الحكام أيضا مع أن فاعل " أن يخافا " كان غيرهم.
أي فإن ظننتم أيها الحكام أن لا يقيما أحكام الله من لوازم الزوجية فلا جناح
عليهما فيما تفتدي المرأة أي عوض الطلاق الذي يعطيه الزوج، وتخلص نفسها من
تحت حكمه، فكأنها تخلص نفسها من الملكية أو القتل، حيث تخاف موتها تحته
بغضا وغيظا، أو يقتلها لما فهم بغضها له، أو من المعاصي، أي فلا ذنب على المرأة في
إعطاء عوض الخلع ولا على الرجل في أخذه، وهذا خلاف الظاهر إذ الظاهر نفي
الجناح عن الحكام ولكن نفيه عنهما يستلزم النفي عنهم، ويحتمل كونه للأزواج
في " لكم " و " تأخذوا " و " آتيتموا " وفي " خفتم " للحكام.
وقال في الكشاف ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وهو خلاف الظاهر مع
العدول عن الخطاب إلى الغيبة بقوله " أن يخافا " والحطاب بالخوف إلى الحكام مع
إسناده أولا إلى الزوجين، ويحتمل أن يكون الخطاب في الجميع للأزواج، ولكن
عدل عن خطاب الجمع إلى غيبة التثنية أي يخافا ويقيما، ثم منها إلى الخطاب بقوله
" فإن خفتم " ثم منه أيضا إلى الغيبة في قوله " ألا يقيما " فتأمل.
وبالجملة يعلم من تفسير هذه الآية عدم قصور الانتقال في خطاب واحد و
كلام واحد من ذكر حال شخص إلى آخر، وأن ما نجد غير حسن على سليقتنا
ليس بمعتبر، فلا بعد في كون آية التطهير في شأن من يقوله الأصحاب، ولا تكون
مقصورة على الزوجات كما يدعيه غيرهم، ويقولون خلاف سوق الآية إذ ما قبلها
وما بعدها في الزوجات، سيما على القول بدخولهن أيضا إلا ما أخرجه دليل
خارج.
" تلك حدود الله " إشارة إلى ما حد من الأحكام السابقة من العدة والرجعة
606

والطلاق والخلع وأحكامها أي أوامر الله ونواهيه " فلا تعتدوها " فلا تجاوزوها
بالمخالفة والعمل بخلافها " ومن يتعد حدود الله " فإن من يتجاوزها " فأولئك
هم الظالمون " أي يظلمون أنفسهم بأن يوقعوها في العذاب الشديد من الله تعالى
في الآخرة بل في الدنيا أيضا بالحبس والتعزير والحدود، إذا كان مما يوجبها.
ثم اعلم أن صريح الآية عدم أخذ شئ من مهورهن بل جميع ما أعطين من
المهر والنفقة والعطايا، فدلت على لزوم الهبة للزوجة، وعدم استرجاع الثياب التي
أعطوها للكسوة، وإن بقيت جددا وطلقن، إلا عوض الخلع فتأمل.
ثم إن ظاهرها يفيد جواز الأخذ بحصول خوف عدم إقامة الحدود من الجانبين
فيكون التباغض من الجانبين، وليس ذلك بشرط في الخلع بل في المباراة إلا أن
تحمل على أنه يخاف الزوج من أنها لو خرجت عن موجبات الزوجية والشرع
يخرج هو أيضا ولكن ذلك أيضا غير شرط في الخلع عند الأصحاب كما هو المذكور في
محله، بل الشرط ظهور بغض الزوجة فقط، مثل أن تقول لا أغتسل لك من
جنابة أو لأدخلن على فراشك من تكرهه، وأمثاله فتحمل حينئذ على المبارات لا
الخلع.
ثم إن ظاهرها عدم إثم المرأة أيضا مع أنها آثمة لو لم يكن من جانب
الزوج ما يوجب بغضها من الاخلال بلوازم الزوجية، ويمكن أن يقال إنما نفي
الإثم في إعطاء المهر لتخليص نفسها من الإثم، وهو لا يستلزم عدم تحريم إظهار
الكراهة والخروج عن لوازم الزوجية، وجواز التكلم بمثل ما مر، وذلك الاعطاء
أيضا مشروط بخوفها وظنها أنها ما تقدر على ضبط نفسها فتخرج عن الشرع فلا
يبعد الجواز حينئذ بل الوجوب تخييرا إما الترك أو الاعطاء والخلاص من الذنب
ولما عرفت من نفسها عدم الأول تعين الثاني، بل لا يبعد جواز إعطاء المال لاخراج
النفس عن المشقة لها بالمعاشرة، لأنه غير موافق لها طبعا وعرفا وإن كان موافقا
لها شرعا، فيكون اخراج المال في فراغة النفس ولذتها وتخليصها عن الكراهة
جايزا.
607

قال القاضي: واعلم أن ظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير
كراهة وشقاق، ولا بجميع ما ساق الزوج إليها فضلا عن الزائد، ويؤيد
ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: أيما امرأة سألت زوجها طلاقا في غير بأس فحرام
عليها رائحة الجنة وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لامرأة ثابت بن قيس أتردين
عليه حديقته؟ فقالت أردها وأزيد عليها، فقال عليه السلام أما الزائدة فلا (1) والجمهور
استكرهوه، ولكن نفذوه، فإن المنع عن العقد لا يدل على فساده وأنه يصح بلفظ
المفاداة فإنه سماه افتداء.
وفيه تأمل لأنها تدل على أن الأخذ من المرأة لتخليص نفسها لا يجوز إلا
مع الخوف لا عدم جواز العقد المثمر لذلك إلا مع الكراهة وأيضا معلوم عدم
الجواز من غير شقاق بل وقوعه أيضا في الخارج، إنما كان عليه أن يبين دلالتها على
حصوله من الجانبين أو المرأة فقط أو الرجل وأيضا لا يعلم عدم جوازه بجميع ما ساق
بل تدل على جواز الزائد فضلا عن الجميع لعموم " فيما افتدت به " والأصل عدم
تقييده وتخصيصه بشئ مما آتيتموهن وإن سبق ذلك وهو ظاهر، والحديث الأول
مؤيد لعدم جواز سؤال الطلاق من غير بأس، والحديث الآخر، يدل على جوازه
بجميع ما أخذت منه وعلى نفي الزائد [وهو مجمل] فإن حمل على عدم الجواز فيدل على
عدم إعطاء الزائد، وأما إن حمل على عدم الاحتياج لأنه كان راضيا بغير ذلك وهو
الأولى للأصل والسوق فلا يدل، وعلى تقديره قد يصح العقد ويملكه كما قال
به، وأيضا المنع على تقدير وقوعه وقع عن الجميع والزائد لا عن العقد.
فدل على عدم صلاحيته للعوضية وعدم ملكيته للزوج عوضا عن الطلاق
فلا معنى لصحة العقد كما أن المنع في بعض المعاملات راجع إلى أحد الطرفين مثل
عدم جواز بيع المجهول وحبل الحبلة والحصى وبيع السفيه والطفل والربا وغير
ذلك، ويدل على الفساد وأيضا كون الخلع طلاقا كما قال، والأظهر أنه طلاق
لأنه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض غير ظاهر، ودليله قياس في اللغة

(1) راجع مشكاة المصابيح ص 283، سنن أبي داود ج 1 ص 516.
608

وهو على تقدير صحته لا يصح في اللغة، فالأظهر أنه فسخ إذ الأصل عدم ثبوت
أحكام الطلاق مثل الاحتياج إلى المحلل وتحريم الأبد [ي] وتنصيف المهر وغير ذلك
وعلى تقدير عدم دلالة النهي على الفساد لا يلزم دلالته على الصحة، فلا بد لصحته
من دليل، فإن الآية دلت على صحته حال الشقاق فقط ودلت على تحريم غيره
مع إشعارها بعدم الصحة، فإن الظاهر من حال الشارع عدم ترتيب الأحكام إلا على
ما رضي به، إلا أن ينص على خلافه، فتأمل، وأيضا وقوع الخلع بلفظ المفادات
غير ظاهر، فإن مجرد تسمية إعطاء الزوجة شيئا لتخليص نفسها من قيد الزوجية
لا يقتضي ذلك، وهو ظاهر فتأمل وأنصف.
* (الثالث الظهار) *
وفيه ثلاث آيات (1) هن:
" الذين يظاهرون منكم " أيها المؤمنون " من نسائهم ما هن أمهاتهم " أي
لسن أمهاتهم " إن أمهاتهم " إن نافية " إلا اللائي ولدنهم " فلذلك لم يصيرهن أما
لا حقيقة ولا تشبيها " وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا " قول ذلك وكونهن
كالأم قول منكر تنكره اللغة والعرف والشرع وكذب وباطل " وإن الله لعفو
غفور " يعفو عنهم ويغفر لهم إن تابوا أو تفضلا وإحسانا، والظهار الذي يظاهرون به
النساء ويترتب عليه أحكامه أن يقول الزوج لزوجته أنت على كظهر أمي فمع تحقق
شرائطه التي اعتبرها الفقهاء تحرم عليه إلا بعد الكفارة فإذا أراد العود إليها والدخول
فلا بد من تقديم الكفارة حتى يحل الدخول وإليه أشار بقوله " والذين يظاهرون
من نسائهم " وقيل أي الذين كان عادتهم ذلك في الجاهلية " ثم يعودون " في الاسلام
" لما قالوا " ويأتون بالظهار مثل الأول " فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا " فعليهم
أو الواجب أو يجب تحرير رقبة ثم العود إلى الدخول إن شاء وفيه أنه ليس بشرط كون
ذلك في الجاهلية وأنه لم يفهم حينئذ العود إلى الدخول فيكون معناه الذين يظاهرون

(1) المجادلة 1 - 3.
609

منهن ثم يتداركون ما قالوه لأن المتدارك للأمر عائد إليه، ومنه المثل عاد الغيث
على ما أفسده أي تداركه بالاصلاح والمعنى أنهم يتداركون هذا القول ويصلحونه
بالكفارة حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظهار من التزويج الحلال، أو يراد
بما قالوه ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلا للقول منزلة المقول فيه، و
يكون المعنى ثم يريدون العود للتماس والمماسة أي الاستمتاع بالجماع " ذلكم "
الحكم " توعظون به " لأن الحكم بالكفارة دليل ارتكاب الجناية فيجب أن يتعظوا
بهذا حتى لا يعودوا إلى الظهار فتجب الكفارة أو يخافوا عقاب الله " والله بما تعملون
خبير " وعد بل وعيد.
" فمن لم يجد " الرقبة ولا ثمنها " فصيام شهرين متتابعين " أي فالواجب
عليه ذلك " من قبل أن يتماسا " أي من قبل أن يستمتع كل من المظاهر والمظاهر
منها بالآخر " فمن لم يستطع " ذلك الصيام " فإطعام ستين مسكينا " فالواجب
ذلك، الظاهر أن هذا أيضا قبل المسيس، وترك اكتفاء بما تقدم.
فتدل على عدم صيرورتها أما بالظهار وتحريمه وأن الله يعفو عنه، ووجوب
الكفارة قبل المس بل اشتراط حلها بتمام الكفارة وعدم الكفارة مع عدم العود
فتسقط بالطلاق والمفارقة، وأنها لم تحرم مؤبدا بل تحل بعد الكفارة، و
للظهار أحكام وفروع كثيرة مذكورة في الفروع مثل تحققه بغير الظهر أو بغير الأم
أو بغير لفظ أنت أم لا، وهل لا بد من كون تمام الكفارة قبل المسيس فلو دخل
قبله استأنف أم لا وغير ذلك.
" ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم " أي فرض
ذلك البيان والتعليم للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله في قبول شرائعه، وتلك أحكام
الله لا يجوز تعديها ولمن لا يقبلها عذاب أليم، فهو مثل قوله " ومن كفر فإن الله
غني عن العالمين " (1).

(1) آل عمران: 97.
610

* (الرابع الايلاء) *
وفيه آيتان:
الأولى: للذين يؤلون من نسائهم أربعة أشهر فإن فاؤا فإن الله
غفور رحيم (1).
الثانية: وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (2).
أي الذين يحلفون على عدم وطي نسائهم بالله، وقال في مجمع البيان: أو
بأسمائه المختصة، وهو محل التأمل، وكذا تقييده بقوله على وجه الغضب والاضرار
فإن الظاهر انعقاده مطلقا ما لم يصل في حال الغضب إلى أن يسلب قصده، ولم يكن
القصد دفع ضرر بالوطي عنه أو عنها أو ولدها، فضمن هذا القسم من الحلف معنى
البعد، وعدي بمن، فكأنه يقول: يبعدون من نسائهم مولين ومقسمين.
" تربص " مبتدأ و " للذين " خبره والمعنى للمولي حق التربص، والتلبث
والمهلة في هذه المدة، وابتداء هذه المدة من حين الحكم لا من وقت الايلاء عند
بعض الأصحاب فلا يطالب في هذه المدة بشئ ولا يكلف ولا يحبس، فإن رجع
عن اليمين بالحنث بأن جامع مع القدرة أو فعل فيئة العاجز على تقديره أو عزم
على الوطي حين القدرة، أظهر ذلك للمرأة، فإن الله يغفر له إثم حنثه وخلفه، فإنه
غير مشروع، وذلك أعم من أن يقع في هذه المدة أو بعدها على ما ذكره الأصحاب
فتقييد الكشاف بفي هذه المدة على أنه مذهب الحنفي، وبعدها كما هو مذهب
الشافعي غير سديد.
واعلم أن الظاهر أنه في الحقيقة لا يمين منعقدة هنا، فلا كفارة لها، بل إنما
هي عقوبة للحلف، ولهذا يجب حنثها والكفارة مع الفيئة في المدة عند الأصحاب

(1) البقرة: 226 و 227.
(2) البقرة: 226 و 227.
611

وبعدها أيضا على خلاف، ولو كانت يمينا وكفارة حقيقتين لما كان كذلك وهو
ظاهر، وأيضا هذا اليمين غير مشروعة، وشرط الصحة المشروعية وإن قصدوا
الطلاق وصمموا قصده " فإن الله سميع " يسمع طلاقهم " عليم " يعلم ضميرهم يعني
لا بد من إيقاعه لفظا وقصدا حتى يخلص ففيه إشارة لطيفة إلى اعتبار اللفظ والقصد
في الطلاق فافهم.
ثم اعلم أن ظاهر الآية عدم الكفارة سيما بعد المدة كما هو مذهب بعض
الأصحاب، ولكن نقل الاجماع على وجوب الكفارة في المدة، وأن ابتداء المدة
من حين الايلاء كما هو مذهب بعض الأصحاب أيضا وأن الظاهر عدم انعقاد الايلاء
الذي يترتب عليه حكم الايلاء المشهور في أربعة أشهر وما دون، بل يكون إما دائما
أو مقيدا بأكثر من أربعة أشهر، بحيث يسع الرجوع إلى الحاكم وإلزامه بأحد
الأمرين كما هو مذهب الأصحاب فمذهب الحنفي وهو انعقاده في الأربعة وما
دون كما هو في البيضاوي وأربعة وما فوقه كما هو في الكشاف غير ظاهر.
وأما إذا لم يفعل أحد الأمرين فتطلق الزوجة طلقة واحدة باينة عند الحنفي
وتطلق عند الحاكم عند الشافعي وكلاهما غير واضح الدليل، إذ حل عقد شخص
بغير شئ وبغير رضاه غير جائز حتى يثبت الدليل الذي يصلح لتخصيص الأدلة
العقلية والنقلية ولا يبعد كون دليل الشافعي لا ضرر ولا ضرار ونحوه، ويشكل
جعل مثله دليلا لمثلها مع ثبوت التخيير، ويحبس ويتضيق عليه الطعام والشراب
عند الأصحاب حتى يطلق أو يرجع ويكفر، كما يحبس ويعاقب إذا امتنع عن
سائر الحقوق الواجبة عليه، وإن جوزوا في بعضها تصرف الحاكم، وكأن عدم
تجويزهم هنا بنص أو احتياط في الفروج.
وأما سائر أحكام الايلاء والشروط فيطلب من الكتب الفقهية مثل اشتراط
خلو الايلاء عن الشرط، وكونها منكوحة دائمة ومدخولا بها، وعموم الآية تدل
على العدم إلا الدوام لذكر الطلاق، وكذا يدل على عدم الفرق بين العبد والحر
والحرة والأمة في الانعقاد ومدة التربص وعلى عدم اعتبار البلوغ والعقل والرشد
612

إلا من جهة العقل فإن كلام بعضهم لا اعتبار به، فيعتبر التمييز والعقل ولا يحتاج
إلى الرشد وأما الصبي المميز فلعل الأصحاب صرحوا بعدم اعتبار كلامه لعدم
التكليف فليس ذلك بدليل إذ قد يكون من قبيل الأسباب أو يتوجه التكليف إلى
الأولياء إلا أن ظاهرها تكليف المولي، وأنه يجب عليه الفيئة أو الطلاق، ومعلوم
عدم وجوب شئ عليه وعدم صحة طلاقه عندهم، لكنه يمكن كونه غير بالغ حين
الايلاء وبالغا حين التربص، لكنه بعيد ولعل عندهم إجماعي.
* (الخامس اللعان) *
وفيه آيات أربع هن:
والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة
أحدهم أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله
عليه إن كان من الكاذبين * ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات
بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من
الصادقين (1).
للعان أحكام وشروط مذكورة في محلها وليس هذا محل ذكرها، فلنذكر
معنى الآية وتركيبها، " والذين " مبتدأ و " فشهادة أحدهم " مبتدأ ثان و " أربع "
خبرها، والجملة خبر الأول أي فالشهادة التي تدرء عنه الحد هي أربع فيمكن
أن يكون " فشهادة " فاعلا لفعل مقدر، وهو نحو يدرأ، والجملة الفعلية خبر
" الذين " وعلى تقدير النصب يحتمل أن يكون " فشهادة " مبتدأ أيضا محذوف الخبر
تقديره فشهادة أحدهم أربع شهادات واجب ولازم، ونحو ذلك و " أربع " مفعول

(1) النور: 6 - 9.
613

شهادة فإنها مصدر، وأنفسهم مرفوع بالبدلية من شهداء فإنه في كلام غير موجب
و " الخامسة " مبتدأ و " أن لعنة الله " الخ خبره وهو ظاهر كالباقي.
والمعنى: والذين يرمون أزواجهم لا الأجنبيات فإنها مضت حكمها، بالزنا
إما بالقذف مثل أنت زانية أو زنيت أو بنفي الولد " ولم يكن لهم شهداء " يشهدون
لهم على صحة ما يدعونه أي الشهود الأربع المعتبرة في ثبوت الزنا وإلا يلزم المقذوفة
الحد كما في الأجنبيات، فهذه مخصصة لآية القذف، فإن الزوجة التي قذفها
زوجها وليس عنده الشهود المعتبرة، داخلة فيها كالأجنبيات كلها، لا أنها في
الأجنبيات فقط، وهذه في الزوجات، كما يظهر من مجمع البيان: " إلا أنفسهم "
مبالغة في نفي الشاهد فإن أنفسهم مدعية، فالذي يخلصه من حد القذف وإن
لم يثبت مدعاه هو أربع شهادات بالله، إنه لمن الصادقين بأن يقول أربع مرات
أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، ويقول في المرتبة الخامسة
" أن لعنة الله عليه " كناية، وإلا هو يقول بياء المتكلم أي علي " إن كان من الكاذبين "
فيما رماها به من الزنا، وهو مثل عليه، وإلا يقول إن كنت من الكاذبين فيما رميتها
به من الزنا.
فتقوم هذه الشهادات مقام الشهود الأربع في اسقاط حد القذف عنه، ولهذا
لو لم يفعلها يحد ذلك الحد، ويدفع عن المرأة أيضا أي حد القذف أن تشهد هي
أيضا أربع شهادات بالله أن الرجل الذي قذفها من الكاذبين فيما قذفها به من الزنا
بأن تقول أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وفي المرة الخامسة
تقول أن غضب الله عليها إن كان زوجها من الصادقين فيما رماها به من الزنا، ووجه
الغيبة مر، واختيار الغضب هنا للتغليظ عليها، لأنها أصل الفجور ومنبعه، ولهذا
قدمت في آية الجلد.
ثم من أحكام اللعان التفرقة بينهما، ولا تحل له أبدا وعليها العدة من وقت
اللعان إن كانت من ذواتها وإن كان لنفي الولد ينفي عنه ولا توارث بينهما، ولا
محرمية أي لا نسب بالكلية ويثبت بينه وبين أمه النسب وما يقتضيه، وأما بينه وبين
614

من يتقرب بالأب، ففيه تأمل مذكور في محله، ويمكن ثبوته مع إقرارهم وينبغي
الرجوع إلى محله.
وأما سبب نزول الآية فمشهور مع ما فيه من الحكم بثبوت الزنا وبأن الولد
من الذي زنا بالمشابهة (1) مع أن القيافة باطلة فتركته لذلك.
* (السادس) *
* (من روافع النكاح الارتداد) *
نعوذ بالله منه، وهو قطع الاسلام بقول أو فعل، وقد استدل عليه آيات تحريم
المشركين والمشركات " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " (2) وقد ذكرت في محلها
فتأمل.

(1) راجع مجمع البيان ج 7 ص 138: سنن أبي داود ج 1 ص 520 - 525، الدر المنثور
ج 5 ص 21 وغير ذلك من التفاسير والكتب الفقهية.
(2) الممتحنة: 10.
615

* (كتاب) *
* (المطاعم والمشارب) *
الآيات المتعلقة به على أقسام الأول ما يدل على أصالة إباحة كل ما ينتفع
به خاليا عن مفسدة وهو آيات:
الأولى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا (1).
الثانية: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا
خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (2).
قد مر تفسيرها في المكاسب فتذكر، وأما عجزها أعني قوله تعالى " إنما
يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " معناها ظاهرا بيان
العداوة، وحصر دعاء الشيطان للإنسان في السوء والفحشاء وأنه لا يطلبه إلى الخير، بل
إنما يطلبه إلى المعاصي، والذي يسوء الانسان أي يضره في دينه أو دنياه، وكأنه
شبه تزيينه بأمر الآمر بالسوء والفحشاء كما تقول أمرتني نفسي بكذا، والفحشاء
قيل المراد منها الزنا، وقال البيضاوي: ما أنكره العقل واستقبحه الشرع والعطف
لاختلاف الوصفين لأنه سوء لاغتمام العاقل به والفحشاء لاستقباحه إياه، وقيل
السوء يعم القبائح والفحشاء ما تجاوز الحد في القبح من الكبائر، وقيل الأول ما
لا حد فيه والثاني ما شرع فيه الحد، وأنت تعلم أن كلامه يدل على القبح العقلي مع
أنه أشعري يمنع ذلك، كما هو المبين في الأصولين، وهذا أيضا مما مر.

(1) البقرة: 29.
(2) البقرة: 168.
616

ومعنى " أن تقولوا " الخ أن الشيطان يدعوكم إلى أن تقولوا على الله ما لا
تعلمون، وهو مثل قولكم هذا حلال وهذا حرام بغير علم وتحريمكم على أنفسكم
ما أحله الله، وتحليلكم ما حرمه الله اشتهاء وهواء أنفسكم.
فيفهم منه تحريم القول على الله سواء كان اطلاق الأسماء عليه أو وصفه بصفة
من غير علم، بل لا يبعد تعميم اعتقادهما أيضا أو بيان الأحكام الشرعية بأن يقول
هذا حلال أو حرام أو مكروه أو مندوب أو واجب من غير علم يجوز له ذلك بأن
لا يكون مجتهدا ويقول ذلك من غير أن يكون ناقلا عن الكتب أو المشايخ كما هو
الواقع كثيرا، فيكون ما هو المتداول الآن بين الطلبة حراما إلا أن يكون هناك قرينة
تدل على أنه ناقل، ومع ذلك الاحتياط يقتضي الاجتناب إلا مع تصريح بالاسناد
إليهما.
وأما المجتهد فيجوز له ذلك بشرط بدل الجهد الواجب عليه مع حصول ظن
شرعي له إما لأنه عالم بذلك والظن وقع في الطريق كما بين في الأصول وأشار
القاضي إليه هنا كما سننقله عنه، ولعل وجهه أنه يقول هذا مظنوني مجتهدا
وكل ما هو كذلك فهو واجب العمل، والأولى وجدانية، والثانية إجماعية كذا
في الأصول أو أن المراد بالعلم ما يجوز القول به وإن كان ظنا فيكون العلم أعم
وذلك كثير فلا يبعد جواز اسناد الأحكام إلى الله ونحو ذلك مما مر للمقلد أيضا
إذا أخذ عن شيخه المجتهد مع الشرائط ولكن الاسناد أولى.
قال القاضي: وفيه دليل على المنع من اتباع الظن رأسا، وأما اتباع
المجتهد لما أدى إليه ظن مستند إلى مدرك شرعي فوجوبه قطعي والظن في طريقه
كما بيناه في الكتب الأصولية، وقد ذكرت الوجه الذي بينوه في الأصول بقولي
ولعل وجهه الخ وأنت تعلم أنه لا يكفي الوجه المذكور لاسناد القول إلى الله بأن
يقول إنه واجب أو حرام مثلا، مع أن له أن يقول ذلك وهو المطلوب منه، وهو
العلم بالأحكام الذي هو وظيفة المجتهد، لا أنه واجب العمل لي ولمن يقلدني فينبغي
أن يقال حصل العلم أيضا من تلك المقدمتين، مثل أن يقول هذا مظنوني مجتهدا
617

وكل ما هو كذلك فهو حكم الله في حقي وحق مقلدي.
فحصل العلم بأحكام الله تعالى ولا يحتاج إلى قيد ذلك لظهوره، فيصح له
أن يقول: هذا حكم الله، وهذا حلال، وحرام، ونحو ذلك. نعم ينبغي التقييد مع
أن الظاهر أن أحدا ما منع ذلك، والكتب مشحونة بذلك، فعلم أنه لا بد من الاكتفاء
بالقرائن، فيجوز ذلك للمقلد أيضا للقرينة بل يمكن أن يقال إذا حصل للمقلد أيضا
علم بل ظن يجب عليه اتباعه شرعا مثل أن سمع فتواه من عدل بمذهب شيخه يحصل
له العلم بأن يقول هذا ظن مجتهدي، وكل ما هو ظنه يجب على العمل به، و
الأولى فرضية، والثانية إجماعية، بل فرضية أيضا بل يمكن دعوى العلم أيضا
كما قلناه في المجتهد، فلا فرق، وقد صرح في الأصول كما أشار إليه القاضي أيضا
كما سيجئ أن تقليد المجتهد ليس بتقليد حقيقة، بل مجازا، فإنه قبول قول الغير
بغير دليل وله دليل، بل قالوا لا فرق بين قبول قوله وقول النبي صلى الله عليه وآله فلا يدخل في
الظن المذموم في القرآن والأخبار، فإنه ليس بظن كالمجتهد فلا يحتاج إلى ما
أجيب بأن المراد بالظن المذموم فيها في أصول الكلام لا في الفروع، وما بقي
لايجاب الاجتهاد على كل أحد ونفي التقليد - كما نقل عن البعض لأن التقليد ظن
وهو مذموم، بل هو منهي - معنى فتأمل.
فلا يحرم على المقلد بيان المسائل مثل أن يقول: هذا حرام، ولهذا نجده
متداولا بين الناس العامة والخاصة من غير نكير، ففي منع غير المجتهد من قول
هذا حرام أو واجب وباطل وصحيح وحسن ما لا يخفى إذ قد يكون مقلدا وله ذلك
بالوجوه التي ذكرناها في المجتهد بعينها، فافهم.
وأن في قول القاضي: فيه دليل الخ تأملا فإنه لا يدل على ذلك، إذ لا يلزم
من نهي القول على الله من غير علم إلا عدم جواز القول على الله من غير علم لا غيره
حتى القول على الغير جهلا فما ظنك بالظن وأيضا يفهم من كلامه عدم جواز
العمل بالظن للمقلد أيضا مع أنه ليس ذلك عنده أيضا إلا أن يقول ذلك أيضا ليس
بظن بل الظن في الطريق كما قلناه، ولكن بعيد من كلامه حيث ما ذكره مع خفائه
618

وذكر ما هو ظاهر ومذكور في الكتب إلا أن يقال: وهو داخل في اتباع ظن المجتهد
فتأمل فيه، أو يقال إن ذلك خرج بالدليل اليقيني من إجماع ونحوه مما ثبت اعتباره
بالدليل اليقيني وإلا يمنع جواز العمل بذلك الظن، وهو أيضا بعيد، إذ كثير
من المسائل الأصولية إنما تثبت بالظن كما يظهر لمن تتبع فقد تكون هذه كذلك
إلا أن يقال وجوب اتباع الظن الشرعي اليقيني بالعقل والنقل، كما قيل ذلك في
اتباع ظاهر القرآن والخبر المتواتر فتأمل، ويحتمل أن يكون مراده بالمنع
من اتباع الظن رأسا في القول على الله وهو بعيد جدا، بل لا تسع العبارة ذلك
فتأمل.
ثم اعلم أيضا أنه قال في قوله تعالى: " أو لو كان آبائهم لا يعقلون شيئا ولا
يهتدون " دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد، وأما اتباع
الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام فهو في
الحقيقة ليس بتقليد، بل اتباع لما أنزل الله تعالى بعد أن قال: الواو للحال أو العطف
والهمزة للرد، وأنت تعلم أنه يفوت المعنى الوصلي الذي فيه المبالغة فتأمل فيه
والمعطوف عليه غير ظاهر فيقدر.
وفي الكشاف أيضا جعله للحال وفي المطول للعطف وأيضا أنه على تقدير الحالية
لا دليل فيه أصلا فإن معناه ذم اتباع الآباء حين عدم العقل وعدم الاهتداء وهو لا يستلزم
عدم جواز تقليد من كان ذا عقل واهتداء أيضا بل لا دلالة فيها إلا على تحريم ترك
ما أنزل الله واتباع الآباء لا على تحريم التقليد مطلقا لمن قدر على الاجتهاد فقط
فتأمل.
وأيضا لا يكفي في الاتباع مجرد كون المتبع محقا بل لا بد من دليل على
الاتباع حتى يخرج من التقليد المذموم، ويدخل في اتباع الدليل كما أشرنا
إليه سابقا فتأمل.
وأيضا جواز تقليد من قدر على الاجتهاد لمن هو محق ومتبع لما أنزل الله
غير ظاهر إذ لا يجوز للمجتهد أن يقلد آخر كما بين في الأصول فلا ينبغي تجويز
619

ذلك وكأنه أيضا لا يجوزه كما يدل عليه قوله من قبل " دليل على المنع من التقليد
لمن قدر على النظر والاجتهاد " لكن ظاهر كلامه الأخير أن اتباع المجتهد مطلقا
ليس بتقليد فتأمل.
وبالجملة الظاهر عدم جواز ذلك إذ معلوم أن الظن الحاصل بالاجتهاد أقوى
مما يحصل بالتقليد، مع ورود المنع من اتباع الظن والتقليد في القرآن كثيرا
ظاهرا كما اطلعت عليه، وستطلع إنشاء الله تعالى وإن أمكن تأويله كما مر.
ووجود الدليل عليه ظاهر إذ لا إجماع فيه، وهو عمدة دليل جواز تقليدهم
ولا حرج ولا ضيق المنفيين عقلا ونقلا، ولهذا اختلف في الأصول في أصل جواز
التقليد ثم في مادة من يعرف صحة الدليل وفسادها هل يجوز له التقليد من غير
ذكر دليل عنده والمنع هنا غير بعيد، وهو ظاهر عند من تأمل في أدلة جواز التقليد
مطلقا وعدمه وتأمل في كلام المجتهدين ورأي الخبط والخلط والوهم والسهو
في كلامهم كما هو شأن الانسان الغير المعصوم في المسائل الظنية، ولولا الضرر و
الحرج لكان عدم جوازه مطلقا أوجه، لكن الظاهر أنه ضرر عظيم، وحرج وضيق
منفي عقلا ونقلا بل غير مقدور لأكثر الناس فتأمل.
الثالثة: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله
إن كنتم إياه تعبدون (1).
مضمون أولها قريب مما تقدم إلا أنها خاصة باعتبار المخاطب وعامة
باعتبار ما يتعلق به الأكل، فإنها تشمل غير ما يخرج من الأرض أيضا والأمر
للترغيب أو لإباحة أكل ما يستلذه المؤمنون ويستطيبونه ويعدونه طيبا، لا خبيثا
ينفر عنه الطبع ويجزم العقل بقبح أكله مثل الدم والبول والمني والحشرات وغيرها
فيفهم منه كونه ظاهرا أيضا إذ النجس خبيث وليس مما يعدونه طيبا، فهو في الدلالة
على إباحة أكل جميع ما يعده العقل طيبا ولا يجد فيه ضررا ولا نجاسة ولا خبثا مما يسمى

(1) البقرة: 172.
620

رزقا لبني آدم ينتفع به في الأكل، أصرح مما تقدمها ففهم كون الأشياء على
أصل الحلية منها أولى، وقال ذلك في مجمع البيان فيما تقدمها، ولو ذكر هنا
لكان أولى، ومضمون الباقي تعليق وجوب الشكر لله على عبادتهم إياه.
قال في مجمع البيان: وتلخيص الكلام إن كانت العبادة واجبة عليكم لأنه
إلهكم فالشكر له أيضا واجب عليكم بأنه منعم محسن إليكم، حاصلة كما أن العبادة
له واجبة فالشكر أيضا كذلك فيفهم وجوب الشكر مطلقا كوجوب العبادة، وقال
فيه أيضا: الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من تعظيم المنعم فهو على وجهين
أحدهما الاعتراف بالنعمة متى ذكر المنعم بالاعتقاد، والثاني الطاعة بحسب جلالة
النعمة، فالأول لازم على كل حال من أحوال الذكر، والثاني يلزم في الحال
التي يحتاج فيها إلى القيام بالحق، وأما العبادة فهي ضرب من الشكر إلا
أنه غاية فيه ليس وراءها شكر، ويعنون بها ضربا من الخشوع ولا يستحق العبادة
إلا الله لأنه منعم بأصول النعم مثل الحياة والقدرة والشهوة وأنواع المنافع ولا
يوازيها نعمة.
الرابعة: وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا (1).
أي لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله ولا تجتنبوا ذلك تنزها بل كلوا ما
أحل الله ورزقكم، فإن جميع ما رزقكم الله حلال وطيب لذيذ فحلال حال مبينة
لا مقيدة وكذلك طيبا، وهو يحتمل التقييد، ويكون سبب التقييد ما في ما قبله
" لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " حيث نهى هناك عن تحريم طيبات ما أحل الله
لكم أي ما طاب ولذ منه، فإنه قيل الظاهر أن قيد " طيبات ما أحل الله " للوقوع
وأنه محلل للتحريم، وإلا جعل جميع ما أحل الله حراما منهي، ويحتمل كون
الإضافة بيانية أيضا.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه وصف يوم القيامة لأصحابه يوما وبالغ في إنذارهم

(1) المائدة: 89.
621

فرقوا فاجتمعت جماعة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون واتفقوا على أن لا يزالوا
صائمين قائمين، وأن لا يأكلوا اللحم ولا يناموا على الفراش، ولا يقربوا النساء والطيب
ويرفضوا لذات الدنيا ويلبسوا المسوح أي الصوف ويسيحوا في الأرض أي يسيروا
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك فقال لهم: إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا
فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم
وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، والرواية مشهورة.
أو لأن النفس إليه أميل فلا دلالة في الآية على أن الرزق قد يكون حلالا وقد
يكون حراما فالحرام يكون أيضا رزقا كما هو معتقد الجهال والعوام الذين يأكلون
أموال الناس ويقولون هذا رزقنا الله، وهو مقتضى مذهب الأشاعرة وإليه أشار القاضي
بأنه لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فايدة زائدة، وهو خيال باطل
إذ ما يحتاج ذكر كل شئ إلى فائدة زايدة مع وجودها، وهي هنا الإشارة إلى عدم
معقولية المنع، بأن ذلك حلال رزقكم الله، فلا معنى للتحريم والمنع.
وبالجملة القيد قد يكون للكشف والبيان، وقد يكون للإشارة إلى بيان
عدم معقولية الاجتناب، وأن ذلك الوصف هو الباعث لمذمة التارك وقد يكون لغير
ذلك وهنا يكفي الأولان.
فالآية دلت على عدم جواز التجاوز عن حدود الله والتشريع، وعدم حسن
الاجتناب عما أحل الله، ويحتمل أن يكون باعتقاد التحريم أو المرجوحية، فلا
ينافي الترك للتزهد، ولئلا يصير سببا للنوم والكسل وقساوة القلب، ولهذا نقل
أن رسول الله صلى الله عليه وآله ما أكل خبز الحنطة، وما شبع من الشعير، وزهد أمير المؤمنين
عليه السلام مشهور، ولكن ينبغي أن يكون ذلك باعتقاد التأسي إلا أنه لو اجتنب
لبعض الفوايد مثل كونه سببا لقلة النوم وإصلاح النفس وتذليلها، فالظاهر أنه
لا بأس به مع اعتقاد الحلية.
ومما يدل على أصالة إباحة ما ينتفع به قوله تعالى " الذي جعل لكم الأرض
مهدا " كالمهد الذي يمهد للصبي فهي محل راحتكم " وسلك لكم فيها سبلا " أي جعل
622

لكم فيها طرقا بين الجبال والأودية، وعرفكم إياها لتسلكوها " وأنزل من السماء
ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى " (1) أي خلق الماء وأنزله فأخرج به من الأرض
أصنافا كثيرة مما ينبت منها مختلفة النفع والطعم واللون والرايحة تفكها وطعاما
وبقولا، بعضها لكم وبعضها لبهائمكم، وبعضها لسقوفكم، وغير ذلك وفيه التفات
" كلوا وارعوا أنعامكم " قيل حال من ضمير أخرجنا أي أخرجنا أصناف النباتات
آذنين لكم في الانتفاع بها قائلين هذا القول وفيه تأمل، فيحتمل الاستيناف وكونه
مفعولا له، والتقدير لتأكلوا وغيره " إن في ذلك لآيات لأولي النهى " أي فيما
خلقنا لكم دلالة واضحة لذوي العقول على وجود الصانع وصفاته الثبوتية، من العلم
والإرادة والقدرة حيث يتأمل في حصول هذه النباتات من الأرض اليابسة، بسقي
الماء من السماء ووجود حكم فيها وأن بعضها سم قاتل، وبعضها نافع شاف من
الأمراض وبعضها طعام وبعضها فاكهة وبعضها للدواب، وأن عمدة رزقهم في الدواب
وأن رزقها مما لم يمكن أن يكون رزقا لهم، وهذا غاية من الحكمة والعلم والإرادة
واللطف.
ففيها وفيما تقدم دلالة على إباحة الأرض والماء والنبات كلها لكل انسان
بالتصرف فيها لنفسه ولأنعامه، ثم في قوله " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها
نخرجكم تارة أخرى " دلالة على أن الانسان مخلوق من الأرض، وأنه يموت
فيدفن فيها فيعود أرضا ثم يخرج منها ويخلق مرة أخرى كما خلقهم أول مرة
فتكون الإعادة الجسمانية بعد العدم بالمرة حقا كما هو ظاهر غيرها من الآيات
فتأمل.
وفي قوله تعالى: " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار
والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا
به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر
بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون " (2) دلالة على جواز ركوب البحر

(1) طه: 53 - 55.
(2) البقرة: 159.
623

للتجارة وغيرها مما ينتفع به من الطيور والسموك ونحوه، فيكون ذلك مباحا
شرعا كما هو كذلك عقلا حتى يثبت التحريم، فما مصدرية، والضمير إما للبحر أو
للفلك باعتبار الواحد المذكور في ضمن الجمع، والباء إما للسببية أو للمصاحبة
أو موصولة أي تجري بنفع الناس أو الذي هو نافع للناس أي تجري لتحصيل ما هو
نافع للناس من الأمور المذكورة، أو بالتأمل في البحر والفلك حتى ينتقل إلى
ثبوت الواجب واتصافه بالقدرة والعلم والإرادة، حيث خلق مثل هذه الأشياء
الدقيقة الكثيرة النفع.
فيستدل بها على جواز البحث في أصول الكلام كما هو سوق الآية، بل فيها
حث على النظر في علم الكلام كما قاله القاضي، ويدل عليه الخبر المذكور في
الكشاف والقاضي عنه صلى الله عليه وآله: ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها أي لم يتفكر فيها
والدابة لغة ما يدب وفي عرف بعض ما يركب، وفي آخر مخصوصة بالفرس، وفي
بعض ماله الأربع، والمنفعة هي اللذة والسرور وما أدى إليها، والنفع والخير و
الحظ نظائر كذا في مجمع البيان.
* (الثاني) *
* (ما فيه إشارة إلى تحريم بعض الأشياء على التعيين) *
وفيه آيات:
الأولى: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير الآية (1).
قد تقدم البحث في صدرها إلى قوله تعالى " وما أهل لغير الله به " وهنا نذكر
تتمتها أعني " والمنخنقة " أي التي ماتت بالخنق وهي ميتة فداخلة فيها وجميع ما بعدها
كذلك وذكرت للتصريح وعدم توهم الحل بذلك والمنع عن أكلها لأن أهل
الجاهلية كانوا يأكلونها " والموقوذة " أي التي ضربت بخشب أو حجر ونحو ذلك

(1) المائدة: 5.
624

من الثقل حتى تموت " والمتردية " أي التي تردت في بئر أو وقعت من علو فماتت
" والنطيحة " وهي التي نطحها أخرى فماتت، والتاء فيها للنقل، لأن الفعيل بمعنى
المفعول لا يفرق بين مذكره ومؤنثه بالتاء.
" وما أكل السبع " أي ما أكل السبع بعضه فمات قال القاضي فيه دلالة على
أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم يحل كأنه يريد إثبات حليته على تقدير
عدم أكله، وإن قتله الجوارح ولم يدرك ذبحه، كما في قتل الكلب له، وليست فيه
دلالة على كونه مباحا إذا قتله السبع، ولم يأكل منه شيئا وهو ظاهر، وعموم
اشتراط التذكية متبع حتى يثبت ما يخرجه " إلا ما ذكيتم " إلا ما أدركتم ذكاته
وفيه حياة مستقرة، والظاهر أن الاستثناء متعلق بما يقبل الذكاة لا بما أكل
السبع فقط، كما قيل، والذكاة أعني قطع العروق الأربعة بمحدد مع الشرائط
معروفة.
" وما ذبح على النصب " واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت
يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة هي الأصنام، وكلمة " على " حينئذ بمعنى اللام
كعكسه في " سلام لك من أصحاب اليمين " (1) أي عليك، أو على أصلها بتقدير وما
ذبح مسمى عليها، كانوا يفعلون كذلك فحرم ذلك، والظاهر أنه أعم من أن
يكون على وجه الذبح وغيره، فيمكن أن يكون الذبح على ذلك الوجه حراما
على المسلمين.
" وأن تستقسموا بالأزلام " أي وحرم عليكم الاستقسام بالأقداح أي السهام
والنشاب، وذلك أنهم كانوا إذا قصدوا فعلا مبهما مثل السفر ضربوا ثلاثة أقداح
مكتوب على أحدها أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، والثالث غفل لا كتابة
عليه، فإن خرج الأمر مضوا على ذلك، وإن خرج النهي تجنبوا عنه، وإن خرج
الغفر أجالوها ثانيا، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم
بالأزلام، وقيل هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة، وواحدها

(1) الواقعة، 91.
625

زلم كحمل وزلم كصرد.
وقال في مجمع البيان وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما السلام
أن الأزلام عشرة إلى قوله، وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزؤنه أجزاء ثم
يجتمعون عليه فيخرجون السهام ويدفعونها إلى الرجل وثمن الجزور على من يخرج
له التي لا أنصباء لها وهو القمار فحرمه الله عز وجل (1) وقيل هي كعاب فارس والروم
التي كانوا يتقامرون بها، وقيل هو الشطرنج وقيل على الأول سبب التحريم أنه
دخول في علم الغيب وضلال واعتقاد أن ذلك طريق إليه افتراء على الله وعلى هذا
يفهم منه تحريم الاستخارة المشهورة التي قال الأكثر بجوازها بل باستحبابها، و
يدل عليه الروايات فهو دليل بطلان الأول، أو لا يكون سبب التحريم ما ذكره
بل مجرد النص المخصوص بذلك الفعل الخاص والوجه الخاص أو يكون الاستخارة
خارجة عنه بالنص " ذلكم فسق " تأكيد يحتمل كونه مخصوصا بالاستقسام، ويحتمل
الرجوع إلى الجميع أي ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله أي معصية " فمن اضطر "
متصل بالمحرمات المتقدمة، وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها، وهو
أن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة، أي فمن دعته
الضرورة إلى أكل هذه " في مخمصة " أي مجاعة حتى لا يمكنه الامتناع " غير متجانف
لإثم " غير مائل إلى إثم بأن يأكل زيادة على الحاجة أو التلذذ أو غير متعمد لذلك
ولا مستحل، أو غير عاص بأن يكون باغيا أي خارجا على الإمام أو عاديا متجاوزا
عن قدر الضرورة أو عما شرع الله له بأن يقصد اللذة لا سد الرمق فإن أكل للضرورة
فلا يعاقبه الله " فإن الله غفور " لذنوب عباده جميعا " رحيم " لعباده بأن جوز
لهم الأكل في المخمصة، ولم يلزمهم بالموت وعدم الأكل، فإن الغفران ينافي
ذلك.
الثانية: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما (2) أي في القرآن أو مطلق الوحي

(1) مجمع البيان ج 3 ص 158، تفسير القمي ص 150.
(2) الأنعام: 145.
626

سواء كان قرآنا أم لا، هذا تنبيه واضح على أن لا تحريم إلا فيما وجده بالوحي لا غير
فلا تحريم فيما لم يجده ولم يجد إلا بالوحي فإنه " لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي
يوحى " (1) " على طاعم يطعمه " تأكيد " إلا أن يكون " الطعام " ميتة " المراد بها ما
فارقته الروح بغير ذبح شرعي ذكرا كان أو أنثى " أو دما مسفوحا " أي مصبوبا
كالدم في العروق لا كالكبد والطحال وإن كان ذلك أيضا حراما لكن بوجه آخر لا
لأنه دم، فدما عطف على ميتة، وقال القاضي عطف على أن مع ما في حيزه وفيه
تأمل وقد مر البحث في بيان تحريم الدم ونجاسته وتقييده فتذكر فإنه غير واضح
" أو لحم خنزير فإنه رجس " أي الخنزير أو لحمه أو كل واحد مما تقدم " أو فسقا "
عطف على لحم الخنزير أو ما عطف عليه، أي أحد المحرمات ما هو فسق ولكن هو
مجمل لم يظهر إلا بالبيان ولعل قوله " أهل لغير الله به " صفة موضحة لبيانه ولعل
المراد ما ذبح بغير التسمية سواء سمى غير الله أم لا.
والآية محكمة لأنها تدل على عدم وجود محرم إلى تلك الغاية إلا هذه
الأمور، فلا ينافيه تحريم أمور أخر بعدها، فلو وجد محرم آخر بخبر لا يكون
نسخا للكتاب بالسنة فإن الظاهر عدم جواز ذلك إلا أن يكون متواترا وهو أيضا غير
معلوم هنا، وبالجملة لا يمكن بهذا إثبات جواز نسخة بالخبر، وأيضا لا ينافيه وجود
محرمات أخر في تلك الحالة مع التسليم، إذ قد يكون الحصر إضافيا أو يكون
داخلا بدليل آخر، فيختص عموم الإباحة المفهوم من الحصر بدليل من خارج
كسائر العمومات فلا نسخ أيضا وأيضا لا تدل على عدم حل الأمور الآن غير هذه
إلا مع انضمام الاستصحاب والأصل وتتبع دليل التحريم في الجملة، إذ لا ينبغي
الحكم بالعدم بمجرد أن الأصل هو العدم فإن الظاهر أنه لا بد من التفتيش و
الاستفصال، وإن لم يجب الاستقصاء كما قيل في الأصول، فإن التعبير في الجملة
ظاهر فتأمل.
الثالثة: " يسألونك عن الخمر والميسر " (2) الخمر معلوم لأنه عبارة عن كل

(1) النجم: 4.
(2) البقرة: 219.
627

شراب مسكر ومغط للعقل ومذهب له، عند الأصحاب والشافعي وعند أبي حنيفة
ما غلا واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب وللأصحاب روايات مثل كل مسكر
خمر، وهو في الأصل مصدر خمر يخمر: إذا ستره، سمي به المسكر للمبالغة.
و " الميسر " القمار قال في مجمع البيان اشتق من اليسر وهو وجوب الشئ
لصاحبه من قولك إن هذا الشئ يسر يسرا وميسرا إذا وجب لك وقال في الكشاف
الميسر القمار، مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهما، أي وعد ورجع يقال
يسرته إذا قمرته، الأولى تقول يسرته الخ، واشتقاقه من اليسر لأنه أخذ مال رجل
بيسر وسهولة - شخص أولى - من غير كد ولا تعب أو من اليسار لأنه سلب يساره قال
وفي حكم الميسر أنواع القمار، الأولى أن يقول يشمل الميسر الخ من النرد والشطرنج
وغيرهما وعن النبي صلى الله عليه وآله إياكم وهاتين الكعبتين المشومتين فإنهما من ميسر
العجم وعن علي رضي الله عنه أن النرد والشطرنج من الميسر والمعنى يسألونك عما
في تعاطيهم واستعمالهم الخمر والميسر بدليل " قل فيهما إثم كبير " عظيم من الكبائر
مع أنه يؤدي إلى ارتكاب سائر المحرمات وترك الواجبات " ومنافع للناس " من
كسب المال والطرب فإنه الجواب عما في تعاطيهما " وإثمهما " العقاب في تعاطيهما
" أكبر من نفعهما " وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار والطرب فيهما والتوصل بهما
إلى مصادقات الفتيان ومعاشرة الحكام والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وسلب
الأموال بالقمار والافتخار على من لم يعلم أو لم يفعل.
كأنه يقول فيهما إثم عظيم ونفع قليل، بل ليس بالنسبة إلى ذلك نفعا فإنه
أمر فان ولذة قليلة أيضا والعقاب عظيم ودائم، فكأن سبب ذكر النفع هو الإشارة
إلى أنه أمر هين ليس بملتفت إليه عند العقل والشرع، بل النفع الذي تخليه
الانسان فيه ليس بنفع حقيقة، إذ ما يستلزم دخول النار وسخط الرب والفضيحة
في دار القرار عند الرسل والأئمة المختار، والدخول تحت الفجار والخروج
عن حزب الصلحاء والأبرار، ليس بنفع حقيقة بل مجازا أيضا عند ذوي العقول
والأبصار، وإلا فذكره غير مناسب في هذا المقام، وقرئ كثير بالثاء أيضا، ومعنى
628

الكثرة أن أصحاب الخمر والميسر يقترفون فيهما الإثم من وجوه كثيرة لازمة لعدم
العقل والدخول مع الفجار والفساق في فسقهم.
ثم اعلم أنه لا شك في دلالة الآية على تحريم الخمر مؤكدا ومعللا فإنه
قال " فيهما إثم " وهو الذنب وأكد بالكبر وبإثمهما وبين بأنه مشتملة على مفاسد
كثيرة وهي أكثر مما يتخيل أنه منفعة والحكمة تقتضي تحريم ما فيه المفسدة فكيف
المفاسد كما بين في الأصول وإن قلنا بالحسن والقبح الشرعيين فقط وأن أفعاله
تعالى ليست معللة بالأغراض، وأنه يجوز خلو الأحكام عن علل ومصالح لأن
ذلك لا يجوز عند ظهور المفاسد ولم يقل به من يقول بالشرعيين.
ولذلك أصحاب القياس ما يجوزون كون وجود وصف صالح للعلية غير
علة ولا يقولون بخلو الحكم عن علة وإن جاز الخلو مهما أمكن، ويقولون التعبد
قليل بل ليس، وأن هذه المفاسد مصلحة للترك لا علة فلا يصح قول القاضي: والأظهر
أنها ليست كذلك لما مر أي كون المفاسد محرمة للخمر، لأن الحسن والقبح ليسا
بعقليين فتأمل فيه والظاهر أنها ما كانت محللة في الاسلام بل في سائر الأديان على
ما هو المشهور بين الأصحاب وسبب النزول في هذا المقام يدل على التحليل في زمان
الاسلام أيضا.
قال في الكشاف والقاضي: ونزلت بمكة " ومن ثمرات النخيل والأعناب
تتخذون منه سكرا " فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال، وذلك ليس بظاهر
وقيل معنى سكرا رزقا حسنا وما يزيل العقل ليس بحسن.
ثم قالا إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها
مذهبة للعقل ومسلبة للمال، فنزلت " فيهما إثم كبير ومنافع للناس " فشربها قوم
وتركها آخرون، وهذا أيضا غير واضح إذ فيه إسناد تحليل حكم إلى الله تعالى
مع أن عمر وبعض الصحابة يعرفون كونها مفسدة ويريدون تحريمها.
ثم قالا ودعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فأم بعضهم أي
صار في صلاة الجماعة إماما، وقرء " قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون " فنزلت
629

" لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " (1) فقل من يشربها، فيه أيضا ما سبقها
أدل على التحريم فعدم ترك الأكثر إلا عند هذه لعدم الفهم من السابق والفهم
منها بعيد.
ثم قالا: دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا
وتناشدوا حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه
موضحة فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال عمر اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا
فنزلت " إنما الخمر والميسر " إلى قوله " فهل أنتم منتهون " (2) فقال عمر: انتهينا
يا رب، وعن علي رضي الله عنه: لو وقعت قطرة خمر في بئر فبنيت مكانها منارة لم
أؤذن عليها ولو وقعت في البحر ثم جف ونبت فيه الكلأ لم أرعه، وعن ابن عمر
لو أدخلت أصبعي فيه لم يتبعني، يعني قطعتها، وهذا هو الايمان حقا وهم الذين
اتقوا الله حق تقاته.
وفي كلامه هذا أيضا نظر، فإن عدم فهم الصحابة التحريم مما تقدم بعيد كما
عرفت، وأنهم سألوا البيان والتحريم ولم يبين لهم مع ذكر الجواب لهم واشتماله
على المفاسد المذكورة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة مع أن معظم الأصوليين
ما يجوزونه بل نقل الاجماع إلا عن نادر ممن قال بجواز التكليف بالمحال، وأنه
صلى الله عليه وآله ترك السؤال حتى سأل غيره، وأن عمر مع علمه باشتمالها على
المفاسد وسماعه هذه الأجوبة ما ترك شرب الخمر وهو بعيد عنه حيث قال انتهينا
وأن وصفه لعلي عليه السلام وابن عمر بكمال الايمان يشعر بعدمه في غيره ممن سبق ذكره
وهو أيضا بعيد عنه بل محال.
ورجوع قوله وهذا هو الايمان إلى الكل بعيد جدا ويأباه سوق الكلام ولعله
لذلك ترك القاضي النقل عن علي وابن عمر، والقول بأنه هذا هو كمال الايمان
مع نقله ما سبقه.

(1) النساء: 43.
(2) المائدة: 90.
630

ثم اعلم أن ظاهر الآية تحريم الخمر وكل مسكر مطلقا وكذا كل قمار
وميسر، لكن مع أخذ الرهن على ما فهم من اشتقاقه والأصحاب يحرمونه مطلقا
لعله الأخبار أو إجماع أو كون الميسر أعم هنا عندهم، وإن كان في الأصل خاصا.
* (الثالث) *
* (في أشياء من المباحات) *
وفيه آيات:
الأولى: " يسألونك ماذا أحل لهم " (1) أي عن ما أحل لهم بعد ما بين لهم
المحرمات وحصل لهم الشبهة في موضع يحتمل التحريم ولم يكتفوا بالبراءة الأصلية
وطلبوا النص فقال الله " قل " يا محمد " أحل لكم " أي أحل الله لكم " الطيبات "
أي ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه عادة وعلى سبيل الغلبة، ويمكن أن
يكون ما لم يدل دليل على تحريمه من عقل أو نقل، فيكون مؤيدا للحكم العقلي
فاجتمع العقل والنقل على إباحة ما لم يدل دليل على تحريمه، وبمفهومه يدل على
تحريم المستخبثات لمقابلة الطيبات كما دل عليه " ويحرم عليهم الخبائث " بمنطوقه
" وما علمتم من الجوارح " يحتمل أن يكون عطفا على الطيبات ولكن بحذف مضاف
أي مصيد ما علمتم من الجوارح أي الكلاب التي تصيدون بها بقرينة قوله " مكلبين "
فإنه مشتق من الكلب أي حال كونكم صاحبي كلاب.
فيلزم كون الجوارح كلبا فيحل ما ذبحه الكلب المعلم إذا لم يقصر في الذبح ولم
يغب عنه وبالجملة بالشرائط المقررة في الفروع، وقيل: المراد مطلق الجوارح، وهو
الطيور وذوات الأربع من السباع وإطلاق المكلبين باعتبار كون المعلم في الأغلب
كلبا فيلزم إباحة ذبيحتها أيضا بالشرائط وهو خلاف الظاهر، بل لا يمكن كونه
مرادا وخلاف مذهب الأصحاب ورواياتهم، قال في مجمع البيان في تفسير الجوارح
قبل قوله " مكلبين " قيل الجوارح هي الكلاب فقط عن ابن عمر والضحاك والسدي

(1) المائدة: 4.
631

وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام فإنهم قالوا هن الكلاب المعلمة خاصة، أحله الله إذا
أدركه صاحبه، وقد قيل لقوله " فكلوا مما أمسكن عليكم " وروي علي بن إبراهيم
في تفسيره باسناده إلى أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن صيد
البزاة والصقور والفهود والكلاب، فقال لا تأكل إلا ما ذكيت إلا الكلاب، فقلت
إن قتله؟ قال: كل فإن الله يقول " وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما
علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله عليه " ثم قال عليه السلام
كل شئ من السباع يمسك الصيد على نفسها إلا الكلاب المعلمة فإنها تمسك على
صاحبها وقال إذا أرسلت الكلب المعلم وذكرت اسم الله عليه فهو ذكاته (1) وهو أن
يقول بسم الله والله أكبر.
ويؤيد هذا المذهب ما يأتي بعد من قوله " مكلبين " أي أصحاب الصيد بالكلاب
وقيل أصحاب التعليم للكلاب.
" تعلمونهن " أي تأدبونهن حتى يصرن معلمة، وفي هذا دلالة ما على أن
صيد الكلب الغير المعلم حرام إذا لم يدرك ذكاته، وأما معنى تعليم الكلب فقد ذكره
الفقهاء وظاهر الآية ما يصدق عليه المعلم فتأمل، قيل حد التعليم أن يذهب إذا استرسل
ويقف إذا زجر، وقيل ذلك إنما يكون قبل أن يرى الصيد إذ بعده لا يمتنع بوجه
وقيل حد ذلك ثلاث مرات، وقيل لا حد له، فإذا فعل ما قلناه من الترغيب والمنع
امتثل، ويمكن اعتبار ما يفهم أن ذلك عادة له، ويؤيده ثبوت اشتراط التذكية
حتى يعلم كونه كلبا معلما، و " تعلمونهن " حال ثانية أو استيناف و " مما علمكم
الله " متعلق به أي تعلمون الكلاب مما علمكم الله من الحيل وطرق التأديب، فإن
العمل به إلهام منه تعالى أو اكتساب بالعقل الذي هو عطية من الله تعالى فهو من تعليمه
تعالى أو مما علمكم الله من اتباع الكلب الصيد بارسال صاحبه وانزجاره بزجره
كما مر وهو الأظهر.
" فكلوا مما أمسكن عليكم " متفرع على ما تقدم، ويحتمل كونه جزاء

(1) تفسير القمي ص 151.
632

لقوله " وما علمتم " فتكون هي شرطا أي إن أمسكن الجوارح المعلمة من الكلاب قال
القاضي وهو ما لم يأكل منه فاشترط في حله أن يكون الكلب ما أكل منه فلو أكل
حرم ثم قال: وإليه ذهب أكثر الفقهاء ونقل فيه رواية وفيه تأمل فإن فهم هذا
المعنى من قوله " مما أمسكن عليكم " لا يخلو عن إشكال نعم لو صحت الرواية أو ثبت
اتباع الأكثر فهو المتبع وإلا فلا ويمكن أن يقال ثبت اشتراط التذكية إلا ما خرج
بالدليل وقد وجد في الكلب المعلم الذي لم يأكل، فبقي الباقي تحت تحريم الميتة
فتأمل والظاهر أن المراد على تقدير اشتراط عدم الأكل، عدم كونه عادة له فلو
أكل نادرا لم يضر.
" واذكروا اسم الله عليه " الضمير لما علمتم، والمعنى سموا عند إرسال الكلب
أو لما أمسكن عليكم أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته أو سموا عند أكله والأول
هو المشهور وهو المفهوم من الرواية السابقة إلا أنه فهم منها تعيينه بقوله بسم الله
والله أكبر والظاهر أنه ليس كذلك إذ لا قائل به فيحمل على الاستحباب والأولى
العمل بها " واتقوا الله " في محرماته " إن الله سريع الحساب " فيؤاخذكم بما جل
ودق، ففيه إشارة إلى الملاحظة التامة في الصيد وغيره من الأحكام.
الثانية " اليوم أحل لكم الطيبات " (1) أكد تحليل الطيبات وقد مر معناها، و
المراد باليوم الآن لا اليوم المتعارف وعطف عليه " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل
لكم وطعامكم حل لهم " قيل المراد بالطعام ذبائحهم، قال في مجمع البيان قاله
أكثر المفسرين وأكثر الفقهاء وجماعة من أصحابنا، ولا يخفى بعده إذ ليس معنى
الطعام الذبيحة لا لغة ولا عرفا ولا شرعا وأن المشهور بين أصحابنا هو أن ذبيحتهم
حرام لقوله تعالى " واذكروا اسم الله عليه " و " ما أهل لغير الله به " ولرواياتهم وقد
تقدمت في تفسير " وما أهل لغير الله به " وفي مجمع البيان أنه لا يجوز أكل ذبائحهم
بل ذبائح من خالف الحق مطلقا عندنا فتأمل في التوفيق بين الكلامين.
ثم قال فيه أيضا وقيل إنه يختص بالحبوب وما لا يحتاج إلى التذكية وهو

(1) المائدة: 5.
633

المروي عن أبي عبد الله عليه السلام وهذا مؤيد لصحة ما تقدم، والطعام في عرف بعض
الناس عبارة عن البر والشعير فيمكن إطلاقه على كل الحبوب للمناسبة وهو في
الأصل من الطعم بمعنى المطعوم فيصدق على كل مطعوم، ويمكن تخصيصه بما تقدم
لدليل من خارج، وقيل المراد أعم كما هو الظاهر فكل ما يصدق عليه طعامهم فهو
حل ما لم يعلم تحريمه من دليل مثل المغصوب والنجس.
وهذا القول غير بعيد لأنه المتبادر فينبغي الحمل عليه، وليس طعامهم من حيث
أنه طعامهم حراما عليكم بل هو وغيره سواء، فيجب أن يخرج عنه ما علم تحريمه
بدليل فيخصص كسائر العمومات فتكون ذبائحهم وما باشروه بالرطوبة قبل تطهيره
خارجا عنه وحراما على تقدير ثبوت تحريم ذبائحهم ونجاستهم كما هو ظاهر أكثر
الأصحاب، والكتابي من له كتاب فيعم جميع أهل الكتاب ولا يدخل فيه غيرهم، و
إن كان طعامهم أيضا بهذا المعنى حلالا لنا ويكون تخصيص أهل الكتاب للسؤال
أو لكثرة الحاجة إليهم والمخالطة والمعاملة معهم دون الحربي، وكذا يحل لهم
طعامنا فيجوز لنا أن نعطيهم إياه بالبيع وسائر المعاملات بل بلا عوض.
فهذه الآية تدل على جواز إعطائهم عطية فافهم في مجمع البيان وطعامكم
يحل لكم أن تطعموهم.
الثالثة: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به
لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (1).
مضمونها حصر التحريم في جميع الانتفاعات بما مات بغير ذكاة شرعا وبغير
التسمية فإنه يعلم اعتبارها من أهلها، أو يكون تخصيصا بعد تعميم أو أكله لكن الأول
أولى كما بين في الأصول إلا أن يكون هناك قرينة دالة على الأكل ونحوه ولا يبعد
هنا حيث ذكر الأكل قبله وبعده أيضا وهو المتبادر منها ومن لحم الخنزير فيفهم
تحريم باقي الانتفاعات من دليل آخر وهو الأخبار ولعله الاجماع أيضا والدم وهو

(1) البقرة: 173.
634

ظاهر ولحم الخنزير كذلك قيل خص اللحم لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان و
سائر أجزائه كالتابع له فلا يفهم تحريم الانتفاعات به من الآية نعم لما ثبت نجاستها
فلا يجوز استعمال شئ منها فيما يشترط فيه الطهارة.
وقال في مجمع البيان: اللحمة قرابة النسب، وأصل الباب اللزوم، ومنه
اللحم للزوم بعضه بعضا ولعل يدخل فيه الخبر المشهور في الرضاع والولاء، وقال
أيضا صاحب العين رجل لحم إذا كان أكول اللحم، وبيت لحم يكثر فيه اللحم، و
الظاهر أن ليس ذلك هو المراد مما روي عنه صلى الله عليه وآله إن الله يبغض البيت اللحم
على تقدير الصحة لأنه قال في الكافي بعد تعريف اللحم بأنه سيد الطعام بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام إنا يروي عندنا عن
رسول الله صلى الله عليه وآله إن الله يبغض البيت اللحم فقال كذبوا إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله
البيت الذي يغتابون فيه الناس ويأكلون لحومهم وقد كان أبي لحما ولقد مات يوم
مات وفي كم أمي ثلاثون درهما للحم، وروي أيضا بإسناده عن الحسين بن أبي العلا
عن أبي عبد الله عليه السلام قال كان رسول الله عليه سلام لحما يحب اللحم (1) بل مراده بيت يغتاب
فيه الناس كما نقل في الكافي وكأن نفي هذا القول عنه صلى الله عليه وآله في الخبر باعتبار
المعنى الظاهر كما علم فلا تعارض بينهما، واعلم أن الظاهر من الخبر تحريم الغيبة
للناس مطلقا مؤمنا وغيره وسيجئ تحقيق البحث فيه إن شاء الله تعالى.
والاهلال في الأصل رفع الصوت بالتسمية، ومنه الهلال لغرة القمر لرفع
الناس أصواتهم عند رؤيته بالتكبير، والمحرم يهل بالإحرام بالتلبية، واستهل الصبي
إذا بكى وقت الولادة كذا في مجمع البيان والأولى رفع الصوت من غير ذكر التسمية
كما يدل عليه تتمة كلامه هنا واللغة ولعل مراده في الذبح لكنه بعيد ففهم
تحريم الانتفاع بالميتة مطلقا حتى الاسراج بشحمه وادهان الحيوانات به أو أكله
فقط لما مر.
" والدم " عما أي أي دم كان مسفوحا وغيره، ولا يتوهم حمله على المسفوح

(1) الكافي ج 6 ص 308.
635

لما وقع في آية أخرى مقيدا به لوجوب حمل المطلق على المقيد كما قاله الشهيد
الثاني في شرح الشرايع لأن الحمل إنما يجب إذا كان بينهما منافاة وليس هنا
إذ يجوز تحريم مطلق الدم والمسفوح أيضا وكذا نجاستها نعم يصلح ذلك عند من
يقول بمفهوم الوصف لوجود المنافات حينئذ أو يقال إنه حصر المحرم في الآية المتقدمة
في الدم المسفوح، فلا يكون غيره حراما، ولكن الظاهر أن هذا الحصر غير مراد
وأنه حصر لما وجد في ذلك الوقت، فإن صدرها " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما
على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا ".
نعم قد استثنى الأصحاب ما بقي في المذبوح بعد الذبح، وخروج ما يمكن أن
يخرج من الدم، بشرط أن لا يكون بحيث يدخل الدم جوفه، ولعل دليلهم الاجماع
والخبر أو الحرج وليس بواضح، نعم يمكن أن يقال لا نسلم فهم العموم من الآية و
الأخبار بل مطلق فيحمل على ما هو المحقق، وهو الدم المسفوح، ويبقى الباقي
على أصل الحل لكنه لا يخلو عن بعد إذ الظاهر منهما العموم فتدبر.
وقد استثني من تحريم هذه الأشياء الأكل للمضطر حال اضطراره إذا لم
يكن باغيا ولا عاديا والاضطرار ما لم يمكن الصبر عليه مثل الجوع والفرق بينه
وبين الالجاء أن الالجاء بتوفر الدواعي إلى الفعل من جهة الضر والنفع، وليس
الاضطرار كذلك، وأصل البغي الطلب والعدي التعدي فمعناه من اضطر إلى
كل هذه المحرمات بل إلى فعل مطلق المحرمات، لعموم اللفظ إلا ما أخرجه
الدليل مثل قتل النفس على أي وجه كان الاضطرار، وتلك الضرورة ضرورة سد
رمق أو إكراه أو حرج أو غير ذلك من ضرب وشتم لا يمكن تحملها عادة حال كونه
غير باغ للذة، ولا عاد أي غير متجاوز عن حد الضرورة " فلا إثم " عليه ولا ذم
ولا تحريم عليه، وذكر الغفور والرحيم بعد ذلك كأنه للدلالة على أن الله
غفور رحيم لا يضيق على عباده بل يوسع عليهم فكأنه لا يشترط الضرورة الكلية
بحيث لا يمكن الحياة بدون فعل الحرام أو أنه إذا فعل حراما ثم تاب يتوب الله
عليه " إن الله هو التواب الرحيم " بالرخصة وغيرها.
636

وقد قيل لها معنى آخر مثل ما قاله في الكافي بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي
نصر البزنطي عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام (1) أنه قال الباغي الذي يخرج
على الإمام، والعادي الذي يقطع الطريق لا يحل له الميتة وفي السند ضعف لسهل بن
زياد، وفي المتن أيضا قصور ما فافهم، مع أنه يمكن أن يكون بطريق التمثيل وأن
المذكور داخل فيهما لا الحصر، وبالجملة الأعم أولى ما لم يثبت التخصيص، ومعه
يمكن إثبات الحكم عاما بطريق القياس المعلوم علته كما قاله القاضي وقيل غير باغ
على الوالي ولا عاد يقطع الطريق فعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب
الشافعي وقول أحمد وأنت تعلم أنه قياس غير معلوم فيه اشتراك العلة، بل الظاهر
عدمه فإن الخروج على الإمام وقطع الطريق ليسا بمتساويين لكل المعاصي، حتى
يكون العاصي لسفره مثلهما، وهو ظاهر، ولعل لهما دليلا آخر لو كان هذا مذهبهما.
وقال القاضي أيضا فإن قيل إنما يفيد قصر الحكم على ما ذكر، وكم من حرام
لم يذكر، قلت المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا أو قصر حرمته
على حال الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها.
قلت الأول غير ظاهر الوقوع، والثاني بعيد جدا، مع أن الظاهر من تحريم كل
محرم، إنما هو حال الاختيار دون الاضطرار، ويدل عليه العقل والنقل فعاد السؤال
ويمكن أن يقال الحصر إضافي بالنسبة إلى ما حرموه على أنفسهم على ما مر قبل
هذه الآية في سبب نزول قوله تعالى " كلوا " الآية يعني ليس المحرم ما حرمتم
بل هذه أو بحذف وغيرها مما حرم الله، بل ما حرمتم أنتم أو يكون المحرم حين
النزول هذه فقط مثل " قل لا أجد " الآية.
الرابعة: " وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله " (2) أي أي غرض لكم في التحرج
عن أكله وما يمنعكم عنه يعني لا حرج فيه ولا يجوز جعل شئ مانعا عنه دون ما نهى
الله عنه " و " الحال أن الله تعالى " قد فصل لكم ما حرم عليكم " وما لم يحرم عليكم

(1) الكافي ج 5 ص 265.
(2) الأنعام: 119.
637

بقوله " حرم عليكم الميتة " الآية وغيرها وبلسان نبيه في الأخبار " إلا ما اضطررتم
إليه " مما حرم عليكم فإنه أيضا حلال حال الضرورة والاضطرار ففي مفهوم هذه
الآية تحريم ما لم يذبح باسم الله، أي لم يذكر اسم الله عند ذبحه كما مر.
" وأنزلنا من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم
يسمعون " سماع إنصاف وتدبر وتفكر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لا يسمع
وفيها دلالة على إباحة الماء والأرض بالنقل أيضا فعلى أي وجه يريد الانسان يتصرف
فيهما ما لم يدل دليل على خلاف ذلك.
" وإن لكم في الأنعام لعبرة " (1) قد ذكر في أول هذه السورة في الكشاف أن
الأنعام هي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام، وأكثر ما يقع على الإبل
وقد أنث هناك بقوله " والأنعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون " وفيها
" وتحمل " وذكره هنا بقوله " نسقيكم مما في بطونه " والضمير راجع إليه فذلك إما لأن
الأنعام اسم جمع وليس بجمع فيعتبر تارة معناه فيؤنث وأخرى لفظه فيذكر،
أو يكون جمعا والتذكير هنا باعتبار إرجاعه إلى بعض الأنعام المفهوم منها
فإن اللبن الذي في البطون ليس في البطون كلها، بل بعضها، ونقل إفراده
في الكشاف والقاضي عن سيبويه، أي لكم في الأنعام وما يحصل منها عظة و
اعتبار لو تأملتم ثم بين ذلك بقوله " نسقيكم " فهو استيناف كأنه قيل كيف العبرة
فقيل " نسقيكم من بين فرث ودم لبنا خالصا " أي يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث
والدم يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم
ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله قيل إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها
طبخته وكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما والكبد قسام مسلط على هذه الأصناف
الثلاثة يقسمها فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث في الكرش
فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته، لمن تفكر وتأمل، وسئل شقيق عن

(1) النحل: 69 - 72.
638

الاخلاص فقال تمييز العمل عن العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم، كله من
الكشاف.
وهذا تشبيه ما أحسن به! وفيه وجوه كثيرة دقيقة جدا منها أنه في الصعوبة
مثله لا يقدر عليه إلا الله وتشبيه الريا وغيره مما يضيع العمل بالروث والدم كراهة
ورائحة وقذارة وغير ذلك. " سائغا للشاربين " سهل المرور في الحلق، ويقال إنه لم
يغص أحد باللبن قط وفيها دلالة على إباحة لبن الأنعام والترغيب على الاتعاظ و
الاعتبار والتفكر في أفعال الله تعالى.
" ومن ثمرات النخيل والأعناب " قيل متعلق بمحذوف أي ونسقيكم من
عصيرهما بحذف المضاف أو بإرادته منها مجارا، وليس متعلق بنسقيكم المذكور، ولا
المقدر المعطوف عليه، إذ يلزم كونه بيانا لعبرة الأنعام، فهو استيناف لبيان الاسقاء
عبرة أو منة أخرى أو متعلق بقوله " تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك
لآية لقوم يعقلون " ويكون كلمة " منه " تكرارا لا للتأكيد كقولك زيد في الدار فيها
وتذكير الضمير باعتبار العصير أو الثمر، والسكر مصدر سمي به الخمر للمبالغة و
حينئذ إما أن تكون منسوخة إن كانت قبل تحريم الخمر أو يكون جمعا بين العتاب
والمنة، وقيل المراد به يسد الجوع من السكر وقيل المراد من السكر النبيذ، و
هو عصير العنب والتمر والزبيب، إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى
يشتد، وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر ويحتج بهذه الآية وبقوله عليه السلام
الخمر حرام بعينها والسكر من كل شراب أي حرام، وفي دلالة الآية والخبر على
مطلوب أبي حنيفة خفاء.
قال في مجمع البيان السكر لغة على أربعة أوجه الأول ما أسكر من المسكرات
والثاني ما طعم من الطعام ونقل شعرا، والثالث السكون ونقل شعرا، والرابع
المصدر في قولك سكر سكرا ومنه التسكير التحير في قوله " سكرت أبصارنا ".
وقال فيه أيضا قال قتادة نزلت الآية قبل تحريم الخمر، وروى الحاكم في
صحيحه بالاسناد عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية قال السكر ما حرم من ثمرها
639

والرزق الحسن ما أحل من ثمرها كالخل والزبيب والرب والتمر، وقيل المراد
بالسكر ما يشرب من أنواع الأشربة مما يحل والرزق الحسن ما يؤكل، قال
أبو مسلم لا حاجة إلى ذلك سواء كان حراما أم لم يكن لأنه تعالى خاطب المشركين
وعدد أنعامه عليهم بهذه الثمرات، والخمر من أشربتهم، فكانت نعمة عليهم وفيه
تأمل.
وقال أيضا وقد أخطأ من تعلق بهذه الآية في تحليل النبيذ لأنه سبحانه إنما
أخبر عن فعل يتعاطونه فأي رخصة في هذا اللفظ، وأنت تعلم أن البعض لا يخلو
عن تكلف وهو ظاهر، ويحتمل أن يكون هذه عبرة بتقدير ولكم في الأشجار أيضا
لعبرة نسقيكم، أو تتخذون من ثمرات النخيل على ما تقدم من كون " من ثمرات "
متعلقه بنسقيكم المقدر، أو " تتخذون " ومثل هذا الحذف غير عزيز في القرآن
العزيز وهو ظاهر لمن تأمله.
وحينئذ لا شك في وجود العظة والعبرة بأخذ الخمر الذي هو في غاية المرارة
والسكر، وفيها منافع للبدن في الدنيا كما أشار إليه في قوله " ومنافع للناس
وإثمهما أكبر من نفعهما " وأخذ الدبس منه، وكذا الخل والتمر والعنب، و
الغرض إظهار القدرة على الأشياء العزيزة البعيدة عن العقل لتجوز الإعادة للثواب
والعقاب، لرفع استبعاد المشركين وإن لم يكن حلالا، إذ يجوز عدم كون الغرض
في الكل الامتنان فإن الذي قادر على إيجاد مثل هذه الأمور من الشجر اليابس
بل من نواة مرة لا شك أنه قادر على الإعادة، كما أن القادر على اخراج لبن
خالص من بين الفرث والدم من غير مخالطة بأحدهما لونا وطعما وريحا فتأمل.
وكذلك يحتمل أن يكون الغرض في ذكر النحل وإظهار قدرته على البيت
المشتمل على الأمور الغريبة التي لم يقدر عليه أقوى المهندسين وحصول العسل منه
الذي يعجز عن فهمه العقول وعن إدراكه الفحول، بحيث يتيقن كل عاقل أنه
لا يقدر على مثل ذلك الممكن، بل الواجب القادر على كل شئ المتصف بالصفات
الكاملة التي لا يعرفها إلا هو، والمبري عن الصفات الناقصة، وبالجملة لا شك في
640

تحريم الخمر والمسكر وعدم معقولية المنة على خلقه ولا يجمع بين المنة والعتاب
في مثل هذه الآية، فلا بد من تأويل بحيث يخرج عن ذلك وهو يحصل بأحد الوجوه
المذكورة وغيره فتأمل.
وقيل " من " في " مما " للتبعيض لأن اللبن الذي يسقى بعض ما في البطن، و
في " من بين فرث ودم " ابتدائية لأن ما بين الفرث والدم مكان السقي فيبدأ منه
وقد احتج بعض من رأى أن المني طاهر على من جعله نجسا بجريه في مسلك البول
بهذه الآية وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج اللبن
من بين فرث ودم طاهرا، كأنه يريد ببعض من احتج الشافعي والمحتج عليه الذي
جعله نجسا بجريه في مسلك البول أبا حنيفة والاحتجاج صحيح، والسر في ذلك
أن الجري في المسلك ليس بمنجس من حيث إنه من البواطن، ولا حكم لها من
حيث النجاسة، وإلا لم يصح صلاة أحد وهو ظاهر، وصرح به الأصحاب ويدل
عليه العقل والنقل، وليس نجاسة المني عندهم لذلك، بل بالإجماع والنصوص عن
الأئمة عليهم السلام.
" وأوحى ربك إلى النحل " ألهمها وقذف في قلوبها " أن اتخذي " بأن
اتخذي لأن حذف حرف الجر قياس، أو يكون مفسرة لأن الايحاء متضمن لمعنى
القول كأنه: قائلا أن اتخذي، والتأنيث باعتبار المعنى أي الجماعة الكثيرة وإلا
فلفظه مذكر " من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون " من للتبعيض لأنها
لا تبنى في كل ما ذكر بل في بعض الجبال، وبعض الأشجار، وبعض ما سقف به مثل
الطين وقد يكتفي به من الكرم وسعف النخل، وغير ذلك، وفي ذكر البيوت إشارة إلى
أن ما بنته مثل البيوت التي بناها الانسان العاقل الكامل، بل من تأمل بيوتهم وما
فيها يجد من حسن الصنعة وصحة القسمة ما لا يقدر عليه حذاق المهندسين إلا بآلات
وأنظار دقيقة، ويحكم بأن فاعل هذا لا بد له من العلم، وأنه ليس الفاعل إلا الله
أو بالهامه وهو ظاهر.
" ثم كلي من كل الثمرات " التي تشتهيها مرها وحلوها " فاسلكي " ما
641

أكلت " سبل ربك " في مسالكه التي يحيل فيه بقدرته النور المر عسلا من أجوافك
أو فاسلكي الطرق التي ألهمك في عمل العسل، أو فاسلكي راجعة إلى بيتك سبل
ربك لا يلتبس عليك " ذللا " جمع ذلول، وهي حال من السبل أي مذللة ذللها الله
وسهل لك أو من الضمير في " فاسلكي " أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير
ممتنعة " يخرج من بطونها " عدل من خطاب النحل إلى خطاب الناس لأنه محل
الانعام والامتنان والمقصود من خلق النحل وإلهامه، " شراب " يعني العسل لأنه
قد يشرب " مختلف ألوانه " بعضه أبيض وبعضه أحمر وبعضه أصفر، وبعضه أسود
" فيه شفاء للناس " إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر
الأمراض إذ قل ما يكون معجونا والعسل لم يكن جزء منه مع أن التنوين فيه قد
يكون مشعرا بالتبعيض، ويحتمل التعظيم وقيل الضمير للقرآن وفيه بعد " إن
في ذلك لآية لقوم يتفكرون " فإن من تأمل في فعله ووجود العسل، وكيفية
حصوله، علم قطعا أن الله معلم قادر حكيم عالم متصف بجميع صفات الكمال، فليس
فيه نقص بوجه.
ففيها دلالة على حلية العسل لكل من يجد وأخذ النحل لذلك، ما لم يمنع
مانع شرعي والاستشفاء بالأدوية وخصوص العسل وأن الله يشفي بالدواء وإن كان
قادرا على ذلك بغيره لحكمة، وطلب علم الطب بل علم الكلام والتفكر في الأفعال
والاستدلال بها على وجود الواجب وصفاته، والحسن والقبح العقليين فتأمل.
" والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " (1) أي جعلكم متفاوتين في الرزق بأن
جعل للموالي رزقهم ورزق مماليكهم، وأمرهم باعطائهم لهم، فرزقكم أفضل من رزق
مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم " فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت
أيمانهم فهم فيه سواء " ليس الذين فضلوا بمعطي رزق المفضل عليهم، بحيث يتساوون
فيه أي كان ينبغي أن يردوا مما رزقوا على مماليكهم حنى يتساووا في الملبس والمطعم

(1) النحل: 74.
642

كما يحكي عن أبي ذر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول إنما هم إخوانكم فاكسوهم
مما تلبسون، وأطعموهم مما تطعمون، فما رئي بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره
إزاره من غير تفاوت " أفبنعمة الله يجحدون " فجعل عدم التسوية من جملة جحود
النعمة على سبيل المبالغة، ففيها دلالة على استحباب التسوية بين نفسه ومماليكه، و
يدل عليه أيضا الأخبار مثل ما تقدم، ويدل على أبلغ من ذلك ما روي عن أمير المؤمنين
عليه السلام أنه كان يشتري ثوبين يعطي أفضلهما القنبر ويأخذ الأردى لنفسه
صلوات الله عليه.
قال في الكشاف: وقيل هو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء فقال لهم
أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم، فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء
ولا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء، وقيل المعنى
إن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعا، فهم في رزقي سواء فلا تحسبن الموالي أنهم
يردون على مماليكهم من عندهم شيئا، فإنما ذلك رزقي إليهم على أيديهم، ويمكن
الاستدلال بها على تملكهم فتأمل.
643

* (كتاب) *
* (المواريث) *
وفيه آيات:
الأولى: ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين
عقدت أيمانكم الآية (1).
إشارة إلى توريث الورثة إجمالا فكأنه يريد بالموالي الورثة، وبالذين: ضامن
الجريرة على الاحتمال، وقيل غير ذلك الله يعلم.
الثانية: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من
المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا (2).
يجوز أن يكون من المؤمنين والمهاجرين بيانا لأولي الأرحام، أي الأقرباء
من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب بل من بعض الأقارب أيضا و
يجوز أن يكون " من " لابتداء الغاية أي أولوا الأرحام القرابة أولى بالميراث
من المؤمنين بحق الولاية في الدين، ومن المهاجرين بحق الهجرة كذا قيل، و
الظاهر أنها صلة " أولى " ومعنى الاستثناء أن أولي الأرحام أولى إلا أن يفعلوا
وصية فالموصي له أولى.
ففيها دلالة على كون الوصية أولى من الإرث، وتقديمها على الإرث، وليس
فيها دلالة على عدم الوصية للوارث وهو ظاهر، ويحتمل أن يكون " إلا أن تفعلوا "
يشمل المنجزات أيضا، فيدل على كونها مقدمة على الإرث، وكونها من الأصل

(1) النساء: 33.
(2) الأحزاب: 6.
644

وخرجت الوصية بالإجماع والخبر، وصارت من الثلث، وبقي المنجزات
فتأمل.
الثالثة: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب
مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (1).
أي سهم، ولعل " الوالدان " أعم من أن يكونا بواسطة أو بغيرها والمراد
بالأقربون الأقارب الذين يورثون " مما قل منه أو كثر " أي قليلا كان المتروك أو
كثيرا وهو بدل عن " مما ترك " بإعادة العامل ونصيبا يحتمل أن يكون مفعولا مطلقا
للتأكيد مثل قوله " فريضة " أو حال أي فرض للرجال نصيب حال كونه نصيبا، أو
منصوبا بأعني ومفروضا صفة له أي مقطوعا.
والمعنى أن الإرث بالنسب ثابت من الله فرضا ولازما من غير اختيار أحد من
الوراث سواء كان ذكرا أو أنثى نزلت لنفي ما كان في الجاهلية من عدم الإرث
للنساء والأطفال، فدلت على ثبوت الإرث في الجملة، وأنه فرض يدخل في ملك
الوارث بغير اختياره، سواء أراد أو لم يرد، فلا يخرج عن ملكه إلا بدليل مخرج
شرعا.
الرابعة: " يوصيكم الله في أولادكم " (2) أي يأمركم ويفرض عليكم في شأن
ميراث أولادكم [بما هو العدل والمصلحة] والخطاب للأحياء بأنه إذا مات منهم أحد
يعلم الباقون أن لولده وغيره الإرث كذا وكذا، وهذا مجمل وتفصيله يعلم من
قوله " للذكر مثل حظ الأنثيين " يعني إذا اجتمع الأولاد ذكورا وإناثا فللابن
نصيبان، وللبنت نصيب نصفه " فإن كن " الأولاد " نساء " ثنتين " فوق اثنتين " خبر
بعد خبر " فلهن " أي الأولاد التي هما ثنتان أو ما فوقهما " ثلثا ما ترك " الميت من
الأموال بالفرض وفي الباقي تفصيل يعلم من غير القرآن، فقوله " نساء فوق اثنتين "

(1) النساء: 7.
(2) النساء: 2.
645

بمنزلة اثنتين فصاعدا، وإطلاق ضمير كن والنساء على البنتين غير بعيد.
" وإن كانت " المولودة بنتا " واحدة فلها النصف " مثل ما تقدم، ويؤيد أن
حكم البنتين حكم الثلاثة أنه لا يمكن إدخالها في حكم الواحدة بوجه في العبارة
فإنه لو كان حكمهما حكمها لما حسن القيد المخرج لهما بحيث لا يمكن إدخالهما
في حكمها، مع أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن حكمهما إما حكم الواحدة وهو
مذهب ابن عباس فقط، وإما حكم فوق اثنتين وهو مذهب غيره، وأيضا لا خلاف
في أن للأختين وحدهما هو الثلثان كما دل عليه القرآن العزيز صريحا، فلا معنى
لكون حصة البنتين أقل من حصتهما مع أنهما أمس رحما فلا يكون نصفا ولا قائل بغير
الثلثين والنصف، فيكون الثلثين، وأيضا إن للبنت مع أخيها الذي نصيبه ضعف نصيبها
الثلث فلا بد أن لا يكون مع أختها التي نصيبها مثل نصيبها أقل من تلك الحصة، فلا
يكون لهما النصف فيكون الثلثين، وأيضا يمكن أن يكون مثل قوله صلى الله عليه وآله لا تسافر
المرأة سفرا فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها، فإن المراد ثلاثة و
ما فوقها على ما قيل، كأنه بالتأويل الذي قلناه فتأمل.
وقيل إنه لما قال الله " للذكر مثل حظ الأنثيين " علم حكم البنتين لأنه قد
علم أن للذكر مع الواحدة ثلثين اللذين هما للبنتين فعلم أن لهما ثلثين وبقي
ما فوقهما، فكأنه قيل فما لما فوقهما؟ قيل كذا، ذكره في الكشاف والقاضي وغيرهما
ونقله في مجمع البيان عن أبي العباس المبرد، وفيه تأمل لأن العلم بأن للواحد ثلثين
مع اجتماعه مع الواحدة لا يستلزم كون الثلثين لهما إذا انفردتا، لأن المعنى أن
لكل ذكر ضعف الأنثى مطلقة، ويؤيده أيضا كثرة العلماء فإن القول بعدم الثلثين
لهما بل النصف ما نقل إلا عن ابن عباس بل نقل في مجمع البيان الاجماع على أن
لهما الثلثين، قال: ظاهر الكلام يقتضي أن البنتين لا يستحقان الثلثين لكن الأمة
أجمعت على أن حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات.
وقال أيضا يدل عليه الاجماع إلا ما روي عن ابن عباس أن للبنتين النصف
فكأنه أراد الاجماع بعده أو ما اعتبر خلافه أو ما ثبت عنده أن ذلك قول ابن عباس
646

حيث قال إلا ما روي أو أراد التأييد بالشهرة والكثرة كما قلناه، وبالجملة وإن
كان ظاهر الآية أن ليس حكمهما حكم ما فوقهما، لا شك أن ظاهرها أن ليس
حكمها حكم البنتين أيضا وهو ظاهر وقد اتفق العلماء على أن لا حكم لهما إلا حكم
أحدهما فلا بد من ارتكاب خلاف ظاهر، وإدخاله في أحدهما، ولا شك أن إدخاله
فيما فوقهما أرجح لما تقدم.
" ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن
له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية
يوصي بها أو دين " السدس مبتدأ وخبره " ولأبويه " أي الميت وهو مذكور معنى
و " لكل واحد منهما " بدل بتكرير العامل، وفائدته فائدة التأكيد ودفع وهم
أن يكون المراد كون السدس للمجموع، ولو اقتصر على البدل فات فائدة التأكيد
المراد من الاجمال والتفصيل ولو قال ولأبويه السدسان يتوهم كونهما مختلفين، و
المراد بالميت الولد الأول ذكرا كان أو أنثى، وبالسدس سدس جميع ما ترك " و
إن ترك و " لم يكن له " أي للميت " ولد " أصلا " وورثه أبواه فلأمه الثلث " مما
ترك حذف بقرينة ما تقدم فلها ثلث جميع ما ترك دائما لا ثلث ما بقي بعد حصة
الزوجة كما هو رأي الجمهور، وكأن ما ذكرناه لا خلاف فيه عند أصحابنا.
وقال في مجمع البيان: هو مذهب ابن عباس وأئمتنا عليهم السلام وهو الظاهر من
الآية، وقيد الجمهور وورثه أبواه بفحسب، فقالوا حينئذ يكون لها الثلث من جميع
ما ترك وأما إذا كان معهما وارث آخر مثل الزوج فحينئذ لها ثلث ما بقي بعد حصته
كما فعل في الكشاف والقاضي، وذلك بعيد أما أولا فلأن التقدير خلاف الظاهر
وأما ثانيا فلأنه ما كان يحتاج حينئذ إلى قوله " فإن لم يكن له ولد " وأما ثالثا فلأنه
لم يفهم حينئذ ثبوت فريضة للأم مع وجود وارث غير الولد فكيف يكون لها ثلث
ما بقي، مع كون سدس الأصل وثلثه لها، بل لا يوجد مثل الثلث والنصف إلا بالنسبة
إلى الأصل كما هو المتبادر.
فالحق مذهب الأصحاب مع قطع النظر عن إجماعهم ونقلهم عن أئمتهم عليهم السلام
647

ولعل فائدة قوله " وورثه أبواه " الإشارة إجمالا إلى أن مع عدم الأب الكل لها
إن لم يكن غيرها، وإلا فالباقي بعد حصة الغير مثل الزوج، أو أن الحجب إنما
يكون معه أو إلى أنهما وسائر الورثة قد لا يرثون مع ثبوت النسب، بأن يكونوا
أرقاء أو قاتلين أو كفارا أو غير ذلك، مثل أن يكون هناك دين مستغرق على
أنه ما فهم صريحا وجود الأب من قبل حتى يحتاج إلى النكتة لذكر " وورثه أبواه "
فتأمل.
وقيل: إنما ذكر " وورثه أبواه " بعد أن علم لأن معناه وورثه أبواه فحسب
وفيه ما مر على أنه ينبغي حينئذ التصريح بنفي الغير إلا ذكر ما هو المفروض، و
حذف ما لا بد منه مثل فحسب أولا وارث غيرهما ونحو ذلك فتأمل (1) وترك ذكر ما
للأب لأنه ليس بصاحب الفريضة حينئذ لا لأن الباقي له فتأمل.
هذا إن لم يكن للأم حاجب عن الثلث من الأخوة بقرينة قوله " فإن كان
له " أي للميت إخوة يحجبها عن الثلث إلى السدس " فلأمه السدس " فالأخوة تحجبها
مع عدم كونهم ورثة بشروط الأول وجوب الأب يدل عليه " وورثه أبواه " الآية إذ
التقدير إن لم يكن له ولد وورثه الأب والأم فللأم الثلث إن لم يكن له إخوة
فإن كان له إخوة فلأمه السدس، والثاني كون الأخوة متعددة ولو كانا اثنين خلافا
لابن عباس، فإنه ذهب إلى اشتراط الثلاث للفظ الجمع، وقال أيضا إنهم يأخذون
السدس المحجوب عن الأم فيشترط عنده كونهم وارثين وهما غير شرط عند غيره
والأخير ظاهر، ودليل الأول كأنه الرواية والاجماع.
وقال في الكشاف: الأخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية والتثنية

(1) فإن المضمون أن السدس لكل واحد واحد من أبوي الميت إن كان له ولد، والثلث
لأمه إن لم يكن له ولد، فذكر الأب لا بد منه، فإن كون الثلث لها مشروط بوجوده. وذكر
الأم بالتبع، على أنه لا شك في أن المقصود من كل هذه العبارة وجود ذوي الفرض فلو ذكر
وقيل لها الثلث مع وجودها مثلا فلا قصور نعم يمكن تركه لأنه يفهم فذكره حسن كتركه فافهم
منه رحمه الله.
648

والجمع كالتثليث والتربيع، في إفادة الجمعية، وهذا موضع الدلالة على الجمع
المطلق، فدل بالإخوة عليه، تأمل في هذه الإفادة، فإنها غير واضحة فالظاهر أنها
أطلقت على ما فوق الواحد لقرينة ثبتت بالخبر والاجماع، ثم إن ظاهرها أعم من
كونها إخوة الأب أو الأم، وقد خص الأصحاب بأخوة الأب وهو الشرط الثالث
ولعل دليلهم الرواية والاجماع، وأن النفع لأبيهم فكما أن الأب ينفع أولاده فهم
أيضا ينفعونه بزيادة الإرث له، وهذا المعنى غير موجود في الأخوة من الأم وأيضا
الظاهر منها الذكورة، وقد عمم، وجعل أختين بمنزلة أخ واحد فهما مع أخ آخر
يحجبان وكذا الأربع، ولعل لهم دليلا غيرها.
والرابع كونهم وارثين في الجملة فلا يحجب القاتل والرق ونحوهما، و
لعل لهم دليلا عليه، والخامس الفصل فلا يحجب الحمل، وفهم ذلك غير بعيد و
تفصيلها في الفروع، وقوله " من بعد وصية يوصي أو دين " قالوا إنه متعلق
بجميع ما تقدم من أول قسمة الميراث أي ثبوت الحصة للورثة إنما هو بعد اخراج
ما أوصى به الميت وبعد الدين وقوله " يوصي بها " بعد الوصية للتأكيد وظاهرها
التساوي بين الدين والوصية في تقديمهما على الإرث، وأن كل واحد مستقل في
التقديم، فايراد " أو " لذلك لا لأن أحدهما مقدم لا المجموع وهو ظاهر، وتقديم
الوصية مع كونها مؤخرة عن الدين في حكم الشرع للاهتمام بشأنها لاحتياجها إلى
التأكيد والمبالغة لأنه محل أن لا يسمعها الوارث فسواها مع الدين في التقديم
حتى قدمها، لا ليفهم أن الاهتمام بها أكثر، ولأنها مشابهة بالإرث بحيث توقف
ثبوتهما على الموت فذكرت بعده.
فدلت الآية على أن الوصية مطلقا والدين كذلك مقدمان على الإرث
فيخرج أولا مؤنة تجهيزه الواجبة، ثم الدين ثم الوصية ثم يقسم ما بقي بين الورثة
على حكم الله، والترتيب مفهوم من الاجماع والسنة لا الكتاب وفي الآية دلالة ما على
عدم تملك الوارث قبلهما الإرث، بل عدم جواز تصرفه إلا بعد اخراجهما، فالمال
إما باق على حكم مال الميت أو ينتقل إلى الديان والموصى إليه بقدرهما، فلا
649

يجوز للورثة التصرف فيه إلا بعد اخراج الدين والوصية، سواء كانا مستغرقين أم لا.
ويحتمل أن يكون معنى الثلث للأم مثلا بعد الوصية والدين، أنه إنما
يصير ذلك بعد أن يكون في التركة ما يفضل عنهما وحينئذ لا يفهم ما قلناه، فيمكن
جواز التصرف للوارث فيما يفضل عنهما قبل اخراجهما ولكن يجب عليه اخراج
ذلك وعزله وإيصاله إلى صاحبه، أو يجب على الوصي إن كان، ويجب على الوارث
التمكين.
ويحتمل جواز التصرف في الكل أيضا ما لم يعين الدين والموصى به بعد
أن قرر المتصرف على نفسه ذلك فيثبت في ذمته الدين والوصية ويجب أداؤهما
ويتصرف في التركة مهما شاء، فالاحتمالات ثلاثة - بعد وصولهما إلى أهلهما فلا
يجوز التصرف قبله بوجه وبعد العزل والتعيين، فلا يجوز قبله وبعد سعة المال و
وجودهما فيه، فيجوز التصرف فيما يفضل أو في الكل، ويكون ضامنا والأول
أحوط وأسلم.
ويدل عليه رواية عباد بن صهيب في باب قضاء الزكاة عن الميت عن أبي عبد الله
عليه السلام في رجل فرط في اخراج زكاته في حياته فلما حضرته الوفاة حسب
جميع ما كان فرط فيه مما لزمه من الزكاة ثم أوصى به أن يخرج ذلك فيدفع إلى
من يجب له. قال جائز يخرج ذلك من جميع المال، إنما هو بمنزلة دين لو كان عليه
ليس للورثة شئ حتى يؤدوا ما أوصى به من الزكاة (1) ودلالتها ظاهرة في الدين
والوصية بالزكاة، ويحتمل أن لا قائل بالفرق الله يعلم، وسندها جيد لا شئ في
رجاله إلا في عباد بن صهيب، وقد يقال ظاهر الآية يقتضي الأخير إذ ثبت ملكية
الثلث مثلا بقوله " ولأمه الثلث " فلها التصرف به كيف شاءت، وقوله بعد الوصية
والدين، يحتمل معنا لا ينافي ذلك، وهو الأخير، إذ ليست بظاهرة في غيره بحيث
يكون حجة، فيجوز تصرفها في الفاضل أو مطلقا إلا أنها تكون ضامنة بمعنى أنه

(1) الكافي ج 3 ص 547.
650

لو لم يصل الدين والوصية إلى أهلهما يكون لهما الرجوع عليها، وعلى سائر الورثة
الذين تصرفوا في المال، أو يبطل التصرفات فتكون موقوفة، وفيه تأمل، ويمكن
دعوى ظهور اخراجهما مقدمة [من الآية] ويؤيده الرواية.
وبالجملة المسألة مشكلة وقد فصل الأصحاب القول واختلفوا فيها حتى
أنه وقع الفتوى في القواعد في ثلاث مواضع كل واحد على خلاف الآخر، ولكن
ذكروها في الدين فقط، وما توجهوا إلى الوصية، والظاهر أن الحكم واحد
لظاهر الآية، فينبغي الرجوع إلى كلامهم، والبحث عنها هناك، ثم كون
الوصية والدين من الثلث أو من الأصل وباقي مسائلهما يعلم من محلهما من كتب
الأصحاب ورواياتهم، وظاهر الآية كونهما من الأصل، فتخصص الوصية بالإجماع
والسنة فتأمل.
واعلم أنهم قد اختلفوا في معنى " آباؤكم وأبنائكم لا تدرون أيهم أقرب لكم
نفعا " وليس من مقصود هذا التعليق بيانه، ويمكن أن يكون المعنى أن الذي فعله
تعالى في أمر الإرث هو مقتضى علمه وحكمته، فقرر للآباء كذا، وللأبناء كذا، وما
فوض الأمر إليكم وإلى علمكم، بأن من كان أقرب نفعا يعطى أكثر والأقل
أقل فإنكم ما تعرفون أيهما أقرب نفعا، والله هو العالم بالأقرب نفعا أو أن مجرد
كونهم آباءكم وأبناءكم كاف للإرث، وأما أن الأقرب نفعا يكون له أكثر فأنتم
ما تعرفون ذلك، أو أنتم ما تعرفون من هم؟ قال القاضي: لا تعلمون من أنفع لكم
ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم، وعاجلكم وآجلكم، فتحروا فيهم ما وصاكم
الله فيه ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمان بعض.
وقال في الكشاف: أي لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين
يموتون أمن أوصى منهم أم من لم يوص؟ يعني أن من أوصى ببعض ماله فعرضكم
لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا من ترك الوصية، فوفر عليكم
عرض الدنيا، وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا، ذهابا إلى
حقيقة الأمر، ثم نقل أقاويل أخرى وقال: وليس شئ من هذه الأقاويل بملائم
651

للمعنى، لأن هذه الجملة اعتراضية ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه
وبين مناسبه، والقول ما تقدم فتأمل.
و " فريضة " مصدر فعل محذوف للتأكيد، أي يفرض الله عليكم ذلك المذكور
فريضة من عند الله، وقيل أو مصدر يوصيكم الله، فإنه بمعنى فرض الله عليكم، فيه
مسامحة فإنه مفعول مطلق من غير لفظ فعله.
الخامسة والسادسة: ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن
ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها
أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد
فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث
كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من
ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية
من الله والله عليم حليم (1).
الظاهر أنه يريد بالزوجة المعقود عليها بالعقد الدائم كما هو مذهب أكثر
الأصحاب وإن كان ظاهرها أعم للروايات وظاهرها ثبوت الربع والثمن للزوجة
من كل شئ تركه زوجها كالنصف والربع له مما تركت زوجته، لكن خصصت ببعض
ما ترك بإجماع الأصحاب ونصهم إلا أن لهم في تعيين ذلك خلافا لاختلاف رواياتهم
وتحقيق المسألة في الفروع تطلب هناك.
ومعلوم أن المراد أعم من كونها مدخولا بها أم لا، ومن الصغيرة والكبيرة
وكذا في جانب الزوج أيضا، وأن المراد بالولد أيضا هو الأعم من أن يكون من

(1) النساء: 12.
652

الزوج الوارث أم لا، صغيرا كان أو كبيرا، ذكرا كان أو أنثى، بواسطة من الابن
أو الابنة، أو بلا واسطة، وأعم من الوارث وغيره أيضا ومعلوم أن المراد أيضا بالنصف
ونحوه هو نصف جميع ما ترك الميت فهو مؤيد لكون المراد ذلك في ثلث الأم كما
تقدم، و " رجل " اسم " كان " وهو الميت و " يورث " أي منه صفة رجل و " كلالة "
خبرها أو يورث خبر، أو كان تامة، وكلالة حال عن ضمير يورث وقيل، يجوز أن
يكون المراد بالرجل الوارث ويكون يورث من أورث وهو بعيد (1) والمراد بالكلالة
من ليس بوالد ولا ولد، وقيل أصلهما مصدر بمعنى الكلال فاستعيرت لقرابة ليست
بعصبة لأنها كلالة بالإضافة إليها، ثم وصف الموروث أو الوارث بها بمعنى ذي كلالة
كقولك فلان من قرابتي.
وقال في مجمع البيان: والمروي عن أئمتنا عليهم السلام أن الكلالة الأخوة
والأخوات، والمذكورة في هذه الآية من قبل الأم وفي آخر السورة من كان منهم
من قبل الأب والأم أو من قبل الأب.
" أو امرأة " عطف على رجل، وله راجع إلى رجل، وحذف حكم الامرأة
لأنه يعلم من الرجل، ويحتمل إرجاعه إلى أحد المذكورين أو الكلالة باعتبار
أنه الميت أو المورث وهو يدل على كون المراد بالرجل الميت كمنهما فافهم.
فلكل واحد من الأخ والأخت سدس ما ترك، فإن كانوا أي من يرث
بالإخوة والكلالة أكثر من أخ واحد أو أخت واحدة بأن يكونوا اثنين فصاعدا
فلهم ثلث ما ترك يتساوون فيه، ولا فضل بين المذكر والمؤنث.
قال في مجمع البيان: ولا خلاف بين الأمة أن الأخوة والأخوات من قبل

(1) لبعد ارجاع ضمير " له " إلى الرجل الوارث، فإن المتعارف أن يقال للميت كذا
وكذا وأيضا ينبغي أن يقال بدل رجل وله أخ الخ، وإن كان أخوان أو أخ وأخت وللتكلف
في ارجاع ضمير منهما إلى الرجل وأخيه وأخته ولأنه حينئذ يصير داخلا في حكم وإن كانوا
أكثر من ذلك، ولأنه لم يفهم حينئذ حكم الواحد ولم يفهم تساويهم بل يتبادر تساوي الأخ و
الأخت في نصف السدس واستقلال الرجل بنصفه تأمل، منه طاب ثراه.
653

الأم يتساوون في الميراث وقد مر معنى " من بعد وصية " و " غير مضار " كأنه حال
من فاعل يوصي أو الوصية لأنه مصدر ويحتمل عن الوصية والدين أيضا يعني أن
الوصية والدين اللذين هما مقدمان على الإرث هما اللذان لا يكون فيهما ضرر
على الوارث مثل القصد بالوصية مجرد حرمان الوارث، فما قصد وصية حقيقة
والدين كذلك بأن يستدين دينا غير محتاج إليه فيضيعه للاضرار، أو يقر بدين مع
عدمه للاضرار فكل ذلك ليس بمقدم على الإرث إذا علم فيجوز عدم سماع مثل هذه
الوصية والدين.
قال في مجمع البيان: جاء في الحديث أن الضرار في الوصية من الكبائر
فلعل المراد الوصية بدين لا حقيقة له فيضيع أمواله، لئلا يصل إلى الوارث
شئ وكذا الوصية بما يضر وليس له حقيقة، وكذا الاقرار بأن عليه كذا أوليس
له على أحد شئ مع وجوده إضرار بالورثة، فتأمل، ويحتمل أن يراد تغيير الوصية
وعدم العمل بها " وصية " مصدر كفريضة " والله عليم " بمصالح عباده ولا يفعل بهم إلا
ما هو خير لهم من قسمة الميراث وتقديم الدين والوصية عليه، وعدم سماع الدين
والوصية المضرين " حليم " لا يعاجل العصاة بالعقوبة، بل يمن عليهم بالأنظار
والامهال.
السابعة: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤا هلك ليس
له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا
اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل
حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شئ عليم (1).
لما بين في فاتحة السورة بعض السهام وبقي البعض أراد في خاتمتها فقال
" يستفتونك " يا محمد أي يريدون منك بيان حكم الله في ميراث الكلالة وقد عرفت

(1) النساء: 176.
654

معناها " قل الله يفتيكم " أي يبين لكم حكم ميراثها، قال في مجمع البيان وهو اسم
للإخوة والأخوات، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام فإن مات امرء أي رجل وليس
له ولد مطلقا بواسطة أو بغيرها ذكرا كان أو أنثى كما هو الظاهر، لأن الولد يطلق
عليها لغة وعرفا كما مر في بيان السهام في أوائل السورة، والظاهر أنه مقيد بعدم
الوالد أيضا للإجماع ولأن الكلام في الكلالة وهي من لا يكون والدا ولا ولدا " وله
أخت " أي الأخت من الأب والأم أو للأب فقط لأن حكم الأخت من الأم فقط
قد مضى في أول السورة فللأخت الواحدة منهما أو من الأب نصف ما ترك كالبنت، و
الأخ أيضا يرثها إن لم يكن لها ولد مطلقا وإن كانتا أختين فصاعدا كذلك فلهما
الثلثان كالبنتين فصاعدا وإن كانت الورثة إخوة بعضها رجال وبعضها نساء منهما
أو من الأب فالمال بينهم الذكر مثل حظ الأنثيين وظاهر الآية أن إرث الإخوة
مشروط بعدم الولد أصلا ويؤيده ما تقدم في أولها كما هو المقرر عند الأصحاب وهو
مذهب ابن عباس وأهل البيت عليهم السلام فلا ينظر إلى ما روي أن الإخوة مع البنات عصبة
فلا يحجب البنت الأخ لأنه خبر واحد مخالف لظاهر القرآن وإجماع علماء أهل البيت
ورواياتهم صلوات الله عليهم، فلا معنى للقول بالعصبة فيضعف قول القاضي في تفسير
" إن لم يكن لها ولد " ذكرا كان أو أنثى إن أريد بيرثها جميع مالها، وإلا فالمراد
به الذكر إذ البنت لا تحجب الأخ، وقريب منه كلام الكشاف فإن ظاهر الآية
عدم إرث الأخ مع البنت، فإنه شرط في الإرث مطلقا نفي الولد مطلقا، وللزوم
الاجمال وعدم فهم شئ وهو ظاهر، ويؤيده أن مفهوم الكلالة إن كان المراد بها
الميت كما هو الظاهر يدل على عدم إرث الإخوة مطلقا مع الولد والوالد، وهو
مقرر عندهم أيضا في الوالد، ويجب أن يخرج الأحكام من الآية لا أن يطابق الآية
بالأحكام التي قرروها بآرائهم فتأمل.
" يبين الله لكم " أحكام مواريثكم كراهة " أن تضلوا " بأن تخطئوا في الحكم
وقيل يبين الله لكم ضلالكم الذي من شأنكم إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحروا
655

واعلم أنه مع البيان ثم التأكيد بأنه يبين لعدم الضلال قد وقع الضلال والله يهدي
إلى الصواب.
و " امرء " مرفوع بفعل مقدر يفسره " هلك " لأن " أن " لا تدخل إلا على
الفعل، وهلك امرؤ فعل شرط، و " ليس له ولد " صفة لأمره ويحتمل الحال " وله
أخت " حال ويحتمل العطف فيكون صفة أيضا أو حالا " فلها نصف ما ترك " جزاء
" وهو " أي الامرئ " يرثها " أي الأخت مبتدأ وخبر جزاء مقدم، إذ يفهم منه
الجزاء لقوله " إن لم يكن لها ولد " وهو اسم " لم يكن " وخبره " لها " ومرجع
ضمير " كانوا " الظاهر أنه الورثة و " رجالا " صفة أو حال وكذا " نساء " والجملة
شرطية و " مثل " مبتدأ مضاف و " فللذكر " خبره، والجملة جزاء " والله بكل
شئ عليم " فهو عالم بمصالح العباد في الحياة والممات، وتقسيم المواريث، فلا يفعل
إلا ما هو أصلح بحالهم دينا ودنيا فتأمل.
الثامنة: " وإني خفت الموالي من ورائي " (1) أي خشيت عصبتي التي باقية
بعدي بأخذ إرثي و " كانت امرأتي عاقرا " لم تلد " فهب لي من لدنك " أي من عندك
" وليا " وارثا " يرثني ويرث من آل يعقوب " أيضا " واجعله " أي ذلك الوارث
" يا رب رضيا " راضيا مرضيا، ولم يكن مثل موالي الذين خفت منهم فأنهم كانوا
شرار بني إسرائيل كذا في الكشاف وفيه دلالة على توريث الأموال كسائر الناس
لأن المتبادر من الإرث هو ذلك فيكون حقيقة فيه فلا يصار إلى غيره إلا مع الضرورة
وليست، ولأن الموالي التي يخاف منهم لذنوبهم ما كانوا يرثون النبوة لعدم
صلاحيتهم لها، فإنهم كانوا شرارا فلم يجعلهم أنبياء ولأنهم لو كانوا قابلين لها لما كان
معنى للخشية منهم وطلب غيرهم لأن نبي الله عالم بأن الله تعالى لم يعط النبوة إلا
لمن يكون أهلا لهم ولأنهم لم يكونوا رضيا.
ويؤيده آيات الإرث، فلا يصار إلى غيره ولم يثبت " نحن معاشر الأنبياء لا
نورث " فلا يمكن التخصيص به، على أنه لو سلم صحته ففي تخصيص القرآن
المتواتر بخبر واحد سيما إذا أنكره كثير ولم يروا إلا عن واحد، مع التهمة

(1) مريم: 5.
656

نظر واضح، والمجوزون للتخصيص إنما يجوزونه بالخبر الصحيح المخلص الناص
لأنهم قالوا القرآن متواتر متنا وظني دلالة، والخبر ظني متنا يقيني دلالة وأنت
تعلم انتفاء ذلك كله هنا فتأمل فقول الكشاف والقاضي: والمراد بالإرث إرث الشرع
والعلم لأن الأنبياء لا يورثون المال باطل لما مر وهو ظاهر، وكيف يتحقق إرث العلم
والشرع وهو الانتقال من محل إلى آخر.
تذنيب
وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه
وقولوا لهم قولا معروفا (1).
ظاهرها أنه خطاب للورثة التي قابلون له أي البلغ الرشد حال قسمة الميراث
وأمر لهم بإعطاء شئ من الإرث لأقاربهم التي لا إرث لهم إذا شهدوا وحضروا القسمة
وكذا لمطلق اليتامى والمساكين المستحقين للاعطاء فيعطيهم كل ذي قسمة شيئا من
قسمه، والظاهر نقص الجميع عن حصته ليبقى له شئ، وقد قيد اليتامى والمساكين
في مجمع البيان بالأقارب أيضا ووجهه غير ظاهر وظاهرها وجوب ذلك لكن الظاهر
أنه لا قائل الآن بوجوبه، ولهذا قيل إنها منسوخة بآيات قسمة الإرث، ويحتمل
كونه للندب، فتكون غير منسوخة ويؤيده قوله " وقولوا لهم قولا معروفا "
بأن تدعوا لهم بالرزق من الله مثل " الله يرزقكم " فيخير بين الاعطاء والرد، و
الأول أولى.
ويحتمل أن يقال معناه يعطون ويدعون ولا يستقلون ما يعطون، وهو أظهر
والحمل على الندب أولى من النسخ، ويمكن حملها على استحباب الطعمة عند
الأصحاب، وهو مشهور، ولكن قيدوه بشرائط لم يفهم منها، وقيل هذا الخطاب
للمريض بالوصية لهؤلاء بشئ، ولا يخفى بعده، وبالجملة الفتوى بظاهرها مشكل
لعدم القائل، وكذا حذفها وحملها على الطعمة لا يخلو عن بعد، والاحتياط يقتضي
العمل بظاهرها فتأمل.

(1) النساء: 10.
657

* (كتاب الحدود) *
وهو أقسام:
* (الأول) *
* (حد الزنا) *
وفيه آيات:
الأولى: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة
منكم فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله
لهن سبيلا (1).
قيل: المراد بالفاحشة الزنا، وبالنساء الثيبات بقرينة اضافتهن إلى الرجال
وبالامساك منعهن عن الفاحشة، وقيل كان الامساك في البيوت حدهن ونسخ بآية
الجلد ويحتمل أن يكون المراد بها المساحقة والامساك المنع ويؤيده عدم ذكر
الرجل وتخصيص الحكم بالنساء وعدم لزوم النسخ وأنه سيذكر قولا في أن المراد
بالآية التي بعدها اللواط وذكر حكم الزانية والزاني في الثالثة، ليكون الأولى
مخصوصة بالساحقات والثانية باللواط، والثالثة تكون مشتركة كما قيل، ولعل
المضاف محذوف في قوله الموت أي ملك الموت، والمراد بجعل الله لهن سبيلا
بيان الحكم أو التوبة أو النكاح المغني عن السفاح، ولعل في الآية إشارة إلى عدم
الشهادة حتى يستشهدوا فيمكن استنباط عدم القبول حينئذ ولهذا قال الفقهاء ترد
شهادة المتبرع، وإلى كون عدد الشاهد في الفاحشة أربعة رجال مسلمين، وفهم
العدالة من موضع آخر.

(1) النساء: 15.
658

الثانية: واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا
عنهما إن الله كان توابا رحيما (1).
قيل المراد بهم الزانية والزاني، فالكناية الفاحشة والمراد الزنا، وبالأذى
التوبيخ والاستخفاف، ويمكن الأعم على الوجه المعتبر في باب النهي عن المنكر
أو الحد المقرر فلا يكون منسوخا، وقيل المراد به القتل الذي أقوى أفراده فحمل
عليه بقرائن، ويؤيده تثنية المذكر وما تقدم وهي تدل على وجوب أذى فاعل
الفاحشة ووجوب تركه بعد التوبة، وقبولها على الناس بل وعلى الله، وكأن المراد
بإصلاح العمل الاصرار على التوبة، بحيث يفهم أنه صلح حاله، وعلى أنه ما لم يتب
لم يسقط عنها الأذى والظاهر أنه لا يحتاج إلى أكثر من التوبة التي يفهم استقرارها
فإنه لا يجب شئ آخر لإسقاط الأذى بالإجماع، بل بالآيات والأخبار، فهو مؤيد
لكون العمل الصالح في الآيات الأخر بعد التوبة بهذا المعنى فتأمل.
الثالثة: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا
تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد
عذابهما طائفة من المؤمنين (2).
تركيبها ظاهر ومشهور، ومعناها وجوب الحد مائة جلدة على الحكام الشرعي
النبي والإمام عليهم السلام، وولاتهم بالإجماع المنقول، كل امرأة زنت وكل رجل زنا
والعموم مستفاد من الزاني والزانية، ومن قوله " كل واحد " عرفا فافهم، ولكن
مخصوص بالإجماع والأخبار بالحر والحرة غير المحصنين، فإن العبد والأمة عليهما
نصف الحد والمحصن والمحصنة يرجماه لا غيرهما، وفي الأمة آية أيضا، وللاحصان
شرائط مذكورة في الفروع.

(1) النساء: 16.
(2) النور: 2.
659

فقول الكشاف: هما يدلان على الجنسين المتنافيين لجنسي العفيف والعفيفة
دلالة مطلقة، والجنسية قائمة في الكل والبعض جميعا، فأيهما قصد المتكلم فلا
عليه، كما يفعل بالاسم المشترك، غير جيد، وإن كان صحيحا في نفسه فتأمل.
والزنا معلوم وهو وطي المرأة قبلا أو دبرا بغير عقد ولا شبهة بل عمدا عالما
بالتحريم، وهي تدل على تحريم ترك الحد أو البعض منه كما أو كيفا رحمة لهما
بل مطلق الرحمة بأن يقال: مسكين عذبوه، وحصل له عذاب كثير، ونحو ذلك، و
بالجملة الرحمة في دين الله أي طاعته وحكمه بخلاف مقتضاه حرام بل يفهم أنها تسلب
الايمان بالله واليوم الآخر، يعني المؤمن بهما لا يفعل ذلك.
وتدل أيضا على وجوب إحضار طائفة ليشهد عذابهما ظاهره أنها غير المجلد
بل غير الحاكم أيضا قيل أقل الطائفة ثلاثة، وقيل اثنان، وقيل أربعة، وقيل
واحد، وهو منقول عن أبي جعفر عليه السلام وابن عباس ومجاهد وإبراهيم، كذا في
مجمع البيان وفي الكشاف: وعن ابن عباس أربعة، ثم قال: فضل قول ابن
عباس لأن الأربعة هي الجماعة التي بها ثبت هذا الحد وفي التفضيل تأمل.
* (الثاني) *
* (حد القذف) *
وفيه آية " والذين يرمون المحصنات " (1) أي يقذفون العفيفات من الزنا غير
مشهورات به، وإن كان القذف هو السب مطلقا، وذلك قد يكون بغيره مثل يا آكل
الربا يا شارب الخمر، والذي يدل على ذلك لفظة المحصنات، وكون الشهود أربعة
وسوق الكلام، والقذف بالزنا مثل أن يقال يا زانية وظاهر " الذين " شامل للحر
والعبد، والعاقل والمجنون، والبالغ والصبي، والمسلم وغيره، ولكن قيد بالعقل
والبلوغ كأنه للإجماع ولعدم التكليف، وبعضهم قيد بالحر أيضا وليس بواضح

(1) النور: 4.
660

وظاهر المحصنات شامل أيضا للأمة والصبية، وغير المسلمة والمجنونة، ولكن
الظاهر أنها قيدت بعدمها للإجماع وغيره، وأيضا إن المذكر في الذين غلب كالتأنيث
في المحصنات، فلو قذفت امرأة أو قذف رجل محصن به يكون الحكم كذلك بالإجماع
المنقول في مجمع البيان، وغيره.
" ولم يأتوا بأربعة شهداء " للشهود المسقط لحد القذف شروط مذكورة في
محله، مثل كونهم مجتمعين في الدخول للشهادة، وغير الزوج على الخلاف " فاجلدوهم
ثمانين جلدة " خبر الذين بتأويل، وهو متضمن لمعنى الشرط فصح دخول الفاء في خبره
وكذا " ولا تقبلوا لهم شهادة " أي لا تقبلوا للرامين المذكورين الذين لم يأتوا بالشهود
المسقطة للحد شهادتهم " أبدا " دائما أصلا في أمر من الأمور جلدوا أم لا، فتعليق الرد
باستيفاء الحد كما هو مذهب أبي حنيفة غير جيد لأنه خلاف الآية ولوجود الفسق
لقوله تعالى " وأولئك هم الفاسقون " فإن ظاهره أن الرمي مع عدم الاشهاد فسق
حد أم لا، والظاهر أن ليس أولئك الخ خبرا آخر للذين لتغيير الأسلوب، فإن
الأنسب حينئذ وأفسقوهم أي احكموا عليهم بالفسق، واعملوا معهم معاملة الفساق
فهو حكم عليهم بذلك، وإن كان مقتضى السوق أن يكون هو أيضا خبرا، ويمكن
كونه كذلك ولكن غير الأسلوب للتفنن وغيره.
وبالجملة لا إشكال في ترتب هذه الأمور الثلاثة: وجوب الحد ورد الشهادة
والفسق على القذف مع عدم الاشهاد على الوجه المعتبر، إنما الاشكال في متعلق
الاستثناء في قوله " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " أي
ندموا عما قالوا من الرمي بل غيره أيضا على القول بعدم قبول التوبة إلا عن جميع
المناهي وعزموا على عدم العود.
قالوا المراد بالتوبة هنا إكذاب نفسه عما رمى، والتوبة ظاهرة، ولكن إصلاح
العمل الذي مذكور دايما بعد التوبة إما بهذا القول أو بقول وعمل صالح غير
واضح، وليس بمفسر أيضا بأمر واضح، وقيل هو البقاء على التوبة، ولكن ما عين
حد البقاء وظاهره الاتيان بعمل صالح أي عمل كان، ويحتمل أن يكون تأكيدا
661

للتوبة وتقريرا لها، والإصرار عليها، فالعمل الصالح والاصلاح هو الاصرار عليها
كما مر من قبل فتذكر وقاعدة الأصول تقتضي تعلق " إلا " بالجملة الأخيرة على
ما رجحناه في الأصول، فيكون " الذين " في محل النصب بأنه مستثنى عن أولئك لعدم
الفسق حينئذ أي كلهم فاسقون إلا التائب.
ولكن الظاهر أن الشهادة أيضا تقبل بعد التوبة، وإن لم يكن هنا المستثنى
متعلقا به من جهة القاعدة، ومن جهة أنه يلزم أن يكون المستثنى المختار الجر
بالبدلية، ولم يصح أن يكون في حالة واحدة معربا باعرابين موافقين فكيف بمخالفين
وما نقل في مجمع البيان من كون رجوع الاستثناء إلى الجملتين قول أبي جعفر و
أبي عبد الله عليهما السلام، ليس معناه الرجوع بحسب التركيب واللفظ بل بحسب المعنى
والمسألة ويجوز أن يكون متعلقا بهما هنا بخصوصه للنص، والعلم يكون الحكم
كذلك ويتكلف في صحة اللفظ بأن يكون قبل هذا الاستثناء استثناء آخر راجع
إلى الأول محذوف بقرينة المذكور أو يكون منصوبا والمختار إنما يكون فيما لا
محذور فيه تأمل.
واعلم أن من جملة أدلة تعلق القيد بالأخيرة لزوم ورود عاملين على معمول
واحد، على تقدير تعلقه بأكثر فتأمل، وأن هنا تغير الأسلوب أيضا يدل على قطع
" أولئك " عما قبله فيكون الاستثناء له فقط فتأمل وأما عدم تعلقه بفاجلدوا فظاهر
فإن التوبة لم تسقط الحد الذي هو حق الناس، ويؤيده تعليقه بهما بالمعنى المتقدم
أن الكافر إذا تاب تقبل توبته، وليس القذف بأعظم منه، بل معلوم أنه أسهل وأيضا
الزاني إذا تاب تقبل توبته، فالقاذف بالطريق الأولى فإنه أسهل ذنبا فإن الرمي
بالفاحشة أسهل من فعلها وهو ظاهر، وأيضا الكافر إذا رمى وفعل غيره أيضا من
أنواع المحرمات تقبل توبته، فالتائب هنا بالطريق الأولى، وقد ادعي في الأولين
الاجماع في مجمع البيان وفي الآخر في الكشاف، ثم قال وروي عن أبي جعفر عليه السلام
أنه يجلد القاذف وعليه ثيابه، ويجلد الرجل قائما والمرأة قاعدة.
ومن شرط توبة القاذف أن يكذب نفسه فيما قاله، فإن لم يفعل ذلك لم يجب قبول
662

شهادته وفيه تأمل، إذ قد يكون صادقا فكيف يكذب نفسه، فكأنه للرواية فيوري
للنص ثم قال: وردت في النساء وحكم الرجال حكمهن في ذلك بالإجماع، وإذا كان
القاذف عبدا أو أمة فالحد أربعون جلدة عند أكثر الفقهاء، وروى أصحابنا أن الحد
ثمانون في الحر والعبد سواء، وظاهر الآية يقتضي ذلك، ولا شك في ذلك لو لم
يكن معارض وهو ظاهر.
* (الثالث) *
* (حد السرقة) *
وفيه آيتان:
الأولى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله
والله عزيز حكيم (1).
أي الذي سرق، والتي سرقت، فصح دخول الفاء في الخبر، أي فمقول في
حقهما ذلك، فالانشائية خبر بالتأويل، و " جزا - نكالا " منصوبان على المفعول
له، أو المصدر، ودل على فعلهما " فاقطعوا " والظاهر الأول وفي ذكر السارقة
صريحا مبالغة في القطع " والله عزيز حكيم " قادر على الانتقام ويعاقب بحكمته في
الدنيا والآخرة.
" فمن تاب " من السرقة " من بعد ظلمه " أي سرقته " وأصلح " أمره كأنه
كناية عن البقاء على التوبة أو العمل الصالح وإصلاح العمل، كما ورد في بعض
الآيات الأخر، ولكن فسروها أيضا بالبقاء أو بعبادة أخرى غير التوبة بعدها، و
يحتمل أن يكون كناية عن استقرارها والجد في الندامة والعزم عليها، لعدم وجوب
غير التوبة لقبول التوبة للأصل، بل الاجماع، والآيات والأخبار " فإن الله يتوب

(1) المائدة: 38 و 39.
663

عليه " يقبل توبته تفضلا لقوله " إن الله غفور رحيم " فلا ينافي في وجوبه للوعد، بل
يدل على وجوبه كما مر. فإن الله تعالى لا يعذبه في الآخرة بالسرقة، وإن كان المال
في ذمته فيعاقب بحق الناس.
أما العذاب في الدنيا يعني القطع فظاهر الآية السقوط لعموم قوله " فمن تاب "
الآية فإن ظاهرها عدم تعذيبه تعالى إياه أصلا، ولا شك أن قطع اليد تعذيب
ولكن لا شك أن هذا القطع فيه حق الناس ولهذا لو عفى عنه قبل الاثبات وقبل
المحاكمة يسقط وحق الناس لا يسقط بالتوبة، ويمكن السقوط لو تاب قبل الاثبات
والظفر، وعدمه بعده، على ما قالوه كأنه للأخبار والاجماع ويؤيده أنه ليس
بأعظم من المحارب، مع أن في حد المحارب أيضا شائبة حق الناس.
واعلم أن للقطع بالسرقة شرائط مذكورة في الفروع، مستخرجة من الأخبار
وإجماع الأمة، وأن محل القطع من أصول الأصابع عند الطائفة الإمامية، وعند
غيرهم من الزند فتأمل، ثم يفهم من الآية التي بعدها أن سماع الكذب حرام إما
بمعنى مجرد الاستماع، أو إجابته وقبوله، من قولنا سمع الله لمن حمده أي أجاب.
* (الرابع) *
* (حد المحارب) *
وفيه أيضا آيتان:
" إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " (1) قيل: يحاربون أولياء الله وأولياء
رسوله، وهم المسلمون، جعل محاربتهم محاربتهما، أو المراد محاربتهما باعتبار عدم
سماع النهي عن المحاربة فيحاربون من نهى عن محاربته، فكأنهم حاربوا الناهي
فالمراد قطاع الطريق وقد عرف المحارب في الفروع بأنه من شهر السلاح لإخافة
المسلم في البر والبحر والبلدان وغيرها، والظاهر أن المراد من شهره ليخوفه من
القتل بقصد أخذ ماله غيلة وجهرا بحيث لو لم يخف ولو يترك المال له لقتله وأخذ
ماله، لا كل من شهر السلاح للإخافة فيدخل فيه كل مخوف غيره بشهر السلاح

(1) المائدة: 33.
664

وقالوا أيضا: السلاح أعم من المحدد وغيره، فيدخل فيه العصا.
" ويسعون في الأرض فسادا " كأنه بيان لتحقق معنى المحاربة، وتأكيد
لثبوت حقيقته و " فسادا " يحتمل كونه علة ومصدرا أيضا بغير لفظه، لأن السعي في
الأرض للمحاربة فساد فكأنه قيل: ويفسدون في الأرض فسادا، وفيه أيضا إشارة
إلى أن الفساد موجب لجواز القتل.
" أن يقتلوا " خبر " جزاء " أي يقتلون قصاصا أو حدا على تقدير العفو
من غير صلب إن اقتصروا على قتل النفس " أو يصلبوا " معه إن قتلوا وأخذوا
المال، قيل الصلب بعد القتل، وقيل: القتل بالصلب، والأخير أظهر من الآية
" أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " ويتركوا حتى يموتوا قيل اليد اليمنى
والرجل اليسرى إن أخذوا المال ولم يقتلوا، فيها إجمال من جهة موضع القطع
منهما، وأن المراد الرجل اليمنى واليد اليسرى أو العكس، والظاهر جواز ما
يصدق، وعدم التعدي إلى ما لا يتحقق دليله.
" أو ينفوا من الأرض " أي من بلد إلى بلد، بحيث لا يمكنوهم من القرار في
بلد، ولا يطعمونهم إن اقتصروا على الإخافة، والآية محمولة على هذا التفصيل
وقيل للتخيير يعني الإمام مخير بين جميع المذكورات في كل محارب، وهو الظاهر
من الآية، وأحكام المحارب مذكورة في الفروع بتفاصيلها، ولما كان الحكم إلى الإمام عليه السلام ما كان تحقيقها من وظائفنا، ولهذا تركنا أكثر ما يتعلق به عليه السلام لأن
الغرض معرفة ما يجب علينا ونحن عاجزون منه فلا نتعدى إلى غيره " ذلك لهم خزي
في الدنيا " وفضيحة " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " لعظم ذنوبهم.
" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " معلوم أن الساقط بالتوبة إنما
هو الحد الذي هو حق الله، لا حقوق الناس، مثل القتل قصاصا ويؤيده " فاعلموا
أن الله غفور رحيم " فالقتل الواجب حدا يسقط، ويبقى الجايز قصاصا وقيد التوبة
بقبل القدرة فلو قدروا عليهم ثم تابوا لم يسقط عنهم شئ من الحدود وحقوق الله
في الدنيا، وأما الذنب في الآخرة فيسقط بالتوبة مطلقا في حقوقه تعالى.
665

* (كتاب الجنايات) *
وفيه آيات:
الأولى: " من أجل ذلك كتبنا علي بني إسرائيل " (1) أي بسبب قتل قابيل
هابيل قضينا علي بني إسرائيل وبينا لهم حتى يعلموا ولم يقع منهم مثل ما وقع منه
" أنه من قتل نفسا بغير نفس " أي بغير قتل نفس يوجب القصاص " أو " بغير " فساد
في الأرض " قيل كالشرك وقطع الطريق أو إشارة إلى أن أحدهما كاف لجواز القتل
وأن في التحريم لا بد من نفيهما، والظاهر من الفساد أعم فيدل على إباحة القتل
للفساد، ويدل على جوازه لمطلق الفتنة أيضا قوله تعالى " والفتنة أشد من القتل " (2)
ولكن الفتنة والفساد مجملتان غير واضحتين نعم، الظاهر أن ما يوجب القتل حدا
داخل فيه، مثل اللواط وزنى المحصن، ونحو ذلك ولو وجد القائل بقتل من يوقع الفتنة
والفساد بين المسلمين، بأن يفعل ما يوجب قتلهم ظلما، مثل الذي يسعى في استحقاق
قتل المؤمن، بأنه رافضي وسباب وليس كذلك، ويجعل فتنة كبيرة لكان حسنا
والله أعلم.
" فكأنما قتل الناس جميعا " من حيث إنه هتك حرمة الدماء وسن القتل، و
جرئ الناس عليه، أو من حيث إن قتل الواحد والجميع سواء في استجلاب غضب
الله تعالى والعذاب العظيم.
" ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " أي ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو عن
قصاص، ومنع عن القتل، أو استنقاذ عن بعض أسبابه، مثل الحرق والغرق فكأنما فعل
ذلك بجميع الناس، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها. أو يكون إشارة إلى
التودد ومحبة بعض إلى بعض كما أشير إليه في الأخبار بأن قتل واحد بمنزلة الباقي
كله فيتألم له جميع ذلك، فإن ضرب واحد ضرب الكل، وإذا حصل نفع وفرح لواحد

(1) المائدة: 32.
(2) البقرة: 191.
666

فيكون ذلك للكل، فينبغي رفع الحسد والبغض، والنظر إلى نفع الكل، و
الاجتناب عن تضررهم والتألم لهم، إلا على وجه شرعي من حد وتعزير.
ففيها إشارة إلى منع الحسد، وجميع المفاسد، والضرر، وقصد جميع الخير
بالنسبة إلى نفسه وغيره، من قريب وبعيد، واحتساب أن نفع الغير نفعه، وكذا
ضرره وإذا عمل الانسان ذلك لم يقع فساد أصلا.
الثانية: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر
بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى (1).
أي فرض وأوجب عليكم التعويض فيمن قتل منكم بأن يفعل بالقاتل منكم
عمدا ما فعل بالمقتول، بمعنى أن ليس له أن يأبى عن ذلك بل يسلم نفسه لو أراد ذلك
صاحب الحق، فلا ينافيه جواز أخذ الدية والعفو من غير شئ، فإنه إحسان وما
على المحسنين من سبيل، كما يبرأ ذمة من عليه الحق كما يفهم من الآية والأخبار
ولا عدم جواز القتل في غير العمد لأن المراد هنا العمد بالإجماع، وأدلة أخرى، فيجب
على الحر أن يسلم نفسه للقتل إن قتل حرا عمدا، وكذا العبد والأنثى، سواء
كانت أمة أو حرة قال في مجمع البيان: أما من يتولى القصاص فهو إمام المسلمين
وهذا خلاف ما عليه أكثر الأصحاب فإنه القائل به والشيخ في المبسوط والعلامة
في القواعد، مع أنهما أيضا في غيرهما على عدم الاشتراط ويدل عليه الأصل، و
عموم الأخبار والآيات، وخصوص " فقد جعلنا لوليه سلطانا " (2).
" فمن عفي له من أخيه شئ " قيل: المراد بمن القاتل، وبالأخ المقتول
وتسمية القاتل بأخ المقتول، تدل على عدم خروجه بالقتل عن إخوة الايمان
فالقاتل مؤمن ولم يخرج عنه بالقتل، فدل على عدم اعتبار ترك المعاصي حتى قتل
المؤمن في الايمان، وقيل المراد بالأخ العافي الذي هو ولي الدم سماه الله أخا للقاتل
ليشفق عليه بأن يقبل الدية أو يعفو بالكلية، أو لا يقتله على طريق المشقة ولا يبغضه

(1) البقرة: 178.
(2) أسرى: 37.
667

فيفهم كمال الاهتمام بأخوة الايمان.
قال في الكشاف وتفسير القاضي ومجمع البيان وفي قوله " شئ " دليل على أن
بعض الأولياء إذا عفى سقط القود، لأن شيئا من الدم قد بطل بعفو البعض والله تعالى
قال " فمن عفي له من أخيه شئ " الآية والضمير في " له " و " في أخيه " كلاهما يرجعان إلى
" من " وهو القاتل أي من ترك له القتل ورضي عنه بالدية، هذا قول أكثر المفسرين
قالوا العفو أن يقبل الدية في قتل العمد، ولم يذكر سبحانه العافي لكنه معلوم أن
المراد به من له القصاص المطالبة وهو ولي الدم.
وأنت تعلم أن عفو بعض الورثة لا يسقط القود الثابت لباقي الورثة على ما
هو في كتب الأصحاب وادعى الاجماع عليه الشهيد الثاني في شرح الشرايع ولا دلالة
في الآية عليه، إذ معناها الله يعلم أن ليس من العافي إلا الاتباع، ومن المعفو له إلا
الأداء بالإحسان، ولا يفهم منه حكم غير العافي، فما كان له باق غير ساقط وهو ظاهر
وقال في الكشاف والقاضي أن عفى الشئ بمعنى تركه، حتى يكون شئ مفعولا
به له، لما جاء في اللغة، إذ لا يقال عفاه بل أعفاه فهو لازم، فالمعنى من عفي له من
جهة أخيه شئ من العفو، فالشئ مفعول مطلق.
ثم قال في مجمع البيان: والقول الآخر أن المراد بقوله " فمن عفي له "
ولي الدم، والهاء في " له " و " أخيه " يرجع إليه، وتقديره فمن بذل له من أخيه
يعني أخ الولي، وهو المقتول الدية، ويكون العافي معطى المال ذكر ذلك عن مالك
ومن نصر هذا القول قال: إن لفظ شئ منكر، والقود معلوم، فلا يجوز الكناية
عنه بلفظ المنكر، إلى قوله وهذا ضعيف، والقول الأول أظهر وقد ذكرنا القول في
تنكير شئ هذا.
وقد عرفت أنه غير منطبق على كلام الأصحاب إذ المشهور عندهم جواز
القود للبعض مع رضا البعض بالدية والعفو فيؤدي حصص الباقين، نعم نقل في
الاسقاط رواية والعمل بها والقائل غير معلوم، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن كل
العفو وبعضه مساو في الحكم وهو اتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان.
668

وأيضا قال: وأما الذين لهم العفو عن القصاص فكل من يرث الدية إلا الزوج
والزوجة عند غير أصحابنا فلا يستثنونهما، وفيه أيضا تأمل إذ الزوج والزوجة لا
يرثان القصاص، ولعل ما فيه خلاف عندهم، نعم يرثان من الدية مع العفو عليها فلا
معنى لعفوهما عن القصاص، فكأنه يريد إرث الدية فتأمل.
" فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " أي فعلى العافي اتباع بالمعروف
أي لا يشدد في الطلب وينظره إن كان معسرا ولا يطالبه بالزيادة على حقه، وعلى
المعفو له أداء إليه أي إلى الولي بإحسان، أي الدفع عند الامكان من غير مطل
وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، وقيل المراد فعلى المعفو عنه الاتباع والأداء
و " ذلك " إشارة إلى جميع ما تقدم " تخفيف من ربكم ورحمة " معناه جعل القصاص
والدية والعفو والتخيير بينهما تخفيف من الله ورحمة لكم، قيل كان لأهل التوراة
القصاص فقط، ولأهل الإنجيل العفو مطلقا.
" فمن اعتدى بعد ذلك " بأن قتل بعد قبول الدية والعفو، وهو المروي عن
أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام وقيل بأن قتل غير القاتل سواء قتله أيضا أم لا، أو
طلب أكثر مما وجب له من الدية، وقيل بأن يجاوز الحد بعد ما بين له كيفية
القصاص، وقال القاضي: يجب الحمل على الجميع للعموم " فله عذاب أليم " في
الآخرة كذا في المجمع والكشاف ويحتمل كون العذاب في الدنيا أيضا بالقصاص
وبالتعزير، وكذا يمكن حمل الاعتداء على الأعم من المذكورات، بأن لا يتبع
بالمعروف ولا يؤدي بالإحسان، أو لا يسلم القاتل نفسه للقصاص، وبالجملة ومن
تعدى عما شرع أعم من القاتل والمقتول وغيرهما، وعن أحكام القصاص وغيره
لعموم اللفظ.
فتركيب الآية أن القصاص مفعول قائم مقام فاعل كتب، والحر مبتدأ و
خبره بالحر متعلقا بمقدر، مثل يقتص، وكذا ما بعده، والمجموع بيان لكيفية
القصاص، أو يكون الحر فاعل فعل محذوف أي يقتص الحر وكذا الباقي و " من "
في " فمن عفي له من أخيه شئ " موصولة مبتدأ، والجملة صلته " وشئ " مفعول مطلق قائم
669

مقام فاعل " عفي " و " فاتباع " مبتدأ وخبره محذوف أي فعليه اتباع أو فالواجب
عليه اتباع، أو خبر مبتدأ محذوف أي فحكمه اتباع، أو فاعل فعل مقدر أي
فليكن اتباع والجملة خبر " من " والفاء يصح لتضمن المبتدأ معنى الشرط، و
الظاهر أن ضمير إليه راجع إلى " من " وهذا يدل على أن الاتباع والأداء كلاهما
حال المفعول له ووصف له، وهو ولي الدم كما مر في التأويل الأخير، وعلى الأول
يحتاج إلى التقدير أي فعلى عافي من عفي له اتباع وعليه أداء إلى ذلك العافي
فضمير إليه أيضا للعافي المعلوم من عفي وهو أيضا خلاف الظاهر، وموجب للتفكيك
ويكون " وأداء إليه " عطف الجملة على الجملة، لا عطف المفرد على المفرد، وإن
صح ذلك أيضا على الاجمال كما مر فتأمل.
و " ذلك " مبتدأ و " تخفيف " خبره و " رحمة " عطف على تخفيف و " فمن " أيضا
موصولة مبتدأ والجملة صلته، وعايده ضمير اعتدى و " عذاب " مبتدأ و " أليم " صفته
و " له " متعلق بمقدر خبره، والجملة خبر " من " وصحت الفاء لتضمن معنى
الشرط كما مر.
ثم اعلم أن ظاهر الآية الشريفة كون القصاص وحده هو موجب القتل، حيث
اقتصر عليه، والغير وهو الدية منفي بالأصل، وإن سلم أن الوجوب المستفاد من
كتب أعم من التخييري والعيني، وأنه ليس بمتبادر، وأن التخيير ليس بنسخ
للواجب العيني، مع وجود شرائطه، فهو متعين في الآية لأن وجوب القصاص
منصوص والغير منفي بالأصل، والتخيير ليس بنسخ له ولو وجد، لأنه كان ثابتا
بأصل عدم الغير، والنسخ إنما يكون لحكم شرعي فكأن هذا معنى احتجاج
الحنفية بها على أن مقتضى العمد هو القود، فلا يرد عليهم قول البيضاوي: وهو
ضعيف إذ الواجب على التخيير يصدق عليه، أنه وجب، وكتب. ولذلك قيل التخيير
بين الواجب وغيره ليس بنسخ لوجوبه.
وأن ظاهرها وجوب التماثل في القصاص، يعني إنما يجب القصاص إذا كان
القاتل والمقتول متساويين في الحرية والعبدية، والذكورة والأنوثة بمفهومها، و
670

أن قوله " الحر " الخ. بيان للقصاص الواجب فلا يكون غيره واجبا، وبما نقل من
سبب النزول: وهو أنه كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دما، وكان
لأحدهما طول على الآخر كأنه قوة وتسلط فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد
منا وكذلك الذكر بالأنثى، فلما جاء الاسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فنزلت
وأمرهم أن يتبوؤا.
فتدل على عدم جواز قتل الحر بالعبد وبالعكس، وهو ظاهر فقول البيضاوي
أنها لا تدل عليه، فإن المفهوم حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم
وقد بينا ما كان الغرض كأنه إشارة إلى سبب النزول ومنع العرب مما أرادوا أن يفعلوا
محل تأمل إذ سبب النزول يدل على ذلك فإنهم أرادوا قتل الحر بالعبد فمنعوا
بالآية وأيضا قد يقال: لم يكف في حجية المفهوم عدم ظهور غرض سوى اختصاص الحكم
بل لا بد من ظهور عدم غرض سواه فإن دليل الحجية لزوم اللغو، وذلك غير لازم
إلا على الثاني لا الأول فتأمل، نعم يمكن أن يقال لم يظهر كون ذلك بيانا، وعلى
التقدير يكون منفيا بالأصل، لا بالآية، والمفهوم ليس بمعتبر لأنه إما لقب أو
صفة وما ثبت في الأصول اعتبارهما فارجع إليه.
وأما سبب النزول فالظاهر منه أن المقصود نفي تفاضل إحدى الحيين على
الآخر كما كان مرادهم، والمفهوم من قولهم " كان لأحدهما طول " ومن قولهم
" لنقتلن الحر منكم بعبد منا " وكذا من الذكر بالأنثى، وقولهم والاثنين بواحد
كما نقله في الكشاف بعد قوله بالأنثى - وقال في مجمع البيان وأقسموا لنقتلن
بالعبد منا الحر منهم وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منهم الرجلين منا، و
الظاهر أن في الكتاب سقم والصحيح. وبالرجل منا الرجلين منهم (1) - وجعلوا أيضا
جراحاتهم على الضعف من جراحات أولئك حتى جاء الاسلام فأنزل الله الآية، و
يكون الغرض من ذكر الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى مجرد نفي

(1) كما هو المطبوع في طبعة صيدا ج 1 ص 265.
671

تفاضلهم، والرد عليهم بأن لا يقتلوا اثنين بواحد، ولا حر غيرهم بعبدهم من دون
العكس، وهذا المقدار يكفي لاخراج المفهوم عن الحجية على تقديرها لأنه ما
صار التخصيص لغوا لو لم يكن فائدته نفي الحكم عن غير المذكور.
وبعد هذا كله فلا يبعد أن نقول المفهوم يدل على ذلك، وهو معتبر هنا في
الجملة لكن يفهم جواز قتل العبد بالحر بالطريق الأولى، وكذا قتل الأنثى
بالرجل ولما لم يكن على العبد سوى نفسه شئ فلا يؤخذ من مولاه شئ آخر غير
نفس العبد بخلاف المرأة فإنها تقتل بالرجل، ويمكن أن تؤخذ نصف الدية أيضا
لأنها نصف الرجل ويمكن عدم إثبات شئ سوى نفسها، وأما نفي قتل الحر بالعبد
فنقول أنه مفهوم من الآية، ونقول به، وأما قتل الرجل بالمرأة فيقول به الأصحاب
من دليل آخر وهو الأخبار بل إجماعهم فيخصص به مفهوم الآية، وبالجملة المفهوم
حجة ولكن يترك بأقوى منه وقد بيناه.
والحاصل أن العمدة في تفاصيل الأحكام الأخبار والاجماع، ومن هذا علم
أنها ليست بمنسوخة، وإن قلنا بمفهومها بقوله تعالى " النفس بالنفس " كما قاله
في الكشاف حيث قال: وعن سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والثوري
وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه أنها منسوخة بقوله " النفس بالنفس " فالقصاص
ثابت بين العبد والحر، وبين الذكر والأنثى الخ فإنه لا يصح أما أولا فلأن
النفس بالنفس حكاية ما كان واجبا ومكتوبا في التوراة وليس بمعلوم ثبوت ذلك في
المسلمين، وأما ثانيا فلأنه لا عموم له بحيث ينسخ به شئ خاص، وأما ثالثا فلأن
المفهوم على تقدير حجيته دليل ضعيف فلا ينسخ به المنطوق إذ لا صلاحية له للتعارض
فهو ترك مفهوم بمنطوق إلا أن يثبت العمل بالمفهوم ثم ترك النفس بالنفس، وأما
رابعا فلأنه يمكن التخصيص وهو أولى من النسخ، وأما خامسا فلأنه لا شك في
بقاء بعض الأحكام في الآية فلا يصح الحكم بأنها منسوخة إلا أن يريد نسخ
المفهوم (1).

(1) العموم خ ل.
672

الثالثة: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (1).
تدل على مشروعية القصاص ولمه.
الرابعة: " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله " (2) نهى نهي تحريم عن قتل الانسان
ويمكن الأعم بغير سبب مبيح لذلك، مثل الارتداد والقصاص " إلا بالحق " وهو السبب
المبيح لذلك كما مر وأشار إلى بعض الأسباب المبيحة بقوله " ومن قتل مظلوما " أي
بغير سبب مبيح بل ظلما وعدوانا " فقد جعلنا لوليه سلطانا " فقد جعل الله تعالى
لولي المقتول الذي تقرر شرعا سلطنة وتسلطا على ذلك القاتل في الاقتصاص منه
ويحتمل أن يكون المراد بغير سبب مبيح، وإن لم يكن عدوانا فقد جعل لوليه
تسلطا على الأعواض فيشمل الخطأ وشبهه أيضا.
" فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا " أي ولي الدم لا يتجاوز حد ما شرع
له من القتل، على وجه القصاص الذي شرع له في الشرع، فإنه لو تجاوز فقد جعل
من تعدى عليه منصورا بشرع التعويض له، مثل أن مثل الولي قاتل أبيه ثم أراد
قتله، فجعل الله القاتل منصورا بشرع القصاص في المثلة ثم القصاص ونحو ذلك، و
بالجملة لا يجوز له أن يتعدى الشرع بأن يقتل الاثنين بواحد وحرا بعبد ومسلما
بكافر، ولا يتجاوز في طريق القتل عما حد له، ويحتمل كون الضمير للولي يعني
حسبه إن الله تعالى قد نصره بأن أوجب له القصاص والتعويض، فلا يستزد على
ذلك، وبأن الله نصره بمعونة السلطان، وباظهار المؤمنين على استيفاء الحق فلا
يبغ ما وراء حقه، ويحتمل للمظلوم بأن الله ناصره حيث أوجب القصاص بقتله، و
ينصره في الآخرة بالثواب.
وهذه الآية كالصريحة في جواز استيفاء الحق من القصاص والدية مستقلا
بغير إذن الحاكم وثبوت عنده فقول البعض بعيد.

(1) البقرة: 179.
(2) أسرى: 33.
673

الخامسة: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله
عليه ولعنه وأعد لهم عذابا عظيما (1).
أي قاصدا إلى قتله عالما بإيمانه وحرمة قتله وعصمة دمه، فيحتمل أن
يكون الخلود حينئذ كناية عن كثرة المدة ومقيدا بعدم العفو والتوبة أو مستحلا
لذلك، أو قاتلا لايمانه فيكون كافرا، فلا يحتاج إلى التأويل والأخير مروي
وقال في مجمع البيان وقيل معنى التعمد أن يقتل على دينه، رواه العياشي بإسناده عن الصادق عليه السلام وظاهر الآية يدل على عدم الكفارة والدية للمقابلة، ولكن
ثبت كفارة الجمع بالاتفاق والأخبار، بل القصاص أيضا ولهذا ذكرنا ها هنا وتفصيل
أقسامه وتحقيق الكفارة في الفقه، وكذا تحقيق أن الحق للوارث فقط أوله
وللمقتول أيضا وأنه يفوت حق الوارث لو لم يصل إليه ومات فيرجع إلى الأول كما
نبه عليه المحقق الثاني على ما نقل عنه في تحقيق المال ولا غرض مهمة يتعلق بتحقيق
ذلك والظاهر أنه لهما، ولكن حق المقتول باق، وإن سلم القاتل نفسه للقصاص
اقتص أم لا، وبرئ من حق الوارث الله يعلم، وأيضا على القاتل توبة ولكن لا بد
فيها من الخروج عن حقوق الورثة وأيضا يجوز العفو لله عنه وعن سائر العصاة
إن شاء إلا المشرك " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فيعوض
عن المقتول ووارثه حتى يرضوا ويتجاوزوا عن حقوقهم.
والوعيد بالعقاب حق لله تعالى وتركه غير قبيح بل حسن كما أن توعد
عبدك بالضرب والقتل ثم مع القدرة تعفو عنه فإنه لا محالة يعد حسنا ما لم يتضمن
تضييع حق غيرك، ومفسدة أخرى، والوعيد مقيد بالمشيئة وعدم مشية الترك
والعفو وهو ظاهر.
السادسة: " وما كان لمؤمن " (1) أي ما صح وما استقام أو ما جاز له " أن يقتل
مؤمنا " بغير حق واستحقاق كالقصاص والحد لعلة من العلل أصلا " إلا خطأ "

(1) النساء: 95 و 96.
(2) النساء: 95 و 96.
674

أي إلا لخطأ بأن قصد مثلا بسهمه صيدا فقتل به مؤمنا وبالجملة أن لا يقصد القتل
بفعله الذي ترتب عليه القتل ولم يكن يترتب عليه القتل فهو مفعول له، أو في
حال من الحالات إلا حال كونه خطأ فهو حال أو ظرف أو قتلا خطأ، فهو صفة
مفعول مطلق محذوف أو قتل خطأ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والاستثناء
متصل على التقادير.
قال البيضاوي وقيل " ما كان " نفي في معنى النهي والاستثناء منقطع أي لكن إن
قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر، ويحتمل حينئذ الاتصال أي يحرم قتل المؤمن مطلقا
إلا خطأ وفي الكشاف مفعول له أي ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ
وحده، وفيه تأمل فإن معناه ينبغي قتل المؤمن خطأ.
قال في مجمع البيان: أجمع المحققون من النحويين على أن قوله " إلا خطأ "
استثناء منقطع من الأول على معنى ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة إلا أن يخطأ
المؤمن إلى قوله: فمعنى الآية على ما وصفناه ليس من صفة المؤمن أن يقتل مؤمنا
إلا خطأ وعلى هذا فالاستثناء متصل ومن قال منقطع قال قد تم الكلام عند قوله
أن يقتل مؤمنا ثم قال فإن كان القتل خطأ فحكمه كذا، وإنما لم يحمل قوله " إلا خطأ "
على حقيقة الاستثناء لأن ذلك يؤدي إلى الأمر بقتل الخطأ أو إباحته ولا يجوز
واحد منهما، والخطأ هو أن تريد شيئا فتصيب غيره الخ وفيه تأمل.
" ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " أي فيلزمه أو فعليه أو فالواجب
فهو إما فاعل أو مبتدأ خبره محذوف أو خبر مبتدأ محذوف، والمراد بالرقبة هو الرق
والمملوك مطلقا وتوصيفه بالمؤمن يخرج غيره كأنه الذي يطلق عليه في الشرع
ذلك ومن يكون بحكمه فلا يبعد إجزاء المولود من المؤمنين بل من مؤمن وغيره
أيضا لأنه بحكم المؤمن شرعا إلا على تقدير اشتراط البلوغ، والظاهر أنه لا يشترط
ولا فعل الصلاة والصوم، والمراد بالمؤمن هو المسلم عند الجمهور، ويحتمل كونه
بالمعنى الخاص عند الأصحاب وتمام تحقيقه في الفقه.
قال في مجمع البيان: الرقبة المؤمنة هي البالغة التي آمنت وصلت وصامت
675

لا يجزي في كفارة القتل الطفل ولا الكافر عن ابن عباس والشعبي وإبراهيم
والحسن وقتادة وقيل يجزي كل رقبة ولدت على الاسلام عن عطا والأول أقوى
لأن لفظ الرقبة لا يطلق إلا على البالغ الملتزم للفرائض إلا أن من ولد بين مؤمنين
فلا خلاف أنه يحكم له بالايمان.
وهذا الكلام يشم منه رائحة التنافي، وأن العمل شرط في صدق الايمان وأن
مراده بالمؤمن المسلم فتأمل فيه، والظاهر أن المراد بالمؤمن هنا من يصدق عليه
المسلم ولو حكما للأصل وللصدق لغة وعرفا عاما وشرعا ولقوله بعده " فإن كان من
قوم " الآية فيكفي المسلم البالغ مطلقا والحاصل من مسلم وإن كان أحد أبويه
كافرا كما هو مصرح في شرح الارشاد وغيره لما مر.
" ودية مسلمة إلى أهله " أي ويلزم بالقتل ويجب به حق آخر غير حق الله
أي عتق الرقبة، وهو دية يجب تسليمها إلى أهل المقتول ووارثه وهذا أولى من
تقدير " عليه " لقلة التأويل في اللزوم على العاقلة، فهو مؤيد لتقدير مثل يلزم في
الأول وظاهر الآية والعقل لزومها على القاتل إلا أن النص والاجماع حملها على
العاقلة وتفصيل مقدار الدية وأنه في كم يؤدي وأنها على العاقلة، ومن العاقلة
وأن من يرثها يطلب من الفقه.
" إلا أن يصدقوا " يعني إلا أن يتصدق أهل المقتول بالدية على من يجب
عليه من العاقلة استثناء من التسليم الواجب على كل حال الذي يدل عليه
مسلمة واللزوم المقدر الذي هو متعلق الدية فإن التقدير يلزم به الدية أو عليه كما
مر، فهو منصوب على الحال من الفاعل أو الأهل أو الظرف ويعلم منه إطلاق
التصدق على إبراء ما في الذمة وصحته به، والعفو فليس بمخصوص بالعين فيصدق
التصدق في العين والدين كما يدل عليه أيضا قوله تعالى " وأن تصدقوا خير لكم "
وما روي عنه صلى الله عليه وآله كل معروف صدقة، وقيل في التعبير بالتصدق حث على العفو
فإن ثواب التصدق كثير، ومعلوم ومعروف.
676

" فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن " أي إن كان المقتول خطأ من جملة
قوم عدو لكم أي كفار مشركين لا عهد ولا ميثاق بينكم وبينهم، وهو في نفسه مسلم
ولم يعلم قاتله إسلامه فقتله وهو يظن أنه مشرك " فتحرير رقبة مؤمنة " فاللازم
إعتاق رقبة مؤمنة فقط، لا الدية أيضا للمقابلة فلا دية له لهذه الآية، لا لأن ورثته
كفار لا يرثون المسلم، إذ قد يكون له ورثة مسلمين، وقد ثبت أنهم لا يعطون الدية
مطلقا كما هو ظاهر الآية، ولأن الدية قد لا تكون كالإرث، ولهذا يعطون إن كان
من قوم بيننا وبينهم ميثاق مطلقا مع عدم الإرث.
قال في مجمع البيان: فعلى قاتله تحرير رقبة مؤمنة وليس فيه دية عن ابن
عباس، وقيل معناه إذا كان القتل في عداد قوم أعداء وهو مؤمن بين أظهرهم لم يهاجر
فمن قتله فلا دية له وعليه تحرير رقبة مؤمنة فقط، لأن الدية ميراث وأهله كفار
لا يرثونه عن ابن عباس في رواية أخرى وفيه تأمل لما مر.
وأما تفصيل الدية والرقبة وأنهما من ماله أو من بيت المال إذا كان في
الجهاد فمعلوم من الفقه كغيره من الأحكام فليطلب هناك " وإن كان " المقتول " من
قوم بينكم وبينهم ميثاق " أي عهد وذمة وليس بينكم وبينهم حرب " فدية مسلمة
إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة " تحرير الرقبة كفارة القتل والدية حق للورثة
والظاهر من سوق الكلام كون هذا القتل أيضا خطأ وأن ديته أيضا على العاقلة
لأهل المقتول مطلقا، والكفارة على نفسه، وقال في مجمع البيان: وهو المروي
عن الصادق عليه السلام وأن المراد كون هذا المقتول أيضا مؤمنا ولم يعلمه القاتل وإلا
لا وجه للكفارة.
قال في مجمع البيان قيل إنه كافر يلزم ديته بسبب العهد، وقيل مؤمن يلزم
قاتله الدية ويؤديها إلى قوم مشركين لأنهم أهل ذمة عن الحسن وإبراهيم ورواه
أصحابنا أيضا إلا أنهم قالوا نعطي ديته ورثته المسلمين دون الكفار وهو خلاف ظاهر
الآية فإن الظاهر أنه لا بد من الدية لأهل المقتول من كان وأيضا يلزم عدم الدية
على تقدير كون الأهل وهو أيضا خلاف ظاهر الآية إلا أن يقال: يكون
677

للإمام عليه السلام، وهو المراد بأهله حينئذ لأن المراد به الوارث وهو الوارث على ما
بين في محله فتأمل فيه، إلا أن يثبت رواية توجب العمل بها فيتبين الآية بها، وإلا
لعمل بظاهر الآية، وإن لزم كون حكم الدية غير حكم الإرث، أو توريث الكافر
من المسلم، ولعل المسألة إنما تقع مع حضور المعصوم، وهو عارف بها، فلا يحتاج
إلى كثرة البحث عنها فتأمل.
" فمن لم يجد " أي لم يقدر على تحرير الرقبة إما بأن لا يجد الرقبة ولا ثمنها
أو لم يجدها مع وجود ثمنها أو يجدها ولكن لم يجد ثمنها. فقول مجمع البيان: بأن
لا يجد العبد ولا ثمنه محل التأمل.
" فصيام شهرين متتابعين " فيجب صيام شهرين ظاهره أعم من الهلالي والعددي
وإن كان الأول أظهر، وأيضا ظاهره عدم تحقق التتابع إلا بتتابع الجميع ولكن ذكر
الأصحاب أنه يحصل بشهر ويوم من الثاني للرواية، ولعله لا خلاف عندهم فيه، و
كذا ظاهره وجوبهما على العبد أيضا فالتنصيف له لما مر، مع أنه قد يقال العبد
غير داخل في الآية، لأن الصوم بعد أن وجب عليه الاعتاق وعجز ولا عتق عليه
ويمكن أن يجاب بأنه قد يكون عليه العتق على القول بتملكه كما هو الظاهر
فيكون هذا مؤيدا له، أو بأنه يصدق عليه عدم وجدان الرقبة والعجز عن الاعتاق
فيدخل تحت الصوم، ولم يعلم اشتراط وجوب الصوم بامكان وجوب العتق، ثم العجز
وهو ظاهر، فتخصص الآية بما تقدم فتأمل.
" توبة من الله " قيل نصب على المصدر، أو على المفعول له، أي تاب الله عليكم
توبة بالكفارة أي قبل توبتكم، أو للتوبة أي شرع ذلك للتوبة، أي لقبولها من
تاب الله إذا قبل التوبة " من الله " صفة توبة، وفي المعنى تأمل إذ لا ذنب في القتل خطأ
فلا يحتاج إلى التوبة إلا أن يقال كان يمكن الاحتراز [بالتحقيق] ولكنه ما كان مكلفا
وكأنه لذلك قال في مجمع البيان قيل المراد بالتوبة هنا التخفيف من الله لأنه سبحانه
إنما جوز للقاتل العدول إلى الصيام تخفيفا عليه، ويكون كقوله سبحانه " علم أن
لن تحصوه فتاب عليكم " فتأمل.
678

" وكان الله عليما " أي لم يزل عالما بكل الأشياء فمنه حال القاتل وقصده
والمقتول وايمانه " حكيما " فيما يأمر به وينهى عنه مطلقا، وكان مخفيا علينا في بعض
المواد ومثل التوبة في هذا المقام، وإيجاب الكفارة والدية مع عدم التكليف، و
كذا إيجابها على العاقلة من غير مدخليتها فيريد الإشارة إلى أنه إذا خفي عليكم
الحكمة لا تحكموا بعدمها، أو عدم علم الحاكم فإنه كفر نعوذ بالله، وخفاؤها لا يدل
على نفيها فينبغي فيه التفكر ليصل، فإن لم يصل يحكم بوجودها وعلم الحاكم بها، و
عدم فهمه لنا، إما لعدم التفكر على ما ينبغي أو وجود ما يمنع الفهم من الكدورات
الظاهرية والباطنية، أو لحكمة تكون في عدم الفهم الله يعلم.
السابعة: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف
بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن (1).
أي فرضنا عليهم في التوراة أن النفس تقتل بالنفس، إذا قتلها بغير حق، و
كذا العين تفقأ بالعين والأنف يجذم بالأنف، والأذن تقطع بالأذن، والسن يقلع
بالسن " والجروح قصاص " أي كل جرح ذي قصاص يثبت لصاحبه القصاص، كان
المراد غير ما ذكر أو أعم فليس من إجمال الحكم بعد تفصيله كما قاله القاضي
والمعلوم أن المراد جرح يمكن قصاصه، وإلا فالأرش والحكومة، وتفصيله في
غير هذا المحل.
" فمن تصدق به، فهو كفارة له " أي من تصدق بالقصاص بأن يعفو عنه
مطلقا فالتصدق كفارة للمتصدق يكفر الله به ذنوبه، ففيه أيضا دلالة على إطلاق
التصدق على الابراء والعفو والاسقاط، وعلى وقوع التكفير والآيات والأخبار
مملوة منه.
واعلم أن الظاهر أنه وقع الاجماع على وجود الحكم بعينه في شرعنا، كأنه
بمنزلة قوله كتبنا عليهم في التوراة كذا وكذلك عليكم هنا فهو موجود في أمة

(1) المائدة: 45.
679

محمد صلى الله عليه وآله بالآية، وإلا فلا شك في وجوده فيها بالأخبار والاجماع فتأمل.
الثامنة: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (1).
التاسعة: وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إن الله
لا يحب الظالمين (2).
هما تدلان على جواز القصاص في النفس والطرف والجروح، بل جواز
التعويض مطلقا حتى ضرب المضروب، وشتم المشتوم، بمثل فعلهما، فيخرج ما لا
يجوز التعويض والقصاص فيه، مثل كسر العظام والجرح والضرب في محل الخوف
والقذف ونحو ذلك وبقي الباقي، وأيضا تدلان على جواز ذلك من غير إذن الحاكم
والاثبات عنده والشهود وغيرها، والأخيرة تدل على عدم التجاوز عما فعل به
وتحريم الظلم والتعدي وعلى حسن العفو وعدم الانتقام، وأنه موجب لأجر
عظيم حيث أضاف الأجر إلى الله فالذي يفعله إنما يكون شيئا عظيما لا يقدر عليه غيره.
في الكشاف: عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم إلى قوله: وعن النبي صلى الله عليه وآله
إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان له على الله أجر فليقم قال فيقوم خلق فيقال لهم
ما أجركم على الله؟ فيقولون نحن الذين عفونا عمن ظلمنا، فيقال لهم ادخلوا الجنة
بإذن الله، والعقل أيضا يدل عليه ويدل عليه آيات أخر مثل " ادفع بالتي هي
أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " الآية، ولقوله تعالى " ولمن
صبر " على الظلم والأذى " وغفر " ولم ينتصر وفوض أمره الله إلى الله " إن ذلك لمن
عزم الأمور " " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين *
واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون * إن الله
مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " (3).
في الكشاف سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة، قيل عليه الأولى

(1) الشورى: 41.
(2) الشورى: 40.
(3) فصلت: 34، الشورى: 43، النحل: 125 - 127.
680

للمشاكلة بدل للمزاوجة، وكان مراده بها هنا المشاكلة والحق عدم الاحتياج إلى
عذر، لأن ما وقع على الثاني عقاب له ومؤلم، فسمي به لذلك، فهو مساو في
الأول والثاني وهو ظاهر كما هو معناه فإن المعنى: فإن أردتم معاقبة غيركم على
وجه المجازات والمكافات في النفس والطرف والمال، فعاقبوا بقدر ما عوقبتم به ولا
تزيدوا عليه ولا تجاوزوا عن المثل المحدود، من جميع الوجوه.
ومثل هذه الآية قوله تعالى " جزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره
على الله إنه لا يحب الظالمين " (1) أي يبغضهم وهنا يمكن الاحتياج إلى العذر لتسمية
الجزاء سيئة مع أنه يمكن أن يقال المراد المعنى اللغوي وهو حاصل بالنسبة إلى من
يفعل به وباعتقاده، فلا يحتاج ههنا " وأصلح " هذه مثل الذي بعد التوبة " وعمل
صالحا " فيمكن أن يكون تأكيدا للعفو بأن يكون عفوا حسنا مستديما غير ناكث
له وعلى وجه حسن لا أذى معه ولا منة.
وفيهما دلالة على جواز أخذ الحق من القصاص وغيره، من إذن حاكم
وشهود، فلا يشترط الحاكم فيه كما قال به بعض ومنه المقاصة في محلها كما ذكره
الأصحاب وأن العفو وعدم المكافات أحسن وأولى وأكثر أجرا فينبغي اختياره
إذ ليس في المكافاة إلا تسلية النفس، وإطفاء حرارتها، بخلاف العفو فإن فيه أجرا
عظيما لا يعلمه إلا الله، فإنه أبهم وأسند إلى الله تعالى وهو ظاهر، وتحريم التعدي
والتجاوز عن الحد وظاهرهما عام في كل حق.
قال في مجمع البيان: إن الآية عامة في كل ظلم كغصب ونحوه فإنما يجازى
بمثل ما عمل " ولئن صبرتم " أي تركتم المكافاة والمجازات والقصاص وتجرعتم
مرارة الصبر " لهو خير " وأحسن لكم منها أيها الصابرون، وفيه إشارة إلى أن أجر
حسن العفو وثوابه يحصل أجر الصابرين أيضا الذي هو بغير حساب. لما مثلوا
قتلى أحد كحمزة بن عبد المطلب فشقوا بطنه، وأخذت هند بنت عتبة كبده، فجعلت
تلوكه وجذعوا أنفه وأذنه، وقطعوا مذاكيره، قال المسلمون لئن أمكننا الله منهم

(1) الشورى: 40.
681

لنمثلن بالأحياء منهم فضلا عن الأموات، فنزلت وفي هذا السبب تأمل، وعلى
تقديره لا يخرج عن العموم كما هو المقرر فتأمل.
" واصبر " يا محمد فيما يبلغك من الكفار ودعوتهم وفيما تلقاه من الأذى
منهم، واصبر على ما يحث عليه من الطاعات وعلى ما يحث عنه من المعاصي والقبايح
" وما صبرك " وليس صبرك " إلا بالله " بتوفيقه وأمره وإقداره وتيسيره، فلا يكون
ضائعا بل موجبا للأجر العظيم " ولا تحزن " على المشركين في إعراضهم عنك وعدم
ايمانهم وبقائهم على الكفر الموجب لدخول النار وسخط الله، وقيل: ولا تحزن على
قتلى أحد حمزة وغيره فإنهم أدركوا القرب إلى الله وثوابه وأجره والرتبة العظيمة
عنده للشهادة " ولا تك في ضيق مما يمكرون " أي ولا يك صدرك في ضيق مما يمكر
بك وبأصحابك الكفار، فإن الله يرد كيدهم في نحورهم ويجازيهم بأعمالهم.
" إن الله مع الذين اتقوا " أي إنه مع المتقين عن الشرك وسائر المعاصي
والفواحش والكبائر بالنصر والحفظ والكلاءة " و " مع " الذين هم محسنون "
قيل الاتقاء عن المعاصي والحسن فيما فرضه الله عليهم من الطاعات.
وفيها دلالة على أجر الصبر، وعدم الحزن على ما يصل إلى الكفار أو إلينا
منهم، والصبر على التقوى وحسنها، وحسن الاحسان وحسن حال المحسنين، وفي
قوله تعالى " ولا تزر وازرة وزر أخرى " دلالة على عدم جواز مؤاخذة أحد بذنب
آخر وأخذ شئ بسبب فعل شخص آخر إلا ما استثني بالنص والاجماع، مثل مؤاخذة
العاقلة بفعل غيرها.
682

* (كتاب) *
* (القضاء والشهادات) *
وفيه آيات:
الأولى: وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم (1).
أمر له صلى الله عليه وآله بالحكم بين أحبار اليهود بما أنزل الله وعدم متابعة هواهم فيجب
علينا ذلك.
الثانية: " فلا وربك لا يؤمنون " (2) أي لا يزعموا أن الايمان يحصل بمجرد
اللسان مع المخالفة بالقلب وعدم الرضا بحكمه، إذا لم يوافق طباعهم، والتحاكم
إلى الطاغوت. أقسم بربك أنه ليس كذلك، إنهم لا يؤمنون حقيقة حق الايمان
" حتى يحكموك فيما شجر بينهم " حتى يجعلونك حاكما لا غيرك فيما وجد بينهم
من المخالفة في أمورهم، ثم إذا حكمت بينهم بشئ من الحق " لا يجدوا في أنفسهم
حرجا " ضيقا وشكا في أنه الحق " مما قضيت " مما حكمت به " ويسلموا تسليما "
وينقادوا لك انقيادا تاما من غير أن يشوبه شك وحرج وضيق خلق وعدم رضا، فإن
ذلك عدم الايمان.
ففي هذه الآية الشريفة كمال المبالغة في الرضا بالحق، وعدم إنكاره وعدم
التضجر به وأن ذلك مناف للايمان، وأنه ليس مخصوصا بحكمه صلى الله عليه وآله بل الحكم
الحق بل إنكار كل حكم عالم بحق أي عالم كان، هو نفس إنكار حكمه صلى الله عليه وآله
وهو ظاهر.
الثالثة: " ومن لم يحكم بما أنزل الله " (3) كان المراد مستهينا به. ومنكرا له
ومستخفا به " فأولئك هم الكافرون " لاستخفافهم بالشرع، وإنكارهم الضروري

(1) ص: 26.
(2) النساء: 65.
(3) المائدة: 44 و 45 و 47.
683

من الدين وبدون قيد " فأولئك هم الظالمون " لحكمهم بخلاف الحق " والفاسقون "
لخروجهم عن الشرع.
الرابعة: " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل (1) " أمر الله تعالى الحكام
أن يحكموا بالعدل، فتدل على وجوب العدل بين الناس في الحكم صريحا.
الخامسة: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك
الله ولا تكن للخائنين خصيما (2).
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله والكتاب هو القرآن " وبالحق " حال متعلق بمتلبسا
وبما أراك الله أي أعلمك الله إياه بالوحي، فهو من الرؤية بمعنى العلم لا الرأي
والقياس، فلا يدل على جواز القياس والاجتهاد له بل يدل على نفيه، ويدل أيضا على
عدم جواز معاونة المتخاصمين المتحاكمين، فيأخذ جانب أحدهما ويصير خصما للآخر
أو يعلمه ما يغلب به على خصمه، ونحو ذلك.
السادسة: فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم (3).
كأنه تخيير للنبي صلى الله عليه وآله ولمن يقوم مقامه من الإمام والقاضي، إن تحاكم
إليهم الكفار، بين أن يحكموا بينهم بالعدل، الذي هو الحق في نفس الأمر، وهو
مقتضى الاسلام، وبين أن يعرضوا عنهم بأن يحيلوهم إلى حكامهم يحكمون بينهم
بمقتضى شرعهم إن كان في شرعهم فيه حكم كما ذكر أصحابنا.
قال القاضي: تخيير لرسول الله صلى الله عليه وآله إذا تحاكموا إليه بين الحكم والاعراض
ولهذا قيل: لو تحاكم الكتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم وهو قول الشافعي
والأصح وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميا لأنا التزمنا الذب عنهم ودفع
الظلم منهم، والآية ليست في أهل الذمة، وفيه تأمل لأن ظاهر الآية في أهل الذمة

(1) النساء: 58.
(2) النساء: 105.
(3) المائدة: 42.
684

لقوله فيما سبق هذه " ومن الذين هادوا " الآية وما بعدها " وكيف يحكمونك و
عندهم التوراة " وأيضا الظاهر أن دفع الظلم واجب سواء التزمنا الذب أم لا عن
المسلم والكافر كتابيا كان أو غيره، وأيضا لا ظلم على ما حملناه عليه، فلعل القول
الأول للشافعي هو قول أصحابنا.
ويدل على نهي الحكام بل المكلف أن يخشوا غير الله في حكوماتهم، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ويداهنوا فيها فيترك ذلك خشية [ظلمهم ومراقبة كبيرهم]
قوله تعالى " ولا تخشوا الناس واخشون " (1) ولكن الظاهر أنه خرج منه التقية
في موضعها بإجماع الأصحاب وأخبارهم.
وأيضا نهى عن الرشوة قوله " ولا تشتروا " (2) أي لا تستبدلوا " بآياتي ثمنا قليلا "
وإن كان ملك الدنيا فإنه قليل بالنسبة إلى الآخرة.
السابعة: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله وإلى الرسول إن كنتم تؤمنون
بالله واليوم الآخر (3).
لما أمر الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة الحكام بأداء الأمانات إلى أهلها منها
الإمامة والخلافة إذا كانت بيد غير أهلها وبالحكم بالعدل بين الناس، وعدم الظلم و
الجور بقوله " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس
أن تحكموا بالعدل " الآية، أمر الناس والرعية بأن يطيعوهم وينزلوا على قضاياهم
وفي أولي الأمر خلاف قيل العلماء والمجتهدون وقيل أمراء المسلمين والحكام، و
إن كانوا جائرين، وذلك هو المشهور بين أهل السنة، فهم يوجبون طاعة حكام
الجور وإن كانوا فساقا غير عدول، بل يكونون في غاية الفسق والفجور، ولا يشترطون
غير الاسلام كما يوجبون طاعة الله وطاعة رسوله.

(1) المائدة: 44.
(2) البقرة: 41.
(3) النساء: 59.
685

وفيه نظر واضح وفسادها ظاهر، كيف يأمر الله بطاعة الفساق ويجعل طاعتهم
مثل طاعته وطاعة رسوله، مع أنه أمر أولا بأداء الأمانة، والحكم بالعدل، و
المباينة الكلية بينهم وبين الله ورسوله، ونهى عن سماع خبر الفاسق بقوله " إن جاءكم
فاسق بنبأ " الآية وأوجب مهاجرتهم في الآيات والأخبار والاجماع وتوعد الظالم نار
جهنم، وذمه كثيرا حتى قليلا ما يوجد صفحة في المصحف الشريف خالية عنه، و
يبالغ في ذلك حتى جعل الميل القليل إليه موجبا لمس النار بقوله " ولا تركنوا إلى
الذين ظلموا فتمسكم النار " مع اشتراط العلماء العصمة في الأنبياء حال النبوة
والعدالة في الشهود والحاكم والمفتي في مسألة واحدة، بل في إمام الجماعة كما
صرح به في الكشاف في تفسير قوله تعالى " إني جاعلك للناس إماما " الآية ولأن
حكام الجور كثيرون، فقد يختلفون فمتابعة أيهم يجب ولأنه يجب على الرعية
منعهم إذا ارتكبوا منكرا وتركوا معروفا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فكيف تجب متابعتهم.
ولأن الذي يأمرون به إن كان مما أن يؤمر فلا خصوصية له بهم وإلا لم
يجب متابعتهم وهو ظاهر وبالجملة فساد هذا القول أوضح من أن يذكر.
قال في الكشاف: المراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق لأن أمراء الجور
الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله وجوب الطاعة لهم، وإنما
يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار مر العدل واختيار الحق و
الأمر بهما والنهي عن أضدادهما إلى قوله وقد جنح أي جعل له جناح الأمر بطاعة
أولي الأمر مما لا يبقى معه شك وهو أن أمرهم أولا بأداء الأمانات، وبالعدل
في الحكم وأمرهم آخرا بالرجوع إلى الكتاب والسنة فيما أشكل، وأمراء الجور
لا يؤدون أمانة ولا يحكمون بالعدل ولا يردون شيئا إلى كتاب ولا إلى سنة، وإنما
يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولي الأمر
عند الله وعند رسوله، وأحق أسمائهم اللصوص المتغلبة.
وقد بالغ أيضا في ذم حكام الجور وعدم استحقاقهم الحكم، ووجوب الطاعة
686

في مواضع مثل تفسير قوله " لا ينال عهدي الظالمين " حتى نقل عن أبي حنيفة أنه
قال لو دعاني ظالم مثل اللص المتغلب المنصور الدوانقي إلى عد آجر لبناء مسجد
أراد بناءه لما أجبته، وهذا منقول في التهذيب عن الصادق عليه السلام.
وقال في مجمع البيان: أما أصحابنا فقد رووا عن الباقر عليه السلام أن أولي
الأمر الأئمة المعصومين وآل محمد أوجب الله طاعتهم بالاطلاق كما أوجب طاعته وطاعة
رسوله صلى الله عليه وآله، ولا يجوز أن يوجب الله طاعة أحد على الاطلاق إلا من ثبت عصمته
وعلم أن باطنه كظاهره، وأمن من الغلط والأمر بالقبيح، وليس ذلك بحاصل في
العلماء والأمراء وجل الله سبحانه وتعالى عن أن يأمر بطاعة من يعصيه، أو بالانقياد
للمختلفين بالقول والفعل.
والحاصل: بطلان غير هذا القول ظاهر، والدليل عليه من العقل والنقل
والأخبار خصوصا من طرق أهل البيت عليهم السلام كثيرة جدا ومما يؤيده أن الله ما قرن
بينه وبين الرسول للتفاوت العظيم، وقارن بين الرسول وأولي الأمر للقرب، فلا
بد أن يكون بينهما قربا ولا قرب بين الرسول وبين غير أهل البيت عليهم السلام وهو ظاهر.
ثم اعلم أن في تعلق الرد إلى الله بالاختلاف ونحو ذلك مما يستفاد منه عدم
الرد والخلاف، وعدم خفاء الحق مع الاجتماع دلالة على حجية الاجماع، وهو
ظاهر ومسلم لدخول المعصوم فتأمل.
ثم أكد الله تعالى على الرعية التسليم لحكم الله ورسوله بقوله " ألم تر إلى
الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا
إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به " (1) أي ألم تعلم يا محمد أو ألم تعجب من صنع
هؤلاء الذين يزعمون أنهم مؤمنون بما أنزل إليك من القرآن وبما أنزل من قبلك
من الكتب مثل التوراة والإنجيل، ومع ذلك يريدون التحاكم إلى الطاغوت وقد
أمرناهم أن يكفروا بها في قوله تعالى " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك
بالعروة الوثقى لا انفصام لها " (2) يعني لا يمكن زعم الايمان وإرادة التحاكم إلى الطاغوت

(1) النساء: 60.
(2) البقرة: 256.
687

ففيه كمال المبالغة في المنافاة بين الايمان و [إرادة] التحاكم إلى الطاغوت.
وقد اختلف في معنى الطاغوت قال في مجمع البيان وروى أصحابنا عن السيدين
الباقر والصادق عليهما السلام أن المعني بالطاغوت كل من يتحاكم إليه ممن يحكم بغير
الحق، ويريدون مفعول ثان لألم تر، ويحتمل كونه حالا " ولم تر " بمعنى
لم تنظر " وقد أمروا " جملة حالية فالآية دالة على تحريم التحاكم بل كفره وكأنه
يريد مع اعتقاد الحقية والعلم بتحريمه إلى حكام الجور الذين لا يجوز لهم الحكم
سواء كان جاهلا أو عالما وفاسقا، مؤمنا أو مخالفا يحكم له أو عليه، أخذ أو لم يأخذ
بل بمجرد التحاكم والحكم، سواء كان موافقا لنفس الأمر أم لا، ويدل عليه
الأخبار أيضا فليطلب من موضعه.
ولا يبعد كون أخذ الحق أو غيره بمعونة الظالم القادر يكون مثل التحاكم
إلى الطاغوت ولا يكون مخصوصا باثبات الحكم لوجود المعنى، وإن كانت الآية
مخصوصة به، وله مزيد قبح فإنه يرى أنه أخذ بأمر نائب الرسول صلى الله عليه وآله وأنه
حق [التحاكم] والظاهر أن تلك المبالغة مخصوصة به.
وقد استثنى أكثر الأصحاب من ذلك صورة التعذر بأن يكون الحق ثابتا
بينه وبين الله، ولا يمكن أخذه إلا بالتحاكم إلى الطاغوت وكأنه للشهرة، ودليل
العقل والرواية، ولكن الاحتياط في عدم ذلك للخلاف وعدم حجية الشهرة وعدم
استقلال العقل، وظهور الرواية، واحتمال اختصاص ذلك بعدم الحاكم بالحق
مع إمكان الاثبات لو كان، كا يشعر به بعض العبارات، وأما إذا كان الحاكم
موجودا بعيدا أو قريبا ولا يمكن الاثبات لعدم البينة ونحو ذلك، ويكون منكرا
فلا، وإلا انتفى فائدة التحاكم إلى الحق ونصب الحاكم، فيكون لكل ذي حق
أن يأخذ حقه على أي وجه أمكنه بنفسه، وبالظالم، وهو مشكل إذا كان المال
أمرا كليا غير معين، كيف يجوز أخذه من المدعي عليه، بغير رضاه، وبغير الثبوت
عليه شرعا نعم لو كان عينا موجودة يمكن جواز أخذها له إن أمكن بغير مفسدة
ويتحرى ما هو الأقل مفسدة فتأمل.
688

وبالجملة لا يخرج عن ظاهر هذه الآية المحكمة إلا بمثلها في الحجية مع
زيادة المبالغة بقوله " ويريد الشيطان أن يضلهم " إشارة إلى أن إرادة ذلك إرادة
من الشيطان إضلالهم من الحق والهدى والايمان " ضلالا بعيدا " ثم بقوله " و
إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا "
بأن هؤلاء منافقون، وليسوا بمؤمنين حقيقة، وأنهم إذا أمروا بالعمل إلى ما
أنزل الله وإلى الرسول تراهم يعرضون عنه وعن المصير إليه، وعن العمل بما أمروا
من متابعته إلى غيره مما هو موافق لطبعهم ورأيهم.
ثم أكد ذلك بقوله " فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك
يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا " أي فكيف صنع هؤلاء إذا نالتهم نكبة و
عقوبة من الموت وغيره، بسبب ما فعلوا من التحاكم إلى الطاغوت، والنفاق وعدم
الرضا بحكم النبي بينهم بالحق، ثم جاؤوا النبي يعتذرون إليه ويقسمون بالله أنهم
ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت إلا إحسانا إلى النبي وهو التخفيف عنه، وعدم
تصديعه برفع الصوت والخصومة عنده وإلا توفيقا بين الخصمين بالتماس واسطة يصلح
بيننا دون الأخذ بالحكم المر الحق.
" أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم " من النفاق وعند ذلك " فأعرض عنهم "
ولا تعاقبهم بذلك النفاق والكذب بعد التحاكم " وعظهم " خوفهم من العقوبات
وعده هم بالثواب إن رجعوا وتابوا " وقل لهم في أنفسهم " خاليا بهم أو مؤثرا في
أنفسهم إن لم تعودوا تصبكم من المصائب أكثر وأعظم " قولا بليغا " ملائما موافقا
للمطلوب، يبلغ إلى أنفسهم ويؤثر فيها.
وفيها دلالة على نزول المصائب بالذنوب، والحث على استعمال حسن الخلق
والملايمة، وعدم الخشونة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو كان الفاعل
كافرا مثل قوله لموسى وهارون " وقولا له " أي لفرعون " قولا لينا لعله يتذكر أو
يخشى " فيفهم كمال المبالغة في استعمال حسن الخلق وعدم الغلظة والغضب، ثم أشار
فيما بعدها إلى أن الله تعالى ما يرسل رسولا إلا ليطاع لا ليعصى، ومع العصيان
689

لو رجعوا " واستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما " قابلا
لتوبتهم وراحما لهم بعدم تعذيبهم بما صدر منهم.
ثم أكد الرضا بالحكم الحق المر وعدم الميل إلى غيره بقوله تعالى " فلا و
ربك " الآية.
الثانية عشر: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن
تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (1).
الفسق الخروج عن الطاعة والحق ولعل المراد هنا ما يخرج به صاحبه عن
العدالة فيكون المراد الكبيرة، والنبأ الخبر، وتنكيرهما يدل على العموم أي إذا
جاءكم أيها المؤمنون أي فاسق كان بأي خبر كان، فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان
الأمر وانكشاف الحق ولا تعتمدوا قول الفاسق ولا تعملوا به، فإن الفسق مانع
كراهة أن تصيبوا قوما جاهلين، فتقبلوا كلامهم، فتصيروا نادمين على ما فعلتم من
قبول قولهم.
فقد ظهر تركيبها ومعناها، ويمكن أن يستدل بمنطوقها على عدم جواز
قبول خبر الفاسق فلا يجوز أن يقال صادق ولا كاذب لفسقه، فخبر الواحد مقبول
وبمفهومها على قبول خبر غير الفاسق، فلا يشترط في قبول الخبر المروة و
نحو ذلك من عدم العداوة ولا التعدد والقرابة والصداقة وعدم التهمة إلا أن يثبت
بدليل، ويمكن أن يستدل أيضا على قبول خبر مع انضمام القرائن فيقبل الخبر
المحفوف بالقرائن وعلى عدم قبول مجهول الحال إن جوزت الواسطة بين الفاسق
والعادل كما هو الظاهر: بأنها تدل بظاهرها على أن الفسق مانع وعدمه شرط
للقبول، فما لم يعلم رفع المانع وتحقق وجود الشرط لا يعمل به وهو ظاهر، ولا
يكفي أن الأصل عدم الفسق وظاهر حال المسلم، وذلك لأنه معارض بأصل عدم فعل
الطاعات، وأن الوقوع كثير وعدمه أكثر فلا يبقى الاعتماد فتأمل.

(1) الحجرات: 6.
690

وقد استدل في الأصول والتفاسير بمفهومها مثل القاضي بأن تعليق الأمر
بالتبيين على قول المخبر يقتضي جواز قبول قول العدل من حيث إن المعلق على
شئ عدم عند عدمه، وذلك فرع حجية المفهوم وفيه بحث في الأصول، وأنه بهذا
الوجه يدل على قبول خبر مجهول الحال أيضا وهو ظاهر فتأمل.
الثالثة عشر: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط " (1) أمر سبحانه
المؤمنين بمواظبتهم بالقسط أي العدل والجد والاجتهاد على إقامته " شهداء لله "
خبر ثان لكونوا، أو حال عن اسمها أي كونوا شهداء بالحق تقيمون شهاداتكم
لوجهه ومرضاته وامتثال أمره، ولا يكون منظورا لكم شئ سواء " ولو على أنفسكم "
أي ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن تقروا عليها لأن الشهادة بيان الحق سواء
كان الشاهد أو على غيره " أو الوالدين والأقربين " أي ولو كانت عليهم " إن
يكن " المشهود أو كل واحد منه ومن المشهود له " غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما "
بالغني والفقير، وبالنظر في أمورهما ومعاشهما، فلو لم يكن في الشهادة صلاح لهما
لما شرعها لهما، فهو علة الجزاء أقيم مقامه كما في قوله " فإن الله كان بما تعملون
خبيرا ".
هكذا في تفسير القاضي والكشاف والظاهر أن ضمير " يكن " للمشهود عليه
فقط لعدم ذكر المشهود له، ودلالة السوق، والمقصود أنه لا بد من الشهادة إن
كانت بالحق ولا يجوز تركها لجر نفع نفسه والترحم والتعظيم للوالدين والأقربين
فغيرهم بالطريق الأولى، وملاحظة الفقر والغنى في أدائها، وأنه يشهد على الثاني
للغنا دون الأول فإنه وإن كان فقيرا فالله له كما هو للغني ولو كان تركها أصلح
له لم يكن يأمر بالشهادة عليه فلا فرق بين الغني والفقير، فإن الضرر والنفع بيد
الله فكما هي تصلح على الغني تصلح على الفقير أيضا لأن غناه الأول من الله، فالله
للفقير كما هو له.
ففي الآية دلالة على كمال المبالغة في وجوب الحكم بالعدل، بل عدم فعل إلا لله

(1) النساء: 135.
691

وفي وجوب الاقرار بما عليه، وفي إقامة الشهادة لله، وعلى جواز الشهادة على الوالدين
بل وجوبها فمنع البعض بعيد، وكذا يعلم وجوبها على المملوك والحر فيعلم جواز
شهادته على سيده أيضا بل وجوبها، فالمنع هنا أيضا بعيد.
ثم إن الظاهر أن المقصود من الشهادة والأمر بها والإيجاب والمبالغة هو
القبول فدلت على قبول إقرار المؤمنين على أنفسهم كما هو مجمع عليه، ومدلول
الأخبار، والظاهر أنه لا قائل بالفرق، فغيرهم كذلك، وعلى قبول شهادة الولد على
الوالدين والأقربين والعبد على سيده وللسيد للعموم، ففيها إشعار بأن الايمان
يكفي للقبول، ولا يشترط غيره فتأمل إلا أن يدل دليل على اعتبار العدالة أو اعتبار
عدم ظهور الفسق فافهم.
ثم أكده بقوله " ولا تتبعوا الهوى " أي ارعوا أمر الله كما أمركم به، ولا
تقصدوا غير مقصوده تعالى، فإنه أعلم بمصالح العباد منكم فلا تتبعوا هوى أنفسكم
في إقامة الشهادة فتشهدوا على الغني دون الفقير، ملاحظة للمصلحة، أو على من كان بينكم
وبينه عداوة دون الصديق، وتمتنعوا عن الشهادة للأعداء وأيضا لا بد أن يكون
الشهادة امتثالا لأمر الله لا لاتباع النفس والهوى كما مر " أن تعدلوا " أي لأن
لا تعدلوا أو لأجل أن تعدلوا في الشهادة، قال الفراء هذا كقولهم لا تتبع هواك
لترضي ربك، أي كيما ترضي، قاله في مجمع البيان.
وإن تلووا أو تعرضوا " أي إن تميلوا في أداء الشهادة أو تعرضوا عن أدائها
قيل الخطاب للحكام أي إن تميلوا أيها الحكام في الحكم لأحد الخصمين على
الآخر، أو تعرضوا عن أحدهما إلى الآخر، وقيل معناه: إن تلووا أي تبدلوا
الشهادة أو تعرضوا أي تكتموها وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام فيجازيكم " فإن
الله كان بما تعملون خبيرا " معناه أنه كان عالما بما يكون منكم من إقامة الشهادة
أو تحريفها، والاعراض عنها، وقد روي عن ابن عباس في معنى قوله " وإن تلووا
أو تعرضوا " أنهما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه
لأحدهما على الآخر هكذا في مجمع البيان.
692

الرابعة عشر: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل
عما تعملون (1).
أي ما يوجد أظلم من كاتم شهادة حاصلة عنده من الله، أو يكتمها من الله
بحيث لا يقولها عند الطلب، فكأنه يريد يخفيها من الله، إذ لو كان يعلم أن الله
يعلم فلا فائدة له في الكتمان، بل يعلم أنه يضره فلا يكتمها أو يكتمها من عباد الله
فيكون المضاف محذوفا، والحال أن الله تعالى عالم به وبغيره من أعماله الحسنة و
القبيحة ففيها ترغيب وترهيب فاعملوا وكونوا على حذر من الله.
كتم الشهادة إخفاؤها، و " من الله " متعلق بكتم أو صفة أخرى للشهادة، و
الأول أولى، والباقي ظاهر، ويمكن الاستدلال بها على تحريم كتمان الشهادة، و
بقوله " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في
الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك
أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم " (2).
تفسيرها ظاهرا أن كل شخص يخفى ولم يبين ما أوجده الله من الدلائل
المبينات والذي يهدي إلى المطلوب بعد أن بينه الله له ولغيره من الناس في الكتاب
المنزل أي كتاب كان، بل لا يبعد إطلاقه على كتب الأخبار أيضا بل جميع ما يمكن
فيه البيان كتابا كان أو لا، مجازا وتغليبا " أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " فهم
ملعونون يلعنهم الله أي يحكم بلعنهم ويبعدهم عن رحمته، ويلعنهم أيضا من يتأتى منه
اللعن، بأن يدعو عليهم بالبعد عن رحمة الله تعالى والذين يتأتى منهم اللعن المسلمون
إنسا وجنا أو الكفار أيضا باعتبار لعنهم ذلك الشخص في الآخرة كما ورد أو البهائم
أيضا بأن يلهمهم بالدعا عليهم باللعنة، بل كل مخلوق كما قيل.
" إلا الذين تابوا " وهذا اللعن ثابت للكل دائما إلا بعد التوبة لمن تاب أي

(1) البقرة: 14.
(2) البقرة. 160.
693

ندم عما فعل وأصلح ما أفسد بالكتمان أو أخلص واستمر على التوبة أو ضم العمل
الصالح إليه، وبين: أي أظهر توبته ليعلم أنه تائب وأعلم الناس أن ما فعله كان
قبيحا أو بين ما كتمه وأرجع عن الجهل الجاهل بذلك.
ولا يبعد أن يكون " أصلحوا وبينوا " وما وقع في مواضع أخر مثل " وعمل
صالحا " بعد التوبة إشارة إلى كمال التوبة بالندم عن جميع المعاصي والعزم على
تركه، فيخلص من حقوق الله بالتوبة، وعن حقوق الناس بإبراء الذمة، من كل
محرم يحتاج إلى إبراء الذمة، وإذا فعل ذلك يقبل الله توبته، وتوبة كل تائب
ولو كان بعد نقض التوبة مرارا، فإن الله هو التواب إذ قابل التوبة منحصر فيه، و
أنه في نهاية القبول كما يفهم من صيغة المبالغة، والحصر، وأنه كثير الرحمة و
التلطف أو العامل ما يعمله ذوا الرحمة بالنسبة إلى محتاج الرحمة.
وقد عرفت مما ذكرناه من التفسير إعرابهما ولغتهما، فيمكن الاستدلال
بالأولى على تحريم كتمان الشهادة وكتمان العلوم الدينية عن أهله المحتاجين
أصولا وفروعا، بل مطلق العلوم على ما ورد في الخبر عنه صلى الله عليه وآله أيضا أنه من سئل
عن تعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار، كذا في مجمع البيان فيدخل
فيه كتمان المجتهد الحكم والفتوى سيما عند السؤال، وكذا ترك الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، مع الشرائط.
بل لا يبعد إدخال تحريم فعل بعض المحرمات، وترك بعض الواجبات، بحيث
يؤديان إلى جوازهما فإن ذلك حينئذ إظهار للباطل، فيكون سترا للحق فيكون
كبيرة إلا ما ثبت عدمه بدليل، ولا يبعد أيضا الاستدلال بها على جواز لعن ذلك
الشخص المرتكب للكتمان، وإن كان مؤمنا لأن الله لعنه، وقال إنه يستحق
اللعن من الناس وغيرهم، وبالثانية على وجوب التوبة لأنها مخلصة من استحقاق
اللعن وغيره، وعدم تجويز لعن التائب، ويفهم وجوب قبولها على الله سمعا، وكذا
يفهم أيضا من كثير من الآيات والظاهر أنه لا نزاع في ذلك، وإنما النزاع في قبولها
694

عقلا فإن المعتزلة قائلون به، ولعل وجهه أن الكريم الغني الذي لا يتصور أكرم
منه مع عدم تصور ضرر ونفع بالنسبة إليه من أحد، مع كمال احتياج النادم إليه
بحيث لا يمكن التجاؤه إلى غيره فيقبح عقلا رده، وعدم قبول عذره، وعذابه مع
عدم نفعه بعقابه.
وقد يرد بأنه مكافاة فلا قبح كما لا قبح في الشاهد الانتقام للتسلية، ودفع
الغصة والألم، والأول لا يبعد، والقياس سيما مع الفارق ظاهر البطلان مع
أنه لا ثمرة في هذا البحث، فقد تحقق الاجماع بقبول توبته، ودليل السمع.
أيضا، قال في مجمع البيان في تفسير " فتلقى آدم " الآية أجمع المسلمون على
سقوط العقاب عندها أيضا، وسقوطه تفضل من الله غير واجب عليه عندنا، وعند
جميع المعتزلة واجب وقال في هذا المحل: ووصف نفسه بالرحيم عقيب قوله " التواب "
يدل على أن اسقاط العقاب عند التوبة تفضل من الله سبحانه ورحمة من جهته، على
ما قاله الأصحاب، وأنه غير واجب عقلا كما يذهب إليه المعتزلة.
فكان معنى قول سلطان المحققين خواجة نصير الدين قدس الله روحه في التجريد
بعدم وجوب سقوط الذنب عند التوبة أنه ليس بواجب عقلا إذ نقل إجماع المسلمين
على ذلك وأدلة النقل متظافرة عليه، ثم الكلام في أنه هل يتحقق التوبة عن بعض
الذنوب أم لا؟، والظاهر الأول لأن الذي يظهر أنها عبارة عن الندم على القبيح
وعدم العزم على العود، وهي أعم من الكل والبعض، ودليل القبول العقلي والنقلي
مشترك، واشتراطها بكونها مقيدة بالندامة والعزم، من حيث كون القبيح قبيحا
فلا يمكن التحقق عن البعض دون البعض، وإلا لم يتحقق الشرط كما يفهم من
أول كلام المحقق المذكور، على تقدير تسليم الشرطية التي هي منفية بالأصل
لا نسلم عدم تحققه إذ لا منافاة بين كون القبيح سببا للترك والندامة في البعض، وبين
عدمه في البعض كما في فعل بعض الواجبات لحسنة دون البعض مع الاشتراك فيه.
وأيضا تراهما واقعين بين الناس، مع أنه غير مناسب للشريعة السهلة ولهذا
رجع عنه المحقق في آخر كلامه حيث قال: والتحقيق أن ترجيح الداعي إلى
695

الندم عن البعض يبعث عنه، وأن اشترك الدواعي في الندم على القبيح لقبحه، و
هذا كما في الداعي إلى الفعل وكذا قوله رحمه الله أنه لا بد أن لا يكون التوبة لخوف
العقاب، وطمع الثواب، بل بمحض القبح، بعيد، فإنها واجبة وهما داخلتان في
الوجوب، وأيضا لا فرق بينهما وبين سائر الواجبات فينبغي الاختصار فيها على نية
القربة، مع باقي القيود لو ثبت، لا اشتراط ما يزيد عليه، وأيضا بأنه لا يناسب هذه
الشريعة بل ما نجد في أنفسنا مثله.
نعم قد يكون موجودا في الأنبياء والأئمة عليهم السلام كما نقل عن أمير المؤمنين
عليه السلام: ما عبدتك طمعا في جنتك، ولا خوفا من نارك، ولكن وجدتك أهلا
للعبادة فعبدتك، فتكون مخصوصة بهم عليهم السلام.
ثم اعلم أنه قال في الكشاف والقاضي: المراد بالذين أحبار اليهود الذين
جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله [وهم يجحدونه] مع كونها مثبتة في التوراة، وقال في مجمع
البيان: المعني بالآية اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وآله في نبوته وهم
يجحدونه مع كونه مكتوبا في توراتهم وإنجيلهم.
أقول: على تقدير التسليم، إنهم كانوا سبب النزول لا أنها مقصورة عليهم
فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما بين في الأصول، ولهذا حملناها على
العموم كما فعله في مجمع البيان أيضا فيستخرج الأحكام المذكورة فكأن سبب ترك
هذه الآية في آيات الأحكام في كنز العرفان سبب النزول وكونها مقصورة عليهم
كما فعله في الكشاف والقاضي، وأنت عرفت أنه ليس بجيد ومثل هذا فعل في
كثير من الآيات، حيث عممت مع كون سبب النزول خاصا لما مر، ثم على تقدير
التخصيص أيضا لا يبعد التعميم لفهم العلة فيستخرج الباقي فتأمل.
696